ماذا يعني أن تمتلك قصراً مشيداً يعّج بأرقى الكماليات و أثمن التحف ، أو أن تمتلك كوخاً يفتقر لأبسط مقومات الحياة ما خلا خبز و ماء و تُميرات ؟
ولكن يبقى قلبك محلّقاً في فضاء العشق الإلهي ، فليست لحظات الحياة تعدُل عند العاشق محطّة سكون و طمأنينة روحية ، تسافر به بعيداً عن ضجيج الدُنيا و أهلها و تُبحر به إلى ضفّة الكمال و الطُهر ، فلا القصر يأخذ بلُبّه و لا الكوخ يضجره ..
فهما سيّان أمام بصره و كل الذي يرجوه أن يرمق الغروب و ينظُر السحر بلهفة عارمة و يفرُش سجادة اللقاء و يصّف قدميه للكمال المطلق مُناجياً ، بينما يغّطُ أهل الغفلة في سُبات عميق و بعد أن أخذت معشوقاتهم من أرواحهم و عُقولهم كل مأخذ.
تستّعد روح العاشق في رسم لوحة الشوق بفنون المناجاة ، مُلتزمة بالبُعد عن المطالب الدنيوية جاهدة في تأصيل معاني الأرتباط بغد الهجران.
بلا فرق أن تتم المناجاة باللغة الدارجة أو الفصيحة و المهم هو أن تسيل الدموع من العيون عند اللقاء جرّاء بث الشكوى و الحنين و التالي ما خرج من روح مُتعبة توّد الإنعتاق من آلامها و آلام الأحبّاء و الأعداء و الخلق أجمعين أكتعين لينشّد إلى قراءتها صفوة يحاولون مثلما يحاول و ربما نجِحوا و فشِل هو فيا من تستهويه كتاباتي و يبهرهُ سجعُ كلماتي لا تحسبني لا تحسبني من المُرائين المُعجبين و كُن أفضل مني ، وجرّب عشق المناجاة و حينها سوف تدعو لي و تشكرني ..
سامحني إن أطلتُ عليك لأن حكايتي مع الليل طويلة ، ذهب الليل وقصتنا لم تنتهِ بعد وماذا يفعلُ الليل إذا كانت قصتنا طويلة ؟
والفجرُ الصادق قد آذن بالولوج ويناشدُ العاشق: أ لم تمّل من صحبة الأسود ، فأنا الأبيض ، و الأبيضُ و الأسود نقيضان ولكنّك بهمتّك تؤلف بينهما ، ففي الأسود مناجاة عاشق و في الأبيض إنسان هائمُ القلب في جمال الجميل عبر سجدة (( والليل إذا يغشى و النهار إذا تجلّى))..
مناجاة عاشق..
إلهي:
إن قيل إنَّ عشق الله ليس منقوشاً في الدفاتر ، فهو كذلك..
فهبني ألوان الحب كي أرسم لوحة حبك في وجود روحي لأنك إن لم ترزقني تلك الريشة فسوق تبقى لوحتي متعرجة المعالم و كل ظِلال الجمال أودية الدنيا أضحت متكسّرة أمام جمالك الذاتي فلوحتي ليس لها شأن إن لم أوشحها بفنون الشوق إليك..
معشوقي : إذا قرأتُ مناجيات الصحيفة السجاد أشعر بالخجل… بل بأني أكذب لأنها رحيق العاشقين الوالهين.. وأنا بعدُ لم أشم رحيق زهرة من بستانها..
فخُذ بيدي أنا الغارق في بحار الملذات أن أحبو نحو ضفّة عشقك أرسِل على قسوة قلبي هواطل حنانك ، فأنت تحبُّني أكثر مني..
ماعدتُ أسمع هتافات الحورية التي تناغيني:
ما تُساوي الدُنيا بزبرجها قِبال شعرة واحدة من شعر أدنى حورية من حوريات الجنة ؟
لماذا يا تُرى ؟؟
هل لأنك أردت أن أحرق مرحلة العبادة التجارية و أرتحل إلى مرحلة العبادة العشقية ؟
حبيبي : كُلّما دعوتك من أجله فقد اجتنبته.. إلا الصدق في دعوى العشق..
صرتُ أندبُ حظي حينما أقرأ سيرة العارفين
كيف هم وصلوا و ارتشفوا من كأس وصلك
وبقيتُ أنا أسير الأماني و الآمال و أُراوح مكاني..
ذات يوم تأملت في كأس شفافة مليئة بماء الزعفران المُحلّى وماء لقّاح النخل تتماوج يمنة ويُسرة فطار بي الخيال لسورة الإنسان عند مفردات /
وسقاهم ربهم شراباً طهورا
كأساً كان مزاجها زنجبيلا
عيناً فيها تُسمى سلسبيلا
وحاولتُ إجراء إسقاط أدبي فانكسر قلمي فوق صفحة بياني..
لا أدري… و أنا الموصوف بفارس النثر في قريتي
وخلصت إلى القاعدة: إنّه قياس مع الفارق ، بل لا مجال للحديث عن موضوع القياس فأين زنجبيل الدنيا من زنجبيل دار الآخرة ؟
و ما عسى أن تكون عليه السلسبيل ؟
أيا معشوقاه: إنك تريد أن تصنع مني عاشقاً ولِهاً و أنا أقتل دائماً قابلياتي بغروري في ظل ركيعات ملؤها الغايات و التسويلات ..
تريد أن أنتظم في مدرسة العشق و أدع الأغيار.. الزوجات و الأولاد و الأهل و الأحباب و المتاع..
فأتسيّب هنا وهناك وتفوتني دروس الشوق وحصص صلاة الليل شمعة سحر المناجيين ، أمست درجاتي ضعيفة تماماً ، كنظام التراكم في المدرسة الدنيوية..
اجتهدت في كل المواد بامتياز وكل ذلك برعايتك ورسبت في مادة العشق الإلهي..
حاولت جهدي.. ذاكرتُ إلى حدّ اكتساء قرص تربة الحسين عليه السلام باللون الأسود.. و إلى الآن لم أحسّ بنكهة عشقك..
بحثتُ و بحثت عن الخلل فأدركتُ إنّه لكثرة مرايا الحب الدنيوي..
أما مرآة عشقك فواحدة صافية..
وتلك معوّجة كثيرة الزوايا والأبعاد
وبعددها توزّع عشقي وتاه قلبي
مرآة عشقك أمامي و لا أبصر ذاتك و لا أهتدي ، و إذا قيل بأن أرجل الفلاسفة للإستدلال على وجودك خشبية فإن أسهل طريق لمعرفتك هو طريق العشق.. هكذا قرأتُ و من وحي تجربتي ، عبثت بي الثواني و الدقائق و الساعات و الأيام والشهور و السنين.. بل عبثتُ بها و ابتعدتُ عن عشقك مسافات
و أصبحتُ أترنم بترنيمة أحد رجال الله الدنيا لعبة الأطفال
الدنيا نزهة الأطفال
وتستهويني كلما ضاقت بي دُنياي ومضّني البلاء تلك الترنيمة من قعر الأسف فأدعوك أن تفّرغ قلبي لعشقك لأنعتق من هذا السجن و أنا مرفوع الرأس..
لقد شبعت.. شبعتُ من لذائذها و آن الأوان أن ألتحق بركب قافلة الأبرار على راحلة العشق..
مسكينٌ أنا و غريب الأطوار في دعوى عشقك فتارةً تخبو جذوة نار الشوق إليك وتارةً تشتعل..
فهل في الوجود أحلى من الخلوة بك ؟
عشقك يقتل وقتي فهنيئاً لذاك الوقت و ألف مرحباً بتلك القتلة..
ولكن العاشقين المهووسين أمثالي متى صدقوا في دعوى عشقهم كي يتمنّوا تلك القتلة ؟
إن طغيان الشوق إلى المحسوس يفوق بكثير الشوق إلى ليس كمثله شيئ
وهو أكبر الخلل في قصة الشوق..
و ذات مرة سألت نفسي : ما هي حال مجنون ليلى لو كان جميع عشقه لليلى العامرية الدكناء اللون.. كان للمعشوق الأوحد ، أتراه يغرق في أمواج بحر عشق ليلى أم يُجنّ على وجه الحقيقة ؟؟
والذي قرأته من سيرة عشقه : أنّه سُئل عن مرور ليلى من أمامه فأجاب: وهل مّرت ليلى من هُنا ؟!
مع أنّها مرت بالفعل..
إنه طغيان العشق في المحسوس إلى درجة العمى البصري والبصيرتي..
سامحني حبيبي: كلما قُلت إني أعشقك مال قلبي تجاه قبلة دنيوية..
هجرتك ليالٍ من عمري البائس ومراراً وتكراراً أسمع ملك إلهام عشقك يرّن في سمعي الدنيوي:
هجرتنا يا سيد ؟!
أين ذاك الأنين.. وتلك الخلوة.. وهاتيك الزفرات التأوّهات ؟ يا من أشعلت قنديل عشقي في كل كيانك و اتصّفت بصفاتي:
رحيمٌ على العصفور تفّتُ له الخبز قبل شروق شمسي
عطوفٌ على القط يشاركك حوت بحري
ودودٌ على النملة إذا أبصرتها حاذرت أن لا تطأها خوفاً من خشيتي..
وهّاب: تهبُ الحب والخير للطيبين من عبادي..
أنستحق كل هذا الهجر و الصّد ممن شمِلته رعايتنا الخاصة؟
أيا معشوقاه: كان صديقي ملك الإلهام قد غاب عن سمعي… فكلِّفه من جديد كي يطرق سمعي..
ليتني كنتُ نجماً سماوياً يسبحّك تكوينياًً
عاشقاً مُذ خلقته و يظل عاشقاً إلى يوم يبعثون
و لم أكُ انسيّاً أنساك في قمة رخائي و أنسي
أو كُنت ذزة تائهة في فضاء الوجود و لا أرى المعاصي بأمّ عيني..
يا مولاي: إنَّ البعد عن مناجاتك قد أقضّت مضجعي وسلبتني نومي و أن آية كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون و بالأسحار هم يستغفرون تلامسُ شغاف فؤادي..
تهتفُ في روحي: إنهض يا خائر القِوى فقد غارت نجوم سماواتي يا من تدّعي وصلي و غرامي..
و دَع عنك فلسفة ابن سينا ورباعيات الخيام و تشكيكات ابن رُشد وعرفان فردوسي..
و افرش سجادة اللقاء و تعطّر و فرّغ القلب و كبّر فها هُنا محّط الرحال في سوح مناجاتي..
عجّل فإن سيف الوقت يقتل همّة العاشق الولهان ومريدُ قربي و مناجاتي..
لا يطلع الفجر عليك فالديك قد صاح مؤدناً بحيّ على الفلاح قد قامت الصلاة يا ساهي..
حبيبي الذي هجرته: حدّقتُ في وجه القمر المنير وقد طافت حوله سُحب تريد لثم خدها الوردي ، ظلّ شاخصاً كقّد خيزران ، يتمايل بدلال ، لا يعبأُ بها فتصورّتُ تسبيحه التكويني الشجّي..
أسررتُ لنفسي: لو شاهدت ملكة حوريات الجنة وبريق عينيها ورمشت لك من طرفٍ خفي وقال لك من طرفٍ خفي و قال لك المولى أحب منك ركعتان في جوف ليل خفي فأيهما ألذ ؟
الطرف الخفي أم الليل الخفي ؟؟
هنالك تتكّسر العبرات في صدري فدنياي تفتحُ باعها وتناديني جميل ادنُ مني وسامرني ، و آخرتي تُسفر عن جمالها و تناديني جميل أنا غازلني..
هنا فُسحة للعقل و للقلب و للروح قالتها أملاك إلهامي ها ذرّفتَ على الخمسين من عمرك الفاني
وكم احتضنتَ الحياة و احتضنتك يا لاهي ؟
وكم سهوت عن خطك المرجّو يا ساهي ؟
صرختُ في وجه نفسي لقد شبعتُ شبعت وحان موعد محرابي
في ليلة قدر العارفين أهجر دُنياي و ألحق بركب ساداتي لعلّي أختم دهري و أصبح شهيد مناجاتي
و أترك بصمة عشقي عِبرة لأحبابي
يا إلآه الوالهين المسبحين سامحني فقد طال بُكائي
على جنّة عشقك التي أضعتها بغبائي
هي نفثة المكروب الراجي
أن يشملني عطفك الحاني
حبيبي: ليتني كنتُ نجماً سماوياً أسبّحك تسبيحاً سماوياً