الكتاب: واقع التقية عند المذاهب والفرق الإسلامية من غير الشيعة الإمامية
المؤلف: ثامر هاشم حبيب العميدي
الجزء:
الوفاة: معاصر
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

واقع التقية عند المذاهب والفرق الإسلامية من غير الشيعة الإمامية
تأليف
ثامر هاشم حبيب العميدي
4

بسم الله الرحمن الرحيم
(لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل
ذلك فليس من الله في شئ إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله
نفسه وإلى الله المصير)
آل عمران 3 / 28
5

المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وأزكى
التحية والتسليم على آله الأطهار الميامين وصحبه الأخيار المخلصين وتابعيهم بإحسان
إلى يوم الدين، وبعد...
لا شك أن التقية من المفاهيم الإسلامية الأصيلة التي شرعها الله عز وجل لتكون
ترسا للمؤمن، ووقاء لعرضه وكرامته حيثما وجد نفسه لا يقوى على مقاومة الظالمين.
ولقد أكدتها السنة المطهرة قولا وفعلا، واستعملها الصحابة والتابعون وتابعوهم
بإحسان (رضي الله عنهم)، وأقرها جميع الفقهاء والمحدثين والمفسرين من سائر
المذاهب والفرق الإسلامية.
7

ووافقت حكم العقل، لأن احتمال الضرر في شئ ما يلزم العاقل تجنبه إذا ما استحق
صاحبه اللائمة لو أقدم عليه، وهذا هو ما عرف عند أصوليي المذاهب الإسلامية بقاعدة
: وجوب دفع الضرر المحتمل، كما أن لقاعدة: الضرورات تبيح المحظورات علاقة
وطيدة بالتقية، مما يكشف عن مدى تغلغل هذا المفهوم الاسلامي في كثير مما يصدق عليه
عنوان: الضرر أو الإكراه، سواء أكان ذلك في أصول العقائد الإسلامية، أو
الأحكام الشرعية الفرعية، بل وحتى في الآداب والأخلاق العامة كما سيتضح في فصول
هذا البحث.
فالتقية إذا ليست هي - كما يتصورها البعض - من مختصات مذهب معين من مذاهب
المسلمين!! إذ أجمع الكل من المالكية، والحنفية، والشافعية، والحنبلية، والظاهرية،
والطبرية، والمعتزلة، والزيدية، والخوارج، والوهابية على مشروعيتها، واستدلوا على
ذلك بالكتاب، والسنة، والإجماع.
نعم، تميزت الشيعة الإمامية الاثنا عشرية عن غيرها من المذاهب الإسلامية بهذا
المفهوم، لأسباب لا تخفى على من درس تاريخ التشيع دراسة موضوعية، ووقف على
المعاناة الطويلة الأمد التي مر بها الأئمة من أهل البيت عليهم السلام، وبأزمان
متوالية كان ينظر فيها إلى التشيع - تبعا لعوامل السياسة والتعصب - بأنه جريمة
لا تغتفر!
أو ليس شتم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام على منابر المسلمين - وهو
خليفتهم بالأمس - ومطاردة أصحابه، وتشريدهم أي مشرد! والتنكيل بمن وقع في قبضة
السلطة، وتعذيبهم، وقتلهم وصلبهم على جذوع
8

النخيل مبررا كافيا لمن نجا منهم أن يلوذ بما شرعه الله تعالى وأكدته السنة
ليحفظ من خلاله دمه وعرضه وكرامته؟
أو ليس محاربة الإمام السبط الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام، وحمله على
الصلح كرها، وما حصل فيما بعد للإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته، وأصحابه في
واقعة الطف المشهورة، وما رافقها من أحداث يندى لها جبين البشرية خجلا مبررا آخر
لرجالات الشيعة على التقية؟
أو ليس ما حدث لحفيد الحسين زيد بن علي بن الحسين عليهما السلام، وكيف أنه صلب
بعد استشهاده، ثم أحرق ونسف رماده في اليم تشفيا، وما آل إليه أمر أئمة الشيعة
وأعلامهم في عهد الدولة العباسية وعلى أيدي خلفاء بني العباس كالمنصور الدوانيقي (ت
/ 158 هجري) الذي استدعى الإمام الصادق عليه السلام أكثر من مرة، وهدده بالقتل
مرات ومرات بعد اتهامه بشتى الاتهامات، وكيف أسرف في دماء العلويين كما أسرف من
قبل أخوه السفاح (ت / 136 هجري). حتى إذا ما جاء عهد هارون الرشيد (ت / 193 هجري)
اضطربت أحوال الشيعة أيما اضطراب! بعد أن ضيق هارون على زعيم البيت العلوي وإمام
الشيعة موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام فرماه في ظلمات السجون، ولم يخرج من سجنه
إلا شهيدا ينادى على جثمانه الطاهر بذل الاستخفاف: هذا إمام الرافضة يقنع
الباحث بمسوغات ما تميز به الشيعة عن غيرهم من المسلمين بالتقية؟
إن ما ذكره مؤرخو أهل السنة في حوادث سنة (236 هجري) كفيل باقناع الباحثين على
أن الشيعة الإمامية قد اضطهدت بما لم يضطهد بمثله مذهب قط من المذاهب
الإسلامية، ففي هذه السنة هدم قبر الإمام الحسين بن علي بن
9

أبي طالب عليهما السلام، وحرثت تربته وسقيت بالماء، بأمر من المتوكل العباسي (ت
/ 247 هجري) الذي كانت بطانته معروفة بالنصب والبغض لعلي بن أبي طالب عليه السلام
منهم علي بن الجهم الشاعر المشهور، وعبادة المخنث، وعمرو بن فرج الرخجي وغيرهم ممن
كانوا يخوفونه من العلويين، ويشيرون عليه بإبعادهم، والإعراض عنهم، والإساءة
إليهم، وسجن رموزهم، وتعذيب قادتهم.
ويكفي الباحث أن يعلم إن الإمام أحمد بن حنبل (ت / 240 هجري) على الرغم من أن
شوكته قد قويت جدا في عهد المتوكل، إلا أنه قد وشى حاسدوه زورا عليه عند
المتوكل، بأنه قد آوى علويا في منزله، وأنه رغب في مساعدته، فما كان من المتوكل
إلا أن أوعز إلى عبد الله بن إسحاق أن يتوجه إلى منزل الإمام ويفتشه، فبعث ابن
إسحاق حاجبه مظفرا مع صاحب البريد ابن الكلبي، مع امرأتين لكي يقوم الجميع
بالتحري عن الأمر، فما كان من هؤلاء إلا أن دخلوا على الإمام في منتصف الليل،
وصارحه ابن الكلبي بالأمر، فقال الإمام أحمد: ما أعرف من هذا شيئا، وإني لأرى
طاعته في العسر واليسر، والمنشط والمكره، والأثرة.
فقال له ابن الكلبي: لقد أمرني أمير المؤمنين أن أحلفك أن ما عندك طلبته،
فتحلف؟ قال: إن استحلفتموني، أحلف.
فأحلفه بالله والطلاق أن لا يوجد في منزله علوي، ثم أخذ الكل بتفتيش المنزل، كما
فتشوا منزل أبيه، وفتشت المرأتان النسوة، وكان بئر في المنزل فأدلوا شمعة فيه
ونظروا، فلم يجدوا شيئا، وبعد أن ثبت كذب
10

الواشين جاء كتاب المتوكل يحمل براءة الإمام أحمد بن حنبل مما اتهم به وأوصله
بمال جزيل (1).
ويتضح من كل هذا كيف تميزت الشيعة بالتقية، وكيف حملوا عليها قسرا، بعد أن لم
يجدوا غيرها وسيلة للأمان في تلك العهود التي تناهى فيها الظلم والاضطهاد بحقهم.
ولعل من أوضح ما يصور هذه الحقيقة التي لا شبهة فيها، أننا لم نجد من بين رواة
الحديث من أهل السنة من يقول مثلا: حدثني الشيخ، ويريد به الإمام مالك بن
أنس، أو أخبرني العبد الصالح، ويعني به الإمام الشافعي، أو أنبأني العالم، أو سمعت
العالم يقول كذا، ويقصد به الإمام أبا حنيفة.
بينما نجد مثل هذا التعبير مألوفا عند رواة الحديث من أصحاب أئمة الشيعة
الإمامية، فقد يقول أحدهم: حدثني أبو زينب، ونحن نعلم علم اليقين بأنه لا يريد
غير أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وقد يقول: حدثني العبد الصالح،
أو الشيخ، أو العالم، وهو يريد الإمام المضطهد في السجون موسى بن جعفر الكاظم عليه
السلام.
ولا شك أن لهذه الألفاظ المستعارة دلالاتها، والتي يمكن للباحث معرفتها إذا ما
أرجعها إلى الظروف السياسية المحيطة بحياة أولئك الرواة، ومن يروون عنه من الأئمة
عليهم السلام، إذ لا بد وأن تكون هناك مصلحة عائدة للإمام والراوي نفسه، توخيت
بهذا اللفظ المستعار اتقاء من معرة الظالمين

(1) مناقب الإمام أحمد بن حنبل / ابن الجوزي: 442، حلية الأولياء / أبو نعيم 9:
206 - 207.
11

الذين أسرفوا في عدائهم لعلي وأبنائه عليهم السلام، وضيقوا عليهم حتى عادت الرواية
عنهم كافية للقتل والتنكيل!
وإذا كانت الشيعة الإمامية قد تميزت فعلا عن غيرها باستعمال التقية - لما تقدم من
أسباب - فإن هذا لا يعني أن غيرهم لم يعمل بالتقية قط، كما أنه لا يعني أن تكون
التقية شيعية المولد كما ذهب إليه بعض الباحثين والكتاب من أهل السنة.
ونقول بصراحة، إنه من المؤسف جدا أن يتهم السني أخاه الشيعي بالكذب والنفاق
والمخادعة خصوصا فيما يتعلق بدعوة علماء الشيعة إلى ضرورة التقريب بين وجهات النظر
بين علماء المذاهب الإسلامية، والدعوة إلى التفاهم تحت ظل راية الإسلام الخالدة،
وتفويت الفرصة على أعداء هذا الدين العظيم. ومن ثم ادعاء أن التقية تشكل مانعا
حقيقيا عن التجاوب مع الشيعة، لاحتمال أن تكون رغبة الشيعة في التقارب تقية!!
هذا في الوقت الذي بين فيه علماء الشيعة من فقهاء ومحدثين وأصوليين، وعلماء
الكلام والعقائد أن التقية لها أحكامها وشروطها، وحالاتها التي تقيد بموجبها،
كما هو الحال عند علماء أهل السنة في تقييدها بحالات الضرر الشديد، أو الإكراه،
وأي ضرر أو إكراه يترتب على دعوة المسلمين إلى التسامح والإخاء، والمودة والصفاء
؟!
كما نقول بصراحة: إن بعض الكتاب من أهل السنة لم يكتف بما قال، بل زاد على
ذلك: جعله من المفاهيم الموضوعة من قبل - ما أسماه - أئمة
12

الرافضة أنفسهم، زيادة على ادعاء أن التقية كذب وخداع ونفاق (1)!!
ولهذا أصبح الكشف عن واقع التقية عند غير الشيعة، حاجة ملحة وضرورة من ضرورات
التقريب بين وجهات النظر بين الإخوة المسلمين، خصوصا وإن الدفاع عن مفهوم التقية
دفاع لا عن مذهب معين وإنما عن التشريع الإسلامي الخالد الذي امتاز بمرونته
وصلاحيته لكل عصر وجيل. لذا كانت لنا جولة مع مصادر إخواننا أهل السنة من فقه
وحديث وتفسير تمخض عنها هذا البحث..
وأود منذ البدء ان أشير إلى الدراسات والبحوث السابقة في هذا الحقل من

(1) راجع - على سبيل المثال لا الحصر - الكتب التالية:
الشيعة والتشيع / إحسان إلهي ظهير: 79 و 84، وتبديد الظلام / إبراهيم سليمان
الجبهان: 483 و 483، والشيعة وتحريف القرآن / محمد مال الله: 35 و 36، والتشيع
بين مفهوم الأئمة والمفهوم الفارسي / الدكتور محمد البنداري: 235، ورجال الشيعة
في الميزان / عبد الرحمن الزرعي: 6 و 17 و 18 و 50 و 51 و 126 و 148 و 173، والثورة
الإيرانية في ميزان الإسلام / الشيخ محمد منظور نعماني: 122 و 180 و 182 و 183 و 184
و 185 و 186 و 187 و 222، والصراع بين الإسلام والوثنية / القصيمي: 458 و 459، والشيعة
في التصور الإسلامي / علي عمر فريج: 150 و 151 و 152 و 154 و 165 و 183، والخطوط
العريضة / محب الدين الخطيب: 9 و 10، والشيعة معتقدا ومذهبا / الدكتور صابر عبد
الرحمن طعيمة: 5 و 88 و 118، وبطلان عقائد الشيعة / محمد عبد الستار التونسي: و 72
و 73 و 78 و 79، والوشيعة / موسى جار الله: 104، ودراسات في الفرق والعقائد /
الدكتور عرفان عبد الحميد: 53، ودراسات في عقائد الشيعة / الدكتور عبد الله محمد
الغريب: 17، وقد سبق هؤلاء - مع الأسف - الإمام الرازي في: محصل أفكار المتقدمين
والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين: 365، والشهرستاني في الملل والنحل:
1: 159 و 160، والشيخ محمد بن عبد الوهاب في رسالة في الرد على الرافضة: 20 -
تحقيق الدكتور ناصر بن سعيد.
13

الدراسة - أعني: التقية عند أهل السنة - وهي:
الأول: آراء علماء المسلمين في التقية والصحابة وصيانة القرآن الكريم، للسيد
مرتضى الرضوي، طبع لأول مرة في الهند سنة 1409 ه‍، وأعيد طبعه في بيروت سنة
1411 ه‍، وقد أفرد السيد الرضوي للتقية عند أهل السنة في هذا الكتاب ست صحائف
فقط.
الثاني: التقية في إطارها الفقهي - دراسة مقارنة لواقع التقية، للأستاذ علي
الشملاوي، كتبه بدمشق سنة 1411 ه‍، وطبع في بيروت سنة 1412 ه‍، وقد تناول الأستاذ
الشملاوي في القسم الثاني من هذا الكتاب التقية عند أهل السنة وذلك في مائة
وسبعة صحائف، والحق أن هذا الكتاب هو من أجود ما وقفت عليه في هذا المجال.
الثالث: التقية عند أهل السنة نظريا وتطبيقيا، للأستاذ علي حسين رستم من
الباكستان، بحث منشور في مجلة الثقافة الإسلامية - في العددين: الحادي والخمسين /
ربيع الأول - ربيع الثاني / 1414 ه‍، والثاني والخمسين / جمادى الأولى - جمادى
الثانية / 1414 ه‍، اصدار المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية الإيرانية بدمشق،
ويقع البحث في إحدى وستين صحيفة.
الرابع: التقية في آراء علماء المسلمين، للشيخ عباس علي براتي، بحث منشور في مجلة
رسالة الثقلين، العدد الثامن / شوال - ذو الحجة / 1414 ه‍، اصدار المجمع العالمي
لأهل البيت عليهم السلام في قم المقدسة. ويقع البحث في
14

عشرين صحيفة.
وهناك الكثير من اللبنات الأساسية لإنشاء مثل هذه البحوث قد توزعت في كتب الشيعة
الإمامية، إذ تناولوا فيها هذا الموضوع عرضا في مؤلفاتهم، بما لا يسع المجال إلى
ذكرها تفصيلا.
وبعد.. فإن مما سوغ لي البحث عن التقية عند أهل السنة على الرغم مما حملته
البحوث المتقدمة من عناوين، والتي يبقى الفضل لأصحابها، إذ سبقوا إليها والفضل
للسابق، هو الوقوف على الكثير من الأقوال التي أطلقها بعض الكتاب من أهل السنة
عن التقية عند الشيعة الإمامية، ووصفها بأنها نفاق وكذب وخداع، خصوصا فيما يتعلق
بأحاديث التقية التي أخرجها ثقة الإسلام الكليني قدس سره (ت / 329 ه‍)، عن أئمة أهل
البيت عليهم السلام، في كتابه الكافي.
ولما كنت قد تناولت في دراسة مستقلة موضوع التقية في كتاب الكافي، وناقشت فيها
جميع ما قيل عن أحاديث التقية وغيرها في هذا الكتاب (1)، كنت قد وقفت على الكثير من
أقوال الفقهاء من أهل السنة في مشروعية التقية مما لم أذكره هناك، ولم أجده في
هذه البحوث بالصورة التي ينبغي أن تكون عليها الدراسات المقارنة.
هذا فضلا عن إغفال آراء المذاهب والفرق الإسلامية الأخرى المعروفة كالمذهب
الطبري، والظاهري، والزيدي، ورأي المعتزلة، والخوارج، والوهابية في هذه البحوث، وما
وجد فيها من ذلك فهو لبعض دون بعض مع

(1) راجع دفاع عن الكافي للمؤلف - الباب الثاني من الجزء الأول.
15

ترك أكثرهم.
والأكثر من هذا هو الحاجة الماسة إلى معرفة آراء فقهاء المذاهب الأربعة المشهورين
:
- الإمام مالك بن أنس (ت / 179 ه‍).
- الإمام أبي حنيفة النعمان (ت / 150 ه‍).
- الإمام الشافعي (ت / 204 ه‍).
- الإمام أحمد بن حنبل (ت / 240 ه‍)، مع بيان مواقفهم الصريحة من التقية على مستوى
العمل والافتاء، وهذا ما لم أقف عليه في تلك البحوث إلا لماما، زيادة على ما في
بحث التقية عند غير الشيعة الإمامية من فوائد جمة، لعل أهمها سد المنافذ بوجه
الرياح الصفراء التي طالما حاولت تشويه الحقائق بغبارها الكثيف.
كل ذلك كان عاملا مشجعا لإعداد هذا البحث الذي قسمته على ثلاثة فصول وهي:
الأول: معنى التقية ومصادرها التشريعية.
الثاني: موقف الصحابة والتابعين وغيرهم من التقية.
الثالث: التقية في فقه المذاهب والفرق الإسلامية.
ولا ادعي الابتكار ولا التجديد في هذا البحث، وإنما هو لبنة صغيرة قد تضاف إلى
بناء هذا المفهوم الإسلامي الشامخ، إن لم يعثر صاحبها فيلتمس
16

الإقالة جزاء على حسن نيته برجاء التوفيق لخدمة الإسلام والمسلمين.
ومنه جل شأنه أستمد العون والرشاد.
وبه تعالى ثقتي، وهو حسبي.
والحمد له ابتداء وختاما.
وصلاته وسلامه على حبيب القلب محمد وآله.
ثامر العميدي
3 / صفر / 1415 ه‍
17

الفصل الأول: معنى التقية ومصادرها التشريعية
معنى التقية لغة واصطلاحا
معنى الإكراه وحالاته وأقسامه
مصادر تشريع التقية
18

معنى التقية لغة واصطلاحا
التقية في اللغة:
عرفوا التقية لغة بأنها: الحذر والحيطة من الضرر، والاسم: التقوى، وأصلها:
إوتقى، يوتقي، فقلبت الواو إلى ياء للكسرة قبلها، ثم أبدلت إلى تاء وأدغمت،
فقيل: اتقى، يتقي (1).
وعن ابن الأعرابي: التقاة، والتقية، والتقوى، والاتقاء كله واحد، ولهذا جاء في
بعض القراءات القرآنية: (إلا أن تتقوا منهم تقية) (2)، في موضع (تقاة).
وفي الحديث الشريف: تبقه وتوقه! ومعناه: استبق نفسك ولا تعرضها
للهلاك والتلف، وتحرر من الآفات واتقها (3).
وفي الحديث أيضا: قلت: وهل للسيف من تقية؟ قال: نعم، تقية على إقذاء، وهدنة
على دخن.
ومعناه: إنهم يتقون بعضهم بعضا، ويظهرون الصلح والاتفاق، وباطنهم

(1) تاج العروس / الزبيدي 10: 396 - وقي.
(2) آل عمران 3: 28.
(3) النهاية في غريب الحديث / ابن الأثير 5: 217.
21

بخلاف ذلك (1).
التقية في الاصطلاح:
لا يختلف تعريف التقية عند أهل السنة عن تعريفها عند الشيعة الإمامية لا في قليل
ولا في كثير إلا من حيث فنية التعبير وصياغة الألفاظ في تصوير المعنى الاصطلاحي
للتقية، وهذا إن دل على شئ إنما يدل على اتفاقهم من حيث المبدأ على أن التقية
ليست كذبا، ولا نفاقا، ولا خداعا للآخرين.
فقد عرفها السرخسي الحنفي (ت / 490 ه‍) بقوله: والتقية: أن يقي نفسه من العقوبة
بما يظهره، وإن كان يضمر خلافه (2).
وعرفها ابن حجر العسقلاني الشافعي (ت / 852 ه‍) بقوله: التقية: الحذر من إظهار
ما في النفس - من معتقد وغيره - للغير (3).
وقال الآلوسي الحنبلي الوهابي (ت / 1270 ه‍) - في تفسير قوله تعالى: (إلا أن
تتقوا منهم تقاة) (4): وعرفوها (أي: التقية) بمحافظة النفس أو العرض، أو
المال من شر الأعداء.
ثم بين المراد من العدو فقال:
والعدو قسمان:
الأول: من كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين كالكافر والمسلم.

(1) لسان العرب / ابن منظور 15: 401.
(2) المبسوط / السرخسي 24: 45.
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري / ابن حجر العسقلاني 12: 136.
(4) آل عمران 3: 28.
22

والثاني: من كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية، كالمال، والمتاع، والملك،
والإمارة (1).
وهذا التعريف وإن كان صريحا بجواز التقية بين المسلمين أنفسهم، وعدم حصرها بتقية
المسلم من الكافر، إلا أن ما يؤخذ عليه بأنه غير جامع لأفراد التقية إذ أخرج منها
التقية من سيئ الخلق الذي يتقي الناس لسانه بمداراته، كما نص عليه البخاري وغيره
من المحدثين والمفسرين - كما سيأتي بيانه - ولا شك أن سيئ الخلق ليس من العدو
بقسميه.
وعرفها السيد محمد رشيد رضا (ت / 1354 ه‍) بأنها: ما يقال أو يفعل مخالفا
للحق لأجل توقي الضرر (2).
وهذا التعريف من أجود تعاريف التقية اصطلاحا، وهو جامع مانع، ومنطبق تماما مع
تعريف الشيعة الإمامية للتقية، وإن كانت التعاريف السابقة لا تختلف عن تعريف الشيعة
كثيرا.
قال الشيخ الأنصاري من الشيعة (ت / 1282 ه‍): التقية: اسم لاتقى يتقي، والتاء
بدل عن الواو كما في النهمة والتخمة.
والمراد هنا: التحفظ عن ضرر الغير بموافقته في قول أو فعل مخالف للحق (3).
وعرفها الشيخ المراغي المصري (ت / 1364 ه‍) بقوله: التقية، بأن يقول

(1) روح المعاني / الآلوسي 3: 121.
(2) تفسير المنار / السيد محمد رشيد رضا 3: 280.
(3) التقية / الشيخ مرتضى الأنصاري: 37.
23

الإنسان، أو يفعل ما يخالف الحق، لأجل التوقي من ضرر الأعداء، يعود إلى النفس، أو
العرض، أو المال (1).
ثم ادخل في التقية ما لم يدخله في تعريفها كمداراة الكفرة، والظلمة، والفسقة،
وإلانة الكلام لهم والتبسم في وجوههم، وغير ذلك مما سيأتي في هذا البحث.
وعرفها موسى جار الله التركماني (ت / 1369 ه‍) فقال: والتقية: هي وقاية النفس
عن اللائمة والعقوبة، وهي بهذا المعنى من الدين، جائزة في كل شئ (2).

(1) تفسير المراغي: 3: 137.
(2) الوشيعة / موسى جار الله: 72.
24

معنى الإكراه وحالاته وأقسامه
لما كانت التقية لا تحصل بغير إكراه عليها واضطرار إليها، لذا لم أقف على من
أباحها اختيارا من جميع علماء الشيعة وأكثر فقهاء المذاهب الإسلامية كذلك إلا من
شذ منهم كما سيتضح من الفصل الثالث في هذا البحث.
ولقد اتفق المسلمون على أن للإكراه حالات متعددة مختلفة، وفي بعضها ما لا تصح فيه
التقية شرعا، لأن التقية ستكون في غير موضعها، ويؤاخذ فاعلها عليها، ولهذا ميزوا
حالات الإكراه التي لا تصح فيها التقية عن غيرها، وقبل الحديث عنها يحسن بنا بيان
معنى الإكراه فنقول:
معنى الإكراه:
الإكراه لغة، مشتق من كره، والاسم: الكره بالفتح، وهو كل ما أكرهك غيرك عليه،
والكره بالضم: المشقة، يقال: قمت على كره، أي: على مشقة، ويقال: أقامني
فلان على كره، إذا أكرهك عليه.
فالكره بالضم هو فعل المختار، والكره بالفتح هو فعل المضطر (1).

(1) لسان العرب / ابن منظور 12: 80 كره.
25

فالإكراه إذا: هو حالة من حالات الإجبار التي يحمل الفرد بواسطتها على النطق
بشئ أو فعل شئ من غير رضاه. ولهذا وصف السرخسي الحنفي (ت / 490 ه‍) حالة الإكراه
بأنها: اسم لفعل يفعله المرء بغيره فينتفي به رضاه، أو يفسد به اختياره (1).
حالات الإكراه التي لا تصح فيها التقية:
ويراد بها حالات الإكراه المتعلقة بأفعال القلوب، والتي لا سبيل للمكره إلى
علمها في قلب المكره، وبالتالي فلا يصح التجاء المكره إلى شئ منها، كما لو
أكره المسلم على بغض المؤمنين، أو حب الكافرين حقيقة، أو على الاعتقاد بعقيدة
فاسدة، أو على إنكار ما ثبت أنه من الدين إنكارا قلبيا، ونحو ذلك.
فهذا وأمثاله لا تصح فيه التقية قطعا، ولم أقف على من صرح بخلافه، وقد أيد هذا
المعنى القرآن الكريم صراحة كما في قوله تعالى: (لا يتخذ المؤمنون
الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في
شئ إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله
المصير) (2).
ولا يخفى ما في هذه الآية من صراحة تشريع التقية، إلا أن المهم هنا هو أن التحذير
الوارد فيها قد جاء مباشرة بعد تشريع التقية: (ويحذركم الله نفسه)، لئلا
يتحول إنكار المؤمن للحق بفعل الإكراه إلى إنكار قلبي كما يريده من أكرهه، لأن
الواجب أن يبقى القلب مطمئنا بالإيمان.
ولقد أكد تعالى هذه الحقيقة فقال بعد تشريع التقية والتحذير مباشرة:

(1) المبسوط / السرخسي 24: 38.
(2) آل عمران 3: 28.
26

(قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في
السماوات وما في الأرض والله على كل شئ قدير) (1).
قال الرازي الشافعي (ت / 606 ه‍) في تفسير الآية المتقدمة: إنه تعالى لما نهى
المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء ظاهرا وباطنا واستثنى عنه التقية في الظاهر،
أتبع ذلك بالوعيد على أن يصير الباطن موافقا للظاهر في وقت التقية، وذلك لأن من
أقدم عند التقية على إظهار الموالاة فقد يصير إقدامه على ذلك الفعل بحسب الظاهر
سببا لحصول تلك الموالاة في الباطن. فلا جرم بين تعالى أنه عالم بالبواطن كعلمه
بالظواهر، فيعلم العبد إنه لا بد أن يجازيه على ما عزم عليه في قلبه (2).
حالات الإكراه التي تصح فيها التقية:
تصح التقية في حالات الإكراه الخارجة عن أفعال القلوب غالبا، بحيث يستطيع المكره
علمها عند المكره، وأمثلتها كثيرة لا حصر لها.
منها: الإكراه على شرب الخمرة، أو أكل لحم الخنزير.
ومنها: الإكراه على شتم المؤمن، أو موالاة الكافر ظاهرا.
ومنها: الإكراه على ترك الواجب، كالإفطار في شهر رمضان، ونحوه.
والخلاصة: إن تأثير الإكراه يجب ان لا يتعدى إلى الاعتقادات القلبية، لأنها مما
لا يحكم فيها الإكراه أصلا، ولا يعلم ثباتها من تغيرها غير الله تعالى ولا يد
لغيره تعالى عليها. بل يجب حصر تأثير الإكراه في دائرة اللفظ، والفعل

(1) آل عمران 3: 29.
(2) التفسير الكبير / الفخر الرازي 8: 15.
27

الظاهر الذي تسوغ فيه التقية شرعا.
على أن هناك بعض الحالات وإن لم تتعلق بأفعال القلوب إلا أن التقية فيها لا تصح
أيضا وهذا ما سيتضح من تقسيمهم الإكراه على قسمين وهما:
أقسام الإكراه:
القسم الأول: الإكراه على الكلام:
وهذا القسم من الإكراه لا يجب به شئ عندهم مع مخافة الضرر، فكلما أكره المسلم
على كلام فله ذلك، وقد ضربوا له أمثلة عديدة، منها: التلفظ بكلمة الكفر.
ومنها: طلاق المكره، ونحو ذلك.
القسم الثاني: الإكراه على الفعل.
وهذا القسم على نحوين:
أحدهما: إكراه تسوغ معه التقية حال الاضطرار، ومن أمثلته: الإكراه على القيام عند
مجئ الحاكم الظالم، بما يدل ظاهره على الاحترام، أو الإكراه على شرب الخمرة، وأكل
لحم الخنزير وغيرها من موارد الإكراه التي تصح فيها التقية فعلا لا قولا.
والآخر: إكراه لا تسوغ معه التقية مهما بلغت درجة الإكراه، ومثلوا له بالإكراه
على قتل المسلم بغير حق، فعلى المكره ان يمتنع ولو أدى إلى قتله فليس له أن
يقتل، ولو قتل بذريعة التقية، فلولي الدم القصاص، وهذا من المتفق عليه بين سائر
فقهاء الشيعة الإمامية، ولم يفت فقهاء أهل السنة
28

بخلافه إلا من شذ منهم، وفيه تفصيل سيأتي ذكره في فقه الأحناف.
ومن الجدير بالإشارة هو أن التقية ليست واجبة في جميع الحالات وبلا قيد أو شرط عند
فقهاء المسلمين، فهي قد تكون واجبة، وقد تكون محرمة، كما قد تكون مباحة أو مندوبة
أو مكروهة بحسب الأحكام التكليفية الخمسة، ولكن ليس لأحكام التقية ضابط في أغلب
حالات الإكراه إلا ما نص عليه بدليل معتبر، ولهذا فقد ترك تقديرها لمن يحمل
عليها قسرا.
قال ابن نجيم الحنفي (ت / 790 ه‍): إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررا
بارتكاب أخفهما.
ثم نقل عن الزيلعي قوله: الأصل في جنس هذه المسائل أن من ابتلي ببليتين، وهما
متساويتان يأخذ بأيهما شاء، وإن اختلفتا يختار أهونهما، لأن مباشرة الحرام لا
تجوز إلا للضرورة، ولا ضرورة في حق الزيادة (1).
وقد نص على هذه الحقيقة كل من:
الفرغاني الحنفي (ت / 295 ه‍) (2)،
ومحمد بن محمد أبو حامد الغزالي الشافعي (ت / 505 ه‍) (3)،
وأحمد بن إدريس القرافي المالكي (ت / 648 ه‍) (4).
ذلك لأن الإكراه يحصل بكل ما يؤثر العاقل الإقدام عليه حذرا مما هدد به، مع
اختلاف ذلك باختلاف الأشخاص، والأفعال المطلوبة، والأمور المخوف بها.

(1) الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة النعمان / ابن نجيم: 89.
(2) فتاوى قاضيخان / الفرغاني الحنفي 3: 485 - مطبوع بهامش الفتاوى الهندية.
(3) إحياء علوم الدين / الغزالي 3: 138.
(4) الفروق / القرافي 4: 236 - الفرق الرابع والستون والمائتان.
29

فقد يكون الشئ إكراها في شئ دون غيره، وفي حق شخص دون آخر، وهذا هو ما نص عليه
السيوطي الشافعي (ت / 911 ه‍) (1).
كما أن إطلاقات التقية في كل ضرورة - إلا ما خرج من ذلك بدليل معتبر - قد أيدها
الكتاب العزيز بجملة من الآيات الكريمة، نذكر منها:
قوله تعالى: (إلا ما اضطررتم إليه) (2).
قوله تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) (3).
قوله تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) (4).
كما أيدتها السنة المطهرة، كما في قوله (ص): رفع الله عن أمتي الخطأ،
والنسيان، وما استكرهوا عليه (5).

(1) الأشباه والنظائر / السيوطي: 209.
(2) الأنعام 6: 119.
(3) الحج 22: 78.
(4) البقرة 2: 185.
(5) فتح الباري بشرح صحيح البخاري / ابن حجر العسقلاني 5: 160 - 161، كشف الخفاء /
العجلوني 1: 522، الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة / السيوطي: 87، كنز العمال
/ المتقي الهندي 4: 233 / 10307.
30

مصادر تشريع التقية
لا شك أن جميع ما يعتقد المسلمون بصحته من عقائد وأحكام، وعلى اختلاف مذاهبهم
وفرقهم لا بد له من دليل شرعي، ذلك لأن ما في الدين الإسلامي أشبه ما يكون بسلسلة
من المعارف العلمية التي تتبعها أخرى عملية، متصلة الحلقات ويشدها الدليل
والبرهان.
وبغض النظر عن اختلاف المسلمين في بعض العقائد والأحكام تبعا لاختلافهم في تحديد
دلالة الألفاظ وظواهرها، وما لها من تأثير ملحوظ في تفسير نصوص الكتاب والسنة،
أو لإقامة بعضهم أدلة أخرى للاستنباط، لم تزل إلى الآن محل نزاع بينهم، إلا أن
ما يجمعهم - والحمد لله - من العقائد والأحكام هو أكثر بكثير مما يفرقهم، هذا
فضلا عن اتفاقهم في الآداب والأخلاق الإسلامية التي يندر وجودها في غير المجتمع
الإسلامي.
ومن بين تلك الأمور التي تجمعهم هي التقية، حيث تقدم أنها من المفاهيم الإسلامية
المتفق عليها بين سائر المذاهب والفرق الإسلامية، وعليه فلا بد وأن تكون مصادرها
التشريعية قد أطبقت على صحتها كلمة المسلمين.
31

وفيما يأتي بيان تلك المصادر المشرعة للتقية، والتي احتج بها في المقام أهل
السنة، وهي:
أولا - النصوص القرآنية
استدل علماء أهل السنة وغيرهم من علماء المذاهب والفرق الإسلامية بجملة من الآيات
الكريمة - وقد شاركهم بهذا علماء الشيعة الإمامية أيضا - على مشروعية التقية، نذكر
منها:
الآية الأولى:
قال تعالى: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين
ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ إلا أن تتقوا منهم تقاة
ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير) (1).
فقد احتج الإمام مالك بن أنس (ت / 179 ه‍) بهذه الآية على أن طلاق المكره تقية لا
يقع، وقد نسب القول بهذا إلى ابن وهب ورجال من العلم - على حد تعبيره - ثم ذكر
أسماء الصحابة الذين قالوا بذلك، ونقل عن ابن مسعود قوله: ما من كلام كان يدرأ
عني سوطين من سلطان إلا كنت متكلما به (2).
وقال الطبري (ت / 310 ه‍): (إلا أن تتقوا منهم تقاة): إلا أن تكونوا في
سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتضمروا لهم العداوة.
وقد روى هذا المعنى عن:
ابن عباس (ت / 68 ه‍) من طريقين.

(1) آل عمران 3: 28.
(2) المدونة الكبرى / مالك بن أنس 3: 29.
32

الحسن البصري (ت / 110 ه‍).
وأخرج عن السدي (ت / 127 ه‍) أنه قال في هذه الآية: إظهار الولاية للكافرين في
دينهم، والبراءة من المؤمنين.
وعن عكرمة مولى ابن عباس (ت / 105 ه‍)، ومجاهد بن جبر المكي (ت / 103 ه‍) قالا:
(إلا أن تتقوا منهم تقاة)، أي ما لم يهرق دم مسلم ولم يستحل ماله.
وعن الضحاك بن مزاحم (ت / 105 ه‍)، وابن عباس: التقية باللسان، ومن حمل على أمر
يتكلم به وهو لله معصية فتكلم مخافة على نفسه، وقلبه مطمئن بالإيمان فلا إثم
عليه، إنما التقية باللسان (1).
واحتج الفقيه السرخسي الحنفي (ت / 490 ه‍) بهذه الآية على جواز التقية، ونقل قول
الحسن البصري (ت / 110 ه‍): إن التقية جائزة إلى يوم القيامة، وقال معقبا: وبه
نأخذ، والتقية أن يقي نفسه من العقوبة بما يظهره وإن كان يضمر خلافه.
وقد كان بعض الناس يأبى ذلك ويقول إنه من النفاق، والصحيح أن ذلك جائز لقوله تعالى
: (إلا أن تتقوا منهم تقاة)، وإجراء كلمة الشرك على اللسان مكرها مع
طمأنينة القلب بالإيمان من باب التقية (2).
وقال الزمخشري المعتزلي (ت / 538 ه‍): (إلا أن تتقوا منهم تقاة)، إلا أن
تخافوا أمرا يجب اتقاؤه تقية.. رخص لهم في موالاتهم إذا خافوهم، والمراد

(1) جامع البيان عن تأويل آي القرآن / الطبري 6: 313 - 317.
(2) المبسوط / السرخسي 24: 45.
33

بتلك الموالاة مخالفة (1) ومعاشرة ظاهرة، والقلب بالعداوة والبغضاء، وانتظار زوال
المانع (2).
وقال الإمام الرازي الشافعي (ت / 606 ه‍) في تفسيره هذه الآية: إعلم إن للتقية
أحكاما كثيرة، ونحن نذكر بعضها - إلى أن قال:
الحكم الرابع: ظاهر الآية يدل على أن التقية إنما تحل مع الكفار الغالبين،
إلا أن مذهب الشافعي رضي الله عنه: أن الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة
بين المسلمين والمشركين حلت التقية محاماة على النفس.
الحكم الخامس: التقية جائزة لصون النفس، وهل هي جائزة لصون المال؟ يحتمل أن يحكم
فيها بالجواز لقوله صلى الله عليه وسلم: (حرمة مال المسلم كحرمة دمه)، ولقوله
(ص): (من قتل دون ماله فهو شهيد)، ولأن الحاجة إلى المال شديدة، والماء إذا بيع
بالغبن سقط فرض الوضوء، وجاز الاقتصار على التيمم رفعا لذلك القدر من نقصان
المال. فكيف لا يجوز ها هنا؟. ثم رجح قول الحسن البصري المتقدم: (التقية
جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة) على قول مجاهد الذي حصر التقية بما كان في أول
الإسلام، وقال: وهذا القول أولى، لأن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان (3).
وقال القرطبي المالكي (ت / 671 ه‍): قال ابن عباس: هو أن يتكلم بلسانه وقلبه
مطمئن بالإيمان، ولا يقتل ولا يأتي مأثما.. وقال الحسن البصري:

(1) كذا: بالفاء، والصحيح: مخالقة - بالقاف، بقرينة قوله: والقلب.. إلخ، وإلا
لقال: مخالفة باطنة، ومعاشرة ظاهرة، والظاهر أنها مصحفة سهوا.
(2) الكشاف / الزمخشري 1: 422.
(3) التفسير الكبير / الفخر الرازي 8: 13.
34

التقية جائزة للإنسان إلى يوم القيامة، ولا تقية في القتل. وقرأ جابر بن يزيد،
ومجاهد، والضحاك: (إلا أن تتقوا منهم تقية) (1).
وقال أبو حيان الأندلسي المالكي (ت / 754 ه‍): (إلا أن تتقوا منهم تقاة):
هذا استثناء مفرغ من المفعول به، والمعنى: لا تتخذوا كافرا وليا لشئ من
الأشياء إلا لسبب التقية، فيجوز إظهار الموالاة باللفظ والفعل دون ما ينعقد عليه
القلب والضمير.
ولذلك قال ابن عباس: التقية المشار إليها مداراة ظاهرة. وقال: يكون مع الكفار، أو
بين أظهرهم فيتقيهم بلسانه، ولا مودة لهم في قلبه.
وقال قتادة: إذا كان الكفار غالبين، أو يكون المؤمنون في قوم كفار فيخافوهم فلهم
أن يحالفوهم ويداروهم دفعا للشر، وقلبهم مطمئن بالإيمان.
وقال ابن مسعود: خالطوا الناس وزايلوهم وعاملوهم بما يشتهون، ودينكم فلا تثلموه.
وقال صعصعة بن صوحان لأسامة بن زيد: خالص المؤمن وخالق الكافر، إن الكافر يرضى
منك بالخلق الحسن.
وقال الصادق: إن التقية واجبة، إني لأسمع الرجل في المسجد يشتمني فأستتر منه
بالسارية لئلا يراني، وقال: الرياء مع المؤمن شرك، ومع المنافق عبادة (2).

(1) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي: 4: 57.
(2) تفسير البحر المحيط / أبو حيان الأندلسي 2: 423.
35

ثم قال بعد هذه الأقوال: وقد تكلم المفسرون هنا في التقية إذ لها تعلق بالآية،
فقالوا: أما الموالاة بالقلب فلا خلاف بين المسلمين في تحريمها، وكذلك الموالاة
بالقول والفعل من غير تقية. ونصوص القرآن والسنة تدل على ذلك.
والنظر في التقية يكون: فيمن يتقى منه، وفيما يبيحها، وبأي شئ تكون من الأقوال
والأفعال.
فأما من يتقى منه:
فكل قادر غالب بكره يجور منه، فيدخل في ذلك الكفار، وجورة الرؤساء، والسلابة، وأهل
الجاه في الحواضر.
وأما ما يبيحها:
فالقتل، والخوف على الجوارح، والضرب بالسوط، والوعيد، وعداوة أهل الجاه الجورة.
وأما بأي شئ تكون؟
من الأقوال: فبالكفر فما دونه، من بيع، وهبة وغير ذلك. وأما من الأفعال: فكل
محرم.
وقال مسروق: إن لم يفعل حتى مات دخل النار، وهذا شاذ (1).
وقال ابن حجر العسقلاني الشافعي (ت / 852 ه‍): ومعنى الآية: لا يتخذ المؤمن
الكافر وليا في الباطن ولا في الظاهر، إلا التقية في الظاهر، فيجوز أن

(1) تفسير البحر المحيط 2: 424.
36

يوالي إذا خافه، ويعاديه باطنا (1).
واحتج الإمام الشوكاني الزيدي (ت / 1250 ه‍) بهذه الآية على جواز التقية، ثم قال -
بعد كلام طويل -: في ذلك دليل على جواز موالاتهم مع الخوف منهم، ولكنها تكون
ظاهرا لا باطنا (2).
وقال الآلوسي الحنبلي الوهابي (ت / 1270 ه‍) - كما تقدم عنه في تعريف التقية -:
وفي هذه الآية دليل على مشروعية التقية، وعرفوها: بمحافظة النفس، أو العرض، أو
المال من شر الأعداء (3).
وقال جمال الدين القاسمي الشامي (ت / 1332 ه‍): ومن هذه الآية: (إلا أن تتقوا
منهم تقاة) استنبط الأئمة مشروعية التقية عند الخوف، وقد نقل الإجماع على
جوازها عند ذلك الإمام مرتضى اليماني (4).
وقال الشيخ المراغي المصري (ت / 1364 ه‍): وقد استنبط العلماء من هذه الآية جواز
التقية، بأن يقول الإنسان، أو يفعل ما يخالف الحق، لأجل التوقي من ضرر الأعداء،
يعود إلى النفس، أو العرض، أو المال (5).
وقد استدل بهذه الآية على مشروعية التقية النجدات وهم فرقة من الخوارج الحرورية
فيما نسبه الشهرستاني (ت / 548 ه‍) إلى رئيسهم نجدة بن عويمر الخارجي الحروري (ت /
69 ه‍) (6).

(1) فتح الباري / ابن حجر العسقلاني 12: 263.
(2) فتح القدير / الشوكاني 1: 331.
(3) روح المعاني / الآلوسي 3: 121.
(4) محاسن التأويل / القاسمي 4: 82.
(5) تفسير المراغي 3: 136.
(6) الملل والنحل / الشهرستاني 1: 125.
37

الآية الثانية:
قال تعالى: (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن
بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب
عظيم) (1).
هذه الآية الكريمة مكية بالاتفاق، وقد نزلت في بداية الدعوة إلى دين الإسلام،
والمسلمون بعد ثلة قليلة ربما لا يتجاوزون عدد الأصابع، وهذا يعني أن تاريخ
تشريع التقية في الإسلام كان في بداية أمر هذا الدين الحنيف.
والحق أن تاريخ تشريع التقية - كما يبدو من الآيات الاخر في القرآن الكريم - قد
سبق تاريخ ولادة الدين الإسلامي بزمن بعيد، حيث كانت مشروعة في زمن عيسى ومن قبله
موسى عليهما السلام. ولما بزغت شمس الإسلام، سارع القرآن الكريم إلى إمضاء هذا
التشريع وإقراره، لكي تكون التقية منسجمة تماما مع مرونة هذا الدين العظيم الذي لا
حرج فيه ولا عسر، ومن ثم لتكون التقية فيه حصنا يتحصن فيه المسلمون أمام طغيان
أبي سفيان، وجبروت أبي جهل كلما دعت الضرورة إليها. وهذا ما سيتضح من أقوال
المفسرين وغيرهم من علماء المسلمين على اختلاف مذاهبهم وفرقهم في تفسير هذه الآية
الكريمة، وعلى النحو الآتي:
قال الحسن البصري (ت / 110 ه‍) في تفسير هذه الآية: إن عيونا لمسيلمة أخذوا رجلين
من المسلمين فأتوه بهما، فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم،
قال: أتشهد أني رسول الله؟ فأهوى إلى اذنه، فقال: إني أصم. فأمر به
فقتل.

