بعد تلك الغزوات المتتالية والانتصارات التي حققها المسلمون بقيادة النبي (ص) وبعد النكسات التي أصابتهم في أحد والرجيع والبعث المؤلف من أربعين أو سبعين رجلاً إلى نجد بناءا لطلب أحد زعمائها عامر بن مالك المعروف بملاعب الأسنة ظل المسلمون يعيشون في جو يسيطر عليه الخوف والحذر من حملة واسعة تشترك فيها قريش بعد ما منيت بما يشبه الهزيمة في بدر الموعد، تشترك فيها مع غطفان وهذيل والقبائل المتاخمة لحدود الشام، ويهود بني قينقاع والنضير الذين أجلاهم النبي (ص) عن المدينة وشردهم في الآفاق، وأصبحوا يتربصون به وأصحابه ويودون لو يتاح لم واو بأغلى الأثمان أن يدركوا ثأرهم منه.
أن محمداً الذي فر من مكة مع أتباعه، وأصبح في بضع سنين مرهوب الجانب يهدد الجزيرة بكاملها، ويمني قومه بأنهم سيحكمونها مع بلاد الفرس والرومان في المستقبل القريب وقريش تعرف كل ذلك وتهزها أخباره أكثر من جميع العرب واليهود، وهي التي وقفت في طريقه منذ أن أعلن دعوته وظلت تكافحه وتطارده طيلة ثلاثة عشر عاماً حتى هاجر لينجو من الموت الذي اختارته له.
وما عيها بعد أن أعياها إلا أن تمد يدها إلى الأعراب واليهود في مختلف أنحاء الجزيرة عساهم أن اتفقوا عليه وهاجموه في البلد الذي آواه ونصره، أن يدركوا ثأرهم منه ومن أتباعه في أيام معدودات. وتطوع اليهود في بادىء الأمر للقيام بتأليب الناس عليه وجمعهم لمهاجمته في المدينة في حين أن هذه الفكرة كانت ترواد قريشاً وغيرها من العرب ولكنها شكرت لهم هذه البادرة وباركت جهودهم في هذا السبيل بعد أن جمعتهم الغاية ووحدت بينهم الأهداف.
فقد جاء في كتب السيرة والتاريخ أنه في شهر شوال من السنة الخامسة لهجرة النبي (ص) اتفقت قريش وجماعة من الأعراب واليهود على غزو محمد في المدينة.
وكان من أمرهم أن جماعة من زعماء يهود بني النضير الذين أجلاهم النبي (ص) عن المدينة وصادر بعض ممتلكاتهم منهم سلام بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب، وكنانة بن أبي الحقيق وهوذة بن قيس الوائلي وجماعة غيرهم وفدوا على قريش في مكة وحرضوهم على حرب المسلمين ووعدهم بأن يكونوا معهم حتى يستأصلوا النبي (ص) وأصحابه، فقالت لهم قريش: يا معشر اليهود أنكم أهل الكتاب الأول وتعلمون بما أصحبنا عليه نحن ومحمد، ونحن نسألكم أديننا خير أم دينه، فقالوا: بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق مه وبهذه المناسبة نزلت الآية.
{ألم ترى إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا*أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا}(النساء51_52)
ولما سمعت قريش من اليهود ذلك استبشرت وطمعت بهذا التكتل الجديد أن يحقق لها النصر النهائي على محمد وأتباعه وتواعدهم وإياهم على حربه عندما يتيسر لهم من العرب من يناصرهم عليه.
ولم يكتف اليهود بتفضيل الوثنية على التوحيد الذي يدعو إليه محمد وجميع الأديان السماوية بما في ذلك اليهودية، لم يكتفوا بذلك بل ذهبوا يتجولون بين الأعراب ويحرضون على حرب محمد ويخوفوهم منه ومن أتباعه إن استتب لهم الأمر،وذكروا لهم ما دار بينهم وبين قريش، وما تم عليه الإتفاق من غزو المدينة بأكبر عدد ممكن لا يمكن للمسلمين أن يواجهوه مهما بلغوا من القوة والبأس، وتيسر لهؤلاء أن يستنفروا أكبر عدد من الأعراب لمساندتهم وفي الموعد المعين لخروجهم خرجت قريش بقيادة أبي سفيان في أربعة آلاف مقاتل، بينهم ثلاثة آلاف فارس، وعقدوا لواءهم في دار الندوة وأعطوه إلى عثمان بن طلحة وقادوا معهم ألفاً وخمسمائة بعير، وخرج من بني سليم سبعمائة بقيادة سفيان بن شمس حليف حرب بن أمية وخرج معهم بنو أسد وفزارة في ألف مقاتل بقيادة عيينة بن حصن، وخرج معهم من أشجع وبني مرة بن عوف وغيرهم عدد كبير حتى بلغ مجموعهم أكثر من عشرة آلاف مقاتل.
وبلغ خبرهم رسول الله (ص) عن طريق جماعة من خزاعة وفدوا عليه وأخبروه بالتجمع الذي أعدته قريش وأحلافها من العرب واليهود لغزوه، فجمع النبي (ص) جماعة من أصحابه وأخبرهم بما اجتمعت عليه قريش وأحلافها وحثهم على الجهاد والاستعداد لمقابلة الغزاة واستشارهم فيما يجب أن يتخذه لمنعهم من دخول المدينة، فأشار عليه سلمان الفارسي بأن يحفر خندقاً من الجهة التي يمكن للمشركين أن يدخلوا منها، وقال له: يا رسول الله (ص) كنا بفارس إذا حوصرنا حفرنا خندقاً يحول بيننا وبين عدونا، فاستحسن النبي (ص) وأصحابه هذا الرأي وأمر بحفره، وبهذه المناسبة اجتمع المهاجرون والأنصار بسلمان الفارسي وكل يقول: سلمان منا، فقال النبي (ص): سلمان منا أهل البيت كما جاء في تاريخ الطبري.
ثم أن النبي (ص) حدد لكل عشرة من المسلمين أن يحفروا لأربعين ذراعاً، وكان هو كأحدهم يحفر بيده ويجهد نفسه بالعمل وواصل المسلمون عملهم بإخلاص ونشاط إذا استثنينا جماعة ممن تظاهروا بالإسلام وأبطنوا الغدر والنفاق كانوا يتسللون إلى بيوتهم ومنهم من يأتي إلى النبي (ص) يطلب الإذن وتذرع بأسباب لا تمت إلى الواقع بصلة ويدعون بأن بيوتهم مكشوفة إلى الغزاة ومعرضة للإحتلال.
{يقولون ان بيوتنا عورة وما هي بعروة إن يريدون إلا فراراً}
ومضى المخلصون يعملون ليلاً ونهاراً لا يتركون العمل إلا لأسباب قارهة، ثم يعودون إلى عملهم، وبهذه المناسبة أنزل الله على النبي (ص) الآيات التالية:
{إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله* فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فائذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم* لا تجلعوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً ليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}.
وجاء في كتب السيرة أنه بينما كان سلمان مع تسعة يحفرون في المساحة التي يحددها الرسول لهم، وإذا بصخرة بيضاء قد اعترضهم وهم يحفرون فأعجزهم ولم تصنع بها المعاول شيئاً، فقالوا لسلمان اذهب إلى رسول الله (ص) فأعجزهم بذلك فلعله يأمرنا بالعدول عنها، فإنا لا نريد أن نتخطى أمره.
ولما أخبره بذلك أقبل عليهم وهبط بنفسه إلى الخندق وأخذ المعول من سلمان وضرب الصخرة ضربة صدعتها وخرج منها بريق أضاء أجواء المدينة صدعتها وخرج منها بريق أضاء أجواء المدينة صدعتها وخرج منها بريق أضاء أجواء المدينة صدعتها وخرج منها بريق أضاء أجواء المدينة صدعتها وخرج منها بريق أضاء أجواء المدينة صدعتها وخرج منها بريق أضاء أجواء المدينة صدعتها وخرج منها بريق أضاء أجواء المدينة صدعتها وخرج منها بريق أضاء أجواء المدينة صدعتها وخرج منها بريق أضاء أجواء المدينة حتى لكأنها مصباح في بيت مظلم على حد تعبير الرواي فكبر رسول الله (ص)، ثم ضربها ضربة ثانية فتصدعت وخرج منها نفس البريق الأول وفي الضربة الثالثة تكسرت وظهر لها بريق أضاء ما وراء المدينة، فكبر رسول الله (ص) وأشرقت نفسه الكبيرة للنصر المؤمل في النهاية، ثم أخذ بيده سلمان وصعد من الخندق، فقال له بأبي وأمي أنت يا رسول الله (ص) لقد رأيت شيئاً ما رأيته قط، فالتفت رسول الله (ص) إلى القوم وقال: هل رأيتم ما يقول سلمان؟ فقالوا نعم يا رسول الله (ص) (ص) بأبينا أنت وأمنا لقد رأيناك تضرب فيخرج البريق كالموج فرأيناك تكبر فكبرنا وأم نر غير ذلك، قال صدقتم لقد أضاءت لي في البرقة الأولى قصور الحيرة ومدائن كسرى وأخبرني جبرائيل بأن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت الثانية فأضاءت لي قصور الحمر من أرض الروم، واخبرني جبرائيل بأن أمتي ظاهرة عليها، وفي الضربة الثالثة أضاءت لي قصور صنعاء وأخبرني جبرائيل بأن أمتي ظاهرة عليها فاستبشر المسلمون بذلك.
وقال المنفقون حينما سمعوا بذلك ألا تعجبون من محمد يحدثكم ويمنيكم ويخبركم بأنه يبصر من يثرب قصور الحيرة وصنعاء ومدائن كسرى وأنتم تحفرون خندقاً ليحول بينكم وبين أعدائكم واحدنا اليوم لا يأمن أن يذهب لقضاء حاجته فنزلت الآية:
ولقد بححت من النداء | بجمعكم هل من مبارز |
إني كذلك لم أزل | متسرعاً نحو الهزاهز |
أن الشجاعة في الفتى | والجود من خير الغرائز |
والنبي يلتفت يمنة ويسرة ويدعو المسلمين إلى مبارزته فلم يستجب له أحد، فقام علي (ع) إلى النبي (ص) وقال أنا له يا رسول الله (ص) والنبي ويقول له اجلس إنه عمرو، فقال علي وإن كان، فأذن له وأعطاه سيفه الفقار وألبسه درعه وعممه بعمامته وقال كما جاء في بعض المرويات: اللهم إنك قد تذرني فرداً وأنت خير الوارثين فبرز إليه علي وهو يقول:
لا تعجلن فقد أتاك مجيب صوتك غير عاجز |
ذونية وبصيرة والصدق منجي كل فائز |
إني لأرجو أن أقيم عليك نائحة الجنائز |
من ضربة نجلاء يبقى صيتها بعد الهزاهز |
وقال النبي (ص) لما برز له علي (ع) برز الإيمان كله إلى الشرك كه كما جاء في شرح النهج المجلد الرابع ص344.
ولما تقابلا قال له عمرو من أنت، قال أنا علي بن أبي طالب، فقال ليبرز إلي غيرك يا ابن أخي من أعمامك من هو أشد منك، فإني أكره أن أقتلك لأن أباك كان صديقاً ونديماً لي في الجاهلية.
وجاء في شرح النهج أن شيخنا أبا الخير مصدق بن شبيب النحوي كان يقول إذا أمرونا في القراءة عليه إلى هذا الموضع: والله ما أمره بالرجوع إبقاء عليه كما يدعي، بل خوفاً منه، فلقد عرف قتلاه في بدر وأحد وعلم إنه إن ناهضه قتله فاستحيا أن يظهر الفشل فأظهر الإبقاء والإرعاء وإنه لكاذب فيهما.
وأضاف المؤلفون في السيرة أن علياً قال له لكني أن أقتلك، فقال يا ابن أخي إني لأكره أن أقتل الرجل الكريم مثلك فارجع وراءك خير لك، فقال له علي (ع) أن قريشاً تتحدث عنك إنك تقول: لا يدعوني أحد إلى خلتين إلا أخذت واحدة منهما، وفي رواية ثانية إلى ثلاث إلا أجبت لو إلى واحدة منها قال أجل، فقال له علي: فإني أدعوك إلى البراز فقال إني لا أحب إن أقتلك فقال له علي ولكني أحب أن أقتلك فأخذه الحماس عندئذ واقتحم عن فرسه وعقره، ثم أقبل على علي (ع) فتنازلا وتجاولا فضربه عمرو بسيفه فاتقاه علي بدرقته فأثبت فيها السيف وأصاب رأسه كما جاء في بعض المرويات، فضربه علي على حبل عاتقه فسقط يخور بدمه.
وجاء في بعض المؤلفات في السيرة عن جابر بن عبدالله الأنصاري إنه قال: كنت قد تبعت علياً لأنظر ما يكون من أمره، ولما ضربه علي ثارت غبرة شديدة حالت بيني وبينهما غير إني سمعت تكبيراً فكبر المسلمون عند ذلك، فعلمنا أن علياً قد قتله، وأنجلت الغبرة عنهما فإذا علي على صدره يحز رأسه وفر أصحابه ليعبروا الخندق فرماه المسلمون بالحجارة، فقال يا معشر المسلمين قتلة أكرم من هذه: فنزل إليه علي فقتله.
وجاء في سيرة ابن هشام عن الزهري إنه كان مع عمرو بن ود إبنه مسحل بن عمرو بن ود فقتله علي (ع)، ولحق علي بهبيرة بن أبي وهب وكان علي راجلاً وهبيرة فارساً فضربه بالسيف فأصاب قربوس سرجه فسقطت درعه وانهزم عكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب، وأصيب منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بسهم فمات منه بمكة كماء جاء في رواية الطبري.
وفي سيرة ابن اسحاق أن المشركين بعثوا إلى رسول الله (ص) يعرضون عليه عشرة آلاف درهم في مقابل جثة عمرو بن ود فقال لهم لا حاجة لنا بها وإنا لا نأخذ ثمن الموتى، وقيل إن العرض كان في مقابل جثة نوفل بن عبدالله بن المغيرة.
وفي الإرشاد وغيره عن محمد بن اسحاق إنه قال: لما قتل علي (ع) عمرو بن ود وأقبل نحو رسول الله (ص) ووجهه يتهلل، فقال له عمر بن الخطاب: هلا سلبته درعه فإنه ليس في العرب درع مثلها، فقال إني استحييت إن كشف سوءته.
وفي شرح النهج إن مبارزة علي لعمرو بن ود يوم الخندق أعظم من أن يقال عنها عظيمة وأجل من أن يقال عنها جليلة وما هي إلا كما قال شيخنا أبو الهديل وقد سأله سائل أيما أعظم منزلة عند الله علي أم أبو بكر، فقال يا ابن أخي: والله لمبارزة علي عمراً يوم الخندق تعدل أعمال المهاجرين والأنصار وطاعاتهم كلها وتربي عليها فضلاً عن أبي بكر وحده.
وفي المجلد الاني من فضائل الخمسة من الصحاح الستة عن المجلد الثاني من مستدرك الصحيحين عن سيفان الثوري بسنده عن النبي (ص) إنه قال: لمبارزة علي ابن أبي طالب لعمرو بن ود يوم الخندق أفضل أعمال أمتي إلى يوم القيامة ورواه الخطيب البغدادي في تاريخه ص13ص19.
وذكر هذا الحديث بنصه الحرفي الرازي ي تفسيره الكبير في الجزء الأخير خلال حديثه عن ليلة القدر وفضلها.
وجاء في الدر المنثور للسيوطي في تفسير قوله تعالى: {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال}، وجال فيه عن ابن أبي حاتم وإبن مردويه وإبن عساكر إن الله كفى المؤمنين القتال بعلي (ع).
وجاء في شرح النهج عن قيس بن الربيع بسنده إلى ربيعة بن مالك السعدي إنه قال: أتيت حذيفة بن اليمان فقلت يا عبدالله إن الناس يتحدثون عن علي ابن أبي طالب ومناقبه، فيقول لهم أهل البصرة أنكم لتفرطون في تقريظ هذا الرجل، فهل أنت محدثي بحديث عنه أذكره للناس فقال ربيعة وما الذي تسألني عن علي، وما الذي أحدثك عنه، والذي نفس حذيفة بيده لو وضعت جميع أعمال أمة محمد في كفة الميزان منذ بعث الله محمداً إلى يوم الناس هذا ووضع عمل واحد ممن أعمال علي في الكفة الأخرى لرجح على أعمالهم كلها.
قال ربيعة هذا المدح الذي لا يقام له ولا يقعد ولا يحمل وأين كان المسلمون يوم الخندق وقد عبر إليهم عمرو وأصحابه فملكهم الهلع والجزع ودعاهم إلى المبارزة فأحجموا عنه حتى برز إليه علي فقتله، والذي نفس حذيفة بيده لعلمه ذلك اليوم أعظم أجراً من أعمال أمة محمد إلى هذا اليوم، وإلى أن تقوم الساعة.
وفي رواية ثانية أنه قال يا لكع وكيف لا يحمل هذا المدح، وأين كان فلان وفلان وحذيفة وجميع أصحاب محمد (ص).
ولما نعي إلى أخته عمرة قالت من قتله، من الذي تجرأ عليه، قيل لها علي بن أبي طالب قالت لقد قتل الأبطال وبارز الأقران وكانت ميتته على يد كفء من قومه ثم أنشأت تقول:
لو كان عمرو غير قاتله | لكنت أبكي عليه دائم الأبد |
لكن قاتله من لا يعاب به | قد كان يدعى أبوه بيضة البلد |
من هاشم في ذراها وهي صاعدة | إلى السماء تميت الناس بالحسد |
قوم أبى الله إلا أن يكون لهم | كرامة الدين والدنيا بلا لدد |
يا أم كثلوم أبكيه ولا تدعي | بكاء معولة حرى على ولد |
وع هذه الضربة القاسية التي لم تكن قريش وأحلافها تنتظرها فقد بقي الغزاة على مواقفهم، وتأزمت الأمور على المسلمين بعد أن نقض بنو قريظة العهد وانحازوا إلى جانب المشركين، وخاف المسلمون أن يهاجموهم من حصونهم، وقد بدأوا يتسللون إلى المرتفعات التي فيها النساء.
فقد حدث يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير عن أبيه أنه قال: كانت صفية بنت عبدالمطلب في فارع حصن حسان بن ثابت وكان حسان مع النساء والأطفال، وقالت صفية فمر بنا رجل من اليهود وجعل يطوف بالحصن وقريظة قد قطعت ما بينها وبين رسول الله (ص) من العهد وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا ورسول الله والمسلمون في مقابل عدوهم، والعدو كاد أن يحيط بالمدينة من جميع جهاتها لا سيما بعد أنضم بنو قريظة إليهم وهم أعرف بالثغرات التي تمكنهم من التغلغل في شوارع المدينة وتنفذ بهم إلى مسجد الرسول وبيته، وأدركت صفية أن اليهودي ربما يكون عيناً لقومه بني قريظة ليجد منفذاً إلى حصون النساء يدلهم عليه النبي (ص) ومن معه في شغل عنهم بتلك الحشود الهائلة التي تصول وتجول لتجد منفذاً للهجوم الشامل.
لقد أدركت صفية خطر هذا اليهودي الذي تلصص حول حصون النساء فقالت: يا حسان أن هذا اليهودي كما ترى يطوف حول حصوننا وإني والله آمنه أن يدل على عوراتنا من وراءنا ورسول الله في شغل عنا بمن أحاط به من المشركين، فأنزل إليه وأقتله، فقال يغفر الله لك يا ابنة عبدالمطلب، والله إنك لتعلمين إني لست بصاحب هذا الأمر، قال صفية فلما سمعت منه ذلك ويئست من خيره شددت وسطي بثوب كان علي وأخذت عموداً ونزلت إليه من الحصن فضربته بالعمود حتى قتلته، فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن، وقلت له يا حسان انزل إليه فأسلبه، فإنه لا يمنعني من سلبه إلا رجل، فقال ما لي بسلبه من حاجة يا بنت عبدالمطلب.
وظل الحصار مضروباً على المدينة وفي كثي من المرويات أن بعض كتائب المشركين تسللت من جهة بني قريظة إلى داخل المدينة فدافعهم المسملون فيها وثبت المؤمنون الصادقون يحدوهم الأمل بنصر الله سبحانه كما وعدهم الرسول وأنزل الله فيهم قوله:
{ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا أيماناً وتسليماً}(الأحزاب22).
وأما المنافقون وضعاف الإيمان من المهاجرين والأنصار فقد استغلوا تلك الأزمة للتضليل والتشكيك وجعلوا يتندرون بما كان النبي (ص) قد وعدهم به من دخول مكة فاتحين واحتلال قصور كسرى وقيصر فأنزل الله فيهم قوله:
{وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً}.
وظل النبي (ص) يفكر ويعمل للخلاص من تلك الأزمة التي لم يعرف لها المسلمون نظيراً من قبل، ولكنه لم يفكر في الإشتباك الشامل مع المشركين ولا وضعه في حسابه إلا إذا اضطروه إليه، لأن الحشود التي تجمعت وتكالبت قد أثرت إلى حد ما على معنويات المسلمين وأصبح من الصعب أن يثبتوا لهم، لا سيما وأن يهود بن قريظة قد انظموا إلى الغزاة وأصبحوا يهددون المدينة من الداخل، ففكر أولاً أن يصانع غطفان ومن معها بشيء من ثمار المدينة كما ذكرنا، ووجد من غطفان استعداداً لذلك، ولكنه لم يكن ليعقد اتفاقاً من هذا النوع، مع ما له من الفوائد بدون موافقة أصحاب تلك الثمار، لأن ثمار المدينة لأهلها، وما كان ليستبد عليهم في أموالهم، وبعد أن عرض الفكرة على زعيمي الأوس والخزرج لم يجد منهما استجابة لطلبة كما ذكرنا من قبل.
وفيما هو يفكر في عمل يخفف من حدة الموقف ويؤدي إلى تشتيت القوم وبعث الخلاف بينهم، وإذا بنعيم بن مسعود بن عامر ينسل من بين المهاجمين ويأتي النبي (ص) ليقول له أني أسلمن وآمنت برسالتك يا رسول الله (ص)، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت فوجد رسول الله (ص) أن يوجهه ليبث روح التفرقة بين القوم، ما داموا يحترمون رأيه ويعتقدون بإنه منهم، فقال له: إنما أنت رجل واحد فخذل عنا ما استطعت فإن الحرب خدعة.
فخرج نعيم بن مسعود حتى انتهى إلى بني قريظة وكان لهم نديماً من قبل، فقال لهم: يا بني قريظة لقد عرفتم ودي لكم وصلتي بكم، فقالوا قل ما تريد فلست عندنا بمتهم، فقال لهم أن قريشاً و غطفان ليسوا كأنتم البلد بلدكم وفيه أموالكم وأولاكم ونساؤكم ومن الصعب عليكم أن تتحولوا لغيره، أما قريش و غطفان فقد جاؤوا لحرب محمد وأصحابه فذاك ما يريدون، وإن عجزوا رجعوا إلى بلادهم وخلوا بينكم وبينه، ولا طاقة لكم به أن خلا بكم، وأرى لكم أن لا تقاتلوا مع القوم إلا أن تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم يكونوا بأيديكم وعندها يضطرون أن لا يتخلوا عنكم ويرجعوا إلى بلادهم.
واقتنعت قريظة بهذا الرأي وقالوا له لقد أرت بالصواب، ثم خرج وأتى قريشاً فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمداً، وقد بلغني أمر رأيت علي حقاً أن أبلغكموه فاكتموه علي، فقالوا لك ذلك، قال بلغني أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا بينهم وبين محمد وقد أرسلوا إليه بذلك وعرضوا عليه أن يأخذوا رجالاً منكم ومن غطفان ويسلموه إياهم وليضرب أعناقهم ثم ينحازوا معه حتى يستأصلوكم، فأجابهم هو لذلك، فإن بعث إليكم اليهود يلتمسون منكم رهناً من رجالكم فلا تسلموا لهم أحداً.
وخرج إلى غطفان وقال: يا معشر غطفان أنتم وأهلي وعشيرتي واجب الناي إلي، ولا أراكم تتهمونني في شيء، فقالوا أنت لست بمتهم عندنا، ثم قال لهم ما قاله لقريش وحذرهم من اليهود وغدرهم بهم، واستطاع أن يشحن جو قريش وغطفان بالشك والريب في يهود بن قريظة.
وجاء في كتب السيرة أنه لما كانت ليلة السبت من شوال أرسل أبو سفيان رؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن ابي جهل ومعه جماعة من قريش وغطفان فقالوا لهم أنا لسنا بدار مقام، وقد هلك الخف والحافر فاستعدوا للقتال حتى نناجز محمداً ونفرغ مما بيننا وبينه، فأرسلوا إليهم أن اليوم السبت ونحن لا نعمل فيه شيئاً، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثاً فأصابه ما لم يخف عليكم، ولسنا مع ذلك نقاتل معكم محمداً حتى تعطونا رهناً يكون بأيدينا لنطمئن بأنكم ستقاتلونه إلى النهاية فأنا نخشى أن ضرستكم الحرب واشتد عليكم القتال أن تسرعوا إلى بلادكم وتتركونا وإياه وهو في بلدنا ولا طاقة لنا به وحدنا.
فرجع عكرمة ومن معه إلى قريش غطفان وأخبروهما بمقالة القوم، فقالوا عند ذلك صدق نعيم بما حدثنا بهن فأرسوا إليهم أنا لا ندفع لكم رجلاً واحداً من رجالنا فإن كنتم تريدون القتال فأخرجوا لنقاتله غداً واصر كلمن الطرفين على موقفه ورفض اليهود أن يتعاونوا معهم إلا إذا دفعوا لهم الرهائن.
وصمم أبو سفيان ومن معه من غطفان على أن يناجزوا محمداً في صبيحة يومهم التالي بعد أن يئسوا من بني قريظة، وكانت قبلها تحصل مناوشات بين الطرفين بالنبال والسهام، فلما كان الليل عصفت ريح شديدة هو جاء مصحوبة بأمطار وصواعق لا عهد لأحد منهم بها وظلت العواصف والأمطار تشتد حتى اقتلعت خيامهم وكفأت قدروهم وداخلهم من الرعب والخوف ما لم يعهدوه في تاريخهم الطويل، وخيل إليهم أن المسلمين سينتهزون هذه الفرصة للوثبة عليهم والتنكيل بهم.
فقام طلحة بن خويلد ونادى أن محمداً قد بدأكم بالشر فالنجاة النجاة، وقال أبو سفيان: يا معشر قريش أنكم والله ما اجتمعتم بدار مقام لقد هلك الكراع والخف واخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم ما نكره وقد ولقينا من شدة الريح ما ترون فارتحلوا فإني راحل الساعة فأسرع القوم والعواصف تبعث بخيامهم أمتعتهم واستخلفوا ما أمكنهم حمله في تلك الحالة من استولى عليهم الخوف والرعب ولم يعد طمع بالنجاة بأنفسهم تاركين الكثير من أمتعتهم حيث كانوا.
وجاء في كتب التاريخ والسيرة عن حذيفة بن اليمان أن رسول الله (ص) قد دعا عليهم وسأل الله سبحانه أن يكشف عنه ما أحاط به من بلاء ويصرف عنه شرهم، ولما أحس أن القوم يتحركون مذروعين ألتفت إلى المسلمين وقال من منكم يذهب إليهم وينظر لنا ما فعلوا وأنا أضمن له أن يكون رفيقي في الجنة، فلم يقم أحد، فدعاني رسول الله (ص) لذلك، فلم أجد أبداً من تنفيذ أمره، فقمت وذهبت إلى القوم ودخلت بينهم والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل وهم يستعدون للإنصراف فما زلت بينهم حتى انصرفوا فرجعت وأخبرت رسول الله (ص) بحالهم فحمد الله سبحانه وإلى ذلك تشير الآية:
{يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا} (الأحزاب9).
رجع النبي (ص) ومعه أصحابه إلى المدينة بعد أن وقفوا في وجه الغزاة أكثر من عشرين يوماً ليلاً ونهاراً قد أعياهم الجوع والسهر والخوف من تسلط العدو عن نسائهم وذرايتهم تمنوا أن يخلدوا إلى الراحة ولو أياماً قليلة بعد تلك الغزوة الطويلة التي لم يسبق للمسلمين وحتى ليثرب في تاريخها الطويل أن عانت ما عانته في تلك الأيام من الخوف والقلق والجوع كما ذكرنا، وقد أوجز الله سبحانه حالتهم بالآية التالية:
{إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم و إذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون*هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً} (الأحزاب 10-11).
لقد تمنى المسلمون بعد تلك الجهود المضنية لو يتاح لهم أن يخلدوا إلى الراحة ولو بضعة أيام، ولكن أنى لهم الراحة والاطمئنان على مصيرهم واليهود الذين أغروا قريشاً وغطفان وغيرهما من الأعراب بالوقوف إلى جانبهم في ذلك الغزو الذي كاد أن يقضي على المسلمين لولا العناية الإلهية التي وفرت للمشركين أسباب الهزيمة وبدت طلائعها ابتداء من قتل علي (ع) لعمر بن ود العامري ونوفل بن عبدالله وفرار من معهما من الأبطال الذين استطاعوا عبور الخندق، والتدابير الحكيمة التي اتخذها النبي (ص) بواسطة نعيم بن مسعود لتشتيت أمرهم وتمزيق وحدتهم، وانتهاء بتلك العواصف والصواعق والأمطار التي سدت عليهم جميع المنافذ ولم تترك لهم مجالاً للاستقرار والبقاء ولا أملاً بالسلامة، وامتلأت قلوبهم من الخوف والرعب.
هؤلاء الذين ساهموا في حشد تلك الألوف وانضموا إليهم متجاهلين معاداتهم للنبي وعهودهم التي قطعوها على أنفسهم بالوفاء لجميع بنوها، هؤلاء لا يزالون إلى جانبهم في المدينة ونفوسهم لا تنطوي على غير المكر والغدر واخداع وسيمثلون بالغد القريب نفس الدور الذي الدور مثلوه بالأمس مع قريش وأحلافها من الأعراب في غير ذلك الفصل الذي حدثت في تلك الأحداث التي روعت المشركين وزعزت جميع آمالهم وأهدافهم.
ولو أفترضنا أن النبي (ص) جدد لبعهد معهم في تلك الفترة، فما الذي يمنعهم من نقضه والخروج عليه مرة ثانية كما فعلوا بالأمس، في حين أنهم لم يجدوا منه إلا الصدق والوفاء كما أعترف بذلك زعيمهم حينما دعاه حبي بن خطب للاشتراك مع الغزاة كما ذكرنا.
لقد التزم النبي (ص) بجميع بنود الاتفاق مع بني قريظة كما التزم بها مع بني النضير وبني قينقاع وظل وفياً كريماً يحوطها ويرعاها بما انطوت عليه نفسه الكريمة من النبل والكرم والوفاء، ومع كل ذلك فقد كانوا أداة سوء وشر لم يذق هو أصحابه طعم الراحة إلا بعد أن أخرجهم منها، وها هم بنو قريظة يمثلون نفس الدور الذي مثله بنو قينقاع والنضير وأسوأ منه.