الجزء الرابع من ملف إغتيال الشهيد الشيخ عبد الله المدني
كرة النار المتدحرجة منذ ثلاثة عقود (4-5)
لكن ما هي دوافع الجريمة التي أغفلتها كل الكتابات تقريبا، تلك محاولة لفهم الأسباب وراء اغتيال الشيخ عبد الله المدني الرجل المسالم الذي لم يتلفظ بلفظ ناب ولم يحمل في حياته سلاحا، بل انصب همه علي تطوير مجتمعه والدفاع عن حقوقه.. إنها ”محاولة للفهم” وقد تكون هناك أسباب أخري.
التفاف الجماهير حول المدني وإحساس اليسار بالخطر
لقد دأب اليسار في البحرين علي تضليل الناس واشتدت هجمته علي الرموز الدينية والوطنية، واستولي أنصاره علي كثير من مؤسسات المجتمع وخاصة النوادي الثقافية والرياضية، وصار له أنصار عديدون مسنودون من الاتحاد السوفيتي السابق وبعض الأنظمة العربية مثل النظام اليمني والنظام البعثي البائد في العراق، وتوهم وهو في أوج زهوه واستقوائه بتلك الأنظمة أنه يستطيع تغيير هوية البحرين العربية الإسلامية ويستطيع إسقاط رموزها، لكن الشيخ عبد الله المدني قلب المعادلة و”لخبط” أوراق اليسار حين التفت الجماهير حوله لما لمسته فيه من الصدق في القول والعمل وانتخبته للمجلسين التأسيسي والوطني (قري الريف الشمالي) وهي منطقة كان اليسار في البحرين يعتبرها معقله الأساسي وقلعته الحصينة، وإذا بهم يهزمون في عقر دارهم، ولم يكن هذا الالتفاف يروق لليسار الذي ملأ الدنيا بالشعارات الجوفاء وارتفع صياحه وضجيجه إلي درجة أنه كان يسمع من بعض الإذاعات العربية التي كانت مشغولة عن كل قضايا الأمة لتذيع نتائج انتخابات نوادي البحرين الثقافية والرياضية واصمة من لا يسير في ركابها بالرجعية والتخلف والارتزاق والعمالة والخيانة، فيما راحت تغدق علي أتباعها ألقاب الشرف والنبل و ”التقدمية” وتلقبهم بـ”القوي الوطنية” وغيرها من الألقاب المجانية، فاشتدت الهجمة علي الشيخ عبد الله المدني وأرسلوا له رسائل التهديد بالقتل معنونة بأسماء جبهاتهم وأحزابهم، وصار هدفا مباشرا لأولئك المهزومين في أنفسهم، ولم يكن الشهيد يحمل في حياته سلاحا ولم يقابل أحدا حتي خصومه العقائديين والسياسيين إلا بالكلمة الطيبة والنصيحة.
وكانت مجلة المواقف التي أسسها الشهيد في العام 1973 تحمل الفكر الإسلامي المتنور وتكافح كل أنواع الفساد بجرأة لم تشهد الصحافة في البحرين مثيلا لها طوال تاريخها حتي في أيام الانفتاح السياسي هذه.
وكانت الردود علي ما يكتب المدني ويثيره في مجلة المواقف لا تنشر في الصحافة ولا تأتي في النور، بل تصاغ في منشورات اليسار التي يكتبها في السراديب المعتمة ويبثها في الظلام، وليس لها اسم كاتب يتحمل مسئولية ما يقول، وكانت تلك المنشورات تستبيح حرمات الناس وتخونهم وتثلبهم وتحرض عليهم، ثم تتشدق بالوطنية دون حياء، هكذا كان اليسار يشحن أتباعه وكوادره ضد الشيخ عبدالله المدني ورموز التيار الديني في البحرين ليمهد الأرض لأهدافه.
”النضال” ضد الشعب ورموزه
وكشاهد علي الأكاذيب التي كان يسوقها اليسار في البحرين محاولا تضليل الجماهير ما جاء في نشرة (النضال) التي تصدرها جبهة التحرير الوطني البحرانية (العدد 3 الصادر في 1975/12/7) إذ قررت هذه النشرة أن مجلة المواقف التي يرأس تحريرها الشيخ المدني هي مجلة ناطقة باسم المخابرات البريطانية، وأن معظم أسهمها ملك للوزير …….. رجل هذه المخابرات، وقالت النشرة السرية أن ”عبد الله المدني خير بوق لها لبث ما تريد أن تبثه من سم زعاف ضد الحركة الوطنية ومن أجل الدفاع عن قوانينها الإرهابية”.
