خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وآله
العالم قبل النبي محمد صلى الله وعليه وآله
بعث الله موسى(ع) نبياً مرسلاً، يهدي الناس إلى عبادة الله الواحد الأحد، ويأمرهم بالعدل، لينقذهم من ظلم الفراعنة والطواغيت، فجاءهم بالتوراة، فيها مالهم وما عليهم.
وبعد انتقال موسى(ع) إلى جوار ربه، راح أحبار اليهود يحرفون الكلم عن مواضعه، ويستغلون الدين لأطماعهم الشخصية، ضاربين عرض الحائط بتعاليم موسى(ع) خصوصاً مابشر به من نبي يأتي من بعده اسمه عيسى.
ولما بعث الله عيسى(ع) لتهذيب الأخلاق وتطهير النفوس، وزرع المحبة بين أبناء البشر، في ظلال عقيدة التوحيد، وليبشر بنبي يأتي بعده إسمه أحمد، دخل جماعة من اليهود في الدين الجديد، وراحوا يعملون على تحريفه واستغلاله، تماماً كما فعلوا بدين موسى(ع)، حتى أصبح تحت تأثير رجال الكنيسة غير المؤمنين، سيفاً مصلتاً على رقاب الناس، خصوصاً المثقفين.
وهكذا، عاشت البشرية انحطاطاً مخيفاً، في شتى شؤونها الحياتية، وساد الظلم والفساد، وعاد الناس إلى الشرك وعبادة الأصنام، وباتوا يؤمنون بالخرافات والأساطير، وكأني بهم يهربون من واقعهم الأليم.
وكان شأن سكان الجزيرة العربية. شأن معظم الناس في ذلك العصر، فسيطر عليهم، ماسيطر على الناس، وسادتهم روح القبلية والنزاع، وعمهم الظلم والفساد والتردي، وباتوا على شفا جرفٍ هارٍ.
الوليد المبارك
بعد ضياع وفساد استمرا ردحاً من الزمن، وفي العام الذي سمي بعام الفيل، ولد محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، في قبيلة قريش في العام سبعين وخمسمئة للميلاد. وكان ذلك الحدث العظيم بعد شهر تقريباً من حادثة أصحاب الفيل، المشهورة.
كان عبد الله بن عبد المطلب، والد محمد، يعمل في التجارة إلى الشام، فوافته المنية أثناء عودته من إحدى رحلاته، وكانت زوجته آمنة بنت وهب، من بني عدي بن النجار، حاملاً، فلم يقدر للوليد الجديد أن يرى أباه.
ولما كان من عادة العرب في مكة أن يسترضعوا لأولادهم نساء أهل البادية، طلباً للفروسية والفصاحة، فقد عرض محمد على مرضعة من قبيلة بني سعد بن بكر اسمها حليمة، فتبرمت به، لكونه يتيماً، ويشاء الله ان ترضعه حليمة، إذ يشير عليها زوجها أن تأخذ الطفل، عسى أن يكون لهما في إرضاعه خير.. وفعلاً، فقد حلّت بركة الوليد المصطفى، في الحي الذي تسكنه حليمة، وعمّ الخير في ربوعه. ويوماً بعد يوم، كانت تظهر عظمة الطفل المبارك، حتى أن حليمة وزوجها كانا يودان أن يبقى محمد عندهما، حتى بعد مابلغ سن الفطام.
ولما بلغ محمد الخامسة من عمره، أعيد إلى حضن أمه آمنة، لترعاه أحسن ماتكون الرعاية. فتأخذه معها إلى أخواله بني النجار في يثرب، حتى وافتها المنية وهي في طريق عودتها، ودفنت في الأبواء بين مكة والمدينة، ومحمد لايزال في السادسة من عمره، فعادت به أم أيمن جارية آمنة إلى جده عبد المطلب.
كفل عبد المطلب محمداً، ووفر له العطف والحنان والعناية اللازمة، لما كان يتوسم فيه من الشأن العظيم، ولكنه توفي ومحمد لايزال في الثامنة من عمره، فتولّى أبو طالب عمّ محمد رعايته، وأحاطه بعناية لم يحظ بها أحد من أبنائه، حتى أنّه كان يصحبه معه في تجارته إلى الشام.
وزاد تعلق أبي طالب بمحمد، بعد أن قال له الراهب بحيرا، وكان عالماً بالتوراة والانجيل، وقد راى محمداً، قال له: إن ابن أخيك هذا نبي هذه الأمة، فاحذر عليه من اليهود.
بلغ محمد مبلغ الشباب، فكان مثالاً لكل الصفات الأخلاقية النبيلة، فوجدت فيه قريش، وكذلك أهل مكة، سيداً من ساداتهم، ومرجعاً لهم في الملمات، وكانت له اليد الطولى في عقد حلف الفضول، لمناصرة المظلومين ومحاربة العدوان من أي مصدر كان.
علامات النبوة
سمعت خديجة بنت خويلد، وهي من أشراف قريش، سمعت بما يتمتع به محمد بن عبد الله، من الصدق والأمانة والأخلاق العالية، فأعجبت به، وودّت لو يبادلها محمد هذا الشعور، فدعته إلى الذهاب في تجارتها إلى الشام. لقاء أجر يعادل ضعفي ماكانت تعطيه للآخرين، فقبل محمد واتّجر لها، فنجحت الرحلة نجاحاً باهراً، وانتهى الأمر بعدها بزواج محمد من خديجة.
ورغم أن خديجة بنت خويلد كانت على أبواب الأربعين من عمرها، فيما كان محمد في ريعان الشباب، فإن زواجهما حقّق أروح تلاحم عاطفي أساسه الحب والاحترام المتبادل، وأثمر عدداً من الأولاد، ذكوراً وإناثاً، إذ ولد لهما القاسم، وبه كان محمد يكنى، ثم إبراهيم، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وعبد الله وفاطمة. ولكن مشيئة الله سبحانه قضت أن لايبقى منهم على قيد الحياة سوى فاطمة.
بعد أن تزوج محمد تركزت شخصيته الاجتماعية، وتعززت وتجلّت يوم اختلاف القبائل في وضع الحجر الأسود، بعد إعادة بناء الكعبة المشرفة، إثر السيل الجارف والحريق اللذين تعرضت لهما.. فما أن طلع عليهم محمد حتى قالوا: هذا الأمين رضينا به حكماً بيننا.. وقصوا عليه ماهم فيه من الخلاف، فما كان منه إلا أن وضع الحجر في ثوب، ثم أمرهم أن تأخذ كل قبيلة منهم بطرف، ليرفعوا الحجر ويضعوه في مكانه فيكون الجميع مشتركين في وضعه.
وبدأت علامات النبوة تظهر على محمد. فها هو ينقطع في غار حراء، شهراً كاملاً، من كل عام، يقضيه في التأمل والتفكر، بعيداً عن الصراعات القبلية والفساد. ولما بلغ الأربعين من العمر، أنزل الله سبحانه جبرائيل(ع) ليتلو على محمد(ص) أول بيان من الرسالة الخاتمة: {إقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الانسان من علق. إقرأ وربك الأكرم. الذي علّم بالقلم. علّم الانسان مالم يعلم}.
كان لهذا البيان العظيم أثره في قلب حبيب الله وفيه نفسه، وهو الذي لم يتعلّم القراءة ولا الكتابة، فعاد إلى بيته، وتدثر في فراشه، فأنزل الله عليه البيان الثاني: {ياأيها المدثّر قم فأنذر وربك فكبّر وثيابك فطهر والرجز فاهجر}.
وهكذا كان الأمر الالهي للنبي محمد (ص) واضحاً بحمل الرسالة، والقيام بأعباء الدعوة إلى الله.
النبي يدعو وقريش تراوغ
عرض رسول الله محمد(ص) دعوته على زوجه خديجة (رض) وعلى ابن عمه علي بن أبي طالب، فآمنا بها، وتابع النبي دعوته، فآمن معه أربعون شخصاً، أغلبهم من الشباب. فاتخذ النبي(ص) دار الأرقم المخزومي، مركزاً يعلّم فيه المؤمنين القرآن.
وبعد ثلاث سنوات أمر الله سبحانه حبيبه محمداً (ص) بأن {أنذر عشيرتك الأقربين} فدعا النبي عشيرته إلى طعام، وما أن أراد محمد (ص) أن يحدثهم، وكانوا قد علموا بأمره، حتى قاطعه عمه أبو لهب، وحذره من الإستمرار في دعوته.
وانفضّ الاجتماع، قبل أن يتم محمد كلامه، فعاد الأمر الالهي: {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين} فأعاد (ص) الكرة ثانية فدعا عشيرته وأولم لهم، وماكادوا يفرغون من الطعام، حتى بادرهم عليه الصلاة والسلام بقوله: “يابني عبد المطلب، إن الله قد بعثني إلى الخلق كافة، وبعثني إليكم خاصة… وأنا أدعوكم الى كلمتين خفيفتين على اللسان، ثقيلتين في الميزان، تملكون بهما العرب والعجم، وتنقاد لكم بهما الأمم، وتدخلون بهما الجنة، وتنجون من النار: شهادة أن لا إله إلاّ الله، وأني رسول الله… أرأيتم إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم، أما كنتم تصدقونني؟ قالوا: بلى. قال(ص): فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد… أنقذوا أنفسكم من النار”.
وقاطعة أبو لهب ثانية، وقال له: تباً لك، ألهذا دعوتنا! فأنزل الله سبحانه على حبيبه: {تبّت يدا أبي لهبٍ وتب. ماأغنى عنه ماله وما كسب. سيصلى ناراً ذات لهب. وامرأته حمالة الحطب. في جيدها حبل من مسد}.
دخل جماعة من قريش في الاسلام، واخذت الدعوة المحمدية تشق طريقها في المجتمع، وراح أنصارها يزدادون يوماً بعد يوم، فاعتبر زعماء قريش أنّ ذلك خطر يتهدد مصالحهم الذاتية وزعاماتهم، وجاهروا بعدائهم للنبي وللإسلام، وسلكوا سبيل الحطّ من شأن الرسول وتكذيب دعوته، وراحوا يهزؤون به قائلين: {لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً، أو تكون لك جنة من نخيل وأعناب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا، أو تأتي بالله والملائكة قبيلا، أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء}.
ولم يكن هذا الأسلوب اللئيم في المحاربة، ليثني النبي العظيم عن تبليغ رسالة ربه، وواصل دعوته بإصرار غير مكترث بسخرية زعماء قريش، فعمدوا، كما يعمد أعداء الله اليوم، إلى التضليل الاعلامي، وترويج الاشاعات الكاذبة، ضد النبي وأتباعه، فمرة يصفونه بالكذاب، وأخرى بالشاعر، وثالثة بالساحر، حتى بلغت إشاعاتهم الحبشة وسواها، وهم يهدفون إلى عزل جبيب الله عن المجتمع، وإبعاد القاعدة الشعبية عنه وعن الدين الجديد.
ولم تنفع كل تلك الإشاعات والإفتراءات وأساليب التضليل، وظلَّ الناس يتهافتون على النبي(ص) تهافت الفراش على النور، فلجأ زعماء قريش إلى أسلوب الإغراء والمساومة، فأرسلوا عتبة بن ربيعة ليقول للنبي(ص): يابن أخي، إن كنت تريد بما جئت به مالاً، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد بما جئت به شرفاً، سودناك علينا، حتى لاينقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد ملكاً ملّكناك علينا.
وجاء الردّ من النبي(ص) فقال: “أفرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم. فقال(ص): فاسمع مني: {حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لايسمعون، وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه، وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل فاننا عاملون}.
وتابع النبي(ص) حتى بلغ موضع السجدة فسجد، وعتبة يسمع ويرى، ثم قال عليه الصلاة والسلام: قد سمعت يا أبا الوليد ماسمعت، فأنت وذاك”.
عاد عتبة مرتبكاً، فرآه أصحابه فقالوا: لقد عاد أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فقال لهم: “إني قد سمعت وقولاً، والله ماسمعت مثله قط… والله ماهو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة”. وراح عتبة يدعوهم إلى التخلي عن مواجهة النبي، وتركه وشأنه، فقالوا له: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه.
ثم إنّ زعماء قريش أرسلوا إلى النبي(ص) وفداً منهم، ليعرضوا عليه المغريات فما كان قوله إلا أن قال: “ماجئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل عليَّ كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليَّ أصبر لأمر الله، حتى يحكم الله بيني وبينكم”.
قريش تؤذي النبي وأصحابه
لم تؤثر إغراءات زعماء قريش في النبي محمد(ص) وتابع دعوته وتهزئ أوثانهم، فلجأوا إلى أسلوب الضغط والحصار… فجاؤوا إلى عمه أبي طالب وقالوا له: والله لانصبر على تسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفّه عنّا، أو ننازله وإياك حتى يهلك أحد الفريقين.
وفاتح أبو طالب ابن أخيه بالأمر فقال النبي(ص): “ياعمّ، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري. على أن أترك هذا الأمر، ماتركته حتى يظهره الله أو أهلك فيه”.
رأى زعماء قريش صلابة موقف النبي واستعداده للتضحية، حتى بحياته في سبيل الله، فرجموا بيته بالحجارة، ووضعوا الشوك في طريقه، وألقوا التراب على رأسه، وسلطوا صبيانهم ومجانينهم عليه، يلاحقونه، كما عمدوا إلى إيذاء أصحابه(رض) وملاحقتهم، فألقوا القبض على بلال الحبشي، مؤذن النبي، وألقوه على ظهره عارياً فوق رمال الصحراء الحامية، ووضعوا حجراً ثقيلاً على بطنه قائلين له: لاتزال كذلك حتى تموت، أو تكفر بمحمد وتعبد اللاّت والعزّى.
كذلك القوا القبض على ياسر وزوجته وانبهما عمار، وراحوا يعذبونه حتى يردوهم عن دينهم، دون جدوى.
واحتمل النبي(ص) كل ذلك بالصبر، واحتسبه عند الله، وكان صلوات الله عليه يقول: “ماأوذي نبي مثل ماأوذيت” ويأمر أصحابه بالصبر والثبات، حتى يأتي الله بأمره ويقول لهم: “قد كان من قبلكم لتمشط بأمشاط الحديد مادون عظامه من لحم وعصب، ما يصرفه ذلك عن دينه… وليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب ما يخاف إلا الله عزوجل”.
الهجرة إلى الحبشة ثانية
ولما زادت مضايقات قريش للنبي وأتباعه، رأى النبي(ص) أن يأذن لبعض أتباعه بالهجرة إلى الحبشة، فهاجر أحد عشر رجلاً وأربع نسوة، وظلوا هناك ثلاثة أشهر، عادوا بعدها إلى مكة، ولكن المشركين كانوا لهم بالمرصاد، فعاودوا ملاحقتهم وآذوهم أشد الإيذاء، فأمرهم بالهجرة مجدداً إلى الحبشة، وكانوا هذه المرة ثمانين رجلاً يتقدمهم جعفر بن أبي طالب، وثماني عشرة امرأة تتقدمهن أسماء زوج جعفر، فلما وصلوا إلى الحبشة، استقبلهم ملكها النجاشي النصراني وأحسن معاملتهم.
وحاول القرشيون استرجاع المهاجرين، إمعاناً في التضييق عليهم فأرسلوا إلى النجاشي مبعوثين هما عمرو بن العاص، وعمارة بن الوليد، وحمّلوهما الهدايا، فاستدعى النجاشي المهاجرين فجاؤوا وجاء معهم جعفر بن أبي طالب، فقال للنجاشي: أيها الملك، كنا أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسئ الجوار… فبعث الله فينا رسولاً منّا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا لتوحيد الله… وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام وصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الأرحام وحسن الجوار.. فصدقناه وآمنا به، فعدا علينا قومنا، ليردونا إلى عبادة الأصنام، واستحلال الخبائث.. فلما قهرونا وظلمونا، خرجنا إلى بلادك… ورجونا ألاّ نظلم عندك.
فلما سمع النجاشي قول جعفر هذا، التفت إلى عمرو وعمارة وقال لهما: هذا والذي جاء به عيسى ابن مريم يخرج من مشكاة واحدة..
وشعر عمرو وعمارة بالخيبة والهزيمة، فحاولا إثارة فتنة طائفية بين المسلمين والنجاشي، فقالا: إنّ هؤلاء يزعمون أن عيسى ابن مريم عبد لإلههم.. فسأل النجاشي المسلمين عن هذا الأمر، فأجابه جعفر بن أبي طالب: “مانقول فيه إلا الذي جاء به نبينا، من أنه عبد الله ورسوله، وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول”. فما كان من النجاشي إلا أن طرد عمراً وعمارة وأبقى المسلمين في بلاده.
حصار المشركين للنبي وبني هاشم
حين فشلت قريش في التضييق على أتباع حبيب الله محمد(ص) من المسلمين، وبعد طرد النجاشي لمبعوثيها عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد، صبّت حقدها على المسلمين في مكة، واتخذ كبار المشركين، فيما بينهم قراراً يقضي بمقاطعة بني هاشم، ومحاصرتهم في شعب أبي طالب، وكتبوا بذلك صحيفة علقوها في الكعبة، ونصّت على عدم مبايعة بني هاشم أو الزواج منهم أو تزويجهم، وطالبوهم بتسليم النبي محمد(ص) يساندهم في ذلك عمه أبو لهب.
ورفض أبو طالب عم النبي وحاميه أن يسلّم لهم ابن أخيه، وأمر بحراسته، فبقي بنو هاشم وحبيب الله محمد معهم في الضيق والعذاب ثلاثة أعوام، شاء الله تعالى أن يمتحنهم بها، حيث أرسل بعدها أرضة أكلت الصحيفة ولم تبق منها غير عبارة: باسمك اللهم.
وأوحى الله سبحانه إلى حبيبه محمد (ص) ينبئه بالأمر، فأخبر النبي عمه أبا طالب، فأخبر أبو طالب قريشاً بأمر الصحيفة، فدبّ النزاع بينهم، ولم ينته إلا بفك الحصار عن بني هاشم.
النبي (ص) في الطائف
توفي أبو طالب (رض) وبعده بأيام توفيت خديجة زوجة الرسول ففقد حبيب الله بفقدهما سندين قويين لرسالته، فسمى ذلك العام عام الحزن، واغتنم المشركون الفرصة فزادوا من إيذائهم للنبي، فذهب النبي ومعه زيد بن حارثة إلى الطائف، لعله يجد فيها مجالاً لنشر الدين الجديد.
وفي الطائف التقى رسول الله(ص) بالزعماء وأصحاب النفوذ فلم يجد منهم إلا كما وجد من زعماء قريش، بل اكثر، فقد سبّوا حبيب الله، وشتموه، وسلطوا عليه الصبيان يرشقونه بالحجارة، حتى أدموا رجليه وشجّوا رأسه الشريف، وكان (ص) يقول: “إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي”.
ورجع النبي(ص) إلى مكة، وراح يلتقي وفود القبائل التي كانت تأتي للحج، ويعرض عليهم الإسلام، ويتلو عليهم من القرآن الكريم، فيسلم بعضهم ويعودون إلى يثرب يدعون إقاربهم وأصحابهم إلى الإسلام، حتى انتشر الدين الجديد في قومهم، فجاؤوا في العام التالي وبايعوا النبي في العقبة.
وأسرى الله بحبيبه محمد(ص) ليلاً من المسجد الحرام في مكة إلى المسجد الأقصا في القدس الشريف، وعاد النبي صباحاً يحدث بما رآه أثناء رحلة الإسراء، واجتمع المشركون عليه يسألونه أن يصف لهم المسجد الأقصا، فيصفه لهم وصفاً دقيقاً. ثم إنه أخبرهم عن قافلة سوف تصل إليهم عند طلوع شمس اليوم التالي.
وتحقق ما أنبأ به الرسول الكريم، ولكن المشركين جحدوا وأصروا على مضايقاتهم للمسلمين، فأمر رسول الله(ص) أصحابه بالهجرة إلى يثرب التي عرفت فيما بعد بمدينة الرسول.
الهجرة إلى يثرب
عرف المشركون بهجرة أصحاب النبي(ص) إلى يثرب، فتآمروا ليقتلوا النبي(ص) ليلاً، وأنبأ الله حبيبه بما يبيّته المشركون، فأمر(ص) الإمام علي بن أبي طالب(ع) بالمبيت في فراشه، لإيهام المشركين بأن النبي باقٍ في مكة، ثم إنه صلوات الله وسلامه عليه خرج ليلاً يرافقه أبو بكر، قاصدين يثرب، وفي الطريق لجأ إلى غارٍ أمر الله سبحانه العنكبوت أن تنسج خيوها على بابه وأرسل حمامة باضت على تلك الخيوط، حتى بدا الغار وكأنه مهجور منذ زمن بعيد.
وعند الصباح، وبعد ما أفشل الله خطة المشركين لقتل حبيبه محمد، وعلموا بخروجه من مكة، لاحقوه إلى خارجها، ولكنهم لم يعثروا له على أثر، حتى وقفوا على باب الغار متحيرين لايعرفون في أي جهة يبحثون، والنبي(ص) وأبو بكر في الغار، وقد تسرب الخوف والحزن إلى قلب أبي بكر، فقال له النبي(ص): {لاتحزن إن الله معنا}.
ووصل رسول الله(ص) إلى قبا بالقرب من يثرب، وانتظر قدوم علي بن أبي طالب مع بعض النسوة، وفيهن الزهراء بضعة الرسول(ص)، ودخل الجميع المدينة (يثرب) وهناك بني النبي مسجده المبارك، وخصّص أمكنة لسكن أصحابه، وآخى بينهم وبين الأنصار، وأشاع مفهوم الأخوة في الله بقوله(ص): “إنَّ الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وفخرها بالآباء… أنتم بنو آدم وآدم من تراب”.
واتخذ النبي(ص) ابن عمه علي بن أبي طالب أخاً له قائلاً: “أنت أخي في الدنيا والآخرة” وراح (ص) يمارس في المسجد العبادة والاجتماع وإدارة شؤون الأمة والفصل في الخصومات، ووضع الخطط العسكرية، والتعليم وغيرها من الأمور.
معارك النبي وغزواته
معركة بدر
كان اليهود يعيشون في المدينة فهادنهم النبي(ص) حتى يتفرع لبناء دولة الاسلام، ونشر الدين الجديد، وفي السنة الثانية للهجرة المباركة، وبعد أن وطّد رسول الله(ص) أركان الدولة، سعى لمحاربة المشركين، فالتقاهم عند بئر بدر حيث دارت بينه وبينهم معركة بدر الكبرى التي استغاث خلالها المسلمون بربهم، فأغاثهم كما حكى ذلك القرآن الكريم: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين}.
وخسر المشركون أيما خسارة، ومرّغ المسلمون أنف قريش بوحل الهزيمة.
معركة أُحد
شعر اليهود والمنافقون بأن المسلمين ازدادوا قوة بعد انتصارهم في بدر، فأخذوا يتحرشون بهم في المدينة، وقد خافوا على سلطانهم وزعاماتهم. ولما ازدادت تحرشاتهم، حذرهم النبي(ص) فاستكبروا، مما اضطر الرسول الكريم لمحاربتهم وإخراجهم من المدينة.
أما قريش فلم تتعظ من معركة بدر، فأخذت تعد العدة لمعركة جديدة، فأمر النبي(ص) أصحابه بالخروج إليهم، ودارت بينهم وبين المسلمين معركة في جبل أُحد بالقرب من المدينة، أدّت إلى هزيمة المسلمين وإضعافهم، وتشجيع الأعداء عليهم، وأفسح في المجال لليهود، لحبك مؤامراتهم ودسائسهم.
فقد خرج زعماء اليهود إلى مكة، وحرضوا المشركين على قتال المسلمين، وراحوا يقولون للمشركين: “دينكم خير من دين محمد، وأنتم أولى بالحق” فأنزل الله فيهم: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت، ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا}.
معركة الأحزاب (الخندق) وصلح الحديبية
واصل اليهود تأليب قبائل العرب على النبي والمسلمين فأقنعوا بني فزارة، وأشجع، ومرة، وبني سعد، وبني أسد وغيرهم، بمحاربة النبي وأصحابه، فاجتمع عشرة آلاف منهم تحت راية أبي سفيان…
علم النبي(ص) بالأمر، فتشاور مع أصحابه، فأشار سلمان الفارسي قائلاً: “إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا” فاستصوب النبي رأي سلمان وبادر مع أصحابه إلى حفر خندق على عجل، حتى أنجزوه في ستة أيام، وعسكروا على مقربة منه، وعسكرت الأحزاب من المشركين واليهود في الجهة المقابلة، دون أن يجرؤوا على اقتحامه.
وطال الحصار، فبدأ السأم والملل يتسربان إلى نفوس المشركين، وأرادوا العودة إلى مكة، فعرف اليهود بذلك، فتوجه زعيمهم حيي بن أخطب إلى يهود بني قريظة في المدينة، وأقنعهم بأن ينقضوا ما كانوا عاهدوا النبي عليه، ويدخلوا الحرب ضده مع المشركين.
عرف الرسول(ص) بالأمر فأرسل وفداً من المسلمين ليتأكد منه، ولكن اليهود أساؤوا الأدب مع الوفد، وراحوا يشتمون النبي ودينه،… واستبدّ الفزع بالمسلمين: {وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر} وبدأ هجوم الأحزاب، فعبر عمرو بن عبد ود العامري الخندق مع نفر من المشركين، فتصدى له علي بن أبي طالب(ع) وأرداه قتيلاً، وبعد مقتل عمرو تطور سير المعركة، وامتنع اليهود عن مساعدة المشركين خوفاً وهلعاً، فاستولى الرعب على المشركين وولوا الأدبار هاربين.
إنتصر المسلمون، ولم تعد قريش تفكر بمهاجمتهم، وظلَّ اليهود يتحينون الفرص للغدر وطعن المسلمين من الخلف، فما كان من النبي إلا أن حاصر بني قريظة، وقضى عليهم بعد حصار دام خمسة عشر يوماً، ثم إنه (ص) عقد مع قريش صلح الحديبية لمدة عشر سنوات، ليتفرد بيهود خيبر الذين كانوا يعدون العدة للإنقضاض على المسلمين وهكذا تمّ للنبي (ص) ما أراد من القضاء على اليهود، وضمان حرية المسلمين في الحج إلى بيت الله في مكة.
فتح مكة
إستتبّ الأمر لرسول الله(ص) فبدأ بمكاتبة ملوك الدول المجاورة، فكتب إلى قيصر ملك الروم، وكسرى ملك فارس، وزعيم الأقباط بمصر وإلى النجاشي ملك الحبشة، والحارث الغساني ملك دمشق وإلى ملك صنعاء، وملك عُمان وملك البحرين، وغيرهم، فمنهم مَن استجاب لدعوة الله ورسوله إلى الإسلام كالنجاشي ملك الحبشة، وملك البحرين وملك اليمن، ومنهم من رفضها علواً واستكباراً، كملك الروم وملك الفرس وملك دمشق.
وبعد انتشار الاسلام بين العرب وغيرهم، اعتدت قبيلة محالفة لقريش على قبيلة محالفة للنبي(ص) فقرّر النبي مقاتلة القرشيين فاستولت المخاوف عليهم، وأرسلوا أبا سفيان لتدارك الأمر، وتقوية العهد مع المسلمين، فلم تفلح جهود أبي سفيان، وعاد يجرجر أذيال الخيبة والخسران.
وأرسلت قريش عم النبي(ص) العباس بن عبد المطلب، ليستطلع الأمر، وكان العباس (رض) يبطن الاسلام ويتظاهر بالكفر، فعاد إليهم قائلاً لهم: هذا محمد قد جاءكم بما لاقبل لكم به، فقال أبو سفيان: فما ترى؟ قال: تطلبون الأمان من محمد.
قدم أبو سفيان ثانية ومعه العباس على النبي(ص) يطلبان الأمان لقريش، فعرض عليهما الإقرار بأن: لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فلم يكن أمام أبي سفيان إلا الإقرار.
وأعلن رسول الله(ص) أماناً عاماً لأهل مكة: “مَن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن”، ثم إنه (ص) دخل مكة ووقف على باب الكعبة قائلاً: “لا إله إلا الله وحدة لاشريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده… يامعشر قريش، ماذا تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً… أخٌ كريم وابن أخٍ كريم! فقال(ص): أقول كما قال أخي يوسف: {لاتثريب عليكم اليوم يغفر لكم وهو أرحم الراحمين} إذهبوا فأنتم الطلقاء.
وهكذا فتح رسول الله (ص) مكة، وبادر إلى تكسير الأصنام وهو يتلو قوله تعالى: {جاء الحق وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقا}.
معركة حنين
بلغت أصداء نصر المسلمين في مكة قبيلة هوازن، وعلموا أن النبي(ص) سيتوجه لفتح الطائف، فنظّم زعيمهم جيشاً كبيراً لصدّ المسلمين واتخذوا مواقع لهم على قمم جبال حنين، وعند مضيق الوادي، وفاجأوا النبي وجيشه بالنبال، فاستولى الرعب على قلوب الكثيرين من المسلمين ففروا راجعين، ولم يبقَ مع النبي إلا عليّ بن أبي طالب(ع)، والعباس بن عبد المطلب، وأسامة بن زيد، وأيمن بن عبيد، ونفر من بني هاشم.
وتحول النبي وأصحابه إلى الهجوم، وقاتلوا ببسالة نادرة، وثقةٍ بنصر الله لاتتزعزع، فانهزم بنو هوازن، ودخل النبي ومن بقي معه الطائف، حيث أعلن زعيم هوازن مالك بن عوف إسلامه وتتابعت جموع هوازن لاعتناق الإسلام، فردّ النبي عليهم أموالهم وأطلق أسراهم، ثم إنه(ص) واصل مسيره إلى مكة حيث قضى فيها عمرته وعاد إلى المدينة المنورة.
وإغتنم الروم فرصة انشغال النبي والمسلمين في المعارك الداخلية، فراحوا يجهزون الجيوش لغزو الأجزاء الشمالية من الجزيرة العربية، فما كان من النبي(ص) إلا أن استنفر المسلمين، وسار بنفسه على رأس جيش لقتال الروم، فما أن وصل إلى تبوك على الحدود الإسلامية الرومانية حتى هربت جموع الروم وولّوا إلى داخل بلادهم.
وعاد رسول الله (ص) إلى مدينته المباركة، فأنزل الله سبحانه عليه سورة التوبة، يفضح فيها المنافقين والمتواطئين معهم، ويكشف خططهم للنيل من الاسلام والمسلمين، فأمر النبي(ص) علي بن أبي طالب (ع) بتبليغها في مكة، ثم إنّه (ص) أمر بإحراق مسجد الضرار الذي كان المنافقون قد بنوه قاعدة للنفاق، وبذلك طويت آخر صفحة للشرك في مكة المكرمة في تلك الأيام.
إلى الرفيق الأعلى
حلَّ موسم الحج من السنة العاشرة للهجرة المباركة، فدعا خاتم الأنبياء (ص) الناس إلى الحج، وسار بهم قاصداً حجَّ بيت الله الحرام، وبعد أن أدوا مناسكهم وتوجهوا إلى عرفة، وقف حبيب الله فيهم خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه وقال: “أما بعد أيها الناس… لاأدري لعليّ لا ألقاكم بعد عامي هذا… إنّ دماءكم وأعراضكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، ألا هل بلّغت؟ اللهم فاشهد… أيها الناس إنما المؤمنون إخوة، ولايحل لامرئٍ مال أخيه إلا عن طيب خاطر، فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض، فإني قد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنه نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض..أيها الناس إن ربكم واحد، وأباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب”.
وفي طريق العودة إلى المدينة نزل الوحي على رسول الله(ص): {يا أيها النبي بلِّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته}، فاستوقف النبي الناس عند غدير خم ووقف على أعواد نصبت له، بحيث يراه جميع الحاضرين، وأخذ بيد علي بن أبي طالب(ع)، وحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، يوشك أن أدعى فأجيب… أيها الناس إن الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين… فمن كنت مولاه، فهذا علي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه كيفما دار…”، فقال عمر بن الخطاب: “بخٍ بخٍ لك ياعلي، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة”.
وعاد خاتم الانبياء(ص) إلى المدينة، وراح يجهز الجيوش للفتح، ولكن المرض داهمه، واشتدّ عليه، ولم يلبث أن انتقل إلى جوار بارئه، ودفن في الحجرة التي توفي فيها.
وهكذا خسرت الانسانية بوفاة حبيب الله، شخصيَّةً ملأت الدنيا نوراً وعطاءً، فسلام على خاتم الانبياء حبيب الله محمد وعلى آله الطاهرين، والحمد لله رب العالمين.