بسم الله الرحمن الرحيم
الأبعاد العلمية ولإنسانية في حياة فضيلة الشيخ عبدالله المختار قدس سره

حبيبي عبدالله كما يحلو لي أن أجرّدك من الألقاب التي تتمتعها وأستغرق في الأوصاف التي أتعشقها يدعونني أن أنسج عن عمرك المنقصف بضع وريقات وقلبي لماّ يزل يرتعش من عظم المصاب فاحترت أي مسلك أنهج في رسم لوحة عن رفيق الدرب.
أأرسم لوحة موشّحة بسواد الرثاء؟
أم أتفنن في أبعادها بسجع الكلمات؟
ورسى الفكر المتبلّد على محطة الأعراض عن هذا وذاك. لأن في توشيح لو حتى دموع وذكريات قد تأخذني بعيداً عن توفيتك حقك.
وفي تفنّني الأدبي واللعب على وتر السجع تكون لو حتى مجرد خاطرات.
وفضّلت تأجيل موعد الخواطر والذكريات إلى سكون النفس واستفاقتها من هول ألم الفراق.
وسلكت مسلك أبعاد الشخصية العلمية والإنسانية في شاب لم تكتمل حبّات عقده الثالث لم يمهله الأجل ليفيض من نبع عمره عذب ماء العطاء.
أولاً: الأبعاد العلمية:
كأي عاشق للعلم ظهرت بوادر فقيدنا الغالي على محيّاه حيث التردّد على مجالس العلماء وحبهم والاحتفاظ بصورهم والانصهار في الوسط المؤمن واقتناء الكتب.
قرّر أن يتمحّض لطلب العلم الديني في نهاية الثمانينيات وشمر عن ساعد الجدّ للتحصيل الحوزوي وانتخاب أساتذته بدقة متناهية في ظل ظروف قاسية، ولم يكن أحد يتوقع أن تسير سفينة تحصيله بيسر وسهولة. ولكن قوة عزيمته وإصراره قدحا فيه زناد التوكل على الله تعالى.
لقد رأيت في عينيه توقّد أن يكون شيئاً ما في مستقبل عمره الشريف. ولذلك فقد كان يفوقنا مثابرة في التحضير للدرس القادم وكأن وظيفة الأستاذ عنده مجّرد فكّ رموز مغالق المسائل والباقي يكمن في قابلية التلميذ ونباهته.
أكتب عن ذلك لأني رفيق دربه في البدء وحتى النهاية في المواد والأساتذة والحوزات وحتى في ألوان الأقلام كنا متلازمان. وربما تغيّب الواحد منّا عن الدرس فلا يقبل أن يسبقه ويفضّل انتظار صاحبه للغد.
هدوء في طرح الإشكال العلمي، وأكثر ما رأيته محرّراًٍ في أطراف الكتاب الدرسي.
فإما أن يسلّم الأستاذ وأما يعترض مراعياً أصول النقاش العلمي الذي لا يخرجه عن الأدب ورفع الصوت، والذي لا يعرفه الكثير عنه أنه صاحب ذوق روائي ممّيز مع ما يجمعه من فن المعقول.
وقد أطلعني أن لديه نية لعمل ((حاشية على اللمعة الدمشقية للشهيد الثاني قدس سره)) ونحن لا نزال في المجلد الرابع ولذلك برع في تدريسها وهي من هي في التعقيد اللفظي والقواعد الأصولية وكثرة التفريعات.
بل أجزم أنه من خيرة من درّسها في مدرسة الشيخ عبد الحسن قدس سره وكان متأنياً وصبوراً في التدريس ويرفض طي الكتب كالسجل ولا يمانع أن تطول مدة دراسة المادة بشرط العمق والدقة ولا يدرجه تحت قاعدة (مضيعة للعمر).
وكان أكثر تنافسي معه في الامتحانات وكان الرهان بينناً جارياً، فإما فاقني ببعض الدرجات وإما فقته ولا يستنكف رضوان الله عليه في جدالي معه في صوابية جوابي على جوابه بروح الدعابة والمرح بقوله: سيدنا في المرة القادمة سوف أتنازل لك عن سؤال إذا كان هذا يرضيك.
قلت له ذات مرة: أن الدرس الأخير وأتذكره حلقات الشهيد الصدر قدس سره متعب جداً لماذا لا نغير وقته لأن العودة من بني جمرة تربكنا ونحن نفكر في وقت الصلاة.
فردّ عليّ أصبر سيدنا الأستاذ ممتاز وربما لا نجد مثله، لم يبق إلاّ القليل من الكتاب، فأمتثل رأيه.
يعجبني فيه ذلك الهدوء والتواضع وسعة الصدر حينما أعرض عليه التباحث في الدرس عند غياب الأستاذ فلا يمانع.
واستغرب كثيراً كيف يبّز الأقران ويحصل على الدرجة النهائية مع قلّة إشكالاته ويخفق الآخرون؟!
والجواب واضح أنه يفهم ويحفظ بينما الآخرون ربما كان حفظهم أكثر من فهمهم.
ومما يدلّل على درايته العلمية أنني أحيل أكثر مقلدي صاحب كلمة التقوى آية الله الشيخ محمد أمين زين الدين رحمة الله عليه لثقتي الكبيرة في جودة فهمه وهو يحيل بدوره مقلدي صاحب الحدائق قدس سره إليّ.
لمست ذلك منه في أحدى رحلاتي معه للديار المقدسة للعمرة المفردة فقد اصطحبته معي لبيان فضله والاستعانة به في الإرشاد فوافق وعندما وصلنا للميقات وكلفته ببعض المهام قال لي: لن أتقدم عليك فكل القافلة تعمل بإرشادك سيدنا وفي الفندق رفض كذلك إلقاء محاضرة مهدتها له وقال لي أنا أجلس وسط الجميع ننصت لك. وقال مداعباً: لك الدنانير ولي التعب؟
أحبّ رحمه الله أن يكون خامل ذكرٍ مع ما يملكه من مميزات. ولذلك وإشباعاً لفهم العلم في روحه قرّر أن يهاجر لعش آل محمد قم المقدسة في بداية التسعينات وعرض عليّ فكرة مصاحبته أيضاً.
أما في مجال التصنيف فلديه نظرية وربما استسلفها من المقدس الشيخ المدني رحمه الله ((إن على العالم أن لا يبدأ مرحلة التأليف إلا بعد أن ينضج)) ولذلك شرع مؤخراً في التحقيق فقد حقّق وأخرج للنور: الأنوار الحيرية لصاحب الحدائق قدس سره. والرسالة الصلاتية بحلّة جديدة مع إحالات في الحاشية لشرحها قمت بمراجعة أكثرها قبل حوالي شهرين.
وأما في مجال القراءات الفكرية الخارجية فإنه قدس سره يتمتع بقريحة مناقشة أصول الفكرة وكم قد استعار مني كتباً متعددة، وأوعز إلىّ أن أشتري له مثل ما أملك وقلت له ذات مرة تعال معي معرض الكتاب وانتخب ما شئت فردّ عليّ: وكلتّّك في ذلك ولكن لا تطالبني بالثمن.
ثانياً: الأبعاد الإنسانية:
ولا فرق عندي أن استبدلها بكلمة (المعنوية) لأن الإنسانية بما هي إنسانية فرعٌ من الأصالة المعنوية التي يتمتع بها رفيق الدرب والتي تجلّت على أرض الواقع ملكات نفسانية لا تحتاج إلى تعمّل بل تطبيقاً من الروح بما علمت.
ولذلك كان مصداقاً للحديث ((العالم من لا تلتبس عليه اللوابس)) وأعطى من دماء قلبه الطاهر لأهل زمانه الكثير الكثير بحسن سمته وهديه ونقاء سريرته.
وطبيعي جداً على مثل ذلك القلب أن يضخّ من معانيه السامية على من حوله فيمدهم بالأخلاق الربانية وهذا هو شأن القدوة الذي نذر نفسه لهداية الخلق أن يتحمل الجهد والألم من أجل يحي العلم ويموت الجهل.
نعم لقد كان جندياً مجهولاً في الوسط العلمائي والوسط الاجتماعي ولا أنسى له موقفاً إنسانياً ما حييت أو ربما أنار لي كثير من شموع البر والإحسان بالوالدين لقد تكفّل رحمه الله برعاية والديه إلى آخر رمق من حياتهما مع كثرة مزاحماته.
وربما ظهرت آثار السهر في عينيه أثناء الدرس ولكنه يخفيه بعزيمة الجد والتحصيل.
وأن حبّ الصغير قبل الكبير هو من عظمة روح فقيدنا الغالي وقد تجلّى في تشييع جنازته المهيب.
أما مظاهر عبادته ونسكه فلقد أتحدث عنها وأدع الليل والمناجاة يخبران أملاك البرزخ عن حكاياهما معه. وذلك أن المظهر يحكي عّما في المخبر.
ولم أره في يوم من الأيام قد ثلب إنساناً ما حتى مع وجود الاختلاف الظاهر والخفي. نعم يفنّد الفكرة ولا يتعرض للأشخاص، لأن التعرض للشخصية في نظره وهي الحقيقة ضعف في الحجة والبرهان.
وأدبرت عنه الدنيا في مقتبل عمره وأقبلت عليه في شبابه فكان هو هو كما عرفته عن قرب ومعايشة.
استدين منه ويستدين مني ويبرئ كل منا صاحبه عند بيسّر الحال.
والعلاقة الحميمية التي تربطنا أصبحت مضرب المثل عند الكثير من طلاب العلم وافتخر بتلك الصحبة وهي من النوادر في عمري البائس إلى حد استعارة العباءة والإهداءات المتكثّرة وآخرها حينما حدّق النظر في عباءتي البنية اللون الذي يهواه أردت انتزاعها في صلاة الجمعة فردّ بابتسامته المعهودة هنئك الله بها أبا الحسين مالي كلما أردت الإفاضة في بيان معانيك الإنسانية كبست على قلبي ذكريات سالفات فيغلبني الدمع فاختنق بعبرتي فالتمس من اليراع أن يوقف جريه لا تعطّر نسيم ذكرك الخالد فينعش روحي الظمأ للحاق بك.
وفقد الأحبّة غربة كما قال علي مولاي ومولاك.

رفيق دربك المفجوع برحليك سيد جميل المصلي

... نسألكم الدعاء ...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *