{وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بركم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين}.
انه مما لا شك فيه ولا ريب أن الموجودات كلها لم يكونوا مخلوقين، فخلقهم لله بإيجاده، وهذا الإيجاد ليس جبراً على الطاعة ولا جبراً على المعصية، وإنما خلقهم بمقتضى قبولهم بطور رضاهم وطلب صلاح أنفسهم واختيارهم حتى لا يكون لأحد على الله حجة، ولا يقول لم خلقتني كذا كذا، فإذا عرفت ما ذكرناه نقول: إن الله سبحانه خلق جميع المخلوقات أولاً في عالم الذر بكمال الشعور والاختيار، فعن أبي بصير قال قلت لأبي عبدالله عليه السلام: كيف أجابوا وهم ذر؟ قال: جعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه، أي ركب فيهم العقل والنفس، فبالعقل يختار الخير وبالنفس يختار الشر، وعندها حصل الاختيار وأخذ الميثاق، فمنهم من أطاع واستجاب ومنهم من رفض وأنكر، فلما أراد الله أن يخلقهم في عالم الدنيا جعل طينة أول من أجاب واستجاب من أعلى عليين وأصل الجنة وطينة الذين تبعوهم من فاضل طينتهم، وخلق طينة المنكرين من سجين ومن حمأً مسنون، إلى أن أنزلهم الله في عالم الشهادة وجدد تكليفهم حتى يظهر إيمان الذين آمنوا في عالم الذر كفر من كفر فيه، وهذا التجديد يكون بكامل الاختيار والتصرف لكي يشهدوا عل إقرارهم في عالم الذر، بمعنى أن الذين قبلوا العهد وأطاعوا الله في عالم الذر، يجب أن يقيدوا ذلك بالطاعة لله في الدنيا لأن هذه شوارد، فيجب الثبات على الإجابة التي عاهدوا الله عليها حين قال لهم ألست بربكم محمدا نبيكم وعلى وليكم وإمامكم والأئمة من ولده أئمتكم، فقالوا: بلى، فإذا ثبتوا عليها بالطاعة لله والإبتعاد عن معصيته في الدنيا أدخلهم الجنة، وأيضاً العاصين الذين لم يجيبوا دعوة الله بالقبول، فيقول الله لا تقنطوا من رحمتي مادام التكليف باقياً، فإن أجابوا في دار الدنيا أقلتكم وقبلت منكم وأدخلتكم جنتي برحمتي، وكتب الأخبار مشحونة بذلك مفصلاً ونحن نختصر بذكر جلهاً خوفاً من التطويل والله الموفق.
سمع أبو جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام يقول: إن الله عز وجل لما أخرج ذرية آدم من ظهره ليأخذ عليهم الميثاق بالربوبية له وبالنبوة لكل نبي، فكان أول من أخذ له عليهم الميثاق بنبوته محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله، ثم قال: إن الله عز وجل قال لآدم أنظر ماذا ترى، فنظر آدم عليه السلام إلى ذريته وهم ذر قد ملأوا السماء، قال آدم: يا رب ما أكثر ذريتي، ولأمر ما خلقتهم فما تريد منهم بأخذ الميثاق عليهم، قال الله عز وجل: يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ويؤمنون برسلي ويتبعونهم، قال آدم: يا رب فما لي أرى بعض الذر أعظم من بعض، وبعضهم له نور كثير خلقتهم لأبلوهم في كل حالاتهم، قال آدم: يا رب أتأذن لي في الكلام، قال الله عز وجل: تكلم فإن روحك من روحي وطبيعتك خلاف كينونتي، فقال آدم عليه السلام يا رب فلو كنت خلقتهم على مثال واحد، وقدر واحد، وطبيعة واحدة، وأرزاق واحدة، وأعمار سواء، لم يبغ بعضهم على بعض ولم يكن بينهم تباغض ولا تحاسد ولا اختلاف في شيء من الأشياء، قال الله عز وجل: يا آدم بروحي نطقت وبضعف طبيعتك تكلفت ما لا علم لك به، وأنا الله الخلاق العليم، بعلمي خالفت بين خلقي، وبمشيتي يمضي فيهم أمري وبتدبيري وتقديري صايرون، لا تبديل لخلقي إنما خلقت الجن والإنس ليعبدوني، وخلقت الجنة لمن عبدني وأطاعني منهم وأتبع رسلي ولا أبالي، وخلقت النار لم كفر وعصاني ولم يتبع رسلي ولا أبالي، وخلقتك وخلقتهم لأبلوك وأبلوهم أيكم أحسن عملاً في دار الدنيا في حياتكم وقبل مماتكم، ولذلك خلقت الدنيا والآخرة والحياة والموت والطاعة والمعصية والجنة والنار، وكذلك أردت في تدبيري وتقديري وبعلمي النافذ فيهم خالفت بين صورهم وأجسادهم وألوانهم وأعمارهم وأرزاقهم وطاعتهم ومعصيتهم، فجعلت منهم الشقي والسعيد والبصير والأعمى والقصير والطويل، والجميل والعالم والجاهل، والغني والفقير، والمطيع والعاصي، والصحيح والسقيم، ومن به الزمانة ومن لا عاهة إلى الصحيح فيدعوني ويسألني أن أعافيه ويصبر على بلائي، فأثيبه جزيل عطائي، وينظر المؤمن إلى الكافر فيحمدني على ما هديته، فلذلك خلقتهم لأبلوهم، وأنا الله الملك القادر ولي أن أمضي جميع ما قدرت على ما دبرت، ولي أن أغير من ذلك ما شئت إلى ما شئت، وأقدم من ذلك ما أخرت، وأؤخر ما قدمت من ذلك، وأنا الله الفعال لما أريد لا أسأل عما أفعل وأنا أسأل خلقي عما هما فاعلون.
وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: إن الله قال للماء كن عذاباً فراتاً أخلقمنك جنتي وأهل طاعتي، وقال للماء كن ملحاً أجاجاً أخلق منك ناري وأهل معصيتي، فأجرى الماءين على الطين ثم قبض قبضة بيده وهي يمين فخلقهم خلقاً كالذر، فأجرى الماءين على الطين ثم قبض قبضة بيده وهي يمين فخلقهم خلقاً كالذر، ثم أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم وعليكم طاعتي؟ قالوا: بلى، فقال للنار: كوني ناراً فإذا نار تأجج وقال لهم: قعوا فيها فمنهم من أسرع ومنهم من أبطأ في السعي ومنهم من لم يبرح مجلسه فلما وجدوا حرها رجعوا فلم يدخلها منهم أحد، ثم قبض قبضة بيده فخلقهم خلقاً مثل الذر مثل أولئك، ثم أشهدهم على أنفسهم مثل ما أشهد الآخرين. ثم قال لهم: قعوا في هذه النار فمنهم من أبطأ ومنهم من أسرع ومنهم من بطرف العين، فوقعوا فيها كلها، فقال: اخرجوا منها سالمين فخرجوا لم يصبهم شيء وقال الآخرون: يا ربنا أقلنا نفعل كما فعلوا، قال: قد أقلتكم فمنهم من أسرع في السعي ومنهم من لم يبرح مجلسه مثل ما صنعوا في المرة الأولى فذلك قوله: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وأنهم لكاذبون}
وعن أبي عبدالله عليه السلام، قال: إن بعض قريش قال لرسول الله صلى الله عليه وآله: بأي شيء سبقت الأنبياء وأنت بعثت آخرهم وخاتمهم؟ فقال: إني كنت أول من آمن بربي، وأول من أجاب حين أخذ الله ميثاق النبيين وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى، فكنت أنا أول قال بلى، فسبقتهم بالإقرار بالله