البكاء على الحسين (ع) ميراث الأنبياء
“تركت حشاك وسلوانها * فخلِّ حشاي وأحزانها”
إن الدموع في الحسين (ع) لا تحتاج إلى معلمٍ يدرسها علم الهطول، فهي تنبع من الفطرة الطاهرة، وتنجذب للذبيح العطشان (ع)، دون تكلّف وتوجيه.
ففي تفسير قوله تعالى: { فتلقى آدم من ربه كلمات }، أنه رأى ساق العرش وأسماء النبي والأئمة (ع)، فلقّنه جبرائيل: قل:
يا حميد.. بحقّ محمد، يا عالي.. بحقّ علي، يا فاطر.. بحقّ فاطمة، يا محسن.. بحقّ الحسن والحسين، ومنك الإحسان.
فلما ذكر الحسين سالت دموعه وانخشع قلبه، وقال :
يا أخي جبرائيل.. في ذكر الخامس ينكسر قلبي وتسيل عبرتي؟ قال جبرائيل: ولدك هذا يُصاب بمصيبةٍ تصغر عندها المصائب، فقال:
يا أخي وما هي؟ قال: يُقتل عطشانًا غريبًا وحيدًا فريدًا، ليس له ناصرٌ ولا معينٌ، ولو تراه يا آدم وهو يقول: واعطشاه!.. واقلة ناصراه!.. حتى يحول العطش بينه وبين السماء كالدخان، فلم يجبه أحدٌ إلا بالسيوف، وشرب الحتوف، فيُذبح ذبح الشاة من قفاه، وينهب رحله أعداؤه، وتُشهر رؤوسهم هو وأنصاره في البلدان، ومعهم النسوان، كذلك سبق في علم الواحد المنّان، فبكى آدم وجبرائيل بكاء الثكلى.
فلاسم الحسين لوعة في قلوب المؤمنين، تهمل له العين، وتئن له الروح من تلقاء فطرتها.
فلا تحاول أن تجعل للبكاء عليه والتفجع لمصابه علةً وسببًا، ولا تفلسف تلك العبرات لدمعة واعية، ودمعة متخلفة، وأخرى جاهلة!
وبإمكانك أن تطوف مع تطواف الأنبياء (ع) في كتب الحديث على كربلاء لترى أن الدمعة سابقة للجرح والمأساة، مخلوقة مع خلق النور الأول.. نور محمد وآل محمد ﷺ.
فإن الحسين (ع) هو النور الإلهي الذي اصطبغ بالدماء في يوم العاشر من محرم الحرام سنة ٦١ هجرية، فلا تحوّل تلك الدماء المقدسة لقناع يمنعك من الإبصار لهالة النور السماوي، ففداحة الفقد من عِظم الفقيد:
“خيرة الله من الخلق أبي * بعد جدي فأنا ابن الخيرتين”
فهذا نبي الله نوح عليه وعلى نبينا وآله الصلاة والسلام، لما ضرب المسامير – في سفينته – وصل إلى الخامس، فلما ضرب الخامس انكسرت الخشبة وظهرت منها ضجة ورنة وأنة انكسر لها قلب نوح عليه السلام، فتعجب من ذلك، وسأل جبرائيل عنه فقال: يا نوح.. إن هذه المسامير باسم الخمسة من أهل الكساء، والمسمار الخامس باسم الحسين عليه السلام؛ يصيبه مصيبة تصغر عندها الرزايا والمصايب، فذكر وقعة كربلاء، فبكى نوح وجبرائيل عليهما السلام بكاءً شديدًا، وحزنا طويلاً.
ولما ركب في السفينة وطافت به جميع الدنيا، فلما مرت السفينة بكربلاء، أخذته إلى الأرض، وخاف نوح من الغرق، فدعا ربه قال: إلهي.. طفت جميع الدنيا فما أصابني فزع مثل ما أصابني في هذه الأرض، فنزل إليه جبرائيل، قال له: يا نوح.. في هذا الموضع يقتل الحسين عليه السلام سبط محمد ﷺ.
وهذا خليل الله إبراهيم عليه وعلى نبينا أزكى الصلاة والسلام، لما مر بأرض كربلاء وهو راكب فرسًا فعثر الفرس وسقط إبراهيم عليه السلام وشج رأسه، وسال دمه، فأخذ في الاستغفار وقال: يا رب.. أي شيء حدث مني؟ فنزل جبرائيل عليه السلام وقال: يا إبراهيم.. ما حدث منك ذنب، ولكن هنا يقتل سبط خاتم الأنبياء وابن خاتم الأوصياء فسال دمك موافقةً لدمه.
أما زكريا عليه السلام فقد سأل ربه أن يعلمه أسماء الخمسة، فأهبط عليه جبرائيل عليه السلام فعلمه إياها، ثم إن زكريا عليه السلام إذا ذكر محمدًا وعليًا وفاطمة والحسن عليهم السلام سري عنه همه وانجلى كربه، وإذا ذكر اسم الحسين عليه السلام خنقته العبرة ووقعت عليه البهرة، فقال ذات يوم: إلهي.. ما بالي إذا ذكرت أربعةً منهم تسليت بأسمائهم من همومي، وإذا ذكرت الحسين عليه السلام تدمع عيني وتثور زفرتي؟ فأنبأه الله تبارك وتعالى عن قصته فقال: كهيعص؛ فالكاف اسم كربلاء، والهاء هلاك العترة الطاهرة، والياء يزيد عليه اللعنة، وهو ظالم الحسين عليه السلام، والعين عطشه، والصاد صبره.
فلما سمع بذلك زكريا عليه السلام لم يفارق مسجده ثلاثة أيام، ومنع فيهن الناس من الدخول عليه، وأقبل على البكاء والنحيب، وكان يرثيه: إلهي.. أتفجع خير جميع خلقك بولده؟ إلهي.. أتنزل بلوى هذه الرزية بفنائه؟ إلهي.. أتلبس عليًا وفاطمة عليهما السلام ثياب هذه المصيبة؟ إلهي.. أتحل كربة هذه المصيبة بساحتهما؟ وكان يقول: إلهي.. ارزقني ولدًا تقر به عيني على الكبر، فإذا رزقتنيه فافتني بحبه، ثم افجعني به كما تفجع محمدًا ﷺ حبيبك بولده، فرزقه الله تعالى يحيى وفجعه به، وكان حمل يحيى ستة أشهر وحمل الحسين عليه السلام كذلك.
وأما ما كان من أمر إسماعيل عليه السلام فقد كانت له غنم وهي ترعى بشاطئ الفرات، فأخبره الراعي أنها لا تشرب الماء من هذه المشرعة منذ كذا يومًا، فسأل ربه عن سبب ذلك، فنزل جبرائيل وقال: يا إسماعيل.. اسأل غنمك فإنها تجيبك عن سبب امتناعها من شرب الماء، فقال لها: لِم لا تشربين من هذا الماء؟ فقالت بلسان فصيح: قد بلغنا أن ولدك الحسين عليه السلام سبط محمد ﷺ يُقتل هنا عطشانًا، فنحن لا نشرب من هذه المشرعة حزنًا عليه.
وهذا نزرٌ من قصص الأنبياء مع قصة الذبيح العطشان، نستلهم منها أن الدمعة عليه فطرة خالصة، ومصداق من مصاديق المودة في القربى.
وإني لأرجو أن تكون لي معرفة غنم إسماعيل عليه السلام، فهي خيرٌ مما يدعيه كثير من البشر من علم ومعرفة، ووعي زائف!
بقلم – حصان طروادة
٢٤ ذو الحجة ١٤٣٦هـ