بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, بارىء الخلائق أجمعين, والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين, سيد الأولين والآخرين وخاتم الأنبياء والمرسلين, الرسول المسدد والمحمود الأحمد الذي سُمي في السماء بأحمد وفي الأرض بأبي القاسم محمد, وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الهُداة المهديين المُبلغين لرسالات رب العالمين صلاةً كثيرةً دائمةً إلى قيام يوم الدين.
السلام عليكم أيها المحفل الكريم ورحمة الله وبركاته.
إنها فرصةٌ حزينةٌ وهي فرصة اللقاء بكم والحزن على وجوهكم بادٍ لفقيد المنبر الحسيني الشيخ حسن زين الدين تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جنته مع النبي وأهل بيته الطيبين الطاهرين.
قال الله سبحانه تعالى في مُحكم كتابه الكريم وقرآنه العظيم: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً) (الأحزاب:39) صدق الله العلي العظيم. التبليغ أيها السادة الكرام فريضةٌ في دين الإسلام, فريضةٌ على الرجال الرساليين الذين يُبَلِغون رسالات الله, ومعنى ذلك أنها إبلاغٌ لأحكام الله سبحانه وتعالى وإبلاغ الحكم إلى الناس أمرٌ واجب على من أوجب الله عليه ذلك وهي _التبليغات_ مظهرٌ من مظاهر المسئولية, “كلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته”, وفق الشروط التي وضعها الشارع المُقدس في هذا المجال, والتبليغ أيها السادة إما أن يكون بالقَلَم أو بالكَلِم, والتبليغ بالقَلَم عظيمٌ جداً عند الله إما بالتأليف أوالنشر أوالتصنيف فقد ورد أن مِدادَ العُلماء أفضل من دِماء الشُهداء, وكم أثر كتابٌ في أُمةٍ بل كم أثرت كلمةٌ ومقالةٌ في فئةٍ من الناس فأنقذتها من الظلمات إلى النور, لذى أقسَمَ الله سبحانه وتعال بالقلم فقال: (نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) (القلم:1), أقسَمَ بالقلم لأن القلم مُعجزةٌ إلهية, في القلم تُكشَفُ الحقائق وتُرى النوايا ويُنشَرُ العِلم وتُبَثُ الفضيلة, فالقلم مكرُمةٌ إلهيةٌ تفضلَ بها ربُنا سبحانه وتعالى على النوعِ البشري, فليسَ هناك مِن مخلوقٍ يُمارس مهنةَ القلم إلا هذا الإنسان, الملائكةُ لا يكتبون والجِنُ لا يَسطِرون, فالقلم مخصوصٌ بالإنسان, وكم رأُفَ القلم من حكمةٍ, وكم كَتَبَ من فضيلةٍ, وما إنتشرَ الإسلامُ إنتشاراً واسعاً إلا وللقلم له فيه أثرٌ كبير.
والعِلم والوعظ أيضاً يكون باللسان وبالخِطب والإرشاد والإنذار كما قال الله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ) (المدثر:1-2), والإنذارُ هنا باللسان واللسان أيضاً معجزةٌ من الله كَرَمَ بها الإنسان, (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) (الرحمن:1-4), فالبيان واللسان نعمةٌ من نِعمِ الله جل جلاله وأولُ أمرٍ بعد تلقي النبوة هو الأمرُ برسالة اللسان (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ) (المدثر:1-2), وآخر رسالةٍ أُمرَ بها الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم هو الإبلاغ باللسان, (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ…) _بين البلاغ والإبلاغ ترابطٌ, لم يقل “يا أيها النبي” بل قال “يا أيها الرسول”_ (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) (المائدة: من الآية67), وما أُزل إليه إلا أن يُبلغ, إلا من الرسالة, والرسالة اللسانية _أي الخطابة_ لها أهميةٌ كُبرى بحيث أصبحت توأماً مع أعظم فريضةٍ إفترضها الله على المسلمين ألا وهي الصلاة, فالله جل جلاله في شريعة النبي صلى الله عليه وآله قد جعل خطبتين, خطبتي الجُمعة مكان ركعتين من الصلاة, إنظر إلى أهمية الخُطبة وإلى أهمية البلاغ والتبليغ, ففرض الله جل وعلا على المسلمين أن يكون فيهم إمامٌ يُبَلِغهم كل اسبوعٍ بخطبتين, لابد لك أن تتوضأ من أجل الإستماع إليهما وأن تستقبل القِبلة عند الإستماع إليهما ويحرُمُ أن تتكلم بكلامِ الدُنيا عندما تسمع كلام المُبلِغ, وكذلك فرضَ خطبتين لصلاة عيد الفطر وخطبتين لعيد الأضحى بموسمٍ سنويٍ محليٍ عظيم, وكذلك سن خطبتين يوم عرفة بمؤتمرٍ عالمي كبير يضمُ اغلب المسلمين في موسم الحج, هذا بالنسبة إلى الوعظ الإسلامي العام.
وهناك وعظٌ خاصٌ هو (المِنبَرُ الحُسَينِي), فقد إنبثق المِنبر الحسيني عند الطائفة الشيعية, عند الإمامية بعد المصيبة الكبرى التي حلت بالمسلمين من إستشهاد سيدِ الشُهداء, أبِّيِ الظيم, الحسين بن علي عليه السلام, إنبثق نَوعٌ من الخطابة سُميَ بالخطاب الحسيني, فالمنبر الحسيني قفزةٌ في عالم الخطابة ودعوة كُبرى إلى التبليغ لرسالات الله سبحانه وتعالى.
إن المنبر الحسيني أيها السادة المؤمنون تقدم شوطاً كبيراً في إنجاز المهمة الإسلامية وفي نشر الخِطاب الديني إلى البشر وفي إنتشار المذهب, فإن المذهب ما انتشر هذا الإنتشار الواسع بعدما كان يحمله بعد مقتل الحسين رجالٌ لا يبلغون المائة بل أقل من المائة وانتشر حتى وصل المعتقدون بمذهب أهل البيت الملايين في زماننا هذا وكل ذلك بفضل جَناحين إثنين, الجَناح الأولُ جَناح الفقهاء والعلماء والجَناح الآخر هو جَناح الخطباء الحسينيين, والسبب في إنتشار الدعوة الحقة بوساطة المنبر الحسيني هو أن المنبر الحسيني قد ركبَ موجة العاطفة _العاطفة المشبوبة_ وأشعلها بنار الغضب على الظلم وعبئها بالفكر, فإن العاطفة مالم تٌعبأ بالفكر تُصبح لا فائدة فيها, العاطفة المشبوبة ضيقة الخناق والإنسان لابد أن يتحرك نحو الهدف ونحو الوصول إلى درجات الرُقي بالفكر وبالعاطفة, لا بالعاطفة وحدها ولا بالفكر الجاف, فالمنبر الحسيني جعل الحُزن والدمعة تُثير الإنتباه للواقعة لمن رأى, مثلاً لو جائت أُمةٌ فرأت هذه الطائفة تبكي وتبكي وتبكي, يقع سؤالٌ وتساؤل: لماذا يبكي هؤلاء؟, ما هذه الشعائر الكبيرة؟, لماذا هذا البذل العظيم؟, ما هذا الحُزن والكآبة؟, ماذا جرى على هذه الفئة من الناس؟, يُقال لهم إن الظالمين قتلوا إمامهم, من إمامهم؟, إمامهم هو إبن نبي هذه الأُمة, من قتله؟, قتلته هذه الأمة وهي تزعم أنها من أُمة جده وترجو شفاعته _لا انالهم الله شفاعته_, السؤال الآخر: ولماذا قتلت هذه الأُمةُ إبن بنت نبيها؟, الجواب: لأنه ما قبل الظلم وما قبل أن يُمَثِلَ الله شيطانٌ رجيم, وأن يُمَثِلَ رسول الله جاهليٌ لئيم, وأن يُمَثِلَ شرعَ الله رجلٌ نزِقٌ تشربت النصرانية به فصار شارباً للخمر ولاعباً مع الكِلاب والفهود والقرود, إن إمام هؤلاء قام ضد إنسانٍ يُمثل النبي وهو لا يؤمن بالنبي, يُمثل الإسلام وهو لا يعتقد بالإسلام, يهزأ بالقرآن, يستشهد بقول الكافر الذي كان إسمه على إسمه في يوم أُحد فيستشهد بملأٍ من الناس ويقول: (لعِبت هاشِمُ بالمُلكِ • فلا خبرٌ جاءَ ولا وحيٌ نزل), ويقول: “يومٌ بيومِ بدر” بمعنى انه قتل الحسين بن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أجل أبي جهل, ثأراً لأبي جهل وثأراً للوليد وأتباعهما من أرباب الجاهلية الجهلاء, فحينئذِ تكون هذه الحركة الحزينة المُعبئة بالفِكر والإيمان والعِلم مدعاتاً للتسائل من الآخرين المُوجب للبحث في هذه القضية ثم إعتناق هذه القضية, وهذا هو السبب الذي جَعلَ منبر الحسين عليه الصلاة والسلام أداة إعلامٍ كُبرى لنشر الحق ونشر الفضيلة ولذى فعلى الخطيب الحسيني مسؤوليةٍ كُبرى بأن يكون عمله أولاً خالصاً لله سبحانه وتعالى لأننا إستشهدنا بقوله تعالى: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً) (الأحزاب:39) إذاً فالخوف فقط من الله والأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر لا يقربان أجلا, إذاً فعلى الخطيب أن يُبَلِغ رسالات الله, أن يخشى الله وأن لا يخافَ احداً إلا الله كما أوصت الآية الكريمة, (وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً), فهو الحسيبُ وهو المراقبُ وهو الناصِر (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)(الروم: من الآية47), إذاً فالدمعةُ والحزن وسيلتان لنشر هذه الدعوة فهذه الدعوة نُشرت بالدمعة والحسين أروحنا فِداه وصلوات الله عليه هو قتيل العَبرَة كما أنه قتيلُ العِبرَة.
وإن فقيدنا العزيز (حشره الله مع سيده الحسين) إن شاء الله من خطباء المنبر الحسيني اللامعين الذي تمَحَضَ (رضي الله عنه) بعمله للحسين وللحسين وللحسين فقط, يرحمه الله ولروحه ولأرواح كل المخلصين رحم الله من قرأ الفاتحة مع الصلوات, والسلامُ عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته