الجزء الأول من ملف إغتيال الشهيد الشيخ عبد الله المدني
كرة النار المتدحرجة منذ ثلاثة عقود (1-5)



الذين ولدوا في العام الذي اغتيل فيه الشيخ عبدالله المدني 1976 زاد عمرهم اليوم علي الثلاثين عاما، غير أن هؤلاء سمعوا عن الشهيد وقصته هم ومن أتي بعدهم. ورغم أن البحرين شهدت خلال العقود الثلاثة الماضية أحداثا كبيرة وعاشت تحولات سياسية خطيرة، فإن الذاكرة الشعبية لم تمح قضية الاغتيال تلك لاعتبارات عديدة، بل كبرت الأسئلة وتفرعت مع السنين ..

تلك الأسئلة التي تفجرت مع تفجر الدماء غزيرة من جروح الشهيد؛ فمن هو الشهيد الشيخ عبدالله المدني؟ وما مكانته من النواحي العلمية والاجتماعية والسياسية؟ ومن هم القتلة؟ ولماذا قتلوه مرتكبين جريمتهم النكراء تلك والتي اهتزت لها البحرين؟ ومن وراءهم؟ ولماذا المدني تحديدا؟

لقد استغل بعض المتعاطفين أو المنضمين للجهة المتهمة بالقتل الحرية الممنوحة للصحافة والانفتاح الذي قاده جلالة الملك فحاولوا الإجابة في الغالب عن سؤال واحد فقط هو: من الذي اغتال الشيخ عبد الله المدني؟ ولم يكن ذلك بصورة موضوعية ولا من أجل الحقيقة أو التاريخ، بل لإبعاد التهمة عن ساحتهم، فجاءت إجاباتهم اجترارية للرواية الحزبية التي تصور الجريمة علي أنها جريمة قتل عادية قام بها ثلاثة شبان مخمورين، ثم قامت الحكومة بعد ذلك بتسييس القضية الجريمة واستثمارها لضرب ”الحركة الوطنية”!!




واليوم نحاول فتح بعض الوريقات من ملف لايزال ينضح دما للرد والتعليق علي ما جاء مؤخرا في الصحافة المحلية، تلك وريقات من ملف اغتيال رجل قل نظيره في تاريخ البحرين .. بالغ أعداء الدين والوطن في قتله بكل ضراوة وبدائية وجاهلية ..




نحاول فتح بعض الوريقات لنقدم من خلالها إيضاحا للحقيقة ونقدا لما دار في الصحافة المحلية من حوار وجدل ونقاشات، ونتناول بالتعليق بعض النقاط في ملف به كثير من الألغاز .. والألغام .. والشجون .. والآلام .. والجروح .. والحروق. وعندما نحاول فتح هذا الملف رغم خطورته وحساسيته وكثرة القيل والقال فيه، فأرجو ألا يفهم أننا نحاول تجييش الناس أو استعطافهم ليكونوا معنا حتي علي الباطل، إننا نريد منهم أن يكونوا مع الحق، وهو أولي أن يتبع، نريد منهم أن يكونوا مع ضمائرهم وعقولهم، ولذا فإننا ندعو كل من لديه رأي أو تعليق أو تحليل أو تساؤل أو معلومات أو وثائق أو صور تتعلق بحياة الشهيد عبد الله المدني أو بقضية استشهاده أن يزودنا بها لتتكامل الصورة في حادثة هي الأولي من نوعها في تاريخ البحرين السياسي، علي أن هذه الوريقات هي تمهيد لملف في ذات القضية ننوي فتحه بصورة أوسع وأكبر في الشهور القليلة القادمة.


 


من هو الشيخ عبدالله المدني؟



هو الشيخ عبدالله بن العلامة الشيخ محمد علي بن الحاج حسن بن الحاج محمد علي المدني البحراني، المولود في العام 1939 م الموافق 1358هـ ، وكان مولده في جدحفص ببيت جده لأمه العلامة الشيخ أحمد بن عبد الرضا آل حرز ،أفقه علماء عصره.. شهدت له بذلك حواضر العلم في النجف الأشرف والبحرين وغيرهما، توفي عنه والده وهو في السابعة من عمره، وعاش مع والدته وخالته في بيت الشيخ أحمد آل حرز، و تعلم القرآن الكريم وحفظه، كما تعلم أساسيات الفقه والشريعة الإسلامية، وثابر في تحصيل العلم منذ نعومة أظفاره، كما كان يواصل دراسته النظامية بمدرسة الخميس، واشتغل فترة من حياته بوزارة الصحة (مستشفي النعيم الحكومي). وقد قال المستشار البريطاني في البحرين عن والده سماحة الشيخ محمد علي المدني في يومياته ”أنه كان رجلا عنيدا ويتميز بحدة الذكاء …” ، ويذكر أن الشيخ محمد علي المدني واستاذه ورفيق دربه السيد عدنان الموسوي قد أحبطا العديد من دسائس المستشار البريطاني في حقبة الاستعمار البغيضة.




ودرس الشيخ عبد الله المدني عند العديد من علماء عصره مثل العلامة الفقيه الشيخ باقر العصفور، والأستاذ عبد الرسول التاجر، وكان يشترك في أنشطة الأندية الثقافية والرياضية، كما اشترك في تأسيس بعض الأندية في منطقة العاصمة، وظهرت مهاراته مبكرا في الكتابة الأدبية والخطابة وفي المجالات السياسية والدينية والاجتماعية، وكان صاحب علاقات اجتماعية واسعة بطول البحرين وعرضها، وعرف عنه حبه لمساعدة الناس والوقوف معهم وخاصة الضعفاء والفقراء، الأمر الذي أكسبه شعبية واسعة انعكست علي ترشيح الناس له في الانتخابات فيما بعد حيث أحرز المركز الثالث في عدد الأصوات.




تزوج الشيخ عبدالله المدني بكريمة السيد هاشم بن السيد حسين بن السيد نور الدين آل شرف في العام 1965 وكان زواجه وزواج أخيه الشيخ سليمان المدني في ليلة واحدة، وكان زفافهما من مدرسة الشيخ داوود بن شافيز بجدحفص، وأثمر زواج الشيخ عبد الله المدني عن أربعة أولاد وثلاث بنات، كانت أكبرهم سنا عند وفاته بنت عمرها 10 سنوات، وأصغرهم سنا بنت عمرها سنتان.


 


دراسته بكلية الفقه بالنجف الأشرف



وقد التحق بكلية الفقه (التابعة لجامعة بغداد) بالنجف الأشرف وزامل هناك العديد من العلماء الذين يشار إليهم بالبنان وصادق العديدين واتصل بهم وتباحث معهم، ومنهم علي سبيل المثال الشهيد السيد محمد باقر الصدر، وحصل علي البكالوريوس في اللغة العربية والعلوم الإسلامية في العام 1971 ورجع إلي البحرين، وامتهن التدريس للغة العربية والتربية الإسلامية في مدارس البحرين الحكومية، ثم اشتغل بالمحاماة.


 


المدني أصغر أعضاء المجلس الوطني سنا



وفي العام 1973 فاز في انتخابات المجلس التأسيسي الذي صاغ دستور دولة البحرين، حيث انتخب عن منطقة الريف الشمالي (الدائرة الانتخابية الرابعة عشرة)، بعدها انتخب عن نفس الدائرة لأول مجلس وطني في تاريخ البحرين، وكان هو أصغر عضو في المجلس الوطني سنا، وصوت له الأعضاء ليكون أمين سر المجلس الوطني.


 


إصدار أول مجلة بعد استقلال البحرينالمواقف



وفي شهر سبتمر من العام 1973 أسس عبد الله المدني أول مجلة تصدر بعد استقلال دولة البحرين، وهي مجلة المواقف الأسبوعية وصار للمجلة الجديدة شأن كبير إذ نافست الصحف القديمة الموجودة قبلها كصدي الأسبوع والأضواء، وتقدمت عليهما بما تطرحه من موضوعات إصلاحية جريئة، وقضايا ثقافية واجتماعية جادة، وقد أوقفت السلطات مجلة المواقف عدة مرات بسبب جرأة بعض الموضوعات فيها، لكنها عاودت الصدور بعد ذلك.


 


اغتيال المدني قبل موعد سفره إلي الحج بسويعات



استشهد الشيخ عبدالله المدني ليلة الجمعة 18-11-1976 حيث اختطف من منزله وكان بين عياله وزوجته في الساعة 30:11 ليلاً من قبل ثلاثة مسلحين بأسلحة نارية، وكان عازما علي السفر في صباح اليوم التالي لأداء فريضة الحج، اقتاده القتلة عنوة تحت تهديد السلاح إلي منطقة بر سار، وهي منطقة غير مأهولة بالسكان آنذاك وطعنوه 18 طعنة في قلبه ورئتيه وكبده وأنحاء متفرقة من جسمه، بعد أن جادلوه حول كتاباته ومواقفه في المجلس الوطني، وموقفه من قانون أمن الدولة الذي أعلن رفضه له جملة وتفصيلا وكتب ذلك صراحة في مجلته (المواقف)، ولما أعجزهم ببيانه وحجته ابلغوه بقرار قتله وشرعوا في جريمتهم، ثم ألقوه في تلك المنطقة النائية وفروا هاربين، وقد تكشفت خيوط الجريمة التي اهتزت لها البحرين في أقل من 84 ساعة، وقبض علي الجناة وجميعهم من الملحدين المتطرفين الموتورين وهم ثلاثة متهمين، أثنان من قرية أبو صيبع، والثالث من قرية الديه، كما ألقي القبض علي ثلاثة متهمين آخرين قدموا للمحاكمة بتهمة التحريض علي القتل، وقد اعترف المتهمون الثلاثة الأول بجريمتهم تلك وصوروا كيفية ارتكابها بالتفصيل في مكان الحادث، وقد تمت محاكمتهم بصورة علنية سمح فيها للصحافة والإعلام والجمهور بحضور المحاكمة، وكان أفراد عائلة المدني يتقدمهم الشيخ سليمان المدني في مقدمة الحضور، وقد حكمت عليهم المحكمة جميعا بالإعدام رميا بالرصاص وقد نفذ الحكم، وهي أول مرة يحكم فيها بالإعدام رسميا في البحرين جراء ما اقترفوه، وقد أقروا بجريمتهم، وطلبوا قبل إعدامهم الصفح من عائلة المدني في الدنيا والآخرة، ونفذ حكم الاعدام في العام 1977 في منطقة سافرة، ودفنوا في مقبرة الحورة بالمنامة.


 


لماذا المدني دون غيره؟




لقد كان الشيخ عبد الله المدني يمثل شريحة نادرة من علماء الدين في البحرين وفي العالم الإسلامي، فقد نفض غبار السنين عن صورة عالم الدين الذي اهتم في حقبات زمنية طويلة بقضايا الزواج والطلاق والطهارة والنجاسة وحسب- رغم أهميتها وعدم استغناء الناس عنها- وانطلق ليشارك في تأسيس الجمعيات والصناديق الخيرية ويشارك بفعالية في الحياة العامة مثل تأسيس جمعية جدحفص التعاونية الإستهلاكية وعدد من النوادي الثقافية والرياضية، ويدافع عن حقوق الإنسان، ويدافع عن حقوق المرأة والطفل، وقد أسس مجلة علي أسس مهنية راقية وهي مجلة المواقف، واتخذ منها منبرا لطرح أفكاره الإسلامية المعتدلة ولمكافحة الفساد، وأصبحت مجلة المواقف صوتا للمحرومين، وقد ناقشت قضايا لم تناقش في تاريخ الصحافة في البحرين إلي اليوم رغم كل الانفتاح الموجود، واتصل عبدالله المدني بكبار العلماء والقادة مثل الرئيس جمال عبد الناصر ومحمد أنور السادات (قبل توقيع اتفاقية كامب ديفيد)، والسيد موسي الصدر مؤسس حركة أفواج المقاومة اللبنانية (أمل) في لبنان، الذي غيبته يد الغدر والعدوان، والشهيد السيد محمد باقر الصدر في العراق الذي قتل مع شقيقته علي أيدي جلاوزة النظام البعثي الصدامي، وغيرهم من العلماء والقادة والمثقفين والمفكرين، وقد أحس تيار اليسار آنذاك بالخطر رغم أن تلك الفترة هي أوج توجه الشباب نحو أفكاره، فقد كان الشهيد ينافس اليسار في استقطاب الشباب بما يطرح من أفكار تهم الشباب مثل حقوق الإنسان والحرية وحقوق العمال والفلاحين والمعـــلمين والطـــلاب وحقوق المراة وحرية الرأي وتوفير السكن، وقد أحس اليسار بالخــــطر الداهم من تحول الشباب نحو الأفكار التي يطرحـــــها خاصة أنهــم يجدون فيه الصدق من خلال جــرأته في طــــرح أفكـــاره عمليا ومناهضة الفساد في أجهزة الدولة،. فجندوا أتباعهم ووسائلهــــم للنيــــل من الشيخ عبد الله المدني، واتهموه بالرجعية ووصموه بكل ما في قاموس اليسار العربي من مصطلحات بذيئة.




هكذا كان عبدالله المدني يجمع بين الثقافتين الدينية والعصرية المتنورة، وكان محبا للناس كل الناس مخلصا في عقيدته وفي عمله وفيا لمبادئه الأمر الذي أكسبه أصدقاء كثيرين، إلا أن اتباعاً من تيارات أخري وجدت فيه خطرا كبيرا في وقت كان المد اليساري يأخذ مداه، فقد كان محكوما عليه بالإعدام في العراق من قبل حزب البعث العربي الاشتراكي العراقي الحاكم، وكانت بعض الجبهات اليسارية في البحرين والخليج تناصبه العداء وتحاول التنكيل به وتشحن أتباعها ومريديها والمنخدعين بأيديولوجيتها ضده، وترسل له رسائل التهديد بالقتل، لا لسبب إلا أنه كان يطرح فكراً مغايراً، فلم يكن أمام تلك القوي إلا التصفية الجسدية وكان ذلك!!.



بقلم: حسن عبدالله المدني  15/04/2006   


 

... نسألكم الدعاء ...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *