بسم الله الرحمن الرحيم


  الحلقة الأولى


أولا: مقدمة في موضوع الانحراف:
بعيداً عن
المعاني اللغوية لكلمة الانحراف واشتقاقاتها، فالقدر المتيقن منها هو: الميل، والعدول عن الشيء، ويكفي فيها أنها حينما تطلق مجردة: إن المتبادر منها عرفا هو الزيغ والضلال عما هو صحيح وسوي، إلى ما هو سقيم وخاطئ، سواء في العقائد أو العبادات أو المفاهيم.
وقد يطلق الانحراف ويراد منه العدول عن جادة الخطأ، إلى جادة الصواب، وهو قليل الاستعمال، بل يعبر عنه عادة بالإستبصار والاستنارة.
والانحراف قديم جدا منذ هبوط ( أبو البشر ) آدم ( ع )، كيف لا وقد تمت في عهده أول جريمة وانحراف، وبعدها تتالت بقية الانحرافات على جميع المستويات، بدأ من الانحراف في الألوهية وانتهاء إلى الممارسة العملية، وما اصطفاء الأنبياء والرسل وبعثهم من قبل الله تعالى إلا لتقويم ذلك الانحراف، والجعل من الإنسان خليفة في الأرض، وكم لاقى الأدلآء إلى الله تعالى من الصعاب في سبيل بسط دعواتهم الإصلاحية ما تكفلت ببيانه السور القرآنية، والسيرة، من صنوف المحاربة والصد والتقتيل والتشريد.. إلى أن ينتصر الداعية في نهاية الخط، أو يموت على المبدأ، تاركا لمن من يكمل مسيرة التقويم وإصلاح الخلل.

  فكانت جذوة الانحراف بين الخفوت حينا، والاشتعال حينا آخر، مما يؤكد أن هناك مرحلتان للانحراف.
المرحلة الأولى: مرحلة الضمور، وتكمن في شخص مغامر، قد استهوته نفسه، وهو يتحين الفرصة لإبراز انحرافه في شكل بدعة، أو ما شابه ذلك.

المرحلة الثانية: مرحلة الظهور، وهي إبراز الفكرة إلى حيز التنفيذ في أجواء ممهدة، حينما تخلو الساحة من الفكر أو حينما يعم الخواء المعنوي المعرفي في الأمة، جراء تكاسل القيمين، في الأخذ بيدها إلى واحة الإيمان، وبعث الحس الديني على الدوام في أرواح وعقول الأتباع.


فما هي أسباب الانحراف، وما هي دواعيه؟.
بحسب الاستقراء يمكن تلخيص الأسباب والدواعي إلى:
أولاً: عبادة الذات، وهو ناشٍ من الخلل في التربية الدينية الصالحة، سواء من المنحرف نفسه، أو من المربي ذاته.

يقول الله عز اسمه في محكم كتابه العزيز: ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه).

وفي الحديث عن مولانا أمير المؤمنين ( ع ): من اتبع هواه أعماه وأصمه، وأذله وأضله(1).

 وهو سبب رئيس، بل هو أساس البلاء للمنحرف والأمة، ومنه تتفرع بقية أغصان شجرة الأسباب الأخرى.
وقد أولى الشارع المقدس أهمية كبرى في خطاباته للإنسان بتزكية النفس، وتطهيرها فقال سبحانه (قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها)، وكذلك ما ورد في ألسنة كثير من الروايات، نحو قول مولى المتقين ( ع ): جهاد النفس مهر الجنة.
فالعابد لذاته يسوغ لها قتل الأنبياء، وقذف المحصنات، في سبيل إرضاءها، فكيف لا يطيع هذا الرب، وهو يحسن له الفكرة ويزركشها، إن بالصبغة الشرعية، وإن بالأباطيل الشيطانية.

إنه في سبيل أن يصل لمأربه لا بد وأن يلغي من قاموس حياته خوف الله، والوعد والوعيد، وكل ما يحجزه عن ارتكاب انحرافه، ويتخذ ربا يقره على كل ما يفعل، بل يبارك له العمل.

إن هذا النحو من العبادة هو بداية الهاوية للمنحرف، وكلما أوغل في عبادة الذات _ الرب المخترع _ كلما ازداد بعده عن الحق والصواب، إلى أن يصل به المطاف إلى مرحلة اللارجوع، ولا تنجع حينئذ معه نداءات الفطرة، والنواميس الإلهية، في ردعه عن تلك العبادة، بل انه يعتبرها حجرا عثرة في طريق مأربه، ينبغي إزالته، وهو ما يفعله العابد للذات بالفعل عندما يدوس على القدر المتبقي من أوليات فطرية، أو نداءات دينية.

وربما أدى الطقوس الدينية وحافظ عليها، لكنه في الحقيقة يعدها من الروتينيات، أو ربما وصل من خلالها _ وهو الغالب _ إلى قلوب الآخرين دجلا وتدليسا.

لقد عجزت مدارس علم النفس الحديث في تشخيص حالة عابد الذات المرضية، وما سببته من ويلات على البشرية، على أيدي أناس كانوا في البداية خاملي الذكر، ثم وصلوا لمحل صنع القرار، والأمر بإلقاء القنبلة النووية مثلا.
 


