كانت هذه الغزوة بعد أن فتح النبي مكة واستقام له أهلها ملتفين حوله حيث أقام وحيث ذهب ونفوسهم مطمئنة إلى أن ما بقي من العرب على الشرك سيدخلون في الإسلام طائعين خلال أشهر معدودات وأنهم لكذلك يعيشون في هذا الجو من الإطمئنان والهدوء والتطلع إلى غد أفضل، والنبي (ص) لا يزال في مكة يبعث السرية تلو الأخرى إلى القبائل المجاورة لمكة ليطهر المنطقة من عبادة الأوثان ويجمعهم على الإيمان باللّه ورسوله، وفيما هم يعيشون في هذا الجو من الغبطة، وإذا بالأخبار تترامى إليهم بأن هوازن وأحلافها كثقيف وجشم ونصر قد ساءهم انتصار النبي في مكة وقدروا أن الدائرة ستدور عليهم، وإن المسلمين سيقتحمون عليهم بلادهم وديارهم أن عاجلاً أو آجلاً، فاجتمعوا بقيادة مالك بن عوف لمهاجمة محمد ولصده عن ديارهم وبلادهم إذا هو فكر في غزوهم.
وكانوا حينما خرج النبي من المدينة ظنوا أنه متجه إليهم فاجتمعوا لمقابلته، وتبين لهم بعد ذلك أنه قاصد لمكة، ولم يبق لديهم من شك بعد أن خضعت له مكة وأقبل أهلها وهم الأعداء الألداء لرسالته يتهافتون على الدخول فيها أنه سيغزوهم في بلادهم فأعدوا العدة لذلك وتكتلوا مع أحلافهم لمهاجمته بجموع لم يشهدها من قبل، ولم يتخلف عنهم سوى قبيلتي كعب وكلاب، فلم يستجب منهما أحد لطلب مالك بن عوف.
وكان دريد بن الصمة أحد بني جشم شيخاً كبيراً قد حملوه معهم ليستفيدوا من رأيه وخبرته بالحروب، كما اشترك معهم زعماء تلك القبائل ولكن القيادة العامة كانت لمالك بن عوف ومضت تلك الحشود التي قدرها المؤرخون بثلاثين ألفاً أو تزيد بقيادة مالك بن عوف لغزو محمد حيث كان، ونزلت بسهل اوطاس، فقال نعم مجال الخيل: لا حزن ضرس ولا سهل دهس، ثم قال لهم ما لي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير، وثغاء الشاة وبكاء الصغير، فقال له مالك بن عوف لقد حملنا مع الناس النساء والأطفال حتى لا يطمع أحد بالفرار، فقال له دريد، وهل يرد المهزوم شيء إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك.
ثم قال له دريد: ما فعلت كعب وكلاب، فقال لم يشهد معنا منهم أحد، فقال غاب الجد والحد، لو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب وكلاب، ولوددت أنكم فعلتم ما فعلت كعب وكلاب، ثم سأله من شهد منكم فأجابه عمرو بن عامر وعوف بن عامر، فقال ذانك الجذعان لا ينفعان ولا يضران، ودار حوار بينهما لم يتفقا فيه على رأي واحد، وأخيراً قال له مالك: إنك قد كبرت وكبر علمك، والتفت إلى تلك الجموع وقال واللّه إن عصيتموني لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري وكان شاباً في الثلاثين من عمره قوي الإرادة ماضي العزيمة فتبعه الناس، ومضى دريد معهم لا يرد لهم رأياً بالرغم من كبر سنه وخبرته بالحروب والمعارك، وأمر مالك أصحابه أن ينحازوا إلى قمم حنين ومنعطفاتها.
ولما بلغ رسول اللّه (ص) خبر تلك الحشود التي خرجت لحربه أرسل عبد اللّه بن حدرد الأسلمي وأمره أن يدخل بين الناس متنكراً ويأتيه بخبرهم، فذهب ودخل بينهم واطلع على عدتهم وعددهم وإصرارهم على حرب رسول اللّه، والنبي يعد العدة ويحرض المسلمين على قتالهم والصبر والثبات ورجع عبد اللّه إلى النبي وأخبره بحالهم، فدعا رسول اللّه عمر بن الخطاب وأخبره بما رجع به عبد اللّه بن حدرد، فقال له عمر أن عبد اللّه بن حدرد يكذب عليك يا رسول اللّه، فقال له عبد اللّه كما جاء في رواية ابن هشام والطبري وغيرهما أن تكذبني فطالما كذبت بالحق يا عمر، فقال له عمر ألا تسمع ما يقول ابن حدرد يا رسول اللّه وأراد النبي أن يلطف الجو بينهما، فقال لقد كنت ضالاً فهداك اللّه إلى الإسلام ياعمر.
ولما أتم النبي تجهيز جيشه واستعار بعض الأعتدة من صفوان بن أمية كما ذكرنا خرج من مكة في اثني عشر ألف مقاتل، منهم ألفان من مكة وفي مقدمته الفرسان والإبل تحمل الذخيرة لثلاث خلون من شوال في السنة الثامنة من الهجرة، والمسلمون قد أخذهم الغرور بهذا العدد الذي لم يسبق له مثيل في تاريخ حروبهم مع المشركين، وقال أبو بكر كما جاء في بعض المرويات: لا نغلب اليوم من قلة.
وبعث مالك بن عوف ثلاثة من أتباعه وأمرهم أن يندسوا بين أصحاب النبي ويأتوه بأخبارهم، فذهبوا وما لبثوا أن رجعوا إليه كالمدهوشين قد استولى عليهم الخوف، وقالوا له: رأينا رجالاً بيضاً على خيل بلق، فو اللّه ما تماسكنا إن أصابنا ما ترى، ولكنه مضى في طريقه مصمماً على قتال المسلمين وإبادتهم إذا وجد سبيلاً لذلك.
وجاء في كتب السيرة عن الحارث بن مالك إنه قال: خرجنا مع رسول اللّه (ص) إلى حنين ونحن حديثو عهد بالجاهلية، وكانت لقريش وغيرهم من العرب سدرة عظيمة يسمونها ذات أنواط يجتمعون تحتها في كل عام فيذبحون تحتها ويأكلون ويستريحون ويسمرون، فلما رأيناها تنادينا يا رسول اللّه اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فرد عليهم النبي وقال لقد قلتم كما قال قوم موسى:
{اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة إنكم قوم تجهلون}، ثم قال لتركبن سنن من كان قبلكم وبلغ النبي(ص) حنيناً مع المساء فنزلوا على أبواب واديها وأقاموا بها حتى الفجر وعبأ النبي أصحابه ووزع الألوية والرايات، فأعطى لواء المهاجرين لعلي (ع) وأعطى الراية لسعد بن أبي وقاص، وأعطى لواء الأوس إلى أسيد بن حضير، ولواء الخزرج لسعد بن عبادة، ووزع على بقية القبائل الرايات والألوية، وركب بغلته البيضاء، ولبس درعين ومغفراً.
قال جابر بن عبد اللّه الأنصاري لما استقبلنا وادي حنين انحدرنا في واد من أودية تهامة وذلك في عماية الصبح، وكان القوم قد سبقونا فكمنوا لنا في شعابه واحنائه ومضايقه، وإننا لكذلك، فما راعنا ونحن نسير إلا كتائب هوازن ومن معها من العرب قد شدوا علينا شدة رجل واحد فانهزم الناس عن رسول اللّه (ص) لايلوي أحد منهم على أحد قد أخذهم الخوف والفزع، وانحاز رسول اللّه (ص) إلى ذات اليمين، ثم قال أيها الناس إليّ أنا رسول اللّه محمد بن عبد اللّه فلم يجبه أحد من المنهزمين، وقال ابن قتيبة في المعارف: إن الذين ثبتوا مع رسول اللّه يوم حنين علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وأسامة بن زيد بن حارثة.
وجاء عن العباس بن عبد المطلب أنه قال في ذلك الموقف:
نصرنا رسول اللّه في الحرب سبعة وقد فرمن قد فر منهم واقشعوا
وثامننا لاقــــى الحمـــام بسيفـــه بما مسه في اللّــــه لا يتوجع
وقال الشيخ المفيد في إرشاده لم يبق مع النبي إلا عشرة نفر تسعة من بني هاشم، والعاشر أيمن بن أم أيمن فقتل أيمن وثبت التسعة، حتى رجع إلى رسول اللّه من كان قد انهزم.
وجاء في تاريخ الخميس وفي رواية أنه لم يبق معه إلا أربعة ثلاثة من بني هاشم علي والعباس وأبو سفيان ب الحارث وكان قد أخذ بعنان بغلته والرابع عبد اللّه بن مسعود، وأضاف إلى ذلك أن علياً والعباس كانا يحفظانه من قبل وجهه وعبد اللّه بن مسعود يحفظه من جانبه الأيسر وكان كل من يقبل على رسول اللّه يقتل ونص على ذلك أيضاً في السيرة الحلبية وقد وصف اللّه حالة المسلمين في ذلك اليوم بقوله:
{ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين* ثم أنزل اللّه سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تراها}(التوبة 25-26).
وجاء في إرشاد المفيد أن الآية تعني بالمؤمنين علياً ومن ثبت معه من الهاشمين كما جاء في تاريخ اليعقوبي المجلد الثاني أن المسلمين قد انهزموا عن رسول اللّه وبقي في عشرة من بني هاشم وقيل تسعة وهم علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن الحارث ونوفل بن الحارث وعتبة ومعتب ابنا أبي لهب والفضل بن العباس وعبد اللّه بن الزبير بن عبد المطلب، وأضاف إلى ذلك وقيل أن أيمن بن أم أيمن كان معهم.
وعلى أي الأحوال فلقد اتفق المؤلفون في سيرة النبي أن علياً وأكثر بني هاشم قد ثبتوا مع النبي، وبعض الروايات الشاذة تنص على أن أبا بكر وعمر قد ثبتا معه ولكن تاريخهما في حروب النبي مع المشركين يؤكد أنهما ليسا ممن يثبتون في الأزمات ولم يرو لهما ذكر مع المقاتلين في أكثر حروب النبي وغزواته وكانا أول المنهزمين في أحد كما ذكرنا في ذلك المقام.
واتفق المؤلفون في سيرة النبي(ص) على جماعة تظاهروا بالإسلام في مكة أظهروا الشماتة وأسفروا عن واقعهم.
قال الطبري في تارخه وابن هشام في سيرته والشيخ حسين الدياربكري في تاريخ الخميس وغيرهم أنه لما انهزم المسلمون ورأى من كان مع رسول اللّه من جفاة مكة الهزيمة قال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر، هذا والأزلام في كنانته وكان مستبشراً بتلك الهزيمة وقال شيبة بن طلحة: اليوم أدرك ثأري من محمد وتقدم منه ليقتله فرأى علياً ومن معه من بني هاشم قد أحاطوا به من كل جانب يدافعون عنه.
وجاء في رواية الطبري عن شيبة أن الذي منعه منه شيء تغشاه فلم يعد يطيق ذلك فعلم أنه قد منع منه، هذا مع العلم بأن النبي قد كرمهم بالأمس في مكة ورد عليهم مفتاح الكعبة. وقال كلدة بن حسل أخو صفوان بن أمية لأمه الآن بطل السحر، ولما سمع صفوان من أخيه ذلك ورأى أبا سفيان مستبشراً قال لهما: لأن يملكني رجل من قريش أحب إليّ من أن يملكني رجل من هوازن، يعني بذلك أن انتصار محمد أحب إليه من انتصار مالك بن عوف، وقد بدا عليه الانزعاج من شماتة أبي سفيان وغيره ممن أعجبتهم هزيمة المسلمين في حين أنه كان لايزال على شركه.
ومهما كان الحال فلقد كان موقف المسلمين في حنين أسوأ من موقفهم في أحد في بداية الأمر وبعد ثبات النبي(ص) ومن معه من بني هاشم بدأ الموقف يتحول لصالح المسلمين. ويصف العباس بن عبد المطلب الموقف في ذلك اليوم بقوله: إني لمع رسول اللّه آخذ بزمام بغلته البيضاء، وكنت امرأ جسيما شديد الصوت ورسول اللّه(ص) يقول حين رأى من المسلمين ما رأى: إلى أين أيها الناس وهم لا يلوون على شيء، فقال لي يا عباس: صح يا أهل بيعة الرضوان يا أصحاب سورة البقرة، يا أهل بيعة الشجرة إلى أين تفرون عن رسول اللّه، فناديت في الناس وكنت جهوري الصوت فأخذوا يتراجعون إلى أن اجتمع إليه نحو من مائة رجل فاستقبلوا بسيوفهم ورماحهم القوم.
وبرز جرول واكن معه راية هوزان يصنع بالمسلمين ما يصنع على حد تعبير الطبري وغيره فتحاماه الناس فبرز إليه علي ابن أبي طالب (ع) فقتله كما جاء في رواية اليعقوبي والمفيد وغيرهما، زفي رواية هشام الطبري أن علياً أقبل فضرب عرقوب جمله فوقع إلى الأرض فتناوله رجل من الأنصار وقتله واشتدت عزيمة المسلمين بذلك وتجالد الفريقان والنبي يتقدم ببغلته رويداً رويداً ويضرب بسيفه ويقول الآن جمي الوطيس.
وفي رواية ثانية أنه نزل على بغلته وقال أنا النبي لا كذب أنا ابن عبدالمطلب وتقدم نحو تلك الجموع يقارع الأبطال ويصرع الشجعان فما رثي في الناس أشد منه، هذا وعلي (ع) مرة يظهر عن يمينه وأخرى عن شماله يحصد بسيفه الرؤوس ويصرع الأبطال حتى قتل أربعين من أبطالهم، وعاد أكثر المسلمين إلى المعركة حتى أن الرجل منهم كان إذا أبطأ به بعيره أو التوى به من شدة الزحام وثب عنه واتجه إلى حيث ينادي العباس يريد أن يدفع عنه عار الفرار والهزيمة، وبعضهم لم يرجع إلا بعد أن أيقن أن المعركة تتجه اتجاهاً صحيحاً لصالح المسلمين.
ولم تتضح معالم الصباح حتى كانت أرض المعركة تهتز لوقع القتال، وأخذ النبي حفنة من التراب تناولها بيده، وقيل ناوله أياها أبو سفيان بن الحارث فألقاها في وجوه الأعداء، وقال: شهت الوجوه هم لا ينصرون وتقدم نحو القوم وقد تكاثر المسلمون خلفه فما تعالى النهار حتى كانت الكرة للمسلمين يضربون ويطعنون في صدور المشركين حتى انتفضت صفوفهم وتفرقت كتائبهم وصدتهم المسالك والزحام عن الفرار، ولم يكن لهم بد من الهزيمة والمسلمون في أثرهم يقتلون ويأسرون، وقد أخذهم الحماس حينما رأوا النبي يباشر الحرب بنفسه ببسالة لم يسمع بمثلها ومن حوله علي بنو هاشم الذين ثبتوا معه في الساعات الأولى من المحنة التي حلت بهم في ظلمة الفجر، ولولاهم لانتهت المعركة
بنتيجة لم يكن الشرك ليحلم ببعض منها، ودب الذعر والخوف في صفوف المشركين وأصبح كل إنسان يفكر في الطريق إلى الخلاص بعد أن أيقنوا أن المقاومة لا تجديهم وأنهم معرضون للفناء عن آخرهم فما هو إلا أن انكشفت المعركة أسفرت عن هزيمتهم تاركين نساءهم وأولادهم وأموالهم تحت رحمة المسلمين.