عاشت الأمة الإسلامية جدلاً عقائدياً عنيفاً حول مبحث الإمامة والخلافة الإسلامية، منذ وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) وإلى اليوم، وقد تجسّد هذا الخلاف قديماً على الواقع العملي والتطبيق الخارجي أكثر منه على الصعيد النظري والفكري، والتاريخ الإسلامي شاهد على ذلك بما وقع من تنازع حول السلطة ابتداءً من سقيفة بني ساعدة، ومروراً بالثورات الشعبية كالتي قامت ضد عثمان بن عفان وحروب عسكرية كالجمل وصفين والنهروان وانتهاءً بفاجعة كربلاء الأليمة التي فضحت الخط العسكري الحاك م المتسلط.
أما حديثاً فلا يتعدى المشادات الكلامية والبراهين النظرية، ويلحظ ذلك في الكتب الخلافية بين السنة والشيعة فيما يتعلق بحق أهل البيت (عليهم السلام) في قيادة هذه الأمة، وقد ثبت بالدليل القاطع من القرآن والسنة والعقل والتاريخ وكل ما يصلح أن يكون دليلاً على أن أهل البيت أحق الناس بهذا الأمر، ولستُ هنا بصدد إثبات ذلك فهو موكول إلى محله.
والسؤال الذي يفرض نفسه في هذا المقام، هل مسألة القيادة لها هذه الأهمية في الفكر الإسلامي؟
الحاجة إلى القيادة حاجة فطرية ثابتة بالأدلة العقلية قبل الشرعية لأنها ضرورة تفرضها الحياة الاجتماعية قبل الدينية، فهل يعقل تصور مجتمع بشري بغير قيادة؟!
ولكن هذا لا يمنع أن يكون للدين تصوراً خاصاً للقيادة فحقيقة الأنبياء والرسل بذاتها تصور خاص ومفهوم جديد للقيادات المعصومة التي تتصل بالله تعالى.
أما القيادة بعد الرسول وهي محل النزاع، فما زالت الحاجة قائمة لبيان الحق، وتفسير الرسالة، والشهادة على تطبيقها، فتلك الحاجة لم تزل خاصة بعدما وقع الخلاف بين الأمة والرسول لم يسجى بعد، في حين أنهم على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) كانوا كالبنيان المرصوص، فوجود رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان هو الضمان من الاختلاف بل هو صمام أمان لهذه الأمة فعندما انفلت الوضع من بعده. فماذا كان يمثّل رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟!
فهل يا ترى غفل رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن ذلك؟!. كل الأدلة تؤكد أن الرسول عين الإمام من بعده وهو علي بن أبي طالب والأئمة من أهل البيت، وما كان غدير خم الذي نعيش هذه الأيام نفحاته، إلا صرخة ربانية عالية في سماء الحقيقة لتبقى مدى الدهور تجلجل بصوت علي (عليه السلام) إماماً لهذه الأمة وما كانت آية التبليغ إلا كلمات إلهية ترددها شفاه التالين للقرآن لتكون حجة دامغة في وجوه المنكرين.
قال تعالى: (يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك، وان لم تفعل فما بلغت رسالته، والله يعصمك من الناس).
وقد أثبتت المصادر الإسلامية نزول هذه الآية في ولاية علي (عليه السلام) في غدير خم وقد بلغ رواته من الصحابة عشرة ومائة صحابي، ومن التابعين أربعة وثمانين راوٍ ولم يقف رواة حديث الغدير عند هذا الحد بل نقل بالتواتر في كل طبقاته، فقد بلغ مجموع الرواة من القرن الثاني إلى القرن الرابع عشر للهجرة 360 راوٍ هذا غير آلاف الكتب السنية التي ذكرت الحديث، وقد صحح هذا الحديث جمهرة من ثقاة علماء أهل السنة مثل ابن حجر العسقلاني شارح صحيح البخاري يقول (وأما حديث، من كنت مولاه فعلي مولاه، أخرجه الترمذي والنسائي وهو كثير الطرق، وقد استوعبها بن عقدة في كتاب مفرد، وكثير من أسانيدها صحاح وحسان)، وابن المغازلي الشافعي بعدما يذكر حديث الغدير بسنده يقول (هذا حديث صحيح عن رسول الله.. وقد روى حديث الغدير عن الرسول نحو مائة نفس منهم العشرة، وهو حديث ثابت لا أعرف له علّة تفرد علي بهذه الفضيلة لم يشركه أحد) كما أرد أبو جعفر محمد بن جرير الطبري صاحب التاريخ كتاباً أخرج فيه أحاديث الغدير بخمسة وسبعين طريقاً وأفرد له كتاباً سمّاه كتاب الولاية. وخرج الحافظ أبو سعيد مسعود السجستاني حديث الغدير في كتاب (الدراية في حديث الولاية) في 17 جزءاً جمع فيه طرق حديث الغدير ورواه عن 120 صحابياً، وقد ذكر العلامة الأميني في كتاب الغدير 26 عالماً من فطاحل علماء أهل السنة، أفردوا كتباً في تخريج روايات أحاديث الغدير، فضلاً عن الكتب التي ذكرت الرواية، هذا غير المصادر التي أثبتت نزول هذه الآية في علي (عليه السلام) مثل السيوطي في الدر المنثور: ج 2 ص 298 والوادي في أسباب النزول والحافظ أبو بكر الفارسي في كتاب ما نُزل من القرآن في أمير المؤمنين، والحافظ أبو نعيم الأصبهاني والحافظ بن عساكر الشافعي وغيرهم.
وبعد أن ثبت ذلك تكون دلالت الآية واضحة في إمامة علي بن أبي طالب (عليه السلام) بل أبعد من ذلك فإن الواضح من مفهوم الآية أن ولاية علي شرط في قبول الدين والأعمال (فإن لم تفعل فما بلغت رسالته) فالرسالة بما فيها من أعمال (صلاة، وزكاة، وحج، وجهاد في سبيل الله…) لا تساوي شيئاً عند الله ما لم يكن هنالك اعتقاد بولاية علي (عليه السلام) فكما أن الذي يؤمن بالإسلام بكل تفاصيله ولكنه لا يؤمن بنبوة نبي من أنبياء الله تكون أعماله كسراب يحسبها الظمآن ماء، قال تعالى (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى) وعن علي (عليه السلام) كان يقول: (لا خير في الدنيا إلا الأحد رجلين، رجل يزداد كل يوم إحساناً ورجل يتدارك سيئته بالتوبة وأنى له بالتوبة؟ والله لو سجد حتى ينقطع عنقه ما قبل الله منه إلا بولايتنا أهل البيت) وفي حديث أنس بن مالك عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)… فوالذي بعثني بالحق نبياً لو جاء أحدكم يوم القيامة بأعمال كأمثال الجبل ولم يجيء بولاية علي بن أبي طالب لأكبه الله عز وجل في النار