لقد كان أبو ذر من السابقين إلى الإسلام ومن المتأهلين كما جاء في بعض المرويات ، واسمه جندب ، وسماه رسول الله (ص) عبد الله ، وكان هذا الاسم احب إليه من الاسم الذي اختارته له أمه .

ويروي الرواة في تاريخه أنه كان في أول أمره يقطع الطريق على الناس فيصيب من أموالهم ما يشاء في الليل والنهار ، ولا يصده عن هدفه شيء ، وفي الوقت ذاته كان يعبد الأصنام ، ويختص منها بصنم يدعى مناة صنم القبيلة ولكن عبادة الأصنام على غموضها وغفلة الجاهلين عن بطلانها ، وتسليمها تسليماً فرضته العادة عليهم كان في نفس أبي ذر منها أشياء تحرك مشاعره أحياناً إلى التفكير والتأمل في أمرها .

فقد جاء عنه أنه قدم لصنمه مناة في بعض الأيام لبناً ، ومضى بعيداً عنه ، وبينما هو يفكر في عمله هذا ، وإذا بثعلب يهجم على وعاء اللبن فيأكل ما فيه ، ولا يكتفي بذلك حتى يبول على الصنم ، فأثر هذا الحادث عليه وهالته جرأة الثعلب على معبوده ورجع يفكر في أمر هذا المعبود الذي لم يستطيع أن يدفع عن نفسه ضرر الثعلب وتحديه فكيف يدفع الضرر عن غيره ممن يعبدونه ويرجونه لدفع ما يحيق بهم من أضرار ونكبات.

ومضى يقول: ما عسى أن يكون لهذا المعبود الذي أعبده من قدرة، وهو حجر جامد لا يستطيع تحريك يديه ليرد عنه عادية كلب من كلاب البر أمطره ببولة، ولم يلبث وهو غارق في هذا النوع من التفكير أن هتف بنفيه يردد:

لقد ذل من بالت عليه الثعالبأرب يبول الثعلبان برأسه
ولا خير في رب نأته المطالبفلو كان رباً كان يمنع نفسه
وآمنت بالله الذي هو غالببرئت من الأصنام فالكل باطل

ونفض يديه من مناة وأمثال مناة من تلك الأحجار والأخشاب والتماثيل التي لا تملك من الأمر شيئاً، وتدفع عن نفسها بول الكلاب والثعالب، وتوجه بعقله وقلبه إلى من بسط الأرض وسمك السماء، وأنزل الغيث وخلق هذه الكائنات الحية، وقدر لها أرزاقها وأعطى كل نفس هداها، وبقي قبل إسلامه شطراً من الزمن يندد بالأصنام وعبادها، ويتأمل في خلق السموات والأرض وجميع الكائنات، إلى أن انتهى إلى الإيمان بخالق الأرض والسماء ومقدر الأعمار والأرزاق وميسر الشمس والقمر والكواكب وخالق من في الكون.

لقد آمن بما آمن به زيد بن عمرو بن نفيل وابن الحويرث، وورقة بن نوفل وعبدالمطلب بن هاشم وأبو طالب وغيرهم ممن استخفوا بالأصنام والتماثيل.

وجاء عنه أنه قال لبعدالله بن الصلت الغفاري|: يا ابن أخي لقد صليت قبل أن ألقى رسول الله بثلاث سنين، فقال له لمن: قال الله واتوجه حيث يوجهني الله اصلي عشاءً حتى إذا كان من آخر السحر ألقيت كأني خفاء حتى تعلوني الشمس “والصلاة التي يعنيها أبو ذر أن صح الحديث هي التفكر والتأمل في الكون وتقلباته وما فيه من الغرائب والمخلوقات، أما الصلاة بمعناها الشرعي فلم تصدر حتى من النبي قبل نزول الوحي بها عليه”، وحاول أن يقنع أمه رملة وأخاه أنيساً بعقيدته وضلال من يعبد الأصنام، وعرض لهما ما يجول بنفسه من الأدلة والبراهين، فلم يجدا مخرجاً منها، وساورتها الشكوك بالأصنام وعبادتها حتى اشرفا على التراجع عنها والإيمان بالله العظيم.

وبقي أوب ذر يعبد الله بفطرته السليمة التي أوصلته إلى الحقيقة لا يتلون ولا يتردد، ولا ينقاد إلا إلى ما يراه حقاً وصواباً وصدقاً وعدلاً، وبرزت فيه نزعة التعصب للحق والتصلب فيه وصدق اللهجة بعد إسلامه ولمسها منه القريب والبعيد وقال فيه النبي (ص) كلمته المشهورة.

((ما أضلت الخضراء ولا قلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر))، وبقي أبو ذر مدة بين أهله وعشيرته موحداً مؤمناً بإله واحد يعبده بفطرته السليمة حسبما تحويه إلى من التقديس والتعظيم، حتى مر عليه رجل من قومه كانت قد بلغته أخبار دعوة النبي (ص) في مكة، وقال له يا أبا ذر: أن رجلاًَ بمكة يقول بمقالتك يزعم أنه نبي ويدعو الناس إلى عبادة الله، فانتعش أبو ذر وأشرقت نفسه، ولم يعد له ما يشغله عن استطلاع خبر هذا الرجل، ومعرفة ما يدعو إليه، فلم يلبث أن أرسل أخاه أنيساً إلى مكة وأوصاه بأن يستعجل له الأمور ويرجع إليه بما يطمئن إليه من أخباره، ونفذ أخوه المهمة، وسمع من أخبار محمد ودعوته من القريب والبعيد.

ورجع إلى أخيه ليخبره بما سمع ورأى، وقال له: لقد رأيت رجلاً يأمر بالخير وينهى عن الشر والبغي والمنكر والعدوان، ويدعو إلى إله واحد لا شريك له ولا نظير، ويسخر من الأصنام وعبادتها، فكان لهذه الكلمات أطيب الأثر في نفس أبي ذر واتفقت مع ما يختلج في ضميره ويهز مشاعره في حال تأملاته وتفكيره، وصمم أن يذهب بنفسه إلى مكة ليقف على خبر هذا الرجل الذي أصبح حديث الناس، فسار ترافقه أنه وأخوه يجد السير إلى نجد لزيارة أخوله ومنها إلى مكة المكرمة حيث محمد يدعو إلى الله.

ولما بلغها أنزل أمه وأخاه خارجها ودخل مكة وحده وطاف في شوارعها وتصفح وجوه الناس ليعرف من هو محمد، وظل يراقب الناس ويسمع من أحاديثهم إلى أن توارت الشمس ودب الظلام، وخلت الكعبة من الوافدين، وفيما هو في حيرة من أمره وإذا بشاب قد أقبل ليطوف في البيت فمر به وقال من الرجل؟ فقال هو في حيرة من أمره إذا بشاب قد أقبل ليطوف في البيت فمر به وقال من الرجل؟ فقال من بني غفار، فقال قم إلى منزلك، فقام معه وانطلق به إلى منزله ولم يسأل أحدهما صاحبة شيئاً، وفي الصباح خرج أبو ذر يطلب حاجته، وظل طوال يومه يترقب أخبار الرجل الذي جاء من أجله، فلم يستفد شيئاً وكره أن يسأل أحداً عنه، فمر به علي (ع) فقال له: أما آن للرجل أن يعرف منزله، وانطلق به فبات ليلته ولم يسأل أحدهما الآخر شيئاً، وفي اليوم الثالث سأل أبو ذر الغفاري علياً (ع) عن الرجل الذي خرج يدعو إلى الله سبحانه وأخذ عليه العهد ليتمكن أمره، فقال له علي (ع): أني ذاهب إليه فاتبع أثري، فأني أن رأيت ما أخاف عليك اعتللت بالقيام كأني أريد أريق الماء، وإن لم أر أحداً فاتبع أثري حتى تدخل حيث أدخل، ففعل ما أشار به علي (ع) ودخل في أثره على النبي (ص) فأخبره خبره وسمع قول رسول الله وأسلم، ثم قال يا رسول الله ما تأمرني، فقال النبي (ص) آمرك أن ترجع إلى قومك حتى يبلغك أمري، فقال أبو ذر: والذي نفسي بيده: لا أرجع حتى أصرخ بالإسلام في المسجد.

ثم دخل المسجد متحدياً لقريش ونادى بأعلى صوته أشهد أن لا إله الله وأن محمداً عبده ورسوله، وقام إليه المشركون وقالوا قد صبأ: وانهالوا عليه ضرباً حتى صرعوه فأتاه العباس بن عبدالمطلب وانكب عليه حتى خلصه من أيديهم وقال ما معشر قريش: إن طريقتكم في تجارتكم على قبيلة غفار، وإنهم سيقطعون الطريق عليكم إن أصبتموهم بمكروه .

وجاء في بعض المرويات عنه إنه كرر اعترافه بالإسلام ورسالة محمد بن عبدالله يوم اليوم الثاني وخلصه العباس من أيديهم كما فعل في المرة الأولى وتوعدهم هو بالانتقام لنفسه من تجارتهم التي لا بد لهم من المرور بها على غفار في طريقهم إلى الشام، ثم ودع الرسول وخرج حاقداً على قريش وغطرستها، فأقام بعسفان حتى تمر القوافل في طريقها وكما أقبلت عير لقريش فحتجزها حتى يقول لا إله الله وإن محمداً رسول الله فمن قال ذلك خلى سبيله ومضى في طريقه، ومن أبى تعرض للنكال والعقاب.

وجاء في الطبقات الكبرى لابن سعد أن أبا ذر ظل على موقفه هذا من قريش وتجارتها إلى أن هاجر الرسول (ص) إلى المدينة وكانت الحرب بينه وبين المشركين في بدر وأحد فالتحق بالرسول (ص) بعد أن أسلمت بواسطته غفار وجماعة من أسلم، ولازم أبو ذر الرسول طيلة حياته واشترك معه في أكثر مواقفه وحروبه، وظل وفياً للإسلام مخلصاً في أعماله لا يحابي أحداً مهما كانت منزلته ولونه على حساب دينه، ثائراً على الباطل وأهله صدوقاً في حديثه وإيمانه، حتى قال فيه رسول الله كلمته المشهورة بين الرواة والمحدثين. ما أظلت الخضراء و أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر.

وكان من الثائرين على المنحرفين والمستأثرين بأحوال العباد من حكام زمانه ، ولما أسرف عثمان بن عفان في عطاء مروان بن الحكم و الحارث بن الحكم بن أبي العاص و زيد بن ثابت وبذر أموال المسلمين ، وسلط الأمويين والمروانيين على رقاب الناس يعبثون في الأموال والأعراض ويتجاهرون بالمنكرات ، وأعلنها أبو ذر حرباً لا هوادة فيها وأخذ يندد بهم في المجتمعات، ويعيد إلى الأذهان قول الله سبحانه في المستهترين بأوامره .

(والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم).

وشق على أولئك العابثين بأموال العباد أن يسمعوا صوتاً يندد بأعمالهم وتصرفاتهم فشكاه مروان بن الحكم إلى عثمان بن عفان ،فأرسل إليه نائلاً مولاه ليسكت وهدده بالعقوبة أن هو استمر على موقفه فقال أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله وعيب من ترك أمر الله،فوالله لأن أرضي الله بسخط عثمان أحب إليّ من أن أسخط الله برضاه .

وشاعت مقالته هذه حتى بلغت عثمان فاستدعاه إليه وحاول إغراءه فلم يجد إلى ذلك سبيلاً ثم جلده ونفاه إلى الشام ليكون تحت رقابة معاوية وزبانيته .

وبالرغم من كل ما بذله معاوية من المغريات وما استعمله معه من أساليب العنف والإرهاب لم يتخذ موقفاً في الشام أكثر ليونة من مواقفه في المدينة، ولطالما وقف أبو ذر على رؤوس الجماهير وسيوف الحكام مسلطة فوق رأسه يقول : والله إني لأرى حقاً يطفأ وباطلاً يحيا،وصادقاً مكذباً، أثرة بغير تقى، وصالحاً مستأثراً عليه . وسرت كلمات أبي ذر و صيحاته بين الجماهير سريان النار في الهشيم، وأيقن معاوية أن بقاءه في الشام يشكل خطراً على الدولة الأموية لا يمكن تلافيه، فكتب إلى عثمان يشكوه إليه ويحذره من بقائه في تلك البلاد لأن الجماهير قد أوشكت أن تقف إلى جانبه .

فكتب إليه عثمان ، أما بعد فاذا أتاك كتابي فاحمل جندباً إليّ على أغلظ مركب ، فأرسله معاوية مع جماعة من خاصته مكبلاً وأوصاهم أن لا يرافقوا به في ليل أو نهار، فلما بلغ المدينة سقط لحم فخديه من الجهد الذي أصابه.

ولما دخل على عثمان ، قال له أنعم الله بك عيناً ياجنيدب، فقال أبو ذر : أنا جنيدب وسماني رسول الله عبد الله فاخترت اسم رسول الله على اسمي، فقال عثمان: أنت الذي تزعم أنا نقول : يد الله مغلولة، وان الله فقير ونحن أغنياء، فقال أبو ذر: لو كنتم لا تزعمون ذلك

لأنفقتم مال الله على عباده ، وإني أشهد أني سمعت رسول الله يقول : إذا بلغ بنو العاص ثلثين رجلاً جعلوا مال الله دولاً وعباده خولاً ودين دخلاً ، واشتد الحوار بينهما وأبو ذر يزداد تصلباً وتصميماً على مناهضة الظلم والطغيان والتنديد بتلك الفئة الحاكمة التي استغلت ضعف عثمان وليونته على ذويه وأتباعه المستهترين بدين الله وحقوق عباده .

ولما لم يجدوا سبيلاً لاسكاته وضع عثمان في حسابه أحد أمرين أما قتله أو نفيه ، ورأى أن قتله يجر عليهم غضب المسلمين ونقمة الجماهير لأنها تقدس أبا ذر وتعلم ما له من الصلة الأكيدة بالرسول وقد سمعوه أكثر من مرة يقرظه ويثني عليه في مختلف المناسبات .

فلا بد من نفيه عن المدن والعواصم إلى مكان مقفر من السكان ومنع الناس من زيارته والاتصال به ، وكان الأمر كذلك فاختاروا له الربذة لتكون مسكنه ومدفنه وحملوه إليها مع زوجته وابنته على كره منه، فعاش فيها ما بقي من حياته وحيداً غربياً في أرض مقفرة من السكان وحتى من الطير والوحوش إلى أن وافته منيته ويسر الله له وفداً من العراق كانوا في طريقهم لحج بيت الله فلوحت لهم زوجته فمالوا إليها وفيهم مالك الأشتر النخعي فأصيبوا بما يشبه الذهول والدهشة حينما عرفوا أن الميت هو ذلك الصحابي الجليل الذي كان الرسول يجله ويفضله على الكثيرين من أصحابه ، فتولوا تعسيله ودفنه وصدق فيه الرسول (ص) :

يا أبا ذر تعيش وحدك وتموت وحدك وتدفن وحدك

... نسألكم الدعاء ...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *