من الذي اغتال الشيخ عبد الله المدني؟ (2 2)
فصل جديد وعهد جديد يبدأ في البحرين، وكيف رسم جهاز الأمن استراتيجيه بعد حل المجلس الوطني وتدشين رحلة قانون أمن الدولة، لكي يخرس كل الأصوات التي ستنهض بعد حين من الصدمة والدهشة والذهول الذي أصاب شعب البحرين وهو يتساءل: هل خلاف الحكومة مع المعارضة داخل المجلس الوطني هو السبب فيما أقدمت عليه؟ أم إن غنائم النفط القادمة بعد أن بدأ سعر برميل النفط في الارتفاع هو السبب الحقيقي؟ إذاً الصراع هو صراع من أجل النفط ولا تريد أية حكومة أو تسمح لأحد أن يصدع رأسها بالأسئلة والمحاسبة على مدخولات النفط وأوجه إنفاقها.
أو يحدد معاش الحاكم أو يحاسبها في عائدات النفط المذهلة، ولا مزاح مع من يقترب من النفط.
في منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني 1976 في 19 منه أو العشرين هزت البحرين حادثة رهيبة لم يتعود عليها شعب البحرين، فقد أقدم ثلاثة من الشباب من قرى شارع البديع (الديه وأبوصيبع) على استدراج المرحوم الشيخ عبد الله المدني وأجهزوا عليه في «بر سار»، وخلال 24 ساعة تم العثور على جثته (لا أحد يعرف كيف تم العثور على جثة المرحوم) وتم القبض على الجناة، وتم نشر أسمائهم وصورهم في «أخبار الخليج» و«الأضواء» ومجلة «المواقف»، وذكرت بيانات وزارة الداخلية أنها «بفضل من الله ويقظة رجال الأمن وبراعتهم تم القبض على الجناة وسيقدمون إلى المحاكمة عاجلاً ليلقوا جزاء ما اقترفت أيديهم من الإثم».
واطمأن شعب البحرين وهدأ روعه من الحال التي عاشها بعد انتشار خبر مقتل الشيخ المدني، غير أن الصحف نفسها بعد يومين أو أكثر طالعتنا في صفحاتها الأولى تقول: «إن من قتل الشيخ المدني ليس هؤلاء الثلاثة الذين ألقي القبض عليهم فقط، بل إن هناك قوى وتنظيمات سرية داخلية ولها اتصالات بالخارج هي التي تقف وراء تدبير الاغتيال وقد كشفت التحقيقات والتحريات عن ضلوع هذه التنظيمات وأنها تخطط للقيام بأعمال اغتيالات ضد الصحافيين ورجال الدين، وستقوم بالتفجيرات وزعزعة الأمن»… وبدأت حملة اعتقالات واسعة شملت جميع قرى ومدن البحرين تركزت في قرى شارع البديع وامتدت إلى المحرق والبلاد القديم.
وبدا لي أن مطبخ رئيس المخابرات آنذاك أيان هندرسون أعد طبخة جديدة ووجد في حادثة مقتل الشيخ المدني فرصة ذهبية لتصفية وتكميم أفواه من تبقى من الوطنيين الذين لم يتم اعتقالهم مباشرة بعد حل المجلس الوطني في 26 أغسطس/ آب 1975.
وتقديري أنه من خلال متابعته ومراقبته وهذا من صميم عمله وجد أن عدداً من الوطنيين وشعب البحرين سينهضون للمطالبة بعودة الدستور، فقام بالضربة الاستباقية كما يسمونها (ويبدو أنهم سبقوا الرئيس الأميركي في نظرية الضربات الاستباقية ضد الإرهابيين بحسب زعمه) وبذلك يتمكن من إخماد كل الأصوات وتكميم كل الأنفاس.
الآن نعود إلى حيث انتهت الحلقة الأولى مما نشرته صحيفة «الوسط» في تاريخ 29 يناير/ كانون الثاني 2006 في عددها رقم ،1241 نرصد سير التحقيق وما كان يطلبه المحققون.
من الغرفة التي انتظرت فيها وطلبت مقابلة المدير (المدير في مقر المخابرات هو أيان هندرسون)
فجأة سحبت إلى زنازن ومكاتب أمن الدولة وهناك قام أحدهم بتغطية عيني بقطعة قماش أو قطن ولفها بالشاش، وقد أحكم تعصيب عينيّ، وكان القيد قد شبك يدي من الخلف واتوا بحبل وربطوا رجلي وبدأوا حفلتهم التي استمرت حتى الثاني من ديسمبر/ كانون الأول ،1976 عندما استشهد محمد غلوم.
بعدها جاء أيان هندرسون إلى زنزانتي وقال: «انتهت القضية» (revo si esac eht)، وليعذرني القارئ عن سرد أنواع العذاب والتعذيب الذي حصل معي وخصوصاً عندما يتصرف رجل الأمن بطريقة بعيدة عن كل قيم أخلاقية أو إنسانية، بل سادية بشكل مطلق.
وهنا لن أسرد كل ما حصل فله مكان آخر، لكن سأقول إن المرء يصاب بالذهول والاستغراب والحيرة من حجم الوحشية التي ينزلق إليها بعض من يحسبون أنفسهم على بني البشر، أيعقل أن ينتمي هؤلاء إلى بني البشر؟ أية بطون أمهات جلبتهم إلى الدنيا، بل أية آلة جهنمية أمكنها تحويلهم إلى وحوش ضارية، وحوش على أبناء جلدتهم، وكان صوت شاعر الشباب عبد الرحمن المعاودة يجلجل في رأسي مردداً: عبيد للأجانب هم، ولكن على أبناء جلدتهم أسود
بعد أن أثخنوا جسدي، جاء من يقول لي بنبرة تقريرية آمرة أنت من تسلم مخطط اغتيال المدني، وسلمته إلى من قام بالاغتيال وعليك أن تخبرنا بالمخطط الآن، لقد أذهلني طلبه هذا… سألته أي مخطط تتكلم عنه؟… قال اخرس… يا… «كتلتوا الزلمه… ما فكرتوا في أولاده،» ويعني «قتلتوا الرجل ولم تحسبوا أو تفكروا في أولاده» كم هو رحيم وإنساني هذا الجلاد… الذي تمرس في أيلول الأسود، قبل أن يأتي إلى البحرين ويوظف خبرته المخابراتية؟
وكرر: أنت تسلمت المخطط وسلمته إلى من قتل الشيخ… الآن اكتب لنا كل ما تعرف… وجاءني بأسماء سمعتها لأول مرة في حياتي، وكررت لهم بعد كل جلسة استجواب… بعد كل حفلة تعذيب أن لا علاقة لي بما تقولون… ويريدون مني أن أكتبه على الورق كإقرار بما حصل ولم يتمكنوا من النيل مني.
وتمكن الأخ أحمد مكي بما قدمه في المحكمة للقضاة من كشف زيف ادعاءاتهم إذ برأته المحكمة، بعد المرافعة التاريخية للمحامي الكبير الأستاذ المرحوم حميد صنقور، الذي اكتشف هول وضخامة المؤامرة التي كانت تحيكها أجهزة الأمن ضد القوى السياسية وتحديداً ضد الجبهة الشعبية، تلك المنظمة السياسية التي لم تتردد في تعرية الواقع السياسي في البحرين وعموم المنطقة وقد كانت أحلامها كبيرة جداً. لكنها تعاملت مع كل منطقة بخصوصية بطبيعة العمل السياسي المناسب لكل منطقة. لنعد مرة أخرى إلى محاولة الإجابة على سؤال من الذي اغتال الشيخ عبد الله المدني؟
هل هم الشباب الثلاثة: محمد طاهر وإبراهيم مرهون وعلي فلاح؟ وذلك بسبب خلافهم وحربهم الكلامية مع الشيخ في القرية؟
أم هي القوى السياسية وتحديداً الجبهة الشعبية التي باتت منذ العام 1974 تعرف باسم الجبهة الشعبية في البحرين، إذ خرجت مثخنة بالجروح بعد اعتقالات ،1973 وبعد الاستقلال التنظيمي عن الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي، وبات على القيادات الموجودة في الخارج أن تلملم أوضاعها على الصعيد التنظيمي والسياسي… وخصوصاً بعد إن اتخذت موقف المقاطعة من انتخابات المجلس الوطني.
يقول المرحوم المحامي عبد الله يوسف الزياني وكان محامياً للمتهم الثاني، إن موكله إبراهيم مرهون قال له قبل الاستئناف لتصديق الحكم عليه، «أرجوك أرجوك أن تفعل أي شيء لكي لا يعدموني» «فلقد طلبوا مني ربط مقتل المدني بالجبهة الشعبية وبعض أسماء عناصرها وسنخفف عنك الحكم من الإعدام إلى المؤبد وفي أي فرصة سانحة أو مرحمة، أي في العيد الوطني سنفرج عنك،».
«لقد خدعوني يا عبد الله الزياني، وقد كتب المحامي الزياني في مرافعته في الاستئناف هذا الكلام، لكنهم لم يلتفتوا له، لكنه موجود في أضابير المحاكم وفي ملف الدعوى وفي ملفات مكتب المحامي عبد الله الزياني.
السؤال الثاني الذي يفرض نفسه: لماذا في الاستئناف حكموا على المتهم الثالث من المؤبد إلى الإعدام وكان أصغرهم سناً وبحسب المداولات في المحكمة لم يشترك بيده بطعن المرحوم المدني بل كان يقف بعيداً عنهم وطالبهم بالكف عن الإجهاز على المرحوم والعودة إلى القرية وتركه، سؤال لا يملك الإجابة عليه إلا من أوعز للمحكمة ألا يبقوا أي أثر لهذه القضية الجريمة، وتدفن أسرارها مع أصحابها.
يا ترى من الذي كانت له مصلحة في أن يقتل الشيخ عبد الله المدني؟
لقد أكدت المحكمة براءة المتهمين الرابع والخامس أحمد مكي وأمير منصور اللذين اعتقلا وعذبا تعذيباً بشعاً بتهمة أنهما أعضاء في الجبهة الشعبية، ومن خلالهما تم إعطاء التعليمات للقتلة…
وسعت المخابرات إلى الضغط بالتعذيب البشع وأكثر مما يمكن لمخلوق أن يتحمل على جميع المعتقلين، مثل فؤاد سيادي وشوقي العلوي وكاتب هذه السطور للاعتراف بأن كلا منهم تسلم المخطط من قيادة الخارج وأوصله إلى القتلة ليقوموا بفعلتهم النكراء… ولم تتمكن المخابرات من انتزاع هذا الاعتراف من أي من المعتقلين، لعدم وجود أساس لهذا الاتهام.
وإذا كان ابرز من واجه التعذيب هم الشهيد محمد غلوم وشوقي العلوي وفؤاد سيادي وكاتب هذه السطور، بالإضافة إلى أحمد مكي، فقد كنت في البحرين قبل ذلك بسنتين، إذ هربت بعد انتفاضة 1972 وعدت أيام المجلس الوطني ،1974 بعد أن أنجزت مهمة نقل القضية العالمية إلى المحافل الدولية والعربية، وتمكنا من الحصول على العضوية المراقبة في الاتحادات النقابية العربية والدولية باسم اللجنة التأسيسية لاتحاد عمال البحرين، ولاحقاً العاملة، ما ترك ثارات كبيرة لدى جهاز الأمن على هذا العنصر الذي عرفه في انتفاضة مارس/ آذار ،1965 ولاحقاً في كل التحركات العمالية منذ العام 1968م في شركة طيران الخليج الإضراب الشهير في 1 مايو/ أيار 1970 حتى 9 مايو ،1970 واللجنة التأسيسية لاتحاد عمال البحرين في انتفاضة العام 1972م.
أما فؤاد سيادي فقد كان لتوه قد طرد من سورية اثر الموقف المبدئي الذي اتخذته الجبهة الشعبية في البحرين من رفضها للتدخل السوري العسكري إلى جانب الكتائب ضد الحركة الوطنية اللبنانية، ما جعل الأمن السوري يطرد عدداً كبيراً من عناصرها ومن بينهم الأخ فؤاد سيادي، وكان في طريقه إلى الهند لاستكمال دراسته، إذ قرر زيارة أهله قبل الالتحاق بالجامعات الهندية ليجد نفسه في قبضة الأمن والتعذيب والاعتقال لمدة خمس سنوات… بالتهمة ذاتها…
وكانت الجبهة الشعبية تبت وضعها التنظيمي الموحد على صعيد عُمان والخليج، وبات كل طرف يرتب أوضاعه الخاصة، ولم يكن في وارد أحد من قيادات الجبهة الذين نعرفهم، يفكر في أي شيء سوى فضح قانون أمن الدولة وسياسات الحكومة في تلك الفترة، ولم يفكروا يوماً من الأيام في أن يقوموا بعمل ضد رموز الحكومة الأمنية بمن فيهم هند رسون، فهل يعقل أن تقوم مثل هذه التنظيمات الوطنية بافتعال معركة مع تيار شعبي مع العلم بان جميع التيارات الوطنية والإسلامية قد وقفت بجلاء ضد مرسوم بقانون أمن الدولة، ما اعتبرته الحكومة أكبر هزيمة تاريخية لها بعد أن قضت على هيئة الاتحاد الوطني في الخمسينات، وبالتالي كان من الضروري تحويل جريمة بشعة ارتكبها نفر من الأشخاص إلى جريمة سياسية وبعد إعلان النظام نفسه في الأيام الأولى في الصحف أنها جريمة مدنية قام بها 3 من الشبان من المنطقة نفسها بحكم إن من أقدم على تلك الجريمة هم من منطقة قرى شارع البديع التي شهدت صراعاً سياسياً ومجتمعياً بين التيارات السياسية من اتجاهات مختلفة ومتضادة في ذاك المحيط.
وإذا كانت الحكومة وأجهزة أمنها فشلت في إلصاق التهمة (الجريمة) بالحركة اليسارية، في تلك الفترة، فإن من الغريب أن تتم إعادة نبش تلك الجريمة، ليقال إن الجبهة الشعبية تتحمل مسئوليتها ولا ندري حقيقة الدوافع الكامنة وراء نبش هذا الملف.
ولعل الجواب عن سؤال: من اغتال الشيخ عبد الله المدني؟ يمكن الحصول عليه في ملفات أمن الدولة بالتفصيل، فمن محاسن الإنجليز الوحيدة أنهم يحتفظون ويدونون كل تفاصيل الأعمال التي يشرفون عليها أو يطلب منهم تنفيذها، ولعل أبلغ ما يمكن أن ننهي به هذه السطور التي اجتهدت في الإجابة على السؤال من الذي اغتال الشيخ عبد الله المدني، سطور شاعر البحرين الأكبر طرفة بن العبد:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً | ويأتيك بالأخبار من لم تزود |
المصدر: عبد الله مطيويع – صحيفة الوسط – العدد 1247- السبت 5 محرم 1426هـ – 4 فبراير 2006