محاضرة بعنوان بُعِثتُ لأُتَمِمَ مَكارِمَ الأَخلاَقِ
لسماحة العلامة الشيخ عيسى الخاقاني
5/5/2005مـ – مجلس العصفور في الدراز
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, الرحمن الرحيم, مالك يوم الدين والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين وخاتِم الأنبياء والمُرسلين, الرسول المسدد والمحمود الأحمد, الذي سُمي في السماء بأحمد وفي الأرض بأبي القاسم محمد, وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين, الهُداة المهديين صلاةً كثيرةً دائمةً إلى قيام يوم الدين.
السلام عليكم أيها السادة الكِرام ورحمة الله وبركاته.
لي شرف المثول بين ظهرانيكم وللمرة الثانية في هذا البيت, بيت العِلم والفضيلة الذي يمتد قروناً كثيرة وهو يحمل مِشعَل نشر علوم أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
عِنوانُ حديثنا “بُعثت لأُتمم مكارم الأخلاق”, في هذا الحديث الشريف معانٍ كثيرة وجمة نتفيأ ظلالها لتشرق أنفسنا بأنوارها ولنستفيد بعض المعلومات في ضوئها. ” بُعثت لأُتمم مكارم الأخلاق”, يدل هذا الحديث الشريف على أن الديانات كُلها منذ آدم إلى الخاتم كان أساسها الأخلاق, أي أن الأخلاق كانت أساساً لجميع الديانات, وجاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ليُتمم تلك الأساسيات, إذاً فالأديان كُلها مبنيةٌ على الأخلاق, والأمر الثاني هو أن الأخلاق لها أهميةٌ عُظمى وكُبرى عند الله سبحانه وتعالى بحيث قامت النبوات من أجلها وضحى الشُهداء من أجلها, فكم من نبيٍ استُشهد وكم من نبي أُذي فقط من أجل الأخلاق, إذاً فللأخلاق أهميةٌ عُظمى عند الله بحيث ضَحى بأجلها بأحبابه وأعزائه السادة الأنبياء وكذلك الأولياء بل إن الأخلاق بتركها كان لها أثرٌ سلبي حتى في الكوارث الكونية كما رأينا في قضية نوحٍ عليه السلام ولوطِ عليه السلام وهودٍ وصالح, فترك هؤلاء الأقوام سَبَبَ إحداث كوارث كونية وتدميرات في الكرة الأرضية, هذا يدل دلالةً كبيرةً على أن للأخلاق الأهمية العُظمى عند الله سبحانه وتعالى بحيث من خالفها يستحق العِقاب الأليم, بل إن السماء تسخط والأرض تغضب!, والأمر الثالث الذي نستفيد منه _من هذا الحديث_ هو أن النبوات والأخلاق قابلةٌ للتطور بدليل أن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم جاء لإتمامها, إذاً فهي قابلةٌ للتطور, وكيف تكون الأخلاق والديانات قابلةً للتطور؟, تكون قابلةً للتطور لأن النبوات إنما تنزل من السماء وِفق التطور الفِكري للبشرية فكلما قطعت البشرية شوطاً في حياتها وفي تقدمها تأتي ديانةٌ تُوافق ذلك التقدم لذى نجد ان الديانة كانت بشكلها البدائي في زمنِ أبينا آدم ثم تطورت في زمن نوح فإدريس فإبراهيم فموسى فعيسى وهكذا حتى نما العقل البشري نمواً كاملاً ووصل إلى ذِروة الفِكر فأتم ذلك الدين الإسلامي, ” بُعثت لأُتمم مكارم الأخلاق”. والله سبحانه وتعالى وِفقَ هذا التطور جعل لكلِ نبيٍ شِرعةً ومنهاجاً كما هو معلوم, إذاً فالأخلاق تتبع الإنسانية في سيرورتها وفي صيرورتها, وهاتان الكلمات قد تحتاجان إلى شرحٍ ليتضح المعنى, فما معنى السيرورة _بالسين_ وما معنى الصيرورة _بالصاد_؟.
(السيرورة) عند العلماء هي تغييرٌ منتظمٌ يلحق الظاهرة _أي ظاهرة كانت_ ويُحولها إلى ظاهرةٍ أخرى, هذه هي السيرورة فهي مواكبةً للتطور والتطور يؤدي نفسم العمل لأنه تغيرٌ متلاحق يُغير الظاهرة إلى ظاهرة أُخرى, فإذاً نستطيع ان نقول بأن السيرورة هي نوعٌ من التطور, أما (الصيرورة) فهي إنتقال الشيء من حالةٍ إلى أخرى فهي حركةٌ وتغيير, هذا هو الفرق بين السيرورة والصيرورة, فهذه مقدمةٌ ندخل من خلالها إلى معنى مكارم الأخلاق, “بُعثت لأُتمم مكارم الأخلاق”, فإذاً علينا أن نعرفَ معنى مكارِم وأن نعرف معنى أخلاق لأجل يتضح لنا المعنى من هذا الحديث المليء بالمعلومات.
المكارِم واحِدُه مكرُمة والمكرمة هي فِعل الكَرَم, فِعلُك للكرم إسمه مَكرُمة وإسمُ الجِنس له مكارِم. فِعلُ الكرم يعني ماذا؟, لا نقصد منه بذل المال, لا, فالكَرَم في اللغة هو الفِعل الذي يُحمَد, هذا معنى الكرم, ليس الكَرَم معناه فقط البذلُ في المال, هذا أحد مصاديقه, بل الكرم المعنى الذي يجمَعُ جميعَ معانيه هو الفعل الذي يُحمَد, الفِعلُ الذي يمدحه الناس ولذى نجد الآيات الكريمة بإختلاف مضامينها تعني هذا, قال الله سبحانه وتعالى: (وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً)(الاسراء: من الآية23), وصية للوَلد أن يقول لأبويه قولاً كريما, لا يُعطي معنى السخاء بالمال, القول وُصِفَ بالكَرَم, قولاً كريماً أي قولاً سهلاً بأدبٍ وإحترام, يعني فعلك يكونٌ ممدوحاً ومحمودا, وكذلك قال سبحانه: (وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً)(الأحزاب: من الآية31), فوصف الرِزقَ بالكَرَم, بأنه كريم أي رِزقاً ممدوحاً بالكثرة, أي رِزقاً كثيراً فهو ممدوحٌ ومحمود, وقال سبحانه وتعالى: (وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً)(النساء: من الآية31), المُدخل الكريم أي الحَسن وهو الجنة يوم القيامة _رزقنا الله وإياكم ذلك_, وقال جل وعلا في وصف عرشه العظيم: (رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ)(المؤمنون: من الآية116), وصفَ عرشه بالكَرَم أي بالعظمة, أي بشيءٍ ممدوحٍ ومحمود, وكذلك وصَفَ القرآن الكريم بأنه كريم ونحن نكرر ونقول: “القرآن العزيز”, “القرآن المجيد”, “القرآن العظيم” و “القرآن الكريم”, سمى الله كتابه بالكريم لأن القرآن يُحمد ويُمدح لما فيه من الهُدى ولما فيه من البيان والعِلم والحِكمة والتشريع فهو كتابٌ كريم, محمودٌ بما فيه, محمودٌ على ما فيه, إذاً هنا عرفنا كلمة (مكارم), “”بُعتُ لأُتَمم مكارم…”, فالمكارم خُلاصةً هي الأفعال المحمودة الممدوحة ومُفردها (مكرُمة) وهي فِعلُ الكرم.