ومن أخطر ما جاء في النشرة اتهام الشيخ عبد الله المدني بالدفاع عن مرسوم القانون بشأن تدابير أمن الدولة”.(وسنبين موقفه الصريح لا حقا من هذا القانون)، ورغم أن حملات اليسار خفت نسبيا ضد الشيخ المدني وضد رموز التيار الديني الوطني بعد حادثة الاغتيال في شهر نوفمبر من العام 1976 إلا أن تلك الحملات لم تتوقف نهائيا؛ ففي تقرير لها في العام 1978 بعنوان (ملاحظات عامة حول واقع الصحافة في البحرين) واصلت النشرة بث تضليلها ففي عنوان فرعي آخر (من هم أصحاب الصحف) خونت كل رؤساء تحرير الصحف المحلية الصادرة آنذاك في البحرين واتهمتهم بالعمالة، أما مجلة المواقف مجلة المدني فحسابها يجب أن يكون مختلفا إذ أفردت لها المساحة الأكبر، وقررت نشرة النضال أن هذه المجلة لا يمكن أن تتعرض لأزمة مالية، وذلك بسبب الدعم الحكومي لها، ولأن مؤسسها عبد الله المدني هو مسئول كبير في وزارة الدولة للشئون القانونية (علما بأن المدني لم يعمل بهذه الوزارة، وإنما عمل بوزارتي الصحة والتربية والتعليم)، ويواصل تقرير النشرة أن أعضاء مجلس إدارة المواقف ………… الذي هو مسئول كبير في وزارة العمل، والوزير …. ثم تخلص النشرة إلي أن هذا هو السبب الذي يجعل مجلة المواقف لا تمر بأزمة مالية ” وتتساءل النشرة: لنتصور كيف يمكن لجريدة يشكل هؤلاء رأسمالها أن تعبر عن هموم المواطن”.
من هم جواسيس روسيا والصين في البحرين؟؟
وعندما اشتدت هجمتهم علي الإسلاميين كتب الشيخ عبد الله المدني عدة مقالات للرد عليهم وكشف إدعاءاتهم في مجلة المواقف، ومنها مقال تحت عنوان (أعداء الشعوب) في العام 1975 وجاء في المقال: ” تلك هي بضاعتهم .. وطنيون، شرفاء، أصحاب مبادئ .. كوكبة من الألفاظ والألقاب يغدقونها علي أنفسهم بدون حساب علها تزيل النقص الذي يشعرون بوجوده في كيانهم .. تلك هي بضاعتهم .. إغراق أنفسهم المريضة بكل ألفاظ الشرف والخلود والتقدمية، ونعت من لا يسير في فلكهم بالرجعية والإمبريالية والعمالة للغرب ولأمريكا. أما عمالتهم هم لروسيا، للصين، لحلف وارسو، للمعسكر الشرقي، فهي وطنية وتقدمية وثورية . تلك هي بضاعتهم .. التهديد والاغتيالات والتشنجات الصبيانية لكل من يقف في وجههم ويعريهم أمام المجتمعات. تلك هي بضاعتهم .. وضع المشانق وخنق الحريات، ومحاربة الأديان، وإشاعة الجنس . ”
لماذا جادل القتلة الشيخ المدني حول موقفه من قانون أمن الدولة؟؟
وليس صدفة أن يجادل القتلة الشيخ عبد الله المدني ليلة ارتكاب الجريمة عن موقفه من قانون أمن الدولة ويوجهون له التهمة بأنه كان خائنا ويؤيد هذا القانون ليرد عليهم بجلاء : ” لست خائنا وموقفي واضح من قانون أمن الدولة وقد أعلنته في مجلة المواقف”. فقد كان حجم التضليل كبيرا، وكانت هذه الدعايات تجد من يصدقها وخاصة في أوساط المنتمين أو المتعاطفين مع الحركات الشيوعية لاسيما من الشباب.
الخلاف العقائدي والفكري
نشأ الشيخ عبد الله المدني نشأة دينية فهو ابن عائلتي المدني والحرز العلميتين المعروفتين علي مستوي البحرين والعالم الإسلامي منذ قديم الزمان، وهو ابن منطقة جدحفص التي كانت مركزا للعلوم الدينية، وتخرج الشهيد في كلية الفقه بالنجف الأشرف، وكان يري أن من واجبه تحذير الناس وخاصة الشباب من خطر الأفكار الإلحادية، كما كان يدعوهم إلي مبادئ الإسلام وتعاليمه، الأمر الذي لم يرق لأصحاب التوجهات المادية، التي تؤمن بالعنف الثوري لتحقيق الأهداف والغاية تبرر الوسيلة عندهم. وقد أجرت جريدة القبس الكويتية مقابلة مع الشيخ سليمان المدني بعد اغتيال أخيه الشيخ عبد الله المدني وسألته عن دوافع الجريمة، فأفاد بأن الشهيد كان ينطلق من المبادئ الإسلامية في مواجهته للأفكار الإلحادية ولا يواجهها من الناحية السياسية فقط، وكان الخلاف العقائدي أهم من الخلاف السياسي ” ومن أجل ذلك فإن الشيوعيين وغيرهم من المنتمين للأحزاب المادية يحاربون المسلمين وعلماء الإسلام أكثر مما يحاربون بقية الخصوم السياسيين، وذلك لأن تأثير هؤلاء علي المجتمعات الإسلامية يختلف عن تأثير الساسة، فباستطاعة الشيوعيين أن يفسروا هجوم الآخرين عليهم بأنه لمصلحة خاصة، ولكن ليس باستطاعتهم أن يقنعوا الناس بأن المصلحة المادية هي وراء حربهم مع عبد الله المدني مثلا”.
ما هو خلاف المدني مع الجبهة الشعبية؟
ويقول الشيخ سليمان المدني في رده علي سؤال جريدة القبس الكويتية: ما هو خلاف الفقيد مع الجبهة الشعبية في البحرين : ” عبد الله ليست له خلافات شخصية لا معهم ولا مع غيرهم ولا يستطيع أي شخص في البحرين أن يقول أنه علي خلاف شخصي مع عبد الله” ويقول: ” هذا خلاف مبدئي منذ صدر الإسلام وحتي الآن بين من يدعو للإيمان بالله ومن يدعو إلي الكفر به”. وتسأل جريدة القبس الشيخ سليمان المدني : أوساط ” جبهة التحرير الوطني” – جبهة يسارية أخري – تدين حادث الاغتيال .. ما تعليقك؟ ويرد الشيخ سليمان: يدينونها لأنها حصلت . المذهب الماركسي واحد، والمنهج الماركسي منذ نشأته يقوم علي التخلص من خصومه.
القتلة يجادلون الشيخ المدني لمدة ساعتين قبل قتله
وفي مقابلة لمجلة المواقف مع وزير الداخلية آنذاك الشيخ محمد بن خليفة آل خليفة بتاريخ 22 نوفمبر ذكر بأن سبب ارتكاب الحادث هو الخلاف حول المعتقدات الفكرية لكل من المرحوم الأستاذ عبد الله المدني والمتهمين حيث إن المتهمين الثلاثة لهم معتقدات وأفكار معينة، ومما جاء في مقابلة وزير الداخلية قوله: ” عندما صحب المتهمون المرحوم الشهيد عبدالله المدني إلي هذه المنطقة النائية الخالية من المواطنين والتي يوجد بها بعض أشجار النخيل الميتة وقفوا وسط براحة بهذه المنطقة وأخذوا يناقشون المرحوم الشهيد الأستاذ عبدالله المدني حول معتقداته وفكره، كما احتجوا علي بعض الكتابات التي كتبها والتي تتضمن أفكارا معينة لا تتفق مع أفكارهم، وقد استمر هذا النقاش لمدة ساعتين وبعدها قاموا بقتله مستعملين السكاكين، وقاموا بنقل جثته إلي إحدي الأماكن المهجورة بالأحراش حتي لا يتوصل أحد إليها”.
الدوافع السياسية
وقد قرر الادعاء العام أن الباعث علي ارتكاب الجريمة كان باعثا سياسيا، لأن المجني عليه كان يكتب في مجلة المواقف التي يرأس تحريرها ضد الحركة الشيوعية والمنظمات غير المشروعة، وهذا الرأي هو نفس رأي المحققين والضباط الذين باشروا التحقيق في القضية ثم أدلوا بشهاداتهم أمام هيئة المحكمة. فقد كان المدني يرأس أول مجلة سياسية تصدر بعد الاستقلال وقد سجلت المجلة الجديدة مواقف مشهودة في حربها الشعواء علي الفساد والمفسدين، وارتفع نجم رئيس تحريرها وصارت كتاباته محط أنظار الناس، وغدت مواقفه في المجلسين محل تقدير الشارع البحريني، ولم تفلح الدعايات المضللة ضده إلا عند الشيوعيين الذين حسبوا أنهم سيفلتون من العقاب حين يصفون المدني جسديا ويسدلون الستار علي شخصيته بالاغتيال والتغييب إلي الأبد عن الحياة عموما وليس عن الحياة السياسية فقط.
لكن ما هو موقف الشيخ عبد الله المدني من قانون أمن الدولة؟؟
لقد تميزت كتبات الشيخ عبد الله المدني عموما بالجرأة في الحق، وكان لا يخشي في الله لومة لائم، واضعا نفسه مكان المسئولية، وكان من أشد المقالات جرأة وصراحة مقالته الافتتاحية الشهيرة التي كتبها في مجلة المواقف في التاسع من شهر يونيه في العام 1975 تحت عنوان ( … من أجل هذا توحدت كلمة نواب الشعب). وقد خصص الشهيد المدني هذه المقالة لبيان موقفه وموقف نواب الشعب من مرسوم القانون بشأن تدابير أمن الدولة، وقد أخذ علي الحكومة تجاهلها لنصائح وآراء أعضاء المجلس الوطني التي تمت في اجتماعات خلف الكواليس، والتي تتلخص في عدم ارتياحهم لصدور المرسوم، وأبدي استياءه الشديد من عدم استجابة المسئولين، ووصف صدور المرسوم قبل ساعات من انعقاد المجلس الوطني بأنه استعمال غير موفق للمادة (38) من الدستور التي تجيز للأمير أن يصدر المراسيم ويكون لها قوة القانون في حال غياب المجلس لمواجهة تدابير لا تحتمل التأخير.
وقد اتهم الشيخ عبد الله المدني الحكومة بـ”توريط المجلس الوطني بمرسوم يشعر المسئولون مسبقا وسلفا بأن المجلس لن يقبله”
ووصل المدني إلي القول في ذلك المقال: ” إن إقدام المسئولين علي إصدار المرسوم ما هو إلا اللعب بالنار وتوريط ممثلي الشعب مع سمو الأمير” ، وقرر الشيخ المدني ” أن المرسوم من حيث هو فقد جاء مجافيا لروح الإسلام وقواعد العدالة ومخالفا للدستور” ، وفي ذات المقال أسهب المدني في شرح مخالفات المرسوم بقانون أمن الدولة لدستور دولة البحرين مبينا بوضوح تلك المخالفات، وفي نهاية المقال الافتتاحي عبر عن رفض الاتجاه الرامي إلي التلويح باستعراض عضلات الحكومة وتعطيل أو هدم التجربة الديمقراطية…
أخطر جلسة تواجه المجلس الوطني
وقد نقلت مجلة المواقف التي يرأس تحريرها الشيخ عبد الله المدني رفض نواب الشعب قاطبة لهذا المرسوم، وكان عنوان التغطية الصحفية التي تصدرت غلاف المجلة ( أخطر جلسة تواجه المجلس الوطني). هذا هو موقف المدني من المرسوم بقانون أمن الدولة الذي حاول اليسار أن يوهم أتباعه عبر نشراته ودعاياته أن المدني يؤيد هذا المرسوم، وكان أن جعل الجناة ”تأييد المدني للمرسوم” واحدا من أسباب القتل، ولذلك شنوا عليه ”الحرب الكلامية” قبيل القتل ليشرعوا بعد ذلك في جريمتهم النكراء ..
بقلم: حسن المدني<SPAN