الشيخ أكرم جزيني
انتهت مناسك الحج، وانطلقت مسيرة العودة، مائة وعشرون ألف مسلم يتهادون على رمال الصحراء، يتوسطون الحبيب المصطفى (ص) في حجه الأخير.
ومع صمت الصحراء عند غدير خم يأتي النداء (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ان الله لا يهدي القوم الكافرين).
إنه الوتد الأخير الذي يجب على النبي غرسه، وتد الأمان الذي يمسك رسالة السماء، ويحفظ جهود ثلاث وعشرين سنة قضاها النبي ومن معه تحت بريق السيوف.
وينصاع النبي (ص) للأمر الإلهي، فيحشر المسلمين في صعيد واحد، بين طابقين من نار، فحرار الشمس تكاد أن تذهب بالرؤوس، ولهيب الصحراء يكاد أن يأكل الأقدام، فكان الرجل منهم يضع طرفاً من ردائه تحت قدميه والآخر فوق رأسه…
ثم يقف (ص) خطيباً على منبر طوارئ صنع من أحداج الإبل، في آخر لقاء له مع هذه الجموع، لقاء حجة الوداع، الذي سيتلوه الرحيل…
فيحمد الله ويثني عليه ويفتتح بقوله (صلى الله عليه وآله): أيها المسلمون… يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وإني مسؤول وإنكم مسؤولون… إلى أن يقول (صلى الله عليه وآله): ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى، فقال: من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم والِ من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله وأدرَ الحق معه حيثما دار…
وما ان ختم النبي خطابه حتى تهافت المسلمون إلى خيمة علي (عليه السلام) يبايعونه، بخٍ بخٍ لقد أصبحت مولاي ومولى كل مؤمنٍ ومؤمنة… هكذا قال بعضهم!!
ويتم الأمر، ويثبت الوتد الأخير، وقبيل انتهاء رحمة الأقدام على باب خيمة علي (عليه السلام)، تتصل البشارة الإلهية بيد الأمين جبرائيل (عليه السلام) إلى الحبيب محمد (صلى الله عليه وآله): (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا).
فما أعظم هذا الوتد الذي أكمل الله به الدين، وأتم به النعمة، ورضي الإسلام ديناً.
إن أركان الدين وسائر أوتاده هي رهن بهذا الوتد الركن، ومدينة لذلك اليوم الذي لم يستطع التاريخ أن يحذفه من سجله رغم كل المحاولات، فقلما تجد كتاب حديث لم يذكره، وندر كتاب تاريخ لم يتعرض له، فهو الحقيقة التي لا ينكرها إلا من غش في عقله وبصره، أو أغلق أقفال قلبه فوق حشوة أحقاده.
لقد عجز المغرضون عن مقاومة سنده فعمدوا إلى تحريف مضمونة، فذهبوا إلى أن معنى المولى هو الناصر أو المحب، وأعرضوا عن معناه الحقيقي الذي يشرق من تمهيد النبي (صلى الله عليه وآله): (ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم)، إنها الولاية، وأولوية التصرف لا أقل!!
فهل يعقل أن يحشر النبي المسلمين بين طابقين من نار ليقول لهم من كنت محبه أو ناصره فهذا علي محبه أو ناصره؟! وهل يعقل أن يرهن الله رسالة النبي وجهاده المرير طيلة تلك السنين بقوله: من كنت محبه أو ناصره فهذا علي محبه أو ناصره؟!
ان دعاء النبي (صلى الله عليه وآله): (اللهم أنصر من نصره، واخذل من خذله…) ما هو إلا دعوة وحث الناس على نصرتهم لعلي (عليه السلام) وتأييدهم ودعمهم وأتباعهم له، وتحذيرهم من الابتعاد عن نهجه وخطه ومسلكه، وليس العكس أبداً. وليست كلمات النعي (يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب…) إلا إعلان عن استبدال الساعد العظيم بيد الأمانة التي ستحفظ الرسالة، إنها يد المرتضى من بعد ساعد المصطفى.
ربنا ثبت أقدامنا، ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، وصل اللهم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آل بيته الطاهرين