الغدير الغدير
* السيد محمد جمال الهاشمي
يحتفي الخلدُ فيك مجداً وفخرا فتطاول على السماكين قدرا
واقتحم ساحةَ الحياة بعزم يهرب الموتُ منه خوفاً وذعرا
لكَ من روحكَ العظيمة جيش يهزم الحادثاتِ كرّاً وفرّا
والذي يغمر الليالي ألطافاً سيحيى في صفحة الاُفق فجرا
* * * *
يا نجوم الظلام فيضي هناءاً واملأي الأرضَ والسماوات سحرا
واسكبي النور خمرةً تسكر الحب فتصحو به العواطفُ سكرى
واقبضي دَفّة النسيم ليجري هادئاً يغمرُ العوالم بِشرا
وابعثي في السكون روحاً رقيقاً يتندّى وحياً وينطف شعرا
واحمليها لمن أعاركِ من معناه مجداً على الشموس إشمّخرا
حلقَتْ نفسُه الكبيرةُ تبغي في مجاليك عالماً مُستقرا
عشقتْ وجهَك الضحوك فباتت عينه في الهوى كعينيك سهرى
فاستراحت في ظلِّ صمتك لمّا وجدته للفكر أهنى وأمرى
ومضت توقظ الخيال بلحن ذهبيٌّ يحيي به الميْت نشرا
حفَّزتها إلى النضال دروس تستثير الأحرار علماً وخبرا
إنِفت أن تثورَ كالوحش بالسيف فألقَته للمجانين سخرا
وانبرتْ ترهفُ اليّراع وتبرى حدّه للجِهاد بحثاً وسبرا
وإذا صلصل اليرّاعَ حَماساً أين منه الحُسام جاراً وزأرا
قلمٌ ينثر النجوم لتهدي موكبَ الفكر وهو يجتاز وعرا
يخرقُ الحُجبَ في البيان فيبدو منه سرُّ الحياة للعين جهرا
ويشقُّ العصورَ بطناً وجهرا ويذوق الظروفَ حلواً ومُرّا
فيحيل الضّباب في العين نوراً تجتليه، والشوكَ في الكفِّ زهرا
* * * *
الغدير الغدير ذاك نشيدٌ ردّدتَه العصور سجعاً وزمرا
لحنتَه قيثارة اللّه صخّابا فهاجتْ منه الكوامنُ حرّى
هدهدتَه السماء للأرض روحاً ملكيّاً يفيض قدساً وطهرا
فاحتسته الآذان خمراً، وإنَّ السمع قد يغتدي بدنياه ثغرا
صورٌ تسحر الخيال فيسمو صاعداً في معارج النور سُكْرا
وإلى أين حيث ينبثق الفجرُ ليكسو الوجود نوراً وعطرا
فهناك الوحيُ الإلهيُّ يبدي منه شطراً يرى، ويضمر شطرا
تترامى من حوله عبقريّات مشت تطلبُ الخلودَ مقرّا
ذاك سرٌّ هيهات يدركهُ الوعي وإنْ غاب منه دهراً ودهرا
الغدير الغدير، لحنٌ تلاشى في خضمِّ الحياة مَدّاً وجزرا
لم يطقه الزمانُ هظماً فأمسى خبراً في ضميره مستسرّا
الزمان الحقود هيهات يرضى إن يرى الحُبَّ فيه ينثر بذرا
فأحال الشُعاعَ منه ضباباً وأعاد الروض المنمنم قفرا
والذي يدرس الحوادث يلقى الشرَّ خيراً هناك والخير شرّا
كم هَزار تُفني لتُحي غرابا وهزبر تضوى لتنفخ هرا
منهج تقصر الموازين عنه فاترك البحثَ فيه، فالترك أحرى
الغدير الغدير، ذلك طيفٌ ساحرٌ داعبَ الخيال وفرّا
فانتشى الحبُّ من ملامحه الزهر وماس الجمال تيهاً وكبرا
حاول الفنُّ أن يصورّه في لوحة تبهر الأخاييل بهرا
فاستعار الألوانَ من وضح الشمس وخطَّ الضحى على اللوح طغرى
ومضى يرسم المناظر حتّى أجهدته قوى وأضنته صهرا
كلما قاس سحره بسواه لاح أسمى معنى وأبعد سرا
فرمى الريشةَ الكليلة أسوانَ وعاف الألوان غيظاً وقهرا
وارتمى ساهماً يُحدِّقُ في الاُفق كطير أضاع في الاُفق وكرا
* * * *
الغدير الغدير، ذلك يوم خلّدته العصور للحق ذكرى
صرع الحقد منه غيظاً، ورفّتْ راية الحب فيه فتحاً ونصرا
نحن في ضحوة النهار، ونور الشمس قد طبّقَ المفاوز طُرّا
دَفقات الرياح يلهبها الصيف فتُصلي السماءَ والأرض حَرّا
والرمال الحمراء موَّجها النور فلاحتْ نهراً له الاُفق مجرى
والسكون العميق يبعث في الصحراء روحاً منها الفضاءُ أقشعرّا
يتعالى الغُبارُ من كَبَد البَرِّ تماويجَ تجعل البرَّ بحرا
إنّه من قوافل تقطع الصحراء فيها لو ترع حرّاً وقُرّا
إنّه مشهدُ الحجيج إلى الأوطان يسعى في سيره مُستمرا
إنه موكب النبوّةِ يجتاز الصحارى فتحتفي فيه فخرا
هذه هالةُ الجلال وهذا خاتم الرُسل لاح في الركب بدرا
هؤلاء الأصحاب كالشهب حفَّتْ واستدارتْ عليه يمنى ويسرى
منظرٌ يغمر الصحارى جلالاً ويُحيل الرِمال في العين تبرا
لم تُشاهدْ هذي الفدافدُ ركباً عربياً يعنو لعلياه كسرى
يقف الموقفَ العظيم، فماذا عاقه عن مسيره فاستقرّا؟
الثُغاء الرنّان يخترق السمع فيمسى به من الضغط وَقْرا
ونداء الحُداةِ موجّه الجوُّ نشيداً يلذّ للروح نبرا
ويعم السكوت حتّى على النيب فمنها لم تصغ جعراً ونعرا
من حدوج النياق قد نُصب المنبر في الشمس وهي تنفث سَعْرا
جلستْ حولة الجماهير، والصمت عليهاالقى من السِحر سَتْرا
هاهو القائدُ العظيم على المنبر عنه العيونُ ترجع حسرى
يتعالى خِطابُه وهو إعجازٌ يهزُّ العصور عصراً فعصرا
وارتقى نحوه فتىً، فحَسِبتَ النجم في المنبر المُشرّف خّرا
آه، هذا ابنُ عمِّه، بطلُ الإسلام من يرجف الميادين ذعرا
ويمد النبيُّ يمناه للصهر فيعلو على الجماهير طُرّا
أفتدري مارام من فعله هذا وإن كان فيه ربّي أدرى
إنه شاء أنْ يبيّنَ إن المرتضى من سواه أرفع قدرا
مَهّدَ الوضع فيه للوحي حتى لا يرى الناس أمره فيه إمرا
ثم نادى: مَنْ كنتُ مولاه حقّاً فعلىٌّ مولاه، دنياه واُخرى
موقفٌ أزعج الزمان فأمسى وهو ينوي شراً ويضمر غدرا
بايعته الأيامُ بالحكم لكن نَقِضتْ عهدُه المقدّس كفرا
هكذا تنمحي الحقائقُ حتّى يصبح العُرْف في الشرائع نُكرا
****
الغدير الغدير، ذلك سِفرٌ خالدٌ في الحياة، قُدّس سِفرا
دَبّجته يراعةُ الناقد الفحل فلم تبق فيه للبِّ قشرا
أظهرت ما اختفى، وأخفتْ عيوباً قُدِّستْ في الورى خِداعاً ومكرا
إنْ يكن يصلح الخلود وِساماً ( فالأمينيّ) فيه أولى وأحرى