نبي الله أيوب عليه السلام
حديث أملاك
كان هذا حديث ملائكة في ملئهم الأعلى:
– لله هذا العبدُ الصَّالحُ، أيوبُ..
لقد أنعمَ الله عليه بالأموال الكثيرة، من قطعان إبل، وخيلٍ، وشياهٍ، وأُتُنٍ، تسرحُ في الفلاة ترعى، فتغطّ]،/ لكثرتها، الفلاة..
وتموج باعدادها الوهاد والهضابُ..
وعبيدٌ كثيرون يقومون برعايتها، والعناية بها.. وخدمٌ عديدون، يروحون، ويجيئون!..
ومع ذلك، فلم تُبطر النّعمةُ أيوب، ولم يبخل بما آتاه الله..
فبابه مفتوحٌ للرائح ولاغادين ويده مبسوطةٌ تعطي بلاكدرٍ (أي: منٍّ) ولاحسابٍ!.. لم يطرقه سائل إلاّ أغناه،.. ولم يقصده محتاجٌ إلاّ كفاه!..
شعاره: مال الله لعبيد الله.. وما جعلني الله على هذا المال إلاّ قيّما، لامالكاً له، ولاخازناً!.. إنّه أمانة عندي أؤديها إلى خلقه.. وليس لي في ذلك كلِّه حولٌ ولاطول، بل، بحولِ الله وقوّته، يتمُّ ذلك، ويكون!..
فتبارك الله: ماأطيبَ نفسَه، وأجملَ خُلُقَه، وأسمحَ يده!..
ويُردِفُ ملاكٌ آخرُ:
– وكان من تمام النّعمة عليه، أن رزقه الله أ,لاداً.. فكانوا سبع بناتٍ، ومثلهم من البنين!. فهم له قُرّةُ عينٍ، وعونٌ على المعروف يسديه، والإحسان يؤدّيه..
يراهم، بين يديه، كراماً بررةً، فيحمد الله ويشكرهُ على ماحباه من ولد صالحٍ!.. ويخاف عليهم الزّيغ، والعُجب، والتّكبُّر.. فيدهوهم إلى مراقبة الله في كل خطوةٍ، ومقالٍ، ويذكّرهم بأنّ عين الله ترى، وبأنه يعلم السرَّ وأخفى!.. ويطيبُ بهم خاطراً، وقد انتهجوا سبيل الهدى والرّشاد.. فيسجد لله شاكراً له وافرَ النّعماء، والحُسنى!..
ويتابع ملاك ثالث:
– وكان أن زاده الله من فضله، بأن رزقه صحّةً وفتُوَّةً.. فشبابه يتفجّرُ بالعزم والعافية..
وشكرَ الله أيوبُ، بأن اتّخذ من شبابه وسيلةً لمرضاة الله، وسبيلاً لطاعته، صارفاً ماعمر الله جسده من طاقةٍ، في سبيل الخير والإحسان،.. وإعانة الضعيف، وإغاثة المحتاج، آخذاً بيد هذا، مسدّداً خطو ذاك، فلم يعرف الكبرُ إلى نفسه سبيلاً، ولم تأخذه العزّة بما حباهُ الله من قوّةٍ. فقوّته من الله، وإليه..
ويتّفقون فيما بينهم:
ليس على وجه الأرض، عبدٌ، كأيوبَ، صالحٌ..
إنه نعمُ العبد،.. إنه أوّاب!..
وكان إبليسُ -يحيط به بعضُ أتباعهِ وجنده- قريباً من السّماء، يسترقُ السَّمع، فيسمع تحادث الأملاك، فيعجب من أيوب غاية العجب، ويقول في نفسه:
– يظهرُ أن زينة الدنيا، وبهرجها، وزُخرفها، لم تطغ أيوب، ولم تستطع إغواءه، فهلاَّ ابتلاه الله؟..
فمِمّا لاشكّ فيه أنّ زوال النِّعمة عن الإنسان، داعيةٌ للكفران بعد الإيمان!..
ابتلاء أيوب في ماله
ويرفعُ إبليس رأسه هاتفاً:
– إي ربَّ!.. لقد أعطيت أيّوبَ مالاً لاتغيبُ عنه الشّمسُ.. فلو قضى عمره في سجدةٍ واحدةٍ لك، لم يوفّك حقّك في ماحبوته إياه..
فهلاّ ابتليته في ماله؟.. وأصبته في ثروته؟.. إذاً، وحقّك، لتغيّر، وفترت عبادتُه، وقلّت طاعتُه، وانقطع إحسانُه..
ويأتيه الجوابُ من علِ:
– عبدي أيوب لم تُبطرهُ النّعمةُ حتى يجزع من النّقمة،..
فاصنع، وجندَك، مابدا لك في أمواله،.. قد أبَحنا لك ذلك، وسترى، بعد ذلك، صدق عبادة عبدي الصَّالح أيوب!..
وينطلق إبليس وجندُه إلى مال أيوب، وقد انتشر في البراري والفلوات إبلاً، وخيلاً، وشياهاً، وأتُناً، حتى غطّى وجه الأرض،.. وينقضُّون عليها، فإذا هي مجندلةٌ، على وجه الأرض، صرعى!.
وارتاع الرُّعاة لما رأوا..
وأخذهم العجبُ من هذا الوباء الوبيل الذي فتك بالقُطعان هذا الفتك الذّريع!..
وانطلقوا إلى سيّدهم أيوب، مهرولين، صائحين.. وأخبروه بمآل أمواله..
فأجابهم- وقد افترَّ ثغرُه عن ابتسامةٍ-: لاعليكم!.. مالُ الله، يفعلُ الله به مايشاء!..
وقعد أيوبُ في بيته، وكأنَّ شيئاً لم يكن!..
فلم تَفُتَّ في عزمه المصيبةُ، وقد تحوّل بين عشيّة وضُحاها من ثريٍّ كبيرٍ إلى مسكينٍ فقيرٍ،..
بل حمد الله على ماأصابه، كما كان يحمدُه على ما أعطاه!..
وظهر إبليسُ لأيوب، في هيئة شيخٍ حكيم، قد عجمت عودة الأيام (كناية عن تجاربه الكثيرة) وحنّكته التّحاريب.. فسلّم على أيُّوب بوفارٍ، وقال له:
– مافعل الله بك ياعبد الله؟..
فأجابه:- إنه الله الفعّالُ لما يريدُ!.
– أرأيت لو كان الله أثابك على ما دأبت عليه من الصّلاة وأعمال البرّ لما أصابك في مالك ما أصابك!.
– صه!.. أيها الشيخُ.. إنما تنطق بلسان الشَّيطان..
وخرَّ إبليس إليه، وهو كذلك، فقال في نفسه:
– واحسرتاه، سجدَ فرَشد، وأبيتُ فغويتُ!..
ثم تولّى على عقبيه، ندمان، حسران، خزيان!..
وهكذا لم يهن أيوبُ أمام مصيبته في ماله، بل تماسك، وتجلّد، صابراً محتسباً، ولم يفتُر لسانه عن تسبيح الله، وشكره على آلائه (أي: نعمة)، أبداً..
ابتلاء أيوب في أولاده وخدمه
واتّجه إبليسُ بنظره إلى السّماء، هاتفاً من جديد:
– إي ربِّ!.. لقد أصبتَ أيوبَ في ماله، فما انفكَّ عن ذكرك وما انقطع عن شكرك، وما ذلك، إلاّ لأن بين يديه أولاداً كثُراً، من بنين وبناتٍ، يفعلون بأمره، ويقومون بما يريد.. بالإضافة إلى خدم كثيرين، طوع إشارته.. فهم عُدّته إذا اشتدَّ الزمان، وعضّته المصيبة.. فهلاً ابتليته في من حوله من خدمٍ وأولاد؟.
ويأتيه النداء من فجاج الغيب:
– أنا الله السميع البصير، الخبيرُ بعبدي الصّالحِ أيوب، الذي لايعرفُ الجزعُ إلى قلبه سبيلاً..
فأجلب على من عنده من أولادٍ وخدمٍ، بخيلك ورجلك، باستثناء زوجه “ليا”.. واصنع ما بدا لك!..
وهبَّ إبليس، وبعضُ جنده من المردةِ العُتاة، والشياطين العصاة، يتربصون بأبناء أيوب، وخدمه، الدّوائر..
وماهي إلاّ سويعات، حتى أخذ أولادُ أيوب، والخدمُ، يتوافدون إلى القصر، للاجتماع فيه، وتمضيه جزء من النّهار، وتناول طعام الغداء، معاً..
وانتظر إبليسُ، ومن معه، حتى تكامل عقد المتوافدين، وتمَّ عددهم،..
وبينما هم كذلك..
وإذ بإبليس وجنده ينقضُّون على أسس القطر، وركائز أعمدته، فيزلزلونها زلزالاً شديداً،.. وماهي إلاّ لحظات، حتى تهاوى القصر على من فيه وتحوّل إلى ركامٍ وأنقاضٍ!..
وعلت الصّرخةُ..
وسُحبت الجثثُ من تحت الأنقاض أشلاءً، أشلاء..
وأتى الصّارخُ أيوب -وكان عنهم بعيداً-:
-:هلُمَّ ياأيوبُ.. لقد تداعى القصرُ على أبنائك وخدمك المجتمعين فيه.. فهم جميعاً، صرعى!..
عظَّم الله أجرك فيهم، جميعاً!..
ولم يصرخ أيوب.. ولم يجزع، ولكنه أطرق إلى الأرض قليلاً، وقد سالت على خدَّيه دمعة حرّى، أخذ يكفكفها بطرف كمِّهن وهو يقول:
إنّا لله، وإنّا إليه راجعون!.
وصرخت زوجَه ليا بنت يعقوب النبي، وولولت، وانتحبت.. فدعاها أيوبُ إلى التَّصبُّر،.. فما لبنات أنبياء نبي إسرائيل، والجزع؟..
وعاد أيوبُ إلى منزله، بعد ساعةٍ،.. بعد أن شيَّع أولاده وخدمه جميعاً إلى مثواهم الأخير.. وهو مايزال يذكرُ الله ذكراً كثيراً..
ولم يبق له من الدّنيا إلاّ هذه المرأةُ الصالحةُ، التي طفح وجهُها بالحزن والأسى..
وأتاه إبليس في زي شيخ وقورٍ، معزِّياً،… فالكلُّ إلى زوالٍ!..
والتفت الشيخ إلى إيوب، وكأنه يتساءل، موسوساً:
– تُرى، …أما كان لصلاتك، وشدة تعبُّدك لله، أن يدفعا عنك هذا المُصابَ الجلل، والرُّزء الفادح؟..
أعانك الله على ماأنت فيه من الأمور العظام، والخطوب الجسام!.. ثم،.. أإلى هذا الحدِّ يتخلَّى الله عند عبده المؤمن الذي لايفتُرُ عن ذكره، في قيامٍ وفي قعودٍ، وفي جيئةٍ وفي ذهاب!..
ورمقهُ أيوب بنظرةٍ شزْرٍ، كملتهب الشّرر:
– إليك عني أيها الشيخ.. هلاَّ ذكرت الله في قولِك؟
وهل كان مالي إلاّ وديعةً استودعنيها الله؟
وهل كان أولادي إلاّ عاريةً (أي: وديعة) مستردَّة؟
فمن حقِّ الله المعطي، أن يستردَّ ماشاء متى شاء!..
ويخرُّ أيوبُ ساجداً لله، وهو يتمتم: -ربِّ.. لك الحمدُ والشكرُ، في الضرّاء، كما في السرّاء!..
فتولى عنه إبليس مغيظاً، محنقاً، وهو يكاد يتميَّزُ غيظاً!..
وأخذ إبليس يقلِّب كفيهِ..
فمن أين يأتي أيوب؟..
ابتلاء أيوب في بدنِه
وانتبه إلى صحة أيوب وما لهُ من نشاطٍ جمٍّ..
فأيوب ممتلئ الجسم صحةً وعافيةً.. له جسمُ الرِّجال الرِّجال، وعزمُهم الشديد!..
فتوجَّه إلى السماء قائلاً: – إي ربِّ.. لقد سلبتَ أيوبَ أمواله كلّها، فما لانت له قناةٌ، ولاوهنت له عزيمةٌ.. وحرمته أولاده وخدمه أجمعين، فما كان ذلك ليؤثر عليه من قريبٍ أو من بعيدٍ..
وإني أراه معتمداً على قوَّته، معتداً بفتوته.. فهو فارع الطُّولٍ، متينُه، عريضُ المنكبين، شديدُهما؛ مفتولُ السّاعدين، قويُّهما..
فهلاّ ابتليته في جسده وصحته، وأصبتَه في قوته وهمَّتِه؟..
ويأتيه الجوابُ من علٍ: إنَّ عبدي أيوبَ نِعم العبدُ الصَّابرُ على مايصيبُه..
لقد سلطتك على جسده، وأبحتك بدنه، فأجمع له ما استطعت من أمرك، وكد لهُ ماشئت من كيدك، فما أمرُك إلاّ في ثباتٍ!..
ويكرُّ إبليس وجندُه، على أيوب الفرد، الصِّفرِ اليدين، ويأتونه من كل جانبٍ، وينفخون في جسده من خبيثِ أنفاسِهم، فيقعُ عليلاً، منهوك القوى.. وتنتشر في بدنه العِللُ والأمراض، فيمتلئ قروحاً وجروحاً ملتهبات!.
ويبقى على هذا الحال سنين.. وتُبرِّحُ به الأوجاعُ والآلام، والعِللُ والأسقامُ.. ولا من طبيب، ولامن دواءٍ؟.. وهكذا أصبح بدنهُ مرتعاً لكلِّ علَّةٍ، ومسرحاً لكلِّ داءٍ خبيثٍ!..
ويعودُه بعضُ النَّاس..
– ماتشكو ياأيوب؟.
– إلى الله أبثُّ شكواي ونجواي، وهو وحدّه الخبيرُ بما أنا فيه..
وسرعانَ ماينفض عنه الناس، ويتحامونه.. فريحُهُ كريهٌ، لايُحتمّل،.. ومنظرُ جسده يبعث على الغثيانِ!..
ويودِّعونه، ويودعون زوجَهُ ليا بنت النبي يعقوب، التي كانت تتعهَّدُهُ، بعطفٍ وحنانٍ، وتقومُ على خدمتِه خيرَ قيامٍ!..
وأخيراً انقطع عنه الناسُ، وتحاشَوا لقاءه، وتجنَّبوا عيادته.. إذ قد امتدّت به المحنةُ، وأصابهُ الجهدُ، وأوغل في عروقه ومفاصله الدّاءُ العُضالُ..