الفِقرة الأخرى هي (الأخلاق), فما هي الأخلاق؟, الأخلاق جَمع خُلق, إذاً فهي جمع, فما هو الخُلق؟, الخُلقُ هو العادة والسجية والطبعُ والمروأةُ والدين, هذا ما ورد في اللغة العربية, فكلمة خُلُق لها معانٍ متعددة وهذا مما هو موجودٌ في لغتنا بل في لغات العالَم جميعاً بأن مفردةً واحدةً تأتي ويكون لها عدة معانٍ ويسمى ذلك عند العُلماء بالإشتراك, أي أن كلمةً واحدة يشترك فيها عدة معانٍ, فكلمة خُلُق ككلمة عين, فعين مثلاً في اللغة العربية تحمل معانيَ كثيرة منها العين المعروفة وهي العين الباصرة للإنسان ولغيره, والعين بمعنى العين النابعة, والعين بمعنى الذَهب, والعين بمعنى الشخصية الموقرة المُحترمة في المجتمع منه وصفوا مجلس الأعيان وهكذا, إذاُ فكلمة خُلق لها معانٍ كثيرة, العادة والسجية والطبع والمروأة والدين. أما في المُصطلح العِلمي فماذا يعني الخُلق وماذا تعني الأخلاق؟, في المصطلح العلمي الأخلاق أو الخُلق تعني مَلَكةً راسخةً تُصدِر الأفعال من النفس من غير روية, تلقائياً يصدر منك هذا الشيء, من غير روية هي التلقائية ويُعبَر عنها في اللغة الأجنبية automatic, _ونحن نتجنب أن نستخدم كلماتٍ غير عربية في لغتنا وهذا من وصيتنا لإخوانا بأنهم إذا تكلموا بلغتهم, لغة القرآن, لغة العِز والشرف, لغة الملائكة, لغة اهل الجنة أن يتجنبوا إستخدام بعض المفردات التي دخلت تدل على ان اللغة ناقصة ونحن نتَبع تلك اللغات, نعم إذا تكلما بلغةٍ أخُرى فالنُجِدها ولكن لا ينبغي لنا أن نجعل خلطاً في لغة القرآن بهذه الكلمات والمصطلحات وإنما جِئنا بها من باب المثل ومن أجل أن نُركز على أن الشخص الوفي للغة القرآن ينبغي له أن يُجنب كلامه إستخدام هذه الألفاظ المتداولة كثيراً عند الناس وخصوصاً عِند الشباب_, إذاً فالأخلاق هي مَلَكةٌ تَصدِرُ منها الأفعال عن النفس لأن النفس هي التي تُصدِر الأفعال, والنفس قد يكون لها قُدرة _مَلَكة_ بحيث إذا مورست هذه القدرة يأتي الأمر سريعاً كملكة الشِعر للشاعر, ليس أي شخصٍ يُصبح شاعرا, متى يكون شاعرا؟ فيما إذا كانت في نفسه مَلَكةٌ هي التي تُصدر الكلام المنظوم, او كالفقيه المُجتهد, متى يكونُ مُجتهداً؟ فيما إذا كانت في نفسه مَلَكةٌ تُصدر الأحكام الشرعية وليس معنى الفقيه من يَحفظ الأحكام الشَرعية أو ينقل الأخبار عن أهل بيت النبوة أو عن النبي صلى الله عليه وآله, كلا, الفقيه هو التي تكونُ في نفسه مَلَكة وقُدرة وهذه المَلَكة تُصدر الأحكام الشرعية, فحينئذٍ الأخلاق هكذا تكون مَلَكة في نفس الإنسان تُصدر هذه الأفعال. والمَلَكةٌ كذلك لا تكون إلا راسخة فإذا لم يكن فيها رسوخ لا تًسمى خُلقاً, يجب أن تُعرف بكرَمك وأن يكون كرمك بسجية, أن تكون شجاعتك بسجية, تنطلق بدون رَوِية, هكذا, فإذا لم يكون رسوخٌ في هذه الملكة لا يُعتبر أخلاقاً فمثلاً لو ان الحكيمَ غضِب ومن شروط الحكيم أنه لا يغضب ولذى سُمي حكيما, لماذا سُمي حكيما؟ لأن نفسه مُحكمة, من الحَكَمة والحَكَمة هي الحديدةُ التي تُقحم بين الباب فتُغلقه وتُسمى في العربية بالحَكَمة وكذلك لِجامُ الفَرس يُسمى حَكَمة لأنها يُحكم جماح الفرس, فالحكيم هو الذي تنضبطُ أخلاقه فإذا غَضِب الحكيم يوماً فغضبه ليس خُلُقاً له وإنما جاء بدون رسوخ, لحظة واحدة ويذهب منه ذلك, وكذلك إذاً كان رسوخاً ولكن جاء يتروي وإعمال فكر فهذا أيضاً ليس أخلاقاً, كمحاولة البخيل أن يكون كريما, البخيل ليكون كريما فهذا الكَرَم لا يُعتبر من أخلاقه وإنما هو حاول نفسه بجدٍ وروية كمادر مثلاً, مادر أخٌ لحاتم من أمٍ وأب, حاتم معروفٌ بالكرم وعكسه مادر الذي كان معروفاً بالبُخل الشديد بحيث أنه فعل فعلةً لا يفعلها الشريف فقد كان في طريقٍ وكان عطشاناً فرأى ضحضاح ماءٍ فشرب من الماء ثم تغوط في الماء فقيل له: لماذا؟ فقال: لألا يشربُ منه أحد!, وهذا لما أن مات حاتم جلس مكانه في المضيف وأخذ يُظهر ما يُظهر أخاه فبعثت إليه أُمه وقالت: يا ولدي لا تُكلف نفسك بكرمِ أخيك, قال: لماذا؟ انا مِثل أخي, قال: كلا, أنت لا تقدر على ذلك لان أخاك حاتماً كُنت أرضعه فكان يأبى أن يرتضع مني حتى آتي بطفلٍ آخر يرتضع قبله أما انت فكُنت تمسك عليَّ بيديك!, فحينئذٍ مادر لمّا أن أظهر الكَرم يوم ويمين فهذا الكَرم لا يُعتبر خُلقاً يدل على مَلَكةٍ فيه وإنما جاء بشِدة وغصباً عنه, يُقال في الأمثال: مُجبرٌ اخاك لا بَطل!.
إذاً نرجع إلى كلمة أخلاق, في حقيقة الأمر أن (الأخلاق) _هذه الكلمة التي جائت في الحديث الشريف_ تُطلق على جميع الأفعال الصادرة من النَفس سواء أكانت مذمومةً أو ممدوحة, هذه هي الأخلاق, فالأخلاق هي الأفعالُ الصادرة من النفس سواءٌ أكانت ممدوجةً أو مذمومة ولذى قال النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: “بُعثتُ لأُتَمم مَكارِم الأخلاق”, إذاً هناك ذميمات الأخلاق موجودة ولكنه جاء كسائر الأنبياء ليُتَمم المكارِم من الاخلاق, إذاً فهنا عرفنا أن الأخلاق هي ما يصدر من النفس الإنسانية سواء كان قبيحاً أو كان ذميماً ولذى يُقال في العُرف: فلان أخلاقهُ سيئة!, أخلاقه ذميمة! وفلان أخلاقه رفيعة!, إذاً وصلنا إلى نقطةٍ حساسةٍ وهي أن الأخلاق هي عموم الأفعال التي تَصدر عن النفس محمودةً أم مذمومة ولذى صحَ لنا أن نقول بأن فلانٌ كريم الأخلاق وفلانٌ ذميم الأخلاق.
هناك طبعاً عِلم الأخلاق أو فلسفة الأخلاق وهي التي تُعلمنا الحِكمة العملية حتى إذا درسناها إستطعنا أن نمارس تلك الأخلاق الطيبة, فإذاً إلى هنا عرفنا أن العلُلماء وضعوا فلسفة الأخلاق ووضعوا عِلم الأخلاق من أجل أن يُوصلوا الإنسان إلى المكارم العالية فبحثوا حتى يُوصلوا الإنسان إلى السعادة, فعِلم الأخلاق يُوصل الإنسان إلى السعادة وإذا وصل إلى السعادة عاش عيشة رفاه, فتكلم العلماء عن الوجدان وطبيعته وعن الضمير وعن طبيعة الخير وعن طبيعة الشر وما إلى ذلك من الأمور التي يتدارسها العُلماء في المعاهد الدينية والمعاهد الأدبية.
“بُعثت لأُتَمَ مكارِم الأخلاق”, هُنا إتضح لنا لُغةً وإصطلاحاً معنى الحديث الشريف, ولكن, تواجهنا مسألةٌ صغيرة وهي أن الأخلاق تنقسم إلى قسمين, إلى أخلاقٍ نسبية وإلى أخلاقٍ مُطّلَقة, ما المقصود من الأخلاق النِسبية؟, هي أخلاق الأُمم, العادات التي تتبعها أُمةٌ من الأُمم ولذى يُقال الأخلاق العربية, الأخلاق الرومية, أخلاق الفُرس, أخلاق الهنود, الأخلاق الإنجليزية وهكذا, فإذاً هذه أخلاقٌ نسبية, كُل أُمةٍ لها أخلاقها, أما الأخلاق المُطلقة فعلى العكس من ذلك وهي مجموع قواعد السلوك الثابتة التي تُوصل بالإنسان إلى الخير ولكن لا تُحدد بزمان ولا تُحدد بمكان ولا تُحدد بقومٍ دون قوم, هي أمور ثابتة وعقلانية وهي المُعبر عنها بالحِكمة العَملية لأن الحكمة _أي الفلسفة_ تنقسم إلى قسمين, فلسفة نظرية وفلسفة عملية تطبيقة, فالفسلفة والحكمة التطبيقية بمجموعها هي الأخلاق المُطّلَقة التي من أجلها بُعث الأنبياء جميعاً وبُعث سيد المرسلين لأجل إتمامها.
إذاً فالنبي ماذا قام ليُتممَ مكارم الأخلاق؟, قام بتجربة _إن صح التعبير_, قام صلى الله عليه وآله وسلم بتجربةٍ تاريخيةٍ عُظمى لا ينكرها البشر تستهدف الثورة على الحاضر, وهذا الذي فعله صلى الله عليه وآله وسلم, ثار ثورةً عُظمى في الحاضر في مكة وكذلك في المدينة المنور بإسم المستقبل, يُريد أن يبني مستقبلاً للأُمة لتغيير ما في آفاق أولئك القوم, تغيير كُل ماكان عليه الجاهليون وتغيير مافي نفوس الناس والتخلي عن سلوكهم العملي, ثورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم _الثورة الأخلاقية_ ثورةٌ تستهدف القيام ضد الحاضر من أجل بناء المستقبل, ونال ما نال من الأذى, نحن نسأل: لماذا أتعب نفسه الشريفة ولماذا أعلن وقال: “ما أُوذي نبيٌ مثلما أُوذيت”؟ حتى أن الله تعالى أمره أن يخرج من مكة إلى الطائئف والله يعلَم أن الطائف لا يستقبلونه بخير, فلماذا أمره؟, أمره لأجل أن يكون فعله أمراً طبيعياً بشريا, صاحب ثورةٍ فإذا لم يستجب أهل مكة لها فعليه أن يغير المكان لكي لا ييأس, الله يعلم أن الطائف لا يؤمنون به ولكن يريد أن تكون الحركة اللسانية المُحمدية أغلبها طبيعية حتى تقوم على الإنسان, حتى تقوم على الجِهاد, حتى في الأمور الإعجازية كإنزال الملائكة في الحروب كحرب بدرٍ وحُنين فالملائكة لم تُمارس القِتال ضد الكفار وإنما جائوا لتأييد المسلمين وإلا لو كان الملائكة حاربوا الكفار لما كان للمسلمين فخر, غن المسلمين وفي قمتهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي تناول نصف القتلى يوم بدر كان قتالهم بشراً مع بشرا, ولكن الملائكة جائوا ليطمنوا المؤمنين, ليثبتوا قلوبهم من أجل ان يحفزوهم على المعركة لأن المعارك لا تكون إعجازية, المعارك المصيرية فيها تأييدات إلهية ولكن هناك إحتدامٌ بين رجلٍ ورجل وكان الأمور كلها طبيعية, فلماذا هذا الأذى الكبير في مكة والمدينة وفي الطائف؟ لأي شيء؟, لأن الله يريد بدينه أو بإتمام المكارم الأخلاقية تحقيق الصورة المنشودة من إنسانية الإنسانية, الصورة المطلوبة الإلهية التي شوشتها الإنحلالات التاريخية والطواغيت والجبابرة والوثنية, إنسانية تشوشت, إنسانية الإنسان كانت صافيةً في زمن أبينا آدم وعاش عيشةً راضيةً على ما يريد الله مدة ألف سنة هو مع أولاده, ولكن بعد آدم تشوشت الصورة فلم تكن هناك صورةٌ منشودةٌ إنسانية, تغيرت بالوثنية, بالجبابرة, بالإقطاعيين وما إلى ذلك, فكان النبي صلى الله عليه ةآله وبحركته الأخلاقية هذه يُريد أن ينفض الغبار عن وجه الإنسان, يُريد أن يبين للكون الصورة الحقيقة للإنسان والصورة الحقيقة للإنسان هي إستخلافه في الأرض, إستخلاف الإنسان, فالتعريف الحقيقي للإنسان هو أنه كائنٌ مُستخلَف, طبعاً أنتم تعلمون أن كل جهة علمية تناولت الإنسان بتعريف, فبعضهم قالوا أنه إنسانٌ ذو تاريخ, وجاء أهل المنطق فقالوا إن الإنسان هو حيوانٌ ناطق, وجاء الفلاسفة فما رضوا بهذا التعريف للإنسان فقالوا بأن الإنسانُ حيوانٌ ناطقٌ مائت _أي ميت_ فقيدوا الموت لإنسانية الإنسان لأن الموت مكملٌ للإنسان, لأن الموت مفتاحٌ لترقي الإنسان, هكذا في النظر الفلسفي, وحقيقة الأمر أن الهدف من هذا الوجود _وجود الإنسان_ هو الإستخلاف فالإنسان هو كائنٌ مُستَخلَف, قال الله تعالى: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)(البقرة: من الآية30), فإذاً الإنسان خليفة, هذه الخلافة الشريفة الحاملة لعِلم الله )َعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا)(البقرة: من الآية31) ضاعت بضياع الإنسانية الحقيقة وتَسرُب الوثنية لها, فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما جاء وأعلن: “بُعثتُ لأُتَممَ مكارِم الأخلاق” ناله من الأذى ما لم ينل أحدٌ من الأنبياء, من أجلك أيها الإنسان, من أجل أن يجعل صورتك مشرقةٌ في الأرض, من أجل أن يُعيد كرامتك الأُولى التي قال الله فيها: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ )(الاسراء: من الآية70), كيف هذا الآدم المُكَرم وهو يعبُد صنما, وهو يعبُد وثناً ويعبدُ تمراً فإذا جاع أكله؟ أين الكرامة؟ أين مكارم الأخلاق؟, انت أ]ها الإنسان الدابة كيف تُفكرُ بأن تجعَلَ تمراً فتعبُدُه ثم إذا جِعتَ أكلته؟! وتنيجة الأكل معلومة, فربُك وإلهك نتيجته معلومة!, هكذا تلوثت الإنسانية, تلوثت فصارت سوداء كما قيل في الحجر الأسود بأنه عندما نزل كان أبيض من اللؤلؤ ولكن لما عصى الناس ربهم ولما أشرك الناس تجمعت ذنوبهم فتغير, حتى الحجر!, لأن الذنوب لها الأثر الوضعي في تغيير الكون ولقد ذكرنا في بداية الحديث ان مخالفة مكارم الأخلاق تُسبب تغيير الكون كما حدث في الفيضان لنوحٍ والريح لصالح والصاعقة والصيحة وما إلى ذلك, الغرض, ما نال الأذى إلا من أجل إنسانية الإنسان وإرجاع هذا الكمال والتكريم له, فإذاً “بُعثتُ لأُتَممَ مكارِم الأخلاق” إنما هي ثورةٌ محمديةٌ إسلامية لتحقيق أهداف عُليا, ماهي الأهداف العُليا؟ هو ما يجب تحقيقه, مهو الواجب الذي يجب أن يؤدى ومن أجله قام رسول الله صلى الله عليه وآله؟ هو قام ضد الأمر الواقع الجاهلي التخلفي بإسم القيمة, بإسم القيمة الشريفة قام ضد الواقع المُقام, كان الواقع لا قيمة له, كان أبو جهل قائد الأُمة والوليد قائد الأُمة وأبو سفيان قائد الأُمة, هؤلاء لا يوصلون الناس إلى القيمة, هذا الواقع خطير, فنال ما نال من الأذى من أجل أن يغير هذا الواقع بإسم القيمة وبإسم الشرف.
نحن نقول في زماننا هذا: لماذا تغيرت الأخلاق؟, لماذا استنكر الناس وتنكروا مكارم الأخلاق؟, لماذا؟, بعد أن شُرح لنا وعرفنا بأن مكارم الأخلاق تُعيد إنسانية الإنسان فلماذا هذا التنكر؟, التنكر يعود إلى فلسفة من الفلسفات أيها السادة الكرام, فلسفة اللاأخلاقية. قام في ألمانيا فيلسوف يُسمى (نيتشيا) له فلسفة خاصة _لا نريد الآن أن نشرحها_ تُسمى الفلسفة الوضعية, من جملتها _وهو محل الشاهد عندنا_ أنه أنكر وجود أخلاق للإنسان, قال أن هذه الأخلاق مجرد خرافات أوجدها اليهود المشتضعفون ولقنوا بها الضعفاء من سود أفريقيا ضد السادة الكِرام, من هم السادة الكِرام؟, هم البيض, فقسم الناس إلى الإنسان المثالي وهو الأبيض والباقي هم عبيدٌ أذلاء يجب إسترقاقهم, هؤلاء العبيد لمّا وجدوا أنفسهم أمام السادة الكبار الأقوياء ضُعفاء, تذرعوا بهذه المُثل: كرم, شجاعة, نُبلٌ, عِفةٌ وهكذا, هذه مخترعات الضعفاء ولا قيمة لها, القيمة الحقيقية هي الإرادة الحقيقية, إذً القوة هي الأخلاق وغير القوة كُلها خرافات, ليس هناك عِفة ولا شرف ولا شجاعة وإلى آخر هذه الأمور!, هذه الفلسفة _وشرحها يطول_ أثرت على الفِكر (الجرمني), على الفكر الألماني, ولذا تجد ألمانيا تعتبر نفسها سيدة العالم نتيجة هذه الفلسفة, ومن جراء هذه الفلسفة قامت الحروب في أوربا على هذا المنوال وطارت الرؤوس بالملايين في الحرب الكونية الأولى وتكررت أيضاً لما أن تبنى هتلر هذه الفلسفة العوجاء وخرَب الدنيا بما فيها.
هذه الفكرة الأخلاقية وإن قام ضدها أهل أوربا وأمريكا إلا أنهم أخذوا بها وتبنوها وأعلنوا للناس أن هذه المُثل الأخلاقية هي مخلفات برجوازية تخلفية لا تُفيد المجتمع شيئا, ومن هاهنا أُتيت الأُمة البشرية, من ها هنا طارت الفضائل ولم يبقى شيءٌ من الأخلاق إلا وانهار كما نجد الحياة الغربية التي أثرت أيضاً على حياتنا الشرقية الإسلامية, نحن بإعتبار أننا ضعفاء أمام الغربيين بحسب القاعدة (الضعيف يَتَبِع القوي), ولذا أُمتنا إتبعت ما عليه الغربيون من تفسخ الأخلاق ومن عدم إحترام المُثل العُليا ومن هاهنا أُتينا أيها السادة الكِرام, إذاً ما هو الحل لإرجاعنا إلى الشرف الأول الذي تعب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من أجله ورفع برأس الإنسانية شامخاً وإذا به يجعل جماعةً كانوا رُعاةً للغنم فصيرهم سادةً للأُمم؟, كُل ذلك بمكارم الأخلاق, كُل ذلك بهذا الدين العظيم الذي قال فيه قرآن: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (الأنعام:153).
أكتفي بهذا الكلام وأرجو المعذرة على الإطالة وأشكركم على الإستماع والسلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته.