رداً على موضوع «من قتل الشيخ عبدالله المدني؟» لعبد الله مطيويع…
«الشعبية» هيأت الأجواء للعملية لكنها بريئة من التخطيط
مقتل الشيخ عبد الله المدني في نوفمبر/ تشرين الثاني 1976 لم يكن بالحدث العادي بالنسبة إلى الساحة البحرينية، إذ لم يكن من المألوف أن تحسم أمور الخلاف بين الأطراف السياسية والاجتماعية بمثل تلك الطريقة البشعة الرهيبة، وليس من المبالغة إن قلنا إن الحادث وقع كالصاعقة على رؤوس البحرينيين بشتى أطيافهم ومشاربهم، وعاشت البلاد جراء تلك الصدمة العنيفة حالاً من الهلع وعدم التصديق من جانب، ومن الجانب الآخر حالاً من السخط تجاه من قام بهذه الفعلة الشنيعة وبتلك الطريقة البشعة البعيدة عن الإنسانية وعما يتمتع به هذا الشعب الكريم من روح التسامح والألفة.
أعاد ما كتب في بعض الصحف المحلية اخيراً للأذهان تلك الأيام بطعمها المر ورائحتها النتنة وألوانها النشاز، فكأنَّ من كتب بشأن الموضوع قد نكأ جرحاً لمَّا يندمل وأثار آلاماً لمَّا تهدأ.
حمَّل بعض من كتب عن الموضوع صراحة الجبهة الشعبية مسئولية مقتل عبدالله المدني، وأوحى كلام هذا البعض إلى أن الجبهة الشعبية قد خططت لهذا العمل وأصدرت أمر تنفيذه وكلَّفت لذلك أولئك النفر من شباب قرى شارع البديع، وبدا الأمر من خلال ذلك القول ان تورط الجبهة الشعبية أمر مفروغ منه. ثم كتب رداً على ذلك أحد رموز الجبهة الشعبية وأحد من شملهم الاعتقال على أثر تلك الجريمة، وهو عبدالله مطيويع، كتب في صحيفة «الوسط» مقالاً بحلقتين انصرف في غالبه عن الحديث بشأن حيثيات القضية الحساسة وملابساتها إلى الحديث عنه شخصياً وعن دوره ونشاطه النقابي وظروف اعتقاله وتعذيبه وجوانب لا تمت إلى القضية بصلة، ولكنه قرر في النهاية بأن الجبهة الشعبية لا صلة لها بموضوع تلك الجريمة لا من قريب ولا من بعيد، وحاول أن يحصرها في الشباب الثلاثة: محمد طاهر وإبراهيم مرهون وعلي فلاح (وذلك بسبب خلافهم وحربهم الكلامية مع الشيخ في القرية).
فأين الحقيقة إذاً؟،
الجريمة لم يمض عليها سوى 30 عاماً، والجيل الذي عاصرها لم يزل موجوداً بأكثر عناصره إن لم يكن كله.
نذكر جميعاً أن عبدالله المدني كان رئيس تحرير مجلة «المواقف» الأسبوعية ومؤسسها، ونذكر أنه رحمه الله قد تناول في الكثير من مقالاته ببعض الحدة التيار اليساري المتمثل في الجبهة الشعبية وجبهة التحرير الوطني عبر نشرها في مجلة «المواقف»، وقد أثار ذلك حفيظة تلك التيارات، وقوبلت تلك المقالات بحال من الغضب والنقد الشديدين من قبل أعضاء وقيادات ومؤيدي الجبهتين المذكورتين، إذ كانتا تتمتعان بشعبية كبيرة في الشارع البحريني في تلك الحقبة من تاريخ البحرين السياسي، وكانت لهم السيطرة على الكثير من المؤسسات الأهلية من نواد وغيرها.
كان لردة الفعل القوية من قبل اليساريين تجاه المدني وكتاباته فعلها في خلق حال من الشحن القوي ضده والكراهية المتنامية تطورت إلى الوعيد من قبل بعض الأطراف المحسوبة على هذا التيار في السر والعلن، وذلك ما هيأ الأرضية لبعض العناصر للتفكير بضرورة القيام بعمل ما انتقاما من عبدالله المدني.
فالجبهة الشعبية إذاً ليست بريئة من جريمة القتل بشكل مطلق، ولكنها ليست متورطة بها بالشكل المباشر، إذ إنها قامت بشحن أتباعها بروح الكراهية والغضب ضد المدني، ثم إن أولئك الشباب الثلاثة الذين نفذوا الجريمة كانوا على أقل تقدير من أتباع الجبهة الشعبية إن لم يكونوا أعضاء فيها فأنا أعرف أحدهم، وهو علي فلاح، إذ كان زميلا في مدرسة جدحفص الصناعية، وقد كان معروفاً بميله الشديد للجبهة الشعبية وأفكارها، وكذلك الحال بالنسبة إلى محمد طاهر وإبراهيم مرهون بحسب ما نقل من له معرفة بهما. أما موضوع التخطيط للجريمة من قبل قيادة الجبهة أو إعطاء الأوامر لتنفيذها فذلك أمر قد عجز كل من القضاء والإدعاء العام عن إثباته، فقضت المحكمة ببراءة أحمد مكي وعبدالأمير من تهمة المشاركة أو إعطاء الأوامر، على رغم كل الأساليب التي اتبعها جهاز الأمن من أجل إثبات ذلك.
فجهاز الأمن كان المستفيد الأكبر من تلك الجريمة، إذ انها أولاً: فتحت الباب أمامه على مصراعيه لتصفية كل حساباته مع التيار اليساري، واختصرت له الطريق لضرب الحركتين في آن واحد وبكل شراسة بذريعة قيامهما بارتكاب هذه الجريمة البشعة، والشارع آنذاك لم يكن يفرق بين أن يكون هذا الخط «شعبية» أم «تحرير»، فالمهم أنه يساري (أو كما كان يسمى شيوعي) لتتم مطاردته تحت تلك الذريعة، ففر من فر واعتقل من اعتقل، حتى قيل حينها ان تلك الحادثة قد رجعت بالحركة اليسارية في البحرين عشرين سنة إلى الوراء.
فلو كان لدى جهاز الأمن أي مستمسك على تورط قيادة الجبهة بالجريمة مباشرة لأظهره أمام المحكمة، فالفرصة حينها كانت مؤاتية، وجهاز الأمن معروف باقتناص الفرص أينما سنحت.
وثانياً: استطاع جهاز الأمن أن يدق إسفيناً شبه أبدي وقطيعة واسعة بين التيار الإسلامي الشيعي والتيار اليساري، واللذين كانا في الأصل يعيشان علاقة متوترة أقرب ما تكون إلى الصراع الفكري والعقائدي تجلَّت بوضوح في الحياة والنشاطات الطلابية وفي الحياة البرلمانية والنوادي والمؤسسات المدنية، وظهر ما تبقى من آثارها مجدداً في فترة حوادث التسعينات عند بعض الأطراف.
فلي ختاما أن أسجل شهادة للتأريخ ربما تكون خاطئة بأن الجبهة الشعبية مسئولة بشكل غير مباشر عن جريمة اغتيال عبدالله المدني، وذلك بتهيئة الأرضية لذلك، ولكنها بريئة من التخطيط وإعطاء الأوامر
المصدر: جعفر العصفور –