رضينا العيشَ مخمصةً وكدحا … وأفشينا لكلِّ الناسِ صُلحا
وشذَّبْنا مخالبَنا مرارًا … ولم نترُكْ لنا سيفًا ورُمحا
وآلفْنا الزمانَ فلا ترانا … نكابرُ أو نحاولُ فيه فتحا
رضينا بالهوانِ وقدْ ترانا … أشدَّ معادنِ الهيجاءِ قَدحا
وأعرقَ من مشى في الأرضِ غرسًا … وأكثرَ من سرى في البحرِ مِلحا
لأجل الدمعِ أطفأنا نُفوسًا … تجاوزُ سطوةَ النيرانِ ضَبحا
ومنْ أجلِ المآتمِ ما أجبْنا … لسانًا سامَنا لوْمًا وقَدحا
بذلنا ما الأنامُ إليهِ تصبو … وتحرصُ أنْ يصانَ وليسَ يمحى
لعشرٍ في المُحرَّمِ راسياتٍ … أبى ربُّ البسيطةِ أنْ تُنحَّى
لها ذِقْنا مريرَ العيشَ شَهْدًا … ودهرًا طالَ بالنكباتِ لمحا
وأدركنا الكرامةَ والمعالي … شُجونًا توسِعُ الأكبادَ قرحا
وأنَّ الفخرَ أنْ نُهْمي دموعًا … تُقيمُ لمأتمِ العُطشانِ صرحا
وأنَّ العِزَّ أنْ نحيا حدادًا … على أيامهِ ندبًا ونوْحا
أتحسبُني أُعيرُ القومَ طَرْفًا … وأُجزيهِمْ على الشحناءِ فضحا؟
كلابٌ لم تزلْ تنثالُ حولي … تُصِمُّ مسامعَ الأرجاءِ نبحا
صلالٌ كُلَّما أرسلتُ دمعي … يفيضُ لسانُها سُمًّا وقيحا
وما لانتْ ملامسُها ولكن … جَزتْني كُلَّما وادعْتُ فحًّا
وتُوغِلُ في الإساءةِ كي تراني … أبادِلُها بقبحِ القولِ قبحا
فبونٌ بينَ من طعِموا صديدًا … ومَنْ طعِموا من المنضودِ طلحا
أقولُ لغيرِها ولتلكَ أعني … ولكنِّي أدرتُ الوجهَ صفحا
أجِدِّي ما استطعتِ ولا تكِلِّي … ستلقَيْني رقيقَ الطبعِ سمحا
ورُحتُ وفي الحشا منِّي لهيبٌ … وعن زجرِ الملامِ طويتُ كشحا
فعنها قد شُغِلتُ ولستُ أدري … أجِدًا قولُها أم كان مزحا
شُغلْتُ بمفردٍ والحربُ تغلي … وأهلوهُ على البوغاءِ طرحى
سخى بأجلِّ أهلِ الأرضِ قدرًا … ومن قالوا لِلُقيا القتلِ مرحى
بيومِ كريهةٍ أخزى كُماةً … به لم يبذِلوا الأرواحَ شُحّا
فإنْ تَرُمِ البطولةَ فاطلِبَنْها … بقومٍ قد مشَوْا للموتِ فرحى
وإنْ تَرُمِ السخاءَ فقلْ حُسينٌ … ودونَكَ مَنْ بِهم للهِ ضحَّى
ولمَّا أنْ دعاهُ الموتُ لبَّى … وأرخى مِنْ عنانِ المُهْرِ سرحا
وأقبلَ والردى ليلٌ بهيمٌ … فأشرقَ في ظلامِ النقْعِ صبحا
وحاطتْهُ ذئابُ البغيِ جهْلًا … ولم تترُكْ له العسلانَ منحى
فجرَّدَ صارمًا ما سلَّ إلا … وسحَّتْ أنفُسُ الأبطالِ سَحّا
وقامَ بكفِّهِ طلْقًا خطيبًا … فأحسنَ في رؤوسِ القومِ نُصحا
رهيفًا ناحلًا خمصًا لطيفًا … يُطوِّفُ في الرقابِ الغُلْظِ مسحا
نهولًا للدماءِ وليسَ يُروى … سخيًا يغرقُ الهيجاءَ طفحا
لموعًا ينتشي بالحربِ حتى … يغادرُ أوجُهَ الطُلَقاءِ كلحى
يُعلُّونَ الرَّدى منهُ فتجري … دماؤهُمُ على الكُثبانِ سفحا
وإنْ مِنْ حولِهِ اصطكَّتْ نِصالٌ … أتاحَ شَباهُ مضمارًا وفسحا
بيُمنى السبطِ مثلُ عصاةِ موسى … ومثلُ البرقِ تُدرِكُ منهُ لمحا
ولولا حكمةٌ للهِ كانت … صواعقُهُ من الطوفانِ أمحى
فلو برزَ الحِمامُ إليهِ شخصًا … وأبصرَ عُظْمَ هيبتِهِ تنحَّى
ولمَّا أنْ قضى للبأسِ حقًّا … وفردًا قد رقى للمجدِ سفحا
وراحَ يُزينُهُ ألَقٌ تجلَّى … وآبَ عدوُّهُ بالعارِ نجحا
وأسقى شانِئيهِ الموتَ بترًا … وأوردَ راغبيهِ الخُلدَ دوحا
ترجَّل للردى بأبي وأمي … وندَّ جبينَهُ الوضَّاءَ رَشْحا
وأسلمَ نفسَهُ والثغرُ يتلو … وإنَّكَ كادحٌ للهِ كدحا
تُعانِقُهُ رماحُ البغيِ طعنًا … وتلثِمُهُ سيوفُ الكُفْرِ جَرحا
وتُمْطِرُهُ الصِّلادُ الصمُّ رجمًا … فتنضَحُ من دمِ المختارِ نضحا
فَعُذْرًا يا شجيَّ القلبِ إنِّي … أخافُ عليكَ تفصيلًا وشرحا
هوى للأرضِ يا نفسي فداهُ … ولم يقطعْ بها للهِ سبحا
يعالجُ مهجةً قد خطَّ فيها … إلهُ العرشِ فوقَ العرشِ مدحا
بنفسي سبطُ خيرِ الخلقِ طُرًّا … وشمسُ القيظِ تلفَحُ فيهِ لفحا
وجاءَ الشمرُ يا أرَضونَ ميدي … وأضمر قتل وترِ اللهِ ذبحا
وبعدَ الذبحِ أوطأَ عادياتٍ … لتهشُمَ زاكيَ الأضلاعِ ضبحا
وغودِرَ في العرا أشتاتَ شلوٍ … وقد سبحَتْ بفيضِ دماهُ سبحا
أهذا خامسُ الأشباحِ حقًا … ومن في فضلِهِ الرحمنُ أوحى
أهذا من نما في حجرِ طه … وشادَ أبوهُ للإسلامِ صرحا
أهذا من يُجابُ العبدُ إمَّا … تضرَّعَ للسما وبِهِ ألحَّا
فلا واللهِ لا يومٌ عظيمٌ … يجاوزُ يومَ عاشوراءَ فدحا
بهِ جسدُ الجلالِ غدا عفيرًا … ورأسُ المجدِ فوقَ الرُّمْحِ أضحى
كليم الحسين (ع) ١٤٤٥هـ – أنشدني في الحسين