بعد أن يئس المشركون من أبي طالب، ومن جميع الوسطاء الذين سمعوا للتوفيق بينهم وبين الرسول، بعد أن يئسوا ورأوا أن الإسلام ماض في طريقه والناس يقبلون عليه يوماً بعد يوم، استقر رأيهم على أن يصعدوا حملات التعذيب والإساءة حتى لمحمد (ص) بالشتم وإلقاء الأوساخ والتراب عليه أينما وجدوه، وتعهدت أم جميل من جهتها أن تتحدى محمداً وزوجته الوفية الصادقة في بيتها المجاور لبيتها، فتلقي على باب البيت وفي طريقهما إليه ما عندها من الأوساخ والأحجار وغير ذلك بقصد الإساءة والإيذاء، وزوجها عبد العزى يتعاهده من ناحيته إذا رآه يصلي أو يسير وحده فيلقي عليه ما يجده من الفراث والدم وخلافهما.
وفي ضحوة يوم من الأيام والنبي جالس في طريق المسعى على صخرة نائية يتأمل ويفكر على عادته، وجاريتان لعبد اللّه بن جدعان ولصفية بنت عبد المطلب يتسامران في مكان مطل عليه، وإذا بالحكم بن هشام وهو منحدر إلى البيت يميل إليه فيشتمه ويسخر منه والسفهاء من حوله يتضاحكون، ونظر محمد (ص) إلى أبي جهل وإلى الذين وقفوا من حوله يتضاحكون ويهزؤون وشكاهم بينه وبين نفسه إلى اللّه، ولم يكتف الحكم بذلك فأخذ حفنة من التراب ووضعها على رأسه، ورأت صفية ومولاة ابن جدعان كل ذلك ورقا له وعز عليهما أن يلقي كل ذلك ومع أنهما لم يؤمنا بمحمد بعد فقد غاظهما أنهما لا تستطيعان الدفاع عنه، ونظرت كل واحدة منهما إلى الأخرى والغيظ والأسى باد عليهما ومضتا في طريقهما تتعثران في سيرهما، وما هي إلا خطوات وإذا بالحمزة يقبل من ناحية الجبل وقد عاد من صيده وقوسه في يده متجهاً نحو البيت والناس ينظرون إليه بإكبار وإعجاب، فأقبلتا عليه وابتدرته مولاة ابن جدعان قائلة وصوتها يتقطع من الغيظ، يا أبا عمارة لو رأيت مالقي ابن أخيك محمد من الحكم بن هشام، فقال لها وماذا لقي منه؟ قالت وجده ههنا جالساً فآذاه وسبه وبلغ منه ما يكره، ثم صمتت كأنها لم تعد تملك أن تتكلم من شدة الدهشة، ومضى حمزة يتيم والغضب باد عليه، واعترضته مولاة صفية، فقالت: يا أبا عمارة لقد صب على رأسه التراب، فقال لها حمزة: أنت رأيت ذلك منه؟ قالت نعم، وانطلق الحمزة مغضباً نحو البيت ينحدر كما تنحدر الصخور من الأعالي لا يكلم أحداً ولا يسلم على أحد ودخل المسجد ينظر في وجوه الناس ليرى الحكم بن هشام فرآه جالساً في وسط القوم فاتجه نحوه حتى إذا كان على رأسه، فالتفت إليه الحكم ورآه يرتعد من الغضب فذعر منه، ثم جذب ثوبه، وقال يا أبا عمارة لقد سفه عقولنا وسب آلهتنا وخالف آباءنا.
فقال له الحمزة: ومن أسفه منكم وأنتم تعبدون الحجارة من دون اللّه؟ ثم رفع قوسه وضربه به على رأسه ضربة شجته شجة منكرة، وصرخ فيه صرخة انخلع لها قلبه وقلوب الناس، ثم رد على ذلك أن استطعت فأنا أشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً عبده ورسوله، أتشتمه وأنا على دينه؟
وهب رجال من مخزوم لينصروا أبا جهل، وقالوا لحمزة أنك قد صبأت، ورد عليهم الحمزة بقوله: وما يمنعني من ذلك وقد استبان لي منه أنه رسول اللّه جاء بالحق من عند اللّه فامنعوني إن كنتم صادقين، فقال لهم أبو جهل: دعوا أبا عمارة فإني واللّه استمعت ابن أخيه شيئاً يكرهه، ولم يكن أبو جهل ليطأطىء رأسه للمهانة تصيبه في جسمه ونفسه لو لم يكن على يقين بأن حمزة قادر على أن يقهر هؤلاء الرجال الذين تعصبوا له، ورأى أن يصبر ويكف أصحابه حتى لا يوجه إليه الحمزة ومضى هو مزهواً إلى محمد(ص) بعد أن قهر قريشاً يعانقه والدموع تتساقط من عينيه ويقول أشهد أنك رسول اللّه.
وزلزل هذا الحادث قريشاً وأقض مضاجعهم، لا لأن الحمزة قد ضرب أبا جهل وشجه جزاء لما قدمت يداه، بل لأن إسلام الحمزة الذي أعقب هذا الحادث قد منح محمداً وأتباعه شعوراً بالعزة والمنعة والقوة ما كان هذا الشعور ليحصل لو أسلم غيره مائة من الناس.
وأصبح الذين كانوا قد اعتنقوا الإسلام وتستروا في إسلامهم يتجاهرون به بلا حذر أو خوف بعد إسلام الحمزة، وأقبل على الإسلام جماعة من بني هاشم وبني عبد المطلب يدخلون فيه واحداً بعد واحد حتى أصبح أتباع محمد(ص) قوة يخشاهم المشركون، ولكن قريشاً وقد فشلت في جميع محاولاتها ومشاوراتها مع أبي طالب وغيره قد أجمعت إلى السير في طريقها المناهض لدعوة النبي.
وتشاوروا يوماً في أمره، فقال لهم أبو جهل أن محمداً قد أبى إلا ما ترون ولم يعد لنا من سبيل للحد من نشاطه إلا بالتضحية والمغامرات وإني أعاهدكم أني لأجلسن له غداً في مكان، فإذا جاء كعادته وقام يصلي لربه أخذت حجراً كبيراً وألقيته على رأسه، فلما أصبح أخذ حجراً كبيراً وجلس ينتظر رسول اللّه(ص) وجلست قريش في أنديتها تنتظر ما سيكون من أمره، فلما جاء النبي(ص) ووقف ليصلي، وكانت وجهته في صلاته يوم ذاك بيت المقدس، يصلي بين الركن اليماني والحجر الأسود، فلما شرع في صلاته قام أبو جهل وأخذ الحجر وانتظر سجود النبي لينفذ خطته، فما كان منه إلا أن رجع إليهم مضطرباً خائفاً، فقالوا له ما لك يا أبا جهل: فقال لما هممت بإلقاء الحجر عليه عرض لي دونه فحل من الابل ما رأيت مثل هامته ولا أنيابه فحلا قط قد أقبل علي وهم أن يأكلني ففررت منه.
وكانت قريش ترى أن قتل الرسول سيكلفها كثيراً لأن بني هاشم ومن يتصل بهم بأواصر القربى قد وقفوا إلى جانب محمد(ص) مشركهم ومؤمنهم وتعاقدوا على مقاومة كل من يحاول الاعتداء على حياته.
وحدث في بعض الأيام أن أبا طالب (ع) قد فقده في الأمكنة التي كان يأوي إليها فلم يقف له على خبر، فجمع أبو طالب فتيان بني هاشم وقال لهم: ليأخذ كل واحد منكم حديدة صارمة واتبعوني فإذا دخلت المسجد فليجلس كل واحد منكم إلى جانب عظيم من عظمائهم وليقتله إذا كان محمد قد قتل ففعلوا ما أمرهم به.
وقبل تنفيذ الخطة التي أعدها للانتقام من قريش جاءه زيد بن حارثة وأخبره بسلامة النبي، ولما أصبح أخذ بيد النبي ووقف به على أندية قريش ومعه فتيان بني هاشم وأخبرهم بما كان يريد أن يفعل لو أنهم أصابوا محمداً بسوء، وأراهم السلاح الذي أعده لهذه الغاية، فانكسر القوم وكان أشدهم انكساراً أبو جهل على حد تعبير الراوي.
وجاء في تاريخ اليعقوبي، أن العاص بن وائل السهمي والحارث بن قيس بن عدي السهمي، والأسود بن المطلب بن أسد، والوليد بن المغيرة المخزومي، والأسود بن يغوث الزهري كانوا يحرضون صبيانهم وغلمانهم عليه، فيلقونه بما لا يحب، حتى أنهم نحروا جزورا ًورسول اللّه (ص) قائم يصلي فأمروا غلاماً لهم فحمل السلا والفراث ووضعه بين كتفيه وهو ساجد، فأتى أبا طالب وقال له: كيف موضعي فيكم قال وما ذاك يا ابن أخي، فأخبره بما صنعوا به، فقام أبو طالب من ساعته مشتملاً سيفه ومعه غلام له فاخترط السيف وقال واللّه لا يتكلم رجل منكم إلا ضربته، ثم أمر غلامه فأخذ السلا والفراث ووضعها على وجوههم واحداً واحداً، فقالوا حسبك هذا يا أبا طالب.