مسلم بن عقيل 


(سفير الحسين)


هو مسلم بنـ عقيل بن أبي طالب (ع) ـ كان شجاعاً باسلاً وهماماً حازماً صدق فيه قول الرسول (ص): (لله در أبي طالب لو ولد الناس كلهم لكانوا شجعاناً). وقال فيه الحسين (ع): (وأنا باعث إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل). وما يمنعه أن يكون كذلك وإنه في الصميم من هاشم والذروة من بني عمرو العلى والقلب من آل عبد مناف.


نشأ مسلم (ع) مع العلم والتقوى والبطولة والهدى والحزم والحجى والرشد ما شاء له المولى سبحانه حتى أحب لقاءه يوم سعادته بشهادته.


ويشهد له وقفة أولاده بمشهد الطف يوم التطمت أمواج الضلال وتحزبت عصب الشرك على سيد شباب أهل الجنة وقطعوا عنه خطوط المدد وحالوا بينه وبين الماء، فكتبوا بدمائهم الزاكية أسطراً نوريةً على جبهة الدهر تقرؤها الأجيال المتعاقبة ويتعرفون منها منهاج موتة العز وأن الحياة مع الظالمين ذميمة.


لقد كان مسلم (ع) شخصية بارزة للدين والهدى متأهلاً لحمل أعباء النيابة الخاصة ولذلك اختاره سيد الشهداء (ع) من بين ذويه وحشده الأطايب.


شهادته (ع):


لمّا هلك معاوية بن أبي سفيان إستنشق الكوفيون روح الأمن وابصروا بصيصاً من نور الإمام فعزموا على أن يكتبوا إلى الحسين (ع) بالمسير إلى عاصمة أبيه أمير المؤمنين (ع) ليفتح لهم باب السجن المظلم، ثم كتبوا إليه (ع) وأخذت الرسل من أهل الكوفة تتوارد عليه بكتبهم حتى اجتمع عنده في يوم واحد ستمائة كتاب واجتمع من نوب متفرقة اثنا عشر ألف كتاب والحسين (ع) متريث عن الجواب حتى إذا تتابع هتافهم بكتبهم التي ملأت خرجين لم يسعه السكوت فكتب إليهم أجمع صورة واحدة:


بسم الله الرحمن الرحيم


(من الحسين بن علي إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين أما بعد، فان هانياً وسعيداً قدما عليّ بكتبكم، وكانا آخر من قدم عليّ من رسلكم، وقد فهمت كل الذي قصصتم وذكرتم، وكانت مقالة جلكم أنه ليس علينا إمام، فاقبل لعل الله يجمعنا بك على الحق والهدى، وأنا باعث إليكم بأخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، فان كتب إليّ انّه قد اجتمع رأي ملأكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم وقرأت في كتبكم، فاني أقدم عليكم وشيكاً إن شاء الله، فلعمري ما الإمام إلاّ الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحق، الحابس نفسه على ذات الله تعالى والسلام).


وحمل مسلم بن عقيل (ع) كتاب الحسين (ع) حتى حلّ ضيفاً على المختار الثقفي حينئذ انثال عليه أهل الكوفة ولاذ به حماة المصر وازدلف إليه الناس زرافات ووحدانا يهتفون بالترحيب بداعية حجة الله، فقرأ عليهم كتاب الحسين (ع) وعرّفهم أنه مجيبهم إلى ما يريدون إن لزموا العهد وتدرعوا بالصبر على مكافحة أعدائهم، وهكذا أخذ مسلم (ع) البيعة من أهل الكوفة، فبلغ عدد من بايع مسلماً (ع) ثمانية عشر الفاً أو خمسة وعشرين الفاً، وفي حديث الشعبي انهم اربعون الفاً، ولمّا أحصى ديوان مسلم (ع) ذلك العدد الكثير من المبايعين كتب إلى الحسين (ع) يقول: (…الرائد لا يكذب أهله وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر، فعجل الاقبال حين يأتيك كتابي).


ولمّا بلغ ذلك يزيد ضم البصرة والكوفة إلى عبيد الله بن زياد وأمره بالمسير إلى الكوفة، وهكذا دخل عبيد الله بن زياد الكوفة ليلاً مسرعاً، وفي الصباح خطب في الناس وهددهم وتوعد منهم كل من يساعد مسلم بن عقيل، فلما سمع مسلم (ع) بمجيء ابن زياد إلى الكوفة ومقالته التي قالها خرج من دار المختار إلى دار هاني بن عروة المرادي، وأخذت الشيعة تختلف إلى دار هاني سراً، ثم دس ابن زياد رجلاً اسمه معقل في صفوف مسلم حتى علم مخبأه، وبعث ابن زياد رجالاً يخوفون الناس ويتوعدونهم بقطع العطاء، ويوهمونهم بوصول جند من الشام، حــتى تبلبل أمر الناس وبدا بعضهم يثبط همة بعض، فما زالوا يتفرقون إلى بيوتهم حتى امسى مسلم بن عقيل (ع) في خمسمائة، فلما اختلط الظلام أخذوا يتفرقون فصلى المغرب وما معه إلاّ ثلاثون رجلاً في المسجد، فلما رأى ذلك خرج متوجهاً إلى أبواب كنده فلم يبلغ الابواب الا ومعه عشرة، ثم خرج من الباب فإذا به وحيداً ليس معه إنسان، ومضى مسلم (ع) على وجهه متحيراً لا يدري أين يذهب، حتى التجأ إلى دار امرأة يقال لها (طوعة) فعرّفها بنفسه فآوته وكان لها ابن اسمه (بلال) وهو الذي أخبر بمكان مسلم (ع) فبعث ابن زياد عبيد الله بن العباس السلمي في سبعين رجلاً من قيس حتى أتوا الدار التي كان فيها مسلم، فلما سمع (ع) وقع حوافر الخيل واصوات الرجال علم انه قد أتي فخرج إليهم بسيفه، وكانوا قد اقتحموا عليه الدار، فشد عليهم يضربهم بسيفه حتى أخرجهم من الدار، ثم عادوا إليه فشد عليهم كذلك، فأخرجهم مراراً وقتل منهم جماعة واختلف هو وبكر بن حمران الأحمري بضربتين، فضرب بكر مسلماً على فمه فقطع شفته العليا وأسرع السيف إلى السفلى وفصلت له ثنيتاه، وضربه مسلم على رأسه وثناه بأخرى على حبل العاتق كادت تطلع إلى جوفه فمات منها، وكان من قوته يأخذ الرجل من محزمه ويرمي به فوق البيت والمرأة الطاهرة (طوعة) تحرضه على القتال فاضطرهم البؤس واليأس من الظفر إلى طلب المدد فانفذ ابن الاشعث إلى ابن مرجانه يستمده الرجال، فبعث إليه، إنا أرسلناك إلى رجل واحد لتأتينا به، ففعل ما فعل في أصحابك، فكيف لو أرسلناك إلى غيره، فأرسل إليه ابن الاشعث: أيها الأمير أتظن أنك ارسلتني إلى بقال من بقّالي الكوفة أو جرمقان من جرامقة الحيرة، إنما وجهتني إلى سيف من اسياف محمد بن عبد الله (ص)، فأمدّه بخمسمائة فارس. واستمر مسلم (ع) وحده يقاتل في ذلك المجال الضيق حتى أكثر القتلى، والناس من أعلى السطوح يرمونه بالحجارة، ويقلبون عليه القصب المضرم بالنار وهو يرتجز ويقول:


أقسمــــت لا أقتل إلاّ حرا          وإن رأيت الموت شيئاً نكرا


كل امرء يوماً ملاق شرا          ويخلط البـــــار سخنـــا مرا


ردّ شعاع النفس فاستقرا          أخاف أن أكذب أو أغــــــرا


ولمّا أثخنته الجراح وأعياه نزف الـــدم إستند إلى جنب تلك الدار فتحاملوا عليه يرمونه بالسهام والحجارة فقال: ما لكم ترموني بالحجارة كما ترمى الكفار وأنا من أهل بيت الأنبياء، ألا ترعون حق رسول الله في عترته.


وحيث أعوزتهم الحيل والتدابير الحربية لإلقاء القبض عليه، قابلوه بالأمان فقال له ابن الاشعث أنت آمن، فلم تفته خيانتهم ونقضهم العهود وانهم لا يرقبون في مؤمن إلاّ ولا ذمة ولم يعبء بأمانهم فحمل على ابن الاشعث فهرب منه ثم تكاثروا وقد اشتد به العطش فطعنه رجل من خلفه فسقط إلى الأرض وأخذ أسيراً.


وقيل أنهم عملوا حفيرة وستروها بالتراب وانكشفوا بين يديه حتى إذا وقع فيها أسروه، ولما أركبوه البغلة وأنتزعوه سيفه دمعت عيناه، فقال له عمرو بن عبيد الله بن العباس السلمي إن الذي يطلب مثل الذي تطلب إذا نزل به مثل ما نزل بك لم يبك فقال (ع) ما على نفسي أبكي ولكن أبكي لأهلي المقبلين إليكم، أبكي للحسين وآل الحسين. ولمّا جيء به إلى القصر تساند إلى الحائط وقد أخذه الضعف لنزف الدم وشدة الضمأ فرأى قلة مبردة من الماء فطلب منها ما يبل عطشه، فقال له مسلم بن عمرو الباهلي: أتراها ما أبردها لا تذوق منها قطرة حتى تذوق الحميم في نار جهنم، ولمّا أدخلوه على ابن زياد أبى أن يسلم عليه، وقيل أنه قال: السلام على من اتبع الهدى وخشي عواقب الردى وأطاع الملك الأعلى. ودارت بين مسلم (ع) وبين ابن زياد محاورات اكثر فيها مسلم (ع) من الطعن على ابن زياد في حسبه ونسبه، أمر بعدها اللعين ابن زياد رجلاً شامياً أن يصعد به إلى أعلى القصر ويضرب عنقه ويرمي بجسده ورأسه إلى الارض، فاصعده الشامي، فاصعده ومسلم يسبح الله ويكبره ويستغفره ويقول: اللهم احكم بيننا وبين قوم كذبونا وغرونا وخذلونا وقتلونا، ثم صلّى ركعتين وتوجه نحو المدينة وسلم على الحسين (ع)، فضرب الرجل عنقه ورمى بجسده إلى الأرض كما أمره ابن زياد، ثم أمر ابن زياد باخراج هاني بن عروة وقتله فقتل. وبعد ذلك أمر ابن زياد بسحب جثتي مسلم (ع) وهاني بن عروة من ارجلها في الأسواق، ثم صلبهما في الكناسة منكوسين وانفد الرأسين إلى يزيد بن معاوية.


والجدير بالذكر إن داعية الحسين (ع) (مسلم بن عقيل (ع)) من أولئك الرجال الذين يجب أن يخلد ذكرهم ويقتفى أثرهم، فهو صريخة هاشم، الذي استصلحه سيد الشهداء للنيابة عنه في الكوفة ثقة منه بعلمه وتقواه وبسالته وكرمه، فاقبل (ع) ناشراً لواء العدل ليكتسح الجور ويكبح جماح الضلال بيد إن نزعات الباطل حالت دون ذلك، فاستشهد دون إكمال رسالته، ولكنه خلّف من بعده هتافاً عالياً يسمع الصخر الأصم بأن الحق في دعوة سيد الشهداء وأن الباطل فيمن ناوأه، وانّ مبدأً صحيحاً كهذا يجب أن يضحّى دونه بالنفيس ويرخص في سبيله ذلك الدم الطاهر الزاكي دم مسلم بن عقيل (ع).

... نسألكم الدعاء ...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *