الجزء الخامس من ملف إغتيال الشهيد الشيخ عبد الله المدني
كرة النار المتدحرجة منذ ثلاثة عقود (5-5)
فكر المدني وحراب الشيوعيين
بينا في الحلقة الثالثة من هذا الملف كيف أن الجبهة الشعبية في البحرين تتوسل بالعنف لتحقق أهدافها، ودللنا علي ذلك بحيازتها الأسلحة التي اعترف الكاتب عبد الله مطيويع بامتلاكها وتخزينها، وهذا ما هو واضح في أدبيات ”الشعبية”، وقد وثقه المهندس عبد النبي العكري في كتابه (التنظيمات اليسارية في الجزيرة والخليج العربي الصادر عن دار الكنوز الأدبية 2003) ومع ذلك فإن الكاتب عبد الله مطيويع يؤكد في جريدة الوسط أن نضال الجبهة كان سلميا، وأنهم لم يفكروا في اغتيال المدني، بل إنهم لم يفكروا حتي في اغتيال ” الجلاد الأكبر إيان هندرسون” نفسه، وهو يقرر ذلك ويقول: ”علي رغم أن مجلة المواقف لم تتردد في الانتقادات والتهجمات علي أطراف اليسار الخليجي في تلك الفترة التاريخية الحرجة”.
ومما يجدر ذكره هنا أن الحركة اليسارية ليست فوق مستوي النقد والفكر اليساري ليس مقدساً، وأن المدني تناول هذا الفكر بالنقد والتحليل، وهذا من حق أي إنسان، ولم يتهجم علي أحد فهذا الأمر أبعد ما يكون عن فكره وسلوكه، وأن الرجل لم يكن يحمل في حياته سلاحا ولم يمارس العنف لا قولا ولا فعلا، والواضح من خلال أدبيات اليسار ومن خلال الوثائق أن اليسار نفسه هو الذي كان يتهجم علي الشيخ المدني ويحرض عليه وعلي رموز الإسلاميين، وسبب ذلك أن اليسار في البحرين لم يكن يقوي علي مجابهة الحجج التي كان يطرحها الشيخ عبد الله المدني بصفة خاصة في مجلة المواقف وفي المجلس الوطني، ولا يقدر علي تفنيد المعالجات التي يقدمها الإسلاميون بصفة عامة في البحرين والذين تكتلوا في المجلس الوطني تحت اسم: التكتل الديني، وكان من أبرز وجوههم آنذاك فضيلة الشيخ عيسي أحمد قاسم، وفضيلة الشيخ عبد الأمير منصور الجمري، وفضيلة الشيخ عباس الريس، بالإضافة إلي الشيخ المدني، وكان الإسلاميون ينطلقون في خوضهم لغمار الحياة السياسية من منطلق المبادئ الإسلامية السمحة وعبر القنوات الشرعية كالصحافة ومنابر الرأي الأخري، واضطلعت مجلة المواقف بدور إيصال الأفكار الإسلامية إلي الجمهور، لكنها فتحت أبوابها للتيارات الأخري لإتاحة الفرصة أمام الرأي والرأي الآخر من باب أن الأفكار يجب أن تناقش في النور لا في الظلام، وأن الفكر الصحيح من القوة بمكان بحيث لا تؤثر فيه الأفكار الأخري.
ورغم الإمكانيات التي كان يتمتع بها اليسار البحريني المدعوم من دول المعسكر الشرقي الشيوعي، إلا أنه عجز عن مقاومة الحجة بمثلها فكان أن لجأ إلي عدة أساليب للرد علي الشيخ المدني وعلي الإسلاميين بصفة عامة، ومن أبرزها:
منشورات الفتنة والتضليل
أولا: المنشورات السرية المضللة، وقد أعطينا شواهد علي بعضها في الحلقة الرابعة من هذا الملف ورأينا كيف أن نشرة النضال كانت تروج شائعات مفادها أن مجلة المواقف كانت عميلة للمخابرات البريطانية وأن الشيخ عبد الله المدني كان يؤيد مشروع القانون بشأن تدابير أمن الدولة، وقد أثبتنا بطلان ما ذهبوا إليه بالوثائق، هكذا كانت منشوراتهم تثير الفتنة وتخون الرموز الدينية والوطنية، وتحرض عليهم ثم لا تذيل هذه الكتابات باسم شخص يتحمل مسئولية ما يكتب في نهاية المطاف، وهي في ذلك تشبه كتابات الجدران، وكتابات الحمامات التي سودوا بها جدران دورات المياه العامة، وقد وصل الأمر ببعض هذه المنشورات إلي الاحتجاج حتي علي الإعلانات التجارية التي تضعها مجلة (المواقف) للشركات الكبري.. ومثال علي ذلك ما جاء في نشرة النضال لجبهة التحرير الوطني البحرانية العدد الخامس الصادر في نوفمبر 1976 احتجاجا علي إعلان لشركة (ألبا) منشور في مجلة المواقف؛ إذ تقرر النشرة السرية أن الإعلان ”يدعو للرثاء والضحك إلي درجة أن الكذب أصبح مبتذلا من قبل رجال الأعمال والأقلام الرخيصة التي تقتات وتعيش علي حفنة من الدنانير تمنحها هذه الشركات لتلك العناصر” .. وكانت هذه النشرات ”أنموذجا” للتخوين والتهديد والتحريض علي رموز البحرين الدينية .. هذه هي صحف الجبناء التي تكتب وتطبع في الخفاء وداخل السراديب، ثم توزع في الظلام.
وقد انفردت مجلة المواقف بنشر التفاصيل الكاملة لمحاكمة المتهمين في قضية المنشورات تلك في شهر سبتمبر من العام 1975 وكانت الجلسة علنية حيث نظرتها المحكمة الجزائية المتوسطة آنذاك .
رسائل تهديد بالقتل والسحق للمدني
ثانيا: ومن الأساليب التي انتهجوها رسائل التهديد بالقتل، وكانت هذه الرسائل من أبرز وسائل المنظمات الشيوعية في البحرين للتهديد وكبت الحريات وقمع المناوئين وإسكاتهم وإرهابهم، وإن لزم الأمر تنفيذ تلك التهديدات وتصفية المناوئين جسديا كما حدث للشيخ عبد الله المدني الذي كشفت التحقيقات بعد مقتله أن عددا من رسائل التهديد بالقتل قد وجهت إليه بالفعل رغم أنه لم يخبر عنها أحدا من الأهل ولا الأصدقاء ولا الزملاء.
وقد أخبرني المغفور له بإذن الله الشيخ سليمان المدني بمحتوي هذه الرسائل والتي وجدت بمكتب الشهيد المدني في مجلة المواقف بعد الحادث حيث تضمنت تهديدات صريحة بالقتل، وبعد وفاة الشيخ سليمان المدني تمكنت من الاطلاع علي إحدي هذه الرسائل التي كان يحتفظ بها الشيخ سليمان، وكانت مكتوبة بخط اليد ومذيلة باسم الجبهة الشعبية في البحرين وبعض المنظمات الشيوعية الأخري، وكان الخط رديئا جدا، لكنه مقروء وكانت تتضمن تهديدات بالقتل والسحق للشيخ عبد الله المدني احتجاجا علي بعض كتاباته.
قصة سفينة الأسلحة أمام فرضة المنامة
ثالثا: تكديس الأسلحة وتخزينها وحيازتها واستخدامها للاغتيالات والتخريب، وقد نشرت الصحافة المحلية خبرا عن ضبط أجهزة الأمن أسلحة ومتفجرات لدي بعض الخلايا الشيوعية في البحرين في شهر سبتمبر من العام 1975، كما نشرت خبرا عن ضبط سفينة محملة بالأسلحة في المياه الإقليمية للبحرين في ذات العام، وتم القبض علي من بها ومصادرة الأسلحة، وحجزت السفينة بعد ذلك أمام فرضة المنامة، وكانت الأسلحة مخبأة في أماكن سرية بالسفينة ”لا يمكن الوصول إليها”، وهي عبارة عن أسلحة ومفرقعات، وكشفت أجهزة الأمن بعد اعتقال من بالسفينة ومصادرة الأسلحة أن تلك الأسلحة مشفوعة بخطة مستوردة من خارج البحرين للاغتيالات وأعمال التخريب.
وجاء في تغطية مجلة المواقف الأسبوعية لهذه الحادثة: ”لم يكن صاحب السفينة التي ضبطت محملة بالأسلحة يظن أبدا أنه سيتم ضبطه في البحرين .. وأن تقف سفينته الآن وحيدة أمام فرضة المنامة .. فعندما أمر صاحب السفينة النوخذة والبحار بالتوجه إلي البحرين كان واثقا أنه لن يتم ضبط السفينة أبدا .. فقد أخفي في أماكن سرية بها كميات كبيرة من الأسلحة والمفرقعات .. كانت في طريقها إلي البحرين لتسليمها لأشخاص معينين .. ولقد توجه صاحب السفينة التي تم ضبطها بسفينة أخري يملكها إلي إحدي الدول العربية الأخري .. وكانت سفينته الأخري محملة بالأسلحة والمفرقعات. وكانت أيضا مخبأة في أماكن سرية في السفينة………. لكن أجهزة الأمن في البحرين وفي البلد العربي الآخر كانت متيقظة بعد أن تأكد لديها أن هناك اتصالا بين أعضاء المنظمة في البحرين وفي البلدان الخليجية والعربية الأخري .. وأن هناك خطة للاغتيالات وأعمال التخريب..”.
وفي نفس العام اعترف أحد عناصر الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي بأنه قام بصنع قنبلة يدوية موقوتة، وألقي بها علي قسم شرطة المحرق، لكنها لم تنفجر، وأوضح مسئولو الأمن للصحافة المحلية أن القنبلة كانت متقنة الصنع حسب خبراء المفرقعات، وقد تم إبطال مفعولها بعد ذلك. وجاء في اعترافات المتهم المنشورة في الصحافة أنه ألقي بالقنبلة علي قسم شرطة المحرق للانتقام من أحد الضباط، وكان قد أرسل إلي الضابط من قبل خطابا يصفه فيه بالخيانة ويهدده بالقتل. كما ألقي القبض علي أحد المنتمين لإحدي الجبهات الشيوعية كان يخبئ في منزله أسلحة وذخائر ومنشورات وكتب شيوعية.
اختطاف المدني تحت تهديد السلاح الناري
لقد حذر الشيخ عبد الله المدني من حيازة الأسلحة والتوسل بالعنف لتحقيق الأهداف، ودعا في أكثر من مقال وفي أكثر من مناسبة إلي اعتماد أسلوب الحوار، ولكن الشيوعيين أبوا إلا تكديس الأسلحة واستخدام العنف، وكان المدني هو نفسه ضحية الإرهاب، فقد اعترف المدانون بالقتل أنهم حازوا أسلحة نارية استخدموها في تهديد المدني ليركب معهم السيارة، مدعين في بداية الأمر بأنهم من رجال المباحث وأنه مطلوب الآن وبصورة عاجلة للأمن فسألهم مستنكرا: أفي هذه الساعة (30:11 ليلا)؟ وطلب منهم أن يرتدي غترته وعقاله علي الأقل، غير أنهم لم يمهلوه واستعجلوه للحديث بشأن أمر مهم وعاجل مع شخص يجلس في السيارة، وبمجرد اقترابه من السيارة دفعوا به إلي داخلها في المقعد الخلفي عنوة لينطلقوا بسرعة جنونية بالسيارة إلي بر سار وينفذوا جريمتهم النكراء هناك، وقد جهزوا ليلة الجريمة ”سونكي” ومسدسين أحدهما صغير والآخر كبير تم وضعهما في رقبة الشيخ المدني ووجها له الشتائم والسباب والإهانات واعتدوا عليه بالضرب، ولم يجدوا ردا علي كتاباته ومواقفه إلا تلك الأسلحة، وقد اعترف المتهم الأول محمد طاهر محمد المحاري أنه انهال علي الشيخ المدني بالسونكي إلي أن سقط قتيلا، كما اعترف قائلا: كنت في كل مرة أغرس السونكي في صدر المدني أغمض عيني إلي أن لفظ أنفاسه، وقد بلغت الطعنات حسب الطبيب الشرعي 18 طعنة، أربع طعنات منها كل واحدة منها كافية لوفاته فورا، وقد بالغ المدانون بالقتل في جريمتهم ونال المدني علي أيديهم صنوف العذاب تلك الليلة، واعترف المتهمون أن المدني عندما حضرته الوفاة عدل وضعه زاحفا نحو القبلة وتمتم بالشهادتين، هكذا سلم الروح إلي بارئها وقضي شهيدا.
مسدسان وسونكي
وبعد القبض علي الجناة وتقديمهم للمحاكمة شهد ضابط الشرطة عبدالكريم عفوني أمام المحكمة قائلا: ”أرشدنا المتهم الأول محمد طاهر محمد المحاري إلي المكان الذي أخفي فيه الأسلحة التي استعملت في ارتكاب الجريمة برفقة بعض ضباط أفراد الشرطة والمصور الجنائي، ولما وصلنا إلي بيت المتهم الأول في قرية أبوصيبع وسار أمامنا إلي داخل البيت، وهناك أشار إلي سطح الغرفة الشمالية من المنزل، فأحضرنا سلما وتسلقنا السطح، وسار أمامنا إلي أن وصلنا إلي كومة من الأخشاب القديمة وبعض الأدوات المتروكة، وأشار إلي ذلك الموقع قائلا بأنه أخفي الأسلحة تحت هذه الأخشاب فكلفناه بأن يخرجها بنفسه، وبعد أن رفع ما كان مكدسا من أخشاب وأغراض أخري مد يده وأخرج ”صرة” ملفوفة بقطعتين من القماش وبداخلها كيس من البلاستيك ظهر فيه شكل مسدسين وحربة وأشياء أخري كانت ملفوفة وموضوعة في علب وبعض الأكياس الصغيرة، وحتي تلك الأشياء كلفت المصور بالتقاط الصور لها ولكل مرحلة من مراحل الضبط، وضبطنا ”الصرة” وما فيها ورجعنا إلي إدارة التحقيقات الجنائية”.
وقد عرض الإدعاء الأسلحة المضبوطة علي الشاهد قائلا: هل هذه هي الأسلحة التي عثر عليها عند المتهم الأول؟ فأجاب الشاهد: ”هذا أحد المسدسين اللذين سلمنا إياهما المتهم الأول.. وهذه هي نفس ”الحربة” ..وهذه حمالة الحربة نفسها.. وهذا المسدس الثاني.. وهذا كيس به طلقات مختلفة.. وعلبة تحتوي علي أدوات تنظيف أسلحة ..”.
أقوي من الإرهاب .. والظلام .. والطعنات
وقد جاء في نعي أسرة تحرير مجلة المواقف لعائلة الشهيد المدني تحت عنوان: (أقوي من الإرهاب والظلام والطعنات) إن الطعنات في الظلام لا تفرض رأيا! ولا القتل يوقف قلما حرا .. ولا الدم كان سبيلا لإخماد صوت .. ولا التسلل إلي منازل الآمنين كان وسيلة حل خلاف في الفكر.. إن عبد الله المدني لم يوجه طعنات لأحد، ولم يستخدم سوي القلم لعرض وجهة نظره وتوضيح ما رآه .. وكان قلمه أقوي من الإرهاب .. والظلام .. والطعنات.. والقتل ..والدم”.
هذا هو فكر الشيخ عبد الله المدني فكر أسلامي أصيل وتلك هي أسلحتهم وتلك حرابهم التي كانت في مواجهة المدني وأفكاره، ثم نجد من يريد أن يقنع شعب البحرين بعد ثلاثة عقود من الجريمة أن نضال الشيوعيين في البحرين كان سلميا وأن معارضتهم كانت حضارية!!
بقلم: حسن المدني