(1) النحل 16: 106.
38

وقال للآخر: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم، قال أتشهد أني رسول الله
؟ قال: نعم، فأرسله. فأتى النبي (ص) فأخبره، فقال: أما صاحبك فمضى على إيمانه،
وأما أنت فأخذت بالرخصة (1).
واحتج الإمام الشافعي (ت / 204 ه‍) بهذه الآية على أن قول المكره كما يقل في الحكم،
وأطلق القول فيه، واختار أن يمين المكره غير ثابتة عليه، كما نسب القول بذلك إلى
عطاء بن أبي رباح (ت / 114 ه‍) أحد أعلام التابعين (2).
وأخرج ابن ماجة (ت / 273 ه‍) عن ابن مسعود (ت / 32 ه‍) - ما يشير إلى سبب نزول هذه
الآية في جملة من الصحابة كانوا قد وافقوا المشركين على ما انتدبوهم إليه - أنه
قال: كان أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية،
وصهيب، وبلال، والمقداد.
فأما رسول الله (ص)، فمنعه الله بعمه أبي طالب.
وأما أبو بكر، فمنعه الله بقومه.
وأما سائرهم، فأخذهم المشركون وألبسوهم أدراع الحديد وصهروهم في الشمس، فما منهم من
أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلا بلالا، فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان
على قومه، فأخذوه فأعطوه الولدان، فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة، وهو يقول: أحد،
أحد (3).
قال الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي (ت / 1388 ه‍) - في هامش حديث ابن ماجة -

(1) تفسير الحسن البصري 2: 76.
(2) أحكام القرآن / أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي 2: 114 - 115.
(3) سنن ابن ماجة 1: 53، 150 / باب 11 - في فضل سلمان وأبي ذر والمقداد.
39

ما نصه: واتاهم: أصله آتاهم، بالهمزة، ثم قلبت الهمزة واوا، والإيتاء معناه:
الإعطاء، أي: وافقوا المشركين على ما أرادوا منهم تقية، والتقية في مثل هذه الحال
جائزة لقوله تعالى: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) (1).
أما الطبري (ت / 310 ه‍) فقال: إن هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر وقوم كانوا
أسلموا، ففتنهم المشركون عن دينهم، فثبت على الإسلام بعضهم، وافتتن بعض.
ثم أخرج هذا المعنى عن ابن عباس (ت / 68 ه‍) أنه قال: وذلك أن المشركين أصابوا
عمار بن ياسر، فعذبوه ثم تركوه، فرجع إلى رسول الله (ص) فحدثه بالذي لقي من
قريش، والذي قال، فأنزل الله تعالى ذكره عذره.
كما أخرج ذلك عن قتادة (ت / 118 ه‍) أنه قال: إنها نزلت في عمار بن ياسر، أخذه
بنو المغيرة فغطوه في بئر ميمون، وقالوا: أكفر بمحمد، فتابعهم على ذلك وقلبه
كاره، فأنزل الله تعالى ذكره: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان).
وأخرج عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر أنه قال: أخذ المشركون عمار بن
ياسر فعذبوه حتى باراهم في بعض ما أرادوا، فشكا ذلك إلى النبي (ص)، فقال النبي:
كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئنا بالإيمان، قال النبي (ص) فإن عادوا فعد.
ثم عقب الطبري بقوله: فتأويل الكلام إذا: من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من
أكره على الكفر، فنطق بكلمة الكفر بلسانه، وقلبه مطمئن بالإيمان،

(1) سنن ابن ماجة 1: 53، 150 / باب 11، هامش رقم 1.
40

موقن بحقيقته، صحيح عليه عزمه، غير مفسوح الصدر بالكفر، لكن من شرح بالكفر صدرا،
فاختاره وآثره على الإيمان، وباح به طائعا فعليهم غضب الله ولهم عذاب عظيم.
ثم أخرج ما يؤيد هذا القول عن ابن عباس أنه قال: فأما من أكره فتكلم به
لسانه وخالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوه، فلا حرج عليه، لأن الله سبحانه
إنما يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم (1).
وقال أبو بكر الجصاص الحنفي (ت / 370 ه‍) - بعد أن أخرج عن معمر رواية أبي عبيدة بن
محمد بن عمار بن ياسر المتقدمة -: هذا أصل في جواز إظهار كلمة الكفر في حال
الإكراه، والإكراه المبيح لذلك هو أن يخاف على نفسه، أو بعض أعضائه التلف إن لم
يفعل ما أمره به، فأبيح له في هذه الحال أن يظهر كلمة الكفر (2).
ثم ذكر بعد ذلك إن الإكراه بالقتل، وتلف الأعضاء على شرب الخمر، أو أكل الميتة لا
بد فيه من امتثال المكره، وإن لم يفعل كان آثما، لأن الله عز وجل قد أباح له
ذلك في حال الضرورة عند الخوف على النفس، مستدلا بقوله تعالى: (إلا ما اضطررتم
إليه) (3) (4).
ثم أخذ في بيان الأمور التي تصح فيها التقية وعد منها القذف، والأمور التي لا
تصح فيها كالقتل والزنا وشبههما مما فيه مظلمة على الإنسان (5).

(1) جامع البيان / الطبري 14: 122.
(2) أحكام القرآن / الجصاص 3: 192.
(3) الأنعام 6: 119.
(4) أحكام القرآن / الجصاص 3: 193.
(5) أحكام القرآن / الجصاص 3: 194.
41

وذكر أبو الحسن الماوردي الشافعي (ت / 450 ه‍) عن ابن الكلبي، إن الآية نزلت في
عمار بن ياسر وأبويه ياسر وسمية، وصهيب، وخباب، أظهروا الكفر بالإكراه وقلوبهم
مطمئنة بالإيمان. ثم قال: فإذا أكره على الكفر فأظهره بلسانه وهو معتقد الإيمان
بقلبه، ليدفع عن نفسه بما أظهر، ويحفظ دينه بما أضمر، فهو على إيمانه، ولو لم يضمره
لكان كافرا (1).
وبين الواحدي المفسر الشافعي (ت / 468 ه‍) كيف أن الذين لا يؤمنون بآيات الله
يفترون الكذب، ذلك لأنهم يقولون لما لا يقدر عليه إلا الله تعالى: إن هذا من قول
البشر، مشيرا بذلك إلى الآيات المتقدمة على هذه الآية في سورة النحل، قال: ثم
سماهم كاذبين بقوله: (وأولئك هم الكاذبون) (2).
ثم قال في قوله تعالى: (من كفر بالله بعد إيمانه): ثم استثنى المكره
على الكفر (إلا من أكره) على التلفظ بكلمة الكفر (وقلبه مطمئن
بالإيمان) (3).
وقال الفقيه السرخسي الحنفي (ت / 490 ه‍) - عن جواز إظهار الكفر تقية في حالة
الإكراه، كما نصت عليه هذه الآية - ما نصه: رخص فيه لعمار بن ياسر رضي الله
عنه، إلا أن هذا النوع من التقية يجوز لغير الأنبياء، والرسل عليهم الصلاة
والسلام، فأما في حق المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين فما كان يجوز ذلك فيما
يرجع إلى أصل الدعوة إلى الدين الحق، وقد جوزه بعض الروافض لعنهم الله (4).

(1) تفسير الماوردي المسمى ب: (النكت والعيون) 3: 215.
(2) النحل 16: 105.
(3) تفسير الواحدي 1: 466 - مطبوع بهامش تفسير النووي المسمى ب‍: (مراح لبيد).
(4) المبسوط / السرخسي 24: 25.
42

أقول: اتفق علماء الشيعة عن بكرة أبيهم على أنه لو فرض حدوث ما لم يعلم جهته إلا
من إمام، كان في هذه الحال كالنبي (ص)، لا تجوز عليه التقية قطعا، لأنه يلزم من
التقية في هذه الصورة الإغرار بالقبيح الذي لا يمكن تصور صدوره عن معصوم.
ولا شك أن ما يتعلق بأصل الدعوة والدين هو من الوحي الذي لا تعلم جهته إلا من
النبي، ولذلك فالشيعة لا تجوز عليه (ص) التقية في ذلك قطعا.
أما الجائز من التقية عند الشيعة الإمامية على مطلق المعصوم، فهو كالجائز منها على
النبي (ص) عند أهل السنة، وهو ما لا يخل بالوصول إلى الحق، وسيأتي ما يدل
عليه في المصدر الثاني من مصادر تشريع التقية.
وربما قصد الإمام السرخسي بقوله: بعض الروافض غلاة الشيعة كالخطابية لعنهم
الله، إذ لا يبعد أن يكون لديهم مثل هذا الاعتقاد السيئ، ولكن نسبة القول بذلك
إلى بعض الروافض دون تشخيصهم، فهو على الرغم مما فيه من التنابز إلا أنه قد
يوهم البعض بأن المقصود هم الشيعة الإمامية نظرا لما يقوله سائر علماء الشيعة في
سبب الوعيد الذي سبق حديث الغدير، وربما يكون هو المقصود.
فإن كان ما عناه - سامحه الله - هو هذا، فنقول:
إن ما سبق حديث الغدير من وعيد قد بينه تعالى بقوله الكريم: (يا أيها
الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته
والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين) (1).

(1) المائدة 7: 67.
43

فالوعيد الموجه إلى النبي (ص) في هذه الآية لا شك فيه، وهو لا يدل على تهاون
النبي (ص) في أمر الدين، أو توانيه فيما انزل إليه، وعدم اكتراثه بشأن الوحي،
وكيف يمكن تصور صدور مثل هذا القول عمن قال بعصمة جميع الأنبياء (ع)، ونزاهتهم عن
كل نقص؟!
بل المراد من ذلك في نظر علماء الشيعة الإمامية ومن وافقهم من علماء أهل السنة
هو أن النبي (ص) قد تريث بعض الشئ لجسامة التبليغ الذي عده الله عز وجل
موازيا لثقل الرسالة كلها، ريثما يتم تدبير الأمر من تهيئة مستلزماته، كجمع حشود
الحجاج الذين كانوا معه (ص)، وتمهيد السبيل أمام هذه الحشود لكي تقبل نفوس بعضهم
مثل هذا التبليغ، لا سيما الأعراب الذين أسلموا أخيرا ولما يدخل الإيمان في
قلوبهم.
ولا يمنع أن يكون النبي (ص) قد خشي من بعضهم لأجل ما انزل عليه، ويدل عليه قوله
تعالى: (والله يعصمك من الناس)، على أن هذه الخشية لم تكن على نفسه
الطاهرة، فهو لا يخشى في الله لومة لائم، وإنما كانت على التبليغ نفسه إذ تفرس
(ص) مخالفته فأخر التبليغ إلى حين، ليجد له ظرفا صالحا وجوا آمنا عسى أن تنجح
فيه دعوته، ولا يخيب مسعاه، فأمره الله تعالى بتبليغ عاجل، وبين له أهمية هذا
التبليغ، ووعده أن يعصمه من الناس، ولا يهديهم في كيدهم، ولا يدعهم يقلبوا له أمر
الدعوة (1).
وهكذا تم التبليغ بخطبة وداع وعلى أحسن ما يرام بعيدا عن كل أجواء التقية، إلا
أنه مع الأسف قد اضطر بعض من سمع التبليغ إلى التقية في عدم

(1) الميزان في تفسير القرآن / السيد محمد حسين الطباطبائي 6: 46.
44

روايته كما سنثبته في الفصل الثاني من هذا البحث.
أما من أراد أن يفسر تريث النبي (ص) بالوجه المتقدم على أنه من التقية
المصطلح عليها فليس بذاك، وإنما هي تقية ليست من قبيل دفع الضرر المحتمل عن النفس
أو العرض أو المال، فهذا التفسير يكذبه قوله تعالى في مدح رسله عليهم السلام
والشهادة لهم بأنهم هم: (الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا
يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا) (1)، وإنما هي تقية لأجل هذا
التبليغ ممن كان المترقب من حالهم أنهم سيخالفونه مخالفة شديدة قد تصل إلى
تكذيبه (ص). ومن تصفح الجزء الأول من موسوعة الغدير للعلامة الأميني رحمه الله
(ت / 1390 ه‍) سيجد الكثير ممن وافق الشيعة الإمامية من علماء أهل السنة على
صحة هذا التفسير.
ولعل من المناسب هنا أن نذكر قول ابن قتيبة (ت / 276 ه‍) عن آية التبليغ. قال:
والذي عندي في هذا أن فيه مضمرا يبينه ما بعده، وهو أن رسول الله (ص) كان
يتوقى بعض التوقي، ويستخفي ببعض ما يؤمر به على نحو ما كان عليه قبل الهجرة،
فلما فتح الله عليه مكة، وأفشى بالإسلام أمره أن يبلغ ما ارسل إليه مجاهرا
به غير متوق، ولا هائب، ولا متألف. وقيل له: إن أنت لم تفعل ذلك على هذا الوجه لم
تكن مبلغا لرسالات ربك. ويشهد لهذا قوله بعد: (والله يعصمك من الناس)
أي: يمنعك منهم، ومثل هذه الآية قوله: (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن
المشركين) (2) (3)، انتهى بلفظه.

(1) الأحزاب: 33: 39.
(2) الحجر 15: 94.
(3) المسائل والأجوبة في الحديث والتفسير / ابن قتيبة: 222.
45

وهذا القول هو الذي رفضه الإمام الفقيه السرخسي، والشيعة قاطبة تؤيده على هذا
الرفض.
ولنعد بعد هذا إلى جواز التلفظ بالكفر تقية، والقلب مطمئن بالإيمان، كما مر في
الآية الثانية المتقدمة، ودلالتها عند المفسرين وغيرهم، فنقول:
استدل الكيا الهراسي الشافعي (ت / 504 ه‍) بهذه الآية على جملة من الأحكام فقال:
وذلك يدل على أن حكم الردة لا يلزمه.. إن المشرع غفر له لما يدفع به عن نفسه
من الضرر.. واستدل به أصحاب الشافعي على نفي وقوع طلاق المكره، وعتاقه، وكل قول
حمل عليه بباطل، نظرا لما فيه من حفظ حق عليه، كما امتنع الحكم بنفوذ ردته حفظا
على دينه (1).
قال الزمخشري المعتزلي (ت / 538 ه‍) في تفسير الآية المتقدمة: إنما يفتري الكذب
من كفر بالله من بعد إيمانه، واستثنى منهم المكره، فلم يدخل تحت حكم
الافتراء (2). ثم نقل قصة عمار بن ياسر (ت / 37 ه‍)، وما فعله مسيلمة الكذاب (ت /
12 ه‍) بالصحابيين، وكيف أن أحدهما قد شهد للكذاب تقية أنه رسول الله.
أما ابن عطية الأندلسي الغرناطي المالكي (ت / 541 - أو 542 - أو 546 ه‍) فقد بين
أن المراد من الكاذبين في قوله تعالى: (إنما يفتري الكذب الذين لا
يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون) (3)، هم: عبد الله بن أبي
سرح، ومقيس بن صبابة وأشباههما ممن كان آمن برسول الله ثم ارتد. ثم قال:

(1) أحكام القرآن / الكيا الهراسي 3: 246.
(2) الكشاف / الزمخشري 2: 449 - 550.
(3) النحل 16: 105.
46

فلما بين في هذه الآية أمر الكاذبين بأنهم الذين كفروا بعد الإيمان، أخرج من
هذه الصفة القوم المؤمنين المعذبين بمكة، وهم: بلال، وعمار، وسمية أمه، وخباب،
وصهيب وأشباههم، وذلك أن كفار مكة كانوا في صدر الإسلام يؤذون من أسلم من هؤلاء
الضعفة، يعذبونهم ليرتدوا، فربما سامعهم بعضهم بما أرادوا من القول، يروى أن
عمار بن ياسر فعل ذلك فاستثناه الله من هذه الآية، وبقيت الرخصة عامة في الأمر
بعده (1).
ثم بين بعد ذلك ما يتعلق بآية التقية من مسائل الإكراه فقال: ويتعلق بهذه
الآية شئ من مسائل الإكراه:
أما من عذبه كافر قادر عليه ليكفر بلسانه، وكان العذاب يؤدي إلى قتله فله
الإجابة باللسان، قولا واحدا فيما أحفظ. فإن أراد منه الإجابة بفعل كالسجود إلى
صنم ونحو ذلك، ففي هذا اختلاف:
فقالت فرقة هي الجمهور: يجيب بحسب التقية.
وقالت فرقة: لا يجيب ويسلم نفسه.
وقالت فرقة: إن كان السجود نحو القبلة أجاب، واعتقد السجود لله.. (2).
ثم أشار إلى حالات الإكراه التي تصح فيها التقية، ولا يلزم المكره بشئ منها
كالإكراه على البيع، والأيمان، والطلاق، والعتق، والإفطار في شهر رمضان، وشرب
الخمر، ونحو ذلك من المعاصي، ثم أكد أن ما بينه هو المروي عن مالك بن أنس (ت /
179 ه‍) من طريق مطرف، وابن عبد الحكم، وأصبغ.

(1) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز / ابن عطية الأندلسي 10: 234.
(2) م. ن. 10: 235.
47

وذكر بعد هذا أن التقية على مثل هذه الأمور لا يشترط أن تكون من أجل المحافظة على
النفس من التلف، لتعدد مصاديق الإكراه التي تسوغ معها التقية. فقال: قال مالك:
والقيد إكراه، والسجن إكراه، والوعيد المخوف إكراه - وإن لم يقع - إذا تحقق ظلم
ذلك المتعدي، وانقاذه لما يتوعد (1).
أما ابن العربي المالكي (ت / 543 ه‍)، فقد فصل القول في هذه الآية، وذكر فيها تسع
مسائل، نذكرها باختصار، وهي:
المسألة الأولى: نزول الآية في المرتدين، مع الإحالة إلى ما بينه من أحكام
المرتدين في سورة المائدة.
المسألة الثانية: استثناء من تكلم بالكفر بلسانه عن إكراه، ولم يعقد على ذلك
قلبه، فإنه خارج عن حكم المرتد، معذور في الدنيا، مغفور له في الآخرة.
ثم أكد بعد هذا أن التهديد على عمل معين إذا كان من قادر ظالم تصح معه التقية
ويسقط عن صاحبها الإثم في الجملة، إلا في القتل، وادعى عدم الخلاف بين الأمة في
حرمة القتل تحت طائلة الإكراه.
وسيأتي عنه في المسألة السادسة خلاف هذا الادعاء!!
ثم قال: واختلف في الزنا، والصحيح أنه يجوز له الإقدام عليه، ولا حد عليه،
خلافا لابن الماجشون، فإنه ألزمه الحد، لأنه رأى انها شهوة خلقية لا يتصور
عليها إكراه، ولكنه غفل عن السبب في باعث الشهوة، وانه باطل.

(1) المحرر الوجيز 10: 236.
48

وأما الكفر بالله فذلك جائز له بغير خلاف، على شرط أن يلفظ بلسانه، وقلبه منشرح
بالإيمان.
المسألة الثالثة: احتج بهذه الآية على أن الكفر ليس بقبيح لعينه وذاته، إذ لو
كان كذلك لما حسنه الإكراه.
ولا يخفى ما فيه، لأنه لو سئل من لا يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يكفر بكل تشريع
سماوي، ماذا تقول؟ أيهما القبيح عندك؟ الظلم، أو العدل والإحسان؟ فماذا سيكون
جوابه؟
المسألة الرابعة: ان الكفر بالإكراه جائز، ومن صبر ولم يكفر تقيه فقتل فهو شهيد.
قال: ولا خلاف في ذلك، وعليه تدل آثار الشريعة التي يطول سردها، وإنما وقع
الإذن رخصة من الله رفقا بالخلف، وإبقاء عليهم، ولما في هذه الشريعة من السماحة،
ونفي الحرج، ووضع الإصر.
المسألة الخامسة: في بيان سبب نزول هذه الآية المكية.
المسألة السادسة: لما سمح الله تعالى في الكفر به.. عند الإكراه ولم يؤاخذ به،
حمل العلماء عليه فروع الشريعة، فإذا وقع الإكراه عليها لم يؤخذ به، ولا يترتب حكم
عليه، وعليه جاء الأثر المشهور عند الفقهاء: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما
استكرهوا عليه).
ثم ذكر اختلاف العلماء في تفاصيل معنى الخبر بعد اتفاقهم على صحته فقال: فأن
معناه صحيح باتفاق من العلماء، ولكنهم اختلفوا في تفاصيل.
منها: قول ابن الماجشون في حد الزنا وقد تقدم.
49

ومنها: قول أبي حنيفة: إن طلاق المكره يلزم، لأنه لم يعدم فيه أكثر من الرضا،
وليس وجوده بشرط في الطلاق كالهازل. وهذا قياس باطل، فإن الهازل قاصد إلى إيقاع
الطلاق، راض به، والمكره غير راض به، ولا نية له في الطلاق، وقد قال النبي (ص)
: (إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى).
ومنها: أن المكره على القتل إذا قتل يقتل، لأنه قتل من يكافئه ظلما استبقاء
لنفسه فقتل.
وقال أبو حنيفة وسحنون: لا يقتل!! وهي عثرة من سحنون...
المسألة السابعة: تعجب في هذه المسألة من اختلاف علماء المالكية في الإكراه على
الحنث في اليمين هل يقع به أم لا، بمعنى: هل تجوز فيه التقية أم لا؟
ثم حكم بجوازها مؤكدا عدم الفرق بين الإكراه على اليمين في أنها لا تلزم وبين
الحنث في أنه لا يقع.
المسألة الثامنة: وهي غريبة حقا حقا، فقد جوز فيها التقية للرجل في أن يعطي
أهله لما لا يحل عند الإكراه على ذلك، ولا يقتل نفسه دونها، ولا يتحمل اذى في
تخليصها، وقد اعتمد في ذلك على إسرائيلية لا شك فيها، وخلاصتها أن إبراهيم عليه
السلام هاجر ومعه سارة، ودخل بها قرية فيها ملك جبار فأرسل إلى إبراهيم أن يرسلها
له، ففعل إبراهيم، ولكن الله أنجاها من هذا الكافر الذي أراد بها سوءا!!
فالتقية على هذا المستوى جائزة عنده، مع أن من أسباب تشريعها صيانة العرض لا
هتكه.
المسألة التاسعة: بخصوص حكم الإكراه الحق مع عدم الانقياد إليه (1).

(1) أحكام القرآن / ابن العربي 3: 1177 - 1182.
50

وقال ابن الجوزي الحنبلي (ت / 597 ه‍) في تفسيرها: الإكراه على كلمة الكفر يبيح
النطق بها، وفي الإكراه المبيح لذلك، عن أحمد روايتان:
إحداهما: أنه يخاف على نفسه، أو على بعض أعضائه التلف إن لم يفعل ما امر به (1).
وقال الرازي الشافعي (ت / 606 ه‍): وفي الآية مسائل.. وقد ذكر في المسألة الثانية
قصة عمار بن ياسر رضي الله عنه، وأنه قيل بشأنه لرسول الله (ص): يا رسول
الله! إن عمارا كفر. فقال: (كلا، إن عمارا ملئ إيمانا من فرقه إلى قدمه،
واختلط الإيمان بلحمه ودمه)، فأتى عمار رسول الله (ص) وهو يبكي، فجعل رسول الله
(ص) يمسح عينيه ويقول: (ما لك؟ إن عادوا لك، فعد لهم بما قلت).
ثم قال -: ومنهم جبر مولى الحضرمي أكرهه سيده فكفر، ثم أسلم مولاه وحسن إسلامهما
وهاجرا (2).
وقد بين مراتب الإكراه في المسألة السابعة، ولأهميتها نذكر ما قال:
المرتبة الأولى: أن يجب الفعل المكره عليه، مثل ما إذا أكرهه على شرب الخمر،
وأكل الخنزير، وأكل الميتة، فإذا أكرهه عليه بالسيف، فها هنا يجب الأكل، وذلك لأن
صون الروح عن الفوات واجب.. لقوله تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى
التهلكة) (3).
المرتبة الثانية: أن يصير ذلك الفعل مباحا، ولا يصير واجبا، ومثاله ما إذا

(1) زاد المسير / ابن الجوزي 4: 496.
(2) التفسير الكبير / الفخر الرازي 20: 121.
(3) البقرة 2: 195.
51

أكرهه على التلفظ بكلمة الكفر، فها هنا يباح له، ولكنه لا يجب.
المرتبة الثالثة: أنه لا يجب ولا يباح بل يحرم، وهذا مثل ما إذا أكرهه إنسان
على قتل إنسان آخر، أو على قطع عضو من أعضائه، فها هنا يبقى الفعل على الحرمة
الأصلية. وهل يسقط القصاص عن المكره (لو قتل) أم لا؟
قال الشافعي رحمه الله في أحد قوليه -: يجب القصاص (1).
أقول: إن القول الآخر للإمام الشافعي رحمه الله هو: لا قصاص على من يقتل تقية،
ولا بد من حمل هذا القول الأخير على التقية، لأنه عاش في ظل ظروف أوجبت عليه
التقية في هذا الحكم، كما سنشير إليه في الفصل الثاني من هذا البحث، وذلك في بيان
مواقف الصحابة والتابعين وغيرهم من التقية.
واحتج الفقيه ابن قدامة الحنبلي (ت / 620 ه‍) بهذه الآية على جواز التقية عند
الإكراه عليها، ثم قال: وإنما أبيح له فعل المكره عليه، دفعا لما يتوعده به
من العقوبة فيما بعد (2).
كما أن من أكره على كلمة الكفر فأتى بها، لم يصر كافرا عنده، قال: وبهذا قال
مالك، وأبو حنيفة، والشافعي (3)، وقد ذكر تفصيلات أخرى ستأتي عند الحديث عن التقية
في فقه الحنابلة.
وقال القرطبي المالكي (ت / 671 ه‍): هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر في قول أهل
التفسير، لأنه قارب بعض ما ندبوه إليه. ثم نقل عن ابن عباس أنه

(1) التفسير الكبير 20: 122.
(2) المغني / ابن قدامة 8: 262.
(3) م. ن 10: 97 - مسألة: 7116.
52

: وأما عمار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها، فشكا ذلك إلى رسول الله (ص)،
فقال رسول الله (ص): كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالإيمان، فقال رسول الله (ص):
فإن عادوا فعد. ثم بين عن مجاهد: إن الذين اخذوا مع عمار بن ياسر، هم: بلال،
وخباب، وصهيب، وسمية أم عمار، وأنهم قالوا كلهم كلمة الكفر مثل الذي قاله عمار،
إلا ما كان من بلال (1).
وقال البيضاوي الشافعي (ت / 685 ه‍): (إلا من أكره): على الافتراء، أو كلمة
الكفر، (وقلبه مطمئن بالايمان) لم تتغير عقيدته، وفيه دليل على أن الإيمان
هو التصديق بالقلب.
ثم روى بعد ذلك قصة عمار بن ياسر وقال: وهو دليل على جواز التكلم بالكفر عند
الإكراه، وإن كان الأفضل أن يتجنب عنه إعزازا للدين ثم ذكر بعد ذلك قصة مسيلمة
الكذاب مع الصحابيين، اللذين انتهى خبرهما إلى النبي (ص)، وكيف أنه رخص لمن
اعترف لمسيلمة الكذاب - لعنه الله - بأنه رسول الله (2).
وقال المفسر الشافعي علي بن محمد المعروف بالخازن (ت / 741 ه‍): التقية لا تكون
إلا مع خوف القتل مع سلامة النية قال الله تعالى: (إلا من أكره وقلبه
مطمئن بالإيمان)، ثم هذه التقية رخصة (3).
أقول: إن هذا الكلام من الخازن الشافعي مردود بما مر عن الرازي الشافعي

(1) الجامع لاحكام القرآن / القرطبي 10: 181.
(2) أنوار التنزيل وأسرار التأويل / البيضاوي 1: 571.
(3) تفسير الخازن 1: 277 - نقلا عن: آراء علماء المسلمين في التقية والصحابة
وصيانة القرآن الكريم / السيد مرتضى الرضوي: 39.
53

في بيانه مراتب الإكراه، ومردود أيضا بما تقدم من أقوال سائر من ذكرنا من
المفسرين والفقهاء، ومردود أيضا بما سيأتي من أقوال مفسري أهل السنة لا سيما
الشافعية في تفسيرهم لهذه الآية، فترقب.
وقال ابن جزي الكلبي الغرناطي المالكي (ت / 741 - أو 747 ه‍): (إلا من أكره):
استثنى من قوله: (من كفر)، وذلك إن قوما ارتدوا عن الإسلام، فنزلت فيهم
الآية، وكان فيهم من أكره على الكفر فنطق بكلمة الكفر وهو يعتقد الإيمان، منهم:
عمار بن ياسر، وصهيب، وبلال، فعذرهم الله، ثم فصل قصة عمار بن ياسر، وما قال له
النبي (ص) على النحو المتقدم من أقوال المفسرين وقال: وهذا الحكم فيمن أكره
بالنطق على الكفر، وأما الإكراه على فعل هو كفر كالسجود للصنم، فاختلف هل تجوز
الإجابة إليه أم لا؟
فأجازه الجمهور، ومنعه قوم.
وكذلك قال مالك: لا يلزم المكره يمين، ولا طلاق، ولا عتق، ولا شئ فيما بينه وبين
الله، ويلزمه ما كان من حقوق الناس، ولا تجوز الإجابة إليه، كالإكراه على قتل أحد،
أو أخذ ماله (1).
أقول: سيأتي بيان ما جرى للإمام مالك بن أنس (ت / 179 ه‍) من لدن خلفاء بني العباس
بسبب إفتائه في يمين المكره وقوله في ذلك: ليس على مكره يمين، في الفصل الثاني من
هذا البحث وذلك في بيان مواقف الصحابة والتابعين وغيرهم من التقية، وسترى هناك كيف
قد كلفته هذه الفتيا كثيرا.
وقال تاج الدين الحنفي (ت / 749 ه‍): من أكره على الكفر، ولفظ به، وقلبه

(1) تفسير ابن جزي محمد بن أحمد الكلبي: 366.
54

مطمئن بالإيمان، فلا يؤاخذ به.. والمعنى: إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد
إيمانه، واستثنى منه المكره، فلم يدخل تحت حكم الافتراء (1).
وقال أبو حيان محمد بن يوسف الأندلسي المالكي (ت / 754 ه‍): استثنى من الكافرين
من كفر باللفظ وقلبه مطمئن بالإيمان، ورخص له في النطق بكلمة الكفر، إذ كان قلبه
مؤمنا، وذلك مع الإكراه. والمعنى: إلا من أكره على الكفر، تلفظ بكلمة الكفر
وقلبه مطمئن بالإيمان (2).
وقال في مكان آخر من تفسير الآية: وفي قوله: (إلا من أكره) دليل على أن من
فعل المكره لا يترتب عليه شئ. وإذا كان قد سومح لكلمة الكفر، أو فعل ما يؤدي
إليه، فالمسامحة بغيره من المعاصي أولى.
وقد تكلموا في كيفية الإكراه المبيح لذلك، وفي تفصيل الأشياء التي يقع الإكراه
فيها، وذلك كله مذكور في كتب الفقه. والمكرهون على الكفر، المعذبون على الإسلام:
خباب، وصهيب، وبلال، وعمار، وأبواه: ياسر وسمية، وسالم، وجبر عذبوا فأجابهم
عمار وجبر (مولى الحضرمي) فخلي سبيلهما، وتمادى الباقون على الإسلام، فقتل ياسر
وسمية، وهما أول قتيل في الإسلام (3).
وقد مر، وسيأتي أيضا أن هؤلاء الصحابة كلهم قد أجابوا المشركين إلى ما انتدبوهم
إليه إلا ما كان من بلال، وليس الأمر كما قاله أبو حيان، على أن

(1) الدر اللقيط من البحر المحيط / تاج الدين الحنفي 5: 537 - 538، مطبوع بحاشية
تفسير أبي حيان الأندلسي المسمى ب‍: (البحر المحيط).
(2) تفسير البحر المحيط / أبو حيان 5: 538.
(3) تفسير البحر المحيط 5: 540.
55

ما يفهم من عبارة المفسرين أن جبرا قد استمر ارتداده عن الإسلام في الظاهر تقية
لمدة طويلة إلى أن أسلم مولاه الحضرمي الذي كان قد أكره جبرا على الكفر.
وقال ابن كثير الشافعي (ت / 774 ه‍): وأما قوله: (إلا من أكره وقلبه مطمئن
بالإيمان)، فهو استثناء ممن كفر بلسانه، ووافق المشركين بلفظه مكرها لما ناله
من ضرب وأذى، وقلبه يأبى ما يقول، وهو مطمئن بالإيمان بالله ورسوله.
وقد روى العوفي عن ابن عباس: أن هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر، حين عذبه
المشركون حتى يكفر بمحمد (ص)، فوافقهم على ذلك مكرها، وجاء معتذرا إلى النبي
(ص)، فأنزل الله هذه الآية.
ثم نقل عن الطبري (ت / 310 ه‍) ما رواه في قصة عمار بن ياسر رضي الله عنه، وعن
البيهقي (ت / 458 ه‍) أنه قال: إنه - أي: عمار بن ياسر - سب النبي (ص)، وذكر
آلهتهم بخير. فشكا ذلك إلى النبي (ص)، فقال: يا رسول الله! ما تركتك حتى سببتك،
وذكرت آلهتهم بخير. قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئنا بالإيمان. فقال: إن عادوا
فعد.
ثم قال: ولهذا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له أن يوالي
إبقاء لمهجته، ويجوز له أن يأبى مستدلا بشهادة حبيب بن زيد الأنصاري، وسلامة
صاحبه حين امتحنهما مسيلمة الكذاب، فاستشهد الأول لامتناعه عن الإقرار لما أراده
الكذاب، ونجا الثاني لموافقته على ما أراد، وبقول النبي (ص) له: وأما أنت
فأخذت بالرخصة (1).

(1) تفسير القرآن العظيم / ابن كثير 2: 609.
56

وقال المفسر السني نظام الدين الحسن بن محمد القمي النيسابوري (ت / 850 ه‍):
والمعنى: إنما يفتري الكذب من كفر، واستثنى منهم المكره، فلم يدخل تحت
الافتراء.. وإنما صح استثناء المكره من الكافر مع أنه ليس بكافر، لأنه ظهر منه
بعد الإيمان ما مثله يظهر من الكافر طوعا، فلهذه المشاكلة صح الاستثناء.
قال ابن عباس: نزلت في عمار بن ياسر (1).
ثم تطرق إلى بعض مسائل التقية، منها: التقية في الدماء، والزنا، فقال: ومنها:
لا يجب ولا يباح بل يحرم، كما إذا أكره على قتل إنسان، أو على قطع عضو من أعضائه،
فها هنا يبقى الفعل على الحرمة الأصلية، وحينئذ لو قتل، فللعلماء قولان:
أحدهما: لا يلزم القصاص. وبه قال أبو حنيفة، والشافعي في أحد قوليه، لأنه قتله
دفعا عن نفسه فأشبه قتل الصائل..
وثانيهما: وبه قال أحمد والشافعي في أصح قوليه -: إن عليه القصاص لأنه قتله
عدوانا لاستبقاء نفسه (2).
ثم نقل النيسابوري عن أبي حنيفة (ت / 150 ه‍) أنه قال: لو أكره السلطان أحدا على
الزنا فزنى، لم يجب على الزاني الحد، ولو أكرهه بعض الرعية وجب (3).

(1) غرائب القرآن ورغائب الفرقان / النيسابوري 14: 122.
(2) م. ن 14: 123.
(3) م. ن 14: 124.
57

إذا التقية - وبموجب هذا القول ونظائره المتقدمة - تصح في الدماء وهتك الأعراض!!
وقال ابن حجر العسقلاني الشافعي (ت / 852 ه‍): وأما من أكره على ذلك فهو معذور
بالآية، لأن الاستثناء من الإثبات نفي، فيقتضي أن لا يدخل الذي أكره على الكفر
تحت الوعيد، والمشهور: إن الآية المذكورة نزلت في عمار بن ياسر، كما جاء من طريق
أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، قال: أخذ المشركون عمارا فعذبوه حتى قاربهم
في بعض ما أرادوا... (1).
وأخرج عن الطبري (ت / 310 ه‍) ما رواه بسنده عن ابن عباس (ت / 68 ه‍) أنه قال:
أخبر الله أن من كفر بعد إيمانه فعليه غضب من الله، وأما من أكره بلسانه
وخالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوه، فلا حرج عليه، إن الله إنما يأخذ
(يؤاخذ) العباد بما عقدت عليه قلوبهم (2).
أما الشربيني الشافعي (ت / 977 ه‍) فقد علق على ما أفتى به النووي الشافعي (ت /
676 ه‍) بعدم رده المكره على الكفر بقوله - بعد أن استدل بالآية المتقدمة -:
لا يكون مرتدا، لأن الإيمان كان موجودا قبل الإكراه، وقول المكره ملغى ما لم
يحصل فيه اختيار لما أكره عليه، كما لو أكره على الطلاق، فإن العصمة كانت
موجودة قبل الإكراه، فإذا لم يحصل منه اختيار لما أكره عليه لم يقع عليه
طلاق (3).

(1) فتح الباري / ابن حجر العسقلاني 12: 262.
(2) م. ن 12: 263.
(3) مغني المحتاج في شرح المنهاج / الشربيني 4: 137 - مطبوع بهامش منهاج الطالبين
للنووي. وانظر: منهاج الطالبين 4: 137 و 4: 174.
58

وقال البرسوي الحنفي (ت / 137 ه‍): (إلا من أكره): أجبر على ذلك التلفظ بأمر
يخاف على نفسه، أو على عضو من أعضائه.. لأن الكفر اعتقاد، والإكراه على القول دون
الاعتقاد، والمعنى: لكن المكره على الكفر باللسان (وقلبه مطمئن بالإيمان)،
بالإيمان: حال من المستثنى، أي: والحال أن قلبه مطمئن بالإيمان لم تتغير عقيدته،
وفيه دليل على أن الإيمان المنجي المعتبر عند الله هو التصديق بالقلب (1).
أقول: إن علة نفي الكفر عن المكره - كما يفهم من هذا القول وسائر الأقوال
المتقدمة - هي أن الكفر اعتقاد، والإكراه دونه، وهذا الحكم يجب أن يطرد على
جميع ما يقدم عليه الإنسان تقية عند الإكراه - إلا ما خرج عنه بدليل معتبر -
لاطراد العلة نفسها.
وقال الإمام الشوكاني الزيدي (ت / 1250 ه‍) في تفسير الآية: أجمع أهل العلم على
أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل إنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه
مطمئن بالإيمان، ولا تبين منه زوجته، ولا يحكم عليه بحكم الكفر.
ثم رد قول محمد بن الحسن الشيباني (ت / 189 ه‍) بخصوص أن من أظهر الكفر كان
مرتدا في الظاهر، وأنه تبين منه زوجته، ولا يصلى عليه إن مات، ولا يرث أباه إن
مات مسلما فقال: وهذا القول مردود على قائله، مدفوع بالكتاب والسنة (2).

(1) روح البيان / البرسوي 5: 84.
(2) فتح القدير / الشوكاني 3: 197.
59

وهذا القول على خلاف أقوال مفسري الأحناف وفقهائهم وأعلامهم، بل على خلاف أقوال
جميع علماء الإسلام قاطبة، فضلا عن معارضته صراحة للكتاب العزيز والسنة
النبوية.
فقد أجمع الكل على أن عمار بن ياسر قد ملئ إيمانا من فرقه إلى قدمه مع أنه سب
النبي (ص)، وذكر اللات والعزى بخير. فهو قول شاذ لا يعتد به لمخالفته صراحة
للكتاب العزيز، والسنة المطهرة، وإجماع المسلمين.
كما رد الشوكاني قول الحسن البصري (ت / 110 ه‍)، والشافعي (ت / 204 ه‍) وسحنون
القاضي المغربي المالكي (ت / 240 ه‍)، - وهو الذي روى المدونة الكبرى لمالك بن أنس
(ت / 179 ه‍) بتوسيط عبد الرحمن بن قاسم الفقيه المالكي (ت / 191 ه‍)، عن الإمام مالك
- من أن الرخصة في التقية إنما جاءت في هذه الآية في القول، وأما الفعل فلا رخصة
فيه!
قال الشوكاني: ويدفعه ظاهر الآية فإنها عامة فيمن أكره من غير فرق بين القول
والفعل، ولا دليل لهؤلاء القاصرين للآية على القول، وخصوص السبب لا اعتبار به مع
عموم اللفظ كما تقرر في علم الأصول (1).
أقول: لقد ذكرنا من أقوال المالكية قول: ابن عطية، وابن العربي، وابن جزي، وأبي
حيان وهؤلاء كلهم قد خالفوا سحنون القاضي فيما ذهب إليه.
وذكرنا أيضا من أقوال الشافعية قول: الماوردي، والواحدي، والرازي، والخازن، وابن
كثير، والبيضاوي، وابن حجر العسقلاني، والشربيني، وهؤلاء كلهم قد خالفوا الإمام
الشافعي فيما نسبه إليه الشوكاني.

(1) فتح القدير 3: 197.
60

أما ما ذكرناه من أقوال غير هؤلاء وهؤلاء من الأحناف والحنابلة فهو على عكس ذلك
أيضا، وسيأتي المزيد من إثبات هذه الحقيقة - التي أكدها الشوكاني وغيره - في
الفصل الأخير من هذا البحث عند تناول التقية في فقه المذاهب والفرق الإسلامية.
وقال الفقيه الشافعي المفسر محمد بن عمر الجاوي النووي (ت / 1316 ه‍): (من كفر
بالله من بعد إيمانه): أي: من تلفظ بكلمة الكفر من بعد إيمانه به تعالى
فعليه غضب من الله (إلا من أكره) على التلفظ بالكفر فتلفظ به بأمر لا طاقة له
به كالتخويف بالقتل، وكالضرب الشديد، وكالإيلامات القوية مما يخاف على نفسه أو على
عضو من أعضائه (وقلبه مطمئن بالإيمان) أي: والحال إن قلبه لم تتغير
عقيدته.
ثم أورد بعد هذا قصة عمار بن ياسر رضي الله عنه، وتقيته من المشركين (1).
وذكر السيد جمال الدين القاسمي الشامي (ت / 1332 ه‍) في تفسير هذه الآية بعض
التنبيهات.
منها: إن الآية الكريمة قد استدلوا بها على أن المكره غير مكلف، وأن
الإكراه يبيح التلفظ بكلمة الكفر، مع شرط طمأنينة القلب بالإيمان، كما استدلوا
بها على نفي طلاق المكره، وعتاقه، وكل قول أو فعل صدر منه إلا ما استثني وعزاه
إلى السيوطي الشافعي (ت / 911 ه‍) في كتابه: الإكليل.
ثم قال بعد التنبيهات: قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: أكان المشركون يبلغون
من أصحاب رسول الله (ص) من العذاب ما يعذرون به في

(1) تفسير النووي المسمى ب: مراح لبيد لكشف معنى قرآن مجيد 1: 466.
61

ترك دينهم؟
قال: نعم، والله إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر على أن
يستوي جالسا من شدة الضر الذي نزل به حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولون
له: اللات والعزى إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم، حتى إن الجعل يمر بهم،
فيقولون له: هذا الجعل إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم، اقتداء منهم مما
يبلغون من جهده (1).
وقال المفسر الخارجي الإباضي الجزائري محمد بن يوسف اطفيش (ت / 1332 ه‍): (إلا
من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان): حال الإكراه مستمر، حال القتل أو
التعذيب، أو ذاهل حالهما غير معتقد للكفر، فإنه ليس بكافر، لأن قلبه مطمئن
بالإيمان، وإن جرى لفظ الكفر على لسانه كرها (2).
ثم أورد قصة عمار بن ياسر، مع ما جرى للصحابي حبيب بن زيد الأنصاري وصاحبه مع
مسيلمة الكذاب.
ومنع التقية حال الإكراه على القتل أو الزنا، قال: لا يجوز له ولا يعذر (3).
وقال المراغي (ت / 1364 ه‍) في معنى الآية الكريمة: والمعنى، أي: من كفر بالله
بعد الإيمان والتبصر فعليه غضب من الله، إلا إذا أكره على ذلك وقلبه ملئ
بالإيمان بالله والتصديق برسوله، فلا تثريب عليه كما فعل عمار بن ياسر (4).

(1) تفسير القاسمي المسمى ب: محاسن التأويل / جمال الدين القاسمي 10: 165.
(2) تيسير التفسير للقرآن الكريم / محمد بن يوسف اطفيش 7: 97.
(3) م. ن 7: 99.
(4) تفسير المراغي 14: 146.
62

وقال المفسر المعاصر محمد علي الصابوني الوهابي: (إلا من أكره..): أي: إلا
من تلفظ بكلمة الكفر مكرها، والحال أن قلبه مملوء إيمانا ويقينا.. قال
المفسرون: نزلت في عمار بن ياسر، أخذه المشركون فعذبوه حتى أعطاهم ما أرادوا
مكرها (1).
ثم أورد قصة عمار بن ياسر، وتقيته من المشركين على نحو ما مر في كلام من سبق من
المفسرين.
الآية الثالثة:
قال تعالى: (وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن
يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه
كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو
مسرف كذاب) (2).
اتفق مفسرو المذاهب والفرق الإسلامية على أن هذا الرجل الذي قال هذا القول -
فيما حكته هذه الآية الشريفة - كان قد آمن بنبوة موسى ولكنه كان يكتم إيمانه
خوفا على نفسه من فرعون وأعوانه، وقد روى بعضهم - كما سيأتي - أنه قد كتم إيمانه
مائة عام، واختلفوا في من هو هذا الرجل، والظاهر من أقوال أكثر المفسرين أنه كان
ابن عم فرعون، ومما يؤيد قولهم إن لفظ (الآل) يقع عليه (3).
وسبب قوله هذا إنه علم بما قاله فرعون لقومه في موسى عليه السلام، كما حكاه

(1) صفوة التفاسير / الصابوني 2: 227.
(2) غافر 40: 28.
(3) التفسير الكبير / الرازي 27: 56، والكشاف / الزمخشري 3: 425.
63

القرآن الكريم بقوله تعالى: (وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه
إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد) (1).
وعلى الرغم من وضوح دلالة الآية على تقية هذا الرجل المؤمن، إلا أنه سنذكر طائفة
من أقوال المفسرين بشأن هذه الآية، لكي يتأكد من خلالها أن التقية كانت معروفة
قبل الإسلام بقرون عديدة.
فقد نقل الماوردي (ت / 450 ه‍) قول السدي (ت / 127 ه‍): إن هذا الرجل كان ابن عم
فرعون، وهو الذي نجا مع موسى عليه السلام. ونقل عن ابن عباس (ت / 68 ه‍) قوله: لم
يكن من آل فرعون مؤمن غيره، وامرأة فرعون، وغير المؤمن الذي أنذر: (إن الملأ
يأتمرون بك) (2).
ثم قال -: إنه كان مؤمنا قبل مجئ موسى، وكذلك امرأة فرعون، قاله الحسن، فكتم
إيمانه، قال الضحاك: كان يكتم إيمانه للرفق بقومه، ثم أظهره، فقال ذلك في حال
كتمه (3).
ولا شك أن ما يعنيه كتمان الإيمان هو التقية لا غير، لأنه إخفاء أمر ما خشية من
ضرر إفشائه، والتقية كذلك.
ونقل ابن الجوزي الحنبلي (ت / 597 ه‍) قول السدي المتقدم، ونقل عن الحسن البصري (ت
/ 110 ه‍) أنه قال: كان مؤمنا قبل مجئ موسى وعن مقاتل: أنه كتم إيمانه من
فرعون مائة سنة (4).

(1) غافر 40: 26.
(2) القصص 28: 20.
(3) النكت والعيون / الماوردي 5: 153.
(4) زاد المسير / ابن الجوزي 7: 212.
64

وقال الرازي الشافعي (ت / 606 ه‍) إنه تعالى حكى عن ذلك المؤمن أنه كان يكتم
إيمانه، والذي يكتم يمكنه أن يذكر هذه الكلمات مع فرعون؟
ولهذا السبب حصل هنا قولان:
الأول: إن فرعون لما قال: (ذروني أقتل موسى) لم يصرح ذلك المؤمن بأنه
على دين موسى بل أوهم أنه مع فرعون وعلى دينه، إلا أنه زعم أن المصلحة تقتضي ترك
قتل موسى، لأنه لم يصدر عنه إلا الدعوة إلى الله، والإثبات بالمعجزات القاهرة،
وهذا لا يوجب القتل، والإقدام على قتله يوجب الوقوع في ألسنة الناس بأقبح الكلمات.
الثاني: إن مؤمن آل فرعون كان يكتم إيمانه أولا، فلما قال فرعون: ذروني
أقتل موسى أزال الكتمان وأظهر كونه على دين موسى، وشافه فرعون بالحق (1).
أقول: إن سياق الآية وما بعدها من آيات اخر يؤكد صحة القول الأول من أنه كان
الرجل المؤمن يكتم إيمانه قبل قول فرعون وبعده أيضا، إذ لو كان قد أزال كتمان
الإيمان لما قال: (وإن يك كاذبا فعليه كذبه) وقوله: (إن الله لا
يهدي من هو مسرف كذاب) وهذا لا يقوله من يظهر الإيمان، وقد احتمل ابن الجوزي
في هذا القول احتمالين، وهما:
أحدهما: مسرف على نفسه، كذاب على ربه، إشارة إلى موسى، ويكون هذا من قول
المؤمن.
الثاني: مسرف في عناده، كذاب في ادعائه، إشارة إلى فرعون (ويكون)

(1) التفسير الكبير / الرازي 27: 60.
65

هذا من قوله تعالى (1).
والأول أرجح، فقد نص عليه أكثر المفسرين، ويدل عليه تظاهر هذا المؤمن بمظهر
الناصح الشفيق عليهم، الحريص على مصلحتهم، وأنه لا يهمه أمر موسى عليه السلام
بقدر ما تهمه مصلحة فرعون وقومه كما في قوله: (وإن يك صادقا يصبكم بعض
الذي يعدكم).
فهذا القول يدل بظاهره على أنه أراد أن يوهمهم، وإلا فهو غير شاك في أنه سيصيبهم
غضب الله تعالى فيما لو أقدموا على قتل موسى عليه السلام.
كما أن ما قاله هذا المؤمن لقومه بعد ذلك يدل على هذه الحقيقة ويرشد إليها.
كقوله: (يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس
الله إن جاءنا) (2).
وكقوله: (يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب) (3).
وكقوله: (ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد) (4).
ولا شك أن هذه الأقوال تدل على أن هذا المؤمن كان يشعر قومه بأقواله هذه بأنه
منهم وعلى دينهم واعتقادهم، غاية الأمر أنه يروم ما فيه مصلحتهم، إذ عسى أن يكون
موسى عليه السلام صادقا فيما يقول فعندما تحل

(1) زاد المسير 7: 212.
(2) غافر 40: 29.
(3) غافر 40: 30.
(4) غافر 40: 32.
66

الندامة بهم كما حلت بمن سبقهم، بقتلهم الأنبياء عليهم السلام، ولو لم يكن صادقا
فلن يضرهم، لأن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب.
وأي كان الصحيح من القولين، فإن الرجل المؤمن كان قد كتم إيمانه في صدره على وجه
التقية من قومه حفظا على نفسه من بطش فرعون وأعوانه.
والقرآن الكريم لم يصفه - على تقيته هذه - بأنه كان مخادعا منافقا يظهر خلاف ما
يعتقد، وأنه لا يعرف صدقه من كذبه، بل وصفه بأحب الأوصاف إليه تعالى، وهي صفة
الإيمان، فهو مؤمن بنص القرآن الكريم، بل هو من الصديقين على لسان المصطفى (ص)،
وكفى بذلك فخرا.
فقد أخرج علماء الحديث من أهل السنة، عن ابن عباس وغيره، عن رسول الله (ص) أنه
قال: الصديقون ثلاثة: حبيب النجار مؤمن آل ياسين، ومؤمن آل فرعون الذي قال:
(أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله)، والثالث: علي بن أبي طالب، وهو
أفضلهم (1)، وهذا ما عرفه المفسرون كما سيأتي في كلماتهم.
قال ابن عطية الأندلسي المالكي (ت / 541 ه‍) - نقلا عن الجوهري -: وقد أثنى
الله على رجل مؤمن من آل فرعون كتم إيمانه وأسره، فجعله الله تعالى في كتابه،
وأثبت ذكره في المصاحف لكلام قاله في مجلس من مجالس الكفر (2).

(1) أخرج الحديث المتقي الهندي في كنز العمال 11: 601 / 32897، 32898، عن ابن
النجار، عن ابن عباس. وعن أبي نعيم في الحلية، وابن عساكر عن ابن أبي ليلى. وذكره
القرشي في مسند شمس الأخبار: 98، وقال محمد بن حسين الجلال في حاشية كشف الأستار
: 98: وحسنه السيوطي. وقد أخرج هذا الحديث أغلب المفسرين من أهل السنة في
تفسيرهم للآية المتقدمة.
(2) المحرر الوجيز / ابن عطية 14: 132.
67

ثم أكد أن قوله: (يا قوم لكم الملك) هو استنزال لهم ووعظ لهم من جهة ما هم
عليه من شهوات، مع التحذير من زوالها، وبأسلوب الناصح الشفيق لهم (1).
وقال القرطبي المالكي (ت / 671 ه‍) - عن نصائح الرجل المؤمن، وقوله لهم: (وإن يك
كاذبا فعليه كذبه) - ما نصه: ولم يكن ذلك الشك منه في رسالته وصدقه،
ولكن تلطفا في الاستكفاف واستنزالا عن الأذى (2)، وهذا القول صريح بأن الرجل لم
يظهر إيمانه أمام فرعون، وإلا فكيف يتفق إظهار الإيمان مع رجاء التأثير عليهم في
هذه النصائح المقرونة بالتلطف في الاستكفاف والاستنزال عن الأذى؟
وقال عن قوله تعالى: (يكتم إيمانه): إن المكلف إذا نوى الكفر بقلبه كان
كافرا وإن لم يتلفظ بلسانه، وأما إذا نوى الإيمان بقلبه فلا يكون مؤمنا بحال
حتى يتلفظ بلسانه، ولا تمنعه التقية والخوف من أن يتلفظ بلسانه فيما بينه وبين
الله تعالى، إنما تمنعه التقية من أن يسمعه غيره، وليس من شرط الإيمان أن يسمعه
الغير في صحته من التكليف، وإنما يشترط سماع الغير له، ليكف عن نفسه وماله (3).
وقال تاج الدين الحنفي (ت / 749 ه‍) في قول المؤمن: (أتقتلون رجلا): هذا
استدراج إلى الاعتراف بالبينات بالدلائل على التوحيد... ولما صرح

(1) المحرر الوجيز 14: 134.
(2) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي 15: 307.
(3) م. ن 15: 308.
68

بالإنكار عليهم غالطهم بعد في أن قسم أمره إلى كذب وصدق، وأبدى ذلك في صورة احتمال
ونصيحة، وبدأ في التقسيم بقوله: (وإن يك كاذبا فعليه كذبه) مداراة منه،
وسلوكا لطريق الإنصاف في القول، وخوفا إذا أنكر عليهم قتله أنه ممن يعاضده
وينصره، فأوهمهم بهذا التقسيم والبداءة بحالة الكذب حتى يسلم من شره، ويكون ذلك
أدنى إلى تسليمهم (1).
وهذا الكلام متين ومنسجم مع سياق الآيات القرآنية الحاكية لأقوال هذا المؤمن لفرعون
وقومه، ولا شك أنه قد أدرك بأن الأسلوب الأمثل لإقناع فرعون - وهو ابن عمه كما
مر - بترك ما أراد فعله هو النصح والمداراة، ليكون أقرب إلى الأخذ بأقواله مما لو
أعلن إيمانه، فهو قد كذب وقومه نبيا مرسلا جاءهم بالمعجزات والدلائل الدالة
على صدقه، فكيف يصدقون بمن هو دونه وعلى دينه؟
ولقد أكد هذا المعنى أبو حيان الأندلسي المالكي (ت / 754 ه‍) بقوله: قال صاحب
التحرير والتحبير: هذا نوع من أنواع علم البيان تسميه علماؤنا: استدراج المخاطب.
وذلك أنه لما رأى فرعون قد عزم على قتل موسى والقوم على تكذيبه، أراد الانتصار له
بطريق يخفى عليهم بها أنه متعصب له، وأنه من أتباعه، فجاءهم من طريق النصح
والملاحظة فقال: (أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله)، ولم يذكر اسمه، بل قال
: (رجلا) يوهم أنه لا يعرفه، ولا يتعصب له (أن يقول ربي الله) ولم يقل:
رجلا مؤمنا بالله، أو: هو نبي، إذ لو قال شيئا من ذلك لعلموا إنه متعصب،
ولم يقبلوا قوله. ثم اتبعه بما بعد ذلك فقدم قوله: (وإن يك كاذبا) موافقة
لرأيهم فيه، ثم تلاه بقوله: (وإن يك صادقا)،

(1) الدر اللقيط / تاج الدين الحنفي 7: 458.
69

ولو قال: هو صادق بكل ما يعدكم، لعلموا إنه متعصب، وإنه يزعم أنه نبي، وإنه
يصدقه... ثم أتبعه بكلام يفهم منه أنه ليس بمصدق وهو قوله: (إن الله لا
يهدي من هو مسرف كذاب) انتهى (1).
ومن هنا يتبين أن ما ذهب إليه البرسوي الحنفي (ت / ه‍) في معنى قوله تعالى حكاية
عن حال المؤمن: (وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه) من أنه كان
يستره ويخفيه من فرعون وملئه لا خوفا، بل ليكون كلامه بمحل من القبول (2)، لا
دليل عليه، وتخالفه سائر الأقوال المتقدمة واللاحقة أيضا، على أنه قال بعد ذلك
: وكان قد آمن من بعد بمجئ موسى أو قبله بمائة سنة وكتمه (3).
ولعمري من أين له أن يعلم إن كتمان إيمانه قبل أن يسمع بمقولة فرعون بمائة عام كان
من غير خوف على نفسه من الكافرين؟
قال الشوكاني الزيدي (ت / 1250 ه‍) - بعد أن ذكر قول المؤمن: ثم تلطف لهم في
الدفع عنه فقال: (وإن يك كاذبا...)، ولم يكن قوله هذا لشك منه، فإنه كان
مؤمنا كما وصفه الله ولا يشك المؤمن (4).
وقال الآلوسي الوهابي (ت / 1270 ه‍) - وقد ذكر قول المؤمن لفرعون وقومه -: ثم إن
الرجل احتاط لنفسه خشية أن يعرف اللعين حقيقة أمره فيبطش به، فتلطف في الاحتجاج
فقال: (وإن يك كاذبا فعليه كذبه) لا يتخطاه وبال كذبه (5).

(1) البحر المحيط / أبو حيان 7: 461.
(2) روح البيان / البرسوي 8: 177.
(3) م. ن 8: 177.
(4) فتح القدير / الشوكاني 4: 489.
(5) روح المعاني / الآلوسي 24: 64.
70

وقال القاسمي (ت / 1332 ه‍) - عن الرجل المؤمن -: إنه سلك معهم طريق المناصحة
والمداراة، فجاء بما هو أقرب إلى تسليمهم وأدخل في تصديقهم له، ليسمعوا منه ولا
يردوا عليه نصيحته، وذلك أنه حين فرضه صادقا، فقد أثبت أنه صادق في جميع ما
يعد. ولكنه أردفه (يصبكم بعض الذي يعدكم)، ليهضمه بعض حقه في ظاهر
الكلام، ليريهم إنه ليس بكلام من أعطاه حقه وأثنى عليه، فضلا عن أن يكون
متعصبا له. وتقديم الكاذب على الصادق من هذا القبيل (1).
وقال الخارجي الإباضي محمد بن يوسف أطفيش (ت / 1332 ه‍) - عن الرجل المؤمن - إنه:
من القبط، ابن عم فرعون، وكان يجري مجرى ولي العهد، ومجرى صاحب الشرطة، وقيل:
كان إسرائيليا... فمعنى كونه من آل فرعون - على القولين - أنه فيهم بالتقية
مظهرا أنه على دينهم، وظاهر قوله: (يا قوم) أنه منهم (2).
وقال في مكان آخر: واستعمل الرجل تقية على نفسه، ما ذكر الله عز وجل عنه بقوله
: (وإن يك كاذبا فعليه كذبه) ومعنى عليه كذبه: أنه لا يتخطاه وبال كذبه
من الله تعالى فضلا عن أن يحتاج في دفعه إلى قتله (3).
وقال الشيخ المراغي (ت / 1364 ه‍): الرجل المؤمن هو ابن عم فرعون، وولي عهده
وصاحب شرطته، وهو الذي نجا مع موسى، وهو المراد بقوله:

(1) محاسن التأويل / القاسمي 14: 232.
(2) تيسير القرآن / محمد بن يوسف أطفيش الإباضي 11: 343.
(3) م. ن 11: 344 - 345.
71

(وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى) (1) ثم قال في تفسير الآية الكريمة: أي:
وقال رجل من آل فرعون يكتم إيمانه منهم خوفا على نفسه: أينبغي لكم أن تقتلوا
رجلا ما زاد على أن قال: ربي الله، وقد جاءكم بشواهد دالة على صدقه؟ ومثل هذه
المقام لا تستدعي قتلا، ولا تستحق عقوبة!
فاستمع فرعون لكلامه، وأصغى لمقاله، وتوقف عن قتله (2).
وهكذا شاء الله أن يجعل من تقية هذا الرجل المؤمن - رضي الله تعالى عنه - ومن
نصحه لقومه، ومداراته وتلطفه تقية في الكلام سببا لدرء القتل عن موسى عليه
السلام.
وإذا كان الأمر كذلك - وهو كذلك - فكيف ساغ لبعضهم القول: بأن التقية من وضع
أئمة الرافضة ليبرروا بها ما اختلف من أقوالهم؟
بل كيف يصح القول بعدئذ بأن من يتقي هو مخادع كذاب؟
الآية الرابعة:
قال تعالى: (وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم
قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا
أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم
برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا * إنهم إن يظهروا عليكم
يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا) (3).
هذه الآية الكريمة هي من جملة الآيات المبينة لقصة أصحاب الكهف في

(1) القصص 28: 20.
(2) تفسير المراغي 24: 63.
(3) الكهف: 18: 19 - 20.
72

القرآن الكريم، ولأجل تقريب دلالتها على التقية كان لا بد من التعرض لقصتهم على
نحو ما في كتب التفسير السنية، وباختصار كثير فنقول:
إن للمفسرين في بيان قصتهم أقوالا، أشهرها ثلاثة، وهي:
القول الأول: إنهم هربوا من ملكهم بعد أن دعاهم إلى عبادة الأصنام، فلجأوا إلى
الكهف الذي سده الملك عليهم ليموتوا فيه. وإن رجلين من المؤمنين كانا يكتمان
إيمانهما قد كتبا أسماء أهل الكهف في لوح من الرصاص وجعلاه في تابوت من نحاس
وأثبتاه في باب الكهف، لعل الله تعالى يطلع عليهم قوما مؤمنين فيعلمون أخبارهم،
وقد أسند هذا القول إلى ابن عباس رضي الله عنه (1).
وهذا القول يدل على أنهم كانوا يتقون من ملكهم، ويكتمون إيمانهم عنه قبل أن
يكرههم ملكهم على عبادة الأصنام، فلم يسعهم بعد ذلك إلا الهرب بدينهم ونجاة أنفسهم،
ولا شك أنهم كانوا قبل ذلك ليس في عزلة عن الناس، وإنما كانوا في معاشرة ظاهرة،
ومخالطة فيها من المداراة الكثير، لأن كتم الإيمان لا يكون في العزلة، وإنما
يكون في المعاشرة والمخالطة، وهذا هو معنى التقية.
القول الثاني: إنهم هربوا من ملكهم بجناية اتهم بها أحد المؤمنين من الذين
كانوا يكتمون إيمانهم خوفا على أنفسهم من ملكهم الكافر، وكان أصحاب الكهف من رفاق
هذا المؤمن، فخافوا من الملك بعد أن أمر بطلبهم فهربوا إلى الكهف، وقد نسب هذا
القول إلى وهب بن منبه (ت / 114 ه‍) (2).

(1) زاد المسير / ابن الجوزي 5: 109، الجامع لأحكام القرآن / القرطبي 10: 357.
(2) زاد المسير / ابن الجوزي 5: 110.
73

وهذا القول على الرغم من ضعفه بوهب، وهو أحد أقطاب الإسرائيليات، وكان يقول بالقدر
كما هو معروف في كتب التراجم، إلا أنه كالأول في دلالته على تقيتهم قبل هروبهم،
لأنهم من المؤمنين بنص الكتاب العزيز، وكان ملكهم كافرا باتفاق المفسرين، ولا
يمكن أن يجتمع المؤمن الضعيف مع كافر متسلط من غير تقية في كتم الإيمان.
القول الثالث: وهو من أقوى الأقوال، وخلاصته: أنهم كانوا أبناء عظماء المدينة
وأشرافهم، خرجوا من المدينة على غير ميعاد لما كان من أمر ملكهم دقيانوس الذي
يعبد الأوثان ويجبر الناس على عبادتها، فاتفقت كلمة أصحاب الكهف على الهرب بدينهم
وأنفسهم منه، فلجأوا إلى الكهف، وقد نسب هذا القول إلى ابن عباس (ت / 68 ه‍)،
ومجاهد بن جبر (ت / 103 ه‍)، وعكرمة (ت / 105 ه‍)، وقتادة (ت / 118 ه‍) (1).
ويؤيد هذا القول ما نسبه الفخر الرازي (ت / 606 ه‍) إلى أمير المؤمنين علي بن أبي
طالب عليه السلام من أنهم كانوا ستة وسابعهم الراعي الذي وافقهم لما هربوا من
ملكهم، وكان ثلاثة منهم أصحاب يمين الملك، وكان الملك يستشيرهم جميعا في
مهماته (2).
وهذا القول كسابقيه يدل على أنهم كانوا يكتمون الإيمان مع منزلتهم

(1) زاد المسير / ابن الجوزي 5: 110، التفسير الكبير / الرازي 21: 97، الجامع
لأحكام القرآن / القرطبي 10: 359، والدر المنثور / السيوطي 5: 366، تفسير أبي
السعود / محمد بن محمد العمادي 6: 209.
(2) التفسير الكبير 21: 106، وانظر جامع البيان / الطبري 15: 150، والدر المنثور
5: 373.
74

وشرفهم في قومهم ولعل فيما حكاه الرازي أقوى في الدلالة على تقيتهم، إذ لا يمكن
بموجبه تصور عدم تقيتهم، إلا أن يقال بأنهم لم يكونوا من المؤمنين أصلا، وهذا
احتمال باطل لم يقل به أحد قط، وقد صرح القرآن الكريم بخلافه، حيث قال تعالى عنهم
: (إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى) (1).
وكيف يعقل عدم اتقائهم وهم من مستشاري ملكهم الكافر؟
نعم، قد يقال بأن قوله تعالى: (وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا
رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا) (2)
بأنه دال على عدم تقيتهم، كما ورد في كتب التفسير لدى الشيعة الإمامية (3) كما أن
قولهم: ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها) هو قول من
لا يرى التقية أصلا، فأين تقية أصحاب الكهف حينئذ؟
والجواب: إن هذا القول إن دل على عدم تقيتهم فلا دليل عليه أنهم كانوا لا يرون
التقية قبل قولهم هذا، وقد مر ما يشير إلى أن قولهم هذا كان في آخر أيام مكثهم
بين قومهم، وكانوا قبل ذلك سائرين على التقية لا محالة.
ولقد مر أيضا في دلالة الآية السابقة على التقية أن مؤمن آل فرعون - كما في أحد
القولين - قد أظهر إيمانه حين سمع فرعون اللعين يقول: (ذروني أقتل موسى)، وأن
هذا المؤمن قد شافه فرعون بالحق ولم يتق منه، مع أنه كان يكتم إيمانه عن فرعون
وقومه بنص القرآن الكريم.
وبعد سلامة دلالة قول أصحاب الكهف المتقدم على عدم التقية، فيكون

(1) الكهف 18: 13.
(2) الكهف: 18: 14.
(3) هذا ما اختاره الشيخ الطوسي في التبيان 7: 15.
75

موقفهم منها كموقف مؤمن آل فرعون، حين شافه فرعون بالحق وترك التقية بعد أن كان
عليها.
ويدل عليه ما ذكر أبو السعود العمادي التركي المفسر (ت / 982 ه‍) قال: ونبأهم -
حسبما ذكره محمد بن إسحاق بن يسار - أنه قد مرج أهل الإنجيل، وعظمت فيهم الخطايا،
وطغت ملوكهم. فعبدوا الأصنام، وذبحوا للطواغيت. وكان ممن بالغ في ذلك، وعتا عتوا
كبيرا دقيانوس، فإنه غلا فيه غلوا شديدا، فجاس خلال الديار والبلاد بالعبث
والفساد، وقتل من خالفه من المتمسكين بدين المسيح عليه السلام، وكان يتبع الناس
فيخيرهم بين القتل وعبادة الأوثان (1).
ومن هنا يفهم أن تقية أصحاب الكهف - قبل قولهم هذا - كان فيها من مجاهدة النفس
الشئ العظيم، لأن ما يكره عليه المسلم مثلا من مسلم آخر، فهو في أغلب الأحوال
لا يكون مثل ما يكره عليه المسلم من كافر. بل وما يكره عليه المسلم من قبل الكافر
مرة واحدة أو مرات، لا يقاس بمعاناة الفتية الذين آمنوا بربهم، وقضوا جل
حياتهم بين قوم عكفوا على عبادة الأوثان.
أقول: ولهذا ورد عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام (ت / 148 ه‍) - من طرق
الشيعة الإمامية - أنه قال: ما بلغت تقية أحد تقية أصحاب الكهف، إن كانوا
ليشهدون الأعياد، ويشدون الزنانير، فأعطاهم الله أجرهم مرتين (2).
وكيف لا يشدون الزنار على وسطهم، وهم في أوساطهم؟ وكيف لا يشهدون أعيادهم، وهم
من أعيانهم؟

(1) تفسير أبي السعود 6: 209، ومثله في معالم التنزيل / البغوي 3: 541.
(2) أصول الكافي 2: 174 - 175 / 14 و 19 - كتاب الإيمان والكفر، باب التقية.
76

على أن القرآن الكريم قد أشار إلى تقيتهم بعد بعثهم من رقدتهم التي جعلها الله
تعالى آية للعالمين... حيث قال قائل منهم: (فابعثوا أحدكم بورقكم هذه
إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا
يشعرن بكم أحدا).
قال الرازي الشافعي (ت / 606 ه‍): وقوله: (وليتلطف): أي: يكون ذلك في سر
وكتمان، يعني: دخول المدينة وشراء الطعام (ولا يشعرن بكم أحدا) أي: لا
يخبرن بمكانكم أحدا من أهل المدينة (1).
وقال القرطبي المالكي (ت / 671 ه‍): (وليتلطف): أي في دخول المدينة وشراء
الطعام (ولا يشعرن بكم أحدا) أي: لا يخبرن، وقيل: إن ظهر عليه فلا يوقعن
إخوانه فيما وقع فيه، (إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم). قال الزجاج:
معناه: بالحجارة، وهو أخبث القتل، وقيل: يرموكم بالسب والشتم، والأول أصح،
لأنه كان عازما على قتلهم كما تقدم في قصصهم.
ثم بين في المسألة السادسة من مسائل هذه الآية حكم الوكالة إذا اقترنت بالتقية
كما في توكيل أهل الكهف صاحبهم بشراء الطعام مع إيصائه بأن يتقي قومه بإخفاء سره
ما استطاع فقال ما نصه: في هذه الآية نكتة بديعة، وهي أن الوكالة إنما كانت مع
التقية خوف أن يشعر بهم أحد لما كانوا عليه من خوف على أنفسهم، وجواز توكيل ذوي
العذر متفق عليه (2).
وبعد فلا حاجة للإطالة في إيراد أقوال المفسرين بمعنى قوله: (وليتلطف) فقد
اتفق جميع المفسرين على القول بأن المراد من ذلك هو

(1) التفسير الكبير / الرازي 21 / 103.
(2) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي 10: 376 - 377.
77

إيصاله بأن يخفي أمره عن قومه، لأنهم إذا اطلعوا على واقع الحال، عرفوا المكان،
وإذا عرفوه فهم إما سيقتلون من فيه أو يجبرونهم على عبادة الأوثان (1).
نعم ذكر بعضهم وجها آخر للتلطف، خلاصته أن يكون على حذر من أهل المدينة بحيث لا
يغبن في شراء الطعام، وهذا الوجه بعيد عن أجواء الآية الكريمة كل البعد، خصوصا
مع قوله: (ولا يشعرن بكم أحدا) كما نبه عليه الشوكاني الزيدي (ت /
1250 ه‍) (2).
الآية الخامسة:
قال تعالى: (وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم
ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه) (3).
ومعنى الآية كما نص عليه سائر المفسرين: إن الله تعالى قد بين لكم الحلال من
الحرام، وأزيل عنكم اللبس والشك، ثم استثنى فقال: (إلا ما اضطررتم إليه)
أي: ما اضطررتم إليه من المحرمات فهو لكم. والآية ناظرة لقوله تعالى: (إنما
حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله
فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم) (4).

(1) انظر: تفسير الماوردي 3: 294، ومعالم التنزيل / البغوي 3: 557، وروح البيان
/ البرسوي 5: 229، وروح المعاني / الآلوسي 15: 231، ومحاسن التأويل / القاسمي 11
: 18، وتيسير التفسير / محمد بن يوسف أطفيش الإباضي 7: 353، وتفسير المراغي 15:
133.
(2) فتح القدير 3: 276.
(3) الأنعام 6: 119.
(4) البقرة 2: 173.
78

ولا خلاف بين أهل الإسلام بجواز أكل المضطر لمثل هذه المحرمات، وهذا الاضطرار كما
يحصل من الجوع في مخمصة، فقد يحصل أيضا نتيجة الإكراه عليه.
قال مجاهد بن جبر المكي (ت / 103 ه‍) وهو من أئمة المفسرين من التابعين، في تفسير
الآية الخامسة: يعني: أكره عليه، كالرجل يأخذه العدو فيكرهونه على أكل لحم
الخنزير وغيره في معصية الله تعالى، إلا أن الإكراه يبيح ذلك إلى آخر
الإكراه (1).
وهذا دليل مضاف على ما تقدم من أن التقية ليست في الكلام فقط، وإنما تكون في
الفعل أيضا، حيث دلت هذه الآية على جواز التقية في الفعل عند الإكراه عليه، كما
لو أكره الكافر مسلما على أكل لحم الخنزير فإنه يباح له ذلك، كما أبيح ذلك
للمضطر، ولا يسعه أن يمتنع.
قال الجصاص الحنفي (ت / 370 ه‍): ومن امتنع من المباح كان قاتلا نفسه متلفا لها
عند جميع أهل العلم.. إنه لو امتنع من أكل المباح معه حتى مات كان عاصيا لله
تعالى (2).
الآية السادسة:
قال تعالى: (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة
وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) (3).

(1) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي 2: 227.
(2) أحكام القرآن / الجصاص 1: 127.
(3) البقرة 2: 195.
79

إن الاختلاف الحاصل في معنى قوله تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)
بين أقطاب المفسرين من الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم بين ترك النفقة في سبيل
الله تعالى للخوف من الفقر، كما ورد عن ابن عباس (ت / 68 ه‍)، وبين ترك الجهاد في
سبيل الله تعالى كما ورد عن حذيفة (ت / 36 ه‍)، والحسن (ت / 110 ه‍)، ومجاهد (ت /
103 ه‍) وقتادة (ت 118 / ه‍)، والضحاك (ت / 105 ه‍) وغيرهم (1).
لا يعني هذا حصر التهلكة في هذين المعنيين، إذ لا يقيد المعنى بسبب النزول
اتفاقا، والعبرة إنما هي بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولهذا فالآية ناظرة - وإن
نزلت بسبب مخصوص - إلى كل ما تؤدي عاقبته إلى الهلاك، إلا ما استثني منه بدليل
معتبر، كمن يكرهه السلطان الظالم على قتل رجل مؤمن فيأبى، فيقتل، فهذا لا يعد
ممن قد ألقى نفسه إلى التهلكة، ولكن لو كان الامتناع عن شرب الخمر يؤدي إلى القتل
حتما، فعندها سيكون الممتنع قد ألقى نفسه إلى التهلكة، وهذا ما نبه عليه الإمام
الرازي في الآية الثانية عند بيانه مراتب الإكراه، وقد عد الامتثال للمكره
واجبا على المكره في مثل هذه الحال، فراجع.
الآية السابعة:
قال تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) (2) لا خلاف في أن أصل الحرج
لغة، هو: الضيق (3)، ولا خلاف أيضا في أن التقية لا تحصل إلا من جراء

(1) الجامع لأحكام القرآن 2: 316.
(2) الحج 22: 78.
(3) لسان العرب / ابن منظور 3: 107 حرج.
80

وقوع صاحبها في ضيق لا يسعه الخروج منه بدونها، ولهذا كانت هذه الآية من نعم
الله تعالى على أمة محمد (ص)، كما صرح بذلك علماء أهل السنة.
قال القرطبي المالكي (ت / 671 ه‍): وهذه الآية تدخل في كثير من الأحكام، وهي مما
خص الله بها هذه الأمة.
روى معمر، عن قتادة قال: أعطيت هذه الأمة ثلاثا لم يعطها إلا نبي: كان
يقال للنبي: إذهب فلا حرج عليك، وقيل لهذه الأمة: (وما جعل عليكم في الدين
من حرج) (1).
الآية الثامنة:
قال تعالى: (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه
ولي حميم) (2).
إن دلالة هذه الآية على وجوب تمسك المسلم بالأخلاق الفاضلة ومراعاة شعور الآخرين،
ومقابلة الإساءة بالإحسان، ورد الباطل بالحق، والتسامح مع الآخرين، لا يكاد يشك
فيه أي مسلم كان، وهذا المعنى مما اتفق عليه المفسرون عن بكرة أبيهم.
ولا شك أن هذه الأمور التي دلت عليها الآية الكريمة تدخل - بقدر ما - في باب
المداراة، والمداراة هي من التقية اتفاقا.
على أن هناك الكثير من الآيات الاخر التي تقرب إلى الأذهان مشروعية

(1) الجامع لأحكام القرآن 12: 100.
(2) فصلت 41: 34.
81

التقية في القرآن الكريم، من ذلك:
قوله تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها) (1).
وقوله تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) (2).
كما أن قوله تعالى: (بل الإنسان على نفسه بصيرة) (3)، يدل على أن للإنسان
أن يقدر نتائج ما يقدم عليه من استعمال التقية أو تركها، بل عليه أن يقدر
نتائج كل ما يقدم عليه في حياته كلها، لأنه مسؤول عن تلك النتائج صغيرها
وكبيرها يوم القيامة، وستشهد بها جوارحه عليه، ولا مجال هناك للإنكار أو المجادلة
كما يشعر بذلك قوله تعالى بعد ذلك: (ولو ألقى معاذيره) (4).
وهذا يعني أن الاضطرار أو الإكراه اللذين يواجههما الإنسان في حياته يترك
تقديرهما له، لأنه أعلم من غيره حين ينزلان به، وعليه أن يزن الأمور بالميزان
الحق، فإن علم أنه لا مخرج من الاضطرار إلا بأكل المحرم فله ذلك، وإن شعر أن
الإكراه على المعصية من فعل أو قول إن أدى - مع عدم الامتثال للمكره - إلى القتل
أو ما يقاربه من وعيد متلف أو الاعتداء على الأعراض أو الأموال وغير ذلك من الأضرار
الأخرى التي لا تطاق عادة، فله أن يستعمل التقية، وقد مر هذا المعنى في كلمات
المفسرين للآية الثانية كالرازي وغيره، فراجع.

(1) الطلاق 65: 7.
(2) البقرة 2: 85.
(3) القيامة 75: 14.
(4) القيامة 75: 15.
82

ثانيا - السنة المطهرة - القولية والفعلية
ورد مفهوم التقية في كثير من النصوص المخرجة في كتب الصحاح والمسانيد، وكتب السيرة
وقد أسندت إلى النبي (ص)، وسنذكر منها ما يصح الاحتجاج به على مشروعية التقية،
وعلى النحو الآتي:
1 - أخرج البخاري (ت / 256 ه‍) من طريق قتيبة بن سعيد، عن عروة بن الزبير أن عائشة
أخبرته أن رجلا استأذن في الدخول إلى منزل النبي (ص)، فقال (ص): ائذنوا له
فبئس ابن العشيرة، أو بئس أخو العشيرة، فلما دخل ألآن له الكلام. فقلت له: يا
رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له في القول؟ فقال: أي عائشة، إن شر الناس
منزلة عند الله من تركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه (1).
وهذا الحديث صريح جدا بتقية رسول الله (ص) من أحد رعيته لفحشه، فكيف إذا لا
تجوز تقية من هو ليس بنبي من المسلم الظالم المتسلط الذي لا يقاس ظلمه مع ضرر كلام
الفاحش البذئ؟
2 - الحديث المشهور بين علماء المسلمين: رفع الله من أمتي الخطأ، والنسيان،
وما استكرهوا عليه (2).

(1) صحيح البخاري 8: 38 - كتاب الإكراه، باب المداراة مع الناس، سنن أبي داود 4:
251 / 4791 و 4792 و 4793، ورواه محدثو الشيعة الإمامية أيضا باختلاف يسير كما في
أصول الكافي / الكليني 2: 245 / 1 - كتاب الإيمان والكفر، باب من يتقى شره.
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري / ابن حجر العسقلاني 5: 160 - 161، مسند الربيع
بن حبيب 3: 9، تلخيص الحبير / ابن حجر 1: 281، كشف الخفاء / العجلوني 1: 522،
كنز العمال / المتقي الهندي 4: 233 / 10307، الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة
/ السيوطي: 87.
83

وهذا الحديث يدل أيضا على مشروعية التقية، وان صاحبها لا يؤاخذ بشئ ما دام
مكرها عليها، وقد مر في كلام ابن العربي المالكي ما له علاقة بهذا الحديث ودلالته
على التقية في تفسيره للآية الثانية، فراجع.
3 - الحديث المروي عن ابن عمر (ت / 65 ه‍)، عن النبي (ص) أنه قال: المؤمن الذي
يخالط الناس، ويصبر على أذاهم أعظم أجرا من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر
على أذاهم (1).
ولا تخفى ما في مخالطة الناس من أمور توجب المداراة، التي تدخل من هذا الباب في
حقل التقية.
4 - أخرج الهيثمي (ت / 807 ه‍) من طريق إبراهيم بن سعيد، عن النبي (ص) أنه قال:
كيف أنتم في قوم مرجت عهودهم وأماناتهم وصاروا حثالة؟ وشبك بين أصابعه. قالوا:
كيف نصنع؟ قال: اصبروا وخالقوا الناس بأخلاقهم، وخالفوهم بأعمالهم (2).
ولعمري، هل هناك أصرح من هذا بالتقية؟ وكيف تكون مخالقة حثالة الناس بأخلاقهم،
ومخالفتهم في أعمالهم من غير تقية؟
5 - حديث ابن عمر عن النبي (ص) أنه قال: لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه، قال:
قلت: يا رسول الله كيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء لما لا يطيق (3).

(1) سنن ابن ماجة 2: 1338 / 4032، والسنن الكبرى / البيهقي 10: 89، ورواه البيهقي
من طريق آخر بلفظ: (أفضل) مكان (أعظم أجرا)، ومثله في حلية الأولياء / أبو نعيم 5
: 62 و 7: 365، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي 10: 359 - رواه عن البغوي.
(2) كشف الأستار / الهيثمي 4: 113 / 2324.
(3) م. ن 4: 112 / 2323.
84

أقول: لقد طبق هذا الحديث من أدرك الحكم الأموي من الصحابة وما أكثرهم، بل وجميع
التابعين، ذلك لأن من الثابت الذي لا يرقى إليه الشك مطلقا، أن عليا عليه
السلام قد لعنه الأمويون على منابر المسلمين لعشرات من السنين، ولم يغير أحد هذا
المنكر لا من الصحابة ولا من التابعين، إلا القليل الذين احتفظ التاريخ بمواقفهم
وسجلها بكل إعزار وتقدير، فقد أدرك الكل أن مثل هذا التغيير سيعرضهم إلى ما لا
يطيقون من البلاء، ولا أعلم موقفا أوضح منه في التقية.
6 - أخرج المحدثون عن علي عليه السلام (ت / 40 ه‍) وابن عباس (ت / 68 ه‍)، ومعاذ بن
جبل (ت / 18 ه‍)، وعمر بن الخطاب (ت / 23 ه‍)، عن النبي (ص)، أنه قال: استعينوا
على إنجاح حوائجكم بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود (1).
أقول: لقد مرت فائدة كتمان مؤمن آل فرعون إيمانه، حيث استطاع - وبفضل كتمان
إيمانه، وتظاهره بمظهر الناصح الشفيق على مصلحة فرعون وقومه - أن يثني فرعون اللعين
عما عزم عليه من جرم عظيم.
على أن هذا الحديث لا يعني الأمر بكتمان الحق والتظاهر بالباطل، ولا يحث على ذلك
مطلقا، بل فيما يعنيه أن في الكتمان فوائد لا تتحقق بغيره، ولما كانت التقية هي
عبارة عن كتمان ما ترى وإظهار خلافه للحفاظ على النفس أو العرض أو المال، إذا
اتضحت علاقة الحديث بالتقية.
7 - حديث السيوطي، عن النبي (ص) قال: بئس القوم قوم يمشي المؤمن فيهم

(1) المعجم الكبير / الطبراني: 20: 94 / 183، حلية الأولياء / أبو نعيم 6: 96،
الجامع الصغير / السيوطي 1: 150 / 985، كنز العمال / المتقي الهندي 6: 517 /
16800 و 6: 250 / 16809.
85

بالتقية والكتمان (1).
وهذا الحديث مؤيد بنصوص القرآن الكريم، وقد مر بعضها، حيث امتدح الله تعالى مؤمن
آل فرعون، وذم فرعون وقومه.
كما وصف أهل الكهف بقوله تعالى: (إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم
هدى) ووصف قومهم بأنهم: (ممن افترى على الله كذبا) (2).
ولا يمكن والحال هذه تصور حياة أهل الكهف خالية من التقية، وهم بين ظهراني قوم
يفترون على الله الكذب، مع عتو ملكهم دقيانوس (ت / 385 م) الذي جاس خلال الديار
والبلاد بالعبث والفساد، وقتل من خالفه من المتمسكين بدين المسيح عليه السلام،
وكان يتبع الناس فيخيرهم بين القتل وعبادة الأوثان (3).
وقد أخرج المفسرون عن ابن عباس (ت / 68 ه‍)، وعطاء (ت / 114 ه‍)، ومجاهد (ت /
103 ه‍)، وعكرمة (ت / 105 ه‍)، وابن جريج (ت / 150 ه‍) وغيرهم من أن عامة أهل بلدهم
كانوا كفارا، وكان فيهم قوم يخفون إيمانهم على وجه التقية، ومنهم أصحاب الكهف
الذين كانوا من الأشراف على دين عيسى عليه السلام، وكانوا يعبدون الله سرا
ويكتمون أمرهم (4).
كل ذلك يؤيد صحة ما رواه السيوطي آنفا، ويفصح عن أن التقية لا تكون

(1) الجامع الصغير / السيوطي 1: 491 / 3186، عن الديلمي في مسند الفردوس، عن ابن
مسعود.
(2) الكهف 18: 15.
(3) تقدم هذا الكلام في بيان دلالة الآية الرابعة على التقية، عن تفسير أبي
السعود، فراجع.
(4) الجامع لأحكام القرآن 10: 359، زاد المسير 5: 120، الدر المنثور 5: 366.
86

من المؤمن أبدا، لأن المؤمنين إخوة، والمؤمن مرآة المؤمن، وإنما تكون من الإنسان
الظالم الذي لا يؤتمن جانبه.
8 - ما رواه ابن العربي المالكي (ت / 543 ه‍) في أحكام القرآن حول إرسال النبي (ص)
جماعة من الصحابة لقتل كعب بن الأشرف الطائي في السنة الثالثة من الهجرة، وكان فيهم
محمد بن مسلمة (ت / 43 ه‍)، وكيف ان ابن مسلمة وأصحابه قد استأذنوا النبي (ص) في
أن ينالوا منه (ص)، فقالوا: يا رسول الله أتأذن لنا أن ننال منك؟ (1) فأذن لهم
بذلك، وهكذا مكنهم الله تعالى على قتله بعد أن تظاهروا لكعب تقية - وبإذن النبي
(ص) - بأنهم كرهوا دينه.
9 - الحديث المخرج في كتب الطرفين، وهو من قوله (ص): لا ضرر ولا ضرار وفي لفظ
آخر: لا ضرر ولا ضرار في الإسلام (2).
وهذه القاعدة، أعني: قاعدة نفي الضرر، قد تفرعت منها قواعد كثيرة، نص عليها ابن
نجيم الحنفي (ت / 970 ه‍)، وقد ذكر في كل منها مسائل شتى، ومنها المسائل المحتمل
فيها وقوع الضرر، أو المتيقن عند الإكراه، وسيأتي كلامه في الفصل الأخير عند
الحديث عن التقية في فقه الأحناف.

(1) أحكام القرآن / ابن العربي 2: 1257.
(2) ورد اللفظ الأول في مسند أحمد 1: 313، وسنن ابن ماجة 2: 784 في الأحاديث:
2340 و 2341 و 2342، والسنن الكبرى للبيهقي 6: 69 و 70 و 457، و 10: 13، والمعجم
الكبير للطبراني 2: 81 و 11: 302، وسنن الدارقطني 3: 77، ومستدرك الحاكم 2: 58،
ومجمع الزوائد للهيثمي 4: 110، وكنز العمال 4: 59 / 9498، وحلية الأولياء 9:
76، وتهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر 6: 325.
وورد اللفظ الثاني في نصب الراية للزيلعي 4: 384 و 386، وارواء الغليل للألباني 3:
411، ورواه من الشيعة: الصدوق في من لا يحضره الفقيه 4: 243 حديث 777، والاحسائي
في عوالي اللآلي 1: 383.
87

10 - ما رواه الحسن البصري (ت / 110 ه‍) وأيده عليه سائر المفسرين من أن عيونا
لمسيلمة الكذاب (ت / 12 ه‍) قد أخذوا رجلين من المسلمين فأتوه بهما، فقال لأحدهما:
أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم. قال: أتشهد اني رسول الله، فأبى ولم
يشهد، فقتله. وقال مثل ذلك للثاني فشهد لمسيلمة الكذاب بما أراد، فأطلقه، فأتى
النبي (ص)، وأخبره بما جرى، فقال (ص): أما صاحبك فمضى على إيمانه، وأما أنت
فأخذت بالرخصة (1).
11 - ما رواه ابن ماجة (ت / 273 ه‍) في قصة عمار بن ياسر (ت / 37 ه‍) وأمه سمية
بنت خباط (ت / 7 ق. ه‍)، وصهيب (ت / 38 ه‍)، وبلال (ت / 37 ه‍) والمقداد (ت / 33 ه‍)
قال: فأخذهم المشركون وألبسوهم أدراع الحديد وصهروهم في الشمس فما منهم أحد إلا
وقد وآتاهم على ما أرادوا إلا بلالا (2) وفي لفظ أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن
ياسر - كما في تفسير الطبري (ت / 310 ه‍) -: أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه
حتى باراهم في بعض ما أرادوا، فشكا ذلك إلى النبي (ص)، فقال النبي (ص): كيف تجد
قلبك؟ قال: مطمئنا بالإيمان، قال النبي (ص): فإن عادوا فعد (3).
وفي لفظ الرازي (ت / 606 ه‍) انه قيل بشأن عمار: يا رسول الله إن عمارا كفر.
فقال: كلا، إن عمارا ملئ إيمانا من فرقه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه
ودمه، فأتى عمار رسول الله (ص) وهو يبكي، فجعل رسول الله (ص) يمسح عينيه ويقول:
ما لك؟ إن عادوا لك، فعد لهم بما قلت (4).

(1) تفسير الحسن البصري 2: 76.
(2) سنن ابن ماجة 1: 53، 150 / باب 11 - في فصل سلمان وأبي ذر والمقداد.
(3) جامع البيان / الطبري 14: 122.
(4) التفسير الكبير / الرازي 20: 121، وقد تقدمت قصة عمار بن ياسر وما قبلها
أيضا في تفسير الآية الثانية بكثير من تفاسير أهل السنة فراجع.
88

12 - وما يستدل به على التقية في هذا الباب ما اتفق عليه جميع المسلمين وبلا
استثناء من أنه (ص) كان يدعو الناس سرا إلى الإسلام في أول الأمر، إشفاقا منه
على هذا الدين العظيم حتى لا يخنق في مهده، وتباد أنصاره.
فالدعوة إلى الإسلام قد بدأت إذا من دائرة التقية، حيث اتفق علماء السيرة،
والمؤرخون، والمفسرون وغيرهم على القول بأن رسول الله (ص) لم يجهر بالدعوة إلى
الإسلام إلا بعد ثلاث سنين من نزول الوحي (1).
ولو كانت التقية غير مشروعة، لكونها مثلا من الكذب والنفاق والخداع، أو أنها
معارضة لعقيدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لما مرت الدعوة إلى هذا الدين
الحنيف بهذا العمر من التستر والكتمان.
وقد مر عن ابن قتيبة (ت / 276 ه‍) في المسائل والأجوبة في مناقشتنا لقول السرخسي في
تقية النبي (ص) في الآية الثانية ما له علاقة بالمقام، فراجع.
وإن دل هذا على شئ إنما يدل على ضرورة ملازمة التقية لكل دعوة إصلاح، حتى لا
يذاع أمرها، وتخنق في مهدها، ومما يشهد على صحة هذا القول هو ما ينادي به
الإسلاميون في الساحة الإسلامية من ضرورة تطبيق أحكام الشرع الإسلامي، ولا شك أن
تحركاتهم تلك لا بد وأن تكون قد مرت

(1) راجع كتب السيرة النبوية مثل: السيرة النبوية / ابن هشام 1: 280، والسيرة
النبوية / ابن كثير 1: 427، والسيرة الحلبية / ابن برهان 1: 283، والسيرة
النبوية / دحلان 1: 282 - مطبوع بهامش السيرة الحلبية.
وكتب التاريخ مثل: تاريخ الطبري 1: 541، والكامل في التاريخ / ابن الأثير 2: 60،
والبداية والنهاية / ابن كثير 3: 37، وكذلك سائر كتب التفسير - لا سيما ما اختص
منها بالأثر - في تفسير قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين) الشعراء 26:
214.
89

بدور التقية والكتمان، إذ لا يعقل ظهورها وبهذا الحجم - الذي أرعب الكثير من
الدوائر الاستعمارية - كان فجأة وبلا استعداد وتنظيم.
13 - أخرج البخاري من طريق عبد الوهاب، عن أبي مليكة قال: إن النبي (ص) أهديت
له أقبية من ديباج مزررة بالذهب، فقسمها في ناس من أصحابه، وعزل منها واحدا
لمخرمة، فلما جاء، قال: خبأت هذا لك.
قال أيوب (أحد رجال اسناد البخاري) بثوبه أنه يريد إياه، وكان في خلقه
شئ (1).
قال محمد بن يوسف الكرماني (ت / 786 ه‍) في شرح صحيح البخاري: أيوب بثوبه: أي:
متلبسا به، حالا عن لفظ خبأت، يعني: قال رسول الله (ص): خبأت هذا الذهب لك،
وكان ملتصقا بالثوب، وإن رسول الله (ص) كان يري مخرمة إزاره، ليطيب قلبه به،
لأنه كان في خلق مخرمة نوع من الشكاسة.
ولفظ: (قال بثوبه) معناه: أشار أيوب إلى ثوبه ليستحضر فعل النبي (ص) للحاضرين،
قائلا: انه يري مخرمة الإزار (2).
أقول: ربما يقال ان الحديث ليس فيه ما يدل على تقية النبي (ص) من مخرمة، لأنه
(ص) لم يظهر لمخرمة إلا الواقع، فأين التقية في هذا الحديث؟
والجواب: إن في هذا الحديث مداراة واضحة، والمداراة تدخل في باب التقية، بل لا
فرق بينهما كما يظهر من كلام السرخسي في حذيفة بن اليمان

(1) صحيح البخاري 8: 38 - كتاب الأدب، باب المداراة مع الناس.
(2) صحيح البخاري بشرح الكرماني / الكرماني 722 / 5756 - كتاب الأدب، باب المداراة
مع الناس.
90

على ما سيأتي في موقف الصحابة من التقية في الفصل الثاني.
14 - وأخرج البخاري أيضا من طريق عبد الله بن مسيلمة، عن عبد الله بن عمر، عن
عائشة قالت: إن رسول الله (ص) قال لها: ألم تري قومك لما بنوا الكعبة اقتصروا
على قواعد إبراهيم؟ فقلت: يا رسول الله ألا تردها على قواعد إبراهيم؟ قال:
لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت (1).
ولقد أعاد البخاري رواية الحديث بصيغ أخرى أيضا.
وأخرج ابن ماجة (ت / 273) من طريق ابن أبي شيبة، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة قالت
: سألت رسول الله (ص) عن الحجر؟ فقال: هو من البيت. قلت: ما منعهم أن يدخلوه
فيه؟ قال: عجزت بهم النفقة. قلت: فما شأن بابه مرتفعا، لا يصعد إليه إلا بسلم
؟ قال: ذلك فعل قومك، ليدخلوه من شاؤوا ويمنعوه من شاؤوا، ولولا أن قومك حديث عهد
بكفر مخافة أن تنفر قلوبهم، لنظرت هل أغيره فادخل فيه ما انتقص منه، وجعلت بابه
بالأرض (2).
وهذا الحديث قد أخرجه البخاري بلفظه من طريق مسدد، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة (3)،
كما أخرجه مسلم (ت / 261 ه‍) في صحيحه من طريقين كلاهما عن الأسود بن يزيد، عن
عائشة (4)، وأخرجه الترمذي (ت / 297 ه‍) كذلك وقال: هذا حديث حسن صحيح (5).

(1) صحيح البخاري 2: 179 - كتاب الحج، باب فضل مكة وبنيانها.
(2) سنن ابن ماجة 2: 985 / 2955، كتاب المناسك - باب الطواف بالحجر.
(3) صحيح البخاري 2: 179 - 180، كتاب الحج - باب فضل مكة وبنيانها، وأعاد روايته
في كتاب الأحكام - باب ما يجوز من اللو في الجزء التاسع: ص 106.
(4) صحيح مسلم 2: 973 / 405 و 406 / كتاب الحج - باب جدر الكعبة وبابها.
(5) صحيح الترمذي 3: 224 / 875 (كتاب الحج - باب ما جاء في كسر الكعبة).
91

وفي لفظ الإمام أحمد بن حنبل (ت / 240 ه‍): لولا أن قومك حديث عهد بشرك أو بجاهلية
لهدمت الكعبة، فألزقتها بالأرض، وجعلت لها بابين: بابا شرقيا، وبابا غربيا،
وزدت فيها من الحجر ستة أذرع، فإن قريشا اقتصرتها حين بنت الكعبة (1).
وقريب من هذا اللفظ ما أخرجه البخاري من طريق عبيد بن إسماعيل، عن هشام، عن أبيه،
عن عائشة، ومن طريق سنان بن عمرو، عن عروة، عن عائشة (2). وبعد... أليس في هذه
الأحاديث دلالة صريحة على أن رسول الله (ص) كان يتقي القوم مخافة أن تنفر
قلوبهم، لحداثة عهدهم بالكفر، وقربه من الشرك والجاهلية؟
ثالثا - دليل الإجماع:
لقد ثبت مما تقدم ان التقية قد شرعها الله تعالى في كتابه الكريم، وتقدمت
أقوال ما يزيد على ثلاثين مفسرا من مفسري المذاهب والفرق الإسلامية في جواز
التقية، زيادة على ما أثبتته أهم كتب الحديث وأصحها عند أهل السنة من جواز
التقية أيضا.
وهذا يعني ان أهم مصادر التشريع في الإسلام قد أثبتت مشروعية التقية، إذ ليس هناك
من مصدر تشريعي أقوى حجة من الكتاب والسنة على الإطلاق.
وأما عن الإجماع، فهو على الرغم من كونه في نظر علماء الشيعة مجرد

(1) مسند أحمد 6: 179، وأخرجه الحاكم في المستدرك 1: 479 - 480 وقال: هذا حديث
صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه هكذا، وأخرجه المتقي الهندي في كنز العمال 12:
222 / 34763 عن مسند أحمد و 12: 222 / 34764 عن مستدرك الحاكم.
(2) صحيح البخاري 2: 180 (كتاب الحج - باب فضل مكة وبنيانها).
92

أداة تكشف عن وجود دليل متين وقويم، كآية من كتاب الله تعالى، أو حديث شريف ينطق
بالحكم المجمع عليه، إلا أنه لا بأس من التعرض إلى دليل الإجماع حول مشروعية
التقية، لا سيما وقد عده علماء أهل السنة دليلا قائما بنفسه تماما كالكتاب
والسنة، بمعنى ان الإجماع معصوم عن الخطأ، بل ويستحيل في حقه الخطأ، ومن يرد
على المجمعين بالاشتباه والغلط، فهو كمن يرد قول الله تعالى وسنة رسوله (ص).
قال عبد العزيز بن أحمد البخاري الحنفي (ت / 730 ه‍) في كشف الأسرار عن أصول
البزدوي: الأصل في الإجماع أن يكون موجبا للحكم قطعا كالكتاب والسنة (1).
وقال الغزالي (ت 505 ه‍) في المنخول: الإجماع حجة كالنص المتواتر (2).
ومن هنا كان التعرض لدليل الإجماع، مع التذكير بأن من يكره على كلام فيقوله، أو
على فعل فيفعله، وفيهما معصية لله، وقلبه غير راض بما قال أو فعل فإن تصرفه هذا
هو ما يسميه القرآن الكريم، والسنة النبوية، وجميع من نطق الشهادتين من أهل
الإسلام، وجميع العقلاء بالتقية، وانه لا شئ عليه، بدليل ما مر ودليل الإجماع
الآتي:
1 - قال أبو بكر الجصاص الحنفي (ت / 370 ه‍): ومن امتنع من المباح كان قاتلا
نفسه متلفا لها عند جميع أهل العلم (3).

(1) كشف الأسرار / البخاري 3: 251 - نقلا عن علم أصول الفقه في ثوبه الجديد /
محمد جواد مغنية: 226.
(2) المنخول / الغزالي: 303 - نقلا عن علم أصول الفقه في ثوبه الجديد: 226.
(3) أحكام القرآن / الجصاص 1: 127.
93

2 - وقال ابن العربي المالكي (ت / 543 ه‍): لما سمح الله تعالى في الكفر به...
عند الإكراه، ولم يؤاخذ به، حمل العلماء عليه فروع الشريعة، وعليه جاء الأثر
المشهور عند الفقهاء: رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه...
فأن معناه صحيح باتفاق من العلماء (1).
3 - وقال عبد الرحمن المقدسي الحنبلي (ت / 624 ه‍): أجمع العلماء على إباحة الأكل
من الميتة للمضطر، وكذلك سائر المحرمات التي لا تزيل العقل (2).
وقد مر في هذا الفصل ان الاضطرار إلى أكل الميتة قد يكون بسبب الجوع أو بسبب
الإكراه من ظالم أو كافر وذلك في الآية الخامسة فراجع.
4 - وقال القرطبي المالكي (ت / 671 ه‍): أجمع أهل العلم على أن من أكره على
الكفر حتى خشي على نفسه القتل أنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان (3).
5 - وقال ابن كثير الشافعي (ت / 774 ه‍) بعد أن نقل قول رسول الله (ص) لعمار حين
أكره على الكفر: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئنا بالإيمان. فقال: إن عادوا فعد.
قال: ولهذا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له أن يوالي إبقاء
لمهجته، ويجوز له أن يأبى (4).

(1) أحكام القرآن / ابن العربي 3: 1179.
(2) العدة في شرح العمدة / عبد الرحمن المقدسي: 464.
(3) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي 10: 180.
(4) تفسير القرآن العظيم / ابن كثير 2: 609.
94

6 - وقال ابن حجر العسقلاني الشافعي (ت / 852 ه‍): قال ابن بطال - تبعا لابن
المنذر -: أجمعوا على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل فكفر وقلبه
مطمئن بالإيمان، أنه لا يحكم عليه بالكفر (1).
7 - وقال الإمام الشوكاني الزيدي (ت / 1250 ه‍): أجمع أهل العلم على أن من أكره
على الكفر حتى خشي على نفسه القتل، أنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان،
ولا تبين منه زوجته، ولا يحكم عليه بحكم الكفر (2).
8 - وقال جمال الدين القاسمي الشامي (ت / 1332 ه‍): ومن هذه الآية: (إلا أن
تتقوا منهم تقاة) استنبط الأئمة مشروعية التقية عند الخوف، وقد نقل الإجماع
على جوازها عند ذلك الإمام مرتضى اليماني (3).
9 - وقال الشيخ المراغي المصري (ت / 1364 ه‍): وقد استنبط العلماء من هذه الآية
(إلا أن تتقوا منهم تقاة) جواز التقية (4)، ولم يذكر مخالفا لهم في ذلك.
10 - وقال عيسى شقرة: وانعقد إجماع العلماء على جواز إظهار الكفر لمن أكره
عليه... إبقاء لنفسه بشرط اطمئنان القلب (5).
11 - وقال الدكتور عبد الكريم زيدان: فإذا أخذ المضطر بالرخصة ونطق

(1) فتح الباري / ابن حجر العسقلاني 12: 264.
(2) فتح القدير / الشوكاني 3: 197.
(3) محاسن التأويل / القاسمي 4: 197.
(4) تفسير المراغي 3: 136.
(5) الإكراه وأثره في التصرفات / عيسى شقرة: 114 - نقلا عن كتاب: التقية في
إطارها الفقهي للأستاذ علي الشملاوي: 131.
95

بالكفر، فلا إثم عليه بإجماع الفقهاء، لأن الآية صريحة بذلك، وجاءت السنة
النبوية وأكدت ما نطقت به الآية الكريمة (1).

(1) مجموعة بحوث فقهية / د. عبد الكريم زيدان: 208 - نقلا عن كتاب الأستاذ
الشملاوي المتقدم: 132.
الفصل الثاني: موقف الصحابة والتابعين وغيرهم من التقية
موقف الصحابة من التقية
موقف التابعين من التقية
موقف تابعي التابعين وغيرهم من التقية
الإشارة إلى من صرح بالتقية إجمالا
96

موقف الصحابة من التقية
ليس من العجب أن يجد الباحث الكثير من الصحابة الذين استعملوا التقية في حياتهم لا
بقيد الإكراه المتلف للنفس، أو الوعيد بانتهاك الأعراض وسلب الأموال فحسب وإنما
لمجرد احتمال الخوف من ذلك، أو احتمال التعرض للإهانة والضرب ولو بسوط واحد أو
سوطين. ولكن العجب أن يدعى بأن التقية من النفاق بعد أن استعملها من قولهم حجة
باتفاق علماء أهل السنة أنفسهم.
نعم، لقد وقفت على الكثير من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن جاء بعدهم إلى يومنا
هذا ممن استعمل التقية وصرح بها علنا، وفيما يأتي جملة من أسماء الصحابة الذين
استعملوا التقية، وسنذكرهم بحسب تاريخ الوفاة، وهم:
1 - ياسر بن عامر الكناني المذحجي أبو عمار (ت / 7 ق. ه‍)، قال الزركلي (ت / 1976 م)
في الأعلام: وفي أيامه بدأت الدعوة إلى الإسلام سرا (1).
2 - سمية بنت خباط، زوج ياسر وأم عمار قتلها أبو جهل في السنة

(1) الأعلام / الزركلي 8: 128.
99

السابعة قبل الهجرة، ومات زوجها في هذه السنة أيضا تحت التعذيب، وهما أول من
استشهد في الإسلام رضي الله عنهما.
وقد مرت تقيتهما في تفسير الآية الثانية، في الفصل الأول.
3 - الصحابي الذي شهد تقية لمسيلمة الكذاب (ت / 12 ه‍) بأنه رسول الله، وقد مر
كلام المفسرين في ذلك كالحسن البصري (ت / 110 ه‍)، والزمخشري (ت / 538 ه‍)، والرازي
(ت / 606 ه‍)، والبيضاوي (ت / 685 ه‍)، وغيرهم، وذلك في الدليل القرآني الثاني على
مشروعية التقية في الإسلام.
4 - معاذ بن جبل (ت / 18 ه‍):
أخرج القاسم بن سلام عن سعيد بن المسيب قال: إن عمر بعث معاذا ساعيا على بني
كلاب، أو على بني سعد بن ذبيان، فقسم فيهم حتى لم يدع شيئا، حتى جاء مجلسه الذي
خرج به على رقيته، فقالت امرأته: أين ما جئت به مما يأتي به العمال من عراضة
أهليهم (1)؟ فقال: كان معي ضاغط، فقالت: قد كنت أمينا عند رسول الله (ص)، وعند
أبي بكر، أفبعث عمر معك ضاغطا؟ فقامت بذلك في نسائها واشتكت عمر، فبلغ ذلك عمر،
فدعا معاذا فقال: أنا بعثت معك ضاغطا؟ فقال: لم أجد شيئا اعتذر به إليها إلا
ذلك. قال: فضحك عمر وأعطاه شيئا وقال: أرضها به (2).
ولا شك أن قول معاذ ليس فيه تقية وإنما جاء على سبيل التورية، لأن للضاغط
معنيين:

(1) العراضة: الهدية، يهديها الرجل إذا قدم من سفر. لسان العرب 9: 145 - عرض.
(2) كتاب الأموال / أبو عبيد القاسم بن سلام: 589 / 1913.
100

أحدهما: الرقيب والأمين يلزم به العامل لئلا يخون فيما يجبي، يقال: أرسله
ضاغطا على فلان، سمي بذلك لتضييقه على العامل (1)، وهذا المعنى هو القريب
المتبادر من كلام معاذ بقرينة السؤال عن العراضة، أي الهدية.
والآخر: هو الحافظ الأمين أي: الله عز وجل، وهذا المعنى البعيد هو المراد بقول
معاذ، ولكنه أوهم زوجته بالأول.
ومما سوغ ذكره هنا - على الرغم من أن التورية غير التقية - هو أن التورية تشترك
مع التقية في التخلص من الضرر عند الإكراه أو الاضطرار، وتقدم على التقية ما
أمكن، كما تشتركان في أنهما عبارة عن إظهار شئ غير مراد أصلا.
وسبب آخر سوغ ذلك هو أن بعض الكتاب حمل ما ورى به الإمام الصادق عليه السلام عن
نفسه - في بعض أحاديث الكافي - على التقية، من ذلك قول الصادق عليه السلام لمن سأله
من الزيدية: أفيكم إمام مفترض الطاعة؟ فقال: لا.. الحديث (2).
فالمقصود: ليس فينا إمام مفترض الطاعة بزعمكم. أو ليس من بني فلان من أولاد علي
عليه السلام مفترض الطاعة، وإلا ففرض طاعتهم قد نص عليها القرآن، والنبي الأكرم،
وأحاديثهم هم عليهم السلام في فرض طاعتهم - لا سيما عن الإمام الصادق - لا تكاد
تحصى كثرة.
وقد ناقشنا هذا الحديث وسائر أحاديث الكافي الأخرى التي توجه لها طعن

(1) لسان العرب / ابن منظور 8: 67 - ضغط.
(2) أصول الكافي 1: 181 / 1 كتاب الحجة، باب ما عند الأئمة عليهم السلام من
سلاح رسول الله (ص) ومتاعه.
101

بعض الكتاب من أهل السنة كما أشرنا إلى ذلك في مقدمة هذا البحث.
وبالجملة فإن التورية تسبق التقية عادة، بل أوجبها - عند تمكن المضطر منها -
أكثر المفسرين من أهل السنة تخلصا من التقية.
5 - عمر بن الخطاب (ت / 23 ه‍):
حدث البخاري أن عمر بن الخطاب يوم أسلم، أو يوم أراد أن يدخل الإسلام كان خائفا
مذعورا من المشركين، واضطر إلى ملازمة داره خوفا من أن يخرج فيقتل وبقي على هذا
الحال حتى أنقذه العاص بن وائل، وكان حليفا لهم في الجاهلية.
وإليك نص ما قاله عبد الله بن عمر بن الخطاب في إسلام أبيه، كما في رواية البخاري
من طريق يحيى بن سليمان في باب إسلام عمر بن الخطاب.
قال: بينما هو في الدار خائفا إذ جاءه العاص بن وائل السهمي أبو عمرو عليه
حلة حبرة، وقميص مكفوف بحرير، وهو من بني سهم، وهم حلفاؤنا في الجاهلية،
فقال له: ما بالك؟ قال: زعم قومك أنهم سيقتلونني إن أسلمت. قال: لا سبيل إليك.
بعد أن قالها أمنت. فخرج العاص، فلقي الناس قد سال بهم الوادي، فقال: أين تريدون
؟ فقالوا: نريد هذا ابن الخطاب الذي صبا. قال: لا سبيل إليه. فكر الناس (1).
أقول: إن عبارة: (بعد أن قالها أمنت) هي من قول عمر، أي: بعد ما قال

(1) صحيح البخاري 5: 60، باب إسلام عمر بن الخطاب.
102

العاص: (لا سبيل إليك) أمنت، وليس هي من قول ابنه كما نص عليه ابن حجر (ت /
852 ه‍) في فتح الباري، ثم قال: وفي رواية الإسماعيلي: فقلت لعمر: من الذي
ردهم عنك يوم أسلمت؟ قال: يا بني ذاك العاص بن وائل (1).
وهذا الحديث المروي في الصحيح صريح جدا بخوف عمر يوم أسلم من المشركين وتقيته
منهم حيث لزم داره.
وهذا يعني أن عمر بن الخطاب قد بدأ عهده بالاسلام مع التقية.
6 - تقية رجل قرشي من عمر بن الخطاب:
قال ابن الجوزي الحنبلي (ت / 597 ه‍): إن عمر بن الخطاب استعمل رجلا من قريش على
عمل، فبلغه أنه قال:
أسقني شربة ألذ عليها * واسق بالله مثلها ابن هشام
فأشخصه إليه، وذكر أنه إنما أشخصه من أجل البيت. فضم إليه آخر، فلما قدم، قال
عمر: ألست القائل:
أسقني شربة الذ عليها * واسق بالله مثلها ابن هشام؟
قال: نعم يا أمير المؤمنين.
عسلا باردا بماء سحاب * إنني لا أحب شرب المدام
قال: الله الله، ارجع إلى عملك (2).

(1) فتح الباري 7: 141، باب إسلام عمر بن الخطاب.
(2) كتاب الأذكياء / ابن الجوزي: 130، وفيه الشئ الكثير من ذلك، فراجعه.
103

7 - تقية امرأة من عمر بن الخطاب:
روى عبد الله بن بريدة قال: بينا عمر يعس ذات ليلة، انتهى إلى باب متجانف وامرأة
تغني نسوة:
هل من سبيل إلى خمر فأشربها * أم هل سبيل إلى نصر بن حجاج
ثم ذكر ما كان من عمر وكيف أنه دعا نصرا فوجده من أحسن الناس وجها وعينا
وشعرا، فأمر عمر بشعره فجز، ونفاه إلى البصرة بسبب شعر هذه المرأة به. ثم قال:
وخافت المرأة التي سمع عمر منها ما سمع أن يبدر إليها شئ فدست إليه أبياتا:
قل للأمير الذي تخشى بوادره * ما لي وللخمر أو نصر بن حجاج
إني بليت أبا حفص بغيرهما * شرب الحليب وطرف فاتر ساج
لا تجعل الظن حقا أو تبينه * إن السبيل سبيل الخائف الراجي
ما منية قلتها عرضا بضائرة * والناس من هالك قدما ومن ناج
إن الهوى رعية التقوى تقيده * حتى أقر بألجام وأسراج
قال: فبكى عمر وقال: الحمد لله الذي قيد الهوى بالتقوى (1).
8 - سراقة بن مالك بن جشعم (ت / 24 ه‍) وسراقة من الصحابة أسلم بعد الطائف في السنة
الثامنة من الهجرة، وقد اتقى قومه كما هو مفصل في قصة هجرة النبي (ص) من مكة
إلى المدينة. فقد ذكر ابن سعد (ت / 230 ه‍) في

(1) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد المعتزلي 12: 270 - تحت عنوان: نكت من كلام
عمر وسيرته وأخلاقه.
104

الطبقات الكبرى أن قريشا قد تتبعت أثر النبي (ص)، وكان معهم سراقة بن مالك بن
جشعم القرشي، وهو خير من يعرف تتبع الأثر، وأنه - بفضل ذلك - أدرك النبي وصاحبه
أبا بكر، وكيف أن قوائم فرسه قد ساخت في الأرض، وأنه طلب من النبي (ص) أن يدعو
الله أن يطلق فرسه، وأنه في مقابل ذلك يرجع عنه ويرد من وراءه، ففعل النبي (ص)،
فأطلق فرسه ورجع من حيث أتى فوجد الناس يلتمسون رسول الله (ص)، فقال لهم:
ارجعوا فقد استبرأت لكم ما ها هنا وقد عرفتم بصري في الأثر، فرجعوا عنه (1).
9 - عبد الله بن مسعود (ت / 32 ه‍):
أخرج ابن حزم الظاهري (ت / 456 ه‍)، عن الحارث بن سويد قال: سمعت عبد الله بن
مسعود يقول: ما من ذي سلطان يريد أن يكلفني كلاما يدرأ عني سوطا أو سوطين إلا
كنت متكلما به.
قال ابن حزم معقبا: ولا يعرف له من الصحابة رضي الله عنهم مخالف (2).
وهذا القول صريح باتفاق الصحابة على جواز التقية، ولو باحتمال الخوف من سوط واحد من
سياط السلطان الجائر.
ولم يقتصر أمر التقية عند ابن مسعود على الكلام فقط، بل تعداه إلى أهم الأفعال
العبادية، حيث كان يتقي من الوليد بن عقبة بن أبي معيط والي عثمان على المدينة،
فيصلي خلفه على الرغم من أن الوليد هذا كان يأتي إلى مسجد

(1) حياة الصحابة / محمد يوسف الكاندهلوي 4: 327.
(2) المحلى / ابن حزم 8: 336 - مسألة: 1409.
105

رسول الله (ص) ثملا ويؤم الصحابة في الصلاة!!
حتى أنه صلى بهم الصبح مرة أربعا ثم قال: أزيدكم؟ فقال له ابن مسعود: ما
زلنا معك منذ اليوم في زيادة (1).
وفي هذا دليل على تقية ابن مسعود ومن كان معه في الصلاة خلف هذا الوالي الفاسق،
الذي جلد على شرب الخمر في عهد عثمان (ت / 35 ه‍) (2).
10 - أبو الدرداء (ت / 32 ه‍):
روى البخاري في صحيحه عن أبي الدرداء أنه كان يقول: إنا لنكشر في وجوه أقوام،
وإن قلوبنا لتلعنهم (3).
11 - عبد الله بن حذافة (ت / نحو 33 ه‍):
ابن قيس السهمي القرشي أحد الصحابة وهو الذي بعثه النبي (ص) إلى كسرى، وكان قد أسر
في أيام عمر من قبل الروم، وقد أكرهه ملك الروم على أن يقبل رأسه ففعل تقية، ولما
عاد إلى المدينة قبل عمر بن الخطاب رأس ابن حذافة، لأنه خلص بتقيته عددا من
المسلمين الذين أسرهم الروم (4).
12 - المقداد بن الأسود (ت / 33 ه‍):
مرت الإشارة إلى تقيته في الدليل الثاني عشر من أدلة السنة النبوية على

(1) شرح العقيدة الطحاوية / القاضي الدمشقي 2: 532.
(2) انظر قصة جلده في صحيح مسلم 3: 1331 / 1707 - كتاب الحدود، باب الخمر،
والإصابة / ابن حجر 2: 601، وأسد الغابة / ابن الأثير 5: 451 - 453.
(3) صحيح البخاري 8: 37 - كتاب الأدب، باب المداراة مع الناس.
(4) تاريخ الإسلام / الذهبي 2: 87.
106

مشروعية التقية، وذلك فيما رواه ابن ماجة في سننه، حيث عد تقية المقداد من فضائله،
إذ ذكرها في باب فضل سلمان وأبي ذر والمقداد (1)، ولو كانت التقية غير جائزة في
الإسلام، لكان ينبغي أن يعدها من معايبه لا من فضائله.
13 - حذيفة بن اليمان (ت / 36 ه‍):
قال السرخسي الحنفي (ت / 490 ه‍) في المبسوط: وقد كان حذيفة رضي الله عنه ممن
يستعمل التقية على ما روي أنه يداري رجلا، فقيل له: إنك منافق!!
فقال: لا، ولكني أشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كله (2).
ولعل حذيفة رضي الله عنه يريد بهذا الكلام: أن ترك التقية ليس مطلقا في كل
الحال، وإن عدم مداراة الناس يؤدي إلى نفرتهم، وعزلته عنهم، وربما نتج من ترك
التقية وعدم المداراة ما يؤدي إلى ضرر أكيد، فيكون من باب إلقاء النفس إلى التهلكة
التي هي من الإثم الذي يذهب الدين كله، ومن هنا يتضح عدم الفرق بين التقية
والمداراة في مجال دفع الضرر، وإن اختلفت المداراة عن التقية بجلب المنفعة، زيادة
على دفع الضرر، والمداراة مشروعة عند سائر المسلمين كما يظهر من أبوابها في كتب
الحديث وما أخرجه المحدثون - كالبخاري وغيره - في تلك الأبواب من الأحاديث الكثيرة
التي تحث عليها، وتجعلها من صفات العاقل الحكيم، وكيف لا؟ وقد مر ما يثبت مداراة
نبينا الكريم (ص) لمن كان في طبعه نوع من الشكاسة.

(1) سنن ابن ماجة 1: 53 / 150.
(2) المبسوط / السرخسي 24: 46.
107

14 - خباب بن الأرت (ت / 37 ه‍):
وهو من جملة الصحابة الذين عذبوا بمكة من قبل المشركين على أن يكفروا بالله،
ويرجعوا إلى عبادة الأوثان، وقد وافاهم على ما أرادوا تقية فيما نص عليه جميع
المفسرين وقد تقدم ذلك، ولا حاجة لإعادته.
15 - عمار بن ياسر (ت / 37 ه‍):
أما تقية عمار فهي نار على علم، والإطالة فيها إطالة في الواضحات، وليس بدعا على
المسلم أن يتأسى بعمار عند الإكراه، وقد علم الجميع أن عمارا ممن ملئ إيمانا
من فرقه إلى قدمه.
16 - صهيب بن سنان بن مالك (ت / 38 ه‍):
وهذا الصحابي المعروف بصهيب الرومي هو من جملة الصحابة الذين عذبوا بمكة على أن
يكفروا بالله، وقد وافاهم على ما أرادوا تقية على نفسه، وقد مر ذكره أيضا مع
عمار وأصحابه رضي الله عنهم.
17 - جبر مولى الحضرمي:
وهذا من الصحابة الذين أكرهوا على الكفر، فكفروا تقية، ذكره الرازي الشافعي (ت /
606 ه‍) وأغلب المفسرين أيضا، في بيانهم لتقية عمار بن ياسر وأصحابه يوم أكرهوا
عليها من قبل المشركين.
قال الرازي - بعد ذكر ما جرى لعمار -: ومنهم: جبر مولى الحضرمي أكرهه سيده
فكفر، ثم أسلم مولاه، وحسن إسلامهما وهاجرا (1).

(1) التفسير الكبير / الرازي: 20: 121.
108

ولا شك أن هذا الصحابي قد بقي على تقيته طيلة مدة كفر سيده، ولعلها أطول تقية
على الكفر في العهد العصيب.
18 - تقية جمع من الصحابة وغيرهم سنة / 41 ه‍:
قال الطبري (ت / 310 ه‍) في حوادث سنة 41 ه‍: حدثني عمر، قال: حدثنا علي بن محمد،
قال: خطب بسر على منبر البصرة، فشتم عليا عليه السلام، ثم قال: نشدت الله
رجلا علم إني صادق إلا صدقني أو كاذب إلا كذبني.
قال: فقال أبو بكرة: اللهم لا نعلمك إلا كاذبا.
قال: فأمر به فخنق، قال: فقام أبو لؤلؤة الضبي، فرمى بنفسه عليه، فمنعه، فأقطعه
أبو بكرة بعد ذلك مائة جريب.
قال: وقيل لأبي بكرة: ما أردت إلى ما صنعت؟
قال: أيناشدنا بالله ثم لا نصدقه؟ (1).
ولا يمكن تصور أن أهل البصرة ليس فيهم من الصحابة في ذلك الحين غير أبي بكرة
الثقفي نفيع بن الحارث (ت / 86 ه‍) بالبصرة، إذ لا بد وأن يكون الكثير منهم قد سمع
مقالة بسر بن أرطاة (ت / 52 ه‍) واتقى من بطشه وظلمه، فضلا عمن سمع ذلك واتقاه
من البصريين ممن ليست لهم صحبة.
ويصدق هذا النوع من التقية الجماعية، على جميع ما سمعه المسلمون على امتداد التاريخ
من خطب الحكام والامراء الظالمين التي ملئت منكرا، ولم يقف بوجههم أحد وقفة
الصحابي أبي بكرة الذي كان قد اعتزل القتال في

(1) تاريخ الطبري 5: 167 - في حوادث سنة / 41 ه‍.
109

موقعتي الجمل وصفين، ولم ينصر عليا عليه السلام، إلا أنه أبى إلا أن يقول الصدق
بوجه بسر بن أرطاة.
ولعل من هذه التقية ما تقوم به دور الصحافة والاعلام في بعض الدول الإسلامية من
كيل المدح والثناء على الخطب والكلمات الذليلة التي تستجدي الصلح من إسرائيل، مع ما
اقترفه اليهود من جرائم يندى لها جبين البشرية خجلا، فإن لم يكن ذلك من التقية،
فهو من النفاق الذي لا شبهة فيه، وشتان ما بين التقية والنفاق.
19 - أبو موسى الأشعري (ت / 44 ه‍):
روى القرافي المالكي (ت / 648 ه‍) عن أبي موسى الأشعري أنه كان يقول: إنا لنكشر
في وجوه أقوام، وإن قلوبنا لتلعنهم ثم علق عليه بقوله: يريد: الظلمة
والفسقة الذين يتقي شرهم، ويتبسم في وجوههم (1).
أقول: هذا من قول أبي الدرداء أيضا، كما تقدم برقم / 10 عن صحيح البخاري، فراجع.
20 - مداراة معاوية للنابغة الجعدي (ت / 50 ه‍):
النابغة الجعدي هو حبان بن قيس المضري الشاعر المعمر، كان في الجاهلية ممن أنكر
الخمر وهجر الأزلام، واجتنب الأوثان، وكان على دين إبراهيم الخليل عليه السلام،
ولما بعث نبينا (ص)، وفد عليه وأنشده قصيدته الرائية الخالدة التي جاء فيها:
ولا خير في حلم إذا لم تكن له * بوادر تحمي صفوه أن يكدرا

(1) الفروق / القرافي 4: 236 - الفرق الرابع والستون والمائتان.
110

فقال (ص): لا يفضض الله فاك.
وكان النابغة محبا لآل البيت عليهم السلام، وقد شهد مع علي عليه السلام صفين،
وله في ذلك أبيات معروفة يصف فيها أمير المؤمنين عليا عليه السلام بأنه السائق
إلى نهج الهدى، ويعرض بمعاوية وبمن جارا عليا عليه السلام ولم يدركه من الأوائل.
ولما آل الأمر إلى معاوية، كتب إلى مروان في شأن النابغة، فأخذ مروان أهل النابغة
وماله، فدخل النابغة على معاوية وكان عنده عبد الله بن عامر، ومروان، فأنشده:
من راكب يأتي ابن هند بحاجتي * على النأي، والأنباء تنمى وتجلب
ويخبر عني ما أقول ابن عامر * ونعم الفتى يأوي إليه المعصب
فإن تأخذوا أهلي ومالي بظنة * فإني لحراب الرجال مجرب
صبور على ما يكره المرء كله * سوى الظلم إني إن ظلمت سأغضب
فما كان من معاوية إلا أن التفت إلى مروان فقال: ما ترى؟ قال: أرى ألا ترد عليه
شيئا. فقال: ما أهون عليك أن ينجحر هذا في غار ثم يقطع عرضي ثم تأخذه العرب
فترويه، أما والله إن كنت لمن يرويه. أردد عليه كل شئ أخذته منه (1).
هذا هو حال معاوية وهو الملك المطاع والرئيس لا المرؤوس مع واحد من رعيته، فكيف
يكون إذن حال المغلوب على أمره ممن هو أقوى وأقدر منه؟
21 - ثوبان مولى النبي (ص) (ت / 54 ه‍):
لقد عرف عن ثوبان إباحته الكذب في المواطن التي لا ينفع فيها الصدق،

(1) الأغاني / أبو الفرج الأصبهاني 5: 8 و 30 - 32.
111

فقد نقل الغزالي (ت / 505 ه‍) عنه قوله: الكذب إثم إلا ما نفع به مسلما، أو دفع
عنه ضررا (1).
وإذا الكذب وهو أمقت الأشياء وأرذلها، يباح لنفع المسلم، أو دفع الضرر عنه عند
الصحابي ثوبان، فما ظنك برأيه في التقية التي خرجت عن حكم الافتراء بنص القرآن
الكريم. مع أن الغاية من تشريعها هي دفع الضرر.
قال تعالى:
(إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم
الكاذبون * من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن
بالإيمان) (2).
قال تاج الدين الحنفي (ت / 749 ه‍): والمعنى: انما يفتري الكذب من كفر بالله من
بعد إيمانه، واستثنى منه المكره، فلم يدخل تحت حكم الافتراء (3).
22 - أبو هريرة (ت / 59 ه‍):
إن تتبع سيرة هذا الصحابي يكشف عن استعماله التقية على أوسع نطاق خصوصا مع
الأمويين، ولقد كان أبو هريرة يجاهر بالتقية، ويصرح بأنه لولاها لقطع بلعومه.
ففي صحيح البخاري: حدثنا إسماعيل، قال: حدثني أخي، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد
المقبري، عن أبي هريرة قال: حفظت من رسول الله (ص) وعاءين: فأما أحدهما فبثثته،
وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم (4).

(1) إحياء علوم الدين / الغزالي 3: 137.
(2) النحل: 16 / 105 - 106.
(3) الدر اللقيط من البحر المحيط / تاج الدين الحنفي 5: 537 - 538.
(4) صحيح البخاري 1: 41 - كتاب العلم، باب حفظ العلم (آخر أحاديث الباب).
112

أقول: روى البخاري، عن أبي هريرة أيضا انه قال: إن الناس يقولون: أكثر أبو
هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثا، ثم يتلو: (إن الذين
يكتمون ما أنزلنا من البينات) (1) (2).
ترى ما هي البينات التي خشي أبو هريرة من بثها بين الناس؟ فاضطر إلى كتمها تقية،
لكي لا يقطع منه البلعوم.
لقد أجاب ابن حجر العسقلاني الشافعي (ت / 852 ه‍) على هذا السؤال ولكن لم يتم
جوابه، وإن أفصح عما فيه الكفاية، فقال:
وحمل العلماء الوعاء الذي لم يبثه على الأحاديث التي فيها تبيين أسامي امراء
السوء، وأحوالهم، وزمنهم. وقد كان أبو هريرة يكني عن بعضه ولا يصرح به خوفا على
نفسه منهم، كقوله: (أعوذ بالله من رأس الستين، وإمارة الصبيان). يشير إلى خلافة
يزيد بن معاوية، لأنها كانت سنة ستين من الهجرة.
ثم نقل عن ابن المنير قوله: وانما أراد أبو هريرة بقوله: (قطع) أي: قطع أهل
الجور رأسه، إذا سمعوا عيبه لفعلهم، وتضليله لسعيهم (3).
أقول: ليس من البعيد ان تكون بعض الأحاديث التي كتمها أبو هريرة ليست في معايب
الأمويين، وانما في مناقب وفضائل أمير المؤمنين عليه السلام الذي يلعنونه على
منابرهم. فيكون مثله كمثل من يمتدح المفكر الإسلامي الخالد الشهيد محمد باقر الصدر
بمرأى ومسمع من أقدم على اعدامه استهانة بدين

(1) البقرة: 2 / 159.
(2) فتح الباري / ابن حجر العسقلاني 1: 173.
(3) م. ن 1: 175.
113

الإسلام وسائر المسلمين.
وسيأتي ما يدل عليه في بيان تقية الصحابي زيد بن أرقم (ت / 68 ه‍)، وتقية التابعي
الزهري (ت / 124 ه‍) في كتمانهما ما يدل على مكانة علي بن أبي طالب عليه السلام من
رسول الله (ص)، تقية من ظلم الأمويين.
وإذا كان كتمان حديث رسول الله (ص) المؤدي إلى اللعنة كما فهمه أبو هريرة لما في
تتمة ما تلاه من الآية الكريمة جائزا في حال التقية عنده، فلك أن تقدر تقيته فيما
وراء ذلك، إذ لا يسع المقام للاستزادة من تقية راوية الإسلام!
23 - تقية جمع من الصحابة من معاوية بن أبي سفيان (ت / 60 ه‍):
أخرج النسائي (ت / 303 ه‍) في سننه من طريق أحمد بن عثمان بن حكيم الأودي، عن سعيد
بن جبير قال: كنت مع ابن عباس بعرفات، فقال ما لي لا اسمع الناس يلبون؟
قلت: يخافون من معاوية!!
فخرج ابن عباس من فسطاطه، فقال: لبيك اللهم لبيك، لبيك فإنهم تركوا السنة من بغض
علي (1).
وهذا الحديث صريح بأن جميع من حج من الصحابة والتابعين في ذلك الموسم الذي شهده
معاوية قد اتقى من معاوية في ترك التلبية بعرفة إلا ما كان من ابن عباس رضي الله
عنه.
24 - تقية جمع آخر من الصحابة من معاوية بن أبي سفيان:
في كتاب الغدير للعلامة الأميني تحقيق واسع حول طرق الحديث المروي

(1) سنن النسائي 5: 253 - كتاب المناسك، باب التلبية بعرفة.
114

عن عبد الله بن مسعود (ت / 32 ه‍)، وأبي سعيد الخدري (ت / 74 ه‍)، عن رسول الله (ص)
انه قال: إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه.
وفي لفظ: يخطب على منبري فاقتلوه.
وفي آخر: يخطب على منبري فاضربوا عنقه.
وفي لفظ أبي سعيد: فلم نفعل، ولم نفلح.
وفي لفظ الحسن البصري (ت / 110 ه‍): فما فعلوا، وما فلحوا.
وفي لفظ آخر للحسن - كما في رواية البلاذري -: فتركوا أمره، فلم يفلحوا، ولم
ينجحوا.
وقد انتهى العلامة الأميني من تحقيق طرق الحديث برمتها، وفحص عن الرواة الناقلين
لهذا الحديث - من طرق البلاذري - فحصا دقيقا، وأثبت وثاقتهم من كتب الرجال
المعتبرة عند أهل السنة، بما يجعل الباحث يسلم بصحة صدور هذا الحديث عن النبي
(ص) (1).
وبعد ثبوت صحته، فإن دلالته على تقية من شهد من الصحابة معاوية وهو يخطب على منبر
النبي (ص)، أوضح من الشمس في رابعة النهار.
25 - عبد الله بن عمر بن الخطاب (ت / 65 ه‍):
قال البخاري في الجامع الصحيح: حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام، عن معمر، عن
الزهري، عن سالم، عن ابن عمر. قال: وأخبرني ابن طاوس، عن عكرمة بن خالد، عن ابن
عمر قال: دخلت على حفصة ونسواتها

(1) راجع الغدير للعلامة الأميني: 10: 142 - 147.
115

تنطف قلت: قد كان من أمر الناس ما ترين، فلم يجعل لي من الأمر شئ؟ فقالت
إلحق، فإنهم ينتظرونك، وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة. فلم تدعه حتى ذهب.
فلما تفرق الناس، خطب معاوية، قال: من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع لنا
قرنه، ولنحن أحق به منه، ومن أبيه. قال حبيب بن مسلمة فهلا أجبته، قال عبد الله:
فحللت حبوتي، وهممت أن أقول: أحق بهذا الأمر من قاتلك وأباك على الإسلام، فخشيت أن
أقول كلمة تفرق بين الجمع، وتسفك الدم، ويحمل عني غير ذلك، فذكرت ما أعد الله في
الجنان.
قال حبيب: حفظت وعصمت. قال محمود، عن عبد الرزاق: ونوساتها (1)، انتهى
بتمامه.
وبمراجعة شروح صحيح البخاري، نرى أن قوله: (قد كان من أمر الناس ما ترين). أراد به
ما وقع بين علي عليه السلام ومعاوية من القتال في صفين، واجتماع الناس على الحكومة
بينهم.. ثم شاور عبد الله بن عمر أخته حفصة في التوجه إليهم أو عدمه، فأشارت عليه
باللحوق بهم خشية أن ينشأ من غيبته اختلاف يفضي إلى استمرار الفتنة.
ومعنى قوله: (فلم تدعه حتى ذهب، فلما تفرق الناس خطب معاوية) أي: ان حفصة لم تدعه
حتى حضر التحكيم بين أبي موسى الأشعري، وعمرو بن

(1) صحيح البخاري 5: 140 - كتاب بدء الخلق، باب غزوة الخندق. وقوله: (ونسواتها
تنطف) غلط، والصحيح: ونوساتها تنطف، أي ذوائبها تقطر، والمراد من الحبوة: ثوب
يلقى على الظهر ويربط طرفاه على الساقين بعد ضمهما. كذا في عمدة القاري للعيني 17
: 185.
116

العاص كما في قصة التحكيم المعروفة، وكيف ان أبا موسى خلع عليا عليه السلام بخدعة
من ابن العاص الذي أثبت صاحبه في الحكم، ولما انفصل الأمر على هذا خطب معاوية،
وقوله: فليطلع لنا قرنه، تعريض منه بابن عمر وعمر، وقوله: (أحق به منه ومن
أبيه)، أي: أحق بأمر الخلافة من ابن عمر وعمر بن الخطاب!
وقول ابن عمر: (من قاتلك وأباك..) يريد به عليا عليه السلام، إذ كان قد قاتل
معاوية وأباه يومي أحد والخندق، وهما كانا كافرين (1).
على أن قول ابن عمر: فحللت حبوتي، وهممت ان أقول، لا يدل على تقية ابن عمر وحده،
وانما يدل على تقية غيره من الصحابة الذين حضروا خطبة معاوية، إذ ليس من المعقول
ان يخطب معاوية على ابن عمر وحده، كما أن تأييد الصحابي المعروف حبيب بن مسلمة بن
مالك الفهري (ت / 42 ه‍) لعبد الله بن عمر يكشف عن تقية الفهري ومن حضر معهما
أيضا.
ويظهر من سيرة الصحابي ابن عمر أنه كان يتقي من الأمويين وولاتهم كثيرا، فقد أشار
الإمام مسلم (ت / 261 ه‍) إلى مبايعة ابن عمر ليزيد بن معاوية وإنكاره على عبد الله
بن مطيع خروجه على يزيد إبان ما كان من موقعة الحرة (2) المشهورة التي استمر فيها
قتل المؤمنين من المهاجرين والأنصار بسيوف جند أهل الشام، الذين خربوا مدينة
الرسول (ص) وأكثروا فيها الفساد، حيث أباحوا المدينة المنورة ثلاثة أيام بلياليها
مما لا يخفى هذا على سائر الباحثين.
وهذا الموقف من ابن عمر لا يفسر التفسير الصحيح إلا على أساس التقية

(1) راجع شروح صحيح البخاري، مثل عمدة القاري للعيني 17: 185 - 186، وفتح الباري
لابن حجر العسقلاني 7: 223، وإرشاد الساري للقسطلاني 6: 324 - 325.
(2) صحيح مسلم 3: 1478 / 1851 - كتاب الإمارة، باب / 13.
117

في غير موضعها، لأنه سبق وأن امتنع عن البيعة لأمير المؤمنين علي عليه السلام، وليس
من المعقول جدا - ولا يوافقنا عليه أحد من المسلمين - ان يكون يزيد بن معاوية أحق
بالخلافة من علي عليه السلام في نظر ابن عمر، أو أجدر منه عليها. لولا أنه أمن سوط
علي عليه السلام واتقى ببيعته ليزيد خوفا من سيفه الذي يقطر دما.
ومن تقيته أيضا أنه كان يصلي خلف الظالمين ويأتم بهم. فقد أخرج البيهقي (ت /
458 ه‍) من طريق سعيد بن عبد العزيز، عم عمير بن هانئ قال: بعثني عبد الملك بن
مروان بكتب إلى الحجاج فأتيته، وقد نصب على البيت أربعين منجنيقا فرأيت ابن عمر
إذا حضر الصلاة مع الحجاج صلى معه، وإذا حضر ابن الزبير صلى معه فقلت: يا أبا عبد
الرحمن أتصلي مع هؤلاء وهذه أعمالهم؟ فقال: يا أخا أهل الشام، ما أنا لهم بحامد،
ولا نطيع مخلوقا في معصية الخالق (1).
وقال ابن سعد (ت / 230 ه‍) في طبقاته: لا يأتي أمير إلا صلى ابن عمر - خلفه، وأدى
إليه زكاة ماله (2).
وأخرج ابن أبي شيبة (ت / 235 ه‍) من طريق قيس بن يونس، عن عمير بن هانئ قال: شهدت
ابن عمر، والحجاج محاصر ابن الزبير، فكان منزل ابن عمر بينهما، فكان ربما حضر
الصلاة مع هؤلاء، وربما حضر الصلاة مع هؤلاء (3).
وفي شرح العقيدة الطحاوية: وفي صحيح البخاري: ان عبد الله بن عمر

(1) السنن الكبرى / البيهقي 3: 122.
(2) الطبقات الكبرى / ابن سعد 4: 149.
(3) المصنف / ابن أبي شيبة 2: 378.
118

كان يصلي خلف الحجاج بن يوسف الثقفي.. (1).
فصلاة ابن عمر خلف هؤلاء مما لا يمكن انكارها، كما لا يمكن ان تكون بغير تقية. قال
الفقيه الحنبلي ابن قدامة (ت / 620 ه‍): لا تجوز الصلاة خلف المبتدع والفاسق في
غير جمعة وعيد، يصليان بمكان واحد من البلد، فإن من خاف منه إن ترك الصلاة خلفه،
فإنه يصلي خلفه تقية ثم يعيد الصلاة.
وقد ذكر أثرا صحيحا عن النبي (ص) في مقام الاحتجاج به على صحة قوله، وهو ما أخرجه
عن جابر بن عبد الله الأنصاري (ت / 78 ه‍) قال: سمعت النبي (ص) على منبره يقول:
لا تؤمن امرأة رجلا، ولا يؤم أعرابي مهاجرا، ولا يؤم فاجر مؤمنا إلا ان
يقهره بسلطانه أو يخاف سوطه أو سيفه (2).
ومن تقيته أيضا ما أخرجه الهيثمي (ت / 807 ه‍) عن مجاهد بن جبر، عن ابن عمر قال:
سمعت الحجاج يخطب، فذكر كلاما أنكرته، فأردت أن أغير، فذكرت قول رسول الله (ص)
: لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه، قال: قلت: يا رسول الله كيف يذل نفسه، قال:
يتعرض من البلاء لما لا يطيق (3).
أقول: هكذا يجب ان تفهم تقية الصحابي ابن عمر من معاوية ويزيد وولاتهما، لا أن
يلجأ إلى الاحتجاج بما رواه ابن عمر عن رسول الله (ص) انه

(1) شرح العقيدة الطحاوية / القاضي الدمشقي 2: 530.
(2) المغني / ابن قدامة 2: 186، 192، وانظر سنن ابن ماجة 1: 343 (نقلا عن بحث
التقية في آراء علماء المسلمين للشيخ عباس علي براتي ص 82، منشور في مجلة رسالة
الثقلين - العدد الثامن، السنة الثانية / 1414 ه‍، اصدار المجمع العالمي لأهل البيت
عليهم السلام - قم المقدسة).
(3) كشف الأستار عن زوائد مسند البزاز على الكتب الستة / نور الدين الهيثمي 4: 112
/ 3323.
119

قال: من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له (1). فليس هذا للمحتج
في شئ، إذ مع حمل هذا الأثر على الصحة فإنه لا يدل أكثر من مبايعة الظالمين تقية
لا اختيارا، لأن المراد من الطاعة، انما هي طاعة من أمر الله تعالى ورسوله الكريم
بطاعتهم، وليس المراد منها طاعة يزيد ومبايعته، حتى وإن أريد بالخلع المذكور في
هذا الأثر، هو الخلع بعد البيعة حيث كانت قد أخذت بالإكراه كما هو المعروف في أخذ
البيعة ليزيد بن معاوية زمن الحرة، فخلعه إذا لا تبعة فيه، ولا حنث يمين، لان
البيعة كانت تقية بضغط الإكراه، وليس على مكره يمين.
فها هم أهل المدينة أنفسهم قد نقموا على أبي جعفر المنصور (ت / 158 ه‍) ظلمه
وطغيانه، وخلعوا أيديهم من طاعته بعد بيعتهم له، وخرجوا مع محمد النفس الزكية (ت /
145 ه‍) وفيهم كبار التابعين بعد أن أفتاهم مالك بن انس (ت / 179 ه‍) بان بيعتهم له
إنما كانت تقية بضغط الإكراه عليها، وليس على مكره يمين (2).
ولم يقل أحد بالأمس ولا اليوم من فقهاء المسلمين قاطبة: أن أهل المدينة بخلعهم
المنصور ومبايعة النفس الزكية سيلقون الله يوم القيامة لا حجة لهم.
ومن هنا يفهم أن حمل ما رواه ابن عمر عن رسول الله (ص) لا يمكن شرعا وعقلا ان
يحمل - مع القول بصحته - على غير المعنى المتقدم، وإلا فلا يخلو هذا الأثر من اتهام
عظيم لسائر صلحاء هذه الأمة، وأبرارها ممن خلعوا يدا عن طاعة الظالمين، واشتروا
أنفسهم ابتغاء مرضاته تعالى.

(1) صحيح مسلم 6: 20 - 22، باب الأمر بلزوم الجماعة.
(2) تاريخ الطبري 4: 427 - في حوادث سنة / 145 ه‍.
120

26 - زيد بن أرقم (ت / 68 ه‍):
أخرج الإمام أحمد بن حنبل (ت / 240 ه‍) في مسنده، من طريق ابن نمير، عن عطية العوفي
قال: سألت زيد بن أرقم فقلت له: إن ختنا لي حدثني عنك بحديث في شأن علي يوم
غدير خم، فأنا أحب أن أسمعه منك؟
فقال: انكم معشر أهل العراق فيكم ما فيكم، فقلت له ليس عليك مني بأس، فقال نعم،
كنا بالجحفة فخرج رسول الله (ص) إلينا ظهرا وهو آخذ بعضد علي، فقال: أيها الناس
ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم، قالوا: بلى. قال: فمن كنت مولاه
فعلي مولاه. قال: فقلت له: هل قال: (اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه)؟ قال:
إنما أخبرك كما سمعت (1).
ولا شك ان كتمان زيد لقوله (ص): اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه كان تقية من
عطية العوفي، ذلك لأن الاقرار بهذه العبارة يعني فضح أعداء الإمام علي، وانهم ممن
يعاديهم الله، وهم ما أكثرهم في عهد زيد بن أرقم الذي امتد عمره حتى أدرك حكم
مروان بن الحكم، وما يدل على تقيته من عطية العوفي، قوله لعطية: انكم معشر أهل
العراق فيكم ما فيكم، إشارة إلى الفتن الكثيرة التي كانت تموج بها - يوم ذاك - أرض
العراق، كما أن قول عطية له: ليس عليك مني بأس دليل آخر على فهم عطية ان زيدا
يخشاه. ومما يؤكد ذلك أن ما كتمه زيد عن عطية قد رواه زيد عن نفسه كما في كثير من
الطرق الصحيحة المنتهية إليه، وقد حققها العلامة الأميني في كتاب الغدير، وحسبك ان
يكون من روى الحديث كاملا عن زيد بن أرقم - كما في الغدير - الإمام أحمد بن حنبل
في مسنده، والنسائي في خصائصه، والدولابي في

(1) مسند أحمد 4: 368.
121

الكنى والأسماء، والميبدي في شرح ديوان الإمام علي عليه السلام، والذهبي في تلخيص
المستدرك، وفي ميزان الاعتدال، وابن الصباغ في الفصول، وابن طلحة الشافعي في مطالب
السؤول، والهيثمي في مجمع الزوائد من طريق أحمد والطبراني والبزاز، والخوارزمي
الحنفي في المناقب، وابن عبد البر في الاستيعاب، والكنجي الشافعي في كفاية الطالب،
والسيوطي في مجمع الجوامع، وتاريخ الخلفاء والجامع الصغير، وابن حجر في تهذيب
التهذيب، والتبريزي في مشكاة المصابيح، وعشرات غيرهم (1).
ولهذا قال العلامة الأميني معلقا: إن زيدا اتقى ختنه العراقي، وهو يعلم ما في
العراقيين من النفاق والشقاق يوم ذاك، فلم يبد بسره حتى أمن من بوادره فحدثه
بالحديث (2).
27 - عبد الله بن عباس (ت / 68 ه‍):
لقد ورد عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: (إلا أن تتقوا منهم تقاة) انه
قال: ما لهم يهرق دم مسلم ولم يستحل ماله، وعنه أيضا: التقية باللسان ومن حمل
على أمر يتكلم به وهو لله معصية فتكلم مخافة على نفسه، وقلبه مطمئن بالإيمان، فلا
إثم عليه، انما التقية باللسان (3).
وقد أخرج أبو حيان الأندلسي (ت / 754 ه‍) عن ابن عباس انه قال عن التقية: انها
مداراة ظاهرة، أي يكون المؤمن مع الكفار، وبين أظهرهم فيتقيهم

(1) راجع من اخرج الحديث بتمامه عن زيد بن أرقم في كتاب الغدير 1: 30 - 37.
(2) الغدير: 1: 380.
(3) جامع البيان / الطبري 6: 313 وما بعده.
122

بلسانه، ولا مودة لهم في قلبه (1).
وقال أيضا: فأما من أكره فتكلم به لسانه وخالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من
عدوه، فلا حرج عليه، لأن الله سبحانه إنما يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم (2).
ومن تقية ابن عباس رضي الله عنه ما قاله الطحاوي الحنفي (ت / 321 ه‍) واليك عين
لفظه:
قال حدثنا محمد بن عبد الله بن ميمون البغدادي، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، عن
الأوزاعي، عن عطاء قال: قال رجل لابن عباس رضي الله عنه: هل لك في معاوية أوتر
بواحدة (أي: صلى الوتر بركعة واحدة) - وهو يريد أن يعيب معاوية - فقال ابن عباس:
أصاب معاوية.
ثم بين الطحاوي أن المروي عن ابن عباس ما يدل على انكاره صحة صلاة معاوية فقال:
إن أبا غسان مالك بن يحيى الهمداني حدثنا قال: حدثنا عبد الوهاب، عن عطاه قال:
أخبرنا عمران بن حدير، عن عكرمة أنه قال: كنت مع ابن عباس عند معاوية نتحدث حتى
ذهب هزيع من الليل، فقام معاوية فركع ركعة واحدة، فقال ابن عباس: من أين ترى
أخذها الحمار؟
وأخرج من طريق أبي بكره مثله، ثم قال: وقد يجوز أن يكون قول

(1) تفسير البحر المحيط / أبو حيان الأندلسي 2: 423.
(2) جامع البيان / الطبري 14: 122، وانظر الدر المنثور للسيوطي 1: 176، حيث اخرج
ذلك عن ابن جرير الطبري، وابن حاتم من طريق العوفي، عن ابن عباس، كما أخرجه ابن حجر
في فتح الباري 12: 263، عن ابن جرير أيضا.
123

ابن عباس: (أصاب معاوية) على التقية له، أي: أصاب في شئ آخر، لأنه كان في زمنه.
لا يجوز عليه - عندنا - أن يكون ماض لفعل رسول الله (ص)، الذي قد علمه عنه
صوابا (1)، ثم اخرج عن ابن عباس في الوتر انه ثلاث.
قلت: وأحسن من هذا التأويل، ان يكون المفعول تقديره الخطأ لا الحق، فيكون الكلام:
أصاب معاوية الخطأ.
28 - أبو سعيد الخدري (ت / 74 ه‍):
ذكر الأستاذ علي حسين من الباكستان في بحثه عن التقية (2) تقية الصحابي أبي سعيد
الخدري من ولاة الأمويين في تقديمهم الخطبة على الصلاة، مشيرا إلى صحيح البخاري -
كتاب العيدين، باب الخروج إلى الصلاة من غير منبر، وصحيح مسلم كتاب الصلاة، وعمدة
القاري، حديث رقم / 9، وسنن أبي داود - كتاب الصلاة، باب الخطبة يوم العيد، حديث
رقم / 1140، وسنن الترمذي - كتاب الفتن / 31، باب / 26، وسنن ابن ماجة - كتاب الفتن
/ 36، باب / 20.
29 - تقية جمع من الصحابة فيهم جابر الأنصاري (ت / 78 ه‍):
قال اليعقوبي (ت / 284 ه‍) عند الحديث عن خلافة الإمام علي عليه السلام ما نصه:
ووجه معاوية بسر بن أبي أرطاة، وقيل: ابن أرطاة العامري من بني

(1) شرح معاني الآثار / أبو جعفر الطحاوي 1: 389 - باب الوتر.
(2) راجع بحث الأستاذ علي حسين من الباكستان بعنوان: التقية عند أهل السنة نظريا
وتطبيقا منشور في مجلة الثقافة الإسلامية العدد 51 - 52 / 1414 ه‍ - اصدار
المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية الإيرانية بدمشق.
124

عامر بن لؤي في ثلاثة آلاف رجل، فقال له سر حتى تمر بالمدينة فاطرد أهلها، وأخف من
مررت به، وانهب مال كل من أصبت له مالا ممن لم يكن دخل في طاعتنا، وأوهم أهل
المدينة أنك تريد أنفسهم، وأنه لا براءة لهم عندك ولا عذر، وسر حتى تدخل مكة، ولا
تعرض فيها لأحد، وأرهب الناس فيما بين مكة والمدينة، واجعلهم شرادات، ثم امض حتى
تأتي صنعاء، فإن لنا بها شيعة وقد جاءني كتابهم.
فخرج بسر، فجعل لا يمر بحي من أحياء العرب إلا فعل ما أمر معاوية، حتى قدم
المدينة، وعليها أبو أيوب الأنصاري فتنحى عن المدينة، ودخل بسر فصعد المنبر ثم قال
:
يا أهل المدينة مثل السوء لكم: (قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها
رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع
والخوف بما كانوا يصنعون) (1)، ألا وإن الله قد أوقع بكم هذا المثل، وجعلكم
أهله. شاهت الوجوه، ثم ما زال يشتمهم حتى نزل!
قال فانطلق جابر بن عبد الله الأنصاري إلى أم سلمة زوج النبي، فقال: إني خشيت
أن أقتل، وهذه بيعة ضلال؟
قالت: إذا فبايع، فإن التقية حملت أصحاب الكهف على أن كانوا يلبسون الصلب،
ويحضرون الأعياد مع قومهم.
وهدم بسر دورا بالمدينة، ثم مضى حتى أتى مكة، ثم مضى حتى أتى

(1) النحل: 16 / 112.
125

اليمن (1) إلى آخر ما ذكره من جرائم بسر بن أرطاة.
وفي رواية ابن أبي الحديد المعتزلي الحنفي (ت / 656 ه‍) أكثر وضوحا لتقية جميع
الأنصار والمهاجرين من بسر.
قال:.. ودخل بسر المدينة، فخطب الناس وشتمهم وتهددهم يومئذ وتوعدهم، وقال:
شاهت الوجوه! إن الله تعالى يقول: (وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة
مطمئنة يأتيها رزقها) الآية، وقد أوقع الله تعالى ذلك المثل بكم وجعلكم أهله
- إلى أن قال - ثم شتم الأنصار، فقال: يا معشر اليهود وأبناء العبيد: بني زريق،
وبني النجار، وبني سلمة، وبني عبد الأشهل، أما والله لأوقعن بكم وقعة تشفي
غليل صدور المؤمنين.. ودعا الناس إلى بيعة معاوية فبايعوه... وتفقد جابر بن عبد
الله، فقال: ما لي لا أرى جابرا! يا بني سلمة لا أمان لكم عندي، أو تأتوني
بجابر، فعاذ جابر بأم سلمة - رضي الله عنها، فأرسلت إلى بسر بن أرطاة، فقال:
لا أؤمنه حتى يبايع، فقالت له أم سلمة: اذهب فبايع، وقالت لابنها عمر: اذهب
فبايع، فذهبا فبايعاه (2).
ثم روى عن وهب بن كيسان كيف ان جابرا توارى من بسر، وكيف عاد إليه فبايعه وفيه انه
قال: فلما أمسيت دخلت على أم سلمة فأخبرتها الخبر، فقالت: يا بني، انطلق
فبايع، إحقن دمك ودماء قومك، فإني قد أمرت ابن أخي ان يذهب فيبايع، واني لأعلم أنها
بيعة ضلال (3).

(1) تاريخ اليعقوبي 2: 197 - 199.
(2) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 2: 9 - 10.
(3) شرح نهج البلاغة 2: 10، وفي هامشه: في تاريخ الطبري: فقال لها: ماذا ترين
؟ إني خشيت أن اقتل، وهذه بيعة ضلالة، فقالت: أرى أن تبايع، فإني قد أمرت ابني
عمر بن أبي سلمة أن يبايع، وأمرت ختني عبد الله بن زمعة....
126

وهكذا كان جابر رضي الله عنه، يرى أن لا جناح عليه في طاعة الظالم إذا أكرهه على
التقية، قال السرخسي الحنفي (ت / 92 ه‍): وعن جابر رضي الله عنه، قال: لا جناح
علي في طاعة الظالم إذا أكرهني عليها - أي: التقية - (1).
30 - القاضي شريح (ت / 78 ه‍):
عندما أدخل هانئ بن عروة رحمه الله على عبيد الله بن زياد والي الكوفة سنة 60 ه‍
طالبه بمسلم بن عقيل بن أبي طالب عليه السلام، وكان في داره ثم انتهى الامر إلى أن
هشم ابن زياد وجه هانئ رحمه الله بعمود من حديد وأودعه السجن، قال المؤرخ لوط بن
يحيى: وبلغ عمرو بن الحجاج أن هانئا قد قتل، فأقبل في مذحج حتى أحاط بالقصر،
ومعه جمع عظيم، ثم نادى: أنا عمرو بن الحجاج، هذه فرسان مذحج ووجوهها لم تخلع طاعة
ولم تفارق جماعة، وقد بلغهم أن صاحبهم يقتل، فأعظموا ذلك.
فقيل لعبيد الله: هذه مذحج بالباب، فقال لشريح القاضي: ادخل على صاحبهم فانظر
إليه، ثم اخرج فاعلمهم أنه حي لم يقتل، وأنك قد رأيته.
فدخل إليه شريح فنظر إليه.
وقد حدث شريح إسماعيل بن طلحة عن تقيته في ذلك اليوم فقال: دخلت على هانئ فلما
رآني، قال: يا الله يا للمسلمين أهلكت عشيرتي؟ فأين أهل الدين؟ وأين أهل
المصر؟ تفاقدوا يخلوني وعدوهم وابن عدوهم!!
والدماء تسيل على لحيته، إذ سمع الرجة على باب القصر، وخرجت،

(1) المبسوط / السرخسي 24: 47.
127

وأتبعني، فقال: يا شريح! إني لأظنها أصوات مذحج وشيعتي من المسلمين، إن دخل علي
عشرة نفر أنقذوني.
قال: فخرجت إليهم، ومعي حميد بن بكر الأحمري، أرسله معي ابن زياد - وكان من شرطه
ممن يقوم على رأسه - وأيم الله لولا مكانه معي لكنت أبلغت أصحابه ما أمرني به.
فلما خرجت إليهم، قلت: إن الأمير لما بلغه مكانكم ومقالتكم في صاحبكم، أمرني
بالدخول إليه، فأتيته، فنظرت إليه، فأمرني أن ألقاكم وأن أعلمكم إنه حي، وإن الذي
بلغكم في قتله كان باطلا (1).
31 - تقية أنس بن مالك (ت / 93 ه‍):
قال القاضي الدمشقي (ت / 772 ه‍): وفي صحيح البخاري: إن عبد الله بن عمر كان
يصلي خلف الحجاج بن يوسف الثقفي، وكذلك أنس بن مالك، وكان الحجاج فاسقا
ظالما (2).
وقد مر في تقية عبد الله بن عمر قول النبي (ص): ولا يؤم فاجر مؤمنا إلا أن
يقهره بسلطان أو يخاف سوطه أو سيفه.
أقول: المعروف عن صلاة الأمويين انهم كانوا يسقطون منها البسملة عند قراءتهم سورة
الفاتحة، لما روي في ذلك عن بعض الصحابة - ومنهم أنس بن مالك - أنه صلى خلف رسول
الله (ص)، وخلف أبي بكر، وعمر، وعثمان، فلم يسمع أحدا منهم يبسمل في صلاته.

(1) مقتل الحسين عليه السلام / لوط بن يحيى: 39 - 40.
(2) شرح العقيدة الطحاوية / القاضي الدمشقي 2: 530.
128

وقد أثبت الرازي الشافعي بطلان جميع الوجوه التي احتج بها من ذهب إلى هذا الرأي من
الفقهاء، واحتمل أن يكون خبر الصحابي أنس قد صدر تقية منه لأنه كان يخشى الأمويين،
لا سيما وانه أدرك من ظلمهم ما يزيد على خمسين سنة، ويؤيده ائتمامه بهم، وأنى
للمأموم أن يخالف الإمام فيما يقرأ؟
قال الرازي الشافعي - في المسائل الفقهية المستنبطة من الفاتحة، في الجواب عن خبر
أنس بن مالك أنه ليس البسملة من الفاتحة - ما نصه:
والجواب عن خبر أنس من وجوه:
الأول: قال الشيخ أبو حامد الإسفرائيني: روي عن أنس في هذا الباب ست روايات. أما
الحنفية فقد رووا عنه ثلاث روايات:
إحداها: قوله: صليت خلف رسول الله (ص)، وخلف أبي بكر، وعمر، وعثمان فكانوا
يستفتحون الصلاة ب‍ (الحمد لله رب العالمين).
وثانيتها: قوله: إنهم ما كانوا يذكرون (بسم الله الرحمين الرحيم).
وثالثتها: قوله: لم أسمع أحدا منهم قال: (بسم الله الرحمن الرحيم)، فهذه
الروايات الثلاث تقوي قول الحنفية، وثلاث أخرى تناقض قولهم.
إحداها: ما ذكرنا إن أنسا روى أن معاوية لما ترك (بسم الله الرحمن
الرحيم) في الصلاة، أنكر عليه المهاجرون والأنصار، وقد بينا إن هذا يدل على أن
الجهر بهذه الكلمات كالأمر المتواتر فيما بينهم.
وثانيتها: روى أبو قلابة، عن أنس أن رسول الله (ص)، وأبا بكر، وعمر كانوا يجهرون
ب‍ (بسم الله الرحمن الرحيم).
129

وثالثتها: إنه سئل عن الجهر ب‍ (بسم الله الرحمن الرحيم)، والإسرار به؟
فقال: لا أدري هذه المسألة!
فثبت أن الرواية عن أنس في هذه المسألة قد عظم فيها الخبط والاضطراب، فبقيت
متعارضة، فوجب الرجوع إلى سائر الدلائل. وأيضا ففيها تهمة أخرى، وهي: إن عليا
عليه السلام كان يبالغ في الجهر بالتسمية، فلما وصلت الدولة إلى بني أمية بالغوا
في المنع من الجهر (بها) سعيا في إبطال آثار علي عليه السلام.
فلعل أنسا خاف منهم، فلهذا السبب اضطربت أقواله فيه، ونحن وإن شككنا في شئ فإنا
لا نشك أنه مهما وقع التعارض بين قول أنس وابن المغفل، وبين قول علي بن أبي طالب
عليه السلام، الذي بقي عليه طول عمره، فإن الأخذ بقول علي أولى. فهذا جواب قاطع في
المسألة (1)، انتهى الوجه الأول من كلام الرازي حرفا بحرف.
قلت: إن ما احتمله الإمام الرازي من تقية الصحابي أنس في موافقته للأمويين على ترك
البسملة في الصلاة، حقيقة واضحة لا مجرد احتمال، ويدل عليه قوله: لا أدري هذه
المسألة، حين سئل عنها. وهذه هي تقية أخرى منه إزاء السائل. إذ كيف يجهل الجهر من
الإسرار بالبسملة، وهو قد عاش عصر النبي (ص)، وعصر الخلفاء الراشدين، فضلا عن
ملازمته للنبي الأكرم (ص) وخدمته، لولا أنه أوجس خيفة من السائل؟
وبعد.. فلا تعجب إن قلت لك: إن الإمام الرازي قد ختم كتابه المحصل

(1) التفسير الكبير / الرازي 1: 206 - في المسائل الفقهية المستنبطة من الفاتحة.
130

بقول سليمان بن جرير الزيدي - ولم يناقشه - وخلاصته: إن مفهوم التقية في الإسلام
هو من وضع (أئمة الرافضة) (1).

(1) محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والمتكلمين / الرازي: 365، وانظر
: الملل والنحل للشهرستاني 1: 159 - 160.
131

موقف التابعين من التقية
التابع لغة، هو التالي، وقد اختلفوا في حده كثيرا، فمنهم من اشترط الصحبة للصحابي،
ومنهم لم يشترط واكتفى باللقاء، واشترط بعضهم طول الملازمة، وآخر صفة السماع، وثالث
التمييز، ومنهم من قيد التابع بإحسان.
والمهم هنا ان عصر التابعين قد انتهى بموت آخر التابعين خلف بن خليفة - على ما قيل
- في سنة ثمانين ومائة، وقيل سنة إحدى وثمانين ومائة، ولهذا سنتابع موقف رجالات هذا
العصر من التقية ابتداء من سنة (50 ه‍) وانتهاء بسنة (179 ه‍) وقد يكون من بينهم من
لم ير صحابيا، ولكنه أدرك عصرهم الذي انتهى على رأس المائة الأولى من الهجرة
تقريبا. مراعيا بذلك ما وصل إليه تسلسل الموقف المتقدم، مع ملاحظة السبق الزمني
لمواقف التابعين من التقية، وعلى النحو الآتي:
32 - تقية بني ضبة سنة (50 ه‍):
روى الطبري في تاريخه في حوادث سنة خمسين من الهجرة الشريفة
133

مطاردة زياد بن أبيه (ت / 53 ه‍) للفرزدق الشاعر العربي المشهور (ت / 110 ه‍)، وفي
هذه السنة هام الفرزدق على وجهه في البراري مختفيا خائفا من أن يدركه الطلب، لا
سيما وقد أباح زياد دمه، إلى أن وصل الفرزدق إلى أخواله من بني ضبة، ثم أدركه
الطلب وهو فيهم، فأخفوه، وأنكروا - بعد أن سئلوا عنه - أن يكون لهم علم به، وقالوا
: ما رأيناه (1).
ولم ينكر عليهم أحد - على طول التاريخ - بأنهم كذبوا وقالوا خلاف الواقع، بل على
العكس كان قولهم هذا مما يستحسنه العقلاء في كل آن وزمان، وهو مما وجب عليهم شرعا،
وإلا لكانوا من الآثمين اتفاقا، وهكذا كان للتقية فضلها في عصمة دم الفرزدق.
33 - صعصعة بن صوحان (ت / 56 ه‍):
من كبار التابعين، شهد صفين مع علي عليه السلام، وكان يوصي بالتقية، فقد قال
لأسامة بن زيد الصحابي المعروف (ت / 54 ه‍): خالص المؤمن وخالق الكافر، إن
الكافر يرضى منك بالخلق الحسن (2).
وهذا القول يؤكد صحة ما مر سابقا، من أن التقية لا تكون خوفا من المؤمن
اطلاقا، لأن المؤمنين إخوة، والمؤمن مرآة المؤمن، وإنما تكون من الكافر، بل ومن
المسلم الذي تخشى بوادره ولا يطمأن إلى جانبه.
34 - مسروق بن الأجدع (ت / 64 ه‍):
روي أن معاوية بن أبي سفيان (ت / 60 ه‍) كان قد بعث بتماثيل من صفر

(1) تاريخ الطبري 3: 213 - في حوادث سنة 50 ه‍.
(2) البحر المحيط / أبو حيان 2: 423.
134

لكي تباع بأرض الهند، فمر بها على مسروق بن الأجدع، فقال: والله لو أني أعلم
انه يقتلني لغرقتها، ولكني أخاف أن يعذبني فيفتنني، والله، لا أدري أي الرجلين
معاوية: رجل قد زين له سوء عمله، أو رجل يئس من الآخرة، فهو يتمتع في
الدنيا (1).
وهذا الكلام ما أصرحه في جواز التقية عند الخوف من الحاكم الظالم، ولو من غير
القتل، وفيه إيماءة إلى أن التعذيب بالضرب والإهانة وما شابه ذلك هو أشد وقعا على
نفوس العلماء وأهل الفضل من القتل بالسيف ونحوه، على أن مسروقا كان يرى: إن
المكره على التقية إذا أباها حتى مات، دخل النار، وقد تقدم هذا في قول أبي حيان (2).
35 - نجدة بن عويمر الخارجي (ت / 69 ه‍):
حكى الشهرستاني (ت / 548 ه‍) في ملله (3) اختلاف نجدة بن عويمر، رأس فرقة النجدات من
الخوارج مع نافع بن الأزرق (ت / 65 ه‍)، رأس فرقة الأزارقة من الخوارج أيضا، في
مشروعية التقية. فقال نافع: التقية لا تحل، وخالفه نجدة بن عويمر الحروري، وقال:
التقية جائزة، واحتج بقوله تعالى: (إلا أن تتقوا منهم تقاة) (4) وبقوله
تعالى: (وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه) (5)، وأثبت لنافع أن
التقية مشروعة من لدن عليم حكيم.

(1) المبسوط / السرخسي 24: 46.
(2) البحر المحيط / أبو حيان الأندلسي 2: 424.
(3) الملل والنحل / الشهرستاني 1: 125.
(4) آل عمران: 3 / 28.
(5) غافر 40 / 28.
135

36 - سعيد بن جبير (ت / 94 ه‍):
قال أبو عبيد القاسم بن سلام (ت / 224 ه‍): حدثنا مروان بن معاوية، عن حسان بن أبي
يحيى الكندي، قال: سألت سعيد بن جبير عن الزكاة؟ فقال: ادفعها إلى ولاة الأمر،
فلما قام سعيد تبعته، فقلت: إنك أمرتني أن أدفعها إلى ولاة الأمر وهم يصنعون بها
كذا، ويصنعون بها كذا؟ فقال: ضعها حيث أمرك الله، سألتني على رؤوس الناس فلم
أكن لأخبرك (1).
وبعد فلا أظن أن أحدا يشك في صحة تقية راهب التابعين سعيد بن جبير رضوان الله
تعالى عليه.
37 - سعيد بن المسيب (ت / 94 ه‍):
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام أيضا: حدثنا يزيد، عن همام بن يحيى، عن قتادة قال
: سألت سعيد بن المسيب، إلى من أدفع زكاة مالي؟ فلم يجبني، قال: وسألت الحسن؟
فقال: ادفعها إلى السلطان (2).
أقول: إذا كان رأي الحسن البصري (ت / 110 ه‍) هو هذا فعلا فلا دلالة فيه على
تقيته، ولكن على م يدل سكوت التابعي سعيد بن المسيب؟

(1) كتاب الأموال / أبو عبيد القاسم بن سلام: 567 / 1813، باب دفع الصدقة إلى
الامراء واختلاف العلماء في ذلك. وقد دلني على تقية سعيد بن جبير هذه الأستاذ
الباكستاني علي حسين رستم في بحثه (التقية عند أهل السنة نظريا وتطبيقيا) ص: 120
المنشور في مجلة الثقافة الإسلامية كما ذكرنا في مقدمة هذا البحث، وقد اعتمد الطبعة
الثالثة من كتاب الأموال: 508 / 1811 بتحقيق الهراس، إلا اني اعتمدت الطبعة
الأولى بتحقيق الهراس أيضا.
(2) كتاب الأموال: 565 / 1801.
136

قال الدكتور محمد خليل هراس - في هامشه، معلقا عليه -: يظهر أن سعيدا رحمه
الله كان لا يرى دفع الزكاة إلى ولاة بني أمية، ولهذا سكت.
ومن تقيته أيضا، ما أخرجه الحافظ أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة الزيدي الجارودي
الحافظ (ت / 333 ه‍) في أول كتاب الولاية، عن شيخه إبراهيم بن الوليد بن حماد، عن
يحيى بن يعلى، عن حرب بن صبيح عن ابن أخت حميد الطويل، عن ابن جدعان، عن سعيد بن
المسيب قال: قلت لسعد ابن أبي وقاص: إني أريد أن أسألك عن شئ وإني أتقيك؟
قال: سل عما بدا لك، فإنما أنا عمك، قال: قلت: مقام رسول الله (ص) فيكم يوم
غدير خم؟ قال: نعم، قام فينا بالظهيرة، فأخذ بيد علي بن أبي طالب فقال: من كنت
مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه. وعاد من عاداه، فقال أبو بكر وعمر: أمسيت
يا ابن أبي طالب مولى كل مؤمن ومؤمنة.
قال العلامة الأميني بعد أن أورده - وتقية زيد بن أرقم لهذا الحديث كما مر -: فإن
الظاهر من هذه كلها انه كان بين الناس للحديث معنى لا يأمن معه راويه من أن يصيبه
سوء أولدته العداوة للوصي - صلوات الله عليه - في العراق وفي الشام (1).
38 - تقية الملايين من سيف الحجاج (ت / 95 ه‍):
لا يخفى أن التقية هي الباعث الأول والأخير للمؤمنين - الذين لا يجدون مفرا
عنها - على إطاعتهم للمتسلط الظالم والانقياد إلى أوامره، وهذا مما لا ينبغي الشك
فيه، لأن تصور أي مبرر آخر لتلك الطاعة وذلك الانقياد، لا بد

(1) الغدير / الأميني 1: 380.
137

وأن ترافقه التقية بشكل أو بآخر، وإلا لأصبحا (الطاعة والانقياد) تكريسا لنظرية
وجوب طاعة الحاكم الظالم، تلك النظرية التي أنشأها شيخ الأمويين لأسباب لا تخفى
على كل باحث ذي عقل حر وتفكير سليم.
وما يهمنا هنا هو كشف حقيقة التقية المليونية - إن صح التعبير - في هذا المثال
الذي لم يكن هو الوحيد الكاشف عنها إذا علمنا أن لغة السيف هي أعرق في قاموس
الأمويين من بروز الحجاج بن يوسف الثقفي على مسرح الأحداث السياسية في تاريخهم
الدموي. حيث ولاه عبد الملك بن مروان (ت / 86 ه‍) - بعد أن أخمد ثورة ابن الزبير
وقتله سنة (74 ه‍) - مكة، والمدينة، والطائف ثم أضاف إليها العراق بمصريه (الكوفة
والبصرة)، لا لفقه الحجاج وورعه وتقواه وسابقته، وإنما لكونه سفاكا سفاحا من
الطراز الأول الذي لا يرعى لله إلا ولا ذمة (1).
ولقد كان الحجاج يصرح بقسوته المتناهية على أهالي هذه الأمصار الإسلامية، كما
يظهر في الكثير من خطبه على منابر المسلمين وقد نقل بعضها ابن قتيبة الدينوري (ت /
276 ه‍) في عيون الأخبار، وسنذكر منها ما يقرب صورة التقية (المليونية) إلى
الأبصار.
الخطبة الأولى: قال ابن قتيبة: دخل الحجاج بن يوسف الثقفي إلى البصرة، وهو
متقلد سيفا، ومتنكب قوسا عربية، فعلا المنبر ثم قال:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا * متى أضع العمامة تعرفوني

(1) انظر: مروج الذهب / المسعودي 3: 375 - الباب: 95 ففيه الشئ الكثير من فظائع
الحجاج.
138

إن أمير المؤمنين نكب عيدانه بين يديه فوجدني أمرها عودا وأصلبها مكسرا،
فوجهني إليكم، ألا فوالله لأعصبنكم عصب السلمة، ولألحونكم لحو العود، ولأضربنكم
ضرب غرائب الإبل حتى تستقيم لي قناتكم، وحتى يقول القائل: انج سعد، فقد قتل
سعيد... (1).
الخطبة الثانية: أيها الناس إني أريد الحج، وقد استخلفت عليكم ابني هذا
وأوصيته بخلاف ما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأنصار، إن رسول
الله أوصى أن يقبل من محسنهم، وأن يتجاوز عن مسيئهم، وإني أمرته ألا يقبل من
محسنكم، ولا يتجاوز عن مسيئكم، ألا وأنكم ستقولون بعدي مقالة لا يمنعكم من
إظهارها إلا مخافتي، ستقولون بعدي: لا أحسن الله له الصحابة ألا وإني معجل لكم
الجواب. لا أحسن الله لكم الخلافة (2).
الخطبة الثالثة: سوطي سيفي، فنجاده في عنقي، وقائمه في يدي، وذبابه قلادة لمن
اغتر بي (3).
خطبة أخرى: وله خطبة أخرى ذكر فيها من ألوان التهديد وأصناف الوعيد الشئ
العجيب، مصرحا فيها بأنه لا فرق عنده بين المعافى والسقيم، وبين من يطيعه أو
يعصيه، فالمحسن والمسئ كلاهما سيان (4)، وكأن الله تعالى لم يقل في كتابه الكريم
: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) (5).

(1) عيون الأخبار / ابن قتيبة 2: 265.
(2) م. ن 2: 267.
(3) م. ن 2: 267.
(4) م. ن 2: 267.
(5) الأنعام: 6 / 164.
139

هذه هي كلماته على ملايين المسلمين، فماذا كان جوابهم؟
إنه السكوت المطبق، وكأن لسان حالهم يردد:
للفتى عقل يعيش به * حيث يهدي ساقه قدمه
أو:
ما إن ندمت على سكوتي مرة * ولقد ندمت على الكلام مرارا
اما من تجرأ على الكلام منهم كعبد الله بن الأهتم التميمي فقد وصف الحجاج بن
يوسف بأنه مثل أنبياء الله تعالى!!
قال ابن قتيبة بعد أن أورد له خطبته التي ساوى فيها بين المحسن والمسئ: فقام
إليه عبد الله بن الأهتم التميمي فقال: أيها الأمير أشهد أنك أوتيت الحكمة
وفصل الخطاب، فقال له: كذبت ذاك نبي الله داود (1).
ومما يستنتج من خطب الحجاج أمور هي:
1 - انه كان يشتم الناس من على منبره علنا، ويهددهم ويوعدهم قبل
هذا وقد مر بي منذ زمن بعيد كلام - غاب عني مصدره - خلاصته ان عبد الملك بن
مروان قد أوعز إلى الحجاج بقمع ثورة محمد بن عبد الرحمن بن الأشعث - على ما أظن -
وأن يستعرض أنصارها من العراقيين بعد إخمادها واحدا بعد واحد على أن يقروا على
أنفسهم بأنهم كفروا بعد الإيمان لأنهم خرجوا على عبد الملك ويعلنوا توبتهم بين
يدي الحجاج، ومن أبى يقتله، وقد فعل الحجاج ذلك بهم، وأقروا على أنفسهم بالكفر
بعد الإيمان وطلبوا قبول توبتهم من الحجاج، ولا معنى لهذا غير التقية. ومن طريف ما
أتذكره ان شيخا كبيرا كان من جملة من اتي به ليقر بالكفر بعد الإيمان ويطلب
التوبة، فقال الحجاج - وقد أراد قتله -: لا أظن أن هذه الشيبة قد ارتدت بعد
الإسلام. فقال الشيخ - على الفور -: يا حجاج لا تخدعني عن نفسي، اني كنت مرتدا
وها أنذا أتوب بين يديك، فضحك الحجاج وتركه.

(1) عيون الأخبار / ابن قتيبة 2: 264.
140

صدور الذنب منهم ولا أحد يجيبه منهم، اما من يتجرأ - من المتزلفين - على القول،
فإنه يصف الحجاج بصفات الأنبياء.
2 - ان تلك الخطب لا شك كان يسمعها عدد من الصحابة وكثير من التابعين، ولم ينكروا
عليه شيئا خصوصا فيما ورد فيها مخالفا لشرع الله تعالى وسنة نبيه الكريم صلى
الله عليه وآله وسلم.
3 - ان الحجاج كان يعلم باتقاء أهل مكة والمدينة والطائف والبصرة والكوفة وما
بينهما منه، لا سيما وقد صرح هو بنفسه بهذه الحقيقة فقال: ألا وانكم ستقولون
بعدي مقالة لا يمنعكم من إظهارها إلا مخافتي.
39 مجاهد بن جبر المكي (ت / 103 ه‍):
وهو من كبار التابعين في التفسير باعتراف سائر العلماء من الشيعة وأهل السنة - وقد
امتدحه الشيخ الطوسي (ت / 460 ه‍) في مقدمة التبيان فقال: من المفسرين من حمدت
طرائقه، ومدحت مذاهبه، كابن عباس، والحسن، وقتادة، ومجاهد وغيرهم (1).
وقد نص القرطبي في الآية الأولى في الفصل الأول على أن مجاهدا كان يقرأ: (إلا أن
تتقوا منهم تقية) في موضع (تقاة)، وكيف بمن يقرؤها هكذا لا يرى جواز التقية بعدئذ
؟ وقد مر في بيان دلالة هذه الآية على التقية تفسيره لها مما يشير إلى جواز التقية
عنده فيما دون سفك الدم الحرام، ونهب الأموال (2).

(1) التبيان في تفسير القرآن / الطوسي 1: 6 - من المقدمة.
(2) راجع دلالة الآية الأولى - في الفصل الأول - على التقية، عند القرطبي المالكي،
والطبري.
141

40 - عامر الشعبي (ت / 103 ه‍ أو 104 ه‍):
كان عامر الشعبي من ندماء عبد الملك بن مروان (ت / 86 ه‍) وقد أرسله إلى ملك الروم،
وكان من الطبيعي جدا أن يعمل بالتقية لا سيما في بلاط الأمويين، وقد نقل الشيخ
عباس علي براتي في بحثه: التقية في آراء علماء المسلمين عن القرطبي في الجامع
لأحكام القرآن، أن الشعبي كان يعمل بالتقية وأنه كان ينال ممن لم يراع التقية عند
الإكراه عليها (1).
41 - الضحاك بن مزاحم (ت / 105 ه‍):
اخرج الطبري (ت / 310 ه‍) عن الضحاك انه قال: التقية باللسان ومن حمل على أمر
يتكلم به، وهو لله معصية، فتكلم مخافة على نفسه، وقلبه مطمئن بالإيمان، فلا إثم
عليه، إنما التقية باللسان (2).
وقد مر في الفصل الأول من قال بجواز التقية قولا وفعلا، ولا فرق بينهما أخذا
بظاهر آية التقية، مع النصوص النبوية المثبتة لذلك أيضا.
42 - عكرمة البربري مولى ابن عباس (ت / 105 ه‍):
يظهر من تفسير عكرمة لآية التقية، أنه كان يرى جوازها فيما دون قتل النفس، ونهب
الأموال، فقد اخرج الطبري (ت / 310 ه‍) في تفسير آية التقية وهي من قوله تعالى:
(إلا أن تتقوا منهم تقاة) عن عكرمة انه قال: ما لم يهرق

(1) التقية في آراء علماء المسلمين / الشيخ عباس علي براتي ص 1 بحث منشور في مجلة
رسالة الثقلين، العدد الثامن، السنة / 1414 ه‍، نقله عن الجامع لاحكام القرآن
للقرطبي المالكي 1: 190.
(2) جامع البيان / الطبري 6: 317.
142

دم مسلم، ولم يستحل ماله، وبه قال مجاهد أيضا (1).
43 - الحسن البصري (ت / 110 ه‍):
لقد مر في الفصل الأول ما يؤكد ان الحسن البصري كان يقول: التقية جائزة إلى يوم
القيامة (2)، والحسن البصري خبير بأحوال الصحابة، وهذا الكلام: إما ان يكون قد
سمعه منهم، أو يكون مما استفاده هو من القرآن الكريم.
على أن الأستاذ علي حسين رستم أكد في بحثه (التقية عند أهل السنة نظريا وتطبيقيا)
تقية الحسن البصري في روايته عن علي عليه السلام.
إذ روى حديث علي عليه السلام، ولكنه لم يسنده إليه بل رفعه إلى النبي (ص) تقية من
ظلم الأمويين، مشيرا بذلك إلى مراسيل أبي داود.
وبعد فلا حاجة لمتابعة موقف الحسن من التقية بعد قوله: التقية جائزة إلى يوم
القيامة، ولله در القائل: قطعت جهيزة قول كل خطيب.
44 - رجاء بن حياة (ت / 112 ه‍):
كان رجاء من وعاظ الشام، وكان ملازما لعمر بن عبد العزيز (ت / 101 ه‍)، ومن تقيته
ما حكاه القرطبي (ت / 671 ه‍) قال: وقال إدريس بن يحيى: كان الوليد بن عبد الملك
يأمر جواسيس يتجسسون الخلق ويأتون

(1) جامع البيان / الطبري 6: 316.
(2) صحيح البخاري 9: 25 - كتاب الإكراه، وجامع البيان / الطبري 6: 313، والمبسوط
/ السرخسي 24: 45، والتفسير الكبير / الرازي 9: 14، والجامع لاحكام القرآن /
القرطبي 4: 57.
143

بالأخبار.. فجلس رجل منهم في حلقة رجاء بن حياة فسمع بعضهم يقع في الوليد، فرفع ذلك
إليه.
فقال: يا رجاء أذكر بالسوء في مجلسك ولم تغير؟
فقال: ما كان ذلك يا أمير المؤمنين.
فقال له الوليد: قل الله الذي لا إله إلا هو.
قال: الله الذي لا إله إلا هو.
فأمر الوليد بالجاسوس، فضرب سبعين سوطا. فكان يلقى رجاء فيقول: يا رجاء! بك
يستسقى المطر وسبعين سوطا في ظهري!!
فيقول رجاء: سبعون سوطا في ظهرك، خير لك من أن يقتل رجل مسلم (1).
أقول: أين هذا من عيون المنصور العباسي (ت / 158 ه‍)، فقد ذكر ابن نباتة المصري (ت
/ 768 ه‍) في سرح العيون: ان مالك بن أنس (ت / 179 ه‍) قد جمعه ذات يوم مجلس مع
المنصور، فقال له المنصور: أليست إذا بكت ابنتك من الجوع، تأمر بحجر الرحا
فيتحرك، كيلا يسمع الجيران بكاءها؟
فقال مالك: والله ما علم أحد بهذا إلا الله!
فقال له: أأعلم بهذا، ولا أعلم أحوال رعيتي؟ (2).
وإذا علمت أن أهل المدينة قد خلعوا المنصور وبايعوا غيره، فلك ان تقدر

(1) الجامع لاحكام القرآن / القرطبي 10: 124.
(2) سرح العيون في شرح رسالة ابن خلدون / جمال الدين بن نباتة المصري: 261.
144

كم يمين صدرت منهم، على نحو يمين رجاء.
45 - ميمون بن مهران (ت / 117 ه‍):
نقل الغزالي (ت / 505 ه‍) عن ميمون بن مهران قوله: الكذب في بعض المواطن خير من
الصدق (1).
وفي كتاب الأشراف لابن أبي الدنيا (ت / 281 ه‍): وحدثني أبي، قال: أخبرنا إسماعيل
بن علية، قال: أخبرنا سوار بن عبد الله، قال: ان ميمونا كان جالسا وعنده
رجل من قراء أهل الشام، فقال: إن الكذب في بعض المواطن خير من الصدق، فقال الشامي
: لا، الصدق في كل المواطن خير. فقال ميمون: أرأيت لو رأيت رجلا يسرع وآخر يتبعه
بالسيف، فدخل الدار فانتهى إليك، فقال: أرأيت الرجل؟
ما كنت قائلا؟
قال: كنت أقول: لا!!
قال: فذاك (2).
46 - عطاء بن أبي رباح (ت / 118 ه‍):
ذهب عطاء بن أبي رباح إلى أن يمين المكره غير ثابتة عليه، بمعنى ان الحلف تقية جائز
عند الإكراه، ولا كفارة في ذلك، وقد نسب له هذا القول الإمام الشافعي (ت / 204 ه‍)
في أحكام القرآن (3).

(1) إحياء علوم الدين / الغزالي 3: 137.
(2) الإشراف على مناقب الأشراف / ابن أبي الدنيا: 118 / 216.
(3) احكام القرآن / الإمام الشافعي 2: 114 - 115.
145

47 - قتادة بن دعامة السدوسي (ت / 118 ه‍):
ذكر أبو حيان الأندلسي (ت / 754 ه‍) في تفسيره: إن قتادة قال: إذا كان الكفار
غالبين، أو يكون المؤمنون في قوم كفار فيخافوهم فلهم أن يحالفوهم ويداروهم دفعا
للشر، وقلبهم مطمئن بالإيمان (1).
وقد مر قول الرازي الشافعي: إن الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين
المسلمين والمشركين، حلت التقية محاماة على النفس (2).
48 - شبه أبو عقال:
لم أقف على سنة وفاته، إلا أنه روى عن الصحابي أنس بن مالك (ت / 93 ه‍) كما نص
عليه مترجموه، فهو إذا من طبقة عطاء وقتادة وغيرهما من التابعين.
ومن تقيته، ما حكاه ابن قتيبة الدينوري (ت / 276 ه‍) عن ابنه عقال بن شبه، من أنه
قال: كنت رديف أبي، فلقيه جرير على بغل، فحياه أبي وألطفه. فلما مضى، قلت:
أبعد ما قال لنا ما قال؟
قال: يا بني! أفأوسع جرحي؟ (3).
والظاهر، ان المراد من جرير هو جرير بن عطية الخطفي الشاعر المشهور (ت / 110 ه‍)،
وأنه هجا أبا عقال، فحاول الأخير مداراته لكيلا يعود إلى الهجاء ثانية، فاتقى
لسانه بهذه المداراة.

(1) البحر المحيط / أبو حيان الأندلسي 2: 423.
(2) التفسير الكبير / الرازي 8: 14.
(3) عيون الأخبار / ابن قتيبة 1: 329.
146

49 - الزهري (ت / 124 ه‍):
محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب المعروف بابن شهاب الزهري، كان من كبار الحفاظ
والفقهاء من التابعين، كان يتقي من الأمويين خصوصا في فضائل الإمام علي عليه
السلام، فيما صرح هو بنفسه، فقد روى ابن الأثير (ت / 630 ه‍) في أسد الغابة
بإسناده، عن عبد الله بن العلاء، عن الزهري، عن سعيد بن جناب، عن أبي عنفوانه
المازني، عن جندع (أبو جنيدة بن عمرو بن مازن الأنصاري) قال: سمعت النبي صلى
الله عليه وسلم يقول: (من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار). وسمعته -
وإلا صمتا - يقول وقد انصرف من حجة الوداع، فلما نزل غدير خم قام في الناس
خطيبا، وأخذ بيد علي، وقال: (من كنت مولاه فهذا وليه، اللهم وال من والاه
وعاد من عاداه).
وقال عبد الله بن العلاء: فقلت للزهري: لا تحدث هذا بالشام وأنت تسمع ملء
اذنيك سب علي!!
فقال: والله إن عندي من فضائل علي ما لو تحدثت لقتلت. أخرجه الثلاثة (1)،
انتهى بلفظه.
50 - السدي (ت / 127 ه‍):
أخرج الطبري عنه أنه قال في آية التقية، أنها تعني: إظهار الولاية للكافرين في
دينهم، والبراءة من المؤمنين (2)، وهذا هو أحد مصاديق

(1) أسد الغابة في معرفة الصحابة / ابن الأثير 1: 308 - نقلا عن: الغدير
للعلامة الأميني 1: 23.
(2) راجع كلام الطبري في الآية الأولى، في الفصل الأول.
147

التقية عند الإكراه على كلمة الكفر، لا كل التقية كما مر في الفصل الأول، والمهم
هنا هو ان السدي من القائلين بالتقية في أفظع الأشياء وهو الكفر كغيره من
التابعين. على أن هذا المعنى قد أطبقت على صحته كلمة المفسرين، بشرط أن يكون
القلب مطمئن بالإيمان.
51 - واصل بن عطاء (ت / 131 ه‍):
وهو رأس الاعتزال، وكان مفرط الذكاء، ومن تقيته ما ذكره ابن الجوزي الحنبلي (ت /
597 ه‍) في كتاب الأذكياء، من أنه خرج يريد سفرا في رهط، فاعترضهم جيش من الخوارج،
فقال واصل: لا ينطقن أحد ودعوني معهم، فقصدهم واصل، فلما قربوا بدأ الخوارج
ليوقعوا. فقال: كيف تستحلون هذا وما تدرون من نحن، ولا لأي شئ جئنا؟
فقالوا: نعم، من أنتم؟ قال: قوم من المشركين جئناكم لنسمع كلام الله.
قال: فكفوا عنهم، وبدأ رجل منهم يقرأ القرآن، فلما أمسك، قال واصل: قد سمعت
كلام الله، فأبلغنا مأمننا حتى ننظر فيه وكيف ندخل في الدين. فقال: هذا واجب،
سيروا، قال: فسرنا والخوارج - والله - معنا يحموننا فراسخ، حتى قربنا إلى بلد لا
سلطان لهم عليه، فانصرفوا (1).
52 - سالم بن أبي حفصة البتري (ت / 140 ه‍):
قال الكشي (من علماء الشيعة الإمامية في القرن الرابع الهجري) في ترجمته: وحكي عن
سالم: أنه كان مختفيا من بني أمية بالكوفة، فلما بويع لأبي العباس، خرج من
الكوفة محرما فلم يزل يلبي: لبيك قاصم بني أمية

(1) كتاب الأذكياء / ابن الجوزي: 136.
148

لبيك، حتى أناخ (راحلته) بالبيت (1).
وهذا يعني أنه كان يتقيهم في دولتهم، فلما زالت أفصح عما في قلبه نحوهم، على
أن سالما ليس من الشيعة الإمامية، وإنما من البترية، وقيل: التبرية - بتقديم
التاء المثناة من فوق على الباء الموحدة - والأول أشهر، والبترية - بضم الباء
الموحدة، وقيل كسرها - هم فرقة من فرق الزيدية.
وأما ما ذكرناه عن الصحابة كعمار، وحذيفة وغيرهما ممن عرف بالتشيع، ومن
التابعين سعيد بن جبير وغيره، فلكونهم ممن احتج أهل السنة بأقوالهم، وقد نقلنا
تلكم الأقوال من كتب غير الشيعة الإمامية، مما يصح معه انطباق المعنون على عنوان
: واقع التقية عند المذاهب والفرق الإسلامية من غير الشيعة الإمامية.
53 - عمرو بن عبيد المعتزلي (ت / 144 ه‍):
ذكر الخطيب البغدادي (ت / 463 ه‍) في تاريخه: ان المنصور العباسي (ت / 158 ه‍) قال
لعمرو بن عبيد: بلغني أن محمد بن عبد الله بن الحسن كتب إليك كتابا؟
قال عمرو: قد جاءني كتاب يشبه أن يكون كتابه.
قال: فيم أجبته؟
قال: أو ليس قد عرفت رأيي في السيف أيام كنت تختلف إلينا، أني لا أراه؟

(1) رجال الكشي: 236 ذيل الحديث: 428، وانظر تهذيب التهذيب لابن حجر 3: 374 /
800 فقد ذكر في ترجمته ما يدل على تقيته على نحو ما مر في رجال الكشي.
149

قال المنصور: أجل، ولكن تحلف لي ليطمئن قلبي!!
قال عمرو: لئن كذبتك تقية لأحلفن لك تقية.
قال المنصور: والله، والله أنت الصادق البر (1).
أقول: إن في هذه المحاورة دليلا على إيمان المنصور بالتقية أيضا، فضلا عن
تصريح عمرو بن عبيد بها. إذ لو كانت التقية محرمة، لأبدى المنصور معارضته، ولقال -
مثلا -: كيف تحلف بالله باطلا؟
54 - تقية جمع من التابعين سنة (145 ه‍):
روى الطبري (ت / 310 ه‍)، وابن كثير (ت / 774 ه‍) ما يدل على تقية جمع كبير من
التابعين وغيرهم، وذلك في إرضائهم المنصور بالنيل من رجل حسني بعد قتله وهو
إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام، الذي
قتله المنصور لخمس بقين من ذي القعدة سنة / 145 ه‍.
قال الطبري، وتابعه ابن كثير: إن المنصور العباسي لما اتي برأس إبراهيم بن عبد
الله، وضعه بين يديه، وجلس مجلسا عاما، وأذن للناس، فكان الداخل يدخل فيسلم،
ويتناول إبراهيم فيسئ القول فيه، ويذكر منه القبيح التماسا لرضا أبي جعفر، وأبو
جعفر (أي: المنصور) ساكت ممسك متغير لونه، حتى دخل جعفر بن حنظلة البهراني، فوقف
فسلم، ثم قال: عظم الله أجرك يا أمير المؤمنين في ابن عمك، وغفر له ما فرط
فيه من حقك، فاصفر لون أبي جعفر، وأقبل عليه، فقال: أبا خالد مرحبا وأهلا ها
هنا! فعلم

(1) تاريخ بغداد / الخطيب البغدادي 12: 269.
150

الناس إن ذلك قد وقع منه، فدخلوا فقالوا مثل ما قال جعفر بن حنظلة (1).
وليس من شك في أن كلام الناس في إبراهيم أول الأمر، لم يكن معبرا عن عقيدة
الكل، أو البعض منهم على الأقل، لما سيأتي في تقية مالك بن أنس (ت / 179 ه‍) من
نقمة الناس على أبي جعفر المنصور ظلمه وطغيانه، حتى مال أكثر الفقهاء إلى محمد
النفس الزكية وأخيه إبراهيم.
لذا كان التحول المفاجئ في موقفهم من تأييد إبراهيم إلى الحط منه دليلا على
تقيتهم من المنصور، كما أن تغير موقفهم في مجلس المنصور من النيل من إبراهيم إلى
الدعاء له دليل آخر على تقيتهم منه، لأن هذا التغير السريع لم ينشأ من فراغ،
وإنما نشأ من علم الداخلين - فيما بعد - على المنصور، ان مواساة المنصور والدعاء
لإبراهيم بالمغفرة هو المناسب لرضا المنصور، ولولا ما قاله جعفر بن حنظلة، لاستمر
النيل من إبراهيم. ولا يعقل بعد ذلك أن يكون جميع من نالوا، أو دعوا من سوقة الناس
ورعاعهم، إذ لا بد وأن يكون من بينهم عدد من التابعين والفقهاء والمحدثين ممن لا
تصح - عند إخواننا أهل السنة - نسبة النفاق إلى واحد منهم.
55 - تقية خارجة بن عبد الله المعاصر لمقاتل بن سليمان (ت / 150 ه‍):
كان خارجة بن عبد الله - لم أقف على سنة وفاته - يستحل دم مقاتل بن سليمان، وهو
على الرغم من معاصرته لمقاتل لم يقدم على قتله تقية منه على نفسه، وإشفاقا عليها
من القصاص، كما صرح هو بذلك فقال: لم استحل

(1) تاريخ الطبري: 4: 476 - في حوادث سنة (145 ه‍). والبداية والنهاية / ابن كثير
10: 54 من المجلد الخامس - في حوادث سنة (145 ه‍) أيضا.
151

دم يهودي ولا ذمي، ولو قدرت على مقاتل بن سليمان في موضع لا يراني فيه أحد
لقتلته (1).
56 - تقية الإمام أبي حنيفة النعمان (ت / 150 ه‍):
حرص الإمام أبو حنيفة على الابتعاد عن العباسيين طيلة حياته، لما عرفه من ظلمهم
واضطهادهم العلماء وحملهم على ما يكرهون، ولهذا لا نجد في سيرة الإمام تقربا إلى
السلاطين والحكام، ولقد كلفه ذلك ثمنا باهضا، إذ استدعي مرات ومرات، وحبس
وضرب على كبر سنه ولم يتغير موقفه في عدم التقرب إلى الولاة والحكام. ولكن قد
أجبرته السلطة حينذاك أن يتقيهم كرها لينجو بنفسه من تعسفهم واضطهادهم، ولم يكن
الإمام أبو حنيفة مبتدعا في تقيته، فقد اتقى قومه من هو أفضل الأنبياء والمرسلين
(ص)، ولفيف من الصحابة والتابعين قبله، وفيما يأتي نورد جملة من المواقف التي حملته
كرها على التقية، وهي:
الموقف الأول - مع ابن هبيرة:
كان يزيد بن عمر المعروف بابن هبيرة (ت / 132 ه‍) من ولاة آخر الأمويين مروان بن
محمد (ت / 132 ه‍) على البصرة والكوفة. وقد حاول ابن هبيرة استقطاب العلماء لتقوية
مركزه، ومنهم أبي حنيفة، وقد لبى أصحاب أبي حنيفة دعوة ابن هبيرة كما سيأتي في
تقيتهم، إلا أن أبا حنيفة رفض أن يكون جسرا لرغبات ابن هبيرة، ولهذا حاول ابن
هبيرة أن ينزل أكبر الأذى به، ويتنحل عذرا ليكون مبررا لقتله، فدس إليه رجلا
وأبو حنيفة في طريقه إلى

(1) تهذيب التهذيب 10: 251 - في ترجمة مقاتل بن سليمان.
152

السجن، فقال له الرجل: يا أبا حنيفة أيحل للرجل إذا أمره السلطان الأعظم أن يقتل
رجلا، أن يقتله؟
فأجابه بلباقة: كان الرجل ممن وجب عليه القتل؟
قال: نعم.
قال: فاقتله.
قال: فإن لم يكن مما وجب عليه القتل؟
قال: السلطان الأعظم لا يأمر بقتل من لا يستحق القتل (1).
الموقف الثاني - في مبايعة السفاح (ت / 136 ه‍):
روى أبو يوسف (ت / 182 ه‍)، عن داود الطائي قال: لما نزل أبو العباس الكوفة، وجه
العلماء فجمعهم فقال: إن هذا الأمر قد أفضى إلى أهل بيت نبيكم، وجاءكم الله
بالفضل، وإقامة الحق، وإنه يا معشر العلماء أحق من أعان عليه (أنتم)، ولكم
الحباء، والكرامة والضيافة من مال الله ما أحببتم، فبايعوا بيعة تكون لكم عند
إمامكم حجة عليكم، وأمانا في معادكم، لا تلقون الله بلا إمام فتكونوا ممن لا
حجة له، ولا تقولوا: أمير المؤمنين نهابه أن نقول الحق. فنظر القوم إلى أبي
حنيفة، فقال: إن أحببتم أن أتكلم عني وعنكم، فامسكوا. قالوا: قد أحببنا ذلك،
فقال:
الحمد لله الذي بلغ الحق من قرابة نبيه (ص)، وأماط عنا جور الظلمة، وبسط
ألسنتنا بالحق، وقد بايعناك على أمر الله والوفاء لك إلى قيام الساعة،

(1) أخبار أبي حنيفة / حسين بن علي الصيمري: 19.
153

فلا أخلى الله هذا الأمر ممن قربه من نبيه.
فأجابه أبو العباس بجواب جميل، وقال: مثلك من خطب عن العلماء، فأحسنوا اختيارك،
وأحسنت في البلاغ.
فلما خرجوا، قالوا له: ما أردت بقولك: (إلى قيام الساعة)، وقد انقضت الساعة؟
قال: احتلت لنفسي وأسلمتكم للبلاء، فسكت القوم، وعلموا ان الحق ما صنع (1).
الموقف الثالث - في مبايعة المنصور (ت / 158 ه‍):
ذكر ابن عبد البر القرطبي المالكي (ت / 463 ه‍)، ان جماعة من الفقهاء دخلوا على
المنصور، وكان فيهم أبو حنيفة، وقد أقبل المنصور على أبي حنيفة وتركهم فقال: أنت
صاحب حيل، فالله شاهد عليك أنك بايعتني صادقا من قلبك. قال: الله يشهد علي
حتى تقوم الساعة. فقال: حسبك. فلما انصرف أبو حنيفة، قال له أصحابه: حكمت على
نفسك بيعته حتى تقوم الساعة. قال: إنما عنيت حتى تقوم الساعة من مجلسك، إلى
بول، أو غائط، أو حاجة، حتى تقوم من مجلسك ذلك (2).
الموقف الرابع - في بناء مدينة بغداد سنة (145 ه‍):
لقد كان أبو حنيفة يجاهر في أمر إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، ويفتي

(1) أخبار أبي حنيفة 14 - 15، أبو حنيفة - حياته، عصره - آراؤه الفقهية / محمد
أبو زهرة: 41، وتاريخ المذاهب الإسلامية لأبي زهرة أيضا 2: 155.
(2) الانتقاء / ابن عبد البر: 159.
154

الناس بالخروج معه على المنصور العباسي (1) ولما انتهت ثورة إبراهيم بقتله سنة
(145 ه‍) تولى الإمام أبو حنيفة - وبنفس السنة المذكورة - مهمة الإشراف على ضرب
اللبن وعد لبناء مدينة بغداد بأمر المنصور العباسي (2).
ولا شك أنه كان كارها لذلك، ولكنه اتقى المنصور في هذا العمل الذي أنيط له من
قبل المنصور الذي علم بموقف أبي حنيفة من إبراهيم، فحاول أن يجد مبررا لقتله،
ولكن الإمام عرف ذلك منه فاتقاه في هذه المشاركة.
الموقف الخامس - في قبوله قضاء الرصافة:
ذكرنا ان أبا حنيفة كان يأبى تولي أي منصب من مناصب الدولتين الأموية
والعباسية، ولكن في رواية الخطيب البغدادي (ت / 463 ه‍)، وابن خلكان (ت / 681 ه‍)
ان أبا حنيفة قد جلس في القضاء في آخر أيام حياته بعد الضغط الشديد عليه، بحيث لم
يجد من ذلك مفرا.
فقد ذكرا ان المنصور لما أتم مدينة بغداد، أرسل إلى أبي حنيفة وعرض عليه قضاء
الرصافة، فأبى، فقال المنصور: إن لم تفعل ضربتك بالسياط!!
قال أبو حنيفة: أوتفعل؟
قال: نعم.
فقعد أبو حنيفة في القضاء يومين، فلم يأته أحد... فلما مضى يومان اشتكى أبو حنيفة
ستة أيام ثم مات (3).

(1) العبر في خبر من غبر / الذهبي 1: 155 - في حوادث سنة (145 ه‍).
(2) تاريخ الطبري 4: 459 - في حوادث سنة (145 ه‍).
(3) تاريخ بغداد / الخطيب البغدادي 13: 329، ووفيات الأعيان / ابن خلكان 5: 47.
155

الموقف السادس - في مسائله مع الإمام الصادق عليه السلام (ت / 148 ه‍):
المشهور عن الإمام أبي حنيفة قوله: لولا السنتان لهلك النعمان وهما سنتان من
التلمذة المباشرة على يد الإمام الصادق عليه السلام، ولقد كانت بينهما لقاءات
متكررة بالكوفة استفاد منها أبو حنيفة كثيرا، وعرف عن كثب منزلة الإمام الصادق
علما وأدبا ونسكا وورعا، ولا غرو في ذلك، ومن أحق من أبي حنيفة بهذا؟
ولقد أوجس المنصور خيفة شديدة من التفاف الناس حول الإمام الصادق عليه السلام،
فحاول الحط منه، وتقليل شأنه في نظر العلماء أولا، ومن ثم ابعاد عامة الناس
عنه - بعد أن يتم له ذلك - ثانيا.
ومن محاولات المنصور تلك التي تكشف عن تقية أبي حنيفة، ما قاله أبو حنيفة نفسه، قال
: ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد، لما أقدمه المنصور بعث إلي فقال: يا أبا حنيفة
إن الناس قد افتتنوا بجعفر بن محمد فهيئ له من المسائل الشداد، فهيأت له أربعين
مسألة، ثم بعث إلي أبو جعفر (أي: المنصور) وهو بالحيرة، فأتيته، فدخلت عليه،
وجعفر بن محمد جالس عن يمينه، فلما أبصرت به دخلتني من الهيبة لجعفر بن محمد
الصادق ما لم يدخلني لأبي جعفر، فسلمت عليه، وأومأ إلي فجلست، ثم التفت إليه،
فقال: يا أبا عبد الله! هذا أبو حنيفة، فقال: نعم... ثم التفت إلي المنصور،
فقال: يا أبا حنيفة! ألق على أبي عبد الله من مسائلك، فجعلت ألقي عليه فيجيبني،
فيقول: أنتم تقولون: كذا، وأهل المدينة يقولون: كذا، ونحن نقول: كذا. فربما
تابعنا، وربما خالفنا جميعا. حتى أتيت على الأربعين مسألة - ثم قال مستدلا على
أن الإمام الصادق عليه السلام أعلم أهل زمانه بلا منازع -: ألسنا قد
156

روينا: إن أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس (1).
أقول: يستطيع الباحث أن يدرك بسهولة - من خلال ما قاله الإمام أبو حنيفة - مدى
تأثير السلطة على العلماء، وحملهم على التقية كرها، كما حصل لأبي حنيفة مع الإمام
الصادق عليه السلام، في محاولة المنصور اليائسة في إبعاد الناس عن الإمام بشتى
الوسائل، وأخبثها، ومن بينها إجبار العلماء الأعلام على مناظرته، لعله ينقطع عن
الجواب.
ولولا أمر المنصور لما سئل الإمام الصادق أربعين سؤالا، لا لتحصيل الجواب منه،
وإنما لتحصيل الانقطاع عن الجواب! ولا شك ان أبا حنيفة كان يعلم علم الإمام،
ولكن ما حيلة المضطر إلا ركوبها!
الموقف السابع - مع ابن أبي ليلى (ت / 148 ه‍):
ذكر الأستاذ علي الشملاوي في بحثه: التقية في إطارها الفقهي ما قاله جابر بن
حماد ابن الإمام أبي حنيفة - كما في رواية الخطيب البغدادي - قال جابر: سمعت أبي
حمادا يقول: بعث ابن أبي ليلى إلى أبي حنيفة، فسأله عن القرآن.
فقال: مخلوق.
فقال: تتوب، وإلا أقدمت عليك!
فقال: القرآن كلام الله.
فقال: فدار به في الخلق يخبرهم أنه قد تاب من قوله: القرآن مخلوق.

(1) الموفق في مناقب أبي حنيفة 1: 173 - نقلا عن قصة التقريب بين المذاهب / محمد
تقي الحكيم: 10.
157

فقال أبي: فقلت لأبي حنيفة: كيف صرت إلى هذا وتابعته؟
قال: يا بني خفت أن يقدم علي، فأعطيته التقية (1).
57 - تقية أصحاب أبي حنيفة من ابن هبيرة (ت / 148 ه‍):
عرض ابن هبيرة - والي الأمويين على الكوفة - أعمالا من أعمال ولايته على الفقهاء
الذين أرسل إليهم لهذا الفرض، وكان منهم ابن أبي ليلى (ت / 148 ه‍)، وابن شبرمة،
وداود بن أبي هند، وأبي حنيفة.
وقد أعطى لكل واحد منهم عملا من أعمال ولايته، وتنازل لأبي حنيفة عن جزء من
سلطانه، ليكون في يده خاتم الدولة يختم به كل أمر، وجعل من حقه انفاذ الأحكام التي
يصدرها القضاء والخراج، وختم أوامر الوالي. فرفض أبو حنيفة وقبل الآخرون أعمالهم،
وأشاروا على أبي حنيفة بالقبول فرفض ذلك. حتى أن ابن أبي ليلى قال: دعوا
صاحبكم، فإنه هو المصيب (2).
إلا أن أصحاب أبي حنيفة ألحوا عليه بقبول ما أعطاه ابن هبيرة، وقالوا: ننشدك
الله أن تهلك نفسك، فإنا إخوانك، وكلنا كاره لهذا الأمر، ولم نجد بدا من ذلك،
فرفض أيضا (3).
وهذا القول الأخير لا يمكن أن يفهم منه معنى غير معنى التقية.
58 - تقية ابن سمعان من المنصور (ت / 158 ه‍):
ذكر ابن قتيبة ان المنصور العباسي اجتمع في أول خلافته بمالك بن أنس،

(1) التقية في إطارها الفقهي / علي الشملاوي: 185 - نقله عن تاريخ بغداد 13: 387.
(2) الأئمة الأربعة / مصطفى الشكعة: 116.
(3) أبو حنيفة / محمد أبو زهرة: 38، والأئمة الأربعة / الشكعة: 116.
158

وابن أبي ذؤيب، وابن سمعان، وسألهم: أي الرجال أنا عندكم، أمن أئمة العدل، أم
من أئمة الجور؟
أما مالك فقد توسل إليه بالله، وتشفع بالنبي (ص) أن يستعفيه من الجواب،
فاستعفاه.
وأما ابن أبي ذؤيب، فلم يخش في الله لومة لائم، إذ أوقف المنصور على حقيقة حاله،
وصارحه بواقع أمره، حتى إن الإمام مالك بن أنس قد ظن أنه سيسفك دم ابن أبي
ذؤيب قبل أن يتم كلامه فجمع أطراف ثوبه لئلا يتلوث بالدم.
وأما ابن سمعان، فقد خاف على نفسه واتقى من المنصور، فوصفه بصفات الصديقين
الأبرار الأخيار، وأنه من خير من ولدته حواء، وأنه من أعدل الأئمة، وأنه
وأنه (1).
59 - سفيان الثوري (ت / 161 ه‍):
عن أبي إسحاق الفزاري، قال: جاءني نعي أخي من العراق، وقد خرج مع إبراهيم بن عبد
الله الطالبي، فقدمت الكوفة، فأخبروني أنه قتل، وأنه قد استشار سفيان الثوري
وأبا حنيفة، فأتيت سفيان وأنبأته مصيبتي بأخي، وقلت: وأخبرت أنه استفتاك. قال:
نعم، قد جاءني فاستفتاني، فقلت: ماذا أفتيته؟ قال: قلت: لا آمرك ولا أنهاك. قال
: فأتيت أبا حنيفة. فقلت له: بلغني أن أخي أتاك فاستفتاك. قال: قد أتاني
واستفتاني، قال، قلت: فبماذا أفتيته؟ قال: أفتيته بالخروج، قال: فأقبلت عليه،
فقلت: لا جزاك الله خيرا، قال: هذا رأيي (2).

(1) الإمامة والسياسة / ابن قتيبة الدينوري 2: 173.
(2) تاريخ بغداد 13: 385 - نقلا عن الإمام الصادق والمذاهب الأربعة / أسد حيدر 1
: 318.
159

ويفهم من قول سفيان المتقدم: لا آمرك ولا أنهاك، أنه كان يرى الخروج مع إبراهيم
مشروعا، ولو كان المنصور إماما عادلا، لوجب على سفيان أن ينهى عن الخروج عليه،
لا أن يقول: لا آمرك، ولا أنهاك، فهذا قول من فكر في عواقب الأمور، وأدرك أنه
ليس من مصلحته الإفصاح بما هو الحق، فترك لنفسه مجالا في الجواب تقية من انكشاف
أمره لدى المنصور.
60 - المفضل الضبي (ت / 168 ه‍):
كان المفضل الضبي العالم اللغوي المشهور من أنصار إبراهيم بن عبد الله بن الحسن،
ولكن حين فشلت ثورة إبراهيم وقبض المنصور على المساندين لهذه الثورة، وأنزل العقاب
الصارم بهم، كان المفضل الضبي من بين من قبض عليه، فعفا عنه المنصور، وسرعان ما
تبدلت مواقف المفضل حتى استخلصه المنصور لنفسه، وقربه إليه، وصار نجما في بلاط
الخليفة، وعهد إليه أن يؤدب ولده المهدي (1)، وكأنه لم يكن بالأمس ناقما على
المنصور ظلمه وطغيانه، وأنى لهذا أن يكون لولا التقية والمداراة التي كان يظهرها
مؤدب المهدي لمن خرج على أبيه بالأمس، حتى لكأن خروجه لم يكن شيئا مذكورا.
61 - تقية الإمام مالك بن أنس (ت / 179 ه‍):
الموقف الأول: مع الأمويين:
جاء في ترجمة الإمام الصادق عليه السلام (ت / 148 ه‍) في ميزان الاعتدال للذهبي (ت /
748 ه‍) ما نصه: وقال مصعب، عن الدراوردي، قال: لم يرو مالك عن

(1) أبو حنيفة بطل الحرية والتسامح في الإسلام / عبد الحليم الجندي: 230.
160

جعفر، حتى ظهر أمر بني العباس (1).
وقد صرح أمين الخولي (ت / 1385 ه‍)، بأن امتناع مالك بن أنس من الرواية عن
الإمام الصادق عليه السلام في عهد الأمويين، إنما كان لخشيته منهم (2).
أقول: ولد الإمام مالك بن أنس سنة 93 ه‍، وتوفي سنة 179 ه‍، فكان عمره خمسا
وثمانين سنة، أدرك فيها إمامة الباقر عليه السلام كلها من سنة 95 ه‍ إلى سنة 114 ه‍،
كما أدرك فيها إمامة الصادق عليه السلام - البالغة أربعا وثلاثين سنة - كلها، من
سنة 114 ه‍ إلى سنة 148 ه‍، كانت منها ثمان عشرة سنة في عهد الأمويين الذين انقرضوا
سنة 132 ه‍.
وهذا يعني ملازمة الإمام مالك للتقية في عدم الرواية عن الإمام الصادق مدة ثمان
عشرة سنة كاملة، على الرغم من كونهما يقطنان في المدينة المنورة، ولم يفصل مالك بن
أنس عن الصادق زمان ولا مكان، غير سطوة الأمويين وبطشهم الذي خافه مالك بن أنس،
لا سيما وأن موقف الأمويين من أهل البيت عليهم السلام معروف لكل أحد.
الموقف الثاني - مع العباسيين:
ان سيرة الإمام مالك تثبت انه كان يستعمل التقية في ظل الدولة العباسية، وعلى
نطاق أوسع منه في العهد الأموي، فقد روى المؤرخون موقفه من خروج محمد النفس
الزكية سنة 145 ه‍ على المنصور، وخلاصة هذا الموقف انه كان مضطرا إلى أن لا يسهم
في هذه الثورة التي أيدها مشايخه كالتابعي

(1) ميزان الاعتدال / الذهبي 1: 414 / 1519.
(2) مالك بن أنس / أمين الخولي: 94.
161

المعروف بابن هرمز مساهمة إيجابية، لأنه سبق وأن أرسله المنصور - مع من أرسل - إلى
بني الحسن ليدفعوا إليه محمدا وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن، حتى إذا ما
قامت الثورة لم يسع مالكا الاشتراك بها لهذا السبب، مع أنه كان من الناقمين على
المنصور جبروته وطغيانه. وقد عرف الثوار منه ذلك، فكانوا يستفتونه في الخروج مع
محمد النفس الزكية، ويقولون له: إن في أعناقهم بيعة للمنصور، فكان يرد عليهم
بقوله: إنما بايعتم مكرهين، وليس على مكره يمين. وقد تحمل نتيجة هذه الفتيا
سياط والي المدينة جعفر بن سليمان، وجبذت يداه حتى انخلعت من كتفه (1).
ثم لم تلبث أن وطدت العلاقة بينه وبين العباسيين كثيرا حتى قال له المنصور ذات
يوم: أنت والله أعقل الناس، والله لئن بقيت لأكتبن قولك كما تكتب المصاحف،
ولأبعثن به إلى الآفاق، ولأحملنهم عليه (2).
ولا شك ان للتقية دورها الواضح في توطيد هذه العلاقة، ولولاها لما كان الرجل
الناقم على المنصور جبروته وطغيانه، والذي يفتي الناس بالخروج عليه ويحثهم على خلع
بيعته، بقوله: إنما بايعتم مكرهين، وليس على مكره يمين، يكون هو نفسه - كما
جاء في مقدمة تحقيق الموطأ - الرجل الذي: يأمر بحبس من يشاء، أو يضرب من
يريد (3) في دولة المنصور نفسه

(1) مروج الذهب / المسعودي 3: 340، وحلية الأولياء / أبو نعيم 6: 316، وسير أعلام
النبلاء / الذهبي 8: 80 / 10، ووفيات الأعيان / ابن خلكان 4: 137 / 550، ومقدمة
تحقيق كتاب الموطأ.
(2) سير أعلام النبلاء 8: 61 و 69.
(3) راجع مقدمة تحقيق كتاب الموطأ، فقد ورد فيها هذا اللفظ بعينه.
162

الموقف الثالث - في تأليف الموطأ:
ان تقية الإمام واضحة كالشمس في تأليفه كتاب الموطأ، إذ تجنب فيه الرواية عن
أهل البيت عليهم السلام إلا لماما، ويكفي انه لم يرو شيئا في الموطأ عن أمير
المؤمنين علي عليه السلام، بل ولم يذكره في حلقته، ولما سئل عن ذلك؟ أجاب بأنه
- يعني عليا عليه السلام - لم يكن في المدينة (1).
ولموقف الإمام مالك من علي عليه السلام تفسيران لا ثالث لهما، وهما:
الأول: ما ذكره القاضي عياض (ت / 544 ه‍) في ترتيب المدارك 1: 330 وأبو زهرة في
مالك بن أنس ص: 28، وأمين الخولي في مالك بن أنس ص: 418، ولا أحب الخوض في
تفصيلاته، ومن رام الوقوف عليه فليرجع إلى مصادره ومراجعه، على أن خلاصته هو
اجتهاد مالك في هذا الشأن
الثاني: هو التقية من المنصور في ذلك، إذ لا خلاف بين الباحثين على أن المنصور
العباسي كان يراسل محمد النفس الزكية بما ينال من منزلة الإمام علي عليه السلام
كما نص عليه الطبري في تاريخه (2)، وليس من السهل على الإمام مالك أن يعارض المنصور
في ذلك، وهذا هو التوجيه المقبول عند كل من يحسن الظن بالإمام مالك.
الموقف الرابع - تصريحه بالتقية:
وخير ما يمثله رأيه في طلاق المكره حيث كان لا يجيزه، ويعده باطلا،

(1) موقف الخلفاء العباسيين من أئمة أهل السنة الأربعة / الدكتور عبد الحسين
علي أحمد القطري: ص 171 - نقله عن تاريخ الخلفاء للسيوطي: 263.
(2) تاريخ الطبري 7: 570 - في حوادث سنة (145 ه‍).
163

لأنه وقع تقية تحت طائلة الإكراه، وقد سبق الكلام في الفصل الأول بأنه احتج
لذلك بقول ابن مسعود (ت / 32 ه‍): ما من كلام يدرأ عني سوطين من سلطان إلا كنت
متكلما به (1).
وكان يقول: ولأن أحلف سبعين يمينا وأحنث، أحب إلي من أن أدل على مسلم (2).
الموقف الخامس:
مر هذا الموقف في تقية ابن سمعان من المنصور برقم / 57، فراجعه، ستجد أن الإمام
مالكا قد نظر لنفسه فرأى إن نطق كاذبا فقد أغضب الله تعالى، وإن نطق صادقا فقد
أغضب المنصور، ورأى أن من الحكمة أن يحذر غضب الله تعالى، ويتقي نقمة المنصور في
ذلك الموقف الصعب، ولهذا طلب أن يستعفيه من الجواب فاستعفاه.
62 - سعيد بن أشرس، صاحب مالك بن أنس (ت / 179 ه‍):
ذكر القرطبي المالكي (ت / 671 ه‍) أن سعيدا كان قد آوى رجلا بتونس، وكان الرجل
ممن طلبه سلطان تونس ليقتله، ويظهر من كلام القرطبي أن للسلطان التونسي عيونا
أخبرته بمكان من يطلب، وانه أحضر سعيدا، فأنكر، فاستحلفه، فحلف له على أنه ما
آواه، ولا يعلم له مكانا (3).
ونكتفي بهذا القدر ممن اتقى من التابعين، وننتقل إلى موقف جديد آخر مع روم
الاختصار.

(1) المدونة الكبرى / مالك بن أنس 3: 29.
(2) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي المالكي 10: 124.
(3) م. ن 10: 189.
164

موقف تابعي التابعين وغيرهم من التقية
وفي هذا الموقف سنراعي أيضا ما وصل إليه التسلسل السابق مع لحاظ السابق الزمني
لكل موقف، على أنا سندع الكثير الكثير من أسماء العلماء الذين استعملوا التقية أو
صرحوا بها، إذ مرت أسماؤهم في الفصل الأول، خصوصا المفسرين منهم ابتداء من
الطبري (ت / 310 ه‍)، وانتهاء بالصابوني الوهابي المعاصر، اللهم إلا إذا وجدنا
كلاما لأحدهم لم ننقله عنه هناك، وإن كان ثمة مجال سنشير إليهم إجمالا في آخر
المطاف، ومما وقفنا عليه من هذه المواقف ما يأتي:
63 - يعقوب بن إبراهيم المعروف بأبي يوسف (ت / 182 ه‍):
يعقوب بن إبراهيم الرجل الثاني في المذهب الحنفي، وهو من أشهر أصحاب أبي حنيفة،
كانت سيرته قد اختلفت تماما عن سيرة أبي حنيفة إزاء بني العباس، فقد ولي قضاء
بغداد في زمن موسى المهدي (ت / 169 ه‍)، ثم هارون الرشيد (ت / 193 ه‍) من بعده، وهو
أول من دعي بقاضي القضاة في الإسلام، وقد بلغت علاقته بالرشيد أنه كان يأكل معه
الفالوذج بدهن الفستق (1).

(1) تاريخ بغداد / الخطيب البغدادي 14: 242 - 245 / 7558.
165

ولا خلاف بأن الشريعة الإسلامية لا تحرم الأكل مع السلاطين والحكام، ولكنها
نبهت على خطره، مغبة أن يحمل الآكل - لا سيما إذا كان من الفقهاء - كرها على
الإفتاء بما يوافق هوى السلاطين والحكام. وهذا من البداهة بمكان لا يخفى على أحد.
قال ابن قتيبة الدينوري (ت / 276 ه‍): لا تكونن صحبتك للسلطان إلا بعد رياضة منك
لنفسك على طاعتهم في المكروه عندك، وموافقتهم فيما خالفك، وتقدير الأمور على
أهوائهم دون هواك (1).
ولهذا نجد الإمام أبا حنيفة قد أوصى أبا يوسف في أيامه الأخيرة بقوله: وإذا رأيت
من سلطانك ما لا يوافق العلم، فاذكر ذلك مع طاعتك إياه، فإن يده أقوى من يدك.
تقول له: أنا مطيع لك في الذي أنت فيه، سلطان ومسلط علي، غير أني أذكر من سيرتك
ما لا يوافق العلم، وانصحه في الدين، وناظره إن كان مبتدعا (2) إلى آخر ما جاء في
هذه الوصية القيمة.
وفي مقابل هذا نجد أن في بعض ما صدر من فتاوى لأبي يوسف، لا ينسجم مع فقه الأحناف
بالمرة، وليس له من تفسير غير التقية، ولا نعني بهذا الغض من أبي يوسف، وإنما
نعني به كثرة الضغوط التي كان يواجهها - بحكم كونه قاضي القضاة في الإسلام - مما
لا مفر له منها بغير التقية، ولا غضاضة عليه في ذلك، لأن الشريعة الغراء التي
أباحت الكفر - وهو من أفظع الأشياء - عند الإكراه على القتل أو الوعيد المتلف، لا
شك أنها تبيح للفقيه الفتيا بخلاف الواقع الذي يعلمه، إن خاف على نفسه التلف.

(1) عيون الأخبار / ابن قتيبة 1: 20 - باب صحبة السلطان.
(2) الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة النعمان / ابن نجيم: 432.
166

ولهذا فإن ما نذكره من تقية أبي يوسف في الإفتاء، وإن كنا لا نعلم نوع الإكراه
عليها، إلا أنها محمولة على الإكراه المبيح لذلك إن شاء الله، وإن كان ظاهر بعض
فتاويه في نظر حاسديه لا تستوجب مخالفة للشرع الحنيف.
ومن تقيته في الفتيا، ما توضحه المواقف التالية:
الموقف الأول: مع المهدي العباسي.
ذكر السيوطي (ت / 911 ه‍) ان الرشيد قد أحب جارية من جواري المهدي، فراودها عن
نفسها، فامتنعت وبينت له أن أباه قد طاف بها، ولكن الرشيد قد هام بها حبا،
فأرسل إلى أبي يوسف فأفتاه فيما رغب (1).
الموقف الثاني: مع هارون الرشيد.
وذكر السيوطي أيضا، ان هارون الرشيد دعاه مرة في الليل، فأفتاه بما يوافق هواه،
فأمر له بمائة ألف درهم (2).
الموقف الثالث: مع أم جعفر البرمكي.
روى الخطيب البغدادي (ت / 463 ه‍) بسنده عن أبي عبد الله اليوسفي قال: إن أم
جعفر كتبت إلى أبي يوسف: ما ترى في كذا وكذا، وأحب الأشياء إلي أن يكون الحق
فيه كذا؟ فأفتاها بما أحبت، فبعثت إليه بحق فضة فيه حقاق فضة مطبقات في كل
واحدة لون من الطيب، وفي جام دارهم وسطها جام فيه دنانير.. (3).

(1) تاريخ الخلفاء / السيوطي: 291.
(2) م. ن: 291.
(3) تاريخ بغداد 14: 252.
167

الموقف الرابع: في جارية عيسى بن جعفر.
أفتى أبو يوسف في جارية عيسى بن جعفر حيث امتنع عيسى أن يهبها للرشيد لما سبق منه
من يمين بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك على أن لا يبيع هذه الجارية ولا يهبها لأي
إنسان مهما كان، وكانت الفتيا أن قسم الجارية نصفين لكي يهب عيسى بن جعفر نصفها
للرشيد ويبيع النصف الآخر، وبهذا يخرج من يمينه، لأنه لم يحلف على هذا، ولقد كانت
جائزة هذه الفتيا مائتي ألف درهم، وعشرين تختا ثيابا (1).
ولعل قساوة قول ابن السماك في حق أبي يوسف جاءت من هذا الباب (2).
الموقف الخامس: في افتائه بجواز التقية في الدماء
وهو ما سيأتي في الفصل الثالث في فقه الأحناف، حيث سنقف على فتياه هناك في جواز
التقية في الدماء فيما سجلته أهم كتب الأحناف الفقهية، ويمكن أن يقال ان
التقية كانت وراء هذه الفتيا، لأن قاضي القضاة أبا يوسف لم يكن بعيدا عن الدماء
التي أهرقها الرشيد وأبوه من قبل، وهذا يعني أن الإفتاء بوجوب القصاص من المكره
والمكره، أو أحدهما عند القتل، هو بمثابة الحكم بوجوب قتل هارون الرشيد، وأبيه
وجلاديهم، وهذا مما يتعذر صدوره من قاضي القضاة.
64 - أبو الفضل الهاشمي (ت / 186 ه‍):
ذكر ابن قتيبة الدينوري (ت / 276 ه‍) في عيون الأخبار، أن محمد بن

(1) تاريخ بغداد 14: 250.
(2) راجع ما قاله ابن السماك في تاريخ بغداد 14: 245.
168

أبي الفضل الهاشمي قال: قلت لأبي: لم تجلس إلى فلان، وقد عرفت عداوته؟
فقال: أخبئ نارا وأقدح عن ود! (1).
وما أقرب هذا القول من قول أبي الدرداء المتقدم في الفصل الأول: إنا لنكشر
في وجوه قوم وإن قلوبنا لتلعنهم.
65 - تقية علي بن إسحاق من هارون الرشيد (ت / 193 ه‍):
كان علي بن إسحاق بن عبد الله بن العباس، من حاشية هارون الرشيد، ومن المقربين
إليه، والمطلعين على أسراره، وقد اتقى من الرشيد في غير موضع التقية، وذلك فيما
حكاه الشبراوي الشافعي (ت / 1171 ه‍) من أنه كان على علم بما عزم عليه هارون من
إبادة البرامكة واستئصال شأفتهم، ورغم ذلك لم تبدر منه أدنى بادرة في إنذار
البرامكة بطريقة لا تثير غبار الشك لدى الرشيد في إفشاء سره، ولا تؤدي إلى
الفتنة، وذلك بتقديم النصح مثلا وما شابهه، بل ابتعد حتى عن دورهم - حتى حصلت
نكبتهم - تقية على نفسه من بطش الرشيد (2).
66 - تقية الإمام الشافعي (ت / 204 ه‍):
ومن المواقف التي تشهد على تقية الإمام الشافعي - فيما وقفت عليه - موقفان،
وكلاهما مع هارون الرشيد، وهما:

(1) عيون الأخبار / ابن قتيبة 2: 22.
(2) الإتحاف بحب الأشراف / الشبراوي: 246.
169

الموقف الأول: مع هارون الرشيد في ذم العلويين!
المعروف بين سائر المؤرخين، أن الإمام الشافعي قد مكث مدة في اليمن، وأكثر قبائل
اليمن تميل إلى العلويين، مع ميل الشافعي نفسه إلى العلويين، ومن هنا جاءت محنته،
بل واتهم بالتشيع أيضا.
ولم يكن ذلك خافيا على جواسيس الرشيد، فقد كتب إليه حماد البربري من اليمن رسالة
يخوفه فيها من العلويين، ويحذره أشد التحذير من الشافعي، حتى ذكر له بأن ما
يخرج من لسان الشافعي هو أشد من سيف المقاتل!
ولهذا أمر الرشيد أن يحمل الشافعي مع بعض العلويين إلى بغداد (1).
ولما وصلوا إلى بغداد أمر الرشيد بقتل العلويين جميعا فقتلوا حالا، وأما
الشافعي فقد قال كلاما تقية لا يعبر عن واقع قال: أأدع من يقول إني ابن عمه،
وأصير إلى من يقول إني عبده (2).
وقد ترك هذا الكلام أثرا في نفس الرشيد فعفى عنه.
الموقف الثاني: رأيه في خلافة هارون الرشيد.
وهذا الموقف أوضح من الأول في التقية، وهو ما أورده أبو نعيم الأصبهاني (ت /
430 ه‍) في حلية الأولياء في خبر طويل خلاصته:
إن الشافعي أحضر يوما وهو مقيد في الحديد إلى مجلس هارون الرشيد، وكان في
المجلس بعض خصومه، منهم بشر المريسي المعتزلي (ت / 218 ه‍)

(1) مناقب الشافعي / البيهقي 1: 112.
(2) م. ن: 112.
170

فأراد بشر أن يحرج الشافعي فقال له بمسمع من الرشيد: ادعيت الإجماع، فهل تعرف
شيئا أجمع الناس عليه، قال نعم: أجمعوا على أن هذا الحاضر أمير المؤمنين، فمن
خالفه قتل.
فضحك عند ذلك الرشيد، وقربه وأكرمه بعد أن أمر بفك القيد عنه (1).
أقول: إن الإمام الشافعي يعلم علم اليقين كيف وصل الرشيد إلى الحكم، وإنه لم
ينص على خلافته كتاب، ولم تنطق بها سنة، ولم تحصل بها شورى، ولم ينعقد عليها
الإجماع، وإنما كانت ملكا عضوضا، ورثها عن أبيه كما يرث الدينار والدرهم فهي
خلافة مرفوضة عند أهل النص والتعيين، ومرفوضة عند أهل الشورى والاختيار، وبالجملة
فإن خلافة الأمويين والعباسيين برمتهم خارجة عن إطار النظرية السياسية
للإمامة والخلافة في الإسلام، ومن هنا يتضح أن الإجماع المراد بكلام الإمام
الشافعي هو (إجماع التقية) لا غيره.
67 - تقية سجادة من المأمون (ت / 218 ه‍).
68 - تقية القواريري من المأمون.
69 - تقية جمع من الفقهاء من المأمون.
لقد نص الطبري (ت / 310 ه‍) في تأريخه عند تناوله الأخبار في محنة خلق القرآن في
زمن المأمون على امتناع سجادة والقواريري ومجموعة من الفقهاء من الاستجابة إلى أمر
المأمون - في هذه المسألة - الداعي إلى القول بأن القرآن الكريم مخلوق وليس بقديم.

(1) حلية الأولياء / أبو نعيم 9: 82 - 84.
171

ولكنهم - كما نص عليه الطبري - تراجعوا عن موقفهم حين علموا بما عزم عليه المأمون
إزاء من لم يسجل اعترافه - بما أمر - عند واليه على بغداد إسحاق بن إبراهيم،
وقالوا جميعا: إن القرآن مخلوق، إلا ما كان من أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح
المضروب (1).
70 - أبو مسهر (ت / 218 ه‍):
نص الطبري في أخبار هذه المحنة أيضا على أنه جاء كتاب من المأمون إلى واليه على
بغداد إسحاق بن إبراهيم، يقول فيه: وقد كان أمير المؤمنين وجه إليك المعروف بأبي
مسهر، بعد أن نصه أمير المؤمنين عن محنته في القرآن، فجمجم عنها ولجلج فيها، حتى
دعا له أمير المؤمنين بالسيف، فأقر ذميما، فانصصه عن إقراره، فإن كان مقيما
عليه، فأشهر ذلك وأظهره إن شاء الله (2).
أقول: المراد بأبي مسهر، هو عبد الأعلى بن مسهر الغساني، من تابعي التابعين،
وتقيته واضحة كما ترى، ولا تحتاج إلى تعليق.
71 - تقية الإمام أحمد بن حنبل (ت / 240 ه‍):
كان الإمام أحمد بن حنبل يرفض أي شكل من أشكال التعاون مع العباسيين، ولم يقبل
منهم أية وظيفة، ويحدثنا تاريخه أنه كان متقشفا لا يقبل هدية من الحاكم قط،
وانه إذا ما أكره على قبولها فسرعان ما يوزعها

(1) تاريخ الطبري 5: 193 - في حوادث سنة 218 ه‍، وانظر: تبيين كذب المفتري / ابن
عساكر: 349.
(2) تاريخ الطبري 5: 192 - في حوادث سنة 218 ه‍.
172

على الفقراء والمساكين، وهذه حقيقة يجدها الباحث في جميع كتب التراجم والرجال.
وقد بلغت نفرته من الحكام انه حرم على نفسه شرب ماء دجلة، لأنه كان يعد ذلك
مما جرى عليه الغصب، واكتفى بماء الآبار (1).
وبناء على هذا الرأي فإن سكنه في بغداد يعد من أوضح مظاهر تقيته، لأن من يرى
ماء دجلة قد جرى عليه الغصب، سوف لن يرى شبرا من أرض بغداد إلا وقد جرى عليه حكم
الغصب أيضا.
ترى، هل أكره ابن حنبل على الإقامة ببغداد؟ أم اتخذها اختيارا مقرا ومقاما؟
قال الدكتور القطري في موقف الخلفاء: انه سكن بغداد اضطرارا حتى روي عنه أنه
قال: دفعتنا الضرورة إلى المقام بها، كما دفعت الضرورة المضطر إلى أكل
الميتة (2).
ومن تقيته أيضا اختلاف قوله في المحنة، وما تعرض له في عهدي المأمون (ت /
218 ه‍)، والمعتصم (ت / 227 ه‍). فقد ذكر المؤرخون لأحداث هذه المحنة أن المأمون
العباسي كتب إلى إسحاق بن إبراهيم - واليه علي بغداد (ت / 235 ه‍) - كتابا يأمره
فيه أن يمتحن القضاة والفقهاء والمحدثين في مسألة خلق القرآن فأحضر إسحاق جملة
كبيرة منهم، وفيهم أحمد بن

(1) موقف الخلفاء العباسيين من أئمة أهل السنة الأربعة: 351 - نقله عن جلاء
العينين للآلوسي: 185.
(2) موقف الخلفاء العباسيين من أئمة أهل السنة الأربعة: 351.
173

حنبل، فقال له: ما تقول في القرآن؟ قال: هو كلام الله. قال: أمخلوق هو؟ قال
: هو كلام الله لا أزيد عليها (1).
ثم اختلف قوله في عهد المعتصم، لما امتحنه في هذه المسألة، فقال: أنا رجل علمت
علما ولم أعلم فيه بهذا، فأحضر له الفقهاء، وناظره عبد الرحمن بن إسحاق وغيره
فامتنع أن يقول: إن القرآن مخلوق، فضرب عدة سياط، فقال إسحاق بن إبراهيم: ولني
يا أمير المؤمنين مناظرته، فقال: شأنك به، فقال إسحاق: هذا العلم الذي علمته نزل
عليك به ملك، أو علمته من الرجال؟
قال: بل علمته من الرجال.
قال: شيئا بعد شئ أو جملة؟
قال: علمته شيئا بعد شئ.
قال: فبقي عليك شئ لم تعلمه؟
قال: بقي علي.
قال: فهذا مما لم تعلمه، وقد علمكه أمير المؤمنين.
قال: فإني أقول بقول أمير المؤمنين!
قال: في خلق القرآن؟
قال في خلق القرآن!!
فأشهد عليه، وخلع عليه، وأطلقه إلى منزله (2).
ومما يؤيد هذه الرواية ما نقل عن الجاحظ (ت / 255 ه‍) في كلامه مع

(1) تاريخ الطبري 5: 190 - في حوادث سنة (218 ه‍).
(2) تاريخ اليعقوبي 2: 472 - في حياة المعتصم.
174

الحنابلة، فقال: قد كان صاحبكم هذا - أي: أحمد بن حنبل - يقول: لا تقية إلا في
دار الشرك. فلو كان ما أقر به من خلق القرآن كان منه على وجه التقية، فلقد عملها
في دار الإسلام.. ولو كان ما أقر به على الصحة والحقيقة فلستم منه وليس منكم، على
أنه لم ير سيفا مشهورا، ولا ضرب ضربا كثيرا، ولا ضرب إلا الثلاثين سوطا،
مقطوعة الثمار، مشبعة الأطراف، حتى أفصح بالإقرار مرارا ولا كان في مجلس ضيق، ولا
كانت حالته مؤيسة، ولا كان مثقلا بالحديد، ولا خلع قلبه بشدة الوعيد... (1).
أما في عهد المتوكل (ت / 247 ه‍)، فقد ارتفعت المحنة عنه، حيث أظهر المتوكل
ميله نحو المدرسة السلفية، وأرغم الناس على التسليم والتقليد، ونهاهم عن المناظرة
والجدل، وأمر الفقهاء والمحدثين بالرد على أصحاب المدرسة العقلية وشجعهم على
ذلك، وأمدهم بالأموال وكل ما يحتاجون إليه في سنة / 234 ه‍، فبالغوا في الثناء عليه
حتى قالوا: الخلفاء ثلاثة: أبو بكر الصديق رضي الله عنه في قتل أهل الردة،
وعمر بن عبد العزيز في رد المظالم، والمتوكل في إحياء السنة وإماتة
التجهم (2).
وفي ظل تلك الظروف المؤاتية أعلن الإمام أحمد بن حنبل رأيه بصراحة في مسألة خلق
القرآن، فقال: ومن زعم أن القرآن كلام الله ووقف، ولم يقل ليس بمخلوق، فهو أخبث
من القول الأول (3). أي: أخبث من القول بخلق القرآن.

(1) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة / العلامة أسد حيدر 2: 459.
(2) تاريخ الخلفاء / السيوطي: 346.
(3) طبقات الحنابلة 1: 29 - نقلا عن بحوث مع أهل السنة والسلفية / الروحاني:
183.
175

كما لعن من يقول القرآن كلام الله ويسكت، فقال: وقالت طائفة: القرآن كلام الله
وسكتت، وهي الواقفة الملعونة (1).
أقول: لا سبيل إلى إنكار تقية الإمام أحمد بن حنبل في هذه المسألة على جميع
التقديرات، وهي واقعة منه لا محالة سواء صح ما عن اليعقوبي والجاحظ، أو لم يصح -
عنهما - ذلك.
أما مع القول بصحة ما ذكراه، فالتقية واضحة، ولا لبس فيها.
وأما مع عدمه، فلا إشكال في وقوع التقية أيضا، لأن سكوته في عهد المأمون - إذا
ما قورن بتصريحه في عهد المتوكل - سيكون من أوضح مظاهر التقية.
ثم إن موقف الإمام أحمد بن حنبل مع فرض عدم اعترافه بخلق القرآن، لا دليل فيه على
عدم مشروعية التقية، غاية الأمر أنه رأى حرمة العمل بالتقية في هذا الموقف بعينه،
وعلى نفسه دون الآخرين، لأنه كان القدوة لعامة الناس، فرأى - كما يقول الأستاذ
الشملاوي - انه إذا ما لم يقف هذا الموقف، ينزلق هذا الرأي في هاوية لا ينبز له
رأس أبدا فوقف هذا الموقف محتملا أيضا انطلاقه - في هذا الموقف - من رأيه
الفقهي، انه لا تقية في دار الإسلام (2).
72 - البخاري (ت / 256 ه‍):
يمكن معرفة موقف البخاري من التقية، وذل من خلال ما قدمناه من

(1) الرد على الجهمية لابن حنبل في كتاب الدومي: 28 - نقلا عن بحوث مع أهل
السنة والسلفية: 184.
(2) التقية في إطارها الفقهي / الشملاوي: 190.
176

رواياته في أدلة السنة النبوية على مشروعية التقية، كما في الدليل الأول،
والثالث عشر، والرابع عشر، ومما لم نذكره هناك ما أخرجه في كتاب الإكراه، فقد ورد
فيه قوله تعالى: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح
بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم) (1)، وقوله تعالى: (إلا
أن تتقوا منهم تقاة) (2) قال البخاري معلقا: وهي التقية.
ثم أورد قوله تعالى: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم
قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض) (3). وعلق عليه بقوله:
فعذر الله المستضعفين الذين لا يمتنعون عن ترك ما أمر الله به، والمكره لا يكون
إلا مستضعفا غير ممتنع من فعل ما امر به، وقال النبي (ص): الأعمال
بالنية (4).
أقول: إن التقية هي من أرفق مبررات تجنب البخاري - في صحيحه - الرواية عن
الإمام الصادق عليه السلام، وإلا فإن أي سبب آخر لهذا الموقف فيه ما لا يرضاه أهل
السنة أنفسهم.
73 - الحسين بن الفضل البجلي (ت / 282 ه‍):
74 - زهير بن حرب أبو خيثمة الحرشي (ت / 234 ه‍):
روى الحافظ ابن عساكر (ت / 571 ه‍)، عن محمد بن عبد الله الحافظ قال: سمعت أبا
بكر محمد بن عبد الله بن يوسف الحفيد - من أصل كتابه - يقول:

(1) النحل 16: 106.
(2) آل عمران: 3 / 28.
(3) النساء: 4 / 97.
(4) صحيح البخاري 9: 34 - 35 - كتاب الإكراه.
177

سمعت الحسين بن الفضل البجلي رحمه الله يقول: دخلت على زهير بن حرب بعد ما قدم من
عند المأمون، وقد امتحنه، فأجاب إلى ما سأله، فكان أول ما قال لي: يا أبا علي!
تكتب عن المرتدين؟!
فقلت: معاذ الله، ما أنت بمرتد، وقد قال الله تبارك وتعالى: (ومن كفر
بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) (1)،
فوضع الله عن المكره ما يسمعه في القرآن (2).
قلت: ان قول زهير بن حرب: يا أبا علي تكتب عن المرتدين؟! فيه دلالة قوية على
عمل زهير بن حرب بالتقية طيلة حكم المأمون وقبل أن يمتحن زهير بذلك، وتوضيحه:
إنه كان يرى أن من يقول بخلق القرآن هو من المرتدين، ولا شك أن المرتد تجب
عليه أحكام الردة، وعلى هذا القول يكون المأمون وولاته من المرتدين!!
ولعمري، أي تقية أوضح من هذه التقية، إذ كيف له أن يلقى الله بإمامة مرتد
والصلاة خلف ولاته المرتدين، وأخذ عطائه منهم، والتقيد بأوامرهم، وهم من
المرتدين، فالتقية إذن عند من أجاب إلى ما سأله المأمون أو امتنع، ويرى رأي زهير
بن حرب واقعه لا بد.
75 - الجوهري (ت / 393):
قال عن الرجل المؤمن من آل فرعون الذي يكتم إيمانه تقية: وقد أثنى الله

(1) النحل: 16 / 106.
(2) تبيين كذب المفتري / ابن عساكر: 352 - 353.
178

على رجل مؤمن من آل فرعون كتم إيمانه وأسره، فجعله الله تعالى في كتابه، وأثبت
ذكره في المصاحف، لكلام قاله في مجلس من مجالس الكفر (1).
وهذا الكلام لا يمكن صدوره عمن لا يرى مشروعية التقية، حتى وإن لم يكن من أهل
الإسلام. فكيف وقائله العالم المسلم الجوهري اللغوي المشهور؟
76 - الفقيه السرخسي (ت / 490 ه‍):
قال عن تقية عمار بن ياسر (ت / 37 ه‍) وأصحابه: هذا النوع من التقية يجوز لغير
الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام... (2).
وعلق على كلام الحسن البصري (ت / 110 ه‍): (إن التقية جائزة إلى يوم القيامة)،
بقوله: وبه نأخذ، والتقية أن يقي نفسه من العقوبة بما يظهره وإن كان يضمر خلافه.
وقد كان بعض الناس يأبى ذلك، ويقول إنه من النفاق، والصحيح ان ذلك جائز، لقوله
تعالى: (إلا أن تتقوا منهم تقاة)، وإجراء كلمة الشرك على اللسان مكرها مع
طمأنينة القلب بالإيمان، من باب التقية (3).
77 - الغزالي (ت / 505 ه‍):
قال في إحياء علوم الدين تحت عنوان: بيان ما رخص فيه من الكذب ما

(1) المحرر الوجيز / ابن عطية الأندلسي 14: 132.
(2) المبسوط / السرخسي 24: 25.
(3) م. ن: 24 - 45.
179

نصه: إعلم إن الكذب ليس حراما لعينه، بل لما فيه من الضرر على المخاطب أو على
غيره، فإن أقل درجاته أن يعتقد المخبر الشئ على خلاف ما هو عليه فيكون جاهلا،
وقد يتعلق به ضرر غيره.
ورب جهل فيه منفعة ومصلحة، فالكذب محصل لذلك الجهل، فيكون مأذونا فيه، وربما
كان واجبا.
- ثم قال -: الكلام وسيلة إلى المقاصد، فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه
بالصدق والكذب جميعا، فالكذب فيه حرام.
وإن أمكن التوصل إليه بالكذب دون الصدق، فالكذب فيه مباح، إن كان تحصيل ذلك القصد
مباحا، وواجب إن كان المقصود واجبا، كما أن عصمة دم المسلم واجبة. فمهما كان في
الصدق سفك دم امرئ مسلم قد اختفى من ظالم، فالكذب فيه واجب (1).
وقال أيضا: فللرجل أن يحفظ دمه وماله الذي يؤخذ ظلما، وعرضه بلسانه وإن كان
كاذبا (2).
ثم بين الغزالي عدم جدوى الصدق في بعض الحالات فقال: فلو صدق الإنسان في مواضع
الضرر تولد من صدقه محذور، فكان عليه أن يقابل أحدهما بالآخر، ويزن بالميزان
القسط، فإذا علم أن المحذور الذي يحصل بالصدق أشد وقعا في الشرع من الكذب فله أن
يكذب.
وإن كان المقصود أهون من مقصود الصدق، فيجب الصدق. وقد يتقابل

(1) إحياء علوم الدين / الغزالي 3: 137.
(2) م. ن 3: 138.
180

الأمران بحيث يتردد فيهما، وعند ذلك، الميل إلى الصدق أولى، لأن الكذب يباح
لضرورة، أو حاجة مهمة (1).
أقول: وليت من أنكر التقية يعلم أن الغزالي قد أباح الكذب لتحصيل الحاجات
المهمة. مع أن من يتقي بضغط الإكراه هو خارج عن حكم الافتراء بنص القرآن الكريم
كما تقدم.
78 - ابن قدامة الحنبلي (ت / 620 ه‍):
صرح ابن قدامة الحنبلي بعدم جواز الصلاة خلف المبتدع والفاسق إلا إذا خاف مما
يلحقه من ضرر إن ترك الصلاة خلفه، ففي هذه الحالة يمكنه أن يصلي خلفه تقية ثم
يعيد الصلاة، واحتج عليه بما روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري (ت / 78 ه‍) انه
قال: سمعت النبي (ص) على منبره يقول: لا تؤمن امرأة رجلا، ولا يؤم أعرابي
مهاجرا، ولا يؤم فاجر مؤمنا إلا أن يقهره بسلطان، أو يخاف سوطه، أو سيفه (2).
79 - ابن أبي الحديد المعتزلي (ت / 656 ه‍):
ذكر ابن أبي الحديد المعتزلي الحنفي في شرح النهج ما دار بينه وبين أبي جعفر بن أبي
زيد الحسني نقيب البصرة من كلام في شأن أمير المؤمنين علي عليه السلام وذلك في شرح
فقرة من فقرات النهج، وهي من قول الإمام علي عليه السلام: والله ما معاوية
بأدهى مني، ولكنه يغدر ويفجر... إلخ (3)، وذلك تحت

(1) إحياء علوم الدين / الغزالي 3: 138.
(2) المغني / ابن قدامة 2: 186 و 192.
(3) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 10: 223 رقم 193.
181

عنوان: كلام أبي جعفر الحسني في الأسباب التي أوجبت محبة الناس لعلي.
فقال: وكان أبو جعفر رحمه الله لا يجحد الفاضل فضله، والحديث شجون.
قلت له مرة: ما سبب حب الناس لعلي بن أبي طالب عليه السلام وعشقهم له، وتهالكهم
في هواه؟ ودعني في الجواب من حديث الشجاعة والعلم والفصاحة، وغير ذلك من الخصائص
التي رزقه الله سبحانه الكثير الطيب منها!
فضحك، وقال لي: كم تجمع جراميزك علي؟
- وبعد كلام طويل في غاية الدقة - قال: فقلت له: إنه لم يثبت النص عندنا بطريق
يوجب العلم، وما تذكرونه أنتم صريحا فأنتم تنفردون بنقله، وما عدا ذلك من الأخبار
التي نشارككم فيها، فلها تأويلات معلومة.
فقال لي - وهو ضجر -: يا فلان لو فتحنا باب التأويلات لجاز أن يتناول قولنا: (لا
إله إلا الله، محمد رسول الله)، دعني من التأويلات الباردة التي تعلم القلوب
والنفوس انها غير مرادة، وان المتكلمين تكلفوها وتعسفوها، فإنما أنا وأنت في
الدار ولا ثالث لنا، فيستحي أحدنا أو يخافه.
- قال ابن أبي الحديد -: فلما بلغنا هذا الموضع، دخل قوم ممن كان يخشاه، فتركنا
ذلك الأسلوب من الحديث، وخضنا في غيره (1).
ويستفاد مما تقدم جملة أمور:
منها: ان ابن أبي الحديد لم يكن شيعيا قط - راجع كلامه وتدبر ما فيه -

(1) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 10: 227.
182

وإنما كان عالما منصفا لا تخشى بوادره.
ومنها: انه كان يرى التقية، لأنه شارك السيد الحسني في ترك هذا الأسلوب من
الحديث، والخوض في غيره، لا سيما وأنه قال: (فتركنا) و (وخضنا).
ومنها: تخوف العلماء من الحديث عن علي عليه السلام، حتى في أواخر الدولة
العباسية، وما يستتبع خوفهم هذا من التقية.
على أن ما جرى لابن أبي الحديد والسيد الحسني مرة واحدة، يجري كل يوم مرات، ولو
راجع الإنسان نفسه لوجد انه قد طبق هذا الموقف في حياته، أو أدركه من غيره، وما
أكثر الكلام الذي تغير مجراه التقية، أو تحوله إلى همس فجأة!
80 - يحيى بن شرف النووي الشافعي (ت / 676 ه‍):
بين النووي في شرح حديث صحيح مسلم الخاص بذكر الدجال وفتنته الدلائل التي يعجز
عنها الدجال على الرغم مما يظهر على يديه من المخاريق، ثم قال: ولهذه الدلائل
وغيرها لا يغتر به إلا رعاع الناس لسد الحاجة والفاقة، رغبة في سد الرمق، أو
تقية وخوفا من أذاه، لأن فتنته عظيمة جدا، تدهش العقول، وتحير
الألباب... (1).
أقول: إن اغترار الرعاع من الناس بالدجال ممكن، والتعليل بسد الحاجة والفاقة
ممكن أيضا، أما من يتقيه فلا يمكن أن يغتر به، وإن حصلت تقية

(1) صحيح مسلم بشرح النووي 18: 59 - باب ذكر الدجال.
183

هناك، فلا تكون إلا ممن عرف حقيقة الدجال وكذبه، والمهم هنا هو تصريح النووي
بالتقية.
81 - الشوكاني الزيدي (ت / 1250 ه‍):
رد الشوكاني على من زعم أن التقية تجوز في القول دون الفعل، بظاهر قوله تعالى:
(إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان)، فقال: ويدفعه ظاهر الآية، فإنها
عامة فيمن أكره من غير فرق بين القول والفعل، ولا دليل لهؤلاء القاصرين للآية
على القول (1).
82 - الآلوسي الحنبلي (ت / 1270 ه‍):
قال عن آية التقية: وفي هذه الآية دليل على مشروعية التقية ثم نقل تعريف
التقية عند أهل السنة - كما مر في الفصل الأول.
83 - جمال الدين القاسمي (ت / 1332 ه‍):
قال: ومن هذه الآية: (إلا أن تتقوا منهم تقاة) استنبط الأئمة مشروعية
التقية عند الخوف، وقد نقل الإجماع على جوازها عند ذلك الإمام مرتضى اليماني في
كتابه إيثار الحق على الخلق، فقال ما نصه:
وزاد الحلف غموضا وخفاء أمران:
أحدهما: خوف العارفين - مع قلتهم - من علماء السوء، وسلاطين الجور، وشياطين
الخلق، مع جواز التقية عند ذلك بنص القرآن، وإجماع أهل الإسلام.
وما زال الخوف مانعا من إظهار الحق، ولا برح المحق عدوا لأكثر الخلق،

(1) فتح القدير / الشوكاني 3: 197.
184

وقد صح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال في ذلك العصر الأول: حفظت من رسول
الله (ص) وعاءين، فأما أحدهما فبثثته في الناس، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا
البلعوم... (1).
84 - المراغي (ت / 1364 ه‍):
عمم الشيخ محمد مصطفى المراغي العمل بالتقية - قولا وفعلا - ولم يقيدها
بالإكراه على تلفظ كلمة الكفر، بل أخرجها - إن صح التعبير - عن دائرة الإكراه
الفردي، وأباحها للدول الإسلامية عند تعاملها مع الدول الأخرى، كما لم يقيد
التقية بحالات الخوف أو الضعف عند الإكراه عليها، بل أطلق استعمالها في جميع ما
يعود بالنفع للدول الإسلامية، ومصالح المسلمين، وفي كل آن وزمان، وفي الشدة
والرخاء.
قال: فلا مانع من أن تحالف دولة إسلامية دولة غير مسلمة لفائدة تعود على الأولى،
إما بدفع ضرر، أو جلب منفعة، وليس لها أن تواليها في شئ يضر بالمسلمين، ولا تختص
هذه الموالاة بحال الضعف، بل هي جائزة في كل وقت، وقد استنبط العلماء من هذه الآية
(3: 28) جواز التقية بأن يقول الإنسان، أو يفعل ما يخالف الحق، لأجل التوقي من
ضرر الأعداء، يعود إلى النفس، أو العرض، أو المال...
ويدخل في التقية مداراة الكفرة، والظلمة، والفسقة، وإلانة الكلام لهم، والتبسم في
وجوههم، وبذل المال لهم لكف أذاهم، وصيانة العرض منهم، ولا يعد هذا من الموالاة
المنهي عنها، بل هو مشروع.

(1) تفسير القاسمي (محاسن التأويل) 4: 82.
185

فقد أخرج الطبراني قوله (ص): ما وقى به المؤمن عرضه فهو صدقه (1).
85 - تقية رجال المذهب الوهابي:
إن المذهب الوهابي هو فرع المذهب الحنبلي، لأن مؤسسة وهو الشيخ محمد عبد الوهاب
(ت 1206 ه‍ / 1791 م) كان حنبليا، ودعوته وإن اتسمت باللا مذهبية، وذلك بإنشاء مذهب
جديد في بعض أصوله، إلا ان فروع هذا المذهب لم تزل حنبلية، ولم يطرأ عليها تبديل
أو تعديل.
ورجال المذهب لا ينكرون التقية، بل عملوا بها علنا بمرأى ومسمع جميع
المسلمين، ويدل عليه موقفهم المعلن إزاء الأضرحة، والمشاهد المقدسة، وقبور
الأولياء والصالحين، التي تحولت في أرض الحجاز إلى أطلال تلوح كباقي الوشم في
ظاهر اليد!
ولكنهم تركوا قبر النبي (ص)، وقبري أبي بكر وعمر على حالها، مداراة منهم لمشاعر
الملايين من المسلمين، واتقاء من غضبهم، ولا يوجد تفسير لذلك غير التقية.
86 - موسى جار الله التركماني (ت / 1369 ه‍):
ونختم هذه المواقف بموقف صاحب الوشيعة الذي نعى على الشيعة الإمامية قولهم بالتقية
وسفه عقولهم!!

(1) تفسير المراغي 3: 136 - 137، وحديث الطبراني أخرجه الحاكم في المستدرك 2: 50،
والبيهقي في السنن الكبرى 10: 242 وشعب الإيمان 3: 264 / 3495، والبغوي في معالم
التنزيل 5: 294، والهيثمي في مجمع الزوائد 3: 136، وابن حجر العسقلاني في فتح
الباري 10: 447، والسيوطي في الدر المنثور 5: 239، وإسماعيل بن محمد العجلوني
في كشف الخفاء 1: 418.
186

قال في الوشيعة: التقية في سبيل حفظ حياته، وشرفه، وحفظ ماله، وفي حمايته حق من
حقوقه واجبة على كل أحد، إماما كان أو غيره (1).
وقال أيضا: والتقية، هي: وقاية النفس من اللائمة والعقوبة، وهي بهذا المعنى من
الدين، جائزة في كل شئ (2).
وقال أيضا: والتقية واجبة إن كان في تركها ضرر لنفسه، أو غيره، حرام عند أمن
الضرر، مكروهة حيث يخاف الناس الالتباس على العوام (3).
قلت: إن الشيعة الإمامية قسموا التقية بموجب الأحكام التكليفية الخمسة (4).
وبهذا يتضح أن الشيعة الإمامية لا تختلف عن سائر المذاهب والفرق الإسلامية في
شئ من التقية، إلا ما كان من تعرض الشيعة الإمامية في تاريخها الطويل إلى الظلم
والاضطهاد والجور والتعسف أكثر من إخوانهم المسلمين.
على أن هذا لا يعني أن الشيعة قد لازمت التقية في طيلة تلك العهود الظالم أهلها،
بل على العكس من ذلك حيث كانت تنتفض بين حين وآخر معبرة عن رفضها للظلم والاضطهاد،
مقدمة في ذلك آلاف الشهداء كما تشهد بذلك

(1) الوشيعة في نقد عقائد الشيعة / موسى جار الله: 37.
(2) م. ن: 72.
(3) م. ن: 85.
(4) التقية / الشيخ مرتضى الأنصاري: 39 - 40.
ثوراتهم وانتفاضاتهم عبر التاريخ.
187

الإشارة إلى من صرح بالتقية من غير هؤلاء إجمالا
وقبل الانتقال إلى الفصل الثالث نشير إجمالا إلى ما لم نذكره - في هذه المواقف -
من أسماء العلماء الذي استعملوا التقية أو صرحوا بها إذ مر ذكرهم في الفصل
الأول، وهم:
87 - ابن ماجة صاحب السنن (ت / 274 ه‍).
88 - الطبري (ت / 310 ه‍).
89 - الجصاص الحنفي (ت / 370 ه‍).
90 - الماوردي الشافعي (ت / 450 ه‍).
91 - الواحدي الشافعي (ت / 468 ه‍).
92 - الكيا الهراسي الشافعي (ت / 504 ه‍).
93 - الزمخشري المعتزلي (ت / 538 ه‍).
94 - ابن عطية المالكي (ت / 541 ه‍).
95 - ابن العربي المالكي (ت / 543 ه‍).
96 - ابن الجوزي الحنبلي (ت / 597 ه‍).
97 - الرازي الشافعي (ت / 606 ه‍).
98 - القرطبي المالكي (ت / 671 ه‍).
99 - البيضاوي الشافعي (ت / 685 ه‍).
100 - الخازن الشافعي (ت / 741 ه‍).
101 - ابن جزي الكلبي المالكي (ت / 741 ه‍).
102 - تاج الدين الحنفي (ت / 749 ه‍).
103 - أبو حيان الأندلسي المالكي (ت / 754 ه‍).
188

104 - ابن كثير الشافعي (ت / 774 ه‍).
105 - ابن نجيم الحنفي (ت / 790 ه‍).
106 - النيسابوري السني (ت / 850 ه‍).
107 - ابن حجر العسقلاني الشافعي (ت / 852 ه‍).
108 - الشربيني الشافعي (ت / 977 ه‍).
109 - البرسوي الحنفي (ت / 1137 ه‍).
110 - النووي الشافعي (ت / 1316 ه‍).
111 - ابن أطفيش الإباضي الخارجي (ت / 1332 ه‍).
112 - المعاصر الصابوني الوهابي.
إلى غيرهم مما سيأتي من الفقهاء في الفصل الذي عقدناه للحديث عن التقية في فقه
المذاهب والفرق الإسلامية من غير الشيعة الإمامية، بما لا يقل عددهم عن عدد
المفسرين.
الفصل الثالث: التقية في فقه المذاهب والفرق الإسلامية
التقية في الفقه المالكي
التقية في الفقه الحنفي
التقية في الفقه الشافعي
التقية في الفقه الحنبلي
التقية في الفقه الزيدي
التقية في الفقه الطبري
التقية في الفقه الظاهري
التقية في فقه الخوارج الإباضية
التقية عند المعتزلة
189

تمهيد:
مر في الفصل الأول أن التقية لا تجوز اختيارا من غير اكراه من ظالم عليها، ولم
أقف على من صرح من علماء الإسلام - بشتى مذاهبهم وفرقهم - من أباحها اختيارا،
وإنما اتفقوا جميعا على تقييدها بحالات الإكراه.
ولهذا نجد الفقهاء قد خصصوا في كتبهم الفقهية كتابا بعنوان الإكراه تناولوا
فيه جميع ما يتعلق بالتقية من أمور ومسائل، بيد أن بعضا منهم لم يفرد للاكراه
كتابا خاصا، وإنما وزع مسائله على كتب الفقه من عبادات، ومعاملات، وعقود،
وايقاعات، وذلك بحسب مسائل الإكراه المتعلقة بهذه الكتب، كالإمام مالك بن أنس (ت /
179 ه‍) في المدونة الكبرى، حيث لم يجمع مسائل الإكراه تحت عنوان واحد، وهذا ما
يتطلب من الباحث المزيد من الجهد والوقت لتتبع هذه المسائل لمعرفة الرأي الفقهي
فيها، هذا فضلا عن ضخامة كتب الإكراه نفسها في الدورات الفقهية المعروفة لدى
المذاهب الإسلامية، كالمبسوط للسرخسي الحنفي (ت / 490 ه‍) حيث خصص معظم الجزء
الرابع والعشرين للاكراه، وقد تعرض لموضوع التقية وأحكامها وتفصيلاتها بشكل مستوعب
ومطول، وهكذا فعل غيره من فقهاء المذاهب الأخرى، بما لا يمكن معه استيعاب ما
ذكروه جميعا في هذا الفصل، إذ
190

يحتاج إلى دراسة مستقلة واسعة، ولهذا سنذكر في هذا الفصل بعض النماذج الفقهية التي
اطردت على ألسن الفقهاء والمفسرين لكل مذهب، وعلى النحو الآتي:
194

التقية في الفقه المالكي
ذكر الإمام مالك بن أنس (ت / 279 ه‍) في المدونة الكبرى عدم وقوع طلاق المكره على
نحو التقية، محتجا بذلك بقول الصحابي ابن مسعود: ما من كلام يدرأ عني سوطين من
سلطان إلا كنت متكلما به (1).
ولا شك أن الاحتجاج بهذا القول يعني جواز إظهار خلاف الواقع في القول عند
الإكراه، ولو تم بسوطين.
كما أفتى ابن عبد البر النمري القرطبي المالكي (ت / 463 ه‍) بعدم وقوع عتق وطلاق
المكره (2) ولو كانت التقية لا تجوز في العتق والطلاق عند الإكراه من ظالم عليهما
لقال بوقوعهما.
كما ذهب علماء المالكية إلى جواز التلفظ بكلمة الكفر عند الإكراه تقية على النفس
من التلف، مع وجوب اطمئنان القلب بالإيمان.
فقد ذكر ابن العربي المالكي (ت / 543 ه‍) ان من يكفر تقية وقلبه مطمئن

(1) المدونة الكبرى / مالك بن أنس 3: 29 - كتاب الإيمان بالطلاق وطلاق المريض، تحت
عنوان: (ما جاء في طلاق النصرانية والمكره والسكران).
(2) الكافي في فقه أهل المدينة المالكي / ابن عبد البر: 503.
195

بالإيمان، لا تجري عليه أحكام المرتد، لعذره في الدنيا، مع المغفرة في الآخرة، ثم
صرح بعدم الخلاف في ذلك.
ومن الأمور التي تصح فيها التقية عند الإكراه: الزنا، فيجوز الاقدام عليه ولا
حد على من أكره عليه.
كما صرح بأن الإكراه إذا وقع على فروع الشريعة لا يؤاخذ المكره بشئ، محتجا
بالحديث المشهور: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، ويستثنى من
ذلك ما خرج بدليل معتبر، كالإكراه على القتل. فإذا أكره المرء على القتل فقتل،
يقتل.
ثم ذكر اختلاف المالكية في الإكراه على اليمين، هل تصح التقية فيه؟ أو لا تصح،
واختار الأول (1).
وذكر ابن جزي المالكي (ت / 741 ه‍) جواز التلفظ بكلمة الكفر عند الإكراه عليها.
اما السجود للصنم، فقد صرح بجوازه عند الجمهور، قال: ومنعه بعضهم.
ثم قال: قال مالك: لا يلزم المكره يمين، ولا طلاق، ولا عتق، ولا شئ فيما بينه
وبين الله، ويلزمه ما كان من حقوق الناس، ولا تجوز الإجابة إليه كالإكراه على قتل
أحد، أو أخذ ماله (2).
وهذا القول يعني ان الإمام مالكا كان يرى التقية في جميع العبادات لأنها

(1) أحكام القرآن / ابن العربي 3: 1177 / 1182.
(2) تفسير ابن جزي: 366.
196

مما بين الله تعالى والعبد، وأما غير ذلك فلا يعني عدم جواز التقية فيه مع الخوف
من القتل، كما يفهم من عبارة ابن العربي المالكي، قال في تفسير قوله تعالى:
(الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق) (1)، هذا: دليل على نسبة الفعل
الموجود من الملجأ المكره إلى الذي ألجأه وأكرهه، ويترتب عليه حكم فعله، ولذلك
قال علماؤنا: إن المكره على اتلاف المال يلزمه الغرم، وكذلك المكره على قتل
الغير يلزمه القتل (2).
بمعنى أن التقية في إتلاف المال جائزة، ولكن الغرم يكون على من أكره على الاتلاف.
اما القتل فلا يجوز تقية، ويقتل القاتل - كما صرح به آنفا - ولكن القصاص يسري
إلى المكره فيقتل أيضا.
أما أبو حيان الأندلسي المالكي (ت / 754 ه‍) فيرى صحة التقية من كل غالب يكره
بجور منه، فيدخل في ذلك الكفار، وجورة الرؤساء، والسلابة، وأهل الجاه في الحواضر.
كما تصح التقية عنده في حالة الخوف على الجوارح، والضرب بالسوط، والوعيد، وعداوة
أهل الجاه الجورة، وانها تكون بالكفر فما دونه، من بيع وهبة ونحو ذلك (3).
وقد فصل القرطبي المالكي (ت / 671 ه‍) القول فيما تصح فيه التقية، وسنذكر - مع
الاختصار - بعض ما ذكره، على النحو الآتي:
1 - تجوز التقية في تلفظ كلمة الكفر ولا شئ على المكره مع اطمئنان القلب

(1) أحكام القرآن / ابن العربي 3: 1298.
(2) م. ن 3: 1298.
(3) البحر المحيط / أبو حيان 2: 424.
197

بالإيمان، وقد حكى الإجماع على ذلك.
2 - التقية رخصة، تجوز في القول والفعل على حد سواء، قال: روي ذلك عن عمر بن
الخطاب ومكحول، وهو قول مالك وطائفة من أهل العراق. روى ابن القاسم، عن مالك أن
من أكره على شرب الخمر وترك الصلاة أو الإفطار في رمضان أن الاثم عنه مرفوع.
3 - السجود للصنم تقية جائز.
4 - يجوز الاقدام على الزنا عند الإكراه ويسقط الحد.
5 - اختلاف العلماء في طلاق المكره وعتاقه واختار جواز التقية فيه ولا يلزمه شئ من
ذلك. ونسبه إلى أكثر العلماء.
6 - نقل إجماع المالكية على أن بيع المكره على الظلم والجور لا يجوز ونسبه إلى
الأبهري. ومثله نكاح المكره.
7 - إذا استكرهت المرأة على الزنا فلا حد عليها.
8 - إذا أكره الإنسان على تسليم أهله لما لم يحل أسلمها، ولم يقتل نفسه دونها ولا
احتمل أذية في تخليصها!!
9 - يمين المكره غير لازمة عند مالك والشافعي وأبي ثور وأكثر العلماء، قال ابن
الماجشون: وسواء حلف فيما هو طاعة لله أو فيما هو معصية إذا أكره على اليمين.
10 - لا يقع الحنث عند الإكراه.
11 - الاتفاق على صحة توكيل الإنسان حال تقيته (1).

(1) الجامع لأحكام القرآن 10: 180 - 191 في تفسير الآية (106) من سورة النحل.
198

اما التقية عند ابن عطية الأندلسي المالكي (ت / 541 ه‍) فتجوز في تلفظ كلمة
الكفر، وحكى جواز السجود إلى الصنم عند الإكراه، كما تصح في البيع، والأيمان،
والطلاق، والعتق، والإفطار في شهر رمضان، وشرب الخمر، ونحو ذلك من المعاصي، ثم
أكد أن هذا هو المروي عن مالك بن أنس من طريق مطرف، وابن عبد الحكم، وأصبغ، وانه
لا يشترط في التقية تحقق الإكراه المفضي إلى القتل، وإنما يكفي في ذلك أن يكون
الإكراه قيدا، أو سجنا، أو وعيدا مخوفا، وإن لم يقع ما يوعد به (1).
وقد سئل ابن أبي عليش المالكي (ت / 1299 ه‍): ما قولكم فيمن أكره على شرب
الخمر، أو سائر النجاسات، فهل يجوز له ذلك لخوف ضرب مؤلم؟ أم كيف الحال؟.
فقال في جواب هذا السؤال: فأجبت بما نصه: الحمد لله، والصلاة والسلام على
سيدنا محمد رسول الله. قال الثنائي، عن سحنون: ولو أكره على أكل الميتة، ولحم
الخنزير، وشرب الخمر، لم يجز إلا لخوف القتل، انتهى.
وهو مبني على أن الإكراه لا يتعلق بالفعل، والمذهب تعلقه به، فيكون بما مر من
خوف مؤلم... إلخ، وهو قول لسحنون أيضا، وهو المعتمد لا ما ذكره... (2).

(1) الجامع لأحكام القرآن 10: 376 - 377 - المسألة السادسة من مسائل الآية (19) من
سورة الكهف.
(2) فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك / أبو عبد الله محمد بن
أحمد عليش 1: 191.
199

التقية في الفقه الحنفي
أما عن التقية في الفقه الحنفي، فهي واسعة جدا، وقد جوزها فقهاء الأحناف في
أمور هي في غاية الدقة والخطورة، ونظرا لاتساع مسائل التقية في الفقه الحنفي
لذا سنعتمد في دراستنا للتقية عندهم على بعض كتبهم المهمة فقهيا ومن ثم الإشارة
السريعة إلى ما ورد من تلكم المسائل في مصادرهم الأخرى، مراعين بذلك الاختصار،
فنقول:
جاءت في كتاب فتاوى قاضيخان للفرغاني الحنفي (ت / 295 ه‍)، أمور كثيرة، جوز فيها
التقية، نذكر منها:
1 - إذا أكره الرجل بقتل، أو إتلاف عضو من أعضائه على أن يقتل رجلا مسلما
فقتله، فهل يصح مثل هذا الإكراه؟ وهل يحكم على القاتل بالقصاص، أو لا؟
قال أبو حنيفة ومحمد: يصح الإكراه، ويجب القصاص على المكره، دون المأمور.
وقال أبو يوسف: يصح الإكراه، ولا يجب القصاص على أحد!! وكان
200

على الآمر دية المقتول في ماله في ثلاث سنين!!
ثم نقل عن زفر، إن هذا الإكراه باطل، ويجب القصاص على القاتل، وهو المأمور. ونقل
عن مالك والشافعي، أنهما يقتلان، الآمر والمأمور (1).
وسيأتي عن الشافعي في أحد قوليه، وأحمد بن حنبل في رواية عنه أنه لا حد على
القاتل!
ومن الجدير بالإشارة، هو ان المتفق عليه بين علماء الشيعة الإمامية قاطبة هو
حرمة التقية في الدماء، وانه لا اكراه في ذلك، وان من يقتل تحت ذريعة الإكراه هو
كم يقتل باختياره عمدا، قال الإمام الباقر عليه السلام: إنما جعلت التقية ليحقن
بها الدم، فإذا بلغ الدم فليس تقية (2).
2 - لو أكره السلطان رجلا على أن يقطع يد رجل فقطعها، ثم قطع يده الأخرى، أو
رجله من غير اكراه، ولم يأمره السلطان بذلك، أي: قطعها اختيارا، فهل يجب عليه
القصاص فيما قطعه مختارا؟
الجواب: لا قصاص عليه، وعلى الآمر، وتجب الدية عليهما من مالهما عند أبي يوسف (3)
!
3 - لو أفطر الصائم في يوم من أيام شهر رمضان عن عمد واصرار، ثم أكرهه السلطان -
بعد ساعة أو ساعتين من الإفطار المتعمد في شهر رمضان - على السفر في ذلك اليوم، فهل
يكون مكرها على الإفطار؟ وتسقط عنه

(1) فتاوى قاضيخان / الفرغاني 5: 484 - مطبوع بهامش الفتاوى الهندية.
(2) أصول الكافي / الكليني 2: 174 / 16 - كتاب الإيمان والكفر، باب التقية،
والمحاسن للبرقي: 259 / 310 - كتاب مصابيح الظلم، باب التقية.
(3) فتاوى قاضيخان 5: 486.
201

الكفارة؟ أم لا؟
الجواب: روى ابن زياد عن أبي حنيفة، سقوط الكفارة عنه (1)!
4 - لو أكره الرجل على قتل موروثه بوعيد قتل، فقتل، لا يحرم القاتل من
الميراث، وله أن يقتل المكره قصاصا لموروثه في قول أبي حنيفة ومحمد.
وهذا يعني أن للرجل أن يقتل أباه تقية على نفسه من القتل!
ولو أكره على أن يظاهر امرأته كان مظاهرا، ولو أكره على الإيلاء صح إيلاؤه، ولو
أكره على الطلاق يقع الطلاق (2).
وهذا يعني انعدام الفرق بين الاجبار والاختيار، في حالتي الطلاق والظهار، وعدم
الأخذ بحديث إنما الأعمال بالنيات المدعى تواتره.
5 - تجوز التقية إذا كان الإقدام على الفعل أولى من الترك، وقد تجب إذا صار بالترك
آثما، كما لو أكره على أكل الميتة، أو أكل لحم الخنزير، أو شرب الخمرة.
ويجوز للمكره النطق بكلمة الكفر، وسب النبي (ص)، وقلبه مطمئن بالإيمان.
ولو أكرهت المرأة على الزنا بقيد أو حبس، لا حد عليها، لأنها وإن لم تكن مكرهة،
فلا أقل من الشبهة (3).
6 - لو أكره الرجل على أن يجامع امرأته في شهر رمضان نهارا، أو أن

(1) فتاوى قاضيخان 5: 487.
(2) م. ن 5: 489.
(3) م. ن 5: 489 - 492.
202

يأكل أو يشرب ففعل، فلا كفارة عليه، ويجب عليه القضاء (1).
اما عن الإكراه نفسه، ففي قول أبي حنيفة انه لا يتحقق إلا من السلطان، وخالفه
صاحباه محمد وأبو يوسف بتحققه من كل متغلب يقدر على تحقيق ما هدد به، قال
الفرغاني: وعليه الفتوى، ولو أمر السلطان من غير تهديد يكون اكراها (2).
وقال الجصاص الحنفي (ت / 370 ه‍): من امتنع من المباح كان قاتلا نفسه، متلفا
لها عند جميع أهل العلم، ولو مات على هذه الحال كان عاصيا لله تعالى (3) ومن
المباح الذي ذكره قبل ذلك هو أكل الميتة وغيرها من المعاصي عند الإكراه عليها أو
الاضطرار إليها، وعليه فالتقية واجبة فيما أباحه الإكراه عنده، وقد جوزها في شرب
الخمر، وأكل الميتة، وقذف المحصنات (4).
وفي كتاب المبسوط للسرخسي الحنفي (ت / 490 ه‍): يجوز ترك الصلاة الواجبة عند
الإكراه على تركها، وكذلك الافطار في شهر رمضان المبارك، وقذف المحصنات، والافتراء
على المسلم.
وكما تصح التقية في هذه الأمور تصح أيضا في حالات كثيرة أخرى فيما لو أكره
المرء عليها.
منها الزنا، وأكل الميتة، وأكل لحم الخنزير، وشرب الخمرة، وان من لم

(1) فتاوى قاضيخان 5: 487.
(2) م. ن 5: 483.
(3) أحكام القرآن / الجصاص 1: 127.
(4) م. ن 3: 192.
203

يفعل ذلك وهو يعلم أنه يسعه كان آثما، وليس له أن يمتنع منه، كما جوز كلمة الشرك
على اللسان تقية عند الإكراه (1).
اما الإكراه المبيح لذلك عند الجصاص الحنفي، هو أن يخاف على نفسه أو بعض أعضائه
من التلف، إن لم يفعل ما أكره عليه.
أما الكاساني الحنفي (ت / 587 ه‍) فقد توسع في هذه المسائل كثيرا، وسنختصر بعض ما
قاله في بيان ما يقع عليه الإكراه.
ان الإكراه عند الكاساني الحنفي في الأصل نوعان: نوع حسي، وآخر شرعي، وكل واحد
منهما على ضربين: معين، ومخير فيه.
أما الإكراه الحسي المعين:
فيشمل الأكل، والشرب، والشتم، والاتلاف، والقطع عينا.
وأما الإكراه الشرعي:
فيشمل الطلاق، والعتاق، والتدبير، والنكاح، والرجعة، واليمين، والنذر، والظهار،
والإيلاء، والبيع، والشراء، والهبة، والإجارة، والإبراء عن الحقوق، والكفالة
بالنفس، وتسليم الشفعة، وترك طلبها ونحوها.
اما التصرفات الحسية من أكل وشرب ونحوهما، فيتعلق بها حكمان، وهما:
الحكم الأول:
يرجع إلى الآخرة وهو على ثلاثة أنواع: مباح، ومرخص، وحرام.

(1) المبسوط / السرخسي 24: 48 و 51 و 77 و 78 و 152، وقد ذكر أمورا أخرى كثيرة
جدا، راجع الجزء الرابع والعشرين - كتاب الإكراه الذي شغل معظم صحائف هذا الجزء
من المبسوط.
204

ويدخل في النوع الأول: أكل الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وشرب الخمر، فللمكره ان
يتناولها، ولا يباح له الامتناع، ولو امتنع فقتل، يؤاخذ، لأنه ألقى بنفسه إلى
التهلكة. فالتقية واجبة في النوع الأول من الحكم الأول عنده.
ويدخل في النوع الثاني، اجراء كلمة الكفر على اللسان مع اطمئنان القلب بالإيمان،
وهذا هو محرم في نفسه ولكن رخصة التقية غيرت حكم الكفر وهو المؤاخذة، ولم تغير
وضعه وهو الحرمة التي سقطت بعذر الإكراه.
ومثل هذا شتم النبي (ص)، وشتم المسلم، وإتلاف مال المسلم، أو مال نفسه، كل ذلك إذا
كان الإكراه بوعيد متلف، وإلا فلا يرخص بذلك، وكذا بالنسبة إلى النوع الأول.
ويدخل في النوع الثالث، قتل المسلم، وضرب الوالدين، والزنا بالنسبة للرجل، اما
المرأة ففيه اختلاف، واختار الكاساني حرمته.
الحكم الثاني:
يرجع إلى الدنيا.
المكره على المباح كشرب الخمر ونحوه لا يجب عليه شئ.
والمكره على الكفر لا يحكم عليه بالكفر.
والمكره على اتلاف مال الغير لا ضمان عليه، وإنما المكره هو الضامن.
والمكره على القتل لا قصاص عليه عند أبي حنيفة وصاحبه محمد، ولكن يعزر القاتل،
ويجب القصاص على المكره، وعند أبي يوسف لا يجب القصاص لا على المكره ولا على
المكره، وإنما تجب الدية على الأول.
205

والمكره على الزنا لا يجب عليه الحد إذا كان الإكراه من السلطان عند أبي حنيفة،
وأما المرأة فلا حد عليها، إلى آخر ما ذكره من كلام طويل أخذنا موضع الحاجة
منه (1).
اما ابن نجيم الحنفي (ت / 790 ه‍) فقد نص على قاعدة هامة توجب على المكره أو
المضطر الموازنة بين المفسدة الناتجة من الاقدام على الفعل المكره عليه أو المضطر
إليه، وبين المفسدة الناتجة من حالة الترك، وعليه - بعد ذلك - أن يراعي أعظمها
ضرارا، فيرتكب أخفهما. ثم نقل عن الزيلعي قوله: الأصل في جنس هذه المسائل: إن
من ابتلي ببليتين، وهما متساويتان، يأخذ بأيهما شاء، وإن اختلفتا يختار أهونهما،
لأن مباشرة الحرام، لا تجوز إلا للضرورة، ولا ضرورة في حق الزيادة (2).
وفي مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر لداماد أفندي الحنفي (ت / 1078 ه‍): إن البيع
لا ينفذ مع الإكراه، ولا دفع الهبة، وللمكره على إتلاف مال المسلم أن يتلفه،
والضمان على المكره، وإذا علم المكره ان المكره له على القتل سيقتله إن لم
يقتل، فله أن يقتل والقصاص على من أكرهه، وعند أبي يوسف لا يجب القصاص على أحد (3)
وقد اعتذر السرخسي عن قول أبي يوسف هذا، فقال: وكان هذا القول لم يكن في السلف،
وإنما سبق به أبو يوسف رحمه الله واستحسنه (4).

(1) بدائع الصنائع / الكاساني الحنفي 7: 175 - 191.
(2) الأشباه والنظائر / ابن نجيم الحنفي: 89.
(3) مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر / داماد أفندي 2: 431 - 433.
(4) المبسوط / السرخسي 24: 45.
206

ونكتفي بهذا القدر محيلين من أراد المزيد عن التقية في فقه الأحناف إلى مصادرهم
الفقهية (1).

(1) الهداية / المرغيناني 3: 275، شرح فتح القدير / ابن عبد الواحد 8: 65، اللباب
/ الميداني 4: 107، النتف في الفتاوى / السغدي 2: 696، البحر الرائق / ابن نجيم 8
: 70، تحفة الفقهاء / السمرقندي 3: 273، الفتاوى الهندية / الشيخ نظام 5: 35،
مجمع الضمانات / ابن محمد البغدادي: 204، رد المحتار على الدر المختار / ابن
عابدين 5: 80، تقريرات الرافعي على حاشية ابن عابدين / محمد رشيد الرافعي 2:
278، الفروق / الكرابيسي 2: 260، غمز عيون البصائر / شهاب الدين الحموي 3: 203 و
4: 339، والمبسوط للسرخسي الجزء الرابع والعشرون كله تقريبا.
207

التقية في الفقه الشافعي
تصح التقية عند الإمام الشافعي (ت / 204 ه‍) في الأمور التي يباح للمكره التكلم
بها، أو فعلها مع كونها محرمة شرعا.
من ذلك التلفظ بكلمة الكفر، مع اطمئنان القلب بالإيمان، ذلك لأن قول المكره - عند
الشافعي - كما لم يقل في الحكم، وقد أطلق القول فيه، حتى اختار عدم ثبوت يمين
المكره عليه، واحتج له بما ورد في الكتاب العزيز، والسنة المطهرة، ونسب القول
بهذا إلى عطاء بن أبي رباح (ت / 114 ه‍) أحد أعلام التابعين (1).
وقال الكيا الهراسي الشافعي (ت / 504 ه‍) عمن يكفر بالله تعالى مكرها وقلبه مطمئن
بالإيمان: إن حكم الردة لا يلزمه... إن المشرع غفر له لما يدفع به عن نفسه من
الضرر... واستدل به أصحاب الشافعي على نفي وقوع طلاق المكره، وعتاقه، وكل قول
حمل عليه بباطل، نظرا لما فيه من حفظ حقه عليه، كما امتنع الحكم بنفوذ ردته
حفظا على دينه (2).

(1) أحكام القرآن / الإمام الشافعي 2: 114 - 115.
(2) أحكام القرآن / الكيا الهراسي 3: 246.
208

وتصح التقية عند الرازي الشافعي (ت / 606 ه‍) في شرب الخمرة، وأكل الميتة وأكل لحم
الخنزير، وتجب التقية إذا كان الإكراه عليها بالسيف، لأن الحفاظ على الحياة واجب،
للنهي الوارد في القرآن الكريم عن القاء النفس إلى التهلكة.
والمباح عند الفخر الرازي هو النطق بكلمة الكفر، ولا يجب عليه النطق، وإنما يباح،
والحرام هو القتل، وإن قتل المكره ففي أحد قولي الشافعي يجب القصاص (1) أما القول
الآخر فلا يجب. والظاهر، بل المتيقن من كلام فقهاء الشافعية ومفسريهم ان القول
الأول أصح، وهو القول الذي عليه الفتيا عندهم.
على أن الرازي لم يقيد ما ذكره من التقية بحالة بكون الإكراه من كافر لمسلم، بل
جوزه فيما لو حصل من مسلم لآخر ناسبا ذلك القول إلى الإمام الشافعي (2).
كما قال ابن حجر العسقلاني الشافعي (ت / 852 ه‍) برخصة التقية عند الإكراه على تلفظ
كلمة الكفر (3)، وقد مر في الفصل الأول ترخيص ذلك للمكره من قبل الكثيرين من
مفسري الشافعية ولا حاجة إلى إعادة أقوالهم.
وعند النووي الشافعي (ت / 676 ه‍) لو حلف إنسان بالله تعالى كاذبا، فلا كفارة عليه
إن كان مكرها عليه، ذلك لأن يمين المكره غير لازمة عند مالك، والشافعي، وأبي
ثور، وأكثر العلماء... وأما المكره، فلا تصح يمينه لما

(1) التفسير الكبير / الرازي 20: 121.
(2) م. ن 8: 14.
(3) فتح الباري / ابن حجر العسقلاني 12: 263.
209

روى واثلة بن الأسقع، وأبو امامة (رضي الله عنهما) - أن رسول الله (ص) قال:
ليس على مقهور يمين (1).
ونفى النووي القطع بحق السارق عند الإكراه على السرقة، كما حكم بعدم ردة المكره
على الكفر (2).
وقد علق الشربيني الشافعي (ت / 977 ه‍) على قول النووي بعد أن استدل بالآية الكريمة
من قوله تعالى: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) فقال: لا يكون
مرتدا، لأن الإيمان كان موجودا قبل الإكراه، وقول المكره ملغى ما لم يحصل فيه
اختيار لما أكره عليه، كما لو أكره على الطلاق، فإن العصمة كانت موجودة قبل
الإكراه، فإذا لم يحصل منه اختيار لما أكره عليه، لم يقع عليه طلاق (3).
أما لو أكره رجل على قتل المسلم بغير حق فقتله، قال النووي الشافعي في المجموع
- بعد أن أوجب القود على المكره -: وأما المكره - بالفتح - ففيه قولان:
أحدهما: لا يجب عليه القود، لأنه قتله للدفع عن نفسه، فلم يجب عليه القود، كما لو
قصده رجل ليقتله للدفع عن نفسه (4)!
وهذا القول، وكل قول أسقط القصاص عن القاتل كرها هو في غاية الصراحة بجواز التقية
في الدماء، التي سبق إليها أبو يوسف فأسقط

(1) المجموع شرح المهذب / النووي 18: 3.
(2) منهاج الطالبين / النووي 4: 137 و 174.
(3) مغني المحتاج في شرح المنهاج / الشربيني 4: 137 - مطبوع بحاشية منهاج
الطالبين.
(4) المجموع شرح المهذب / النووي 18: 391.
210

القصاص من الجميع القاتل والآمر بالقتل!
ومن التقية في الفقه الشافعي، سقوط الحد عمن تزني كرها، كما صرح به الإمام
الشافعي.
قال: إذا استكره الرجل المرأة أقيم عليه الحد، ولم يقم عليها، لأنها
مستكرهة (1).
ولو كانت التقية محرمة في حالة الإكراه على الزنا مطلقا، لأوجب الحد على من تزني
كرها، كما أوجبه على من يكرهها عليه.
ومن موارد التقية أيضا، ما صرح به السيوطي الشافعي (ت / 911 ه‍) من جواز النطق
بكلمة الكفر عند الإكراه، ونقل عن بعضهم بأن الأفضل هو التلفظ صيانة للنفس. ثم
ذكر مواردا أخرى جوز فيها التقية عند الإكراه.
منها: السرقة، وشرب الخمرة، وشرب البول، وأكل الميتة، وأكل لحم الخنزير، وإتلاف
مال الغير، وأكل طعام الغير، وشهادة الزور - إن كانت في إتلاف الأموال - والإفطار
في شهر رمضان، وترك الصلاة المفروضة، والزنا على قول.
وباختصار: إن كل ما يسقط بالتوبة الخالصة لله تعالى يسقط بالإكراه، على حد
تعبيره (2).
ثم بين بعد تلك الأمور التي جوز فيها التقية عدم اشتراط كون الإكراه عليها
بالقتل أو الوعيد المتلف للأعضاء وما شابه ذلك من الإكراهات

(1) الام / الإمام الشافعي 6: 155.
(2) الأشباه والنظائر في قواعد وفروع الفقه الشافعي / السيوطي: 207 - 208.
211

الشديدة، فقال عما يحصل به الإكراه ما نصه:
إنه يحصل بكل ما يؤثر العاقل الإقدام عليه حذرا مما هدد به، وذلك يختلف
باختلاف الأشخاص، والأفعال المطلوبة، والأمور المخوف بها، فقد يكون الشئ إكراها
في شئ دون غيره، وفي حق شخص دون آخر (1)، ولله دره على هذا الكلام!

(1) الأشباه والنظائر في قواعد وفروع الفقه الشافعي / السيوطي: 209.
212

التقية في الفقه الحنبلي
صرح ابن قدامة الحنبلي (ت / 620 ه‍) بإباحة التقية في حالات الإكراه، وقال في تبرير
إباحة فعل المكره: وإنما أبيح له فعل المكره عليه، دفعا لما يتوعده
(المكره) به من العقوبة فيما بعد (1).
ومن التقية في الفقه الحنبلي، الإكراه على كلمة الكفر. وقد صرح بذلك مفسرو
الحنابلة كابن الجوزي (ت / 597 ه‍) في زاد المسير، فقد نص على جواز الكفر تقية عند
الإكراه على الكفر.
أما الاكراه المبيح لذلك عند أحمد بن حنبل (ت / 241 ه‍) في أصح قوليه، أنه يخاف
على نفسه، أو على بعض أعضائه التلف إن لم يفعل (2).
وعند ابن قدامة: إن من أكره على كلمة الكفر فأتى بها تقية لا يحكم بردته، قال
: وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والشافعي ثم استدل بالكتاب العزيز، والسنة
المطهرة على صحة ما ذهب إليه.

(1) المغني / ابن قدامة 8: 262.
(2) زاد المسير / ابن الجوزي 4: 696.
213

بل وحتى لو كان الأمر ظاهرا في إكراه المسلم على النطق بالكفر من غير تهديد،
ووعيد، وضرب لا يحكم بردته، إن قامت البينة على أنه كان محبوسا عند الكفار، أو
مقيدا عندهم، وهو في حالة خوف (1).
ومن مسائل الإكراه التي تصح معه التقية في الفقه الحنبلي ما ذكره ابن قدامة، منها
: الزنا، فمن استكره امرأة على الزنا، فعليه الحد دونها، لأنها معذورة، وعليه
مهرها، حرة كانت أو أمة، وبه قال مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة لا يجب المهر،
لأنه وطء يتعلق به وجوب الحد، فلم يجب به المهر، كما لو طاوعته.
قال: والصحيح الأول، لأنها مكرهة على الوطء الحرام فوجب لها المهر (2).
وقال في مسألة أخرى: ولا حد على مكرهة في قول عامة أهل العلم، روي ذلك عن عمر،
والزهري، وقتادة، والثوري، والشافعي، وأصحاب الرأي، ولا نعلم فيه مخالفا، وذلك
لقول رسول الله (ص): عفى لامتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه.
ثم روى آثارا عن الصحابة تدل على صحة ذلك (3).
وقال في مسألة أخرى: وإن أكره الرجل فزنى، فقال أصحابنا عليه الحد... وقال
أبو حنيفة: إن أكرهه السلطان، فلا حد عليه، وإن أكرهه غيره حد استحسانا. وقال
الشافعي، وابن المنذر: لا حد عليه لعموم الخبر (4).

(1) المغني / ابن قدامة 10 - 97 - مسألة: 7116.
(2) م. ن 5: 412 - مسألة 3971.
(3) م. ن 10: 154 - مسألة: 7166.
(4) م. ن 10: 155 - مسألة: 7167.
214

ومنها: لو أكرهت المرأة على الجماع، فلا كفارة عليها في الفقه الحنبلي، رواية
واحدة، وعليها القضاء (1).
ومنها: الإكراه على الطلاق، فلو أكره الرجل على طلاق زوجته، لم يلزمه، ولا تختلف
الرواية عن الإمام أحمد بن حنبل في عدم صحة طلاق المكره، وهذا هو المروي - كما
صرح به ابن قدامة - عن علي عليه السلام، وعمر، وابن عباس، وابن الزبير، وجابر بن
سمرة قال: وبه قال عبد الله بن عبيد بن عمير، وعكرمة، والحسن، وجابر بن زيد،
وشريح، وعطاء، وطاوس، وعمر بن عبد العزيز، وابن عون، وأيوب السختياني، ومالك،
والأوزاعي، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو عبيد.
وأجازه أبو قلابة، والشعبي، والنخعي، والزهري، وأبو حنيفة، وصاحباه، لأنه طلاق من
مكلف في محل يملكه، فينفذ كطلاق غير المكره.
ثم احتج للأول بحديث: وضع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه (2).
ومن هنا يتبين ان التقية في الزنا تسقط الحد عن المرأة، ولا مخالف فيه، وللمرأة
أن تتقي لو أكرهت على الجماع، ولا كفارة عليها، كما أن التقية تصح عند الإكراه
على الطلاق في الفقه الحنبلي وإن كان لا يلزم المكره طلاقا، أما الذي ألزمه
الطلاق، فلم يمنع من التقية فيه أيضا.
ويدخل في التقية لدى الحنابلة الأكل من الميتة، وسائر المحرمات الأخرى

(1) المغني 3: 62 - مسألة: 2055.
(2) م. ن 8: 260 - مسألة: 5846.
215

التي لا تزيل العقل، ويباح ذلك لمن اضطر إليها.
قال الفقيه الحنبلي بهاء الدين عبد الرحمن بن إبراهيم المقدسي (ت / 624 ه‍): أجمع
العلماء على إباحة الأكل من الميتة للمضطر، وكذلك سائر المحرمات، التي لا تزيل
العقل (1).
ولا يخفى أن الداعي لإباحة أكل الميتة وإتيان سائر المحرمات الأخرى التي لا تزيل
العقل هو الاضطرار إليها، والاضطرار الذي يحصل من جراء مخمصة، يحصل أيضا من
الإكراه الشديد عليها.

(1) العدة في شرح العمدة / المقدسي الحنبلي: 464.
216

التقية في الفقه الزيدي
جاء في البحر الزخار لأحمد بن مرتضى اليماني الزيدي (ت / 840 ه‍) إن: ما أباحه
الاضطرار أباحه الإكراه، لقوله تعالى: (إلا ما اضطررتم إليه) وقال أيضا: (إلا
من أكره) وهي في عمار وياسر حين أكرها على الكفر. وترك ما أكره عليه أفضل وإن
قتل (1).
وقد وضح الصعدي الزيدي (ت / 957 ه‍) في جواهر الأخبار ما أشار إليه أحمد بن مرتضى
اليماني في البحر الزخار من نزول قوله تعالى: (إلا من أكره) في عمار بن ياسر (ت
/ 37 ه‍) رضي الله عنه.
وقال في البحر أيضا: والإكراه يكون بوعيد القادر، إما بقتل، أو قطع عضو، أو
ضرب، أو طعن بذي حد، وهذا مؤثر إجماعا. وإما بلطم أو ضرب، فيشترط كونه مؤثرا
في التضرر، واما الحبس فلا بد من كونه كذلك، فالساعة ليس بإكراه، والسنة
اكراه، وما بينهما مختلف، والضابط التضرر، ومنه القيد، والكتف، وطرح العمامة،
والجر بالرجل في الملأ،

(1) البحر الزخار / أحمد بن مرتضى 6: 98 كتاب الإكراه.
217

فيؤثر فيمن له رتبة علم، أو شرف لا في ذوي الدناءة، وكذلك السب والشتم... وفي
الوعيد بأخذ المال، وجهان: أصحهما إكراه.
ثم عدد بعد ذلك الأمور المختلف فيها، هل هي اكراه، أو لا؟ فقال: والعبرة في
التضرر، أي يجري مجرى حدوث علة، أو زيادتها، أو استمرارها كما مر لأصحابنا فيما
يبيح ترك الواجب (1).
ويفهم من ذلك - لا سيما مع قوله المتقدم، ما أباحه الاضطرار أباحه الإكراه - ان
التقية تصح عنده في جميع هذه الأمور التي حسبها إكراها.
كما أنه أباح التقية فيما لم يتعد ضرره إلى الغير وادعى عليه الإجماع، فقال:
وما لم يتعد ضرره إلى الغير فيباح له كلمة الكفر والمسكر ونحوه إجماعا، ولا يباح
القذف بالإكراه، ولا السب لتعدي ضررهما، وتعظيم الله تعالى إياه لتسميته
(بهتانا عظيما) (2)، ولا يباح الزنا بالإكراه إجماعا، ويصح إكراه المرأة فيسقط
الحد والإثم، حيث لا تمكن من الدفع، ويباح مال الغير بالإكراه بشرط الضمان
كالاضطرار.
ثم بين اختلافهم في إكراه الرجل على الزنا بين سقوط الحد وبين وجوب إقامته (3).
على أن بعض الأمور التي منع فيها التقية، قد خالفه بها الإمام محمد بن علي
الشوكاني (ت / 1250 ه‍)، وهو من أشهر أئمة الزيدية المعروفين، في الفقه، والأصول،
والتفسير، والحديث، وسيمر بنا كلامه.

(1) البحر الزخار 6: 99.
(2) كما في سورة مريم، الآية 156.
(3) البحر الزخار 6: 100.
218

وجاء في حدائق الأزهار: ويجوز باكراه القادر بالوعيد بقتل أو قطع عضو كل محظور،
إلا الزنا. وإيلامه أوهى، وسبه، ولكن يضمن المال، ويتأول كلمة الكفر، وما لم يبق
له فيه فعل فكلا فعل، وبالاضرار ترك الواجب، وبه تبطل أحكام العقود. وكالإكراه
خشية الغرق ونحوه (1).
وقد شرح الشوكاني عبارة الحدائق في سيله الجرار، بأن جواز فعل ما يكره عليه
بالوعيد بالقتل، أو قطع العضو، قد أذن به الشرع، ورفع التكليف به، قال: ولا شك
أن الكفر هو الغاية التي ليس ورائها غاية في معصية الله عز وجل، وقد أباح الله
التكلم بكلماته مع الإكراه، بقوله (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان
ولكن من شرح بالكفر صدرا) (2) (3).
ثم قال: وأما الإكراه بالاضرار فقط، فالظاهر أنه يجوز به فعل المحظور...
وأيضا قد أباح الله أكل الميتة لمجرد الاضطرار إليها، وأكلها من جملة المحظورات
كما هو معلوم. ومن جملة ما يدل على الجواز - مع مطلق الضرر - قوله عز وجل: (إلا
أن تتقوا منهم تقاة) (4) (5).
ثم بين وجه استثناء الزنا من المحظورات، لأنه فاحشة كبرى، أما وجه استثناء
إيلام الآدمي، فلأنه لا يجوز دفع الضرر عن نفسه بإنزاله بغيره.
ورد على الحدائق بأنه لا وجه لمنع سب الآدمي عند الإكراه، كما رد القول

(1) حدائق الأزهار / أحمد بن يحيى الملقب بالمهدي: 264 مطبوع مع شرحه السيل
الجرار للشوكاني.
(2) النحل: 16 / 106.
(3) السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار / الشوكاني 4: 264.
(4) آل عمران 3: 28.
(5) السيل الجرار 4: 265.
219

بضمان المكره لما أتلف من مال كرها، وأوجبه على المكره، فقال: لأنه لا حكم
لمباشرته مع الإكراه، بل يكون الضمان على فاعل الإكراه (1).
وقال في شرح عبارة الحدائق - وبالاضرار ترك الواجب، وبه تبطل أحكام العقود -:
أقول: إذا جاز بالاضرار فعل ما حرمه الله سبحانه - كما قررنا - فكيف لا يجوز
به ترك الواجب؟ وكيف لا تبطل به المعاملات؟ فإن بطلانها مما لا ينبغي أن يتردد
فيه متردد، أو يشك فيه شاك.. ان المناط الشرعي في جميع المعاملات هو التراضي
كما قال عز وجل: (تجارة عن تراض) (2)، وأي رضا يوجد مع الإكراه؟ (3).
وقد مر في الفصل الأول عن الشوكاني أيضا تجويزه الموالاة للكافر تقية لمحافظة
النفس، أو العرض، أو المال عند الإكراه عليها (4) مصرحا بإجماع أهل العلم على
مشروعية التقية بقوله:
أجمع أهل العلم على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل، إنه لا إثم
عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا تبين منه زوجته، ولا يحكم عليه بحكم
الكفر (5).

(1) السيل الجرار 4: 265.
(2) النساء 4: 29.
(3) السيل الجرار / الشوكاني 4: 266.
(4) فتح القدير / الشوكاني 1: 331.
(5) م. ن 3: 197.
220

التقية في الفقه الطبري
شهد القرن الرابع الهجري تطورا عظيما في الفقه الإسلامي، حيث نشأت في ذلك العصر
مذاهب فقهية كثيرة، وما لبث بعضها ان أصبح في خبر كان لانقراض أتباعه بعد حين.
ومن هذه المذاهب هو المذهب الطبري - نسبة إلى أبي جعفر محمد بن جرير الطبري (ت /
310 ه‍) - الذي لم يبق من مؤلفات هذا المذهب سوى كتب الطبري، وأهمها تفسيره.
وقد مر في الفصل الأول ما يثبت ان الطبري من القائلين بجواز التقية عند
الإكراه، ولا داعي لإعادة ما ذكر من أقواله هناك، أو ما نقله هو عن كبار الصحابة
والتابعين في مشروعية التقية في الإسلام.
221

التقية في الفقه الظاهري
ومن عداد المذاهب الفقهية المنقرضة هو المذهب الظاهري نسبة إلى أبي سليمان داود بن
علي بن داود الأصفهاني (ت / 270 ه‍).
وهو أول من استعمل قول الظاهر، وأخذ بالكتاب والسنة، وألغى ما سوى ذلك من الرأي
والقياس، وقد نشر فقهه من بعده ولده محمد بن داود (ت / 297 ه‍) الذي ترك بعض
المصنفات في فقه أبيه منها: كتاب الانذار، وكتاب الأعذار، ثم جاء بعده ابن
المغلس أبو الحسن عبد الله بن أحمد بن محمد (ت / 324 ه‍) الذي انتهت إليه رئاسة
المذهب الظاهري في عصره، وقد ترك عدة كتب على طريقة أهل الظاهر (1).
وقد قدر لهذا المذهب أن يمتد به العمر زمنا حتى كان من أبرز أنصاره فيما بعد ابن
حزم الظاهري (ت / 456 ه‍) الذي يعد كتابه المحلى من أهم ما وصل إلينا من كتب هذا
المذهب الفقهية، ولهذا سنعتمد ما في هذا الكتاب لبيان حقيقة التقية وواقعها في فقه
المذهب الظاهري، فنقول:

(1) فهرست ابن النديم: 305 - 306.
222

أفرد ابن حزم الظاهري في المحلى كتابا بعنوان كتاب الإكراه، فصل فيه الأمور
التي يسع الإنسان إتيانها عند الإكراه عليها، ولا شئ عليه من ذلك، كما فصل الحديث
عن الأمور التي لا يجوز فعلها ولا تصح التقية فيها، وذلك في مسائل، نذكر منها ما
يأتي:
قال في أحدها: فمن أكره على شرب الخمر، أو أكل الخنزير، أو الميتة، أو الدم، أو
بعض المحرمات، أو أكل مال مسلم، أو ذمي فمباح له أن يأكل ويشرب ولا شئ عليه، لا
حد ولا ضمان (1).
وفي مسألة أخرى: فلو أمسكت امرأة حتى زني بها، أو أمسك رجل فادخل إحليله في
فرج امرأة فلا شئ عليه، ولا عليها سواء انتشر أو لم ينتشر، أنزلت هي أو لم تنزل،
لأنهما لم يفعلا شيئا أصلا، والإمناء فعل الطبيعة الذي خلقه الله تعالى في
المرء، أحب أم أكره، لا اختيار له في ذلك (2).
وقال في كلام طويل صحح فيه الإكراه على البيع، والشراء، والإقرار، والهبة،
والصدقة، والنكاح، والطلاق، والرجعة، والعتق، والنذر، واليمين، ثم فصل الكلام في
مناقشته للأحناف فيما يلزم من ذلك أن وقع من المكره، وفيما لا يلزمه.
ثم رد على من حكم بامضاء نكاح المكره، أو طلاقه، أو عتقه وقال بوجوب إقامة الحد
على من يتزوج المطلقة أو المعتقة إكراها، بل وحتى الواطي في نكاح الإكراه عده
زانيا (3).

(1) المحلى / ابن حزم 8: 330 - مسألة: 1404.
(2) م. ن 8: 331 - مسألة: 1405.
(3) م. ن 8: 331 - 335 - بعد المسألة: 1406.
223

وقال في مسألة أخرى: ومن أكره على سجود لصنم، أو لصليب فليسجد لله تعالى
مبادرا إلى ذلك، ولا يبالي في أي جهة كان ذلك الصنم والصليب (1).
ثم قال: ولا فرق بين إكراه السلطان، أو اللصوص، أو من ليس سلطانا، كل ذلك سواء
في كل ما ذكرنا (2) ورد على من قال بأن الإكراه لا يكون بضرب سوط أو سوطين،
وعده تقسيما فاسدا لم يأت به قرآن ولا سنة، وانه غير معقول، وأخرج في تأييده
رده عن ابن مسعود أنه كان يقول: ما من ذي سلطان يريد أن يكلفني كلاما يدرأ
عني سوطا أو سوطين إلا كنت متكلما به قال: ولا يعرف له من الصحابة - رضي
الله عنهم - مخالف (3).
كما جوز في المسألة الأخيرة من مسائل الإكراه، الإكراه على النذر واليمين، ورد
ردا عنيفا على من قال بأن نذر المكره يلزمه، وكذا يمينه (4).

(1) المحلى / ابن حزم 8: 335 - مسألة: 1407.
(2) م. ن 8: 335 - مسألة: 1408.
(3) م. ن 8: 336 - مسألة: 1409.
(4) م. ن 8: 336 - مسألة: 1410.
224

التقية في فقه الخوارج الإباضية
الإباضية فرقة من فرق الخوارج، وسميت بذلك نسبة إلى عبد الله بن إباض المقاعسي
المري التميمي (ت / 86 ه‍)، ويكثر تواجدهم اليوم في سلطنة عمان، والجزائر في المغرب
العربي، وهم من القائلين بالتقية كما صرحت بذلك كتبهم الفقهية، فقد ورد في كتاب
المعتبر لأبي سعيد محمد بن سعيد الكدمي الإباضي، وهو من فقهاء الإباضية في القرن
الرابع الهجري في باب (ما يجوز به معنى التقية في الأرحام ونحوهم من القول) ما نصه
:
التقية في ذوي الأرحام، والجار، والصاحب جائزة، يظهر إليه الجميل والدعاء، حتى
أنك تحمد أمره ولو كنت لا تتولاه (1).
وهذا هو قول أبي جابر محمد بن جعفر الأزكوي الإباضي المتوفى في النصف الثاني من
القرن الثالث الهجري، وهو من أكبر أئمة الخوارج الإباضية كما جاء في تقديم كتاب
المعتبر.
وفيه أيضا:

(1) المعتبر / أبو سعيد الكدمي الإباضي 1: 212.
225

والعذر في التقية في الدين فيما يجوز، كالعذر في التقية في النفس فيما يجوز...
ومن كان في حال التقية جاز له أن يدعو لمن لا يتولاه بما يدعو به لأهل الولاية،
ويعقد المعنى لغيره (1).
ثم نقل عن الأزكوي المتقدم قوله: إن الجبن في مواطن الحق نفاق وعقبه بقوله:
من غير تقية تسعه وتجوز له، وهو قادر على ذلك... وأما إن كان الجبن غريزة فيه
لا يقدر على القيام بذلك العارض من الحق، أو كان الحق غير واجب عليه، أو كان في
حال تقية توسع بها مما يسعه في دين أو نفس أو مال... ان هذا لا يكون من النفاق،
وإنما النفاق ما أوجب الكفر من ركوب المعصية، وترك شئ من اللازم، أو ركوب شئ من
المحارم بغير عذر له في الدين (2).
وقال في مكان آخر: ومن كان في حال التقية أو في غير حال التقية، ولقي كافة الخلق
بأحسن ما يقدر عليه، ما لم يضيع حقا لله في حال ذلك بدخوله في باطل، أو خروجه من
حق، فهو معنا من أفضل الأعمال، وأحسن الأحوال، من الوسائل والفضائل، وربما كان
ذلك من الواجب اللازم، ولا شك أنه من المروءة والمكارم، ثم ضرب لذلك بعضا من
السيرة النبوية المطهرة، إلى أن قال: وقد كان النبي (ص) في حال التقية وحال
قدرة (3).
ثم قال: وروي عن بعض أهل العلم انه كان يكتب إلى بعض من كان فسقه ظاهرا مع
الناس - وأحسب انه كان من أعوان السلطان -، وكان في كتابه: حباك الله وحفظك...
ثم بين أن هذا القول لا يجوز أن يقال إلا على

(1) المعتبر / أبو سعيد الإباضي 1: 216.
(2) م. ن 1: 218.
(3) م. ن 1: 213 - 214.
226

نحو التقية، ثم قال: إنه جائز أن يتكلم الإنسان بكلام على غير ما يكون، يريد
به الإصلاح بين الناس، وصرف الباطل، وإدخال الحق... ولا يكون على هذه المعاني
كذبا، لأن الكذب إنما هو عقد كذبا، وهذا إنما عقد للإحسان، والإصلاح،
والحق، وصرف الباطل، فلا يكون كذبا، وفيه الأجر والثواب (1).
وقال السمدي الإباضي (ت / 557 ه‍) في الفصل الثالث والأربعين في الصدق والكذب، من
كتابه (المصنف): إنه من كذب كذبة فهو منافق، إلا أن يتوب، فان تاب، وإلا برئ
منه. ومن يقول إنه منافق، يقول: إنها كبيرة ما كانت إلا في تقية أو إصلاح (2).
وفي كتاب النيل وشفاء وشفاء العليل للثميني الإباضي (ت / 1223 ه‍) ما نصه: جاز
لمكره اتقاء إن خاف قتلا، أو ضربا عنيفا، أو خلودا في سجن أو مثله، وقيل: حتى
يشار عليه بسيف أو سوط، والأول أليق (3).
وقال محمد بن يوسف أطفيش الإباضي (ت / 1333 ه‍) في شرح هذه العبارة: (جاز لمكره
اتقاء... أو خلودا) مكثا طويلا (في سجن أو مثله) كقطع أنملة، أو حلق لحية، وفق ء
عين (وقيل حتى يشار عليه بسيف أو سوط) أو نحوهما (والأول أليق) ولعله إذا رفع
السيف، أو السوط، وأشار به لا يرده حتى يقضي ما أراد، فإذا خاف ذلك أعطى الجبار
ما أراد من قول لا يجوز،

(1) المعتبر / الإباضي 1: 214 - 215.
(2) المصنف / أبو بكر أحمد بن عبد الله بن موسى الكندي السمدي الإباضي 2: 203 -
من المجلد الأول.
(3) كتاب النيل وشفاء العليل / عبد العزيز الثميني الإباضي 4: 360.
227

ويعقد خلافه في قلبه، أو من فعل إن أجاز العلماء التقية به.
وعن بعض: ما من كلمة ترفع ضربة أو ضربتين إلا أقولها، وأجاز بعضهم التكلم بترحم
الكافر، جلبا للنفع، أو دفعا لضر ما، وذلك إذا احتيج إليه... (1).
وقد قصر في النيل الإكراه على الشروع بالضرب (2)، فرده الشارح بقوله: والصحيح ما
مر إنه تسعه التقية إذا خاف ولو قبل الشروع. ومن استحلفه السلطان بالطلاق، أو
الإعتاق وخاف إن لم يحلف أن يفعل به ما مر، أو ضربة، أو ضربتين - على قول - جاز
الحلف بهما، وكذا إن أكرهه عليهما بلا تحليف جاز له النطق بهما (3).
كما ورد في كتاب النيل: ان السلطان إذا نادى إلى بيعته، فذهب شخص إليه، وحلف على
البيعة لزمه ما حلف عليه إن حنث (4).
قال الشارح: من لم يجئ عاقبته بقتل أو ضرب أو نحو ذلك، جاز الخروج إليه والتقية،
ولا حنث في ذلك (5).
أما من يكفر بالله تعالى مكرها، وقلبه مطمئن بالإيمان، فليس بكافر، وإن جرى لفظ
الكفر على لسانه، وهذا من التقية، وهو جائز كما صرح به أطفيش

(1) شرح كتاب النيل وشفاء العليل / محمد بن يوسف أطفيش 4: 360.
(2) كتاب النيل 4: 361.
(3) شرح كتاب النيل 4: 361.
(4) كتاب النيل 4: 361.
(5) شرح كتاب النيل 4: 361.
228

في تفسيره (1)، مع حرمة التقية عنده على القتل أو الزنا، وانه لا يعذر من يقتل أو
يزني وإن كان مكرها (2).

(1) تيسير القرآن / محمد بن يوسف أطفيش 7: 97.
(2) م. ن 7: 99.
229

التقية عند المعتزلة
مر في الفصل الثاني إن واصل بن عطاء رأس الاعتزال (ت / 131 ه‍) قد اتقى من الخوارج
كما نص عليه ابن الجوزي الحنبلي (ت / 597 ه‍)، وقد ذكرنا تقيته برقم / 50 في موقف
التابعين من التقية.
وذكرنا أيضا ضمن موقف تابعي التابعين من التقية، برقم / 78 تقية ابن أبي الحديد
المعتزلي (ت / 656 ه‍).
اما الزمخشري المعتزلي (ت / 538 ه‍) فقد استثنى المكره من حكم الافتراء كما مر في
الآية الثانية من الآيات الدالة على مشروعية التقية، في الفصل الأول.
كما رخص للمكره التلفظ بكلمة الكفر تقية، ولا شئ عليه مع اطمئنان القلب بالإيمان
- وقد مر ذلك أيضا في الآية الأولى في الفصل الأول.
ويمكن أن يقال بأن رد الجاحظ المعتزلي (ت / 255 ه‍) على الحنابلة المتقدم في تقية
أحمد بن حنبل برقم / 70، قد تضمن اعتراف الجاحظ بالتقية، حيث أشار إلى الإكراه
المبيح للتقية كما في قوله: على أنه - أي الإمام أحمد - لم ير
230

سيفا مشهورا، ولا ضرب ضربا كثيرا.
فهذا الكلام يدل على أن من أكره بالسيف أو ضرب ضربا شديدا أو خوف به فله -
عند الجاحظ أن يداري من أكرهه بالتقية.
وقد صرح الهادي المعتزلي يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي - من أعلام القرن الثالث
الهجري بمشروعية التقية، قال: أما المداراة للظالمين باللسان، والهبة، والعطية،
ورفع المجلس، والإقبال بالوجه عليهم، فلا بأس (1).
وبهذا نكون قد أعطينا صورة واضحة عن التقية في فقه المسلمين بشتى مذاهبهم وفرقهم
المعروفة.

(1) مسائل الهادي يحيى بن الحسين الرسي: 107 - نقلا عن: معتزلة اليمن - دولة
الهادي وفكره / علي محمد زيد: 190.
231

الخلاصة
لقد تأكد من خلال هذا البحث أن التقية من دين الإسلام الحنيف.
أما من حيث ما يدل على كونها من الدين.
فالقرآن الكريم.
والسنة المطهرة.
وإجماع علماء الإسلام.
وهذا هو ما بينه البحث في فصله الأول.
ولقد كانت لنا جولة واسعة مع المفسرين في هذا الفصل، استعرضنا فيها أقوال أشهر
المفسرين لدى المذاهب الإسلامية عموما، وبما يزيد على قول ثلاثين مفسرا للكتاب
العزيز. ولم نقف على أي واحد منهم قد حرم التقية مطلقا، ولم ينقل أحدهم التحريم
عن غيره، ولم يصرح أي فرد منهم بأنها من النفاق ولا من الخداع أو الكذب في الدين.
بل وجدنا الكثير منهم من صرح بخلاف ذلك تماما.
233

ولقد كان للصحابة رضي الله عنهم موقف واضح من التقية، إذ صرحوا بجوازها، وعملوا
بها زرافات ووحدانا، وقد عززنا عملهم بالتقية بواحد وثلاثين مثالا، كانت من
بينها أمثلة كثيرة على التقية الجماعية التي اشترك بها ما لا يعلم عدده من الصحابة
إلا الله تعالى.
كما كان للتابعين موقف من التقية إذ صرحوا بجوازها وعملوا بها أيضا، وهذا ما
أوضحناه بأمثلة كثيرة من تقيتهم، وذلك في واحد وثلاثين مثالا، وقد رأينا في تقية
الصحابة والتابعين الكثير منهم ممن حمله الإكراه على أن يحلف بالله على خلاف
الواقع، أو يفتي بخلاف الحق إرضاء للسلطان واتقاء من شره وظلمه.
وقد تتبعنا العصرين - ما وسعنا - المواقف الصريحة إزاء التقية قولا وفعلا
ابتداء من السنة السابعة قبل الهجرة المشرفة وحتى نهاية سنة / 179 ه‍، وهي من
أواخر عمر التابعين. فوجدنا من مواقفهم إزاء التقية ما لا ينسجم بحال من الأحوال مع
ادعاء أن التقية كذب وخداع وافتراء!!
ثم انتقلنا بعد ذلك إلى موقف تابعي التابعين ومن جاء بعدهم وصولا إلى عصرنا
الحاضر، نقلب صفحات التاريخ ونبحث في طيات السنين، ونسترق السمع خلف أبواب
السلاطين، فسمعنا العجب العجاب من كلمات المؤمنين، ورأينا الأعجب من أفعالهم تقية
من هؤلاء الظالمين، وذلك في أربعة وعشرين مثالا.
ولقد تبين من خلال الفصل الثاني الذي استوعب من مواقف المسلمين - على امتداد
تاريخهم - من التقية وذلك في ستة وثمانين مثالا ان الظلم والاضطهاد الذي مر به
التابعون وتابعوهم ليس له نظير في تاريخ الإسلام إلا
234

ما كان في العصر الأول منه حيث المعاناة والاضطهاد على أيدي المشركين، ولقد أدرك
الكثير من الصحابة تلك المعاناة ممن امتد بهم العمر بعد أفول نجم الخلافة
الراشدة، فكان ذلك من أهم أسباب ومسوغات لجوء هؤلاء الصحابة والتابعين وتابعيهم
إلى العمل بالتقية للنجاة بأنفسهم، والحفاظ على أعراضهم، وسلامة أموالهم من معرة
الظالمين.
ومن ثم جاء دور الفقه الإسلامي الذي امتاز بمرونته وصلاحيته لكل زمان وجيل، فهو لم
يدع مسألة إلا وفصلها، ولم يترك ملحظا كليا أو جزئيا له صلة بالفرد أو المجتمع
إلا وتعرض لبيان حكمه بدقة وتفصيل.
ولما كنت قد عرفت موقف فقهاء الشيعة الإمامية من التقية، تساءلت مع نفسي! سؤالا
طالما تردد قبل الشروع في كتابة الفصل الأخير.
ما هو موقف فقهاء المسلمين - من غير الشيعة الإمامية - من التقية؟
فكان جوابهم - كما بينه الفصل الأخير - واحدا، ألا ان التقية من دين الإسلام
وكفى به جوابا والسلام.
اللهم أرنا الحق حقا حتى نتبعه، والباطل باطلا حتى نجتنبه واجعل شرائف
صلواتك، ونوامي بركاتك على محمد عبدك ورسولك الخاتم لما سبق، والفاتح لما انغلق
وعلى آله الأبرار وصحبه الأخيار.
والحمد لله رب العالمين
ثامر العميدي
23 / صفر / 1415 ه‍
235