إسلام عمار بن ياسر
لقد أسلم أبو ذر وعمار بن ياسر في وقتين متقاربين في بدء الدعوة و النبي لا زال يتستر في دعوته، وقد اتخذ دار الأرقم مقراً له، والمسلمون يتسللون إليه على التوالي الواحد بعد الآخر، وهو يوصيهم بالصبر والتستر من قريش وجبابرتها.
وجاء في ترجمة عمار انه ينتمي بالنسب إلى مذحج، وهو يمني الأصل وفد والده ياسر بن عامر على مكة مع أخويه الحارث ومالك في طلب أخ لهما قد انقطعت أخباره، ثم رجع أخواه الحارث ومالك، وبقي هو ووالده في مكة، فتحالف مع أبي حذيفة بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم، وزوجة أبو حذيفة أمه له تدعى سمية بنت خياط فولدت له عماراً، ثم اعتقه أبو حذيفة، ولم يزل ياسر والد عمار مع حذيفة إلى أن مات، ولما ظهر محمد ابن عبدالله يدعو إلى الإسلام أسرع هذا البيت إلى الإسلام وأخلص في إسلامه، وصبر على جميع أنواع الأذى في سبيله.
وجاء في خبر إسلامه عن والده محمد بن عمار عن أبيه أنه قال: لما ذهبت لدار الأرقم لأسمع من النبي (ص) لقيت صهيب بن سعفان على الباب ينتظر الأذن، فقلت له ما تريد، قال أريد لأن أدخل على محمد لاسمع كلامه، قلت وأنا أريد ذلك، ثم دخلنا على النبي فعرض علينا الإسلام فأسلمنا ومكثنا يومنا عنده إلى أن أمسى المساء فخرجنا وأخفينا أمرنا مخافة قريش واتباعها، ولما انكشف أمر عمار وأبيه وأمه وغيرهم من الموالي والمستضعفين، اتفقت قريش على تعذيبهم والتنكيل بهم ليكونوا نكالاً لغيرهم، وجاء أبو جهل ومعه جماعة من المشركين إلى دار ياسر وأضرموا فيها النار، ووضعوا عماراً وأبويه في الأغلال ثم ساقوا بأسنة الرماح ورؤوس الحراب والسياط حتى انتهوا بهم إلى بطحاء مكة فانهالوا عليهم بالضرب إلى أن سالت دماؤهم، ثم سلطوا النار على صدورهم وأيديهم وأرجلهم، ووضعوا الأحجار الثقال على صدورهم ونحو ذلك من التعذيب والتنكيل وهم على ذلك صابرون محتسبون، ومر تعب الجلادون وضعوا على صدر كل واحد صخرة وتركوهم على ظهورهم يستقبلون بوجوهم شمس الصحراء المحرقة، فدعا لهم النبي (ص) بالفرج وبشرهم بالجنة، ثم ألتفت إلى عمار وقال له تقتلك الفئة الباغية، وقالها له بعد ذلك في مناسبة ثانية كما سيأتي خلال الفصول الآتية.
وارتفع صوت سمية وهي تقول للرسول: أشهد أنك رسول الله وأنك وعدك حق، وعاد إليهم الجلادون بالضرب والكي بالحديد المحمي بالنار إلى أن غشي عليهم فلما أفاقوا من غشيتهم أعادوا عليهم الكرة ولم يمنعهم عن ذلك ذكر الله سبحانه وتعالى.
و أشتد عليهم غضب أبي جهل وصاح بسمية لتذكرن وآلهته بخير ومحمداً بسوء أو لتموتن، فقالت له بؤساً لك ولآلهتك، فلم يمهلها أن ضرب بطنها برجله، وعادت تشتمه وآلهته فطعنها عن ذلك بحربة كانت في يده في ملمس العفة من بدنها ومضى يطعنها في ذلك المكان من جسدها بوحشية لا نظير لها حتى قضى على حياتها، فكانت أو شهيدة في سبيل محمد ورسالته، واتجه بعد ما انتهى منها إلى زوجها ياسر وهو مكبل بالحديد عارياً تلفحه حرارة الشمس، وجعل يضربه برجله في بطنه إلى أن مات شهيداً، واتجهوا بعد ذلك إلى تعذيب عمار، بوحشة لا نظير لها حتى اضطروه أن يذكر آلهتم بخير ويذكر محمداَ بما يريدون، فأطلقوا سراحه عند ذلك وجاء إلى النبي باكياً، والنبي (ص) يسليه ويعزيه بفقد أمه وأبيه، وهو يبكي ويقول لم اترك يا رسول الله وقد أكرهوني حتى نلت منك وذكرت آلهتم بخير، فقال له النبي (ص) كيف تجد قلبك يا عمار قال إنه مطمئن بالإيمان يا رسول الله، فقال فما عليك فإن عادوا إليك فعد لما يريدون فقد أنزل الله فيك ((ألا من اكره وقلبه مطمئن بالإيمان)).
وسلم عمار من الموت الذي نزل بأبويه على يد أبي جهل وأبي سفيان وأبي لهب، وغيرهم من جبابرة قريش وطغاتها الذين نكلوا بالضعفاء والعبيد والفقراء كما نكلوا بعمار وأبويه وأطعموهم للسياط والنيران فمات منهم من مات، والتضحيات وعلماً من أعلام المسلمين الذين جاهدوا وناضلوا في سبيل المبدأ والعقيدة، وختموا حياتهم كما بدأوها بالجهاد في سبيل الله وبالشهادة على يد الفئة الباغية.
لقد كان عمار بن ياسر صديقاً حميماً لمحمد (ص) قبل الدعوة يكبر فيه كل صفاته، ويرى فيه جديداً كلما مرت الأيام والشهور، ولما دعاه إلى الإيمان بالله أسرع إلى الإيمان به هو وأبوه وأمه، وظل وفياً للإسلام سخياً في البذل والعطاء طيلة حياته مع الرسول وبعد وفاته، إذا رأى باطلاً ثار عليه لا يلين ولا يستكين، وإذا رأى انحرافاً عن الحق وقف إلى جانب الحق ولو كانت الدنيا باسرها مع الباطل وأهله وصدقت فيه نبوءة الرسول (ص): عمار مع الحق والحق مع عمار يدور معه كيفما دار، وقد لاقى في سبيل تصلبه في الحق من المسلمين ما لاقاه من مشركي مكة حينما انتقد تصرفاتهم واستئثارهم بأموال العباد وتبذيرها لصالح الفئة التي كانت تحيط بالخليفة من ذويه وأرحامه.
فقد جاء في شرح النهج أنه لما كثرت الأحداث في عهد عثمان كان عمار بن ياسر من الناقمين على تلك الأوضاع التي انحرفوا فيها عن سنة الرسول وسيرة من تقدمهم من الخلفاء، وكان في بيت مال المدينة حلي وجواهر، فأخذ منه عثمان ما حلى به أهله ونساءه، فأظهر الناس الطعن عليه وكلموه في ذلك بكلام شديد حتى أغضبوه، فخطب الناس، وكان فيما قال: لنأخذن حاجتنا من هذا الفيء و أن رغمت فيه أنوف أقوام وأقوام، فقال له علي (ع) أذن تمنع من ذلك ويحال بينك وبينه، وقال له عمار: أشهد الله أن أنفي أول راغم من ذلك.
فقال عثمان: أعلي يا بن ياسر تجترئ، وقال لغلمانه خذوه، فأخذوه وأدخلوه على عثمان وضربوه حتى غشي عليه، وفي رواية ثانية أن الغلمان مدوا يديه ورجليه وجعل عثمان يضربه برجله وهي في الخفين على مذاكره حتى أصابه فتق من كثرة الضرب، وكان شيخاً كبيراً فغشي عليه فحمل وادخل إلى منزل أم سلمه رضوان الله عليها، وبقي في غيبوبته طوال يومه، فلما أفاق بعد فوات وقت الظهرين والمغرب توضأ وصلى ما فاته قضاء ثم قال: لبس هذا بأول يوم أوذينا في الله.
ولما بلغ خبره عائشة أخرجت شعرة من شعر رسول الله، ونعلاً من نعاله وثوباً من ثيابه وقالت ما أسرع ما تركتم سنة نبيكم، وهذا شعره وثوبه ونعله لم يبل بعد.
ومضى عمار في طريقه على هدي القرآن وسنة الرسول وسيرنه حتى كانت نهايته بصفين على يد الفئة الباغية التي كان يترعمها معاوية بن أبي سفيان، وصدق فيه قول رسول الله (ص) عندما قال له عثمان بن عقان يوم كان النبي (ص) يبني مسجده في المدينة وعمار يرتجز ويقول:
لا يستوي من يعمر المساجد | يدأب فيها قائماً وقاعدا |
ومن يرى عن الغبار حائداً |
فظن عثمان أن عماراً يعرض به فقال له لقد سمعت ما تقول يا بن سميه: والله أني سأعرض هذا العصا لأنفك، فلما سمعها رسول الله (ص) قال ما لهم ولعمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار، أن عماراً جلده ما بين عيني وأنفي.
وصدق قوله فيه وهو يمسح التراب عن رأسه: طوبى لعمار تقتله الفئة الباغية وقوله: من أبغض عماراً فقد أبغض الله، إن عماراً قد ملئ إيماناً إلى أخمص قدميه.
ومن المعذبين في الله بلال بن رباح الجمحي مؤذن رسول الله، وكان عبداً لأمية بن خلف، وقد أسرع إلى الإسلام من السابقين إليه من المستضعفين والعبيد والفقراء وأخلص في إسلامه، ولم يكن يتصل بنسب إلى أحد المكيين ليمنع عنه طغاة قريش، فطالبه سيده أمية أن يلعن نبذة لدعوة محمد فأبى، فأمر به أن يؤخذ كلما حميت الشمس فيطرح عارياً على الرمضاء ويجلد إلى أن يغيب عن الدنيا، ثم يضعون صخرة كبيرة على صدره، ويقول له أمية لا تزال هكذا يا عبد السوء حتى تموت أو تكفر بمحمد، وترجع إلى عبادة اللات والعزى، ثم يغري به صبيان قريش وهو مطروح عارياً والصخرة على صدره فيأخذ كل واحد منهم بطرف من أعضائه ويشده إليه، فيأخذه الألم حتى لكأن أوصاله تتقطع، وهو مع ذلك لا يستغيث بغير الله ثم يعود إليه أمية مع جماعة من المشركين يسلطون النار على جسده، وينهالون عليه بسياطهم إلى أن يرجع عن دين محمد ويذكر اللات والعزى، ولكنه كان لا يذكر غير الله ولا يستغيث بغيره.
فقال له أمية وقد تعجب من تحمله لما هو فوق طاقة الإنسان، قال له: اذكر آلهتنا بخير يا بلال لنرفع عنك العذاب، فأجابه: أن لساني لا يطاوعني على ذلك، وظل بين أيديهم يتعرض للتعذيب والتنكيل إلى أن جاءهم أبو بكر واشتراه منهم كما جاء في بعض المرويات.
ولما رأت قريش ما صنعه أبو جهل وأمية بن خلف بعمار وبلال انقضوا على عبيدهم الذين آمنوا بمحمد يسومنهم سوء العذاب، يطرحونهم عراة على الرمال الساخنة تحت وهج الشمس ثم ينهالون عليهم بسياطهم حتى يفقد الواحد منهم وعيه ويشرف على الموت، وهو مع ذلك يأبي أشد الإباء أن يذكر اللات والعزى بخير، أو ينال محمد ودعوته، بالرغم من أن محمداً (ص) قد رخص لهم أن يقولوا بألسنتهم ما ينقدهم من هذا العذاب ما دامت قلوبهم منطوية على الإيمان بالله ورسوله ووعدهم بالنصر على أولئك الطغاة أن هم صبروا على ما أحيط بهم من البلاء وصدقوا ما عاهدوا عليه الله ورسوله وسيصبحون وأمثالهم من المستضعفين أعز وأكرم عند الله والناس من أولئك الجبابرة والطغاة، ومع أن النبي (ص) قد رخصهم بمجاراة أسيادهم بألسنتهم فقد أصروا على موقفهم المتصلب من محمد ودعوته ومن التنكر للأصنام وآلهة قريش ودعاتها ولم يحسبوا لقريش وطواغيتها ولا الكل ما أحيط بهم من البلاء والتعذيب حساباً.
لقد آمنوا بمحمد (ص) ورسالته وتجسد لديهم ما أعده الله للمؤمنين والصابرين من الدرجات الرفيعة والأجر العظيم فاستهانوا بعذاب موقت محدود لقاء نعيم دائم لا يحول ولا يزول فصبروا ووفاهم الله أجورهم الصابرين وكان الظالمين والجبارة بالمرصاد.
وكان من بين أولئك المعذبين سالم مولى أبي حذيفة وخباب بن الأرت وصهيب بن سنان وعبدالله بن مسعود وعامر بن فهيرة وأبو فكيهة وأم عنيس وزنيرة وغيرهم من الموالي والمستضعفين، ولما اشتد البلاء عليهم استنجد خباب بن الأرت بالنبي (ص) فذهب وهو متوسد ببردة في ظل الكعبة فقال له ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا بالفرج فقال النبي (ص) قد كان قبلكم أقوام يؤخذ الرجل منهم فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بمنشار فيوضع على رأسه فيصبح نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ولا يصده كل ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت فلا يخاف إلا الله والذئب على غنمه فصبروا وشكروا ووفاهم الله أجور الصابرين ونصرهم على الكافرين والظالمين.
وجاء في كتب السيرة أنه كان لبني عدي جارية آمنت بالنبي (ص) فكان عمر بن الخطاب يتعاهدها بكل أنواع الإساءة والتعذيب لترجع عن الإسلام، و لا يترك تعذيبها إلا مللاُ من ذلك، فإذا مل وكل قال لها: أعتذر إليك فاني لم أترك تعذيبك إلا عن ملالة، ولم ينقذها من أبو بكر إذا اشتراها وأعتقها في جملة من اشترى واعتق من أولئك المعذبين كما جاء في بعض كتب السيرة.
ومضى التساؤل فيما جاء في كتب السيرة من أن أبا بكر كان يشتري أولئك المعذبين ليخلصهم من ساداهم، هو أن قريشاً كانت تنكل وتعذب العبيد الذين آمنوا ليخلصهم من ساداتهم، هو أن قريشاً كانت تنكل وتعذب العبيد الذين آمنوا بمحمد وغيرهم من المستضعفين حتى لا ينتشر الإسلام وليكونوا عبرة و نكالاً لغيرهم وكانت تود لو أن محمداً (ص) يساومهم على جميع ما يملكون ويتراجع عما جاء به ودعا إليه فكيف تتنازل قريش عن مليكتهم لأبي بكر وتترك تعذيبهم، وما الذي يمنعها من تعذيبهم إذا أعتقهم أبو بكر أو غيره، في حين أنهم كانوا يتعمدون الإساءة لكل من ليس له عشيرة تمنع عنه بغيهم أو حليف يستجير به.