أيام الحسين عليه السلام
((في كل عامٍ لنا في العشر واعية * تطبق الدور والأرجاء والسككا))
وها هي واعية الحسين عليه السلام ريحانة الرسول (ص) تصبغ الدور والأرجاء والسكك، فكل ما حولك حداد وسواد يؤذن بموسم الحزن والأسى على السبط الذبيح.
يافطات وإعلانات ومواعيد القراءة والمواكب، كل ما حولنا يخبرنا أن عاشر الأحزان قد اقترب، وهذا ما تراه العين وتدركه الحواس. أما ما وراء ذلك فأعظم وأجلّ، فالسماء وسكانها في أنين وبكاء لا يفتر، والملائكة في صعود وهبوط يتجاوبون بالآهات، ويسبحون بالدموع.. قد امتزج تهليلهم بالعويل، واختلطت أشجانهم بالترتيل.
وبقيت قلوبنا وأرواحنا فهل نحن على العهد باقون، نعيد قول الشاعر:((أنست رزيتكم رزايانا التي سلفت وهونت الرزايا الآتية)) نعيده اعتقادًا وإيمانًا؟! أم أننا كعهدنا في السنوات الماضية حيث أصبح عاشوراء موسمًا لاجترار آلامنا والتباكي على حالنا؟!
قبل ردح من الزمن كان إذا اختلف أحدهم مع صاحب مأتم أو عائلة تدير مأتمًا ولم يتم احتواء ذلك الخلاف تجده يفتح مأتمًا أو يقيم المأتم في بيته لأنه لا يستطيع العيش من دون مواساة أهل البيت عليهم السلام وإقامة العزاء على الغريب العطشان، ورغم السلبية التي تبدو في الوهلة الأولى إلا أنه مع مضي السنين تنسى الخلافات ويبرز جيل جديد لا يحمل خلافات الأجداد، وتمضي عجلة الحياة بهم في ركب الخدمة الحسينية يتوارثونها جيلاً بعد جيل.
وفي هذا الزمن الرديء إذا اختلفنا ولم يتم احتواء الخلاف تولد بسبب هذا الخلاف جمعية سياسية أو حركة مطلبية أو مؤسسة حقوقية، لأننا لا نستطيع الحياة من دون تمثيل وصراخ وتنفيس سياسي؛ لأن السياسة أصبحت همنا الأول والأخير.
جميل أن يمتلئ المأتم، ولكن حول سيرة نقية خالية من التوظيف والأغراض، ودمعة خالصة لله ورسوله وأهل بيته (ص).
جميل أن نرى السواد حدادًا على السليب التريب في كل ناحية.
جميل أن نرى المواكب لا تفتر تعج بالأصوات و(الرواديد) ينتقون أعذب الألحان وأفضل القصائد تنعى الوحيد الفريد من غير ناصر ومعين.
عظيمة تلك المشاهد التي توحي بالمصيبة، وفادح وقوعها، ولكنها تبقى مظاهر فارغة إذا خلت من الروح الحقيقية لعاشوراء، إذا خلت من القلوب المنكسرة والنفوس المنفطرة على الحسين عليه السلام، الحسين وكفى.
((ماعذر من ذكر الطفوف فلم يمت * حـزنًا بذكر (الطاء) قبل (الفاء)).
يكفي هذا الاسم الغارق في الفجيعة.. المخضب بأقدس دمٍ أريق ظلمًا وعدوانًا.
إن ذلك النحر الشريف يكفى لأن نموت أسفًا وحسرةً على حزّه من الوريد إلى الوريد.
إن ذلك الصدر المبارك يكفي لأن نقضي أعمارنا في العزاء والبكاء على أضلاعه المحطمة.
إن ذلك الفم المقدس يكفي لأن نعاف الماء ونمقت الطعام على عطشه.
بل إن حياتنا لا تساوي قلامة من خنصره الطاهر المبتور… ((وقليل تتلف الأرواح في رزء الحسين))
لأنه وجده وأباه وأمه وأخاه عليهم الصلاة والسلام العلة الحقيقة لوجودنا، وما نحن إلا مخلوق تافه حقير أمامهم.
فإن لم نستطع أن نعاف الدنيا كلها في سبيل خدمتهم ومواساتهم، وأن تنذر لهم الأعمار والأولاد والأموال وكل ما نملك من حطام زائل ((وأنا المحرم عن لذاته كل الدهور))فلا أقل من أن نبرئ الذمة أخلاقيًا إن كنا نملك ذرة من الشرف في أن نجعل عشرة أحزانهم خالصة لهم.
فما أوقحنا حين تكون الزهراء عليها السلام على قبر ابنها نادبة باكية ينشج لنشيجها حبيبنا الرسول (ص) ويبكي لبكائها مولانا المرتضى (ع) ويئن لأنينها سيدنا المجتبى (ع)، ونحن لاهون عنهم بأمور هذه الدنيا الدنية.. مشتغلون بها عن أحزان خير البرية.
ورحم الله أجدادنا حين كانوا يرددون باكين مفتجعين:(( تبكيك عيني لا لأجل مثوبةٍ * لكنما عيني لأجلك باكية))
ذلك البكاء الذي ينضح من فطرة الخلق، وتوجع الطينة المباركة، دمعة زكية نقية طاهرة من كل شائبة ((خلقوا من فاضل طينتنا)).
ورحم الله شيخنا طيّب الله ثراه حيث قال:
“عباد الله.. هذه أيام عاشورا.. أيّام الحسين عليه السلام قد أقبلت عليكم، فاجعلوها موسمًا للتقرب فيها إلى الله سبحانه، أقيموا المآتم على الحسين عليه السلام كما فعلَ رسول الله صلى الله عليه وآله، واتخذوا هذا الإمام العظيم نبراسًا تقتدون به، فتوحدون على حبه صفوفَكم، وتلمُّون تحت راية الإيمان بإمامته شتاتكم، ألم يقل فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وفي أخيه الحسن عليهما السلام: “الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا”؛ فاجمعوا بالاستماع إلى تأريخه ومصيبته كلمتكم.. تنبّهوا إلى ما يحاول أعداؤكم أن يدسوه في مواكبكم من شِعاراتٍ لا علاقة لها بدعوة الإسلام، ولا علاقة لها بمصيبتكم في هذا الإمام، فلا تفسحوا لهم المجال، لا تسمحوا لهم أن يستغلوا مناسباتكم ويشوهوا حقيقة معتقداتكم”.
... نسألكم الدعاء ...