نبي الله نوح عليه السلام
نوح والدعوة
في بقعة من أرض العراق، قد تكون الكوفة وما جاورها، أرسل الله تعالى نوحاص إلى قومه رسولاً هادياً، منذراً وبشيراً، يحمل إليهم دعوة السماء كي ينبذوا ما دأبوا عليه من كفر، وما أمعنوا فيه من ضلال..
وكان لابُدّ لنبيَّ الله نوحٍ (عليه السلام) أن يلاقي من تكذيب قومه، وعنتهم، وغيهم، مالقيه كل نبيٍّ كريمٍ، ورسولٍ أمينٍ.
فليس من اليسير هجران عادات، والإقلاع عن غوايات وضلالات..
وآتى الله نبيَّهُ نوحاً فصاحة لسان، ورشاقة عبارة، وبلاغة أداء.. فكان دامغ الحدة، ناصع البرهان!..
وكان طوال مئات السنوات لايدع مناسبة تمر، الا وذكر قومه بالله ربهم، وخالقهم، جاعياً إياهم الى عبادة الله الكبير المتعال، ونبذ ماهم عليه من بهتان وضلال!..
ولجأ نوح، في دعوته قومه، إلى أسلوبي الترغيب والترهيب:
فالنفس الانسانية، من طبعها ان تخشع، وأن تخاف!.
فهو يرغبهم، إن أخلصوا وجوههم الله، بغفران ذنوبهم، وبتعميرهم في الارض، وبالمطر، يرسل عليهم مدراراً وبالأموال، يُغدقها عليهم، بالبنين، يمدّهم الله بهم، وبأرضهم، يُحيلها الله إلى جنات تجري من تحتها الانهار!..
وهو يرهبهم عذاب الله الأليم، ويحذّرهم عقابه الشديد، ويخوفهم من عذاب يوم عظيم!..
ووجّه أبصارهم وبصائرهم الى بديع خلق الله تعالى، في أنفسهم.
فهم من تراب الارض قد خلقوا وإليه يعودون..
وفي سبع سموات، طباق، فيهن شمس، وقمر، ونجوم متلألئات..
وفي ارض ذات امتداد، وانبساط، وكأن الله ذلّلها لكل سالك سبيل!..
ويأخذ نوحاً العجب من هؤلاء القوم العمين… الذين يقابلون ذلك كلّه، بأن يسدوا آذانهم بأصابعهم، كي لاتسمع، وقلب أردانهم (أي ثيابهم) على وجوههم كي لاترى.. فقد أعمى الله بصائرهم عن مشاهدة نور الحق، فلا يريدون لأبصارهم أن ترى، وأصمّ قلوبهم عن استماع دعوة الله، فأصبحت سوداء سوداء، فلا يريدون لآذانهم أن تُصغي..
ويصيح نوح بهم: “مالكم لاترجون لله وقاراً”
فسدرتم في غياهب الضلال، وعبدتم، من دونه، أوثاناً وأصناماً…
ولايؤمن بنوح إلا نفر، من قومه، قليل، قد استضعفوا، واستذلوا،.. فهانوا على القوم، وصغروا، واتخذوهم سخرياً…
وينظر قوم نوح إلى نبيهم هذا، وإلى أتباعه.
فهو رجل كبقية الرجال،.. أما اتباعه فهم الاقلون عدداً، والارذلون بين الناس، والأذلون!…
فيقولون له: ” مانراك إلا بشراً مثلنا، ومانراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا…”
فلايجوز، في عرفهم، أن يلتقي، على صعيد واحد، شرفاء القوم وساداتهم، مع فقراء الناس ومستضعفيهم. فنوح، والحالة هذه -في ضلال مبين، أو كأنّه أدركه مس من الجنون، فجنَّ، واستطير!….
ويحاول نوح من جديد، وبكل وسيلة استمالة قلوبهم الى نور الحق والهدى..
صحيح أنّه رجل بينهم، كبقية الرجال، لاملاكاً هابطاً عليهم من سماء… ولاتمتلك راحتاه خزائن الله.. ولايعلم الغيب…
أما هؤلاء الذين تقتحمهم الابصار لرقة حالهم، وشدة ضعتهم، في أعين قومهم، وفقرهم، فقد يؤتيهم الله من لدنه خيراً كثيراً، وفضلاً عظيماً…
وينكر نوح إنكاراً شديداً، مايشير عليه قومه بشأنهم:
– من الخير لك ولنا يانوح، أن تنبذ هؤلاء الأذلة، وتطردهم من مجلسك، كما نبذناهم نحن، وطردناهم…
فيجيبهم: اتقوا الله ياقوم!.. فمن يجيرني- إن فعلت ذلك- من عذاب الله؟..
فينصرفون عنه، يلوون رؤوسهم، هزءاً!…
ويلجُّ الكافرون في عنادهم وإصرارهم، ويتمادون في طغيانهم وضلالهم.. ويتصايحون- فيما بينهم: أن حافظوا على آلهتكم، بكل ماتملكون.
“وقالوا: لاتذرن آلهتكم ولاتذرن ودّاً ولاسواعاً. ولايغوث ويعوق ونسراً”
ويمكث نوح في قومه يدعوهم ماشاء الله له ذلك حتى بلغت مدة دعوته ألف سنة إلا خمسين عاماً!..
فقد آتاه الله جلداً واصطباراً، في عمر مديد.. فهو أحد الرسل “أولي العزم” الذين أمدّهم الله بعزم، منهُ، شديد، فلا يفت في عضدهم كيد الكائدين، ولاخيانة الخائنين، بل يقابلون شتى صنوف البلاء والمحن، بالصدر الرحب، والتمهّل، وطول الأناة…
وبقي نوح بين قومه يدعوهم إلى سواء الصراط… فلعل وعسى!…
وكان جواب قومه أخيراً بأن “قالوا يانوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا، فائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين”.
فانقطع كل جدل وحوار…
وأدرك نوحاً الياس، وعصف به القنوط، فكأنّ دعوته صرخة في واد… ولا من سميع أو مجيب…
فرفع نبيُّ الله يديه الكريمتين الى خالقه يعتذر إليه عن سفاهة هؤلاء القوم المفسدين، وضلالة هؤلاء الغاوين، الذين لم ينفعهم نُصحٌ ولم يردعهم ازدجار!…
{ قال: ربّ إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً. فلم يزدهم دعائي إلا فرارا. وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا آصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصرّوا واستكبروا استكباراً. ثم إني دعوتهم جهاراً. ثم إني أعلنتُ لهم وأسررت لهم إسراراً}.
ويستطرد نوح في تفصيل أسلوب دعوته وقومه، محاولاً تليين قلوبهم، صارفاً أبصارهم في كل حين إلى روائع خلق الله، لعلّ نوراً يتسرّبُ إليها، فيصبحوا مؤمنين!..
ويأخذُ نوحاً الغضب على هؤلاء الفسقة العتاة، والغلاظ القساة، فيدعو عليهم بالفناء.
{وقال نوح رب لاتدر على الارض من الكافرين ديّاراً. إنك أن تذرهم يضلوا عبادك ولايلدوا إلا فاجراً كفّاراً}.
فلا أمل في إصلاحهم ولارجاء!…
إنهم ضالون مضلّون!…
حتى أولادهم، فهم، من طينتهم، كفرة، فجرة لايهتدون!…
وبالتالي، فإن تسعمائة وخمسين سنة من الدعوة كافية أن تقطع كل عذر، وأن تحصحص مؤمناً قد اهتدى، من كافر في ضلالٍ مبين…
{وأوحي إلى نوح أنه لن نؤمن من قومك إلا من قد آمن، فلاتبتئس بما كانوا يفعلون}
لقد بلغ نوح -في دعوته- نهاية المطاف!.. والله يفعل بعد ذلك مايشاء!…
فانصرف عن قومه لايدعوهم، غضبان أسفاً، وقد استجاب الله لنبيّه الدعاء!.
نوح والسفينة
أما، وقد عموا، وصمّوا،.. وطمس الله على ابصارهم وبصائرهم، ونكس قلوبهم، فلقد حقّت على قوم نوح كلمة العذاب!..
فأوحى الله تعالى إليه: أن أقدم {واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولاتخاطبني في الذين ظلموا، إنهم مغرقون}.
وباشر نوح يقطع أشجار النخيل، التي سبق له وغرسها بوحي من الله تعالى، كي يتخذ من جذوعها، لسفينته، خشباً!..
وخرج إلى ظاهر المدينة، بعيداً عن أعين الناس، فلا يراه منهم إلا القليل..
وشرع يبتني السفينة كما أمره الله عزوجل، فهو بين نشر الخشب، وتهيئة المسامير الغلاظ..
وكان قومه يمرون عليه، وهو منهمك في صنع سفينته، فيهزأون منه، ويعبثون..
ويقول قائلهم: أعدلت عن النبوة الى النجارة، يا نوح؟.
ويتساءل آخر متهكّماً: هلاَّ اتخذت لسفينتك، يا نوح، مكاناً، من البحر، قريباً؟…
فيجيبه صاحبه: ولم ذلك؟.. فسيبحر صاحبنا، غداً في بحرٍ لجّيٍّ، من رمالٍ!..
وكان نوح، عليه السلام، يعرض عنهم،.. فما للأنبياء ولغوالحديث!.. ويشيح بوجهه عنهم تكرّماً!..
وطال عبث العابثين، وهزء المستهزئين، فقال لهم، كالمتوعّد:
– { إن تسخروا منّا فإنّا نسخر منكم كما تسخرون. فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم}.
فلا شك بأنّ أجل الله لآت: فللمؤمنين، أبداً، عاقبة الدار، وسيحل الخزي بالذين يكذّبون بآيات ربهم، وبرسله يستهزئون!..
حتى استوت السفينة ذات ألواح ودُسُر (أي: مسامير)، وقد صلب منها الهيكل، وعظم البنيان، فبدت شامخة كالطود، وهي جاثمة في قلب الصحراء!..
وأخذ نوح يعدُّ الأيام -منتظراً أمر الله،.. وهو الذي كان لايحسب لمئات الأعوام حساباً!..
فأوحي إليه، أنّهُ، إذا جاء أمرُنا، وبانت آياتنا، فاعمد إلى كل هؤلاء المؤمنين بك. فاحملهم على ظهر سفينتك، واحمل معك من كل ماخلق الله زوجين اثنين…
وآية ذلك: التنّورُ يفور!…
الطوفان
وفار التنّور!..
وماعهد نوح به، إلا مسجوراً (أي: ملتهباً) بالحطب الجزل…
إنها الآية المنتظرة.. وبدءُ الإنتقام!..
وأسرع نوح بمن معه من المؤمنين -وهم قليلٌ- إلى السفينة، مصطحباً شيئاً من الزّاد. وشرّع لها باباً، ولجهُ من الحيوان، من كل زوجين اثنين.. حاملاً فيها ماأمره الله أن يحمل، من إنسان وحيوانٍ، حتى ومن حبٍّ ونبات، فهم ذخيرة الحياة، في مستقبل الأيام!..
وتدفق الماء من السماء هطّالاً، غزيراً.. حتى كادت تتصل أرض بسماء وقد أطبق الغيم بينهما إطباقاً كثيفاً، كحلكةِ الظَّلماء!..
{ وتفجّرّت الارض عيوناً} فالتقى الماءان:
هذا ينزل من علٍ، مدراراً، وهذا يتفجّر من قلب الارض، ينابيع ذات دفق صاخب..
وعمّ الأرض طوفان هادر، فتحوّلت إلى بحر طام!…
وتدفّقت السيول، تعصف، غاضبة، لاتلوي على شئ، ولايقف في وجهها شئٌ!..
وجرت السفينة على وجه الماء، فكان، باسم الله مجراها، وباسم الله مَرساها..
وخرج قوم نوح يولون، مذعورين،.. لايدرون إلى أين يفرّون!.. يغالبون أمواجاً عاتياتٍ فتغلبهم، ويصارعون في سبيل البقاء، لايألون (أي: لايوفرون) في ذلك جهداً، حتى لم يبق منهم، من أحدٍ، أبداً!..
وتمكّن بعضهم من الاعتصام على قمم الوهاد والتّلال…
ولكن: لقد بلغ السيل الزُّبي (ج. زُبية: التلَّة لايدركها الماءُ)، فاجتاحهم إعصار الماء. وتسلّق بعضهم قمة جبل، ولكن الماء علا مرتفعاً، هائجاً، كالمرجل يفور، حتى غمر رأس الجبل، وأتى على من علاه!.
حتى أنّ المرأة أدركت قمّة الجبل، لاهثة، وهي تحمل طفلها.. ويدركها الماء الطاغي، مزبداً، مزمجراً، فتصبر على ذلك وقتاً..
ويزداد الماء طغياناً، وهو يفور، في إرغاء له، وإزبادٍ… حتى يبلغ منها العنق فتضيق منها الأنفاس، فالفم، فتشرُقُ بالماء، فالأنف، فتغالبُ الاختناق…
وترفع المرأة، وهي على ماهي، طفلها بيديها المضطربتين، صوب السماء. فلعل الله منجيه، ولكن لا يلبث الماء أن يغمرها وطفلها،
فلو شاء الله أن يرحم منهم أحداً، لرحم هذه المرأة حاملة طفلها وقد علا منه الصراخ… أما، وقد قضى تعالى بأن يشملهم جميعاً، العذاب… فليس بينهم، إذاً، من ناجٍ!…
نوح وابنُه
وكان أولاد نوح الثلاثة: سامٌ وحامٌ ويافثُ، مع أبيهم في السفينة التي كانت تشق بحيزومها (أي: مقدمها) عُباب الماء!..
أما ولده الرابع، كنعان، فكان مع القوم الكافرين..
ورآه أبوه يهرول، بينهم، مذعوراً، متنقّلاً من وهدةٍ إلى منبسط، منعطفاً منهما إلى ربوة، فجبل، والماء يلاحقهم جميعاً،.. يغمر ماانبسط من الارض وما ارتفع..
وأدركت نوحا شفقة وعطف على هذا الابن الضال، ورق قلبه له، إنه أبٌ يرى ولده في محدق الخطر..
وناداه نوحٌ من على سفينته {وهي تجري بهم في موج كالجبال}:
– {يابني اركب معنا ولاتكن مع الكافرين}
– {قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء}
– {قال لاعاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم}
وحال بينهما الموج فكان من المغرقين}
فغلب على نوح همٌ ووجدٌ يعصفان بنفسه، وغشيته سحابة من حزن عميق، وادلهمّت الدنيا أمام ناظريه..
فها هو ذا ابنُهُ، حُشاشةُ كبده، وقد انتهى، في الدنيا وفي الآخرة، مع الكافرين..
ورفع نبيُّ الله طرفاً باكياً، إلى السماء، ويدين مرتعشتين، وقد تحدّرت على لحيته الشريفة قطرات دمعٍ كلاذع الجمر، وبصوت غلبت عليه رنّةُ إجهاش، فبدا معولاً منتحباً:
– رُحماك اللهم!..
{ونادى نوحٌ ربّهُ، فقال رب إنّ ابني من أهلي وأن وعدك الحق وانت احكم الحاكمين. قال يانوح أنه ليس من أهلك أنه عملٌ غير صالح. فلا تسألن ماليس لك به علم إني إعظك تكون من الجاهلين}.
وهكذا فصل الله لنبيه نوح، وبفصيح العبارة، أن النسب هو نسب الايمان، والقربى هي قربى الحقّ!..
وشعر نوح بأن عاطفته قد تغلّبت على حجاهُ (أي: عقله)، فمال به عن الحق هواه!.. وأحسّ بالندم على ما فرط منه، فليس لأنبياء الله، وهم صفوة الخلق طرّاً، إلا أن يترفّعوا عن كل علاقاتهم الشخصية مع من يحيط بهم من الناس، بالغاً مابلغوا من قُربى ومن نسب، وأن يتعالوا على كل هوىً وميلٍ، لايأتلفان ودعوة الحق المبين!..
فهم من طينة غلب عليها النور والصفاء!..
فما للأنبياء وصغائر الأمور وسفاسفها؟..
فليس لهم أن يسفوا (أي: يهبطوا) إلى مستوى ضعاف النفوس، وقد فجّر الله الحكمة في قلوبهم تفجيراً،.. فهي لا ترى إلا الايمان مقياساً بين الناس، وميزاناً!..
{ وأن ليس للانسان إلاّ ماسعى. وأن سعيهُ سوف يُرى. ثم يُجزاهُ الجزاءَ الأوفى}
فاستعاذ نوح بالله، من شطط في القول، ومن زلل، يؤديان إلى خُسران مبين!.. وتضرّع إلى الله مستعبراً، وقد ثابت إليه نفسه، التي تقطعت حسرات، فعادت أصفى مما كانت، وأنقى:
– { رب إني أعوذ بك أن أسألك ماليس لي به علم، وإلا تغفر لي وترحمني أكُن من الخاسرين}.
وصرف الله وجهه الى نوح بمعفرةٍ منه ورحمةٍ، ورضى، وقبولٍ حسنٍ!.
النهايــة
وعم الارض الطوفان، فطهرت من كل رجس أصابها، ودرن لحق بها!.. وتم أمر الله.. وحقّت كلمته على القوم الكافرين، فتهاووا، في لجج الماء، غرقى!..
أما السفينة فكانت لاتزال في تجوالها، متهادية على سطح الماء،.. وقد امّحت على الارض كل المعالم، فعميت على الركب الجهات..
وأسلم ركّاب السفينة أمرهم لله، جميعاً،.. فهو منجّيهم وهاديهم، والآخذ بيدهم في مدلهمّات الخطوب، والصعاب الشّداد!..
وسئم ركب السفينة من هذه الرحلة الطويلة، الرتيبة.. فمتى النهاية؟ أما آن لها أن تستقر بهم على برّ الأمان؟..
وخاطبوا في ذلك نوحاً:
– متى الفرج يا نبي الله؟.
– إنكم في فرج من الله، تحف بكم رحمته، وتكلأكم عين رعايته التي لاتنام، أفلا تعقلون؟
– ولكنا نريد أن ننزل الى الارض، فتطأها منا الأقدام!.
– صبراً ياقوم، حتى يتم أمر الله، ويقضي أمراً من لدنه، وإياكم واللّجاج!..
ويمسك نبي الله عن الكلام..
ويصمت قومه.
ويلُفُّ السفينة صمت، كصمت القبور، موحش وعميق.. وهي لازالت تتهادى بهم على صفحة ماء ساج (أي: هادئ) ورقراق!..
وينظرون إلى أقاصي الأفق، وإذا بطائر يتّجه إليهم، وكأنه يسبح في الهواء.. دون أن يرفرف له جناح..
ويدنو الطائر منهم، إنه حمامةٌ بيضاء قد أمسكت في منقارها الصغير غصن زيتون مبرعم.
ويتصايح من في السفينة: لقد اقتربنا من برّ الامان، فها هي ذي حمامة السلام تحمل في منقارها غصن سلام!..
ويوجّهون دفّة السفينة صوت الجهة التي قدمت منها هذه الحمامة البيضاء، وكأنها تؤذنهم بقريب الفرج.
وأمر الله السماء فأقلعت عن تهطال المطر..
وأمر الله الأرض، فابتلعت فائر الماء كالينابيع تدفُّقاً.. وأخذ الماء ينحسر عن اليابسة شيئاً فشيئاً..
{وأشرقت الأرض بنور ربّها!..} وسطعت الشمس في كبد السماء!..
ويصور الله تعالى لنا ذلك بآية من القرآن الكريم، كان لها أن تفحم بلغاء قريش، وفصحاءهم، الذين حاولوا معارضة بعض آي الذكر الحكيم،.. فلمّا انتهت إليهم هذه الآية، وهم في مجلسهم، نكّسوا رؤوسهم مخذولين، وانصرفوا آيسين:
{ وقيل ياأرض ابلعي ماءك، وياسماء أقلعي، وغيض الماء، وقضي الأمر، واستوت على الجودي، وقيل بُعداً للقوم الظالمين}
وهكذا قدّر الله لهذه السفينة التي أضناها طول التجوال، أن تستقر على “الجودي”، أخيراً.. فلكلٍّ أجلٌ محتوم، ومقدار معلوم!.. فسبحان الله الذي قدّر للأمور مواقيتها، لاتعدوها!..