1- غرر الحكم للآمدي
لم يدرسوا كيف أن أمثال هذا الإنسان، كان طوال مدة خموله يعبد ذاته، ولا يبالي في إبادة شعب بأكمله لمجرد انحراف طوى من أجل تنفيذه سنين عديدة، إلى أن تمكن في النهاية من تحقيقه.
بينما القرآن الكريم يتساءل في صيغة استنكارية تعجبية: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه؟!، ومثل له بمنحرفين من أمثال فرعون، وهامان، وقارون.
كيف جر أولئك النفر على أقوامهم الويل والثبور، جراء عبادتهم لذواتهم، وحاربوا بالنتيجة التوحيد المتمثل في عبادة الفرد الصمد الله سبحانه وتعالى، ووقفوا في وجه نبيه موسى ( ع)، ومارسوا أبشع صور الانحراف، لأنهم تصوروا أنه ( ع ) يريد سحب البساط من تحت أرجلهم، بدعوته لعبادة الله تبارك وتعالى.
وإلى الآن لم تستطع تلكم المدارس أن تشخص الحالة المرضية المبحوث عنها _ عبادة الذات _، وتضع الحلول دون الحؤول في استفحالها في المريض بشكل صحيح ودقيق. والسبب يكمن في طبيعة فكر تلك المدارس، فالمعالج _ بالكسر _ يحتاج إلى علاج أصلا.

        إذاً تحصل لدينا: إن مبدأ الانحراف هو: عبادة الذات، في المفهوم الشرعي الأخلاقي، أو حب الذات أو الأنانية بحسب التحليل النفسي.
مناشئ حب الذات وعلاجه في كلام أمير المؤمنين ( ع ).
          لم أجد أروع ما قيل من كلام في هذا الشأن، غير كلام ملك الكلام صلوات الله وسلامه عليه، كما أورده الشيخ الآمدي نضر الله وجهه في غرر الحكم ودرر الكلم، تحت عنوان الهوى.

الهوى عدو العقل.

الهوى آفة الألباب.

الهوى شريك العمى.

الهوى داء دفين.

غلبة الهوى تفسد الدين والعقل.

مخالفة الهوى شفاء العقل.

من حق العاقل أن يقهر هواه قبل ضده.

قاتل هواك بعلمك، وغضبك بحلمك.

من خالف هواه أطاع العلم.
من نظر بعين هواه افتتن وجار، وعن نهج السبيل زاغ وحار.


وقد يقول قائل: وما ربط موضوع الهوى بعبادة الذات؟.
فنقول: وهل أصل عبادة الذات إلا الهوى، الذي هو بمثابة الحائط الأسمنتي، أو الحجر على ينبوع القلب، من معرفة أقرب المقربين لدى الإنسان، وهي نفسه التي بين
جنبيه.

وبالتأمل الدقيق في ما اخترته لك من الحكم يتبين مدى العلاقة بين الهوى وعبادة الذات التي هي بداية الانحراف بشتى أنواعه، والتي من أخطرها الانحرافات العقائدية، لما تتمتع به من قداسة واحترام، والتي إذا تزلزلت قناعات المؤمنين بها، استطاع المنحرف أن يسيطر على العقول وغيبها بانحرافه، وبالتالي يمرر فكرته، وما يرجوه من منافع ومكاسب مادية ومعنوية.

وهذا ما سوف نعرض له لاحقاً إنشاء الله تعالى تحت عنوان الانحراف العقائدي


 ثانيا: ضعف المقدمات الإيمانية.
ونعني بها الحس الديني المكنون في عقل وروح الإنسان المسلم، بحسب ما دعت إليه رسالة السماء من ضرورة تقوية الرابط المعنوي بين المخلوق والخالق، في شكل أوامر ونواهي، حاضرة ومتمثلة على الدوام سير وسلوك العبد، إلى الله تعالى ما دام في دار التكليف، فكلما امتثل زاد قربه من الله تعالى، وكلما خالف ازداد بعدا عنه.
وأن ما يظهر من الانتكاسات أو الانتصارات للإنسان المسلم على الصعيدين المادي والمعنوي، فإن مرجعه في الحقيقة إلى قوة أو ضعف المقدمات الإيمانية لديه.
 
أما الإنسان الكافر فلا يجري الكلام حوله، إذ لا يصح أن يوصف بذي مقدمات إيمانية قوية أو ضعيفة، وإنما يصدق عليه السالبة بانتفاء الموضوع كما حرر في علم المنطق.


فما هي تلك المقدمات الإيمانية؟.
في مقام الجواب نقول: بأنه لا يمكن حصرها في عدد معين، وإنما يمكننا أن نختار أهمها وهو ما تكفلت ببيانه الآيات والروايات.


( التقوى )
يحتل موضوع التقوى مكانة رفيعة في الكتاب العزيز، وكذلك في السنة المطهرة، لما له من أهمية كبيرة، يهدف الشارع المقدس من خلالها إلى تركيز هذا المفهوم في أرواح أتباعه، ليكونوا
على اتصال دائم بالعون الإلهي، فلا يفكروا بالانحراف ابتداء فضلا عن ارتكابه. كيف لا وأحد معانيها هو الخوف من الله تعالى في السر والعلن.


 (الورع)
      وهو توأم التقوى، فلا تكاد تذكر إلا ويقرن بها في الروايات عن أهل بيت العصمة والطهارة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين قال أبو عبد الله الصادق ( ع ): “وأوصيك بتقوى الله والورع والاجتهاد، واعلم أنه لا ينفع اجتهاد لا ورع فيه “وسئل ( ع ) عن الورِع فقال” الذي يتورع عن محارم الله عز وجل”.
ولو قيل في تعريفه: بأنه الاحتراز من مواقعة الخطيئة، أو التدبر في آثارها قبل الإقدام لكان حسنا.
ولكم ركز أدلاء الله إلى خلقه على هذين الركنين المعنويين في شخصية الإنسان، لعلمهم بالنوازع البشرية، والجنوح للاستعلاء وتبعاته من حب الدنيا، وسفك الدماء لأجل الإخلاد إلى الأرض، فأراد بهما التركيز على حسم مادة الفساد والانحراف من جذورهما، وأن يصبحا ملكة راسخة تلازم الإنسان، في قبال التفكير في نزعة الشر والتعالي على السنن الإلهية.

      نعم كان هناك أشخاص تلبسوا بعباءة التقوى والورع ظاهرا، ولم يعرف الناس منهم إلا الهداية والصلاح، ولكن الحقيقة خلاف ذلك، لم تكن التقوى ولا الورع إلا مطية للأطماع والمآرب، واستطاعوا بهما أن ينفذوا إلى القلوب المسكينة، وتسخيرها لانحرافهم، ولذلك وبمجرد أن وصلوا إلى مأمولهم طلقوا التقوى والورع، وعقدوا مع الانحراف والفساد عقدا لازما، وحدث النقل والانتقال.
سيطروا على عقول السذج من البسطاء بشبههم وألاعيبهم، وصدقهم ضعفة الإيمان وباعوهم أخرتهم بإتباعهم لهم، والتاريخ حافل بأمثال هؤلاء المتلبسين برداء التقوى والورع من أمثال الشلمغاني والمغيرة بن سعيد. وإلا بماذا تفسر انحرافهم المتأخر رتبة عن تقواهم وورعهم، بالرغم من وجودهم مع المعصوم (ع)؟.
أليس منشأ ذلك هو ضعف المقدمات الإيمانية لدى أولئك، ومن المستحيل أن تكون المقدمات قوية وثابتة ويحصل الانحراف.

لماذا لم يحصل من أمثال زرارة بن أعين، ومحمد بن مسلم وأضرابهم؟. ذلك لأن مقدماتهم الإيمانية قوية وراسخة، ولم تغرهم تلبيسات إبليس ومنى النفس.


ثالثا: الوسط الاجتماعي
 وهذا السبب لا يكاد ينكره إلا كل من خالف وجدانه، والوقائع اليومية، وهو سبب مطرد تقريبا، سواء في الصلاح أو الطلاح، والذي يهمنا في المقام هو في الثاني، وكم سبب هذا السبب من ويلات على أصحابه ومجتمعاتهم واضحة للعيان.

وربما كانوا في بداية أمرهم من الصلحاء، ويملكون قدرا معتدا به من المقدمات الإيمانية، لكنها لم تستطع مقاومة العقل الجمعي لمادة الانحراف، وإن ظهر في البين شعاع هداية أو تناقض في الفكرة، تصد المنحرف عن المواصلة لنهاية المطاف.

ناهيك عن عملية الإسقاط وأثرها وتأثيرها على الوسط الاجتماعي المنحرف، وتخيل الصوابية، نتيجة للمصادرة، وتحريف الثابت والضروري من الدين، أو التنظير لطروحات اجتماعية جديدة مستوردة، للقفز بها على الموجود المتوارث.

كل ذلك من أجل الظفر والفوز بالمقام الاجتماعي، وتحقيق المكاسب الدنيوية الآنية.

ولنا في قصة السامري وعجله خير شاهد على المدعى. فكيف استطاع هذا السامري المنحرف أن يخدع أغلب أمة بني إسرائيل بعجل له خوار، لو لم يجد في وسطه الاجتماعي آذانا صاغية منحرفة مثله عن الصراط ؟!.

إنه بالتأكيد قد عرض فكرته على منحرفين من أمثاله، لهم القابلية والاستعداد للانحراف عن الخط السماوي، قد شجعوه على إبراز فكرته الضالة، ولأنهم يشتركون معه في الهدف وهو: الانتفاض على موسى( ع )، لأنهم يرون فيه المسمار الذي دقه الله تعالى في نعش آمالهم وأمانيهم، من استمرار الحالة الفرعونية المتسلطة على البلاد والعباد.

وبعد فإذا كان هناك سبب واحد للانحراف كاف في الهلاك والإهلاك، فكيف إذا اجتمعت معه بقية الأسباب؟!.


والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.

... نسألكم الدعاء ...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *