محاضرة بعنوان في البدء كان الرسول صلى الله عليه وآله
لسماحة العلامة الشيخ عيسى الخاقاني
1/5/2005مـ – مأتم الحاج عباس العرادي
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين وخاتم الأنبياء والمرسلين, الرسول المسدد والمحمود الأحمد الذي سُمي في السماء بأحمد وفي الأرض بأبي القاسم محمد, وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الهداة المهديين صلاةً كثيرةً دائمة إلى قيام يوم الدين.
أما بعد, فأحييكم أيها السادة المؤمنون بتحية الإسلام, السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته, ويشرفني كثيراً أن أمثُل بين يديكم في هذا المأتم المبارك وهي الزيارة الثالثة, فلقد تشرفنا قبل ذلك بزيارتين في هذا المحفل من محافل أهل البيت عليهم السلام, نسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال إنه أرحم الراحمين.
قال الله سبحانه وتعالى يخاطب سيد الكائنات صلى الله عليه وآله وسلم: (وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً)(النساء: من الآية113). فضل الله على نبينا صلى الله عليه وآله وسلم فضلٌ كبير وهو فضلُ متميزٌ غير فضله على الكائنات وغير فضله على بني آدم وغير فضله على سائر الأنبياء, وهذا موضوعٌ مستقلٌ جئنا به من باب الإشارة للدخول في حديثنا هذه الليلة تحت عنوان (في البدء كان محمد) صلى الله على محمدٍ وآل محمد.
في البدء كان محمد, يستغرب الإنسان بادىء الرأي من هذا الأمر, ماذا يعني في البدء كان محمد صلى الله عليه وآله؟ خصوصاً وهذه الجملة تُشبه جملةً وردت في الإنجيل, في الكتاب المُقدس, في الإصحاح الأول من إنجيل يوحنا, والعبارة تقول: “في البدء كان الكلمة, وكان الكلمة عند الله, وكان الكلمة الله” هذا أول ما يبدأ الإنسان بقراءة الإنجيل تأتي هذه الكلمة المسماة بالإصحاح وهي في مقابل الآية عندنا في القرآن, من هذا المنطلق نحن بدَّلنا هذه الكلمة وقلنا “في البدء كان محمد”, ولنعرف معنى الكلمة أولاً يجب أن نرى ماذا يقصدون من كلامهم المقدس في كتابهم المقدس, ولا شك أن الإنجيل والتوراة كتابان مقدسان, هذا لا إشكال فيه, لكن القرآن يخبرنا بأن كتاب الله التوراة والإنجيل قد حُرفا ووضع فيهما بغير ما أنزل الله سبحانه وتعالى وحُذف منهما أيضاً شيءٌ كثير. إذاً فالنبدأ ونعرف ماذا يقصدون من كلمة “في البدء كان الكلمة” حتى نتوصل لمعرفتنا لهذا القول إلى مرادنا ومقصدنا حيث بدلناه إلى جملةٍ أخرى.
كلمة (كلمة) في اللغة العربية يكون لها معانٍ متعددة:
المعنى الأول: هي الجملة التي يُراد منها معنىً أو الجملات الكثيرة التي يُراد منها معنى, فالكلمة عبارة صوت _ والصوت عِلمٌ من العلوم التي عُنيَت به المدارس الحديثة وله متخصصون في صدور الصوت ونبرات الصوت والدرجات السُلَمية للصوت_ أو جملة أصوات موضوعة للتعبير عن معنى, هذا المعنى وضحه لنا سيدنا أمير المؤمنين عليه السلام يوم أن خشي على اللغة العربية من الضياع بسبب الناس غير العرب الذين دخلوا في الإسلام وأخذوا يستخدمون بعض الكلمات في اللغة العربية ممى يُخشى منه من ضياع اللغة العربية, فبعث على أبي الأسود الدؤلي لثقته به ولعلوم أبي الأسود العربية ولإطلاعه على اللغة العربية ومشاركته في الشعر العربي وقال له: ” يا أبا الأسود, إني أخشى على العربية أن تضيع” وأمره أن يُحضر ورقاً ويكتب ما يُمليه عليه إمامه إمام الفصاحة ومؤسس قواعد اللغة العربية. أول إنسانٍ يُلفِت نظر الناس إلى أن الكلمة تنقسم إلى ثلاثة أقسام, إلى (إسم, فعل وحرف) هو أمير المؤمنين علي عليه السلام, وبعد ذلك جاء العلماء وأرادوا إثبات ذلك عِلمياً فاستقرئوا كلام العرب وذهبوا إلى البوادي وسمعوا من العرب الفصحاء فما عثروا على جزأ رابع للكلمة, فالكلمة إسم وفعل وحرف, وأمير المؤمنين شرح معنى الإسم ومعنى الفعل ومعنى الحرف لأبي الأسود الدؤلي وعلمه قواعد اللغة العربية ثم قال له: “إنحوا هذا النحو”, يعني أنت بهذه الأمور الكلية فَصِّل المسائل الأخرى, إنحوا يعني إتجه هذا الإتجاه, ومنذ ذلك اليوم سُميَ عِلمُ قواعد اللغة العربية بإسم (النحو) وإلا ما كان العرب يعرفون هذا الإسم للغتهم بل إن العرب ما كانوا يعرفون بأن لغتهم تنقسم إلى ثلاثةِ أقسام, إلى إسمٍ وفعلٍ وحرف, لأن لغتهم فطرية وإن كانت بحد ذاتها إعجازية, فاللغة _جميع اللغات_ بما هي لغة إعجازٌ إلهي لكن اللغة العربية تتميز عن غيرها من اللغات بكثرة الإحاطة والأبعاد الطويلة والعريضة التي خلقها الله ووَفَقَ لها العرب من أجل أن تكون مُستقبِلةً للكتاب العزيز, أن تستقبل كلام الله وتستوعب ما فيه من الأسرار ولذى قال الله سبحانه وتعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف:2), بمعنى أن هذا الكتاب بما فيه من العلوم لا يمكن إستخراجها إلا بواسطة اللغة العربية فإستضافة لغة العرب كتاب الله سبحانه وتعالى لجلالها وعظمتها. هذا هو المعروف والذي يُتدارس في الهيئات العلمية والمدارس, هذا معنى من معاني الكلمة ولكن الكلمة قد تترقى إلى معنىً آخر, هذا من الناحية العربية ومن الناحية النحوية واللغوية, ولكن كلمة (الكلمة) تصعد درجةً أخرى لتصل إلى معنىً آخر.
المعنى الثاني: الكلمة تُطلق ويُراد بها الألفاظ المنضومة, كيف الألفاظ المنضومة؟ يعني الألفاظ التي تدل على معنى, فالقضية في المحكمة تسمى كلمة, والحكم الذي يصدر من القاضي يسمى كلمة, والحجة التي يُدلي بها المتهم أو المُدعي أو المُدعى عليه كل هذا يُسمى كلمة, إذاً, فالآن صار للكلمة معنى آخر وهو الألفاظ المنضومة. يقول: “أدلى بكلمته” أي بقضيته ويُقصد منه الحجة والدليل وما إلى ذلك. قد تنتقل الكلمة من هذا المعنى الثاني إلى معنى آخر أكثر رُقِي.
المعنى الثالث: عالم أهل الحق. أهل الحق جماعةٌ يعنون بأمور الوجود, هؤلاء يستخدمون الكلمة بمعنى آخر لا بالمعنى النحوي ولا بالمعنى القضائي بل يقصدون من الكلمة كل واحدة من الماهيات والأعيان, كل الأعيان الموجدة في الكون يسمونها الكلمة, كل الماهيات, ما معنى الماهيات؟, ماهية مشتقة من كلمة (ما هو؟) وهو الواقع تحت السؤال عن حقيقة الشيء فأخرجوا منه إسماً _من هذا السؤال_ وسموه الماهية, فالماهية هي السؤال عن حقيقة الأشياء فحقائق الأشياء تسمى عندهم كلمة, ماهي حقيقة الإنسان, ماهي حقيقة المَلَك, ماهي حقيقة السماء, ماهي حقيقة الماء وما إلى ذلك من مفردات الكون, هذه تُسمى عندهم كلمة. إذاً هنا الكلمة صار لها ثلاثُ معانٍ وقد ترقى إلى معنىً رابع.
المعنى الرابع: أعماق الذات. ماذا يعني أعماق الذات؟, أعماق الذات هو الكلام الداخلي, وكل إنسانٍ منا إذا إنفرد بنفسه يتكلم مع نفسه بنفسه فكأنما هناك شخصين إثنين, إذا أراد أن يُعاتب نفسه أو إذا أراد أن ينعى نفسه أو أراد أن يستعد لأمرٍ من الأمور ترى الإنسان يُخاطب نفسه, تراه يُعاتب نفسه, تراه يلوم نفسه, تراه يُمجد نفسه, كل واحدٍ منا إذا خلى بنفسه أخذ يتكلم مع نفسه بنفسه فإذا حللنا الموضوع نجد أنهما شخصان, شخصٌ يتكلم والشخص الآخر يسمع ثم إن الذي يسمع يجيب الذي يتكلم وهذا قد وقع علينا جميعاً, على جميع المستويات سواء كان الإنسان عالماً بالفقه الديني أم فيلسوفاً أم طبيباً ام من اهل السوق والتجارة, لافرق فإن الكلام الداخلي خصيصة للإنسان وليس هناك من مخلوق يتكلم مع نفسه لا المخلوقات العلوية كالملائكة ولا السفلية كالحيوانات بل هذا مخصوصٌ بالإنسان, الإنسان فقط يتحدث مع نفسه وهذا دليلٌ على أن الإنسان ليس هو الموجود المعروف الآن, يعني أنت الآن بهيكلك وأنا بهيكلي عند الإنسان يقولون هذا هو الإنسان وفي الواقع هذا ماهية من الماهيات إلا انه هو هيكلٌ ومركبٌ للإنسان الحقيقي فأنت ليس ببدنك تكون إنساناً, أنت بحقيقةٌ أخرى تكون إنساناً, وهذه الحقيقة الأخرى صار جسدك مركباً لها وإلا لو قلنا كما يقول الماديون بأن الإنسان هو هذا الهيكل الفردي وهو لا فرق بينه وبين سائر المخلوقات لأصبح هناك إشكالٌ كبير, ماهو الإشكال؟, نسألهم فنقول هذا الجسد هل هو مركب أو غير مركب؟ طبعاً مركب والعلم يقول أن المركب من أجزاء إذا إنتفى جزأ من ذلك التركيب لا يكون ذلك الشيء!, من باب المثال أنت تريد أن تصنع شاياً فالشاي عبارة عن مادة من الشجر ومادة من الماء وثالثة من السكر, هذا الثلاثة يكون مادة الشاي وإذا حُذف منه واحد كالماء لا يُصبح شاياً مشروباً, أو حُذف منه الشاي لا يُسمى شاياً, هذا معلوم ولا يحتاج إلى دليل, الشيء المُركب هو شيءٌ بتركيبه وإذا إنتفى تركيبه فلا يكون شيئا, فإذا فرضنا أن الإنسان هو هذا الجسد فإذا قُطعت يده لا يُسمى إنساناً لأن أحد أجزائه ذهبت ونحن نرى أن الإنسان قد تُقطع أطرافه, قد تُقطع حواسه, قد يُقطع وما زال يُسمى إنساناً! فهذا دليلٌ على أن الإنسان ليس هذا الوجود الخارجي, هذا مظهرٌ له أما جوهره فهو حقيقته التي نزلت من السماء, من الله سبحانه وتعالى وهي الروح, هذا مُسَلَم. نرجع إلى كلامنا بأن الدرجة الرابعة للفظة الكلمة تترقى فتُطلق على الكلام الداخلي.الكلام الداخلي يُسمى كلاماً, أنت تسأل صاحبك: “لماذا أنت شارد الذهن؟” يقول: “أتحدث مع نفسي”, لكنك لم تستعمل أي كلام ولكن تُطلق على هذا التفكير بأنه كلام لأن أصل الكلام هو في الذات, ليس الكلام في اللسان, اللسان مُخرجٌ للكلام وأظن أن السادة الكرام يتوجهون إلى ذلك, الكلام في قلب الإنسان ولكن الله جعل له مهندساً يُخرجه, يستخرج الكلام من الذات الإنسانية ولذى قال الشاعر:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما • جُعل اللسان على الفؤاد دليلا
إذا فالكلام أول ما يصدر في ذات الإنسان وداخله ثم بعد ذلك ينتقل بوساطة اللسان فيسمى كلاماً خارجيا, وهذه مرحلة رابعة للفظة الكلمة.
المعنى الخامس: في المرحلة الخامسة الكلمة تَعرِج إلى آفاقٍ عالية ويكون لها معنى ما يتعين من الحقيقة الجوهرية, ما هي الحقيقة الجوهرية؟, الله سبحانه وتعالى عندما يخلق الأشياء يخلقها بمعنىً جوهري ثم بعد ذلك يُضفي عليها ويتكرم عليها بالوجود فتكون موجودةً وهناك حقائق جوهرية كحقيقة المَلَك, حقيقة السماء, حقيقة العرش, حقيقة الإنسان, حقيقة الحيوان وحقيقة الشجر وما إلى ذلك من الحقائق الجوهرية التي يتكلم المولى عليها بإفاضة الوجود فتكون موجودة.
المعنى السادس: ثم إن لفظة الكلمة تتسامى وتسامى فترتفع فتصل إلى الصانع جل وعلا, إلى المولى سبحانه وتعالى ويُطلق عليها كلمة (الحضرة), والحضرة هو الله سبحانه وتعالى وهي كلمة (كن), فحتى العوام يقولون في كلامهم: “أمر الله بين الكاف والنون”, هذه تسمى كلمة الحضرة عند العلماء, ولا تسخر من شخصٍ عَمِّيٍ أُمِّيٍ يقول: “أمر الله بين الكاف والنون” فهذا كلامٌ وراثي إستورثه الناس من علمائهم والعلماء أخذوه من سادة البشر عليهم السلام أو أخذوه من الحكماء, فإذاً كلمة (كن) تسمى كلمة الحضرة. كلمة (كن) ماذا تعني؟, القرآن يقول: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يّـس:82), ليس كُن فكان, لا, فبمجرد صدور كُن يكون الشيء. كُن, هنا الله يتكلم مع الشيء؟ كلا, الله يريد أن يُفهمنا بالأمور التي نعقلها وإلا فهناك ليس موجوداً كلمة كُن بالحروف العربية, الكاف والنون, الله سبحانه وتعالى ليس له لغة, لماذا ليس له لغة؟ لأنه خالق اللغة وكل شيء يخلقه الله فالله غنيٌ عنه ولذى انت ليس لك حق أن تقول: “أين الله؟” كما علمنا أمير المؤمنين؛ لأنه هو الذي خلق الأين فهو لا يحتاج إلى الأين, ليس لك حق أن تقول متى؛ لأنه هو الذي خلق المتى, لا يجوز أن تقول كيف بالنسبة إلى الله؛ لأن الله هو الذي خلق الكيف, وهنا قاعدة عندنا أن الله أي شيءٍ يخلقه فهو غني عنه ولا يحتاجه ولا يكمُلُ به لأن الله كاملٌ بالذات, أنت طبابتك تُكملُك, فقاهتك تُكملُك, حكمتك تُكملُك, هندستك تُكملُك, أما الله فأفعاله لا تُكملُه جل جلاله ولا تُضفي عليه كمالاً لأنه سبحانه هو الكمال المُطلق. إذاً كلمة الحضرة ماذا تعني؟ تعني كلمة (كُن). كيف نعرف كلمة (كُن) وقد قلنا أنها ليست لفظاً؟ لأن الألفاظ من مخلوقات الله إذاً فالله غنيٌ عنها, والألفاظ أي اللغات هي نظامٌ إشاري يتبع المخ, فالفكر كلما تطور خلق لغةً تواكب ذلك التطور, فلغة الإنسان مواكبة لتطوره ولذى نجد أن الأمة المتطورة المترقية يكون كلامها مترقياً, وهذا واضح , إذهب إلى السوقة فسوف تجدهم يتكلمون كلاماً وإذهب إلى الأساتذة فسوف تجدهم يتكلمون كلاماً آخر لا علاقة له بكلام السوقة وإذا ذهبت إلى الفقهاء وجدتهم يستخدمون ألفاظاً لا علاقة لها بالألفاظ الأخرى وكذلك الحكماء والفلاسفة لهم لغاتهم, إذاً فاللغة هي نظامٌ إشاري يتبع الحضارة ويتبع التطور في الفكر فكلما زاد الفكر تطوراً تطور الفكر على إثره, إذاً فكُن ليست لفظية عند الله وإنما هي صورة الإرادة الإلهية, من قال لنا هذا؟, الحكماء يقولون ولكنهم ليسوا حجة علينا, نحن نأخذ حجتنا من كتاب الله وسنة نبيه, هذا هو طريق الهداية. الله في القرآن تكررت الآية: (إنما أمره) وورائها (إذا أراد شيئاً) هذه الإرادة هي ماذا؟ هي كُن, إذاً فكلمة كُن تعني صورة الإرادة الإلهية الكلية أي الإرادة الإلهية, لماذا نسميها كلية؟, في مقابل إرادة أنت لأن إرادتي وإرادتك إرادة جزئية, أنت تريد شيء يختص بك أما الله فإذا أراد شيئاً فإرادته لا تخصه وإنما تخص الوجود, أراد أن يخلق الكون فخلقه فإرادته كلية, وإرادة البشر جزئية ولذى ورد في الحديث القدسي مع غض النظر عن سنده لأن في سنده خدشاً ولكن معناه واقع, في الحديث القدسي يقول: “كُنتُ كنزاً مخفياً فأردت أن أُعرف فخلقت الخلق لكي أُعرف”, إذا هو كنز معني أي لا يعلمه أحد لأنه لا يوجد أحد حتى يعلم, الله وحده, كان الله ولم يكن معه شيء, فبنائاً على هذا “كُنت كنزاً مخفياً” لا مشاحة فيه ولا خطأ كما استشكل بعضهم وقال أن الله غير مخفي فنقول له ان الله ليس مخفي بعد أن خلق الكون لكن ماكان كون, ما كان وجود, ما كان أي شي, فالله كان مخفي, لماذا؟ لأنه إذا كان ظاهراً فلغيره وغيره بعده ليس موجود, فإذاً كلمة “كُنتُ كنزاً مخفيا” صحيحة “فأردت أن أُعرف فخلقت الخلق لكي أُعرف” إذاً فإرادته تعلقت بهذا الكون فكان, إذاً فكلمة كُن معناها الإرادة الإلهية.
فلما وصلنا إلى هنا نرجع في نهاية حديثنا إلى مبتدأ حديثنا, قلنا في الحديث أن هذه الكلمة موجودة في الإنجيل في أول صفحاته من إنجيل يوحنا في الإصحاح الأول, يعني بلا تشابيه كأنه في سورة الحمد في الآية الأولى, هم الآية يسموها إصحاح: “في البدء كان الكلمة, كان الكلمة عند الله, كان الكلمة الله” هذه أول آية لديهم, وعندما نُسلط على هذه الكلمة _هذا الإصحاح_ أنوار التحقيق نجد أن فيها تدافعا, “في البدء كان الكلمة” من هذه الكلمة؟ قالوا هو الإلقنوم الثاني, والإقوم الثاني إشارة إلى العقيدة الأولى للنصرانية والعقيدة الأولى للنصرانية تقول إن الأقانيم _هكذا يجب أن نعتقد في علم اللاهوت الذي هو عندنا علم الكلام_ ثلاثة, الأب والإبن والروح القدس, الإقنوم الأول هو الأب, ومن هو الأب؟ الله!, والثاني الإبن, أصبح توالد بين الأب والإبن!, والثالث الروح القُدس وهو الوسيط بين الرب وبين الإبن, ولكنني عندما قرأت اللاهوت في الإسكندرية كتابهم اللاهوت أثبت لنا بأن الروح القُدس هو الله لا كما عندنا بأنه ملكٌ عظيمٌ هو اكبر من جبرائيل وأعظم من جبرائيل, لا, إذاً الروح القُدس الذي تمثل لمريم هو الله ولذى يسمونه الأب ويسمون عيسى الإبن, إذاً لماذا سميتم الروح القدس وعملتموهم ثلاثة؟! لا نعلم!, فالأقانيم عندهم ثلاثة ولسنا بصدد الرد على هذا فالرد واضح. بالأول إن الله ليس أب لأن عندنا في التوحيد ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) (سورة التوحيد) نكررها مئات الملايين يومياً بل آلاف الملايين يومياً ولا نهتم, لكن هذا التدافع الموجود في الإصحاح الأول من الإنجيل يقول: “في البدء كان الكلمة” يعني في البدء كان عيسى, أول ما خلق الله عيسى وبدأ الوجود به, “كان الكلمة عند الله” إلى هنا صحيح, الكلمة هو عيسى وعند الله أيضاً حق لأن كل الأشياء كانت عند الله وما زالت الأشياء في عِلم الله, هذا شيء واضح لأن الله بسيط الحقيقة, هكذا العلماء والحكماء يقولون, الله بسيط الحقيقة وليس فيه تركيب, وبسيط الحقيقة كل الأشياء, هذه قاعدة علمية فلسفية شرحها يطول ولكن معناها أن الشيء إذا كان بسيط الحقيقة بفكل الأشياء تكون فيه وهذا واضحٌ عندنا لأن كل الأشياء في عِلم الله, في اللوح المحفوظ واللوح المحفوظ هو عِلم الله سبحانه وتعالى وكل شيء هو عند الله, (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (الحجر:21), إذاً فجميع الأشياء عند الله ولما أراد الله إخراج هذه الأمور من علمه سبحانه أوجدها إلى الخارج (وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) فأنزل هذا الكون كله ولكن ليس معنى خروجنا نحن من عِلم الله إلى هذا العالم أن عِلم الله صار خالياً منا, كلا, ما زلنا أيضاً بعِلم الله سبحانه وتعالى, هذا الكلام النصراني صحيح, ولكن الجملة الثالثة “الكلمة كان الله”, فما معنى هذه؟!, أنت الآن تقول “كان عند الله” والفقرة الثالثة تقول “كان الكلمة الله” فهنا يتلخبط الأمر!, “في البدء كان الكلمة” يعني عيسى, “كان الله” يعني أن الله وعيسى واحد!. رب العالمين اجابهم جواباً عظيماً وهو العظيم بعد ان هدد وندد وشدد جل جلاله بمن يقول أن عند الله ولدا, لكنه أجابهم جواباً حسياً لأن الإجابات القرآنية تارةً تكون عقلانية ويُخاطب بها العلماء وأخرى تكون حسية, الكلام الحسي الذي أجاب به النصارى قال في حق عيسى وفي حق أمه الصديقة كلمة واحدة: ( كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ)(المائدة: من الآية75), ما معنى كانا يأكلان الطعام؟, رب العالمين يعلمنا الأسلوب الفاضل في المحاولات, الأسلوب الراقي, فأنت إذا تستعمل الأشياء يجب أن تشير إليها والإشارة أبلغ من التصريح. الله جل جلاله يريد أن يقول بأن عيسى وأمه كانا يأكلان الطعام والذي يأكل الطعام يحتاج إلى إخراج الطعام وهذا شيء واضح, لا يقول لهم بأن عيسى يحتاج إلى بيت الخلاء لأن عيسى عزيزٌ عند الله, عيسى عظيم عند الله, فسبحانه لا يستخدم ألفاظاً تخدش مقامه وتجرح شخصيته, ولكنه يقول لهم بأن عيسى وأمه يأكلان الطعام وأنت تعرف الباقي, فالإنسان إذا إحتاج إلى بيت الخلاء كيف يخلق هذا الكون؟ كيف يكون رباً والرب هو رب الكون؟, لماذا سمى الله نفسه رباً وعلمنا أن نقول (الحمد لله رب العالمين)؟, نعم, كلمة (الله) تدل على الجبروت ولكن كلمة (رب) تدل على الرحمة ومن مجمل الرحمة التربية, هو ربى الكون, والتربية إيصال الشيء إلى غاية كماله فالله أوصل الأشياء إلى غاية كمالها ومن جملة ذلك الإنسان, فإذا كان عيسى رباً فكيف يحتاج إلى شيء قذرٍ وهو بيت الخلاء؟! والإنسان أو المخلوق أو الشيء الذي يحتاج إلى أخس الأشياء ليس له القدرة في التصرفِ التصرفَ الكوني في إيجاد هذا الكون.
إذاً ما قاله النصارى: “في البدء كان الكلمة” ليس حقا, الحق (في البدء كان محمد) صلى الله عليه وآله وسلم, ولنا دليلٌ على ذلك, بعد تفنيد ما ادعوه نحن عندنا أكبر دليل, والدليل الذي يفيدنا نحن المسلمين كلام الرسول سيد المرسلين صلى الله عليه وآله, قال: “أول ما خلق الله نوري” وهذا معلوم فإذاً في البدء كان النبي محمد, وقال: “أول ما خلق الله روحي” فحينئذٍ في البدء كان هو ولم يكن المسيح عليه الصلاة والسلام, ونحن نقول بأن نبي الله محمداً صلى الله عليه وآله أشرف المخلوقات, وهذا مُسَلَم, لا يوجد مخلوقاً أقرب إلى الله منه ولا أشرف إلى الله منه ولا مخلوق أعلم في الكون كله منه, حتى إنه أعلم من الملائكة, أعلم من الكروبيين وهم أشرف وأعظم وأقدس الملائكة وهم الدرجة الأولى من الملائكة الذين يحملون عرش الله ويحملون علم الله بل قال الحكماء أن الفناء لا يصل إليهم, (أذوادٌ وأعضاد فبهم ملأت سمائك وأرضك حتى ضهر لا إله إلا الله, فبهم يُعرف الوجودُ وبهم يُرزق الموجود), الكروبيون حملة العرش, عظماء يطأطأ جبرائيل الأمين الحاكم الكبير _جبرائيل مطاعٍ ثم أمين, له طاعة كبيرة في السماء_ رأسه إجلالاً وإعظاماً للكروبيين, نحن نقول إن نبينا صلى الله عليه وآله هو أعظم من هؤلاء رتبة وأعلم منهم فضيلة, إذاً فلماذا قال الله: (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) (النجم:5)؟, كيف تقول هذا الكلام وسورة النجم تحجك؟ جبرائيل يُعلم النبي فكيف تقول هو أعلم من الكروبيين وجبرائيل أقل رتبة منهم ومع ذلك يُعلم الرسول؟, نقرأ نحن البيضاوي وإبن كثير الرازي وزيد وعمر يقول بأن شديد القوى هو جبرائيل عليه السلام, إذاً هو تلميذ فكيف تقول أعلم الناس؟, الجواب بأن قول هؤلاء ليس بحجة! أنت تعرف كم تفسير يوجد في مكتبتنا الإسلامية؟ مائة وسبعون تفسيرا! وأغلبها تفسيرٌ بالرأي, شديد القوى هو جبرائيل! من قال لك هذا؟, شديد القوى صفة وليست إسما, هل أنت كنت في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلمك بأن شديد القوى هو جبرائيل؟, كلا, انت جئت متأخرا, إذاً كيف تُفسر كلاماً قد صدر قبلك على إنسانٍ ما رأيته وما درست في مدرسته؟, إذاً فكلامك في كتابك ليس حُجة علينا بل هو حجة عليك, يكون عليك لا لك, نعم نحن نحتاج إلى هذه الكُتب في جهات أخرى, في تفسيرها اللغوي, في مراميها البلاغية فهذا حقٌ لا يُقمط للعلماء, فالزمخشري مثلاً كتابه آية في البلغة القرآنية ونحن نُقدر ذلك ولكن إذا جائت أمور خارجة عن نطاق معلوماتك فنحن لا نتبعك فيها, الله لم يأمرنا بأن نتبع الزمخشري أو نتبع إبن كثير أو نتبع الرازي أو نتبع زيد أو عمر الذين أجهدوا أنفسهم ولهم الإحترام ولكن الله لم يأمرنا بأن نتبع كلامك! ونحن نلاحظ عليك أخطاءً كبيرةً!(عَبَسَ وَتَوَلَّى) (عبس:1) وعبس فعل ماضٍ والفاعل ضمير مستتر تقديره هو, إلى من يعود هذا الضمير؟, قال إلى النبي!, ماهو الدليل؟, ليس دليك دليل! فإذاً هذا يُعَدُ تخرصا, إئتني بدليل فأجعل كلامك موضع إحترام أما أنت من هواك تتكلم فكلامك لك, تتعدى حدودك وتفرض كلامك عليّ فأنا ليس مطلوبٌ مني أن أقلدك.
نرجع إلى الآية, (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) (النجم:5), شديد القوى وصف, وصفٌ ينطبق على من؟ لا نعلم, إذاً فعلينا بأن نطرق باب مدينة العلم ولا يعرف القرآن إلا من خوطب به ونسألهم: من هذا شديد القوى؟, قال أئمتنا _وهم علماء المسلمين أو أحد فرق المسلمين العالِمة وهذا شيءٌ واضحٌ ولا يُنكر علمهم أحد_ إن شديد القوى هو الله سبحانه وتعالى وليس جبرائيل, وإنزال القرآن بوساطة جبرائيل كإرسال الرسالة من مؤسسة البريد إلى بيتك, فهل موزع البريد عندما يأتيك بالكتاب يكون أعلم بما في الكتاب منك؟ كلا, جبرائيل مهمته أن يكون وسيطاً بين الله والنبي, وهو رسول الله الأول, فرسول الله الأول لبني آدم جبرائيل ولكن جبرائيل لا يمكن لنا أن نتشرف برؤيته فصار الأنبياء وسطاء بيننا وبين الله سبحانه وتعالى بهذا. جبرائيل يأتي بهذا المرسال أو المرسول إلى النبي فقط من غير مسؤولية ولا يتقول على الله, (مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) (التكوير:21), أمينٌ على اللفظ في إرساله في وقته وفي مكانه ولا يتدخل فيه حتى بالفتحة والضمة والكسرة, جبرائيل هكذا, وبناء على هذا فشديد القوى هو الله سبحانه وتعالى وهو معلمٌ للنبي صلى الله عليه وآله لا غير, قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: “إن جبرائيل يجلس بين يدي جدي رسول الله جلسة العبد الذليل”, هكذا هي رتبة النبي, جبرائيل هو خادمٌ من خدام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويطلب الشفاعة من الله بواسطة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
إذاً فنبينا أعلم الكائنات, أشرف الكائنات, أقوى إنسان بل أقوى من أقوى إنسان!, من هو أقوى إنسان؟ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام, فرسول الله صلى الله عليه وآله أقوى من علي بأربعين مرة, وعلي أثبت ذلك وهو بطل المشارق والمغارب وقال: “إذا حميَّ الوَطيسُ لُذنا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم”, وبناء على هذا, هذه الشخصية التي إمتازت بالعلم وبالوصول إلى الله لا يُمكن عقلاً أن يكون الله قد بدأ شيئاً قبلها بالإيجاد, ليس معقول!, أنت الآن في أسرتك تُحب واحداً من أهل بيتك, إما زوجتك أو ولدك أو بنتك فإذا جِئت بهدية فلمن تُقدمها؟ تُقدمها إلى العزيز, وهذا شيءٌ واضح!, نحن الآن إذا ذهبنا إلى العراق _رزقنا الله وإياكم زيارة الأئمة ورفع الله البأس عنهم إن شاء الله_, بينك وبين الله هل تذهب إلى بغداد أو الموصل أو البصرة أو إلى مكان آخر؟ كربلاء! لماذا؟ لأنه عزيز عندك وإلا فهناك أماكنٌ أجمل من النجف الأشرف وأجمل من كربلاء, إذاً العزيز مُقدم وهذا شيءٌ واضحٌ لا يحتاج إلى برهان, إذاً لاشك ان النبي أعز خلق الله إلى الله, إذاً فأول بداية بدأ الله بها هذا الكون هو النبي محمد, لجمال ذِكرِه صلوا عليه وآله.
وبهذا وضُح كلامنا “في البدء كان محمد”, يعني في بداية هذا الكون الرسول( صلى الله عليه وآله وسلم) تسلم هذا الإمكان الأشرف ووصل إلى هذه الرتبة العظمى وبه ختم الله النبوات كما به أوجد الموجودات, والسلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته.