الكتاب: نظام الحكم في الإسلام
المؤلف: الشيخ المنتظري
الجزء:
الوفاة: معاصر
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق: قام بالتلخيص والتعليق لجنة الأبحاث الإسلامية في مكتب سماحته
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٣٨٠ش
المطبعة: هاشميون
الناشر:
ردمك: ٩٦٤-٧٣٦٢-٠٢-١
ملاحظات: خلاصة كتاب دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية

بسم الله الرحمن الرحيم
1

نظام الحكم في الإسلام
خلاصة كتاب
دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية
لمؤلفه المحقق
سماحة الفقيه المجاهد آية الله العظمى المنتظري دام ظله
قام بالتخلص والتعليق
لجنة الأبحاث الإسلامية في مكتبه دام ظله
3

نظام الحكم في الإسلام
خلاصه كتاب
دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية
5

منتظري، حسينعلي، 1301
نظام الحكم في الاسلام خلاصة كتاب: دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الاسلامية / لمولفه
المحقق المنتظري؛ قام بالتلخيص والتعليق لجنه الابحاث الاسلامية في مكتبه " دام ظله ".
تهران: سرايي، 1380. [664] ص.
ISBN 964 - 7362 - 02 - 1
فهرستنويسى براساس اطلاعات فيپا.
عربى.
كتابنامه: ص. [611] - 621؛ همچنين به صورت زير نويس.
1. ولايت فقيه. 2. اسلام ودولت. 3. اسلام وسياست. الف. عنوان. ب. عنوان: دراسات
في ولاية الفقيه وفقه الدوله الاسلاميه. برگزيده.
4018 د 78 م / 8 / 223 BP 45 / 297
2372 - 80 م
كتابنامه ملى ايران
محل نگهدارى:
نشر سرايى
نظام الحكم في الاسلام
نويسنده: آيت ا... منتظرى
نوبت چاپ: اول / 1380
تيراژ: دو هزار نسخه
چاپ وليتوگرافي: هاشميون
شابك: 1 - 02 - 7362 - 964
ISBN 964 - 7362 - 02 - 1
6

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة التلخيص:
هذه خلاصة للكتاب القيم (دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة
الإسلامية) تأليف آية الله العظمى المنتظري مد ظله، وقد تم تأليفه في أربع
سنوات، وكان في أثنائها يدرس لطلبة المرحلة العالية في حوزة قم المشرفة،
وجرت مع فضلاء الحوزة مناقشات في العديد من مسائله، ثم طبع في أربع
مجلدات في إيران ولبنان.
مؤلف هذا السفر أحد أساطين الفقه والعلم، المتخصص في مسائل الإسلام،
وهو من نخبة الفقهاء بالمعنى الواقعي للفقاهة.
وقد بحث في هذا الكتاب مباني الدولة الإسلامية ومسائلها بحثا فقهيا
وحقوقيا، وأقام عليها الأدلة. وهو كتاب منفرد في موضوعه، لأن أحدا من فقهاء
المسلمين لم يبحث هذا الموضوع قبله ولا بعده على مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، بهذه
السعة، مضافا إلى أن الكتاب شمل عرض آراء مذاهب الفقهاء السنية في
الموضوع، فجاء بحثا مقارنا على جميع المذاهب.
هدف التلخيص:
الذي دفعنا إلى تلخيص الكتاب هو زيادة حجمه وسعة مباحثه وأدلته، التي
جعلت الاستفادة منه مختصة بقسم من الباحثين، وحرمت منه الكثيرين الذين
يريدون معرفة آراء الأستاذ المعظم ومبانيه بسرعة وسهولة.
هذا مضافا إلى أن السرعة في الوصول إلى المعلومات من خصائص عصرنا
7

الحاضر.
بدأ بتلخيص الكتاب إلى جانب تأليفه بعض الفضلاء وأكمل تلخيص المجلد
الأول منه، ثم تكاثرت الطلبات على التلخيص، فقام بعض تلامذة الأستاذ المعظم
بإعداد هذا التلخيص، مراعين فيه ما يلي:
1 - حافظنا على آراء الأستاذ المؤلف بدقة كاملة، وحتى على عباراته، إلا
عندما تقتضي الضرورة اختصار العبارة، أو تغيير ألفاظ فيها.
2 - قمنا بتغيير التسلسل والترتيب لبعض المباحث، أو دمجها في مبحث
واحد.
أصول الحكم الإسلامي:
محور الكتاب هو الدولة الإسلامية في عصر الغيبة، وطريقة البحث في
مسائلها ومبانيها هي أسلوب البحث الفقهي المستند إلى الأدلة العقلية والنقلية.
ولما كانت الدولة بنظر الأستاذ المعظم من الموضوعات العرفية العقلائية التي
أمضاها الشارع فقد تبنى الأستاذ في كل بحث، قبل التمسك بالأدلة النقلية أصولا
عقليا أو عقلائيا، فاستجمعناها كما يلي:
1 - أصل حاكمية الإنسان على مصيره، وأنه لا ولاية لأحد على أحد، الذي
هو أساس قانون انتخاب الناس ومشروعية الحكومة الإسلامية.
2 - أصل حرية الإنسان، الذي تتشعب منه حرية الرأي والتعبير.
3 - أصل أن يكون الحاكم هو الشخص الأصلح.
4 - أصل المطالبة بتحقيق العدالة.
5 - أصل المطالبة بإحقاق الحقوق والذب عنها، الذي يتشعب منه حق الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر.
8

6 - أصل حاكمية القانون.
7 - أصل كرامة الإنسان.
8 - أصل الشورى والمشورة.
9 - أصل التعاون بين الناس والمشاركة في الأعمال.
10 - أصل العزة وعلو المرتبة.
11 - أصل شمول الأمن لفئات المجتمع.
12 - أصل التحفظ من الإسراف والتبذير والتشريفات.
13 - أصل الاكتفاء الذاتي والاستقلالي.
14 - أصل الوفاء بالتعهدات.
15 - أصل السعي إلى الأمن والسلام مع الدول الأخرى
16 - أصل مراعاة الاشتراك في الإنسانية بين المواطنين.
17 - أصل الثبات على الأصول والقيم، وأن الحكومة أداة لتطبيقهما.
تم تلخيص الكتاب والتعليق عليه بواسطة اثنين من تلاميذ الأستاذ، وقد
رمزنا بحرف (م) إلى أن العبارة من الملخص، أو واضع الهوامش.
لجنة تحقيق المسائل الإسلامية
9

المقدمة
1 - سبب تأليف الكتاب:
لما انجر بحثنا في سهم العاملين من مباحث الزكاة إلى مسألة ولاية الفقيه،
اقترح علي بعض الحضار، البحث في هذه المسألة المهمة، وكان يمنعني سعة دائرة
الموضوع وكثرة المشاغل، ولكن رأيت أن الميسور لا يترك بالمعسور، فتعرضت
للبحث فيها بقدر الوسع. وكان من المناسب جدا أن أتعرض لكلمات العلماء من
الشرق والغرب، ولكن الوقت لم يساعدني، فقصرت نظري على أصل عنوان
المسائل وطرحها، وذكر الآيات والروايات وكلمات علمائنا، محيلا إكمالها
وتفصيلها إلى ذوي الوسع والفراغ من أهل الفضل والكمال.
ويشتمل الكتاب على مقدمة وسبعة أبواب.
2 - طريقتنا في البحث:
يتفاوت الطريق الذي سلكناه في البحث مع ما سلكه الأعاظم، فإنهم
يفرضون أولا ثبوت الولاية للفقيه الجامع للشرائط، ثم يتفحصون عما يمكن أن
يستدل به لهذا المطلوب المفروض.
أما نحن فنثبت أولا ضرورة أصل الحكومة والدولة للمجتمع في جميع
الأعصار، وأن الحكومة والإمامة داخلة في نسج الإسلام ونظامه، ثم نبحث في
الشروط المعتبرة في الحاكم الإسلامي، ونلاحظ أنها لا تنطبق إلا على الفقيه
العادل الواجد للشرائط، ثم نبحث في كيفية انعقاد الولاية وهل أنها تنحصر في
11

النصب من العالي فقط أو تثبت بالانتخاب أيضا، ولكن في صورة عدم النصب.
ولما كانت مسألة الحكومة الإسلامية ضرورة لجميع المسلمين، وجب
البحث فيها في إطار فقه الإسلام بسعته الشاملة لجميع المذاهب. وقد استقرت
سيرة كثير من فقهائنا الإمامية في كتبهم الفقهية على التعرض لفتاوى فقهاء السنة
ورواياتهم في المسائل الأصولية والفقهية. فنحن نذكر باختصار في كل مسألة أولا
الآيات الشريفة الدالة عليها، ثم الأخبار المروية عن النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) من
طرق الشيعة كانت أو من طرق السنة.
3 - أهمية فقه الدولة:
واعلم أن البحوث الفقهية عند المسلمين من الشيعة والسنة قد طرأ عليها في
العصور الأخيرة نقصان فاحشان: نقص من كميتها حيث قلت الحوزات والمعاهد
الإسلامية الدينية والفقهاء الحذاق في البلاد بسعي الاستعمار وعملائه. ونقص في
نوعيتها حيث تركزت البحوث على مسائل العبادات والشؤون الشخصية
وانحسرت عن الشؤون العامة للأمة الإسلامية تبعا لانحسار حكم الإسلام عن
هذه الشؤون.
فنرجو من شبان المسلمين الملتزمين ممن له قريحة واستعداد أن يقلوا
العرجة على الدنيا وزخارفها ويبحثوا عن فقه إقامة الدولة وحدودها وشرائطها،
وفقه الجهاد والدفاع، وعلاقات المسلمين مع المسلمين ومع الكفار والأقليات
غير المسلمة. وفقه الأنفال والأراضي والثروات، والحدود والتعزيرات، والقضاء
والشهادات.
4 - البحث العلمي يخدم وحدة المسلمين:
ألفت نظر القارئ الكريم إلى نكتة مهمة، وهي أن البحث الفقهي والعلمي
12

الأصيل يخدم قضية وحدة المسلمين ولا يضر بها كما يتوهم. فإن الواجب على
المسلمين الأحرار أن يعرف بعضهم معارف الآخرين وفقههم، لا أن يكتم فقهاء
هذا المذهب أو ذاك ما يرونه صحيحا وحقا، فلا يتوقع من باحث شيعي مثلا أن
يكتم في البحث العلمي ما يراه حقا.
وليس معنى الوحدة الإسلامية كتمان الحقائق والعلوم، بل من معانيها تجلى
المشاركات الأصيلة الموجودة بينهم، وحفظ الآداب والحرم، وجهادهم معا ضد
الكفر العالمي المسيطر على بلادنا وشؤوننا. فديننا واحد ونبينا واحد وكتابنا
واحد وقبلتنا ومشاعرنا واحدة، فيجب الحذر كي لا يستفيد العدو من إلقاء
الخلافات وإيجاد الضغائن.
5 - تذكير:
قد حصل لنا بالتجربة أنه كلما وقع البحث في هذا السنخ من المسائل
الأساسية الموجبة لوعي المسلمين ورشدهم السياسي، وانتشر فيها مصنف، سعى
عملاء الاستعمار في إشاعة الدعايات المسمومة، وفي إفساد الجو والبيئة على
المصنف والمصنف. فأوصي الإخوان من الفضلاء الكرام والأعزة الأعلام أن لا
يصدهم هذا النوع من الضوضاء عن العمل بالوظائف العلمية، وأن لا يبادروا إلى
الاعتراض والمناقشة في مطلب أو جملة من هذا الكتاب إلا بعد الإحاطة بجميع
أبوابه وفصوله، فإن المباحث والمطالب فيه متشابكة ومرتبطة غاية الارتباط،
وربما أبدينا نظرا في مقام وأقمنا الدليل عليه في باب آخر، وربما نذكر أمرا إيرادا
واحتمالا لا جزما واعتقادا. ولا تنضج المطالب ولا يبرهن عليها إلا خلال
الإيرادات والردود.
6 - ضرورة الحكومة:
إعلم أن من أهم الأمور الضرورية للبشر وجود النظام الاجتماعي
13

والحكومة العادلة الحافظة لحقوق المجتمع، فإن الإنسان مدني بالطبع، لا يحصل
على حاجاته إلا تحت لواء حكومة حاسمة. ولأجل ذلك لم تخل حياة الإنسان
في جميع مراحلها وأدوارها من حكومة ودويلة.
وحتى لو فرضنا محالا أو نادرا تكامل المجتمع وتحقق الرشد الأخلاقي
والتناصف والإيثار بين جميع أفراده، فالاحتياج إلى نظام يجمع أمرهم في
المصالح العامة لا يقبل الإنكار. ولا يختص هذا بعصر دون عصر أو ظرف دون
ظرف.
فما عن الأصم من عدم الاحتياج إلى الحكومة إذا تناصفت الأمة ولم
تتظالم، وما عن ماركس من عدم الاحتياج إليها بعد تحقق الكمون المترقي
وارتفاع الاختلاف الطبقي واضح الفساد.
وأما ما تراه من استيحاش أكثر الناس في بلادنا وتنفرهم من اسم الحكومة
والدولة، فليس إلا لابتلائهم طوال القرون المتمادية بأنواع الحكومات المستبدة
الظالمة. وإلا فالحكومة الصالحة اللائقة الحافظة لحقوق الأمة الآخذة بيدها، تقبلها
الطباع السليمة ويحكم بضرورتها العقل السليم. بل إن الحكومة الجائرة أيضا مع
ما فيها من الشر والفساد خير من الفتنة والهرج، كما عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " وال
ظلوم غشوم خير من فتنة تدوم " (1).
7 - كيف نشأت الدولة وتنشأ؟
قد ذكروا في ذلك نظريات عديدة:
منها: أن الدولة نظام اجتماعي يفرضه بالإجبار شخص قوي أو فريق
غالب.

(1) الغرر والدرر: 6، 236.
14

ومنها: أن تشكيل العائلة أمر يقتضيه طبع البشر، وأنها الخلية الأولى لكل
مجتمع ودولة.
ومنها: أن الإنسان في بادي الأمر كان يعيش على الفطرة، ثم تضاربت
المصالح والحريات فتوافق عقلاء الناس واصطلحوا على وضع قوانين خاصة
وعلى قوة منفذة لها، فالحكومة عقد اجتماعي بين الحاكم والرعية.. إلى غير ذلك
مما قيل من نظريات لا يهمنا ذكرها ونقدها بعدما اتضح أصل ضرورة الحكومة
والدولة.
وسيأتي أنها داخلة في نسج الإسلام ونظامه وأن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أسس
الدولة الإسلامية بأمر الله - تعالى - فمنشؤها في بادي الأمر هو أمر الله - تعالى -
ووحيه، وإن تغلب عليها الظالمون والطغاة. وفي الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال:
" كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي،
وستكون خلفاء فتكثر " (1).
8 - الحكومات الدارجة في عصرنا:
الأولى: الملكية المطلقة الاستبدادية، بأن يتسلط شخص بالقهر والغلبة ولا
يتقيد بقانون وضابطة، ويجعل مال الله دولا وعباده خولا، يحكم فيهم بما يهوى
ويريد. وهذا القسم من أردأ أنواع الحكومة عند العقل والفطرة، كما حكى الله -
تعالى - عن ملكة سبأ: (قالت: إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة
أهلها أذلة، وكذلك يفعلون) (2).
الثانية: الملكية المشروطة المستحدثة في الأعصار الأخيرة، بأن تعتبر

(1) صحيح مسلم: 3، 1471.
(2) النمل 27: 34.
15

الملكية حقا وراثيا ولكن الملك محدود مقيد، ويكون تدبير الأمور محولا إلى
القوى الثلاث، كما هو الحال في إنكلترا مثلا. فكأن الملك عضو زائد محترم جدا،
يصرف في وجوه معيشته وفسقه آلاف الألوف من بيت المال، من دون أن يكون
على عاتقه أية مسؤولية. وهذه أيضا كالأولى باطلة مخالفة للعقل والفطرة، إذ لا
وجه لهذا الحق وهذه الوراثة المستمرة من دون نصب من الله - تعالى - أو انتخاب
من الأمة.
الثالثة: الحكومة الأشرافية، وتسمى في اصطلاح العصر " ارستقراطية "
وذلك بأن يتسلط فريق أو شخص من المجتمع على الآخرين لمجرد التفوق
النسبي، أو المالي. ولا يخفى أن مجرد ذلك لا يكون ملاكا للولاية ولزوم الطاعة
عند العقل والفطرة.
الرابعة: الحكومة الانتخابية التي تحصر حق الانتخاب بطبقة خاصة معينة.
ولا نعرف له مثلا في عصرنا إلا ما هو المتعارف لدى كنيسة الروم من انتخاب
البابا من قبل البطاركة، على أساس أنهم أهل الحل والعقد.
الخامسة: الحكومة الانتخابية الشعبية، ولكن على أساس فكرة
وإيدئولوجية خاصة. فيكون الحاكم منتخبا من قبل الفئة المعتقدة بهذه الفكرة
ومكلفا بإدارة المجتمع على هذا الأساس.
السادسة: الحكومة الانتخابية الديموقراطية العامة، المعبر عنها بحكومة
الشعب على الشعب. فيكون الشعب في الحقيقة منشأ للتشريع والتنفيذ، والحاكم
المنتخب يحقق حاجات الشعب كيف ما كانت. ولكن يبعد جدا تحققها كذلك مأة
بالمأة حتى في مثل الأمم الراقية، حيث نرى فيها وقوع الشعب عمليا تحت تأثير
الوسائل الإعلامية المملوكة لأصحاب الثروات والشركات العظيمة، فلا تتحقق إلا
حكومة طبقة خاصة من المجتمع امتلكوا الثروات والمؤسسات، ولا يهدفون إلا
16

مصالح أنفسهم.
9 - الحكومة الإسلامية:
المراجع للكتاب والسنة وفقه مذاهب الإسلام من الشيعة والسنة، يظهر له
بالبداهة أن دين الإسلام الذي جاء به النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) لم تنحصر أحكامه في أمور
عبادية ومراسيم وآداب فردية فقط، بل هو جامع لجميع ما يحتاج إليه الإنسان (1)
في مراحل حياته الفردية والعائلية والاجتماعية، من المعارف، والأخلاق،
والعبادات، والمعاملات، والسياسات، والاقتصاد، والعلاقات الداخلية
والخارجية. وأن الحكومة أيضا داخلة في نسج الإسلام ونظامه. فالإسلام بذاته
دين ودولة، وعبادة واقتصاد وسياسة.
فترى النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) بعد هجرته إلى المدينة باشر بتأسيس أول دولة
إسلامية عادلة، فمهد لها مقدماتها من أخذ البيعة من القبائل والوفود، وعقد ميثاق
الأخوة بين المهاجرين والأنصار، والمعاهدة بينهم وبين يهود المدينة. وأقام
مسجدا جعله مركزا لصلوات المسلمين ونشاطاتهم الاجتماعية والسياسية،
وراسل الملوك والأمراء في البلاد يدعوهم إلى الإسلام والدخول تحت ظل
حكومته. وبعد وفاته (صلى الله عليه وآله) لم يشك أحد من المسلمين في الاحتياج إلى الحكومة،

(1) المراد من جميع ما يحتاج إليه الإنسان، هي ما يحتاج إليه في مسير هدايته ونيله إلى
الأوصاف الفاضلة النفسانية وكماله وتقربه إلى الله - تعالى - الراجعة إلى الاعتقادات
الصحيحة والقواعد الكلية والاحكام الحاكمتين على عمله في المجالات المختلفة، لا ما
يحتاج إليه للوصول إلى الغذاء والدواء، وآلات الحرب والسفر ونحو ذلك.
وهذه القواعد والأحكام وإن يقيد ويحدد عمله في كل مجال مثل الاقتصاد والسياسة
والثقافة والحرب والبحث والدراسة والصناعة وغيرها ولكن ليس معناه أن الإسلام بين علم
الاقتصاد أو السياسة أو الفيزياء أو صناعة الطيارات والسيارات وغيرها من العلوم والفنون
والصناعات كما توهم بعض - م -.
17

بل أجمعوا على وجوبها وضرورتها، وإنما وقع الخلاف بين الفريقين في أنه (صلى الله عليه وآله)
هل نصب أمير المؤمنين (عليه السلام) أو أنه أهمل أمر الخلافة وفوضه إلى المسلمين.
وتمتاز الحكومة الإسلامية عن الحكومة الديموقراطية الغربية الدارجة بأن
الحاكم في الحكومة الإسلامية يجب أن يكون أعلم الناس بأمر الله فيها وأعدلهم
وأتقاهم وأقواهم عليها.
وأن الحكومة الإسلامية تتقيد بموازين الإسلام وقوانينه العادلة المنزلة من
الله - تعالى - العالم بمصالح خلقه. وقد يعبر عنها بالحكومة التيوقراطية بمعنى
حكومة القانون الإلهي على المجتمع.
10 - شروط الحاكم المنتخب عند العقلاء:
لا يخفى أن الإنسان العاقل إذا أراد تفويض عمل إلى غيره فهو بحكم
الفطرة يراعي في المنتخب لذلك أمورا: الأول: العقل الوافي. الثاني: العلم بفنون
العمل المفوض إليه. الثالث: قدرته على العمل. الرابع: أن يكون أمينا لا يهمل الأمر
ولا يخون فيه، وقد يعبر عن ذلك بالعدالة.
فمن أراد استيجار شخص لإحداث بناء مثلا فلا محالة يراعي فيه بحكم
الفطرة تحقق هذه الشروط والصفات. وإدارة شؤون الأمة من أهم الأمور
وأعضلها وأدقها، فاعتبار هذه الصفات في الوالي أمر يحكم به العقلاء بفطرتهم ولا
حاجة فيه إلى التعبد. وإذا فرض إن الذين فوضوا أمر الحكومة إلى شخص خاص
كانوا يعتقدون بمبدأ خاص وإيديولوجية معينة، وأرادوا إدارة شؤونهم
الاجتماعية والسياسية والاقتصادية على أساس هذا المبدأ الخاص، فلا محالة
ينتخبون لذلك من يكون معتقدا بهذا المبدأ ومطلعا على مقرراته. ألا ترى أن
المعتقدين بالمبدأ المادي والاقتصاد الماركسي يراعون في الحاكم اعتقاده
بالمنهج المادي الماركسي واطلاعه على موازينه المرتبطة بالسياسة والاقتصاد؟
18

فهذا أيضا أمر طبيعي فطري.
11 - شروط الحاكم في الحكومة الإسلامية:
وعلى هذا فالأمة الإسلامية حسب اعتقادها بالإسلام وقوانينه العادلة
الجامعة، تتمنى أن يكون الحاكم عليها رجلا عاقلا عادلا عالما برموز السياسة
قادرا على التنفيذ معتقدا بالإسلام، عالما بضوابطه ومقرراته، بل أعلم فيها من
غيره. ولا شك أن من تفقه في الكتاب والسنة وعرف أحكامهما وصار أعلم بأمر
الله في الحكومة وحاز الشروط الأخرى، صالح للحكومة والولاية في الأمة
الإسلامية وعلى الأمة أن يفحصوا عنه ويولوه ويفوضوا أمرهم إليه. ولا نريد
بولاية الفقيه إلا هذا.
12 - على العلماء والفقهاء أن يتدخلوا في السياسة:
وليس عدم اطلاع الفقهاء على المسائل السياسية وعدم دخولهم فيها إلى
الآن عذرا لهم ولا مبررا لقعودهم وانزوائهم عن التصدي للحكومة وشؤونها، بل
يجب عليهم الورود والخوض فيها وتعلمها، ثم ترشيح أنفسهم لما يتمكنون القيام
به من شؤونها المختلفة ويجب على الناس انتخابهم وتقويتهم، إذ الولاية وإدارة
أمور المسلمين من أهم الفرائض. وقد ذكر الفقهاء أمورا سموها أمورا حسبية
وقالوا إن الشارع الحكيم لا يرضى بإهمالها وتركها كحفظ أموال الغيب والقصر
ونحو ذلك، فتجب على الفقهاء من باب الحسبة التصدي لها.
فنقول: هل الشارع الحكيم لا يرضى بإهمال الأموال الجزئية التي تكون
للصغار والمجانين مثلا، ويرضى بإهمال أمور المسلمين وإحالتها إلى الكفار
والصهاينة وعملاء الشرق والغرب؟!
19

والذي أوجب تنفر المسلمين ولا سيما علمائهم وفقهائهم الملتزمين بالدين
من اسم الحكومة، وصار سببا لانزوائهم وانعزالهم عن ميدان السياسة والحكم هو:
1 - ما رأوه وشاهدوه من غلبة الطواغيت والجبابرة طوال القرون المتمادية
على البلاد الإسلامية، فصار وجه الحكومة مشوها بذلك عندهم.
2 - ما صنعه وارتكبه علماء السوء وطلاب الدنيا من التقرب إلى بلاط
سلاطين الجور، وتبرير ظلمهم وجناياتهم.
3 - ما روجته وأصرت عليه أيادي الاستعمار وعملاؤه من فصل الدين عن
السياسة، وحصره في بعض العبادات الصورية والمراسيم والآداب الشخصية.
فصار كل ذلك سببا لحبس الفقهاء في زوايا المدارس والبيوت، وغفلوا عن هذه
الفريضة بحيث خلت من بحثها أيضا موسوعاتهم إلا نادرا أو استطرادا، فترى
المحقق النراقي طاب ثراه مثلا خص عائدة من كتابه المسمى ب‍ " العوائد " بالبحث
في ولاية الفقيه. والشيخ الأعظم الأنصاري طاب ثراه أيضا تعرض لها إجمالا في
كتاب البيع في مسألة بيع مال اليتيم. وألف فيها المحقق النائيني (قدس سره) رسالة مختصرة،
بالنسبة إلى عصره فريدة. وتعرض للمسألة أيضا بنحو الإجمال السيد الأستاذ
المرحوم آية الله العظمى البروجردي (قدس سره) أثناء بحثه في صلاة الجمعة. ولكن كل هذه
الأبحاث كانت أبحاثا إجمالية، إلى أن بحث فيها السيد الأستاذ الإمام آية الله
العظمى الخميني (قدس سره) بالتفصيل بنحو بديع.
فعلى العلماء والفضلاء والملتزمين والأساتذة والشبان المثقفين في
المجالات المختلفة أن يقوموا لله - تعالى - ويصرفوا طاقاتهم في تعلم سياسة
البلاد والعباد، والاطلاع على مسائل الزمان وحاجاتها وأحكام القضاء وفنون
الاقتصاد وأحكامها، فالله - تعالى - لا يقبل اعتذارنا بعد حكم العقل والشرع
20

بأهمية الموضوع. وليكن الغرض معالجة مشاكل العصر بنظام (1) الإسلام لا تطبيق
نظام الإسلام على مشاكل العصر. وبينهما فرق واضح.

(1) المراد بنظام الإسلام هنا هو نظام ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) من العقائد والأخلاق والأحكام
العملية لا النظام السياسي المصطلح. فهذا النظام قادر على حل مشاكل البشر في كل عصر،
إلا أنه رهين للاجتهاد الناظر إلى مشاكل العصر والمسائل الجديدة التي طرحت في علمي
الكلام والأخلاق وإلى المصالح المتغيرة في حوزة العمل - م -.
21

الباب الأول:
في مقتضى الأصل وحكم العقل
في المسألة
23

مقتضى الأصل وحكم العقل في المسألة:
قالوا في مقام تأسيس الأصل في مسألة الولاية: إن الأصل عدم ولاية أحد
على أحد وعدم نفوذ حكمه فيه، فإن أفراد الناس خلقوا أحرارا مستقلين، وهم
بحسب الفطرة مسلطون على أنفسهم وما اكتسبوه، فالتصرف في شؤونهم وأموالهم
ظلم وتعد عليهم. وتفاوتهم في العقل والعلم والطاقات ونحوها لا يوجب ولاية
بعضهم على بعض ولزوم التسليم له. قال علي (عليه السلام): " لا تكن عبد غيرك وقد جعلك
الله حرا " (1) إلا أن يناقش بأن الولاية على الناس تدبير لأمورهم وجبر لنقصهم،
وهذا غير الاستعباد.
هذا، ولكن توجد أمور أخر في قبال ذلك الأصل يحكم بها العقل، ولعل لها
نحو حكومة عليه:
الأول: أنه لا شك أن الله - تعالى - خالق لنا ولكل شئ، وله أن يتصرف في
جميع شؤون خلقه، وهو عليم بما يصلحهم في دينهم ودنياهم وحاضرهم
ومستقبلهم. والإنسان في قباله مهما بلغ من العلم والمعرفة عاجز قاصر عن أن
يحيط بطبائع الأشياء ولطائف وجوده ومصالح نفسه في النشأتين، فلله الخلق
والأمر، وعلى الإنسان أن يخضع له ولشريعته، يحكم بذلك العقل ويذمه على
المخالفة. ولا يشارك الله - تعالى - في ذلك أحد من خلقه، قال - تعالى -: (إن

(1) نهج البلاغة - عبده: 3، 57، صالح 401، الكتاب 31.
25

الحكم إلا لله، يقص الحق وهو خير الفاصلين) (1) إلى غير ذلك من الآيات
الشريفة.
الثاني: أن العقل يحكم بحسن إرشاد الغير، ويحكم أيضا بحسن إطاعة من
يرشد الإنسان ويريد صلاحه. والعقلاء يذمون الإنسان إذا ترك المصالح المهمة
التي أراه إياها غيره.
الثالث: أن العقل يرى تعظيم المنعم وشكره حسنا، وترك ذلك قبيحا، ولو
فرض أن ترك إطاعة المنعم صارت سببا لعقوقه وأذاه، فالعقلاء يذمون الإنسان
على تركها ولعل وجوب إطاعة الوالدين أيضا من هذا القبيل، وأن العقلاء يرون
حسن إطاعتهما بل لزومها لذلك. وإذا كان هذا حكم الوالد الجسماني، فالآباء
الروحانيون وأولياء النعم المعنوية كالأنبياء وأئمة العدل بطريق أولى.
الرابع: أن الإنسان مدني بالطبع، ولا يتيسر له إدامة حياته إلا في ظل
التعاون والاجتماع، ولازم الاجتماع غالبا التضاد في الأهواء والتضارب
والصراع، فيحتاج لا محالة إلى حاكم يدبر الأمور ويرفع المظالم، فتجب إطاعته
بحكم العقل، لا سيما إذا عاهدوه على ذلك، إذ الفطرة حاكمة بلزوم الوفاء بالعهد.
والحاصل: أنا لو اعتبرنا الأصل في المسألة عدم ولاية أحد على أحد، فإن الولاية
بالأخرة تثبت بحكم العقل.

(1) الأنعام 6: 57.
26

الباب الثاني:
في ولاية النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام)
27

ولاية النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام)
أشرنا إلى ثبوت الولاية لله - تعالى - تكوينا وتشريعا، وأن العقل يحكم
بوجوب إطاعته وحرمة مخالفته. ونقول: يظهر من الكتاب والسنة أنه - تعالى -
فوض مرتبة من الولاية إلى رسوله (صلى الله عليه وآله)، وإلى بعض الرسل السابقين (عليهم السلام) وكذا إلى
الأئمة المعصومين (عليهم السلام) عندنا ولهذه الجهة وجبت إطاعتهم في أوامرهم المولوية
السلطانية الصادرة عنهم بإعمال الولاية. فلنذكر بعض الآيات بشرح مختصر:
1 - قال - تعالى -: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن، قال إني جاعلك
للناس إماما قال ومن ذريتي، قال لا ينال عهدي الظالمين) (1).
وعن الصادق (عليه السلام) قال: " إن الله - تبارك وتعالى - اتخذ إبراهيم عبدا قبل أن
يتخذه نبيا. وان الله اتخذه نبيا قبل أن يتخذه رسولا. وان الله اتخذه رسولا قبل أن
يتخذه خليلا وإن الله اتخذه خليلا قبل أن يجعله إماما، فلما جمع له الأشياء قال:
إني جاعلك للناس إماما. قال: فمن عظمها في عين إبراهيم قال: ومن ذريتي " (2)
وبجعله تعالى إبراهيم (عليه السلام) إماما صار قدوة مفترض الطاعة.
2 - وقال - تعالى -: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض، فاحكم بين

(1) البقرة 2: 124.
(2) الكافي: 1، 175.
29

الناس بالحق) (1) فالمستفاد منها أن داود (عليه السلام) بعدما جعله الله خليفة لنفسه صار
وليا، وحق له الحكم بين الناس، ولذا فرعه بالفاء.
3 - وقال - تعالى - في حق نبينا (صلى الله عليه وآله): (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) (2)
فنبوته (صلى الله عليه وآله) غير أولويته بالتصرف. ويحتمل في معنى أولويته وجوه:
الأول: أولوية النبي وتقدمه على المؤمن بنفسه بمعنى أن كل ما يراه لنفسه
من الحفظ والمحبة والكرامة وانفاذ الإرادة فالنبي أولى بالمؤمن من نفسه في
جميع ذلك وعليه أن يقدمه (صلى الله عليه وآله) على نفسه في الأمور الشخصية والاجتماعية
والدنيوية والأخروية التكوينية والاعتبارية، كبيع ماله وطلاق زوجته، ونحو ذلك.
الثاني: أولويته وتقدمه (صلى الله عليه وآله) في كل ما يشخصه من المصلحة للمؤمنين لأنه
أعلم بمصالحهم، فيكون حكمه وإرادته أنفذ عليهم ويجب عليهم أن يطيعوه في كل
ما أمر به في الأمور الاجتماعية والفردية، وبعبارة أخرى: كل ما يكون للإنسان
سلطة وولاية عليه من شؤون النفس والمال فولاية النبي (صلى الله عليه وآله) عليها أشد وأقوى.
ولا يخفى اختصاص ذلك، على القول به، بما يجوز للمؤمن ارتكابه بنفسه وله
الولاية عليه شرعا، فلا يعم ما لا يجوز من التصرفات حتى تجعل الآية مخصصة
لأدلة المحرمات والعقود الفاسدة. ويؤيد هذا الوجه وقوع الآية بعد الآيتين
النافيتين لكون الأدعياء أبناء. والظاهر إشارتهما إلى قصة زيد ولا يخفى أنه على
هذا الاحتمال يمكن الخدشة في إطلاق الأولوية، إلا أن يقال بوجوب المحافظة
على الإطلاق إلا فيما ثبت خلافه.
الثالث: أولويته (صلى الله عليه وآله) في خصوص الأمور العامة الاجتماعية التي يرجع فيها

(1) ص 38: 26.
(2) الأحزاب 33: 6.
30

كل قوم إلى رئيسهم ويرونها من وظائف قيم المجتمع، وأما الأمور الشخصية
الفردية كبيع مال الشخص وطلاق زوجته وتزويج ابنته مثلا، فليست محطا لنظر
الآية إلا إذا فرض في مورد خاص توقف مصالح المجتمع عليها، فتقدم على
المصالح الفردية.
الرابع: أولويته (صلى الله عليه وآله) بمعنى تقدم ولايته على سائر الولايات الموجودة في
المجتمع ففي الموارد التي ينفذ حكم أحد في حق الغير بنحو من أنحاء الولاية،
يكون حكم النبي (صلى الله عليه وآله) أنفذ من حكم سائر الأولياء. قال في مجمع البيان: " قد روى
أن النبي (صلى الله عليه وآله) لما أراد غزو تبوك، وأمر الناس بالخروج قال قوم: نستأذن آبائنا
وأمهاتنا، فنزلت هذه الآية " (1) ويشهد لهذا الاحتمال أن كلمة " أولى " تفضيل من
الولاية، فيراد به تفضيل ولايته (صلى الله عليه وآله) على سائر الولايات.
بعض موارد الاستشهاد بالآية:
عن الإمام الصادق (عليه السلام) " كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: أنا أولى بكل مؤمن من
نفسه، ومن ترك مالا فللوارث، ومن ترك دينا أو ضياعا فإلي وعلي " (2) ومثله في
مسند أحمد (3) ومضمونه متواتر في كتب السنة.
وفي خبر زيد بن أرقم عنه (صلى الله عليه وآله) " أيها الناس، إني تارك فيكم أمرين لن
تضلوا إن اتبعتموهما، وهما: كتاب الله وأهل بيتي عترتي، ثم قال: أتعلمون أني
أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ - ثلاث مرات - قالوا: نعم. فقال رسول الله: من كنت
مولاه فعلي مولاه " (4) وقد روى هذا المضمون متواترا بطرقنا وطرق السنة أيضا

(1) مجمع البيان: 4، 338.
(2) الوسائل: 17، 551.
(3) مسند أحمد: 2، 464.
(4) مستدرك الحاكم: 3، 110.
31

فراجع مظانه (1).
وفي الدر المنثور للسيوطي " عن بريدة، قال: غزوت مع علي اليمن، فرأيت
منه جفوة، فلما قدمت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذكرت عليا فتنقصته فرأيت وجه رسول
الله (صلى الله عليه وآله) تغير وقال " يا بريدة ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت: بلى يا رسول
الله، قال: من كنت مولاه فعلي مولاه " (2) ويظهر منه أن هذا المضمون صدر عن
النبي (صلى الله عليه وآله) في غير قصة الغدير أيضا. وقوله (صلى الله عليه وآله) " من كنت مولاه فعلي مولاه "
يحتمل فيه بالنظر البدوي الإخبار والإنشاء، ولكن الأوفق بمذهبنا وظاهر آية
التبليغ الواردة في هذه القصة هو الاحتمال الأول، كما لا يخفى.
4 - وقال - تعالى -: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن
يكون لهم الخيرة من أمرهم) (3) وقد نزلت في قصة زيد بن حارثة عندما خطب له
النبي (صلى الله عليه وآله) بنت عمته زينب، وليست القضية شخصية فقط، بل الظاهر أنها كانت
اجتماعية.
5 - قال - تعالى -: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي
الأمر منكم) (4) والظاهر بقرينة عطف أولي الأمر على الرسول وعدم فصلهم عنه،
كون إطاعة الرسول وإطاعة أولي الأمر هنا من سنخ واحد، وهو إطاعتهم في
الأوامر الصادرة عنهم بنحو المولوية بما أنهم ولاة في الأمور الاجتماعية
والسياسية والقضائية، وليس إطاعتهم في مقام بيان أحكام الله تعالى لأنها ليست
أمرا آخر وراء إطاعة الله، ولأجل ذلك كررت لفظة " أطيعوا " والمقصود ب‍ " الأمر "

(1) راجع الغدير للعلامة الأميني، وبحار الأنوار: 37، 108.
(2) الدر المنثور: 5، 182.
(3) الأحزاب 33: 36.
(4) النساء 4: 59.
32

على الظاهر هو الحكومة وإدارة شؤون الأمة، وسميت به لقوامها بالأمر من طرف
والإطاعة من طرف آخر.
ففي الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) " ما ولت أمة قط أمرها رجلا وفيهم أعلم منه إلا
لم يزل أمرهم يذهب سفالا، حتى يرجعوا إلى ما تركوا " (1).
وفي نهج البلاغة " لعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم " (2) وعليه
يكون معنى أولي الأمر: الرجال المتصدين لأمر الحكومة وإدارة الشؤون العامة
وعلى رأسهم الإمام الأعظم.
قال الشيخ الأنصاري - طاب ثراه - " الظاهر من هذا العنوان عرفا من يجب
الرجوع إليه في الأمور العامة التي لم تحمل في الشرع على شخص خاص " (3).
ولكن وردت من طرقنا أخبار مستفيضة تدل على أن المراد بأولي الأمر في
الآية الشريفة خصوص الأئمة الاثني عشر من أهل البيت (عليهم السلام)، منها ما عن الإمام
الباقر (عليه السلام) قال " إيانا عنى خاصة. أمر جميع المؤمنين إلى يوم القيامة بطاعتنا " (4).
ولكن من المحتمل أن يكون الحصر في مثله إضافيا بالنسبة إلى حكام
الجور المتصدين للحكومة في أعصار الأئمة (عليهم السلام) والحصر لا ينحصر في الحقيقي
فقط، فكم شاع منه الإضافي في كلماتهم. والجري والتطبيق في التفسير على بعض
الموارد لا يمنع من التمسك بالاطلاق والعموم. والحاصل أن المحتملات في أولي
الأمر في الآية الشريفة ثلاثة:
الأول: أنهم الأمراء والحكام مطلقا كيفما كانوا، وهو الظاهر مما روى عن

(1) سليم بن قيس: 118.
(2) نهج البلاغة، عبده: 1، 182، صالح: 136، الخطبة 92.
(3) المكاسب: 153.
(4) الكافي: 1، 276.
33

أبي هريرة " هم الأمراء منكم " (1).
الثاني: أنهم خصوص الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام)، وهو ظاهر بعض الأخبار
المروية عنهم (عليهم السلام).
الثالث: أنهم بمناسبة الحكم والموضوع، من له حق الأمر والحكم شرعا.
وحق الأمر شرعا لا ينحصر بالمعصوم، بل يثبت لكل من كانت حكومته مشروعة
بالنصب أو بالانتخاب الممضى شرعا، ولكن في حدود حكومته. فالحكام
المنصوبون من قبل النبي (صلى الله عليه وآله) أو أمير المؤمنين (عليه السلام) كان لهم حق الأمر في حدود
حكومتهم، وعلى هذا فلا تشمل الآية ولاة الجور وعمالهم، فإن ولايتهم ساقطة
عند الله وعند رسوله، بل عند العقل أيضا، لما سيجيء من اعتبار شروط ثمانية في
الوالي بحكم العقل والشرع، سواء كانت الولاية بالنصب أو بالانتخاب.
6 - وقال - تعالى -: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم،
ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت، ويسلموا تسليما) (2) ويمكن الخدشة
في اطلاقها لظهورها في خصوص القضاء، اللهم إلا أن يمنع ذلك، إذ الموصول
بعمومه يشمل كل ما يشجر بين المسلمين، وموردها وإن كان خصوص القضاء
ولكن المورد لا يخصص.
تتمة في استخلاف النبي (صلى الله عليه وآله) والتمسك بعترته (عليهم السلام)
اعلم أن اخواننا السنة يقولون إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يوص ولم يستخلف،
ولكن الناس اجتمعوا في السقيفة، وبعد منازعة المهاجرين والأنصار في أمر
الخلافة ومحاجتهم، ابتدر خمسة وهم: عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح

(1) الدر المنثور: 2، 176.
(2) النساء 4: 65.
34

وأسيد بن حضير وبشير بن سعد وسالم مولى أبي حذيفة، فبايعوا أبا بكر فانعقدت
له الإمامة بذلك. ثم بايعه آخرون، وهم يسمون هذه البيعة بالشورى. وفي صحيح
مسلم عن ابن عمر، عن أبيه إنه قال قبل وفاته: " إني لئن لا استخلف فإن رسول الله
لم يستخلف، وإن استخلف فإن أبا بكر قد استخلف " (1).
ونحن الشيعة الإمامية نقول إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) استخلف عليا (عليه السلام) لا مرة
واحدة بل مرات، من أوائل بعثته إلى حين رحلته ووفاته (صلى الله عليه وآله)، فلنذكر من ذلك
نماذج، ونحيل التفصيل إلى الكتب الكلامية المؤلفة لذلك، فنقول:
روى الطبري في تاريخه عن علي بن أبي طالب قال: " لما نزلت هذه الآية
على رسول الله (صلى الله عليه وآله): (وأنذر عشيرتك الأقربين) دعاني رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال لي: يا
علي، إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين... فاصنع لنا صاعا من طعام واجعل
عليه رجل شاة، واملأ لنا عسا من لبن، ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلمهم
وأبلغهم ما أمرت به، ففعلت ما أمرني ثم دعوتهم له، وهم يومئذ أربعون رجلا
يزيدون رجلا أو ينقصونه... فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب...
فلما أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال: لقد سحركم
صاحبكم، فتفرق القوم ولم يكلمهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال الغد: يا علي، إن هذا
الرجل سبقني إلى ما قد سمعت من القول فتفرق القوم قبل أن أكلمهم، فعد لنا من
الطعام بمثل ما صنعت، ثم اجمعهم إلي. قال ففعلت ثم جمعتهم... ثم تكلم رسول
الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا يا بني عبد المطلب، إني والله ما أعلم شابا في العرب جاء قومه
بأفضل مما قد جئتكم به، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى
أن أدعوكم إليه، فأيكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي
وخليفتي فيكم؟ قال: فأحجم القوم عنها جميعا، وقلت - وإني لأحدثهم سنا،

(1) مسلم: 3، 1455.
35

وأرمصهم عينا، وأعظمهم بطنا وأحمشهم ساقا - أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه،
فأخذ برقبتي ثم قال: إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا.
قال: فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك
وتطيع " (1). قال ابن أبي الحديد بعد نقل القصة: " ويدل على أنه وزير رسول
الله (صلى الله عليه وآله) من نص الكتاب والسنة قول الله - تعالى -: (واجعل لي وزيرا من أهلي.
هارون أخي. أشدد به أزري. وأشركه في أمري) وقال النبي (صلى الله عليه وآله) في الخبر المجمع
على روايته بين سائر فرق الإسلام: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا
نبي بعدي " فأثبت له جميع مراتب هارون من موسى، فإذن هو وزير رسول الله
وشاد أزره، ولولا أنه خاتم النبيين لكان شريكا في أمره " (2).
وفي خبر عمران بن حصين عن النبي (صلى الله عليه وآله) " ما تريدون من علي؟ ما تريدون
من علي؟ ما تريدون من علي؟ إن عليا مني وأنا منه، وهو ولي كل مؤمن من
بعدي " (3) وسيأتي معنى الولي وأنه الأولى بالتصرف. وقوله " من بعدي " ينفي
احتمال كون الولاية بمعنى المحبة والمودة، ويعين كونها بمعنى التصرف في
الأمور.
وعن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي " أما ترضى أن
تكون مني بمنزلة هارون من موسى " (4).
ثم نقول توضيحا: إن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) قد أرسله الله - تعالى - إلى الناس

(1) الطبري: 3، 1171، ورواه ابن الأثير في الكامل: 2، 62 وابن أبي الحديد: 13، 210 و 244
وصححه هو وكثير من المؤرخين والمحدثين من الشيعة والسنة، واشتهر بحديث بدء
الدعوة. ورواه العلامة الأميني بأسانيد كثيرة من طرق السنة، فراجع الغدير: 2، 278.
(2) شرح نهج البلاغة: 13، 211.
(3) الترمذي: 5، 296.
(4) البخاري: 2، 300.
36

كافة، وجعله رحمة للعالمين وخاتما للنبيين، وقد صرف عمره الشريف وجميع
طاقاته وطاقات أهله وأصحابه في بث الإسلام ونشره، وكان يعتني ويهتم في
دعوته وإرشاده حتى بالمسائل الجزئية الفرعية كمال الاهتمام، وكان ملتفتا إلى
أن الإسلام لما يستوعب الحجاز بعد، فضلا عن سائر البلاد، وأن السلطات الكافرة
في إيران والروم وغيرها تقف أمام نشر الإسلام، ولا يتيسر دفعها إلا بالقوة
والقيادة الجازمة، وكان عالما بأخلاق العرب وتعصباتهم، وملتفتا إلى وجود
منافقين يعملون لانتهاز الفرص، وأن حب الدنيا والمناصب رأس كل الخطايا.
فهل يجوز العقل مع ذلك كله أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أهمل بالكلية أمر القيادة من بعده،
ولم يعين للمسلمين تكليفهم في ذلك؟
كيف، ولو أراد قيم قرية صغيرة أن يسافر سفرا موقتا فهو يعين مرجعا
ويوصي بالرجوع إليه في الأمور، فكيف ينسب إليه (صلى الله عليه وآله) مع كونه عقل الكل وخاتم
الرسل، أنه ترك الاستخلاف عن عمد أو غفلة؟ وهل يمكن أن يقال: إن أبا بكر
حيث استخلف كان أبصر بمصالح المسلمين، وأرأف بهم وأحرص عليهم من
رسول الله (صلى الله عليه وآله). وهل لم تكن أهمية حفظ الإسلام وبسطه وتنفيذ مقرراته إلى يوم
القيامة، وحفظ نظام المسلمين في نظر النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) بقدر أهمية الوصايا
الشخصية المتعلقة بالأموال الجزئية؟
وقد ورد عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال: " من مات بغير وصية مات ميتة جاهلية " (1)
وقال: " ما حق أمري مسلم أن يبيت ليلتين وله شيء يوصي فيه إلا ووصيته
مكتوبة عنده " (2).
وفي الدر المنثور عن أبي سعيد الخدري، قال: نزلت هذه الآية (يا أيها النبي

(1) الوسائل: 13، 352.
(2) ابن ماجة: 2، 901.
37

بلغ ما أنزل إليك من ربك) على رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم غدير خم في علي بن أبي
طالب " (1) وقد ورد أنه كان في حجة الوداع مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) تسعون ألفا، وقيل
مئة ألف وعشرون ألفا، وقيل نحو ذلك، فلما انصرف راجعا إلى المدينة ووصل إلى
غدير خم من الجحفة التي يتشعب فيها طريق المدينة من غيرها نزلت عليه هذه
الآية، فأمر أن يرد من تقدم منهم ويحبس من تأخر، فقام خطيبا وقال في ضمن
خطبته: " أتعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم - ثلاث مرات - قالوا نعم. فقال
رسول الله (صلى الله عليه وآله): من كنت مولاه فعلي مولاه " والخبر متواتر إجمالا، وقد عد العلامة
المتتبع، آية الله الأميني - طاب ثراه - في أول المجلد الأول من موسوعته المسماة
ب‍ " الغدير " مأة وعشرة من أعاظم الصحابة الرواة لحديث الغدير، مع ذكر الموارد
والمآخذ من كتب السنة فراجع.
ولا أظن أحدا من المسلمين يتوقع من أخيه المسلم أن يكتم ما يعتقده بينه
وبين ربه حقا ولا يبينه في البحث العلمي. وإنما الذي يتوقع من كل مسلم هو حفظ
الأدب وصون اللسان والقلم، والبعد عن التشاجر والنزاع، وحفظ أخوة المسلمين
ووحدتهم في مقابل الأجانب والأعداء.
هذا ما عندنا إجمالا في مسألة الخلافة والإمامة، والتفصيل يطلب من
الكتب الكلامية.
التمسك بالعترة:
وأما مسألة التمسك بأهل البيت (عليهم السلام) وحجية أقوالهم في أصول الدين
وفروعه، فهي أمر آخر غير مسألة الإمامة والخلافة، وإن كانت المسألتان عندنا
متلازمتين. فقد جعلهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) عدلا للكتاب العزيز في الحديث المتواتر

(1) الدر المنثور: 2، 298.
38

بين الفريقين.
فعن زيد بن أرقم أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: " أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن
يأتي رسول ربي فأجيب. وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى
والنور، فخذوا كتاب الله واستمسكوا به - فحث على كتاب الله ورغب فيه - ثم
قال: وأهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله
في أهل بيتي " (1).
وعنه أيضا قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن
تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى
الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض. فانظروا كيف
تخلفوني فيهما " (2) وواضح أن التمسك بالكتاب هو الأخذ بما فيه، والتمسك
بالعترة هو الأخذ بأقوالهم وسنتهم. وقد خص البحاثة آية الله السيد حامد حسين
الهندي (قدس سره) مجلدين ضخمين من موسوعته المسماة ب‍ " عبقات الأنوار " بنقل
حديث الثقلين وطرقه من كتب السنة، فراجع.
فعلى الأمة الإسلامية التمسك بالعترة الطاهرة في الأعمال والأقوال، ولا
أظن أن يجتري أحد من العلماء على تقديم أئمة المذاهب الأربعة على الأئمة من
العترة الطاهرة.
وفي مستدرك الحاكم عن أبي ذر قال: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول " ألا إن مثل
أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من قومه: من ركبها نجا، ومن تخلف عنها
غرق " (3).

(1) صحيح مسلم: 4، 1873 - طبعة أخرى: 7، 122.
(2) الترمذي: 5، 328.
(3) المستدرك: 3، 151.
39

وفيه أيضا عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " النجوم أمان لأهل
الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من
العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس " (1).
وإني أدعو إخواننا من علماء السنة أن ينظروا إلى عقيدتنا في مسألة
الإمامة والخلافة، وفي الأخذ بمذهب العترة الطاهرة من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) بنظرة
علمية، بعيدا عن التأثر بالأجواء السياسية، التي نشاهد في أعصارنا كيف تؤثر في
الناس وتجعل الحقائق خلف الأستار.
التنبيه على أمور:
الأول: في بيان مفهوم الإمامة:
ففي المفردات: " الإمام: المؤتم به، إنسانا، كأن يقتدى بقوله أو فعله. أو كتابا
أو غير ذلك. محقا كان أو مبطلا. وجمعه أئمة " (2) وفي الصحاح: " الإمام: الذي
يقتدى به، وجمعه أئمة " (3). وفي لسان العرب " يقال إمام القوم: معناه هو المتقدم
لهم، ويكون الإمام رئيسا كقولك: إمام المسلمين " (4).
ويشبه أن يكون اللفظ بفعله مأخوذا من لفظ الأمام بفتح الهمزة بمعنى القدام
ضد الخلف، ويحتمل أن يكون مأخوذا من الأم، وأم الشيء أصله، فكأن إمام القوم
أصلهم وهم تبع له. ويمكن أن يكون مأخوذا من الأم بمعنى القصد، لكونه يقصد.
الثاني: في معنى الإمام اصطلاحا:
لا يخفى أن إمامة الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) لما كانت ثابتة عندنا بالنص

(1) المستدرك: 3، 149.
(2) المفردات: 20.
(3) الصحاح: 5، 1865.
(4) لسان العرب: 12، 26.
40

وبوجدانهم شرائط الإمام الحقة، صار هذا سببا لانصراف لفظ " الإمام " عندنا
إليهم (عليهم السلام) حتى كأن لفظ الإمام وضع لهم. ولكن يجب أن يعلم أن اللفظ قد وضع
للقائد الذي يؤتم به، إما في الصلاة أو في الجهاد أو في أعمال الحج، أو في جميع
الشؤون السياسية والاجتماعية، سواء كان بحق أو باطل.
فعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال " إن الأئمة في كتاب الله - عز وجل - إمامان. قال
الله - تبارك وتعالى -: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا) لا بأمر الناس، يقدمون أمر
الله قبل أمرهم، وحكم الله قبل حكمهم. وقال: (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار)
يقدمون أمرهم قبل أمر الله، وحكمهم قبل حكم الله، ويأخذون بأهوائهم خلاف ما
في كتاب الله - عز وجل - " (1).
وقد شاع استعمال الكلمة في مفهومها العام في الكتاب والسنة وكلمات
الأصحاب، يقف عليها المتتبع، فلتكن هذه النكتة في ذهنك، فإنها تفيدك في
المباحث الآتية.
الثالث: في بيان معنى الولاية وتفسيرها:
ففي المفردات: " الولاء والتوالي أن يحصل شيئان فصاعدا حصولا ليس
بينهما ما ليس منهما. ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان، ومن حيث النسبة،
ومن حيث الدين، ومن حيث الصداقة، والنصرة، والاعتقاد، والولاية: تولي
الأمر " (2).
وفي النهاية: " في أسماء الله - تعالى -: " الولي " هو الناصر. وقيل: المتولي
لأمور العالم والخلائق القائم بها. ومن أسمائه - عز وجل - " الوالي " وهو مالك

(1) الكافي: 1، 216.
(2) المفردات: 570.
41

الأشياء جميعها، المتصرف فيها. وكأن الولاية تشعر بالتدبير والقدرة والفعل، وما
لم يجتمع ذلك فيها لم ينطلق عليه اسم الوالي... ومنه الحديث " من كنت مولاه
فعلي مولاه " وقول عمر لعلي " أصبحت مولى كل مؤمن " (1).
وفي لسان العرب: " الولي: ولي اليتيم الذي يلي أمره ويقوم بكفايته، وولي
المرأة: الذي يلي عقد النكاح عليها، ولا يدعها تستبد بعقد النكاح دونه " (2).
فيظهر من الجميع أن التصرف مأخوذ في مفهوم الكلمة، فما في بعض
الكلمات من تفسير الولاية بخصوص المحبة لا يمكن المساعدة عليه، فهي تفيد
التصدي لشأن من شؤون الغير. وفي قبالها العداوة، وهي التجاوز والتعدي على
الغير، فتأمل قوله - تعالى -: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، يأمرون
بالمعروف وينهون عن المنكر) (3)، وقوله - تعالى -: (الله ولي الذين آمنوا،
يخرجهم من الظلمات إلى النور، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت، يخرجونهم
من النور إلى الظلمات) (4) فحيث ما ذكر لفظ الولاية ذكر بعده سنخ الفعل
والتصرف الناشي عنها، من الأمر والنهي، والعمل المناسب لها. فيظهر بذلك كون
التصرف مأخوذا في مفهومها.
ويشبه رجوع التلو والولي إلى أصل واحد، وأبدلت الواو تاء. ونظائره
كثيرة في كلام العرب، بل الظاهر أن المعاني الكثيرة التي ذكروها للمولى كلها
ترجع إلى أمر واحد، وهو كون الشخص واقعا إلى جانب الآخر ليتصدى لبعض
شؤونه ويسد بعض خلله.

(1) النهاية لابن الأثير: 5، 227.
(2) لسان العرب: 15، 407.
(3) التوبة 9: 71.
(4) البقرة 2: 257.
42

وبما ذكرنا يظهر أن قول النبي (صلى الله عليه وآله) في الخبر المتواتر " من كنت مولاه فعلي
مولاه " سواء كان بلفظ المولى أو الولي فمراده (صلى الله عليه وآله) أن يثبت لعلي مثل ما كان لنفسه
من ولاية التصرف والأولوية المذكورة في الآية الشريفة، ولذا صدره بقوله
" أتعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم " ثلاث مرات. ولو كان بصدد بيان
المحبة لم يحتج إلى بيان أولوية نفسه، ولا كان بيانها أمرا مهما يوجب إيقاف مئة
وعشرين ألفا في المفازة في وسط الهاجرة الشديدة. ويشهد لذلك أيضا قوله (صلى الله عليه وآله)
في خبر عمران بن حصين " من بعدي " (1).
وتفصيل هذه الأبحاث موكول إلى الكتب الكلامية، فراجع.
الرابع: في تقسيم الولاية:
الولاية - بمعنى التصرف والاستيلاء على الشخص أو الأمر - أما تكوينية،
وإما تشريعية. والتشريعية إما قهرية كولاية الأب على ابنه الصغير قهرا عليه، وإما
اختيارية كولاية حاصلة من اختيار الناس وتوليتهم من له أهلية الولاية بالبيعة له.
ولا يخفى ثبوت الولاية التكوينية والتشريعية بمرتبتهما الكاملة لله - تعالى -.
ويوجد لرسول الله (صلى الله عليه وآله) بل لجميع الأنبياء أو أكثرهم، وكذا الأئمة المعصومين -
سلام الله عليهم أجمعين - بل لبعض الأولياء الكرام أيضا مرتبة من الولاية
التكوينية، بحسب ارتقاء وجودهم وتكاملهم في العلم والقدرة النفسانية والإرادة
والمشيئة، والارتباط بالله - تعالى - وعناية الله بهم. إذ جميع معجزات الأنبياء
والأئمة وكرامات الأولياء نحو تصرف منهم في التكوين، وإن كانت مشيئتهم في
طول مشيئة الله وبإذنه.
هذا مضافا إلى أن النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة الطاهرين (عليهم السلام) خلاصة العالم وثمرته.

(1) سنن الترمذي: 5، 296.
43

فمثل عالم الطبيعة بمراحله كمثل أشجار غرسها غارسها وسقاها ورباها،
لتثمر له ثمارا حلوة جيدة، فالثمرة العالية غاية وجود الشجرة ومن عللها. فالنبي
الأكرم والأئمة المعصومون ثمرة العالم في قوس الصعود وغايته، وإن كان غاية
الغايات هو الله - تعالى - بذاته المقدسة، كما حقق في محله.
وأما ما نسب إلينا من الاعتقاد بكون العالم مخلوقا للأئمة (عليهم السلام) لا لله
- تعالى - فبهتان عظيم.
وكيف كان، فأصل الولاية التكوينية بنحو الإجمال ثابتة لهم بلا إشكال، وان
لم نحط بحدودها. ولكن محط البحث هنا هو الولاية التشريعية المستتبعة لوجوب
الطاعة لهم. وللبحث في الولاية التكوينية وكيفية صدور المعجزات والكرامات
محل آخر.
الخامس: في مراتب الولاية التشريعية:
لا يخفى أن الولاية التشريعية بمعنى حق التصرف والأمر، حقيقة ذات
مراتب، فمرتبتها الكاملة ثابتة لله - تعالى -. ومرتبة منها ثابتة لبعض الأنبياء وللنبي
الأكرم (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) في زمن الحضور. ومرتبة منها ثابتة للفقيه العادل العالم
بالحوادث ومسائل زمانه البصير بها في عصر الغيبة بالنصب، أو تتحقق له بانتخاب
الأمة على ما يأتي. ويعبر عن واجد هذه المرتبة بالإمام والوالي والأمير
والسلطان ونحو ذلك. ومرتبة منها أيضا ثابتة للأب والجد، ولعدول المؤمنين في
بعض الموارد.
ولعله يوجد مرتبة منها للوالدين مطلقا، ما لم تزاحم أمرا أهم، لكونهما من
أولياء النعم.
ومرتبة منها ثابتة لكل مؤمن ومؤمنة، كما قال عز وجل: (والمؤمنون
44

والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) (1).
السادس: في مراتب الولاية بحسب التحقق الخارجي:
الأولى: مرتبة الاستعداد والصلاحية، التي بها يصير عند العقلاء صالحا لأن
يجعل واليا، فالحكيم المطلق لا يرسل إلى الخلق لغرض الهداية والإرشاد ولا
يجعل إماما لإدارة شؤون الناس إلا من له لياقة ذاتية وأهلية لهذا المنصب. وهذه
المرتبة كمال ذاتي، وليست هي الولاية والإمامة الاصطلاحية بل مقدمة لها.
الثانية: المنصب المجعول للشخص اعتبارا من قبل من له ذلك، وإن فرض
عدم ترتب الأثر المترقب فيها عليه. فهي أمر اعتباري، بل المناصب كلها أمور
اعتبارية، غاية الأمر أن اعتبار منصب خاص لشخص خاص لا محالة يكون
مشروطا بكونه لائقا له واجدا للفضائل النفسانية أو الخارجية، وإلا كان جزافا.
الثالثة: الولاية والسلطة الفعلية الحاصلة بمبايعة الناس وتسليم السلطة له
فعلا، مثل ما حصل لأمير المؤمنين (عليه السلام) بعد عثمان بالبيعة له. فهي خارجية الولاية
وعينيتها بلحاظ تحقق آثارها في الخارج، ولها وجهتان: وجهة كونها مقاما
وسلطة يتنافس فيه المتنافسون. ووجهة كونها أمانة من الله ومن الناس ولا
تستعقب إلا مسؤولية وكلفة. وإنما ينظر إليها أولياء الله بالوجهة الثانية، كما في
كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الأشعث عامله على آذربيجان: " إن عملك ليس لك
بطعمة، ولكنه في عنقك أمانة " (2) وهكذا قول الإمام السجاد (عليه السلام): " اللهم إن هذا
المقام لخلفائك وأصفيائك ومواضع أمنائك، في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم

(1) التوبة 9: 71.
(2) نهج البلاغة، عبده: 3، 7 صالح: 366، الكتاب 5.
45

بها، قد ابتزوها " (1)، يراد به هذه المرتبة من الولاية، وإلا ففضائل الأئمة (عليهم السلام)
وعلومهم وكمالاتهم مما لا يتطرق إليها الإبتزاز.

(1) الصحيفة السجادية، الدعاء 48.
46

الباب الثالث:
في بيان ضرورة الدولة في جميع
الأعصار:
47

الفصل الأول
في ذكر كلمات بعض العلماء والأعاظم المدعين
للإجماع في المسألة
1 - المحقق الكركي: " اتفق أصحابنا على أن الفقيه العادل الأمين الجامع
لشرائط الفتوى، المعبر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعية، نايب من قبل أئمة
الهدى (عليهم السلام) في حال الغيبة، في جميع ما للنيابة فيه مدخل. وربما استثنى الأصحاب
القتل والحدود " (1).
2 - المحقق النراقي: " كلية ما للفقيه العادل توليه وله الولاية فيه أمران:
أحدهما: كل ما كان للنبي (صلى الله عليه وآله) والإمام (عليه السلام)، الذين هم سلاطين الأنام
وحصون الإسلام، فيه الولاية وكان لهم، فللفقيه أيضا ذلك، إلا ما أخرجه الدليل
من إجماع أو نص أو غيرهما.
وثانيهما: أن كل فعل متعلق بأمور العباد في دينهم أو دنياهم، ولا بد من
الإتيان به ولا مفر منه، إما عقلا، أو عادة، من جهة توقف أمور المعاد أو المعاش
لواحد أو جماعة عليه، وإناطة انتظام أمور الدين أو الدنيا به، أو شرعا... بل علم

(1) الجواهر: 21، 396 عن رسالة المحقق الكركي في صلاة الجمعة.
49

لابدية الإتيان به أو الإذن فيه ولم يعلم المأمور به ولا المأذون فيه، فهو وظيفة
الفقيه وله التصرف فيه والإتيان به.
أما الأول: فالدليل عليه بعد ظاهر الإجماع... ما صرح به الاخبار...
وأما الثاني: فيدل عليه بعد الإجماع أيضا أمران. " (1)
والظاهر أن مراده بالقسم الثاني الأمور المهمة المعبر عنها في كلماتهم
بالأمور الحسبية، التي لا يرضى الشارع بإهمالها في أي ظرف من الظروف.
3 - الماوردي: " الإمامة موضوع لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة
الدنيا. وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالاجماع وإن شذ عنهم الأصم " (2).
4 - ابن أبي الحديد: " قال المتكلمون: الإمامة واجبة إلا ما يحكى عن أبي
بكر الأصم من قدماء أصحابنا أنها غير واجبة إذا تناصفت الأمة ولم تتظالم " (3).

(1) العوائد: 187 - 188.
(2) الأحكام السلطانية: 5.
(3) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 2، 308.
50

الفصل الثاني
سير إجمالي في أدلة الفقه الإسلامي وفتاوى
الأصحاب التي يظهر منها إجمالا أن الحكومة داخلة في
نسج الإسلام ونظامه، ولا يجوز تعطيلها في عصر ولامكان
قبل الورود في أصل المسألة ينبغي أن نقوم بسير إجمالي في أدلة الفقه
والفتاوى المذكور فيها لفظ الإمام، والوالي، والسلطان، والحاكم، وبيت المال،
والسجن، ونحو ذلك، في الأبواب المختلفة، من أول الفقه إلى آخره. فهذه النظرة
الإجمالية، مضافا إلى أنها تعرفنا طبيعة فقه الإسلام وماهيته، تدلنا على كون
الدولة داخلة في نسج الإسلام ونظامه، وتعرفنا أيضا على واجبات الدولة
وصلاحياتها.
فاعلم أن تصور الإسلام والنظرة إليه على نحوين:
الأول: أن يتصور أن الإسلام يستهدف تأمين الحياة الآخرة للمسلمين فقط،
ولا مساس له بالسياسة والمسائل الاقتصادية والاجتماعية إلا تبعا. وقد أبرزت
هذا التصور وروجته الدعايات المشؤومة من قبل الأجانب وعمالهم، وألقته في
أذهان عامة المسلمين غير الواعين، بل وفي أذهان كثير من علماء الدين أيضا.
51

الثاني: أن دين الإسلام قد التفت إلى جميع حاجات الإنسان (1) في حياته
ومماته، وبين له ما يوجب سعادته في جميع مراحله، فهو دين ودولة، وعقيدة
ونظام، وعبادة وأخلاق وتشريع، واقتصاد وسياسة وحكم. والواجب على
المسلمين الالتفات إلى جميع هذه الجوانب والاهتمام بها. وهذا هو الفهم الصحيح
للإسلام، فلنشر إلى أبواب الفقه بالإجمال، فإنها خير شاهد يدلك على هذا.
أدلة الفقه:
في الصلاة:
فالصلاة التي هي عمود الدين وقربان كل تقي، وتشريعها لارتباط
المخلوق بخالقه، نرى مع ذلك تأكيد الإسلام فيها على الجماعة، حتى أن رسول
الله (صلى الله عليه وآله) في أول تشريعها أقامها جماعة مع أمير المؤمنين (عليه السلام) وخديجة، وأكد فيها
على الجماعة حتى في صف القتال، قال - تعالى -: (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم
الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم، فإذا سجدوا فليكونوا من
ورائكم...) (2).
وعن النبي (صلى الله عليه وآله): " لا صلاة لمن لم يصل في مسجد المسلمين إلا من
علة " (3).
فالمصالح الاجتماعية ملحوظة في الصلاة، وليست عبادة محضة وشخصية،
بل كأن الأصل فيها الجماعة، والفرادى إنما هي في صورة الاضطرار.
وأما صلاة الجمعة، فكانت الحجر الأساس للتجمع وتشكيل دولة إسلامية

(1) راجع هامش الصفحة 11.
(2) النساء 4: 102.
(3) مستدرك الوسائل: 1، 489.
52

في المدينة، وقد أقامها رسول الله (صلى الله عليه وآله) بنفسه في أول جمعة أدركها في المدينة في
محلة بني سالم بمأة من المسلمين، وأقامها بعده من تصدى لزعامة الأمة وتنظيم
أمورهم، وكان على الناس حضورها إلا ذوو الأعذار.
فعن الرضا (عليه السلام): " فإن قيل: فلم جعلت الخطبة؟ قيل: لأن الجمعة مشهد عام،
فأراد أن يكون للأمير سبب إلى موعظتهم، وترغيبهم في الطاعة وترهيبهم من
المعصية، وتوقيفهم على ما أراد من مصلحة دينهم ودنياهم، ويخبرهم بما ورد
عليهم من الآفاق (الآفات - العلل والعيون) من الأهوال التي لهم فيها المضرة
والمنفعة " (1).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " إن على الإمام أن يخرج المحبسين في الدين
يوم الجمعة إلى الجمعة، ويوم العيد إلى العيد، ويرسل معهم. فإذا قضوا الصلاة
والعيد ردهم إلى السجن " (2).
وبالجملة فإن إقامة الجمعة من شؤون الحكومة، وهي الحجر الأساس
لتأسيسها والحفاظ عليها، وقد غلبت فيها الجهات الاجتماعية والسياسية، بل
العسكرية. وكذا صلاة العيدين.
في الصوم والاعتكاف:
فعن أبي جعفر (عليه السلام): " إذا شهد عند الإمام شاهدان أنهما رأيا الهلال منذ
ثلاثين، أمر الإمام بالإفطار " الحديث (3).
وفي صحيحة عمر بن يزيد، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما تقول في

(1) الوسائل: 5، 39.
(2) الوسائل: 5، 36.
(3) الوسائل: 5، 104.
53

الاعتكاف ببغداد في بعض مساجدها؟ فقال (عليه السلام): " لا اعتكاف إلا في مسجد
جماعة قد صلى فيه إمام عدل صلاة جماعة " (1). قال في الوسائل: " هذا أيضا
شامل للمسجد الجامع، لأن الإمام العدل أعم من المعصوم، كالشاهد العدل " (2).
في الزكاة والخمس والأنفال:
أما الزكاة فيستفاد من الكتاب العزيز ومن أخبار كثيرة أنها من ضرائب
الحكومة الإسلامية، وأن المتصدي لأخذها وضبطها وتقسيمها هو الحاكم بعماله.
ونفس جعل السهم للعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم في الآية الشريفة، دليل على
كونها في تصرف الحكومة وأن أمرها بيد الإمام.
فعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " قلت له: ما يعطى المصدق؟ قال: ما يرى الإمام
ولا يقدر له شئ " (3). وعن الإمام الرضا (عليه السلام): " المغرم إذا تدين أو استدان في حق
أجل سنة، فإن اتسع، وإلا قضى عنه الإمام من بيت المال " (4).
وحينئذ فهل يمكن القول بأن المراد بالإمام هنا خصوص الإمام المعصوم،
فيكون الحكم مقصورا على عصر النبي (صلى الله عليه وآله) وخلافة أمير المؤمنين وعصر ظهور
المهدي (عليه السلام) ثم تصير معطلة في سائر الأعصار؟!
وأما الخمس والأنفال فكونهما للإمام بما أنه إمام مما لا إشكال فيه. وقد
حققنا في كتاب الخمس أن حيثية الإمامة فيهما حيثية تقييدية لا تعليلية، بمعنى أن
الحيثية بنفسها هي الموضوع للملك، لا أنها علة وواسطة في الثبوت لملكية الإمام

(1) الوسائل: 7، 401.
(2) الوسائل: 7، 402.
(3) الوسائل: 6، 144.
(4) الكافي: 1، 407.
54

الصادق (عليه السلام) مثلا، وإلا لانتقل إلى ورثته، لا إلى الإمام بعده.
فعن الإمام الهادي (عليه السلام) قال: " ما كان لأبي بسبب الإمامة فهو لي، وما كان
غير ذلك فهو ميراث " (1) ويظهر من الأخبار كون الخمس بأجمعه حقا وحدانيا
للإمام (عليه السلام)، غاية الأمر أنه يتكفل فقراء بني هاشم، ولذا لم تدخل لام الملك على
الأصناف الثلاثة في الآية الشريفة (واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه
وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) (2). وبالجملة يستفاد من
مجموع الأدلة أن الخمس ضريبة إسلامية مقررة لمنصب إمامة المسلمين.
ونحوه الأنفال، أعني مجموع الأموال العامة التي ليس لها مالك شخصي،
كأرض الموات والجبال والآجام والأودية والبحار والمعادن، ونحوها. وهذا هو
المتعارف المتداول في جميع الأعصار والبلاد من جعل الأموال التي لا ترتبط
بشخص خاص في اختيار الحاكم الممثل للمجتمع. وأنت ترى أن المحدث الفذ
ثقة الإسلام الكليني لم يعقد في فروع الكافي بابا للخمس والأنفال، بل تعرض
لرواياتهما في مبحث الإمامة من الأصول، فيظهر من ذلك أنه (قدس سره) كان يراهما من
شؤون الإمامة، وأن تشريعهما مبني على أساس الدولة والحكومة، ووجود
الحاكم الصالح المعبر عنه ب‍ " الإمام ".
ومما يدل على هذا الأمر أيضا في هذه الثلاثة، مرسلة حماد الطويلة (3) عن
بعض أصحابنا عن الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) حينما لم يكن مبسوط اليد،
فغرضه (عليه السلام) كان لا محالة بيان حكم الزكاة والخمس والأنفال والأراضي بحسب
التشريع الأولي في الإسلام.

(1) الوسائل: 6، 374.
(2) الأنفال 8: 41.
(3) راجع الكافي: 1، 539.
55

في الحج والمزار:
وأما الحج فلا شك في أن الجهات الاجتماعية والسياسية بل الاقتصادية
منظورة في تشريعه جدا. قال الله - تعالى -: (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما
للناس) (1) " والقيام والقوام اسم لما يقوم به الشيء " كما ذكر الراغب (2)، فمقتضى
الآية أن الناس يتقومون في معاشهم بالكعبة.
فيعلم من ذلك أن الغرض من تشريع الحج ليس الإتيان بصورة الأعمال
فقط، بل مجيء المستطيعين من البلاد والأصقاع المختلفة وتعارفهم وتفاهمهم،
ليتعارفوا ويتعاضدوا ويوجدوا بينهم العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية
وغيرها، فيكون الحج لهم مؤتمرا كبيرا عالميا في مركز الوحي والنبوة. وبمثل ذلك
يقوم الناس والأمم.
وعن الرضا (عليه السلام) قال: " إنما أمروا بالحج لعلة الوفادة إلى الله عز وجل... مع ما
في ذلك لجميع الخلق من المنافع، لجميع من في شرق الأرض وغربها، ومن في
البر والبحر، ممن يحج وممن لم يحج، من بين تاجر وجالب وبائع ومشتري
وكاسب ومسكين ومكار وفقير، وقضاء حوائج أهل الأطراف في المواضع
الممكن لهم الاجتماع فيه، مع ما فيه من التفقه ونقل أخبار الأئمة إلى كل صقع
وناحية " (3) فانظر كيف غفل المسلمون وأغفلوا عن بركات وفوائد هذا الاجتماع
المهم في مركز الوحي، الذي سهل الله تحققه لهم في كل سنة. ولو كان لهم وعي
سياسي لأمكن لهم حل كثير من المسائل والمشاكل بتبادل الأفكار والتفاهم، ولم
يتسلط عليهم الأعداء، مع كثرة عدد المسلمين وقدرتهم المعنوية وطاقاتهم

(1) المائدة 5: 97.
(2) المفردات: 432.
(3) الوسائل: 8، 7.
56

الاقتصادية.
وعن الصادق (عليه السلام) قال: " لو عطل الناس الحج لوجب على الإمام أن يجبرهم
على الحج " (1).
وفي خبر حفص قال: " رأيت أبا عبد الله (عليه السلام) وقد حج فوقف الموقف، فلما
دفع الناس منصرفين سقط أبو عبد الله (عليه السلام) عن بغلة كان عليها، فعرفه الوالي الذي
وقف بالناس تلك السنة - وهي سنة أربعين ومأة - فوقف على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال
له أبو عبد الله (عليه السلام) لا تقف، فان الإمام إذا دفع بالناس لم يكن له أن يقف... " (2) ولعل
غرضه (عليه السلام) أن قائد الجماعة وأميرهم يجب عليه رعاية مصلحة الجماعة، وقد
أطلق لفظ الإمام على أمير الحاج، مع كونه منصوبا من قبل سلطان وقته. ويظهر
من الأخبار تعارف تعيين أمير الحاج في تلك الأعصار وكون أداء الأعمال تحت
نظره، ولا محالة كان الأئمة (عليهم السلام) وأصحابهم أيضا يتابعونه، ولو فرض تخلفهم عنه
مرة أو مرات لبان وظهر وضبطه التاريخ. وبذلك يظهر كفاية الأعمال المأتية بحكم
حاكمهم. نعم كفايتها في صورة العلم بالخلاف مشكل، ولكن الغالب هو الشك لا
العلم بالخلاف. وقد ذكر المسعودي في آخر " مروج الذهب " أسامي أمراء الحج
من حين فتح مكة، أعني سنة ثمان من الهجرة، إلى سنة خمس وثلاثين وثلاثمأة..
والأئمة (عليهم السلام) كانوا يعاملون حكام الجور معاملة الحاكم الحق، حفظا لمصالح
الإسلام والمسلمين، ولذا أنفذوا الخراج والزكوات والأخماس المؤداة إليهم،
وأخذ الجوائز منهم. ولا ينافي هذا وجوب القيام في قبال سلاطين الجور مع
القدرة ووجود العدد والعدة.

(1) الوسائل: 8، 15.
(2) الوسائل: 8، 290.
57

في الجهاد:
والآيات والأخبار الواردة فيه في غاية الكثرة. قال - تعالى -: (يا أيها
النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) (1).
وقال: (انفروا خفافا وثقالا، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله،
ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) (2).
وعن الصادق (عليه السلام) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الخير كله في السيف، وتحت
ظل السيف، ولا يقيم الناس إلا السيف، والسيوف مقاليد الجنة والنار " (3).
وعنه (عليه السلام) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): للجنة باب يقال له باب المجاهدين،
يمضون إليه فإذا هو مفتوح وهم متقلدون بسيوفهم، والجمع في الموقف والملائكة
ترحب بهم. " قال: " فمن ترك الجهاد ألبسه الله ذلا وفقرا في معيشته، ومحقا في
دينه، ان الله أغنى (أعز) أمتي بسنابك خيلها، ومراكز رماحها " (4).
وقسم الفقهاء الجهاد إلى قسمين: الجهاد الابتدائي، والجهاد الدفاعي.
وأرادوا من الأول قتال المشركين والكفار لدعائهم إلى الإسلام والتوحيد
والعدالة (5). ومن الثاني قتال من دهم المسلمين منهم للدفاع عن حوزة الإسلام،
وأراضي المسلمين، ونفوسهم، وأعراضهم، وأموالهم، وثقافتهم.
وقد دلت الأخبار وفتاوى أصحابنا على اشتراط الجهاد الابتدائي بوجود
الإمام العادل أو من نصبه لذلك:

(1) التوبة 9: 73.
(2) التوبة 9: 41.
(3) الوسائل: 11، 5.
(4) الوسائل: 11، 5.
(5) سيأتي كلام لنا في الجهاد الابتدائي لدعوة الكفار إلى الإسلام والعدالة - م -.
58

فعن الرضا (عليه السلام) في كتابه إلى المأمون: " والجهاد واجب مع الإمام العادل
(العدل خ. ل) (1) ".
وفي خبر بشير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " قلت له: إني رأيت في المنام أني
قلت لك: إن القتال مع غير الإمام المفترض طاعته حرام، مثل الميتة والدم ولحم
الخنزير، فقلت لي: نعم هو كذلك؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): هو كذلك، هو كذلك " (2).
فالشرط في الجهاد الابتدائي على ما في الأخبار والكلمات هو عنوان
الإمام العادل في قبال الإمام الجائر، لا الإمام المعصوم في قبال غير المعصوم.
ولفظ الإمام في اللغة وكلمات الأئمة (عليهم السلام) لم ينحصر إطلاقه على الأئمة الاثني
عشر (عليهم السلام) بل هو موضوع للقائد الذي يؤتم به في الجماعة أو الجمعة أو الحج أو
سياسة البلاد كما مر، وكذا الإمام المفترض طاعته، لصدق ذلك كله على
المنصوبين من قبل النبي (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) أمثال مالك الأشتر.
والجهاد شرع لرفع الفتنة وكون الدين كله لله كما في الآية، وحينئذ فهل
يمكن الالتزام بأن الله - تعالى - لا يريد رفع الفتنة وأن يكون الدين لله في عصر
غيبة الإمام المعصوم وإن طالت آلاف السنين؟! وهل يجوز العقل أن يترك الناس
في عصر الغيبة بلا تكليف في قبال الجنايات والفساد والكفر والإلحاد إلى أن
يظهر صاحب الأمر؟!
وأما الجهاد الدفاعي بأنواعه التي أشرنا إليها، فلا يشترط وجوبه بوجود
الإمام قطعا، فالدفاع واجب بضرورة العقل والشرع. وقد قال الله - تعالى - في
قصة طالوت وقتل داود لجالوت: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت

(1) الوسائل: 11، 11.
(2) الوسائل: 11، 32.
59

الأرض) (1). ودفعه الفساد عنهم ليس إلا بقيام أهل الحق ودفاعهم.
وفي سورة الحج: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم
لقدير * الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله * ولولا دفع الله
الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله
كثيرا، ولينصرن الله من ينصره ان الله لقوي عزيز * الذين إن مكناهم في الأرض
أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر * ولله عاقبة
الأمور) (2). وهل يمكن الالتزام بأن الله - تعالى - في عصر غيبة الإمام الثاني
عشر (عليه السلام) لا يبغض الفساد في الأرض، ولا هدم المساجد والمعابد، ولا يحب إقامة
الصلاة وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟!
وعن الصادق (عليه السلام) بعد ذكر قوله - تعالى -: (أذن للذين يقاتلون بأنهم
ظلموا) قال (عليه السلام): " وبحجة هذه الآية يقاتل مؤمنوا كل زمان " (3).
وفي خطبة الإمام الحسين (عليه السلام) لأصحاب الحر: " أيها الناس، إن رسول
الله (صلى الله عليه وآله) قال: من رأى سلطانا جائرا، مستحلا لحرم الله، ناكثا لعهد الله، مخالفا لسنة
رسول الله (صلى الله عليه وآله) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان
حقا على الله أن يدخله مدخله " (4).
فالجهاد الدفاعي في قبال هجوم الأجانب والكفار، والتسلط على بلاد
المسلمين وشؤونهم وثقافتهم واقتصادهم من أوجب الواجبات، والتشكيك في
ذلك تشكيك فيما يحكم به الكتاب والسنة بل العقل والفطرة. بل الدفاع عن بيضة

(1) البقرة 2: 251.
(2) الحج 22: 41 - 39.
(3) الوسائل: 11، 27.
(4) تاريخ الطبري: 7، 300.
60

الإسلام وحوزة المسلمين واجب ولو في ظل راية الباطل أيضا بشرط عدم
تأييده.
ففي خبر يونس قال: " سأل أبا الحسن (عليه السلام) رجل وأنا حاضر فقال له: جعلت
فداك، إن رجلا من مواليك بلغه أن رجلا يعطي سيفا وقوسا في سبيل الله، فأتاه
فأخذهما منه وهو جاهل بوجه السبيل، ثم لقيه أصحابه فأخبروه أن السبيل مع
هؤلاء لا يجوز، وأمروه بردهما؟ قال: فليفعل. قال: قد طلب الرجل فلم يجده
وقيل له قد قضى الرجل. قال: فليرابط ولا يقاتل، قال: مثل قزوين وعسقلان
والديلم وما أشبه هذه الثغور؟ فقال: نعم، قال: فإن جاء العدو إلى الموضع الذي هو
فيه مرابط كيف يصنع؟ قال: يقاتل عن بيضة الإسلام، قال يجاهد؟ قال: لا إلا أن
يخاف على دار المسلمين، أرأيتك لو أن الروم دخلوا على المسلمين لم ينبغ (يسع
خ ل) لهم أن يمنعوا؟ قال: يرابط ولا يقاتل، وإن خاف على بيضة الإسلام
والمسلمين قاتل، فيكون قتاله لنفسه ليس للسلطان، لأن في دروس الإسلام
دروس ذكر محمد (صلى الله عليه وآله) " (1) وسند الحديث لا بأس به.
واعلم أن الدفاع لا يمكن ولا يتحصل إلا بإعداد المقدمات والوسائل
والتسلح بسلاح العصر والتدرب عليه، فيجب ذلك لا محالة. ولعله لا يتيسر أيضا
في بعض الأحيان إلا بالتكتل والتشكل ولو خفية. ولا محالة يتوقف ذلك على أن
يؤمروا على أنفسهم رجلا عالما عادلا بصيرا بالأمور ويلتزموا بإطاعته، حتى
ينصرهم الله بتأييده ونصره. كما اتفق ذلك في أكثر الثورات الناجحة في العالم.
فيعلم بذلك أن القتال يتوقف على وجود القائد الجامع للشتات، وإن شئت فسم
هذا القائد أيضا إماما، ولكن وجوده شرط لتحقق القتال لا شرط لوجوبه.

(1) الوسائل: 11، 19.
61

في قتال البغاة على الإمام:
قال الله - تعالى -: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن
بغت إحديهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيئ إلى أمر الله) (1) والظاهر
أن تسمية الخارج على الإمام بالباغي أخذت من هذه الآية. والخدشة في
الاستدلال بها، بأنها في اقتتال طائفتين من المؤمنين لأمر ما لا في خروج طائفة
على الإمام، مدفوعة: أولا، بصدق الطائفتين على جند الإمام والباغي بلا إشكال.
وثانيا: بالأولوية القطعية، إذ لو وجب دفع الباغي على بعض المؤمنين، فدفعه عن
إمام المؤمنين يجب بطريق أولى.
وعن جعفر، عن أبيه قال: ذكرت الحرورية عند علي (عليه السلام) فقال: " إن خرجوا
على إمام عادل أو جماعة فقاتلوهم، وإن خرجوا على إمام جائر فلا تقاتلوهم،
فإن لهم في ذلك مقالا " (2).
فيما دل على أن أمر الجزية والغنائم والأسارى والأراضي إلى الإمام:
فعن زرارة، قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما حد الجزية على أهل الكتاب،
وهل عليهم في ذلك شئ موظف لا ينبغي أن يجوز إلى غيره؟ فقال: ذلك إلى
الإمام، يأخذ من كل إنسان منهم ما شاء على قدر ما له وما يطيق " (3).
وعن معاوية بن وهب، قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): السرية يبعثها الإمام
فيصيبون غنائم، كيف تقسم؟ قال: إن قاتلوا عليها مع أمير أمره الإمام عليهم
أخرج منها الخمس لله وللرسول، وقسم بينهم أربعة أخماس، وإن لم يكونوا قاتلوا

(1) الحجرات 49: 9.
(2) الوسائل: 11، 60.
(3) الوسائل: 11، 113.
62

عليها المشركين كان كل ما غنموا للإمام، يجعله حيث أحب " (1).
وعن علي بن الحسين (عليهما السلام): " إذا أخذت أسيرا فعجز عن المشي ولم يكن
معك محمل فأرسله ولا تقتله، فإنك لا تدري ما حكم الإمام فيه " (2).
وعن صفوان والبزنطي جميعا قالا: " ذكرنا له الكوفة... فقال: من أسلم
طوعا تركت أرضه في يده وأخذ منه العشر... وما لم يعمروه منها أخذه الإمام
فقبله ممن يعمره وكان للمسلمين... وما أخذ بالسيف فذلك إلى الإمام يقبله بالذي
يرى " (3).
في الحجر والوصية:
فعن الباقر (عليه السلام): " أن عليا (عليه السلام) كان يفلس الرجل إذا التوى على غرمائه، ثم
يأمر به فيقسم ماله بينهم بالحصص، فإن أبى باعه فقسم بينهم، يعني ماله " (4).
وعن صفوان، قال: " سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن رجل كان لرجل عليه مال،
فهلك وله وصيان، فهل يجوز أن يدفع إلى أحد الوصيين دون صاحبه؟ قال: لا
يستقيم، إلا أن يكون السلطان قد قسم بينهما المال فوضع على يد هذا النصف
وعلى يد هذا النصف، أو يجتمعان بأمر السلطان " (5).
في النكاح والطلاق وملحقاته:
فعن أبي حمزة الثمالي، في العنين، قال: " سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: "... فإن

(1) الوسائل: 11، 84.
(2) الوسائل: 11، 53.
(3) الوسائل: 11، 119.
(4) الوسائل: 13، 146.
(5) الوسائل: 13، 440.
63

تزوجت وهي بكر فزعمت أنه لم يصل إليها فإن مثل هذا تعرف النساء، فلينظر
إليها من يوثق به منهن، فإذا ذكرت أنها عذراء فعلى الإمام أن يؤجله سنة، فإن
وصل إليها وإلا فرق بينهما... " (1).
وعن بريد، قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المفقود كيف تصنع امرأته؟ فقال:
ما سكتت عنه وصبرت فخل عنها، وإن هي رفعت أمرها إلى الوالي أجلها أربع
سنين، ثم يكتب إلى الصقع الذي فقد فيه، فليسأل عنه... وإن لم يكن له مال قيل
للوالي: انفق عليها، فإن فعل فلا سبيل لها إلى أن تتزوج ما أنفق عليها، وإن أبى أن
ينفق عليها أجبره الوالي على أن يطلق تطليقة... " (2).
وعن محمد بن مسلم، قال: " سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الملاعن والملاعنة
كيف يصنعان؟ فقال: يجلس الإمام مستدبر القبلة، يقيمهما بين يديه مستقبل القبلة
بحذائه، الحديث ".
في المواريث:
فعن أبي بصير، قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل مسلم مات وله أم
نصرانية... فإن لم يسلم أحد من قرابته فإن ميراثه للإمام " (3).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " لا يستقيم الناس على الفرائض والطلاق إلا
بالسيف " (4) ونحوها غيرها، فيستفاد من هذه الرواية أن إقامة الحكومة الحقة
المقتدرة لإجراء المقررات والقوانين المشرعة، من أعظم أهداف الإسلام
وتشريعاته.

(1) الوسائل: 14، 613.
(2) الوسائل: 15، 389.
(3) الوسائل: 17، 381.
(4) الوسائل: 17، 419.
64

في القضاء والحدود:
فعن علي (عليه السلام) قال: " يجب على الإمام أن يحبس الفساق من العلماء،
والجهال من الأطباء، والمفاليس من الأكرياء، قال: وقال (عليه السلام) حبس الإمام بعد
الحد ظلم " (1).
وعن جعفر بن محمد (عليهما السلام)، أن عليا (عليه السلام) قال: " لا يصلح الحكم ولا الحدود
ولا الجمعة إلا بإمام " وروى في الدعائم عنه (عليه السلام) مثله وفيه " بإمام عدل " (2).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " من أخذ سارقا فعفا عنه فذلك له، فإذا رفع إلى
الإمام قطعه... " (3).
وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " من شهر السلاح في مصر... فجزاؤه جزاء
المحارب وأمره إلى الإمام إن شاء قتله وصلبه، وإن شاء قطع يده ورجله... " (4).
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: " ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم،
فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام ان يخطئ في العفو خير من أن يخطئ
في العقوبة " (5).
في القصاص والديات:
فعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " إذا اجتمع العدة على قتل رجل واحد، حكم
الوالي أن يقتل أيهم شاؤوا " (6).

(1) الوسائل: 18، 221.
(2) مستدرك الوسائل: 3، 220.
(3) الوسائل: 18، 330.
(4) الوسائل: 18، 532.
(5) سنن الترمذي: 2، 438.
(6) الوسائل: 19، 30.
65

وعن أبي جعفر (عليه السلام) في عبد جرح رجلين... قيل له: فإن جرح رجلا في أول
النهار وجرح آخر في آخر النهار؟ قال: " هو بينهما، ما لم يحكم الوالي في
المجروح الأول " (1).
وعن أبي ولاد الحناط، قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل مسلم قتل
رجلا مسلما (عمدا) فلم يكن للمقتول أولياء من المسلمين إلا أولياء من أهل
الذمة من قرابته، فقال: على الإمام أن يعرض على قرابته من أهل بيته (دينه)
الإسلام، فمن أسلم منهم فهو وليه يدفع القاتل إليه، فإن شاء قتل، وإن شاء عفا، وإن
شاء أخذ الدية. فإن لم يسلم أحد كان الإمام ولي أمره، فإن شاء قتل، وإن شاء
أخذ الدية فجعلها في بيت مال المسلمين، لأن جناية المقتول كانت على الإمام،
فكذلك تكون ديته لإمام المسلمين. قلت: فإن عفا عنه الإمام؟ قال: فقال: إنما
هو حق جميع المسلمين، وإنما على الإمام أن يقتل أو يأخذ الدية، وليس له أن
يعفو " (2).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " إن وجد قتيل بأرض فلاة، أديت ديته من بيت
المال، فإن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يقول: لا يبطل دم امرئ مسلم " (3).
وخبر أبي بصير، قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل قتل رجلا متعمدا ثم
هرب القاتل فلم يقدر عليه؟ قال: إن كان له مال أخذت الدية من ماله، وإلا فمن
الأقرب فالأقرب، وإن لم يكن له قرابة أداه الإمام. فإنه لا يبطل دم أمري مسلم "
وفي رواية أخرى: " ثم للوالي بعد أدبه وحبسه " (4).

(1) الوسائل: 19، 77.
(2) الوسائل: 19، 93.
(3) الوسائل: 19، 112.
(4) الوسائل: 19، 302 و 303.
66

عبارات الفقهاء:
اعلم أن مسألة إقامة الدولة الحقة المطابقة لموازين الإسلام من أعظم
المسائل الأساسية في الإسلام، فإنها الوسيلة الوحيدة لحفظ بيضة الإسلام ونظام
المسلمين وكيانهم، وواضح أن أهمية وجوب المقدمة بأهمية وجوب ذيها.
ولكن فقهاءنا - رضوان الله عليهم - تركوا البحث فيها في الكتب الفقهية بحثا
أساسيا واسعا. فنتعرض لبعض فتاواهم التي علق فيها الحكم على الإمام أو الوالي
أو السلطان، أو الحاكم أو نحو ذلك مما يشكل حمله على خصوص الإمام
المعصوم. ونكتفي منها بذكر نماذج من فتاوى كتابي " النهاية " لشيخ الطائفة
الطوسي و " الشرائع " للمحقق الحلي (قدس سرهما):
1 - قال الشيخ: " وقد يكون الأمر بالمعروف باليد، بأن يحمل الناس على
ذلك بالتأديب والردع، وقتل النفوس وضرب من الجراحات، إلا أن هذا الضرب
لا يجب فعله إلا بإذن سلطان الوقت المنصوب للرياسة... وإنكار المنكر يكون
بالأنواع الثلاثة التي ذكرناها، فأما باليد فهو أن يؤدب فاعله بضرب من التأديب،
إما الجراح أو الألم أو الضرب، غير أن ذلك مشروط بالإذن من جهة السلطان،
حسب ما قدمناه " (1).
2 - وقال المحقق: " ولو افتقر إلى الجراح أو القتل هل يجب؟ قيل: نعم،
وقيل لا إلا بإذن الإمام، وهو الأظهر " (2).
أقول: لو توقف إجراء المعروف والردع عن المنكر على الجراح والضرب
فهل يجبان مطلقا، أو يشترطان بإذن الإمام؟ قولان: من اطلاق الأدلة، ومن أن

(1) النهاية: 300.
(2) الشرائع: 1، 343.
67

الجواز بنحو الاطلاق لكل أحد، يوجب الهرج والمرج، بل واختلال النظام.
3 - قال الشيخ: " ومتى ضاق على الناس الطعام ولم يوجد إلا عند من
احتكره، كان على السلطان أن يجبره على بيعه، ويكرهه عليه " (1).
4 - وقال المحقق: " ويجبر المحتكر على البيع ولا يسعر عليه. وقيل يسعر،
والأول أظهر " (2).
5 - وقال الشيخ: " تولي الأمر من قبل السلطان العادل الآمر بالمعروف
والناهي عن المنكر، الواضع الأشياء مواضعها، جائز مرغب فيه، وربما بلغ حد
الوجوب " (3).
6 - وقال المحقق: " لا يثبت حجر المفلس إلا بحكم الحاكم، وهل يثبت في
السفيه بظهور سفهه؟ فيه تردد والوجه أنه لا يثبت. وكذا لا يزول إلا بحكمه " (4).
7 - وقال الشيخ: " وللناظر في أمور المسلمين ولحاكمهم أن يوكل على
سفهائهم وأيتامهم ونواقص عقولهم، من يطالب بحقوقهم ويحتج عنهم ولهم " (5).
8 - وقال المحقق: " وينبغي للحاكم أن يوكل عن السفهاء من يتولى
الحكومة عنهم " (6).
9 - وقال الشيخ: " فإن ظهر من الوصي بعده خيانة، كان على الناظر في أمر
المسلمين أن يعزله ويقيم أمينا مقامه. وإن لم يظهر منه خيانة إلا أنه ظهر منه ضعف
وعجز عن القيام بالوصية، كان للناظر في أمر المسلمين أن يقيم معه أمينا ضابطا

(1) النهاية: 374.
(2) الشرائع: 2، 21.
(3) النهاية: 356.
(4) الشرائع: 2، 102.
(5) النهاية: 317.
(6) الشرائع: 2، 198.
68

يعينه " (1).
10 - وقال المحقق: " ولو ظهر للوصي عجز ضم إليه مساعد، وإن ظهر منه
خيانة، وجب على الحاكم عزله ويقيم مكانه أمينا... وكذا لو مات إنسان ولا وصي
له، كان للحاكم النظر في تركته " (2).
11 - وقال الشيخ: " ومتى لم يقم الرجل بنفقة زوجته وبكسوتها وكان
متمكنا من ذلك، ألزمه الإمام النفقة أو الطلاق " (3).
12 - وقال المحقق: " لا ولاية في عقد النكاح لغير الأب والجد للأب وإن
علا، والمولى، والوصي، والحاكم " (4).
13 - وقال: " فإذا كان النشوز منهما وخشي الشقاق بعث الحاكم حكما من
أهل الزوج وآخر من أهل المرأة " (5).
14 - وقال الشيخ: " فإن طلق الرجل امرأته وهو زائل العقل، بالسكر أو
الجنون أو المرة أو ما أشبهها، كان طلاقه غير واقع... فإن لم يكن له ولي، طلق عنه
الإمام، أو من نصبه الإمام " (6).
15 - وقال المحقق: " ولو لم يكن له (المجنون) ولي طلق عنه السلطان، أو
من نصبه للنظر في ذلك " (7).
16 - وقال الشيخ: " ومن أخذ أرضا ميتة فأحياها كانت له، وهو أولى

(1) النهاية: 607.
(2) الشرائع: 2، 256، 257.
(3) النهاية: 475.
(4) الشرائع: 2، 276.
(5) الشرائع: 2، 339.
(6) النهاية: 509.
(7) الشرائع: 3، 12.
69

بالتصرف فيها، إذا لم يعرف لها رب، وكان للسلطان طسق الأرض " (1).
17 - وقال المحقق: " ولو اقتصر على التحجير وأهمل العمارة. أجبره الإمام
على أحد أمرين: أما الإحياء، وإما التخلية بينها وبين غيره. ولو امتنع أخرجها
السلطان من يده، لئلا يعطلها " (2).
18 - وقال الشيخ: " ومن بنج غيره أو أسكره بشيء احتال عليه في شربه أو
أكله، ثم أخذ ماله، عوقب على فعله ذلك بما يراه الإمام، واسترجع عنه ما أخذ...
والمحتال على أموال الناس بالمكر والخديعة وتزوير الكتب والشهادات الزور
والرسالات الكاذبة وغير ذلك، يجب عليه التأديب والعقاب، وان يغرم ما أخذ
بذلك على الكمال، وينبغي للسلطان أن يشهره بالعقوبة، لكي يرتدع غيره عن فعل
مثله " (3).
وأنت إذا تتبعت مصنفات الفريقين في الفقه أو في الحديث لا تجد مصنفا إلا
ويوجد فيه هذا السنخ من الأحاديث أو الفتاوى في غاية الكثرة، كما أنك لا تجد
فقيها من الفقهاء في عصر من الأعصار أو مصر من الأمصار لم يكن مرجعا لهذا
السنخ من المسائل العامة المرتبطة بقائد المسلمين وإمامهم.

(1) النهاية: 442 و 443.
(2) الشرائع: 3، 275.
(3) النهاية: 696.
70

الفصل الثالث
فيما يستدل به لضرورة الحكومة الإسلامية في جميع
الأعصار
الدليل الأول
إنه قد حصلت لنا من السبر الإجمالي للأخبار والفتاوى نتيجتان:
الأولى: أن دين الإسلام ليس كما يزعمه بعض البسطاء السذج منحصرا في
عدة أعمال عبادية؛ وآداب ومراسيم شخصية، بل هو نظام واسع كافل لجميع ما
يحتاج إليه الإنسان في معاشه ومعاده.
الثانية: أن الإسلام لا ينحصر في التقنين والتشريع فقط، من دون التفات
إلى انفاذ قوانينه، بل شرعت أحكامه ومقرراته لأن تنفذ، والأحكام إما فردية وإما
اجتماعية، فالمنفذ للأحكام الفردية آحاد الأفراد، وأما الأحكام الاجتماعية فلا
تنفذ إلا بالحكومة الصالحة العادلة، التي تقدر على إجراءها وتنفيذها. فاشتبك فيه
التقنين والتنفيذ معا، وكانت الحكومة الصالحة المنفذة للقوانين من أهم برامجه،
وداخلة في نسجه ونظامه، بنحو يوجب تعطيل الحكومة تعطيل الأحكام أو بعضها.
فيجب على المسلمين الاهتمام بأمر الحكومة.
ولو فرض المناقشة في استفادة تعين الحكومة من الفتاوى المذكورة،
71

باحتمال أن يكون كلام الفقهاء من باب رعاية الاحتياط والأخذ بالمتيقن، فلا
تسري المناقشة إلى الأخبار الكثيرة التي تعرضنا لبعضها، إذ دلالتها على تعين
الإمام والحاكم بشرائطه، وكونه المرجع في الأمور مما لا إشكال فيه. ويشهد لذلك
الآيات القرآنية المشتملة على أحكام سياسية عامة خوطب بها الجميع مع احتياج
تنفيذها إلى القدرة وبسط اليد، كقوله - تعالى -: (إنما جزاء الذين يحاربون الله
ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم
من خلاف أو ينفوا من الأرض) (1) وقوله: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما
جزاء بما كسبا نكالا من الله) (2) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الواردة في القتال
والدفاع. فهذه الأحكام لا ترتبط بشخص خاص، وقد خوطب بها جميع
المسلمين، وحيث يتوقف تنفيذها على بسط اليد والقدرة، فلا محالة يكون
المأمور بها والمنفذ لها هو الحاكم الذي يتبلور فيه جميع الأمة.
والنبي (صلى الله عليه وآله) باشر بنفسه إقامة الدولة، وعقد الاتفاقيات والمعاهدات، وبعث
العمال والقضاة والجباة لأخذ الزكوات، وجند الجنود وقاتل المشركين والناقضين
للعهود من اليهود وغيرهم، وراسل الأمراء والملوك ودعاهم إلى قبول الإسلام
والدخول تحت لوائه.
وبالجملة نفس تشريعات الإسلام وقوانينه تشهد على لزوم دولة وحكومة
إسلامية تحفظها وتنفذها، وعليه كان العمل في عصر النبي (صلى الله عليه وآله) وكذا بعده. اللهم إلا
أن يدعى إهمال القوانين ونسخها في عصر الغيبة وإن طالت ما طالت، فهل يمكن
الالتزام بأن ذلك حكم الله والتكليف الشرعي؟
قال الأستاذ الإمام الخميني (رحمه الله): " مجموعة القوانين لا تكفي لإصلاح

(1) المائدة 5: 33.
(2) المائدة 5: 38.
72

المجتمع. ولكي يكون القانون مادة لإصلاح وإسعاد البشر فإنه يحتاج إلى السلطة
التنفيذية. لذا فان الله - عز وجل - جعل في الأرض إلى جانب مجموعة القوانين
حكومة وجهاز تنفيذ وإدارة. الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) كان يترأس جميع أجهزة التنفيذ
في إدارة المجتمع الإسلامي " (1).
واعلم أن استيحاش أكثر الناس وتنفرهم من ألفاظ الملك والحكومة
والسلطة ونحوها، إنما هو أمر عارض، ناشئ عن ابتلائهم في أكثر الأعصار
بالحكومات الظالمة المستبدة، أو غير اللائقة لإدارة شؤون الأمة، وإلا فأصل
الملك أمر ممدوح مرغوب فيه عقلا وشرعا، كتابا وسنة، إذا كانت الحكومة صالحة
عادلة حائزة لرضا الأمة حافظة لحقوقها ملتزمة بتنفيذ القوانين المقبولة لدى الأمة.
قال الله - تعالى -: (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة
وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور) (2).
وعن الإمام علي (عليه السلام): " إمام عادل خير من مطر وابل " (3) إلى غير ذلك من
الآيات والأخبار.
الدليل الثاني
إن النظام والحكومة أمر ضروري للبشر، فإن الإنسان مدني بالطبع، ولا تتم
حياته ومعيشته إلا في ظل الاجتماع والتعاون والمبادلات، وله شهوات وغرائز
وميول مختلفة من حب الذات والمال والجاه والحرية المطلقة، ولا محالة يقع
التزاحم والصراع والتضارب بين الأفكار والأهواء، فلابد له من قوانين ومقررات،

(1) الحكومة الإسلامية: 23.
(2) الحج 22: 41.
(3) الغرر والدرر: 1، 386.
73

ومن قوة حافظة للنظام، ومانعة من التعدي.
ولو فرض محالا أو نادرا تحقق الرشد الأخلاقي في جميع أفراد البشر
والتناصف والايثار بينهم، فالاحتياج إلى نظام يدبر أمورهم ويؤمن حاجاتهم
- من جلب الأرزاق وتأمين الأمور الصحية والتعليم والتربية والمواصلات وإيجاد
الطرق وسائر المؤسسات الرفاهية، وجباية الضرائب، لتأمينها - مما لا يقبل
الانكار. ولا يختص هذا بمصر دون مصر، أو عصر دون عصر، أو ظرف دون
ظرف. فلا يجوز للشارع الحكيم اللطيف بالأمة الإسلامية إهمال هذه المهمة وعدم
تعيين واجب المسلمين بالنسبة إلى أصلها وشرائطها وحدودها في عصر الغيبة،
لعدم تفاوت الأزمنة في ذلك.
فعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " إن الله - تبارك وتعالى - أنزل في القرآن تبيان كل
شئ، حتى - والله - ما ترك الله شيئا يحتاج إليه العباد، حتى لا يستطيع عبد يقول:
لو كان هذا أنزل في القرآن، إلا وقد أنزله الله فيه... " (1).
وعنه (عليه السلام) أيضا قال: سمعته يقول: " ما من شئ إلا وفيه كتاب أو سنة " (2).
فإذا فرض أن الإسلام لم يهمل مثل أرش الخدش والجلدة ونصف الجلدة، فكيف
يهمل ما فيه نظم أمر الأمة بعد النبي (صلى الله عليه وآله) أو في عصر الغيبة؟
الدليل الثالث
ما رواه الفضل بن شاذان وفيه: " فإن قال: فلم جعل أولي الأمر وأمر
بطاعتهم؟ قيل: لعلل كثيرة:
منها: أن الخلق لما وقفوا على حد محدود وأمروا أن لا يتعدوا ذلك الحد،

(1) الكافي: 1، 59.
(2) الكافي: 1، 59.
74

لما فيه من فسادهم، لم يكن يثبت ذلك ولا يقوم إلا بأن يجعل عليهم فيه أمينا،
يمنعهم من التعدي والدخول فيما خطر عليهم. لأنه لو لم يكن ذلك كذلك لكان
أحد لا يترك لذته ومنفعته لفساد غيره. فجعل عليهم قيما يمنعهم من الفساد، ويقيم
فيهم الحدود والأحكام.
ومنها: أنا لا نجد فرقة من الفرق ولا ملة من الملل بقوا وعاشوا إلا بقيم
ورئيس... فلم يجز في حكمة الحكيم أن يترك الخلق مما يعلم أنه لابد لهم منه...
ومنها: أنه لو لم يجعل لهم إماما قيما أمينا حافظا مستودعا، لدرست الملة،
وذهب الدين، وغيرت السنة (السنن - العلل) والأحكام... وكان في ذلك فساد
الخلق أجمعين " (1).
والظاهر أن موضوع سؤال السائل هو إمامة الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) ولكن
عموم التعليلات الواقعة في كلام الإمام (عليه السلام) يشمل جميع الأعصار، فيدل الحديث
الشريف على لزوم الحكومة في عصر الغيبة أيضا.
الدليل الرابع
ما في نهج البلاغة، من كلامه (عليه السلام) في الخوارج لما سمع قولهم: لا حكم إلا
لله، قال (عليه السلام) " كلمة حق يراد بها الباطل. نعم إنه لا حكم إلا لله، ولكن هؤلاء يقولون
لا إمرة إلا لله، وإنه لابد للناس من أمير بر أو فاجر، يعمل في امرته المؤمن،
ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها الأجل، ويجمع به الفيء، ويقاتل به العدو،
وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي. حتى يستريح بر ويستراح من
فاجر ".

(1) عيون أخبار الرضا (من نسخة مخطوطة مصححة)، الباب 34، الحديث 1، وعلل الشرائع:
1، 95، طبعة أخرى: 1، 253.
75

وفي رواية أخرى: أنه (عليه السلام) لما سمع تحكيمهم قال: " حكم الله انتظر فيكم "
وقال: أما الإمرة البرة فيعمل فيها التقي، وأما الإمرة الفاجرة فيتمتع فيها الشقي،
إلى أن تنقطع مدته وتدركه منيته " (1).
وكيف كان، فدلالة الحديث على لزوم الدولة وضرورتها في جميع الأعصار
والأمصار، واضحة لا ريب فيها.
الدليل الخامس
ما في كتاب المحكم والمتشابه عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "... لابد للأمة من
إمام يقوم بأمرهم فيأمرهم وينهاهم، ويقيم فيهم الحدود، ويجاهد فيهم العدو
ويقسم الغنائم، ويفرض الفرائض، ويعرفهم أبواب ما فيه صلاحهم، ويحذرهم ما
فيه مضارهم " (2).
ودلالة الرواية على لزوم إمام وحاكم متصد للأمر والنهي وإجراء الأحكام
في جميع الأعصار، واضحة. والظاهر كون جميع الكتاب رواية عن أمير
المؤمنين (عليه السلام)، ولكن سبكه ربما يشهد بكونه من مؤلفات أحد علمائنا مازجا كلامه
بالروايات.
الدليل السادس
ما في كتاب سليم بن قيس الهلالي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " والواجب في
حكم الله وحكم الإسلام على المسلمين بعدما يموت إمامهم أو يقتل، ضالا كان أو
مهتديا، مظلوما كان أو ظالما، حلال الدم أو حرام الدم، ان لا يعملوا عملا ولا
يحدثوا ولا يقدموا يدا ولا رجلا، ولا يبدؤوا بشيء قبل أن يختاروا لأنفسهم إماما

(1) نهج البلاغة، عبده: 1، 87، صالح: 82، الخطبة 40.
(2) المحكم والمتشابه: 50 والبحار: 90، 40 (طبعة إيران 93، 40).
76

عفيفا عالما ورعا عارفا بالقضاء والسنة، يجمع أمرهم ويحكم بينهم، ويأخذ
للمظلوم من الظالم حقه، ويحفظ أطرافهم ويجبى فيئهم، ويقيم حجتهم (حجهم
وجمعتهم - البحار) ويجبي صدقاتهم... " (1) ودلالة الخبر على لزوم الإمامة
وضرورتها في كل عصر، ووجوب اهتمام الناس بها وتقديمها على كل أمر،
واضحة. غاية الأمر أنه إن كان الإمام معينا من قبل نبي الله - تعالى - كما هو
معتقدنا بالنسبة إلى الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) وجب التسليم له وتأييده، وإلا وجب
على الناس اختياره وتعيينه.
نعم، هنا كلام في صحة الكتاب المنسوب إلى سليم. وعلى أي حال
فالاعتماد عليه في إثبات الحكم الشرعي مشكل، اللهم إلا للتأييد.
الدليل السابع
نتيجة صغرى وكبرى كلية مستفادتان من نصوص كثيرة: فالصغرى، هي أن
الإسلام يدعو المسلمين إلى التجمع والمرابطة والتشكل وتوحيد الكلمة، وينهى
عن الرهبنة والعزلة، وعن التشتت والفرقة. والكبرى أن الإمامة هي نظام الأمة،
وجامعة شتاتها، وحافظة وحدتها فكل نظام وتجمع منوط بالإمامة والقيادة.
اما الصغرى، فيدل عليها آيات وأخبار كثيرة، بل متواترة إجمالا. منها قوله
- تعالى -: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، واذكروا نعمت الله عليكم إذ
كنتم أعداءا فألف بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمته اخوانا) (2).
ومنها: ما عن الإمام (عليه السلام): " والزموا السواد الأعظم، فإن يد الله على

(1) كتاب سليم بن قيس: 82 والبحار: 8، 555.
(2) آل عمران 3: 103.
77

الجماعة، وإياكم والفرقة " (1).
وأما ما يدل على الكبرى: ففي نهج البلاغة: " فرض الله الايمان تطهيرا من
الشرك.. والإمامة نظاما للأمة والطاعة تعظيما للإمامة " (2) وفيه أيضا: " ومكان
القيم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه ويضمه، فإذا انقطع النظام تفرق الخرز
وذهب ثم لم يجتمع بحذافيره أبدا " (3).
وفي الغرر والدرر للآمدي: " والإمامة نظاما للأمة " (4). وفي موضع آخر منه
" الإمامة نظام الأمة " (5) وفي خطبة الزهراء - سلام الله عليها -: " وطاعتنا نظاما
للملة، وإمامتنا لما للفرقة " (6).
وفي الكافي في كلام طويل للرضا (عليه السلام) في الإمامة "... إن الإمامة زمام
الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا، وعز المؤمنين، إن الإمام أس الإسلام
النامي، وفرعه السامي. بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد،
وتوفير الفيء والصدقات، وامضاء الحدود والأحكام، ومنع الثغور والأطراف.
الإمام يحل حلال الله، ويحرم حرام الله، ويقيم حدود الله، ويذب عن دين
الله " (7). وكلامه (عليه السلام) وإن كان لبيان إمامة الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) لكن في عصر
الغيبة هل يمكن الالتزام بتعطيل جميع الآثار والأحكام التي ذكرت في الحديث
للإمامة، وأن الله - تعالى - لا يريد نظام المسلمين، وصلاح الدنيا وعز المؤمنين

(1) نهج البلاغة، عبده: 2، 11، صالح: 184، الخطبة 127.
(2) نهج البلاغة، عبده: 3، 208، صالح، 512، الحكمة 252.
(3) نهج البلاغة، عبده: 2، 39، صالح، 203 الخطبة 146.
(4) الغرر والدرر: 4، 457.
(5) الغرر والدرر: 1، 274.
(6) كشف الغمة: 2، 109.
(7) الكافي: 1، 200.
78

وتنفيذ الأحكام العبادية والاقتصادية والجزائية، وحفظ الثغور والأطراف، ونحو
ذلك مما يترتب على الإمامة؟ وبالجملة حفظ النظام من أوجب الواجبات،
والهرج والمرج واختلاف أمور المسلمين من أبغض الأشياء لله - تعالى - ولا يتم
حفظ النظام إلا بالحكومة.
الدليل الثامن
صحيحة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " بني الإسلام على خمسة أشياء:
على الصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، والولاية. قال زرارة فقلت: وأي شئ من
ذلك أفضل؟ فقال: الولاية أفضل، لأنها مفتاحهن والوالي هو الدليل عليهن. ثم
قال: ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه، وباب الأشياء، ورضا الرحمان: الطاعة للإمام
بعد معرفته. إن الله - عز وجل - يقول: (من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما
أرسلناك عليهم حفيظا) (1). ويظهر من هذه الصحيحة وأمثالها أنها ليست بصدد
بيان الأمور الاعتقادية في الإسلام، ولذا لم يذكر فيها التوحيد والنبوة والمعاد، بل
هي بصدد بيان الفرائض العملية، فالمراد بالولاية فيها أمر إجرائي عملي ضامن
لإجراء البقية، وهو الحكومة الإسلامية والإمامة الحقة. والعجب من بعض من لا
خبرة لهم، حيث يفسرون الولاية في هذا السنخ من الأخبار بالمودة التي هي أمر
قلبي، مع وضوح أن المراد بها ولاية التصرف.
وفي رواية صحيحة عن أبي جعفر (عليه السلام) " وكانت الفريضة تنزل بعد الفريضة
الأخرى، وكانت الولاية آخر الفرائض، فأنزل الله - تعالى -: (اليوم أكملت لكم
دينكم وأتممت عليكم نعمتي...) (2). قال أبو جعفر (عليه السلام) يقول الله - عز وجل -: " لا

(1) الكافي: 2، 18 - 19 والآية المذكورة من سورة النساء 4: 80.
(2) المائدة 5: 3.
79

أنزل عليكم بعد هذه فريضة، قد أكملت الفرائض " (1)، ولفظ الفريضة يستعمل في
الواجبات العملية لا الأمور الاعتقادية.
فالمقصود بالصحيحة أن عمدة الفرائض التي عليها بني الدين هي الفرائض
الخمس وأفضلها الدولة الحقة، غاية الأمر أن الأئمة الاثني عشر عند حضورهم
وظهورهم أحق من غيرهم بالنص وبالأكملية، فوجب تأييدهم وإطاعتهم، وأما إذا
لم يمكن الوصول إليهم بأي دليل كان فلا محالة وجب تعيين حاكم بالحق يحفظ
مقررات الإسلام ويجريها.
الدليل التاسع
ما في نهج البلاغة " أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر،
وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم
ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها... " (2). وفيه أيضا " سمعت رسول
الله (صلى الله عليه وآله) يقول في غير موطن: لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي
غير متتعتع " (3) وفي سنن ابن ماجة عن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله): " أنه لا
قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متتعتع " (4).
يظهر من الحديثين الشريفين أنه لا يحق ولا يجوز للإنسان المسلم
ولا سيما العالم أن يقعد في بيته ولا يهتم ولا يبالي بما يشاهده من ظلم
المستكبرين الطغاة، بل يجب عليه حماية الضعفاء وإحقاق حقوقهم، ولا يخفى أنه
لا يتيسر ذلك غالبا إلا بالتجمع والتشكل وتحصيل القوة والقدرة بقدر الإمكان،

(1) الكافي: 1، 289.
(2) نهج البلاغة، عبده: 1، ص 31، صالح، 50، الخطبة 3.
(3) نهج البلاغة، عبده: 3، ص 113، صالح، 439، الكتاب 53.
(4) سنن ابن ماجة: 2، 810.
80

ولا نعني بالحكومة إلا هذا، غاية الأمر أن لها مراتب. فأدلة الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر وأدلة الجهاد الدفاعي بأجمعها أيضا من أقوى الأدلة على لزوم
تشكل المسلمين وتأسيس الدولة الحقة. وليس المراد بالتقية الواردة في أخبارنا
ترك الدفاع والأمر بالمعروف، بل المراد هو التحفظ في حال العمل بالتكليف.
ويشهد بذلك قوله (عليه السلام): " التقية ترس المؤمن " (1) وقوله: " إن التقية جنة المؤمن " (2)
فإن الترس إنما يستعمل في ميدان الجهاد لا في حال الاستراحة والعزلة.
وهنا شئ آخر، وهو أن فقهاءنا - رضوان الله عليهم - ذكروا أمورا سموها
الأمور الحسبية، وقالوا إنها أمور لا يرضى الشارع بإهمالها وتركها، كالتصرف في
أموال اليتامى والغيب والقصر ونحو ذلك. وحينئذ فإن كان هنا فقيه عادل فهو
المتيقن للتصدي لها (3)، وإلا فيتصدى لها عدول المؤمنين، بل وفساقهم أيضا إذا لم
يوجد العدول.
نقول: هل يكون حفظ مال جزئي لصغير أو مجنون، من الأمور المهمة التي
لا يرضى الشارع بإهمالها، وأما حفظ كيان الإسلام ونظام المسلمين وحفظ
دمائهم ونواميسهم وأموالهم فلا أهمية لها ولا يهتم الشارع بها، ويجوز للمسلمين
إهمالها وعدم الاهتمام بها حتى يظهر صاحب الأمر (عليه السلام)؟! إن هذا الأمر لعجيب.
الدليل العاشر
أخبار متفرقة أخرى من طرق الفريقين يظهر منها إجمالا لزوم الحكومة

(1) الوسائل: 11، 460.
(2) الوسائل: 11، 460.
(3) التصدي لكل أمر يستلزم القوتين العلمية والعملية، والفقيه وإن كان من جهة علمه
بالأحكام الشرعية صالحا ومتيقنا ولكنه من جهة العمل والإجراء فلا يكون متيقنا إطلاقا
لإمكان أن يكون غير الفقيه أقوى منه - م -.
81

والدولة في جميع الأعصار، وكونها مرغوبا فيها شرعا:
1 - ما عن أبي الجارود قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " من مات وليس
عليه إمام حي ظاهر مات ميتة جاهلية. قال قلت: إمام حي جعلت فداك؟ قال:
إمام حي " (1).
وقد مر في أواخر الباب الثاني أن أنس أذهاننا بإمامة الأئمة الاثني
عشر (عليهم السلام) وأحقيتهم أوجب انصراف لفظ الإمام عندنا إليهم (عليهم السلام) وكأن اللفظ وضع
لهم، ولكن اللفظ وضع للقائد الذي يؤتم به في الصلاة أو في الحج أو في الشؤون
السياسية، ونحو ذلك. ولا تستغرب أن يكون موت من ليس عليه إمام حي ظاهر
ميتة جاهلية أو ميتة كفر ونفاق، فإن الإمام الحق هو الحارس للدين والمجري
للإسلام، وهل يكون وجود الإمام أهون من الوصية بالنسبة إلى مال جزئي وقد
ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله) " من مات بغير وصية مات ميتة جاهلية " (2).
2 - ما رواه حفص بن عون، رفعه، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " ساعة إمام
عدل (عادل خ. ل) أفضل من عبادة سبعين سنة. وحد يقام لله في الأرض أفضل
من مطر أربعين صباحا " (3).
3 - ما في نهج البلاغة خطابا لعثمان " فاعلم أن أفضل عباد الله عند الله إمام
عادل هدي وهدى فأقام سنة معلومة وأمات بدعة مجهولة. وإن شر الناس عند الله
إمام جائر ضل وضل به، فأمات سنة مأخوذة وأحيا بدعة متروكة " (4).
4 - ما عن أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " أحب الناس

(1) الاختصاص: 269.
(2) الوسائل: 13، 352.
(3) الوسائل: 18، 308.
(4) نهج البلاغة، عبده: 2، 85، صالح: 234، الخطبة 164.
82

إلى الله يوم القيامة وأدناهم منه مجلسا إمام عادل. وأبغض الناس إلى الله - تعالى -
وأبعدهم منه مجلسا إمام جائر " (1).
5 - ما عن عبد الله بن سنان قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): (يوم ندعو كل أناس
بإمامهم) قال: " إمامهم الذي بين أظهرهم وهو قائم أهل زمانه " (2).
6 - ما عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله:
الإمام العادل، وشاب نشأ بعبادة الله... " رواه الخمسة إلا أبا داود (3).
7 - وفي كنز العمال: " إذا أراد الله بقوم خيرا ولى عليهم حلماءهم، وقضى
عليهم علماؤهم، وجعل المال في سمحائهم. وإذا أراد الله بقوم شرا ولى عليهم
سفهاءهم، وقضى بينهم جهالهم، وجعل المال في بخلائهم " (4). إلى غير ذلك من
الأخبار والروايات، فإن الروايات التي يستفاد منها لزوم الامارة والملك، أو كونه
مرغوبا فيه شرعا إذا تحققت العدالة وسائر الشرائط، كثيرة في كتب الفريقين.

(1) جامع الأصول: 4، 447.
(2) إثبات الهداة: 1، 89 والآية المذكورة من سورة الإسراء 17: 71.
(3) التاج الجامع للأصول: 3، 49.
(4) كنز العمال: 6، 7.
83

الفصل الرابع
في ذكر الروايات التي ربما توهم وجوب السكوت في
عصر الغيبة وعدم التدخل في الشؤون السياسية
وفي الحقيقة تعد هذه الأخبار معارضة لما ذكرناها دليلا على وجوب
السعي في إقامة الدولة العادلة. فلنتعرض لها ونبين المراد منها:
الأولى: صحيحة عيص بن القاسم، قال: سمعت أبا عبد الله يقول: " عليكم
بتقوى الله وحده لا شريك له. وانظروا لأنفسكم... فأنتم أحق أن تختاروا
لأنفسكم، إن أتاكم آت منا فانظروا على أي شئ تخرجون، ولا تقولوا: خرج
زيد، فإن زيدا كان عالما وكان صدوقا، ولم يدعكم إلى نفسه، وإنما دعاكم إلى
الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله) ولو ظفر لوفى بما دعاكم إليه، إنما خرج إلى سلطان
مجتمع لينقضه، فالخارج منا اليوم إلى أي شئ يدعوكم؟ إلى الرضا من آل
محمد (صلى الله عليه وآله)؟ فنحن نشهدكم إنا لسنا نرضى به، وهو يعصينا اليوم وليس معه أحد،
وهو إذا كانت الرايات والألوية أجدر ألا يسمع منا. إلا من اجتمعت بنو فاطمة
معه، فوالله ما صاحبكم إلا من اجتمعوا عليه، إذا كان رجب فأقبلوا على اسم الله،
وإن تتأخروا إلى شعبان فلا ضير، وان أحببتم أن تصوموا في أهاليكم فلعل ذلك
84

يكون أقوى لكم، وكفاكم بالسفياني علامة " (1).
والصحيحة لا تدل على عدم وجوب الدفاع وعدم جواز الخروج، بل تدل
على أن الداعي إلى الخروج قد تكون دعوته باطلة بأن يدعو إلى نفسه مثلا مع
عدم استحقاقه لما يدعيه، كمن يدعي المهدوية كذبا. وقد تكون دعوته حقة،
كدعوة زيد بن علي بن الحسين مثلا، حيث دعا الناس لنقض السلطنة الجائرة
وتسليم الحق إلى أهله. فيجب على الأشخاص المدعوين أن ينظروا لأنفسهم
ويعملوا الدقة في ذلك، ولا يتأثروا بالأحاسيس والعواطف الآنية. وهذا حكم
عقلي فطري، إذ على الإنسان أن يحكم العقل في الأمور المهمة، ولا يقع تحت
تأثير الإحساس الآني. فالصحيحة تمضي قيام زيد وتدل على القيام للدفاع عن
الحق.
والأخبار في فضائل زيد وعلمه وزهده وامضاء قيامه كثيرة مستفيضة، ولا
خصوصية لزيد قطعا، وإنما الملاك هدفه في قيامه وصلاحيته لذلك. فالقيام لنقض
الحكومة الفاسدة الجائرة مع إعداد مقدماته جائز، بل واجب.
ثم إن قيام زيد لم يكن قياما إحساسيا عاطفيا أعمى بلا إعداد للقوي
والأسباب، فإنه بعث إلى الأمصار وجمع الجموع، والكوفة كانت مقرا لجند
الإسلام من القبائل المختلفة، وقد بايعه فيها خلق كثير، قيل أربعون ألفا من أهل
السيف، وأما اطلاعه على أنه المصلوب في كناسة الكوفة بإخبار الإمام الباقر
والإمام الصادق (عليهما السلام) فلم يكن يجوز تخلفه عن الدفاع عن الحق والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر بعدما تهيأت له الأسباب. فإن المهم ظفر الإسلام لا ظفر
الشخص وغلبته، ولعل شهادته أيضا تؤثر في تقوي الإسلام وبسطه، كما يشاهد

(1) الوسائل: 11، 35.
85

في كثير من الثورات.
ففي حديث للصادق (عليه السلام) لفضيل " يا فضيل، شهدت مع عمي قتال أهل
الشام؟ قلت: نعم، قال: فكم قتلت منهم؟ قلت: ستة، قال: فلعلك شاك في دمائهم؟
قال: فقلت: لو كنت شاكا ما قتلتهم. قال فسمعته وهو يقول: أشركني الله في تلك
الدماء، مضى والله زيد عمي وأصحابه شهداء، مثل ما مضى عليه علي بن أبي
طالب وأصحابه " (1).
وعلى هذا فلو فرض القول بأن قيام الإمام الحسين الشهيد كان من
خصائصه ولم يجز جعله أسوة في الخروج على أئمة الجور فقيام زيد لا يختص به
قطعا، لعدم خصوصية فيه وعدم كونه إماما معصوما. ولكن الفرض باطل قطعا، فإن
الإمام الحسين (عليه السلام) أسوة كجده رسول الله (صلى الله عليه وآله). والإمام المجتبى أيضا قام وجاهد
إلى أن خان أكثر جنده وغدروا ولم يتمكن من مواصلة الجهاد. وسائر الأئمة (عليهم السلام)
أيضا لم تتحقق لهم شرائط القيام. فهم (عليهم السلام) نور واحد وطريقهم واحد، وإنما تختلف
الأوضاع والظروف، فلاحظ.
وقد مر أن القيام للدفاع عن الإسلام وعن حقوق المسلمين في قبال هجوم
الأعداء وتسلطهم على بلاد الإسلام وشؤون المسلمين، مما يحكم به ضرورة
العقل والشرع، ولا يشترط فيه اذن الإمام.
فانظر كيف غفل المسلمون ورؤساؤهم وأغفلوا وهجم الكفار وعملاؤهم
على كيان الإسلام وشؤون المسلمين السياسية والاقتصادية والثقافية، وكل يوم
تسمع أخبار المجازر والغارات والاعتقالات، ورجال الملك ووعاظ السلاطين
وعلماء السوء ساكتون في قبالها، وتراهم يصرفون أوقاتهم وطاقاتهم في التعيش

(1) بحار الأنوار: 46، 171.
86

والترف، وفي إشاعة الفتن والاختلافات الداخلية وهضم بعضهم لبعض.
هذا، وتوجد روايات دالة على ذم زيد وتخطئته في قيامه، ولكن أسانيدها
ضعيفة جدا، فلا تقاوم صحيحة العيص والأخبار الكثيرة الواردة في مدحه وتأييد
ثورته، المتلقاة بالقبول من قبل أصحابنا رضوان الله عليهم.
ثم إنه يظهر من الصحيحة إجمالا أنه كانت توجد في عصر الإمام
الصادق (عليه السلام) بعض الثورات من قبل السادة من أهل البيت غير مؤيدة من قبله (عليه السلام)
مع اشتمالها على الدعوة الباطلة والعصيان للإمام الحق. ولا يهمنا تشخيصها
ومعرفتها بأعيانها، وان كان من المحتمل إرادة قيام محمد بن عبد الله المحض باسم
المهدوية إذ المستفاد من الأخبار والتواريخ انه قام باسم المهدوية، وان أباه وأخاه
وأصحابه كانوا يعرفونه بذلك. ففي الإرشاد: " إن كثيرا من الهاشميين وفيهم
عبد الله وابناه محمد وإبراهيم، ومنصور الدوانيقي اجتمعوا في الأبواء فقال عبد الله:
قد علمتم ان ابني هذا هو المهدي فهلم فلنبايعه، فبايعوه جميعا على ذلك... وجاء
جعفر بن محمد (عليهما السلام) فأوسع له عبد الله إلى جنبه فتكلم بمثل كلامه، فقال جعفر (عليه السلام):
لا تفعلوا فإن هذا الأمر لم يأت بعد. إن كنت ترى أن ابنك هذا هو المهدي فليس
به، ولا هذا أوانه. وإن كنت إنما تريد أن تخرجه غضبا لله وليأمر بالمعروف وينهى
عن المنكر، فإنا والله لا ندعك وأنت شيخنا، ونبايع ابنك في هذا الأمر " (1).
ويظهر منه أيضا ان القيام غضبا لله وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما
لا بأس به.
وبالجملة، حيث إنه روي من طرق الفريقين عن النبي (صلى الله عليه وآله) أن المهدي يظهر

(1) الارشاد: 259، طبعة أخرى: 276 وبحار الأنوار: 47، 277.
87

و " يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا " (1) فقد صار هذا سببا
لاشتباه الأمر على كثيرين وادعاء كثير من الهاشميين المهدوية. ولعل الخبر
المروي عن النبي (صلى الله عليه وآله): أن المهدي " اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي " (2) كان من
مجعولات بعض أتباع محمد بن عبد الله بن الحسن.
والحاصل أن المستفاد من الصحيحة أن الثورات على قسمين، فالدعوة إلى
النفس باطلة، والدعوة لنقض السلطة الجائرة وإرجاع الحق إلى أهله حقة،
والواجب على المدعوين تحكيم العقل والدقة واتباع الحق.
الثانية: مرفوعة حماد بن عيسى، عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: " والله لا
يخرج أحد منا قبل خروج القائم (عليه السلام) إلا كان مثله كمثل فرخ طار من وكره قبل أن
يستوي جناحاه فأخذه الصبيان فعبثوا به " (3). وربما يتبادر إلى الذهن في هذا
السنخ من الأخبار كونها من مختلقات عمال الأمويين والعباسيين لصرف السادة
العلويين عن فكرة القيام في قبال مظالمهم. مضافا إلى أن الظاهر من الخبر أنه
ليس في مقام بيان الحكم الشرعي، بل هو إخبار غيبي بأن الخارج " منا " أهل
البيت قبل قيام القائم لا يظفر، وان ترتب على قيامه آثار مهمة. ويمكن أن يكون
المراد بقوله " منا " خصوص الأئمة الاثني عشر لا جميع العلويين، حيث إن
شيعتهم (عليهم السلام) كانوا يتوقعون منهم الخروج والقيام، وكانوا يصرون على ذلك، فأراد
الإمام (عليه السلام) إقناعهم ببيان أمر غيبي، وهو أن الخارج منا قبل القائم (عليه السلام) لا يوفق ولا
يظفر، لعدم العدة والعدة والأسباب اللازمة. فلا يصح أن يستدل به على السكوت

(1) راجع بحار الأنوار: 51، 65 والتاج الجامع للأصول: 5، 341 - 344.
(2) التاج الجامع للأصول: 5، 343.
(3) الوسائل: 11، 36.
88

منا وعدم الدفاع عن الإسلام والمسلمين في قبال هجمة الكفار وعمالهم، إذا
تحققت الشرائط وظن النجاح.
ونظير هذا الخبر، الخبر المروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) في مقدمة الصحيفة
السجادية بسند غير صاف: " ما خرج ولا يخرج منا أهل البيت إلى قيام قائمنا
أحد ليدفع ظلما أو ينعش حقا إلا اصطلمته البلية وكان قيامه زيادة في مكروهنا
وشيعتنا ".
أقول: مضافا إلى الخدشة في سند الخبر وإلى احتمال كون هذا السنخ من
الأخبار من مختلقات أيادي خلفاء الوقت لصرف العلويين عن الخروج عليهم،
أن المراد به على فرض صدوره ليس هو بيان الحكم الشرعي وأن الخروج جائز
أو غير جائز، بل بيان أمر غيبي تلقاه الإمام (عليه السلام) من أجداده وأن الخارج " منا " لا
ينجح مأة بالمأة بحيث لا تعرض له البلية. والمصائب مكروهة للطبع قهرا، وليس
كل مكروه للطبع مكروها أو حراما في الشرع، بل عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير
لكم، ويترتب عليه بركات من جهات أخر.
ثم على فرض كون الخبر في مقام بيان الحكم الشرعي فهو كما ترى مرتبط
بأهل البيت (عليهم السلام) فلا يجوز التمسك به للسكوت منا في هذه الاعصار.
ونظير المرفوعة وخبر الصحيفة أيضا رواية أبي الجارود، قال: " سمعت أبا
جعفر (عليه السلام) يقول: ليس منا أهل البيت أحد يدفع ضيما ولا يدعو إلى حق إلا صرعته
البلية حتى تقوم عصابة شهدت بدرا لا يوارى قتيلها ولا يداوى جريحها. قلت:
من عنى أبو جعفر (عليه السلام)؟ قال: الملائكة " (1). ونحوه روايته الأخرى (2) ولعلهما رواية
واحدة وهذه قطعة من تلك فراجع. والجواب عنها كما مر.

(1) و (2) مستدرك الوسائل: 2، 248.
89

والحاصل أن هذه الأخبار ونظائرها - مضافا إلى ضعف سندها المانع من
نهوضها في مقابل الأدلة القطعية الحاكمة بالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر وإقامة حكم الإسلام - أن الظاهر كون بعضها من مختلقات أو تحريفات
أيادي حكام الجور ومرتزقتهم، حيث واجهوا قيام بعض العلويين واتجاه الناس
إليهم، فأرادوا بهذه الوسيلة قطع رجائهم وإبعادهم عن ميدان السياسة. وبعضها
خاص بأصحاب الرايات الضالة الذين كانوا يدعون الناس إلى أنفسهم. وبعضها
ناظر إلى شخص معين أو ظرف حيث لا توجد مقدمات القيام وشروطه. وبعضها
صادر عن تقية من حكام الجور. وبعضها ليس في مقام بيان الحكم الشرعي، بل
متضمن لإخبار غيبي فقط. إلى غير ذلك من الوجوه التي مرت أو تأتي في
الروايات الآتية.
الثالثة: خبر سدير، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) " يا سدير الزم بيتك وكن حلسا
من أحلاسه واسكن ما سكن الليل والنهار، فإذا بلغك أن السفياني قد خرج
فارحل إلينا ولو على رجلك " (1) بتقريب أن سديرا لا خصوصية له، فيجب
السكوت وترك الخروج إلى قيام القائم (عليه السلام). ولكن إلغاء الخصوصية في سدير (رضي الله عنه)
ممنوع بعد تتبع حاله الذي يدل على أنه كان مخلصا ولكنه يغلب إحساسه على
تفكيره، وكان يظن قدرة الإمام على الخروج، فأراد الإمام (عليه السلام) بيان عدم تحقق
الشروط للقيام، وأن العلامة للقائم بالحق خروج السفياني. والواجب على مثل
هذا الشخص لزوم بيته، لئلا يهلك نفسه وغيره بلا فائدة.
ففي تنقيح المقال أنه " ذكر عند أبي عبد الله (عليه السلام) سدير فقال: سدير عصيدة

(1) الوسائل: 11، 36.
90

بكل لون " (1) والمراد منه على الظاهر أنه معقود بكل لون وأنه رجل مزاجي، لا أنه
يعمل بالتقية ويتلون عند كل فرقة بلون ليحفظ نفسه، كما في تنقيح المقال، إذ لو
كان كذلك لما وقع في سجن المخالفين.
وفي الكافي عن سدير الصيرفي، قال: " دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقلت
له: والله ما يسعك القعود. فقال: ولم يا سدير؟ قلت: لكثرة مواليك وشيعتك
وأنصارك، والله لو كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) مالك من الشيعة والأنصار والموالي ما
طمع فيه تيم ولا عدي. فقال: يا سدير، وكم عسى أن تكونوا؟ قلت: مأة ألف، قال:
مأة ألف! قلت نعم، ومأتي ألف. قال: مأتي ألف! قلت: نعم ونصف الدنيا. قال:
فسكت عني، ثم قال: يخف عليك أن تبلغ معنا إلى ينبع؟ قلت: نعم. فسرنا حتى
صرنا إلى أرض حمراء ونظر إلى غلام يرعى جداء فقال: والله يا سدير، لو كان لي
شيعة بعدد هذه الجداء ما وسعني القعود. ونزلنا وصلينا، فلما فرغنا من الصلاة
عطفت على الجداء فعددتها، فإذا هي سبعة عشر " (2). وبعدما عرفت من حال
سدير وخصوصياته فهل يجوز رفع اليد بسبب هذا الخبر ونظائره عن جميع
الآيات والروايات وحكم العقل، الحاكمة بوجوب الدفاع عن الإسلام وشؤون
المسلمين في قبال هجوم الكفار والجائرين؟!
الرابعة: خبر أبي المرهف، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " الغبرة على من أثارها،
هلك المحاضير. قلت: جعلت فداك وما المحاضير؟ قال: المستعجلون، أما إنهم لن
يريدوا إلا من يعرض لهم ثم قال: يا أبا المرهف، أما إنهم لم يريدوكم بمجحفة إلا
عرض الله - عز وجل - لهم بشاغل، ثم نكت أبو جعفر (عليه السلام) في الأرض ثم قال: يا أبا

(1) تنقيح المقال: 2، 8.
(2) الكافي: 2، 242.
91

المرهف قلت لبيك، قال: أترى قوما حبسوا أنفسهم على الله - عز ذكره - لا يجعل
الله لهم فرجا؟ بلى والله ليجعلن الله لهم فرجا " (1) ويظهر من الخبر وقوع خروج ما
على الحكومة وتعقيب الحكومة للخارجين، وخوف أبي المرهف من ذلك، فأراد
الإمام (عليه السلام) تقوية خاطره ورفع خوفه ببيان أن ضرر الغبار يعود إلى من أثاره، فلا
ينال أبا المرهف شئ. ثم أخبر (عليه السلام) بهلاك المستعجل قبل تهيئة المقدمات وإعداد
القوة.
ولم يكن بناء أئمتنا على المنع عن الجهاد والدفاع، بل كانوا ينهون عن
التعجيل والتهور المضر بنفس الخارج وبالأئمة (عليهم السلام)، حتى أن أخبار التقية أيضا
ليست بصدد المنع عن الجهاد، بل بصدد الدقة في حفظ النفس مع الإمكان، مع
الاشتغال بالوظيفة الدفاعية. ولذا ورد أن " التقية جنة المؤمن " (2) أو " التقية ترس
المؤمن " (3) فان الجنة والترس تستعملان عند مبارزة العدو، لا عند المبيت
والمأمن، فليس الخبر في مقام المنع عن الدفاع، أو المنع من إقامة الحكومة مع
إمكانه.
الخامسة: ما رواه الفضل بن سليمان الكاتب قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام)
فأتاه كتاب أبي مسلم، فقال: " ليس لكتابك جواب، اخرج عنا، فجعلنا يسار بعضنا
بعضا، فقال: أي شئ تسارون يا فضل، إن الله - عز ذكره - لا يعجل لعجلة العباد،
ولإزالة جبل عن موضعه أيسر من زوال ملك لم ينقض أجله. ثم قال: إن فلان بن
فلان، حتى بلغ السابع من ولد فلان. قلت فما العلامة فيما بيننا وبينك جعلت
فداك؟ قال: لا تبرح الأرض يا فضل حتى يخرج السفياني فإذا خرج السفياني

(1) الوسائل: 11، 36.
(2) و (3) الوسائل: 11، 460.
92

فأجيبوا إلينا - يقولها ثلاثا - وهو من المحتوم " (1). والرواية ضعيفة موهونة من
حيث السند.
وقد كان أبو مسلم مبعوثا إلى خراسان من قبل إبراهيم العباسي ثم كان من
دعاة أخيه السفاح، ولكن بعد وفاة السفاح حسده المنصور على قدرته وخاف
منه، وجعل يضاده ويحقره، وفي آخر الأمر قتله. فلعله في هذه الفترة أراد
الارتباط بالإمام الصادق (عليه السلام) ليتقوى بذلك في مقابل المنصور، ولم تكن نيته
صادقة. وكاتب المنصور أيضا كان حاضرا في المجلس، فكان الظرف ظرف
الاحتياط والتقية. فمراده (عليه السلام) إما بيان أمر غيبي، وهو أن ملك المنصور لا ينقضي،
أو بيان أن قتال الملوك يتوقف على تهيئة مقدمات كثيرة.
السادسة: صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " كل راية ترفع قبل
قيام القائم (عليه السلام) فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله - عز وجل - " (2) وروى عن أبي
جعفر (عليه السلام) أنه قال " كل راية ترفع قبل راية القائم فصاحبها طاغوت " (3).
وقد مر في صحيحة العيص أن الدعوة على قسمين: فالدعوة إلى النفس
باطلة، والدعوة لنقض الباطل وإقامة الحق وإرجاعه إلى أهله حقة. مؤيدة من قبل
الأئمة (عليهم السلام). فمراده بالراية هنا الراية الداعية إلى النفس في قبال الحق. وبعبارة
أخرى: الراية الواقعة في قبال القائم، لا في طريقه ومسيره وعلى منهجه. ولذا عبر
عنها بالطاغوت، وعقبها بكونها معبودة من دون الله. ويؤيد ذلك قول أبي جعفر (عليه السلام)
في حديث " وأنه ليس من أحد يدعو إلى أن يخرج الدجال إلا سيجد من يبايعه،

(1) الوسائل: 11، 37.
(2) الوسائل: 11، 37.
(3) مستدرك الوسائل: 2، 248.
93

ومن رفع راية ضلالة فصاحبها طاغوت " (1). فقيد الراية بالضلالة.
ولو قيل: الظاهر من الحديث تشخيص أن الملاك في بطلان القيام كونه قبل
قيام القائم، والعموم استغراقي فلا يجوز القيام مطلقا بأي هدف وقع.
قلنا: أولا: يحتمل أن يكون المراد رفع رايات خاصة كانت موردا للبحث إذ
يبعد جدا صدور هذا الكلام عن الإمام (عليه السلام) ارتجالا.
وثانيا: أن الصحيحة على هذا معارضة بصحيحة عيص وغيرها مما دل على
تقديس قيام زيد وأمثاله، كقيام الحسين بن علي، شهيد فخ، الذي وردت روايات
مستفيضة ظاهرة في تقديسه وتقديس قيامه. هذا.
وعن الباقر (عليه السلام) في خبر طويل في علامات الظهور " وليس في الرايات راية
أهدى من اليماني. هي راية هدى، لأنه يدعو إلى صاحبكم. فإذا خرج اليماني
حرم بيع السلاح على الناس وكل مسلم. وإذا خرج اليماني فانهض إليه، فإن رايته
راية هدى، ولا يحل لمسلم أن يتلوى عليه، فمن فعل ذلك فهو من أهل النار، لأنه
يدعو إلى الحق وإلى طريق مستقيم " (2) فيظهر من هذا الخبر تحقق راية الحق قبل
القائم (عليه السلام) أيضا، وأن الراية الداعية إليه والواقعة في طريقه راية هدى، يجب
النهوض إليها.
وعنه (عليه السلام) أيضا أنه قال: " كأني بقوم قد خرجوا بالمشرق يطلبون الحق فلا
يعطونه، ثم يطلبونه فلا يعطونه، فإذا رأوا ذلك وضعوا سيوفهم على عواتقهم
فيعطون ما سألوا، فلا يقبلونه حتى يقوموا، ولا يدفعونها إلا إلى صاحبكم. قتلاهم

(1) الكافي: 8، 296.
(2) الغيبة للنعماني: 171 وطبعة أخرى: 256.
94

شهداء. أما إني لو أدركت ذلك لاستبقيت نفسي لصاحب هذا الأمر " (1) ودلالته
على حدوث ثورة قبل القائم (عليه السلام) وكونها قيام حق، واضحة. إلى غير ذلك من
الأخبار.
وثالثا: على ما ذكرتم في مفاد الصحيحة يجب طرحها، لمخالفتها للأدلة
القطعية الواردة في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد مر أن القيام
للدفاع عن الإسلام وعن حوزة المسلمين من أهم الفرائض التي يحكم بها الكتاب
والسنة والعقل السليم. بل يجب ذلك حتى لو فرض عدم القدرة على العمل إلا في
ظل راية الباطل، بشرط عدم تأييد الباطل، وإذا وجب شئ وجبت مقدماته
بالضرورة. ومقدمة الدفاع في هذه الأعصار التسلح بسلاح اليوم والتدرب عليه،
والتكتل والتشكل مهما أمكن.
السابعة: خبر عمر بن حنظلة، قال " سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: خمس
علامات قبل قيام القائم (عليه السلام): الصيحة، والسفياني، والخسف، وقتل النفس الزكية،
واليماني. فقلت: جعلت فداك إن خرج أحد من أهل بيتك قبل هذه العلامات
أنخرج معه؟ قال: لا " (2). ولعل المراد بالصيحة النداء السماوي. والمراد بالخسف
خسف جيش السفياني بالبيداء. ولعل نظر الخبر إلى الخروج مع من كان يدعي
المهدوية في ذلك العصر. وعلى أي حال لا ربط له بالجهاد الدفاعي بالنسبة إلينا
بعدما ثبت وجوبه بالكتاب والسنة والعقل.
الثامنة: رواية معلى بن خنيس قال " ذهبت بكتاب عبد السلام بن نعيم
وسدير، وكتب غير واحد إلى أبي عبد الله (عليه السلام) حين ظهر المسودة قبل أن يظهر ولد

(1) الغيبة للنعماني: 182 وطبعة أخرى: 273.
(2) و (2) الوسائل: 11، 37.
95

العباس، بأنا قد قدرنا أن يؤول هذا الأمر إليك فما ترى؟ قال فضرب بالكتب
الأرض، ثم قال: أف، أف، ما أنا لهؤلاء بإمام. أما يعلمون أنه إنما يقتل
السفياني " (1). وقد مر الجواب عنها في الرواية الثالثة.
التاسعة: ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: " يا علي، إن إزالة الجبال الرواسي
أهون من إزالة ملك لم تنقض أيامه " (2). وليس غرض النبي (صلى الله عليه وآله) من هذه الفقرة
بيان عدم النجاح أو حرمة القيام في قبال الملوك، بل بيان أن المقدر والمقضى من
الملك كغيره من الأمور كائن لا محالة، فيجب أن لا توجب الهزيمة على يد الملوك
يأسا للقائم بالحق. أو بيان أن إزالة الملك كإزالة الجبال أمر عسير جدا، لا يتحقق
إلا بتهيئة مقدمات كثيرة ومرور زمان كثير، وإرشاد الناس وتوعيتهم السياسية،
فوظيفة الناس في الدفاع عن الإسلام والمسلمين باقية بحالها.
العاشرة: ما رواه الحسين بن خالد قال: " قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): إن
عبد الله بن بكير كان يروي حديثا، وأنا أحب أن أعرضه عليك. فقال: ما ذلك
الحديث؟ قلت: قال ابن بكير حدثني عبيد بن زرارة قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام)
أيام خرج محمد (إبراهيم) بن عبد الله بن الحسن إذ دخل عليه رجل من أصحابنا
فقال له: جعلت فداك إن محمد بن عبد الله قد خرج، فما تقول في الخروج معه؟
فقال: اسكنوا ما سكنت السماء والأرض. فقال عبد الله بن بكير: فإن كان الأمر
هكذا أو لم يكن خروج ما سكنت السماء والأرض فما من قائم وما من خروج.
فقال أبو الحسن (عليه السلام): صدق أبو عبد الله (عليه السلام) وليس الأمر على ما تأوله ابن بكير، إنما
عنى أبو عبد الله (عليه السلام): اسكنوا ما سكنت السماء من النداء، والأرض من الخسف

(2) الوسائل: 11، 38.
96

بالجيش " (1).
وقد مر أن الظاهر من الأخبار والتواريخ أن محمد بن عبد الله قد خرج
بعنوان المهدوية، وكان يدعو إلى نفسه، فيريد الإمام (عليه السلام) بيان أن لقيام المهدي
هاتين العلامتين، فلا تقبلوا ادعاء من ادعاها قبلهما، فلا يدل على السكوت في
قبال هجوم أعداء الإسلام، وهذا واضح.
الحادية عشرة: ما في نهج البلاغة: " الزموا الأرض واصبروا على البلاء ولا
تحركوا بأيديكم وسيوفكم في هوى ألسنتكم، ولا تستعجلوا بما لم يعجله الله لكم،
فإنه من مات منكم على فراشه وهو على معرفة حق ربه وحق رسوله وأهل بيته،
مات شهيدا ووقع أجره على الله، واستوجب ثواب ما نوى من صالح عمله،
وقامت النية مقام إصلاته لسيفه. وإن لكل شئ مدة وأجلا " (2).
ولا يخفى أن كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) وخطبه مليئة بالحث على الجهاد
والتحريض عليه، فلا محالة يختص كلامه هنا بحالة خاصة. وفي شرح ابن أبي
الحديد: "... ولكن قوما من خاصته كانوا يطلعون على ما عند قوم من أهل الكوفة
ويعرفون نفاقهم وفسادهم، ويرمون قتلهم وقتالهم، فنهاهم عن ذلك وكان يخاف
فرقة جنده وانتشار حبل عسكره، فأمرهم بلزوم الأرض والصبر على البلاء " (3).
الثانية عشرة: خبر جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " الزم الأرض ولا تحرك
يدا ولا رجلا حتى ترى علامات أذكرها لك - وما أراك تدركها -: اختلاف بني
فلان، ومناد ينادي في السماء، ويجيئكم الصوت من ناحية دمشق " (4).

(1) الوسائل: 11، 40.
(2) نهج البلاغة، عبده: 2، 156، صالح: 282 الخطبة 190.
(3) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 13، 113.
(4) الوسائل: 11، 41.
97

ولعله كان لجابر خصوصية، نظير ما كان لسدير، أو لعل المجلس لم يخل
من الاغيار، وذكر علائم المهدي (عليه السلام) شاهد على أن الغرض النهي عن التحرك مع
من يدعي المهدوية قبل العلامات، إلى غير ذلك من المحتملات، فلا يقاوم مثل
هذا الخبر أدلة الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بكثرتها.
الثالثة عشرة: رواية كتاب الغارات قال: " خطب علي (عليه السلام) بالنهروان... فقام
رجل فقال: يا أمير المؤمنين حدثنا عن الفتن، فقال: إن الفتنة إذا أقبلت شبهت. ثم
ذكر الفتن بعده... فقام رجل فقال: يا أمير المؤمنين ما نصنع في ذلك الزمان؟ فقال:
انظروا أهل بيت نبيكم، فإن لبدوا فالبدوا، وان استصرخوكم فانصروهم تؤجروا،
ولا تستبقوهم فتصرعكم البلية. ثم ذكر حصول الفرج بخروج صاحب
الأمر (عليه السلام) " (1). وظاهر كتاب الغارات كون المراد بذلك الزمان زمن فتنة بني أمية.
وكون مرجع الحق في عصر بني أمية أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) واضح عندنا.
ووجوب جعل كلماتهم وإرشاداتهم الباقية محورا للعمل أمر صحيح على
مذهبنا. فلا تنافي الرواية أدلة الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
بمعناهما الوسيع.

(1) الوسائل: 11، 41.
98

الباب الرابع:
في شروط الإمام والوالي
الذي تصح إمامته وتجب طاعته
99

الفصل الأول
في ذكر بعض كلمات الفقهاء في شروط الإمام
نذكر فيما يلي بعضها (1):

(1) لا يخفى أن الإسلام لم يصور شكلا خاصا للحكومة الإسلامية في عصر الغيبة، فيمكن
تصويرها بأشكال مختلفة؛ منها الانتخاب حسب رؤية المؤلف، ومنها الانتصاب وفق نظرية
القائلين به، وعليه فالفقيه الجامع لشروط الحكم والفتوى هو صاحب القدرة المطلقة.
وأما على الانتخاب فالفقيه الجامع للشروط ينتخب بعنوان الوالي أو الإمام، وحينئذ
يمكن أن يتسلم مقاليد القدرة والحكم على نحو التقييد، أو على نحو الاطلاق، بمعنى أن
الأمر كله يصدر عنه ويرجع إليه، وأنه المحور لجميع السلطات والأنظمة، وأن الأمة تجب
عليهم إطاعته في كل ما رآه صلاحا وأمر به.
فبهذه الملاحظة وفي هذا البرنامج شرع الأستاذ في البحث عن شروط الوالي ثم عن
سائر المسائل والموضوعات المرتبطة بالحكومة.
وأما حيث لا دليل على انحصار شكل الحكومة بما رسمه الأستاذ أي تمركز القدرة في
شخص واحد هو الوالي - ونحن لا نرده مطلقا لأن بعض الأزمنة والمجتمعات يقتضي ذلك
الشكل؛ ولكن في زماننا لا اقتضاء له فان كثرة المسائل العلمية والفنون العملية يقتضي شكلا
آخر للحكومة الإسلامية - يمكن أن نفرضه بصورة أخرى. مثلا إذا فرضنا أن الأمة تحتاج
في أمورها الاجتماعية إلى سلطات ثلاث: التشريعية والقضائية والتنفيذية، فيمكن أن يكون
كل منها منفكا ومستقلا عن الآخر. وإذا فرضنا أن إسلامية الحكومة تقتضي تدخل الفقهاء
في الأمور فلم لم يدخلوا في أمر التشريع فقط بحسب صلاحيتهم وتخصصهم فيه، فينتخبون
للحضور في مجلس الفقهاء المعد لمقارنة قرارات مجلس النواب مع أحكام الإسلام
والقانون الدستوري. ففي هذه الصورة لا يلاحظ الفقيه بعنوان الوالي كي نبحث عن اعتبار
شروط له كالذكورية مثلا. نعم في هذا البرنامج أيضا يبحث عن شروط المسؤولين لتنفيذ
القوانين وللقضاء. - م -.
101

1 - قال الماوردي: " وأما أهل الإمامة فالشروط المعتبرة فيهم سبعة:
أحدها، العدالة على شروطها الجامعة. والثاني: العلم المؤدي إلى الاجتهاد في
النوازل والأحكام. والثالث: سلامة الحواس من السمع والبصر واللسان ليصح
معها مباشرة ما يدرك بها. والرابع: سلامة الأعضاء من نقص يمنع عن استيفاء
الحركة وسرعة النهوض. والخامس: الرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير
المصالح. والسادس: الشجاعة والنجدة المؤدية إلى حماية البيضة وجهاد العدو.
والسابع: النسب، وهو أن يكون من قريش لورود النص فيه وانعقاد الاجماع
عليه " (1).
أقول: قوله " الاجتهاد في النوازل والأحكام " يراد بالأول معرفة
الصغريات، وبالثاني العلم بالكبريات عن اجتهاد. ولا يخفى أن معرفة الصغريات
في المسائل الاجتماعية والسياسية من أهم الأمور وأعضلها. وما ورد في التوقيع
الشريف من قوله (عليه السلام): " وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا " (2)
أيضا لعله يراد به الرجوع لمعرفة نفس الحوادث (3) وتشخيصها لا العلم بالأحكام
الكلية.

(1) الأحكام السلطانية: 6.
(2) الوسائل: 18، 101.
(3) الأمر بالرجوع في الحوادث إلى أحد ليس إلا لكونه من الخبراء فيها، وهل يمكن الالتزام
بأن جميع رواة الأحاديث كانوا من الخبراء في الحوادث؟ - م -.
102

2 - وقال العلامة الحلي: " يشترط في الإمام أمور: أ - أن يكون مكلفا، فإن
غيره مولى عليه في خاصة نفسه فكيف يلي أمر الأمة؟ ب - أن يكون مسلما،
ليراعي مصلحة المسلمين والإسلام وليحصل الوثوق بقوله ويصح الركون إليه. ج -
أن يكون عدلا. د - أن يكون حرا. ه‍ - أن يكون ذكرا، ليهاب وليتمكن من مخالطة
الرجال. و - أن يكون عالما، ليعرف الأحكام ويعلم الناس. ز - أن يكون شجاعا،
ليغزو بنفسه ويعالج الجيوش. ح - أن يكون ذا رأي وكفاية. ط - أن يكون صحيح
السمع والبصر والنطق، ليتمكن من فصل الأمور. وهذه الشرائط غير مختلف فيها.
ي - أن يكون صحيح الأعضاء كاليد والرجل والاذن، وبالجملة اشتراط سلامة
الأعضاء، وهي أول قولي الشافعي. يا - أن يكون من قريش، لقوله: " الأئمة من
قريش " (1) وهو أظهر قولي الشافعية، وخالف فيه الجويني. يب - يجب أن يكون
الإمام معصوما عند الشيعة، لأن المقتضى لوجوب الإمامة ونصب الإمام جواز
الخطأ على الأمة المستلزم لاختلال النظام، فإن الضرورة قاضية بأن الاجتماع
مظنة التنازع والتغالب... يج - أن يكون منصوصا عليه من الله تعالى أو من
النبي (صلى الله عليه وآله) أو ممن ثبتت إمامته بالنص منهما، لأن العصمة من الأمور الخفية التي لا
يمكن الاطلاع عليها، فلو لم يكن منصوصا عليه لزم تكليف ما لا يطاق. يد - أن
يكون أفضل أهل زمانه، ليتحقق التمييز عن غيره. ولا يجوز عندنا تقديم المفضول
على الفاضل، خلافا لكثير من العامة، للعقل والنقل... والأفضلية تتحقق بالعلم
والزهد والورع وشرف النسب والكرم والشجاعة وغير ذلك من الأخلاق الجميلة.
يه - أن يكون منزها عن القبائح، لدلالة العصمة عليه، ولأنه يكون مستحقا للإهانة
والإنكار عليه، فيسقط محله من قلوب العامة فتبطل فائدة نصبه، وأن يكون منزها
من الدناءة والرذائل... وأن يكون منزها عن دناءة الآباء وعهر الأمهات، وقد

(1) البحار: 25، 104.
103

خالفت العامة في ذلك كله " (1).
3 - وقال الجويني: " الشروط التي يجب أن يتصف بها الإمام: 1 - الاجتهاد،
بحيث لا يحتاج أن يستفيد من غيره في الحوادث. قال: وهذا متفق عليه.
2 - التصدي إلى مصالح الأمور وضبطها. 3 - النجدة في تجهيز الجيوش وسد
الثغور. 4 - أن يكون ذا نظر حصيف في النظر إلى الأمة. 5 - الشجاعة والإقدام، بأن
لا تأخذه خور الطبيعة عن ضرب الرقاب والتنكيل بمستوجبي الحدود. 6 - ومن
شرائطها عند أصحابنا - يعني الشافعية - أن يكون الإمام من قريش، لقول رسول
الله (صلى الله عليه وآله): " الأئمة من قريش " وقال " قدموا قريشا ولا تقدموها ". وهذا مما يخالف
فيه بعض الناس. وللاحتمال فيه عندي مجال، والله أعلم بالصواب. لا خفاء في
اشتراط حرية الإمام وإسلامه. وأجمعوا على أن المرأة لا يجوز أن تكون إماما،
وإن اختلفوا في جواز كونها قاضية فيما يجوز شهادتها فيه " (2).
4 - وفي الفقه على المذاهب الأربعة: " إنهم اتفقوا على أن الإمام يشترط فيه
أن يكون مسلما مكلفا حرا ذكرا قرشيا عدلا عالما مجتهدا شجاعا ذا رأي صائب
سليم السمع والبصر والنطق " (3).
ويظهر لك بالدقة فيما مر من الكلمات أن حكومة الفقيه ليست أمرا بدعا
أبدعه فقهاء الشيعة في عصرنا، بل المشهور بين المحققين من علماء السنة أيضا
اشتراط الاجتهاد والفقاهة في الإمام والوالي.

(1) تذكرة الفقهاء: 1، 452.
(2) نظام الحكم والإدارة في الإسلام: 222.
(3) الفقه على المذاهب الأربعة: 5، 416.
104

الفصل الثاني
في اثبات شروط الوالي بالعقل
لا يخفى أن العقلاء إذا أرادوا أن يفوضوا أمرا من الأمور إلى شخص فلا
محالة يراعون فيه أمورا:
الأول: أن يكون عاقلا.
الثاني: أن يكون عالما بكيفية العمل وفنونه.
الثالث: أن يكون قادرا على إيجاده على ما هو حقه.
الرابع: أن يكون أمينا، وإلا لجاز أن يخون في أصل العمل أو في كيفيته،
مثلا، إذا أردتم أن تستأجروا أحدا لإحداث بناء فلا محالة تراعون فيه بحكم
الفطرة وجود هذه الشرائط الأربعة. والولاية وإدارة شؤون الأمة من أهم الأمور
وأعضلها وأدقها، فلا محالة يشترط في الوالي بحكم العقل والفطرة أن يكون
عاقلا، عالما بالعمل، قادرا عليه، أمينا عليه.
وإذا كان المفوضون لأمر الولاية يعتقدون بمبدأ خاص في نظام الحياة،
وأرادوا إدارة شؤونهم السياسية على أساسه، فلا محالة يختارون من يعتقد بهذا
المبدأ ويطلع على مقرراته، بل يختارون من يكون أعلم وأكثر اطلاعا، اللهم إلا أن
يزاحم ذلك جهة أقوى وأهم. مثلا: إذا كان أهل منطقة معتقدين بالمبدأ المادي
105

والاقتصاد الماركسي فبالطبع يراعون في الوالي المنتخب كونه عاقلا، قادرا على
أمر الولاية، معتقدا بهذا المبدأ الخاص، أكثر اطلاعا على قوانينه ومقرراته
المرتبطة بإدارة الملك، أمينا معتمدا عليه في أقواله وأفعاله.
وعلى هذا فالمسلمون المعتقدون بالإسلام وأنه حاو لجميع ما يحتاج إليه
البشر (1)، لا محالة يراعون في الوالي العقل، والقدرة على الولاية واعتقاده
بالإسلام، واطلاعه على مقرراته وأحكامه، بل أعلميته في ذلك، وكذلك أمانته
واستقامته المعبر عنها بالعدالة.
فهذه شرايط للوالي، يحكم العقل بلزوم رعايتها مع الإمكان، سواء كان
الوالي منصوبا من قبل الله - تعالى - كما نعتقده نحن في الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) بلا
إشكال، أو كان منتخبا من قبل الأمة، كما يعتقده اخواننا السنة مطلقا، ونحن نعتقده
بالنسبة إلى الفقهاء العدول في عصر الغيبة.
ففي صحيحة عيص بن القاسم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: " وانظروا
لأنفسكم. فوالله إن الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي، فإذا وجد رجلا هو أعلم
بغنمه من الذي هو فيها، يخرجه ويجيء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي
كان فيها " (2) فالإمام (عليه السلام) أرجع الراوي إلى فطرته وارتكازه، وإلى أمر يلتزم به
العقلاء بما هم عقلاء. وهو حقيقة وجدانية، تقبلها أطباع جميع البشر وعقولهم إذا
خلوا من العناد والتعصب.

(1) راجع هامش الصفحة 11.
(2) الوسائل: 11، 35.
106

الفصل الثالث
في إثبات شروط الوالي بالكتاب والسنة
1 - العقل الوافي
بينا في الفصل الثاني أن العقلاء بحسب فطرتهم لا يفوضون أمورهم
المتعارفة إلا لمن يحرزون فيه شروطا منها العقل، فكيف بالولاية التي هي سلطة
على الدماء والأعراض والأموال.
عن أمير المؤمنين (عليه السلام) " يحتاج الإمام إلى قلب عقول، ولسان قؤول، وجنان
على إقامة الحق صؤول " (1) هذا مضافا إلى أن المجنون مرفوع عنه القلم مولى
عليه. والسفيه أيضا محجور عليه، قال - تعالى -: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي
جعل الله لكم قياما) (2) والمراد الأموال العامة المتعلقة بالمجتمع، أو مطلق
الأموال. وعن أبي عبد الله (عليه السلام) " لا يكون السفيه إمام التقي " (3) وفي كنز العمال "...
وإذا أراد الله بقوم شرا ولى عليهم سفهاءهم، وقضى بينهم جهالهم " (4). فيعتبر في

(1) الغرر والدرر: 6، 472.
(2) النساء 4: 5.
(3) الكافي: 1، 175.
(4) كنز العمال: 6، 7.
107

الوالي مضافا إلى العقل، الرشد في قبال السفاهة أيضا. والمسألة واضحة.
2 - الإسلام والإيمان
فلا يجعل الكافر واليا على المسلمين، وقد مر بيان اعتباره من طريق العقل.
ويدل عليه آيات كثيرة:
منها قوله - تعالى -: (لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) (1) إذ
الولاية على الغير من أقوى السبل عليه.
ومنها قوله: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، ومن
يفعل ذلك فليس من الله في شئ) (2).
ومنها قوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم
أولياء بعض) (3). إلى غير ذلك من الآيات.
والروايات الدالة على ذلك أيضا كثيرة جدا، منها ما عن النبي (صلى الله عليه وآله) " الإسلام
يعلو ولا يعلى عليه " (4) وكيف ينتظر ويتوقع ممن لا يعتقد بالإسلام أن يكون
مجريا لأحكام الإسلام ومديرا لشؤون المسلمين على أساس موازين الإسلام!؟
بل يعتبر الايمان المركب من الإقرار باللسان والاعتقاد بالجنان والعمل بالأركان،
ووجهه واضح. وإذا كان الايمان شرطا في إمام الجماعة، فاشتراطه في الإمام
الأعظم يثبت بطريق أولى.

(1) النساء 4: 141.
(2) آل عمران 3: 28.
(3) المائدة 5: 51.
(4) الفقيه: 4، 334.
108

3 - العدالة
فلا ولاية للظالم والفاسق على المسلمين، ويدل عليه مضافا إلى حكم
العقل، الآيات والروايات الكثيرة:
1 - قال - تعالى -: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن، قال: إني
جاعلك للناس إماما، قال: ومن ذريتي، قال: لا ينال عهدي الظالمين) (1) فكل ما
يخالف الحق يصح أن يطلق عليه الظلم، فكل فاسق ظالم، وكل منحرف عن الحق
كذلك.
2 - عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " لا تصلح الإمامة إلا لرجل
فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن معاصي الله، وحلم يملك به غضبه، وحسن
الولاية على من يلي حتى يكون لهم كالوالد الرحيم " (2).
3 - ما في نهج البلاغة قال (عليه السلام): " وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي
على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل، فتكون في
أموالهم نهمته، ولا الجاهل فيضلهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا
الحائف للدول فيتخذ قوما دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق
ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطل للسنة فيهلك الأمة " (3) وقوله " لا ينبغي "
بحسب اللغة صالح للحرمة أو ظاهر فيها، ويشهد لذلك موارد استعمال الكلمة في
الكتاب العزيز، كقوله - تعالى -: (قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من
دونك من أولياء) (4) ودلالة الكلام على اعتبار العدالة واضحة.
4 - ما جاء في جواب الإمام الحسين (عليه السلام) لأهل الكوفة: " فلعمري ما الإمام

(1) البقرة 2: 124.
(2) الكافي: 1، 407.
(3) نهج البلاغة، عبده: 2، 19، صالح: 189، الخطبة 131.
(4) الفرقان 25: 18.
109

إلا الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحق، الحابس نفسه على ذات
الله " (1).
5 - ما في تحف العقول عن الصادق (عليه السلام): " فوجه الحلال من الولاية: ولاية
الوالي العادل الذي أمر الله بمعرفته وولايته والعمل له في ولايته، وولاية ولاته،
وذلك أن في ولاية والي العدل وولاته إحياء كل حق وعدل، وإماتة كل ظلم
وجور وفساد...
وأما وجه الحرام من الولاية فولاية الوالي الجائر وولاية ولاته... وذلك أن
في ولاية الوالي الجائر دروس الحق كله وإحياء الباطل كله، وإظهار الظلم والجور
والفساد، وإبطال الكتب وقتل الأنبياء والمؤمنين، وهدم المساجد وتبديل سنة الله
وشرائعه.. " (2).
6 - ما في رواية سليم: " يختاروا لأنفسهم إماما عفيفا عالما ورعا عارفا
بالقضاء والسنة " (3).
والأخبار والروايات في ذم ولاة الجور وحرمة تقويتهم وإعانتهم في غاية
الكثرة. وأي إعانة أقوى من الانقياد لهم والتسليم لأوامرهم؟ إذ لا تبقى الحكومة
إلا بإطاعة الأمة.
فعن الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " إذا كان يوم
القيامة نادى مناد أين أعوان الظلمة ومن لاق لهم دواتا أو ربط كيسا أو مد لهم مدة
قلم، فاحشروهم معهم " (4).

(1) الإرشاد: 186، طبعة أخرى: 204.
(2) تحف العقول: 332.
(3) كتاب سليم: 182.
(4) الوسائل: 12، 130.
110

كما أن الروايات الواردة في مدح الإمام العادل وبركاته أيضا كثيرة، وكفاك
خبر حفص بن عون، رفعه، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " ساعة إمام عادل أفضل من
عبادة سبعين سنة، وحد يقام لله في الأرض أفضل من مطر أربعين صباحا " (1).
وكذا توجد روايات كثيرة تدل على اعتبار العدالة في القاضي، وإذا
اعتبرت العدالة في القاضي ففي الوالي المسلط على دماء المسلمين والأعراض
والأموال تعتبر بطريق أولى وإذا اعتبرت العدالة في إمام الجمعة والجماعة
فاعتبارها في الإمام الذي هو القدوة في جميع الشؤون وبيده زمام أمر المسلمين
آكد (2).
فإمامة المسلمين إن كانت من قبل الله فيقبح عقلا أن ينصب على الأمة إماما
جائرا فاسقا، وإن كانت بانتخاب الأمة فالعقل يحكم بقبح انتخاب الظالم الجائر
وتسليطه على الدماء والأعراض، وأوهن من ذلك عند العقل القول بوجوب

(1) الوسائل: 18، 308.
(2) هذا ولكن التجربة شاهدة على أن اشتراط العدالة - وإن كان لازما - لا يكفي في منع
صاحب القدرة - سواء كان رئيسا، أو وزيرا، أو قاضيا، أو وكيلا - عن سوء استعمال قدرته
وصرفها في المصالح الشخصية التي يراها حقا، حتى اشتهر أن القدرة مفسدة، بمعنى أنها
تخرج أعدل الأفراد عن طريق العدالة، غالبا، سيما إذا كانت قدرته مطلقة، فصاحب القدرة
في معرض الفساد والافساد والتعدي بالحقوق والحدود، إلا من عصمه الله - تعالى -. وعلى
هذا يجب تحديد قدرته: أولا: بالقوانين العادلة التي تبين حقوقه ووظائفه موردا ومدة بنحو
لا يختلف فيها.
وثانيا: بمراقبته من خارج الحكومة. فعلى القول بالانتخاب - كما هو مختار الأستاذ - دام
ظله - يحق للناس والفئات السياسية والمهنية نظير الأحزاب والنقابات، بل يجب عليهم أن
يراقبوا منتخبيهم حتى لا ينحرفوا عن طريق العدالة وعن الالتزام عملا بالقوانين. وليس
للحكومة أن تمنع الناس عن استيفاء حقوقهم وأداء وظيفتهم تجاه الحكومة ولو بجعل
القانون - م -.
111

إطاعة الجائر الفاسق الذي غلب بالسيف بلا انتخاب ولا بيعة، وقد قال الله
- تعالى -: (لا ينال عهدي الظالمين) (1)، وقال: (ولا تطيعوا أمر المسرفين * الذين
يفسدون في الأرض ولا يصلحون) (2) وقال: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا
فتمسكم النار) (3) وكفت هذه الآيات جوابا عن كل من يتوهم لزوم الانقياد
للطواغيت والظلمة ووجوب إطاعتهم، ولا سيما عبدة الكفار والملاحدة وعملاء
الشرق والغرب. وما يجري على أفواه أعوان الظلمة من أن " المأمور معذور "
فعذر شيطاني لا أساس له لا في الكتاب والسنة، ولا في الفطرة.
وفي صحيح مسلم، عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: " على المرء المسلم السمع
والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا
طاعة " (4).
نعم، توجد بعض أخبار من السنة ربما يستفاد منها وجوب الإطاعة
والتسليم للأمراء والسلاطين مطلقا، ولعلها ناظرة إلى أن تحقق المعصية بنفسه لا
يوجب سقوط ذي المنصب عن منصبه وجواز التخلف عن أوامره ونواهيه في
الجهة المشروعة التي نصب لها، فإن عدم إطاعته يوجب الهرج والمرج.
4 - الفقاهة
الرابع من شروط الإمام: الفقاهة والعلم بالإسلام وبمقرراته اجتهادا، فلا
يصح إمامة الجاهل بالإسلام وبمقرراته، أو العالم بها تقليدا. والمراد به هنا العلم
بالمسائل الكلية المستنبطة من الكتاب والسنة. ويدل عليه - مضافا إلى ما مر من

(1) البقرة 2: 124.
(2) الشعراء 26: 151 - 152.
(3) هود 11: 113.
(4) صحيح مسلم: 3، 1469.
112

حكم العقل وبناء العقلاء - الآيات والروايات من طريق الفريقين:
1 - قال - تعالى -: (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدى إلا أن
يهدى، فمالكم كيف تحكمون) (1). فالعالم الذي يهدي إلى الحق أحق بهذا
المنصب الشريف. والصيغة منسلخة عن معنى التفضيل، أو ان التفضيل وقع جدلا،
حيث إن الناس بحسب عاداتهم يثبتون حقا ما لبعض من لا يهدي إلا أن يهدى.
2 - وقال - تعالى -: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، إنما
يتذكر أولوا الألباب) (2) فمفاد الآية أن العالم مقدم على غيره.
3 - ما في نهج البلاغة، قال (عليه السلام): " أيها الناس، إن أحق الناس بهذا الأمر
أقواهم عليه، وأعلمهم بأمر الله فيه، فإن شغب شاغب استعتب، فإن أبى قوتل " (3).
والظاهر أن المراد بالقوة القدرة على الولاية المفوضة إليه بشؤونها المختلفة،
فتشمل كمال العقل والتدبير والشجاعة وحسن السياسة والإدارة، كما لا يخفى.
4 - عن الحسن بن علي (عليهما السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " ما ولت أمة أمرها
رجلا قط وفيهم من هو أعلم منه إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالا، حتى يرجعوا إلى
ما تركوا " (4).
5 - صحيحة عبد الكريم بن عتبة الهاشمي، قال " كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام)
بمكة إذ دخل عليه أناس... ثم أقبل على عمرو بن عبيد فقال: يا عمرو اتق الله،
وأنتم أيها الرهط فاتقوا الله، فإن أبي حدثني - وكان خير أهل الأرض وأعلمهم
بكتاب الله وسنة نبيه - إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: من ضرب الناس بسيفه ودعاهم إلى

(1) يونس 10: 35.
(2) الزمر 39: 9.
(3) نهج البلاغة، عبده: 2، 104، صالح: 247 الخطبة 173.
(4) غاية المرام: 298.
113

نفسه وفي المسلمين من هو أعلم منه، فهو ضال متكلف " (1).
6 - وقد مر في صحيحة العيص بن القاسم عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله:
" وانظروا لأنفسكم، فوالله ان الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي، فإذا وجد رجلا
هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها يخرجه ويجيء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه
من الذي كان فيها " (2).
كما توجد روايات كثيرة وردت في مواصفات العمال، وأنه لا يستعمل إلا
من هو أرضى وأعلم بالكتاب والسنة، ومنها يستفاد حكم الوالي الأعظم بطريق
أولى، من قبيل:
ما رواه البيهقي بسنده، عن ابن عباس، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): " من استعمل
عاملا من المسلمين وهو يعلم أن فيهم أولى بذلك منه وأعلم بكتاب الله وسنة نبيه
فقد خان الله ورسوله وجميع المسلمين " (3).
وما في كنز العمال عن حذيفة: " أيما رجل استعمل رجلا على عشرة أنفس،
علم أن في العشرة أفضل ممن استعمل، فقد غش الله وغش رسوله وغش جماعة
المسلمين " (4).
7 - ما في تحف العقول عن السبط الشهيد (عليه السلام) قال: " مجاري الأمور
والأحكام على أيدي العلماء بالله، الأمناء على حلاله وحرامه " (5).
الخطاب في الحديث للعلماء المعاصرين له (عليه السلام) من الصحابة والتابعين

(1) الوسائل: 11، 28.
(2) الوسائل: 11، 35.
(3) سنن البيهقي: 10، 118.
(4) كنز العمال: 6، 19.
(5) تحف العقول: 237.
114

ويستفاد منه وجوب كون المرجع لأمور المسلمين العلماء، وعلى هذا فهل
يريد (عليه السلام) بكلامه النصب وجعل الولاية للعلماء من قبل الله - تعالى - أو من قبل
الإمام (عليه السلام)؟ أو أنه في مقام بيان الحكم الشرعي وأن الشرط في الحكام كونهم من
أهل العلم والأمانة؟ ظاهر بعض الأساتذة الاحتمال الأول، ومقتضاه كون جميع
الفقهاء الواجدين للشرائط في عصر صدور الحديث وفيما بعده حكاما منصوبين
بالفعل. ولكن الالتزام بهذا مشكل، ولا سيما في عصر صدوره. وسيأتي في الباب
الخامس البحث في ذلك.
5 - القوة وحسن الولاية
قد عرفت أن العقلاء لو أرادوا تفويض أمر من الأمور إلى الغير راعوا فيه
بحسب الفطرة وجود أمور ومنها قدرته وقوته على الأمر المفوض إليه. فإذا كان
هذا حال الأعمال الجزئية فعدم جواز تفويض إدارة شؤون الأمة التي هي من أدق
الأعمال وأحمزها إلى من لا يقدر ولا يقوى عليها يثبت بطريق أولى (1).

(1) اشتراط اجتماع العلم بمقررات الإسلام اجتهادا مع كثرة أبوابها ومسائلها، والقوة على
إدارة شؤون الأمة بشعبها في شخص واحد لا يخلو من مناقشات منها تعسر الاجتماع عادة،
سيما في هذا الزمان، فلا مناص من القول بتفكيك القوى والمسؤوليات. نعم يمكن الاجتماع
في زمن صدور الروايات لقلة الأمور وبساطتها وسهولة الاجتهاد.
وقد تسلم الأستاذ - دام ظله - أخيرا القول بتفكيك السلطات، ومال أيضا إلى آراء
جديدة قد نشرت بشكل كراسات. ويستفاد من مجموعها نظرية جديدة للدولة في عصر
الغيبة، تختلف عن المشروع المطروح في الكتاب، ولكنه اختلاف في المعمارية والفروع لا
في الأصل، وهو أمر مقبول لأن شكل الدولة متغير حسب عوامل الزمان والمكان. وقد
صرح الأستاذ بذلك في بعض كلماته، وأن الأصل المطلوب في الإسلام هو تطبيق قيم
الإسلام وأحكامه في كل وقت، وأي شكل من الحكومة يحقق ذلك فهو مرضي ومقبول
شرعا. - م -.
115

وقدرة الشخص على ذلك تتوقف أولا: على استعداده لذلك بالذات،
ويسمى ذلك الشم السياسي. وثانيا: على الإحاطة بكيفية العمل ونوعه، والاطلاع
على نفسيات أمته وحاجاتهم، وشرائط الزمان والبيئة. وثالثا: على الشجاعة
النفسية وقوة الإرادة، حتى يتمكن من اتخاذ القرار في المسائل المهمة ولا
يضعف. ورابعا: على سلامة الحواس والأعضاء من السمع والبصر واللسان
ونحوها، بمقدار ما يرتبط بعمله المفوض إليه، أو يوجب عدمه شينا يسبب نفرة
الناس منه.
أضف إلى جميع ذلك صفة الحلم، فإنه لو كان الشخص جافيا غضوبا قطع
الأمة بجفائه. والظاهر أن التعبير بحسن الولاية والقوة المذكورين في بعض
الأخبار الآتية أحسن تعبير يستفاد منه جميع ما ذكر، فنذكرها بعنوان شرط واحد،
مضافا إلى اشتراك رواياتها غالبا كما يظهر لك. ولا يخفى أن المراد بالعلم هنا
الاطلاع على المسائل الجزئية وفنون السياسة وحوادث الزمان.
ويدل على اعتبار القوة بسعتها مضافا إلى حكم العقل، أيضا الكتاب
والسنة:
1 - قال - تعالى - حكاية عن يوسف (عليه السلام): (قال اجعلني على خزائن الأرض،
إني حفيظ عليم) (1) والظاهر أنه يقصد أنه أمين في حفظ الحزائن والأموال، عليم
بفنون حفظها وصرفها في مصارفها اللازمة.
2 - وقال - تعالى - حكاية عن بنت شعيب في حق موسى (عليه السلام): (قالت
إحديهما يا أبت استأجره، إن خير من استأجرت القوي الأمين) (2) فإذا اشترطت
القوة في راعي الغنم بحكم الفطرة، فاشتراطها في والي الأمة بطريق أولى كما

(1) يوسف 12: 55.
(2) القصص 28: 26.
116

لا يخفى.
3 - عن الباقر (عليه السلام) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا تصلح الإمامة إلا لرجل فيه
ثلاث خصال: ورع يحجزه عن معاصي الله، وحلم يملك به غضبه، وحسن الولاية
على من يلي حتى يكون لهم كالوالد الرحيم " (1).
وحسن الولاية بسعة معنى الكلمة يعم الشجاعة والسياسة والحلم ونحوها،
مما له دخل في حسن قيادة الأمة.
4 - ما مر من نهج البلاغة: " أيها الناس، إن أحق الناس بهذا الأمر أقواهم
عليه، وأعلمهم بأمر الله فيه. فإن شغب شاغب استعتب، فإن أبي قوتل " (2).
5 - ما في أصول الكافي عن الرضا (عليه السلام): " والإمام عالم لا يجهل، وراع لا
ينكل... نامي العلم، كامل الحلم، مضطلع بالإمامة، عالم بالسياسة، مفروض
الطاعة، قائم بأمر الله، ناصح لعباد الله، حافظ لدين الله " (3).
6 - عن الإمام علي (عليه السلام): " يحتاج الإمام إلى قلب عقول، ولسان قؤول،
وجنان على إقامة الحق صؤول " (4).
7 - ما في نهج البلاغة في كتابه إلى أهل مصر لما ولى عليهم الأشتر: " أما
بعد، فقد بعثت إليكم عبدا من عباد الله لا ينام أيام الخوف، ولا ينكل عن الأعداء
ساعات الروع، أشد على الكفار من حريق النار، وهو مالك بن الحارث، أخو
مذحج، فاسمعوا له وأطيعوا أمره فيما طابق الحق " (5).

(1) الكافي: 1، 407.
(2) نهج البلاغة، عبده: 2، 104، صالح: 247، الخطبة 173.
(3) الكافي: 1، 202.
(4) الغرر والدرر: 6، 472.
(5) نهج البلاغة، عبده: 3، 70، صالح: 411، الكتاب 38.
117

6 - أن لا يكون الوالي من أهل البخل والطمع والمصانعة
الشرط السادس في الوالي: أن لا يكون من أهل البخل والطمع والحرص
والمصانعة وحب الجاه، فإن الوالي مسلط على نفوس المسلمين وأموالهم،
والصفات المذكورة لا تناسب ذلك وإن فرض عدم بلوغها حدا يضر بالعدالة.
ويستفاد جميع ذلك من الروايات من طرق الفريقين:
1 - ما مر من نهج البلاغة من قوله (عليه السلام): " وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون
الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل، فتكون
في أموالهم نهمته... ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق " (1).
2 - ما فيه أيضا: " لا يقيم أمر الله سبحانه إلا من لا يصانع، ولا يضارع،
ولا يتبع المطامع " (2).
والظاهر أن المراد بالأمر، الولاية. والمضارعة: المشابهة، فلعل المراد أن
الحاكم الحق يجب عليه أن يكون مستقلا في الفكر والعمل، ولا يقع أسيرا تحت
تأثير العوامل الخارجية أو الداخلية، فيترك محاسن الأخلاق والأعمال وما
يقتضيه العقل السليم بسبب الأجواء والتقاليد الباطلة.
3 - ما في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (عليه السلام): " فأما من كان من
الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا لدينه، مخالفا على هواه، مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن
يقلدوه. وذلك لا يكون إلا بعض فقهاء الشيعة، لا جميعهم " (3).
4 - ما في صحيح مسلم عن أبي موسى، قال: " دخلت على النبي (صلى الله عليه وآله) أنا

(1) نهج البلاغة، عبده: 2، 19، صالح: 189، الخطبة 131.
(2) نهج البلاغة، عبده: 3، 176، صالح 488 الحكمة 110.
(3) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (عليه السلام)، هامش تفسير القمي: 102 والاحتجاج: 255.
118

ورجلان من بني عمي، فقال أحد الرجلين: يا رسول الله، أمرنا على بعض ما ولاك
الله - عز وجل - وقال الآخر مثل ذلك. فقال (صلى الله عليه وآله): إنا والله لا نولي على هذا العمل
أحدا سأله، ولا أحدا حرص عليه " (1).
5 - قال ابن قتيبة: " قال ابن عباس لعلي: أرى أنهما (طلحة والزبير) أحبا
الولاية، فول البصرة الزبير وول طلحة الكوفة... فضحك علي (عليه السلام) ثم قال: ويحك،
إن العراقين بها الرجال والأموال، ومتى تملكا رقاب الناس يستميلا السفيه
بالطمع، ويضربا الضعيف بالبلاء، ويقويا على القوي بالسلطان. ولو كنت مستعملا
أحدا لضره ونفعه لاستعملت معاوية على الشام. ولولا ما ظهر لي من حرصهما
على الولاية لكان لي فيهما رأي " (2) هذا ومن رأى نفسه أهلا للولاية، وأراد بها
صلاح الدين والمجتمع فلا يصدق على ترشيحه نفسه عنوان الحرص والطمع، بل
قد يجب ذلك إذا انحصر الصالح فيه. وإنما الحرص المذموم أن يكون الشخص
طالبا للرياسة، مولعا بها. والفرق بين الأمرين واضح (3).
7 - الذكورة
المسألة غير معنونة في كتب فقهائنا، نعم ذكروا اعتبار الذكورة في القاضي
وادعوا الاتفاق وعدم الخلاف بل الاجماع. والظاهر أن القضاء شعبة من شعب
الولاية، فاشتراط الذكورة في القاضي لعله يقتضي اشتراطها في الولاية، لا سيما

(1) صحيح مسلم: 3، 1456.
(2) الإمامة والسياسة: 1، 51.
(3) ظاهر الترشيح وطلب الرياسة سواء لا يدل على الحرص على الولاية، إلا أن تكون قرائن
خارجية يحكم بها على الحرص؛ فإن يوسف (عليه السلام) طلب الرياسة وقال: (اجعلني على خزائن
الأرض) ولم يكن حريصا على ذلك، ورب مرشح لولاية يكون من أحرص الناس عليها - م
-.
119

الإمامة الكبرى. وأدلة المسألتين كما يأتي مشتركة.
وأما علماء السنة فالظاهر اتفاقهم على اشتراطها في الولاية. نعم اختلفوا
في القضاء: فالشافعية والمالكية والحنابلة قالوا بالاشتراط، والحنفية جعلوا القضاء
من الشهادة، فما يقبل فيه شهادة النساء يقبل قضاؤهن أيضا. أما محمد بن جرير
الطبري فينفي الاشتراط مطلقا.
قال في الخلاف: " لا يجوز أن تكون المرأة قاضية في شئ من الأحكام،
وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: يجوز أن تكون قاضية فيما يجوز أن تكون
شاهدة فيه وهو جميع الأحكام إلا الحدود والقصاص. وقال ابن جرير: يجوز أن
تكون قاضية في كل ما يجوز أن يكون الرجل قاضيا فيه، لأنها تعد من أهل
الاجتهاد. دليلنا أن جواز ذلك يحتاج إلى دليل، لأن القضاء حكم شرعي فمن قال:
تصلح له يحتاج إلى دليل شرعي " (1).
وفي الشرايع: " ويشترط فيه البلوغ، وكمال العقل، والايمان، والعدالة،
وطهارة المولد، والعلم، والذكورة... ولا يعقد القضاء للمرأة وإن استكملت
الشرايط " (2).
وفي الجواهر: " بلا خلاف أجده في شئ منها، بل في المسالك: هذه
الشرايط عندنا موضع وفاق... وأما الذكورة فلما سمعت من الاجماع " (3).
وفي الفقه على المذاهب الأربعة ما حاصله " أنهم اتفقوا على أن الإمام
يشترط فيه أن يكون مسلما، مكلفا، حرا، ذكرا، قرشيا، عدلا، عالما، مجتهدا،

(1) الخلاف: 3، 311.
(2) الشرائع: 4، 67 - 68.
(3) الجواهر: 40، 12 - 14.
120

شجاعا، ذا رأي صائب، سليم السمع والبصر والنطق " (1).
وليس غرضنا استقصاء الكلمات في المقام، بل ذكر نماذج من كلمات
الفريقين.
ولا يخفى أن مسألة الإمامة لم تكن معنونة في فقه الشيعة الإمامية، ولعله
لكونها مقصورة عندهم على الأئمة الاثني عشر. وأما القضاء وإن ادعوا الاجماع
على اعتبار الذكورة فيه، لكن لم أجد المسألة في مثل المقنعة والمقنع والهداية
والنهاية وفقه الرضا، من الكتب المعدة لنقل المسائل المأثورة، وإنما تعرض لها
الشيخ في خلافه وفي مبسوطه الذي وضعه لجمع الفروع الاجتهادية المستنبطة،
ثم تعرض له بعده المتأخرون في كتبهم. فثبوت الاجماع فيها بنحو يكشف عن
تلقي المسألة من المعصومين (عليهم السلام) يدا بيد مشكل، حتى أن الشيخ في الخلاف أيضا
كما رأيت لم يستدل لها بالإجماع بل بالأصل وبالروايات، في قبال الحنفية وابن
جرير. فدليل الاجماع فيها لا يفيد وإن اعتمد عليها صاحب الجواهر وغيره، بل
اللازم الرجوع إلى الآيات والأخبار.
التنبيه على أمرين:
الأمر الأول: أن الولاية تتنافى مع طباع المرأة وظرافتها. ويتوقف بيانه على
ثلاث مقدمات:
الأولى: تفاوت الرجل والمرأة:
فلا إشكال في تفاوت الرجل والمرأة بحسب الجسم والروح، لا بمعنى أن
أحدهما أنقص من الآخر، بل بمعنى أن نظام الخلقة الرباني أوجد التفاوت لتحكيم
نظام العائلة، حيث إن نظام الأسرة يحتاج إلى التدبير وإلى العواطف معا. ولو كانا

(1) الفقه على المذاهب الأربعة: 5، 416.
121

متماثلين في الجسم والغرائز لاستقل كل منهما وانفرد ولم ينتظم نظام الأسرة.
فالرجل مظهر العقل والتدبير، والمرأة مظهر الرأفة والعاطفة، والنظام يحتاج إلى
كليهما. والمرأة ظريفة غالبا في الجسم والروح والصوت ونحو ذلك، والرجل
خشن فيها. والمرأة تميل غالبا إلى السكون والسكوت والدعة، والرجل إلى
الأعمال الشاقة والتحرك والجهاد. والرجل يغلب عليه القوة والشدة، وعلى المرأة
الرقة والانفعال. والمرأة تميل إلى الزينة والتجمل والتلون والتجدد، بخلاف
الرجل. والمرأة إلى الفن والأدب أميل، والرجل إلى العلم والتفكر.
ويختلفان في كثير من الأخلاق، وربما يكون خلق واحد في أحدهما
فضيلة، وفي الآخر رذيلة.
هذا مضافا إلى ما ذكروا لهما من الاختلاف في متوسط الطول والوزن
وحجم البدن والرأس والدماغ والجمجمة والقلب والدم، والشدة والقوة في العظم
والعضلات والأعصاب، وسائر الأعضاء والحواس الخمسة.
الثانية: في مفهوم العدل:
فليس معنى العدل تساوي جميع أفراد النوع في الإمكانات والوظائف، بل
العدل أن يبذل كل فرد ما يقتضيه طبعه وحاجته، وأن يراد منه ما يطيقه ويقدر
عليه. فالأفراد في الحاجات وفي الطاقات مختلفون، والعدل يقتضي رعاية
التناسب مع طباعهم وطاقاتهم (1).
الثالثة: الولاية مسؤولية وأمانة:
فالولاية بشعبها ومنها القضاء وإن كانت مقاما ومنصبا يتنافس فيه، ولكنها
بنظر الإسلام وأوليائه أمانة إلهية تستعقب مسؤولية خطيرة. والعدل يقتضي أن لا

(1) هذا البيان يتم إن قلنا بأن الملاك في تحمل بعض الوظائف والمسؤوليات مثل الولاية
والقضاء هو الطبيعة الغالبة على الأفراد، فلا تصح ولاية المرأة ولا قضاؤها. وإن قلنا بأن
الملاك هو قدرة الفرد الفعلية فيه، فلا فرق بين الرجل والمرأة - م -.
122

يحمل عبء المسؤولية إلا على من يقدر على تحملها وأدائها، وإلا كان ظلما له
ولمن يقع تحت حيطته.
إذا عرفت هذه المقدمات الثلاث فنقول: الولاية بشعبها من الوظائف
الخطيرة المرتبطة بمصالح الأمة ومقدراتهم، فالقصور فيها فضلا عن التقصير
يستعقب أضرارا كثيرة. وهي وإن احتاجت إلى العواطف أيضا ولكن احتياجها
إلى العقل والتدبير والنظر في عواقب الأمور أشد من ذلك بمراتب.
فالمناسب تفويض هذه المسؤولية الخطيرة المرتبطة بشؤون الإسلام
والمسلمين إلى من يكون قدرته على التحمل أكثر. ولا يراد بذلك الحط من كرامة
المرأة واحتقارها بل رعاية التناسب الطبيعي في تفويض المسؤولية. والتشريع
الصحيح هو التشريع المبتني على التكوين.
ويشهد لذلك أنك ترى في أكثر البلدان في العالم أن رؤساء الجمهوريات
والدول ينتخبون غالبا من الرجال دون النساء، مع أنه ليس في محيطهم منع
قانوني لانتخاب المرأة (1).
الأمر الثاني: فيما يقتضيه تستر المرأة:
إن المتتبع للآيات والروايات المروية بطرق الفريقين يظهر له أن المرأة
لاحتمال الافتتان بها ووقوعها في الفتنة، يطلب منها شرعا لا سيما من الشابة
الاحتجاب والاستتار، وعدم الخروج من البيت مهما أمكن، وعدم المخالطة
والمحادثة مع الرجال الأجانب إلا مع اقتضاء الضرورة أو المصلحة مع التحفظ.
والوالي وكذا القاضي لابد له أن يحضر محافل الرجال كثيرا ويحادثهم

(1) طبيعة المرأة الظريفة لا تتحمل المشاق إذا كان عبأ إدارة شؤون الملك بتمامها على عاتقها
كما هو المتعارف في الحكومات الفردية في الأزمنة السابقة، ولكن إذا كانت القوى
والمسؤوليات منفكات كما في الأزمنة الأخيرة فالمرأة أيضا في حد قدرتها تتحمل الوظائف
والمسؤوليات. - م -
123

ويخاصمهم، فلا يناسب المرأة التصدي لهما. فهذان أمران لعلهما يفيدان في
المسألة.
فلنشرع في ذكر أدلة اعتبار الذكورة في الوالي والقاضي:
1 - قال - تعالى -: (الرجال قوامون على النساء، بما فضل الله بعضهم على
بعض، وبما أنفقوا من أموالهم) (1). فهل الحكم في الآية يراد به العموم، أو قيمومة
خصوص الأزواج على أزواجهم؟ وجهان.
ولا يخفى أن الاستدلال بالآية يبتني على الأول، ومورد النزول هو الثاني.
ويظهر من بعض الأعاظم تقوية العموم.
كما في مسالك الأفهام: " أي الرجال على النساء. وذلك بالعلم والعقل
وحسن الرأي والتدبير والعزم ومزيد القوة في الأعمال والطاقات " (2).
ولكن عندي في التمسك بالآية للمقام اشكال، إذ شأن النزول وكذا السياق
شاهدان على أن المراد قيمومة الرجال بالنسبة إلى أزواجهم. إذ لا يمكن الالتزام
بأن كل رجل بمقتضى عقله الذاتي، وبمقتضى إنفاقه على زوجته له قيمومة على
جميع النساء حتى الأجنبيات. بل إن صرف الشك والاحتمال يكفي في عدم
صحة الاستدلال.
2 - حديث أبي بكرة، قال " لقد نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله (صلى الله عليه وآله)
أيام الجمل بعدما كدت أن ألحق بأصحاب الجمل فأقاتل معهم. قال: لما بلغ رسول
الله (صلى الله عليه وآله) أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى قال: " لن يفلح قوم ولوا أمرهم
امرأة " (3).

(1) النساء 4: 34.
(2) مسالك الإفهام: 3، 257.
(3) صحيح البخاري: 3، 90، وسنن النسائي: 8، 227 وسنن الترمذي: 3، 360 وتحف
العقول: 35.
124

والحديث مشهور وإن اختلفوا في لفظه، ولعل الشهرة تجبر ضعفه، ودلالته
على المسألة واضحة.
3 - ما في نهج البلاغة: " يأتي على الناس زمان لا يقرب فيه إلا الماحل،
ولا يظرف فيه إلا الفاجر، ولا يضعف فيه إلا المنصف. يعدون الصدقة فيه غرما،
وصلة الرحم منا، والعبادة استطالة على الناس. فعند ذلك يكون السلطان بمشورة
النساء وامارة الصبيان وتدبير الخصيان " (1).
وإذا كانت السلطنة بمشورة النساء مذمومة فتفويضها إليهن بالكلية أولى
بالذم، كما لا يخفى.
4 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " إذا كانت أمراؤكم خياركم،
وأغنياؤكم سمحاؤكم، وأموركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها.
وإذا كانت أمراؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلاءكم وأموركم إلى نسائكم فبطن
الأرض خير لكم من ظهرها " (2).
5 - ما في نهج البلاغة في كتاب أمير المؤمنين إلى ابنه الحسن (عليهما السلام): " وإياك
ومشاورة النساء. فان رأيهن إلى أفن، وعزمهن إلى وهن " (3).
وإذا لم تصلح المرأة للمشاورة لضعف رأيها فعدم صلاحها لتفويض الولاية
أو القضاء المحتاج فيهما إلى الفكر والرأي الصائب القوي بطريق أولى.
إلى غير ذلك من الأخبار المتفرقة في الأبواب المختلفة، المقطوع بصدور
بعضها إجمالا، مضافا إلى صحة سند البعض. هذا مضافا إلى أن مجرد الشك كاف
في المقام، إذ الأصل كما عرفت عدم ثبوت الولاية لأحد على أحد، وليس لنا
عموم أو اطلاق يدعى شموله للمرأة.

(1) نهج البلاغة، عبده: 3، 173، صالح: 485، الحكمة 102.
(2) سنن الترمذي: 3، 361، تحف العقول: 36.
(3) نهج البلاغة، عبده: 3، 63، صالح: 405، الكتاب 31.
125

وقد يستدل للمسألة أيضا بعدم جواز إمامة المرأة للرجال بل للنساء عند
بعض في الصلاة، فلا تنعقد لها الإمامة الكبرى ولا القضاء بطريق أولى.
أقول: عدم جواز إمامتها للرجال مقطوع به ظاهرا وإن لم أجد به رواية
معتبرة. فالظاهر صحة الأولوية المدعاة. نعم، لا يثبت به عدم جواز كونها قاضية
للنساء، إذ الظاهر جواز إمامتها لهن فراجع (1).

(1) أولا في البحث عن الولاية، يحكم العقل باشتراط الأقوائية لا الذكورية، سواء كان الأقوى
رجلا أو امرأة. والأدلة الشرعية التي يستدل بها على عدم صحة ولاية النساء، بعد الغض عن
سندها، لعلها ناظرة إلى موارد يوجد فيها رجال أقوى من النساء، ففيها لا تصلح ولاية النساء
ولا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة مع كون رجال أقوى منها فيهم.
وعلى أي حال تاريخ البشر شاهد على أن طبع الرجل أقوى من المرأة من وجهة علمية
ومن وجهة عملية، ولذا نشاهد أن مجموع الرجال المعروفين في كلا المجالين أكثر من
النساء.
لا يقال: الرجال منعوا النساء لأن يطرحن أنفسهن، فإن ذلك بنفسه يكون دليلا على
أقوائية الرجال. فالقول بتساوي الجنسين أو بأقوائية المرأة من الرجل، قول بلا دليل، بل
ناشئ عن بواعث غير سليمة، منها سوء التصرف من النساء.
ثانيا: في كل جمع متشكل من الرجال والنساء في البيت، أو في المصنع، أو في المجتمع،
إذا كنا بحاجة من جعل ولي يحكم في المنازعات ويأخذ القرارات، فالعقل يحكم بكونه
أقوى الأفراد، وأعقلهم وأعلمهم، ولما يرى العقل طبع الرجال أقوى من النساء، يحكم بكون
الولي من بين الرجال؛ ولا يبعد أن يكون حكم الإسلام بقوامية الرجال على النساء بهذا
اللحاظ.
ثالثا: في الواقع الخارجي إذا جعل منصب لرجل، ليس لأنه لا يكون أي رجل أو امرأة
أقوى وأنسب منه، فرب رجل تصدى لأمر وتوجد امرأة أقوى منه في ذلك الأمر، ولكن
الوقوع الخارجي بهذا النحو يدل على الخطأ في تطبيق حكم العقل.
نعم إذا حدث مورد انحصرت الولاية بين رجل ضعيف في العقل والعمل وامرأة أقوى
منه في العقل والعمل، تلاحظ جانب المرأة، وكذلك لو فرض تغير طبع الرجل وصار أضعف
من طبع النساء، فحكم بقواميتهن على الرجال.
رابعا: يحق لكل امرأة الاشتراك في أي انتخاب، سواء كان لانتخاب الوالي أو غيره بلا
أي شك وشبهة.
خامسا: لا بأس باستشارة النساء إذا جربن بكمال عقل، كما ورد هذا المضمون في بعض
روايات الاستشارة - م -.
126

8 - طهارة المولد
ولم أعثر على كلام لعلماء السنة في اعتبار هذا الشرط، وقد تعرض له
أصحابنا في شروط القاضي، وكذا في المفتي الذي يراد تقليده، وربما ادعوا عليه
الاجماع.
قال في الشرايع: " ولا ينعقد القضاء لولد الزنا مع تحقق حاله، كما لا تصح
إمامته ولا شهادته في الأشياء الجليلة " (1).
وفي الجواهر: " كما هو واضح بناء على كفره. أما على غيره فالعمدة
الاجماع المحكي وفحوى ما دل على المنع من إمامته وشهادته إن كان وقلنا به
مؤيدا بنفر طباع الناس منه " (2).
ولكن الاجماع إنما يفيد في المسائل الأصلية المأثورة المذكورة في الكتب
المعدة لنقل هذا السنخ من المسائل، وليست المسألة كذلك، لعدم ذكرها في مثل
كتب الصدوقين والمقنعة والنهاية ونحوها. نعم التمسك بالفحوى صحيح.
ويدل على الاشتراط في الوالي والقاضي والمفتي، مضافا إلى الأصل،
أمور:
الأول: فحوى ما دل على اشتراطه في الشاهد، كصحيحة محمد بن مسلم،

(1) الشرايع: 4، 67.
(2) الجواهر: 40، 13.
127

قال: " قال أبو عبد الله: لا تجوز شهادة ولد الزنا " إلى غير ذلك من الأخبار (1).
الثاني: فحوى ما دل على اشتراطه في إمام الجماعة، كصحيحة أبي بصير
عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " خمسة لا يؤمون الناس على كل حال، وعد منهم
المجنون وولد الزنا " (2).
الثالث: الأخبار الظاهرة في نجاسته وقذارته، وإن كان الأقوى أنه يراد منها
القذارة المعنوية والخباثة الذاتية. كخبر الوشاء عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " أنه
كره سؤر ولد الزنا " (3).
الرابع: ما دل على كون ديته كدية الذمي.
الخامس: ما دل على كونه أسوأ من الكافر.
السادس: ما دل على كونه أسوأ حالا من الكلب والخنزير.
السابع: ما دل على عدم الخير فيه.
الثامن: ما ورد في أنه لا يدخل الجنة.
أقول: ولا نريد الحكم بصحة جميع هذه الأخبار ووضوح دلالتها، ولا سيما
ما كان منها مخالفا لحكم العقل والعدل، بل نقول إنه يستفاد من جميعها خسة ولد
الزنا جدا وإن كان مسلما عدلا، فلا يناسب منصب الولاية والقضاء والمرجعية.
أمور أخر اختلفوا في اعتبارها في الإمام
وهي ستة: 1 - البلوغ. 2 - سلامة الأعضاء والحواس. 3 - الحرية.
4 - القرشية. 5 - العصمة. 6 - كونه منصوصا عليه.

(1) الوسائل: 18، 275.
(2) الوسائل: 5، 397.
(3) الوسائل: 1، 165.
128

1 - البلوغ
قد تعرض لاعتباره في الوالي وكذا القاضي علماء السنة، وتعرض فقهاؤنا
أيضا لاعتباره في القاضي، وأما الإمام المعصوم فإنا لا نقول باشتراط البلوغ فيه،
كما لا نقول به في النبي الذي قد يؤتيه الله الحكم صبيا. ولكن بحثنا هنا في من
يصلح للولاية في عصر الغيبة، فالصبي لعدم استقلاله وكونه مرفوعا عنه القلم
والعبارة، مولى عليه بحكم الشرع، فلا يصلح للإمامة ولا للقضاء، وإن حصلت فيه
سائر الشروط. مضافا إلى أن الأصل أيضا يقتضي العدم. فالأولى ذكره شرطا كما
ذكروه في القضاء.
2 - سلامة الأعضاء والحواس
ففي قضاء الشرايع: " وفي انعقاد قضاء الأعمى تردد، أظهره أنه لا ينعقد
لافتقاره إلى التمييز بين الخصوم " (1).
وفي الفقه على المذاهب الأربعة: " إنهم اتفقوا على أن الإمام يشترط أن
يكون سليم السمع والبصر والنطق، ليتأتى منه فصل الأمور ومباشرة أحوال
الرعية " (2).
والظاهر عدم وجود دليل بالخصوص على اعتبار سلامة الأعضاء
والحواس، نعم قد مر أن القوة وحسن الولاية من الشروط المعتبرة، فان أوجب
فقد بعض الأعضاء أو الحواس أو ضعفه عدم القوة على العمل، أو التشويه في
الخلقة بحيث يوجب النفرة منه، اعتبرت السلامة لذلك، وإلا فلا دليل عليه. وقد
وردت روايات كثيرة في صحة إمامة الأعمى في الجماعة فراجع (3). فلا استبعاد
في تصديه للإمامة.

(1) الشرائع: 4، 68.
(2) الفقه على المذاهب الأربعة: 5، 417.
(3) الوسائل: 5، 409 - 410.
129

3 - الحرية
وقد ذكرها الأكثر شرطا في البابين كأبي يعلى والنووي، وكذلك في الفقه
على المذاهب الأربعة، مدعيا الاتفاق.
واشترطها في القاضي أكثر فقهائنا، قال في المسالك: " اشتراط الحرية في
القاضي مذهب الأكثر ومنهم الشيخ وأتباعه، لأن القضاء ولاية والعبد ليس محلا
لها " (1).
ويمكن أن يستدل لاشتراط الحرية بقوله - تعالى -: (ضرب الله مثلا عبدا
مملوكا لا يقدر على شئ، ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا،
هل يستوون) (2) كما استدلوا بها على الحجر عليه في العقود والإيقاعات.
ولكن يمكن أن يقال: إن الظاهر أن المراد عدم القدرة عرفا لا شرعا، فلو
فرض عبد شجاع قوي الإرادة، وأذن له المولى أيضا في قبول المسؤولية فأي
مانع عن ذلك؟ ولذا تصح إمامته للجماعة كما دلت عليها أخبار كثيرة، والذي
يسهل الخطب أن موضوع البحث منتف في أعصارنا.
4 - القرشية
وقد شرطها في الإمامة أكثر من تعرض للمسألة من علماء السنة، وادعى
كثير منهم الاتفاق عليها.
وأما نحن الإمامية القائلون بإمامة الاثني عشر بالنص فكونهم (عليهم السلام) من
قريش من ولد هاشم واضح. ولكن اشتراط القرشية في الحكام في عصر الغيبة مما
لا دليل عليه عندنا، بل لعله مقطوع العدم ولا سيما على القول بكون الفقهاء
منصوبين من قبل الأئمة (عليهم السلام) فإنهم يصيرون نظير العمال المنصوبين من قبيل

(1) المسالك: 2، 351.
(2) النحل 16: 75.
130

رسول الله (صلى الله عليه وآله) في عصره.
وكيف كان فلنذكر بعض الأخبار المتعرضة لوصف القرشية:
1 - عن الرضا (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله): " الأئمة من قريش " (1).
2 - ما في نهج البلاغة: " إن الأئمة من قريش، غرسوا في هذا البطن من
هاشم، لا تصلح على سواهم ولا تصلح الولاة من غيرهم " (2).
وأما من طرق السنة فكثيرة:
3 - في صحيح البخاري عن جابر بن سمرة، قال سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول:
" يكون اثنا عشر أميرا ". فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي، إنه قال: " كلهم من
قريش " (3)، وفي صحيح مسلم نحوه بعدة روايات، وفي بعضها: " لا يزال الدين
قائما حتى تقوم الساعة، أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة " وفي ذيل الجميع قوله:
" كلهم من قريش " (4).
واختلف الشراح في المراد بالاثني عشر خليفة، فقيل: مستحقوا الخلافة من
أئمة العدل. وقيل: الخلفاء الذين اجتمعت عليهم الأمة كلها. وقيل: غير ذلك.
والظاهر هو الأول. وينطبق هذا الخبر على ما نذهب إليه من إمامة الأئمة الاثني
عشر، المنصوص عليهم من قريش ومن بطن هاشم.
وكيف كان فلا دلالة في الحديث على اعتبار القرشية في الفقيه العادل
المنتخب في عصر الغيبة.
5 - العصمة

(1) البحار: 25، 104، عن عيون أخبار الرضا: 2، 63.
(2) نهج البلاغة، عبده: 2، 37، صالح: 201، الخطبة 144.
(3) صحيح البخاري: 4، 248، سنن الترمذي: 3، 340.
(4) صحيح مسلم: 3، 1452 و 1453.
131

البحث في عصمة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) والأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) والأنبياء
وأوصيائهم، بحث كلامي اعتقادي، وليس المقام مقام التعرض له. ونحن الشيعة
الإمامية نعتقد بذلك للإجماع والأخبار الكثيرة.
وإنما البحث هنا في أنه هل تعتبر العصمة في والي المسلمين مطلقا أم لا؟
ولا يخفى أنه لو قيل بذلك فكأنه صار نقضا لما أثبتناه إلى هنا من ضرورة الحكومة
الإسلامية في عصر الغيبة وصلاحية الفقيه لها مع أنه لا يكون معصوما قطعا.
ولا يصح الاستدلال لهذه المسألة المطلقة بالأخبار التي تثبت عصمة
الأنبياء وأوصيائهم والأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) بالخصوص، ففي بعضها: " الأنبياء
وأوصيائهم لا ذنوب لهم لأنهم معصومون مطهرون " (1) وفي بعضها: " علي (عليه السلام)
والأئمة من ولده معصومون " (2)، ولا بالأخبار التي يستفاد منها اعتبار العصمة في
الإمام بنحو الإطلاق، لأن المراد بالإمام في هذه الأخبار هو الإمام المنصوب من
قبل الله - تعالى - ومن قبل النبي (صلى الله عليه وآله) مباشرة باسمه وشخصه.
فمنها خبر سليمان بن مهران، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " عشر خصال من
صفات الإمام: العصمة، والنصوص " (3).
وما عن تفسير النعماني، عن علي (عليه السلام): " والإمام المستحق للإمامة له
علامات، فمنها أن يعلم أنه معصوم من الذنوب كلها صغيرها وكبيرها " (4).
وعلى هذا نلتزم بعدم اعتبار العصمة في الوالي في عصر الغيبة لعدم دليل
نقلي لها ولا يحكم العقل بأزيد من العدالة والأمانة.
وبملاحظة أخرى نقول: إن أصول مسؤوليات الإمام ثلاثة: 1 - بيان أحكام

(1) و (2) راجع بحار الأنوار: 25، 191 - 211.
(3) بحار الأنوار: 25، 140.
(4) بحار الأنوار: 25، 164.
132

الله تعالى وحفظها. 2 - إجراء أحكام الإسلام وقوانينه. 3 - وإدارة أمر القضاء
وفصل الخصومات.
وأنت تعلم أن كل واحد من هذه الشؤون الثلاثة اتسعت دائرته بسعة
أراضي الإسلام وبلاده، والإمام المعصوم أيضا لم يكن يتمكن من مباشرة جميع
الأعمال، فلا محالة يفوض كل أمر إلى شخص أو مؤسسة. وقد دلت أخبار كثيرة
على إحالة الفتيا إلى مثل أبان بن تغلب، وزكريا بن آدم، والعمري، وابنه، وغيرهم
من فقهاء الأصحاب. وكذلك أمر القضاء، كما دلت عليه مقبولة عمر بن حنظلة
وغيرها. فكذلك لا مانع لتصدي الفقهاء للأعمال الثلاثة في عصر الغيبة.
والأصحاب لا يخالفون في جواز تصدي الفقهاء لمنصبي الفتيا والقضاء في عصر
الغيبة، بل يوجبون ذلك، مع تطرق احتمال خطئهم وعدم كونهم معصومين، فلم لا
يلتزمون بذلك في حفظ النظام والسياسة؟
فالحق أن يقال: إنه مع وجود الإمام المعصوم والتمكن منه لا يجوز لغيره
تقمص الخلافة والإمارة قطعا، ولكن مع عدم التمكن منه - بأي سبب كان، كما في
عصر الغيبة - فالفقهاء العدول الأقوياء صالحون لنيابة الإمام المعصوم في أمر
الحكومة أيضا، لعدم رضا الله - تعالى - بتعطيل شؤون الإمامة. بل إن حفظ بيضة
الإسلام ونظام المسلمين أهم بمراتب من الأمور الحسبية الجزئية التي أفتى
الفقهاء بالتصدي لها من قبل الفقيه، فإن لم يكن فعدول المؤمنين، بل وفساقهم
أيضا مع عدم العدول، فالحكم ثابت بنحو الترتب.
6 - النص عليه
فقد قال باعتبار هذا الشرط أيضا أصحابنا الإمامية، ودلت عليه أخبارنا:
فمنها: رواية الحسن بن الجهم، قال: حضرت مجلس المأمون يوما وعنده
133

علي بن موسى الرضا (عليه السلام) وقد اجتمع الفقهاء وأهل الكلام من الفرق المختلفة،
فسأله بعضهم فقال له: " يا بن رسول الله، بأي شئ تصح الإمامة لمدعيها؟ قال:
بالنص والدلائل " (1).
ومنها: خبر سليمان بن مهران، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " عشر خصال من
صفات الإمام: العصمة، والنصوص " (2).
وما روى عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: " الإمام منا لا يكون إلا معصوما،
وليست العصمة في ظاهر الخلقة فيعرف بها، فلذلك لا يكون إلا منصوصا " (3).
فبالتأمل التام في الروايات المذكورة وغيرها، وفي كلمات الأصحاب، يظهر أن
النص إنما اعتبر طريقا إلى تشخيص العصمة وسائر الكمالات والمقامات العالية
المعنوية الخفية، التي لا يطلع عليها إلا الله - تعالى -، ولا توجد إلا في الإمام
المعصوم، أعني الأئمة الاثني عشر من العترة المعينين بالاسم والشخص، فلا دليل
على اعتباره في الفقهاء العدول في عصر الغيبة، كما لم نعتبر فيهم العصمة أيضا. بل
الظاهر من لفظ النص ليس إلا تعيين الفرد باسمه وشخصه، ولا يطلق على الفقيه
العادل، ولو فرض القول بنصبه بالنصب العام، أنه إمام منصوص عليه.
وبالجملة، فالروايات والكلمات مرتبطة بالإمامة بالمعنى الأخص عند
الشيعة، لا الإمامة بالمعنى الأعم التي لا يجوز تعطيلها واهمال أمرها في عصر من
الأعصار، فكما لا يشترط فيها العصمة لا يشترط النص الذي هو طريق لتشخيصها
أيضا.

(1) بحار الأنوار: 25، 134.
(2) بحار الأنوار: 25، 140.
(3) بحار الأنوار: 25، 194.
134

الباب الخامس:
في كيفية تعيين الوالي وانعقاد
الإمامة
135

الفصل الأول
في ذكر الأقوال في المسألة ونقل بعض الكلمات
1 - قال الماوردي: " والإمامة تنعقد من وجهين: أحدهما اختيار أهل العقد
والحل، والثاني بعهد الإمام من قبل. فأما انعقادها باختيار أهل الحل والعقد فقد
اختلف العلماء في عدد من تنعقد به الإمامة منهم على مذاهب شتى، فقالت طائفة:
لا تنعقد إلا بجمهور أهل العقد والحل من كل بلد، ليكون الرضا به عاما والتسليم
لإمامته إجماعا... وقالت طائفة أخرى: أقل من تنعقد به منهم الإمامة خمسة
يجتمعون على عقدها أو يعقدها أحدهم برضا الأربعة... وقال آخرون من علماء
الكوفة: تنعقد بثلاثة يتولاها أحدهم برضا الاثنين ليكون حاكما وشاهدين...
وقالت طائفة أخرى: تنعقد بواحد... " (1).
2 - وقال ابن قدامة: " وجملة الأمر أن من اتفق المسلمون على إمامته
وبيعته ثبتت إمامته ووجبت معونته... وفي معناه من ثبتت إمامته بعهد النبي (صلى الله عليه وآله) أو
بعهد إمام قبله إليه. فإن أبا بكر ثبتت إمامته بإجماع الصحابة على بيعته، وعمر
ثبتت إمامته بعهد أبي بكر إليه... ولو خرج رجل على الإمام فقهره وغلب الناس
بسيفه حتى أقروا له وأذعنوا بطاعته وتابعوه صار إماما يحرم قتاله والخروج

(1) الأحكام السلطانية: 6 - 7.
137

عليه... " (1).
3 - وقال العلامة الحلي: " ذهبت الإمامية خاصة إلى أن الإمام يجب أن
يكون منصوصا عليه، وقالت العباسية: إن الطريق إلى تعيين الإمام النص أو
الميراث، وقالت الزيدية: تعيين الإمام بالنص أو الدعوة إلى نفسه، وقال باقي
المسلمين: الطريق إنما هو النص أو اختيار أهل الحل والعقد " (2).
4 - وقال الزحيلي: " ذكر فقهاء الإسلام طرقا أربعة في كيفية تعيين الحاكم
الأعلى للدولة وهي النص، والبيعة، وولاية العهد، والقهر والغلبة. وسنبين أن طريقة
الإسلام الصحيحة عملا بمبدأ الشورى وفكرة الفروض الكفائية هي طريقة
واحدة، وهي بيعة أهل الحل والعقد وانضمام رضا الأمة باختياره، وأما ما عدا ذلك
فمستنده ضعيف " (3).
والحاصل أن لأرباب التحقيق في مبدأ الحكومة قولان:
الأول: أن السيادة والحاكمية لله - تعالى - فقط، والنبي (صلى الله عليه وآله) أيضا لم يكن له
حق الحكم إلا بعدما فوض الله إليه. والأئمة أيضا منصوبون من قبل النبي (صلى الله عليه وآله) بأمر
الله - تعالى -. حتى أن الفقهاء في عصر الغيبة أيضا نصبوا من قبل الأئمة (عليهم السلام) لذلك.
وليس لانتخاب الناس أثر في هذا المجال أصلا، فالحكومة الإسلامية تيوقراطية
محضة، وهذا القول هو الظاهر من أصحابنا الإمامية.
الثاني: أن الأمة بنفسها هي صاحبة السيادة ومصدر السلطات.
والحق هو الجمع بين القولين بنحو الطولية، فإن كان من قبل الله - تعالى -
نصب لذلك - كما في النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة الاثني عشر عندنا - فهو المتعين للإمامة.

(1) المغني: 10، 52.
(2) كشف المراد: 288.
(3) الفقه الإسلامي وأدلته: 6، 673.
138

وإلا كان للأمة حق الانتخاب، ولكن لا مطلقا بل لمن وجد الشرائط والمواصفات
المعتبرة. فالإمامة تنعقد أولا وبالذات بالنصب، وعند فقده بانتخاب جميع الأمة أو
أكثرهم أو أهل العقد والحل إذا تعقبه رضا الجميع أو الأكثر، بمرحلة واحدة أو
بمراحل.
وأما التغلب بالقهر، أو ولاية العهد، أو بيعة بعض الناس، فلا يكون سببا
للإلزام وإيجاب الطاعة، لأن نفوذ تعيين عدد قليل كخمسة من الناس في حق
الجميع لا ملاك له في العقل والشرع.
حتى إذا فرض أن الأمة انتخبت فردا للإمامة ولم يفوض إليه تعيين غيره لما
بعده، فبأي حق يعين غيره؟
نعم، لو كان الإمام معصوما - كما نعتقده في الأئمة الاثني عشر - فلا محالة
يكون تعيينه للإمام بعده حجة شرعية على تعينه من قبل الله - تعالى - أو من قبل
الرسول (صلى الله عليه وآله)، أو كون التعيين مفوضا إليه، أو كون المعين أفضل الأفراد وأجمعها
للشرائط، فيلزم أتباعه. ولكن ليس كلامنا هنا في الإمام المعصوم، فإنها مسألة
كلامية.
ومقتضى ما ذكروه من إمامة المتغلب مطلقا أن الخارج على الإمام
الموجود في أول الأمر باغ يجب قتاله ودفعه، ثم إذا فرض غلبته انقلب إماما
واجب الإطاعة وإن كان من أفسق الفسقة والظلمة! وهذا أمر عجيب لا يقبله الطبع
السليم. وما دل على وجوب إطاعة أولي الأمر لا يراد بها إطاعة كل من تسلط
وتأمر ولو بالقهر والغلبة، بل إطاعة من حقت له الولاية والأمر في خصوص ما
فوض إليه أمره. فوجوب الإطاعة هنا حكم يدور مدار موضوعه الخاص، ولا
يحقق الحكم موضوع نفسه، كما هو واضح.
139

الفصل الثاني
في ذكر أدلة القائلين بنصب الفقهاء عموما (1)
قبل التعرض للأدلة التي استدلوا بها على النصب يجب البحث عنه في مقام

(1) ناقش الأستاذ - دام ظله - في هذا الفصل في ما ذكروه من الأدلة على نظرية ولاية الفقيه
بنصب الإمام المعصوم (عليه السلام)، ثبوتا وإثباتا. لأنه على هذه النظرية يكون كل الفقهاء منصوبين
من قبل الإمام المعصوم (عليه السلام) في عرض واحد، ولا يكون لرأي الناس وانتخابهم أي تأثير في
إعطائهم الولاية. وأصحاب هذه النظرية لا طريق لهم إلا القول بتمركز السلطات في يد
الفقيه، بصورة غير محدودة، وهو ما يعبرون عنه بالولاية المطلقة.
وعلى أساس هذه النظرية يجب على الناس والأجهزة المقننة والقضائية والتنفيذية في
البلد أن تطيع الفقيه طاعة مطلقة بلا قيد ولا شرط، ولا يحق لها أن تعمل بشيء من آرائها
أبدا، لأن الفقيه هو الولي والقيم المطلق عليها!!
أما رأي الأستاذ المعظم فهو أن المستفاد من الأدلة العقلية والنقلية أنه يجب أن يحكم
المجتمع أصلح أفراده، من حيث القدرة على تمييز الأمور، والعلم بمصالح المجتمع، وتأمين
مصالحه والمحافظة عليها.
والفقيه الأعلم المتقي الواعي لظروف عصره، إذا كانت عنده القدرة على إدارة المجتمع،
فهو أهل للتصدي إلى القيادة، وحينئذ كان على المجتمع الذي يملك حق تقرير مصيره
والحاكمية على نفسه، أن ينتخب ذلك الفقيه، انتخابا مباشرا أو بواسطة مجلس، ويعطيه حقه
في الحاكمية على نفسه، بشكل مطلق أو محدود بزمان معين أو مجال معين، في الدستور أو
في صيغة الانتخابات أو البيعة. وعليه فإن مشروعية ولاية الفقيه وفعليتها وحدودها في نظر
الأستاذ مرتبطة بانتخاب الناس وبيعتهم للفقيه عن وعي واختيار.
وعلى هذا الأساس يستطيع الناس أيضا أن يطبقوا ولايتهم على ثلاث سلطات، أي
السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية، بنحو ينفك ويستقل بعضها عن الآخر. فيمكن لهم
أن يحددوا أيا من هذه السلطات من حيث الزمان والصلاحيات، وأن يشترطوا على
المنتخب لأي منها في ضمن عقد بيعتهم شروطا يرونها الأصلح لهم، مثل أن يكون لهم حق
الرقابة على أعمال السلطات الثلاث، وأن يعملوا هذا الحق بواسطة الأحزاب والنقابات بدون
أخذ رخصة قانونية. - م -.
140

الثبوت وذكر المحتملات فيه.
النصب في مقام الثبوت:
لا يخفى أن مساق كلمات الأعاظم القائلين بنصب الفقهاء في تأليفاتهم إلى
تعين النصب في عصر الغيبة من الجهة العليا وكون الطريق منحصرا فيه.
قال المحقق النراقي: " وأما غير الرسول وأوصيائه أن الأصل عدم ثبوت
ولاية أحد على أحد إلا من ولاه الله - سبحانه - أو رسوله أو أحد من أوصيائه
على أحد في أمر، وحينئذ فيكون هو وليا على من ولاه فيما ولاه فيه " (1).
أقول: لو صح ما ذكروه من تعين النصب من الجهة العليا وانحصار الطريق
فيه فبضرورة وجود الحكومة الحقة وعدم جواز إهمال الشارع لها في عصر من
الأعصار يستكشف النصب قهرا، حتى وإن لم يوجد ما يدل عليه في مقام الإثبات
أو نوقش في دلالة ما استدل به. ولكن قد يخدش في صحة نصب الفقهاء ثبوتا
- فضلا من أن يكون طريقا منحصرا فيه - بأنه لو وجد في عصر واحد فقهاء
كثيرون واجدون للشرائط فالمحتملات فيه خمسة:
الأول: أن يكون المنصوب جميعهم بنحو العموم الاستغراقي فيكون لكل
منهم الولاية الفعلية مستقلا.
ويرد عليه قبح هذا النصب على الشارع الحكيم، فإن اختلاف أنظار الفقهاء
غالبا في استنباط الأحكام وفي تشخيص الحوادث اليومية والموضوعات المبتلى
بها - ولا سيما الأمور المهمة منها مثل موارد الحرب والصلح مع الدول والأمم
المختلفة - مما لا ينكر، فعلى فرض نصب الجميع وتعدد الولاة بالفعل لو تصدى
كل واحد منهم للولاية لزم الهرج والمرج ونقض الغرض.
فإن قلت: ألا يمكن أن يقيم حكم الله غير واحد من الفقهاء في عصر واحد؟

(1) العوائد: 185.
141

قلت: لو فرض عدم إمكان تأسيس دولة إسلامية واحدة فلا إشكال في
تأسيس دويلات في البلاد الإسلامية على أساس موازين الإسلام، بل يتعين ذلك
دفعا للظلم والفساد بتغلب الطواغيت والجبابرة، ولكن هذا لا يدفع إشكال النصب
العام، فإن كل بلد لا سيما في عصرنا لا يخلو من عدة فقهاء فيعود الإشكال.
الثاني: أن يكون المنصوب الجميع كذلك، ولكن لا يجوز اعمال الولاية إلا
لواحد منهم.
ويرد عليه أولا: أن جعل الولاية حينئذ للباقين لغو قبيح.
وثانيا: أنه كيف يعين من له حق التصدي فعلا؟ فإن لم يكن طريق إلى تعيينه
صار الجعل لغوا وهو قبيح. وإن كان بانتخاب الأمة أو أهل الحل والعقد أو
خصوص الفقهاء لواحد منهم، صار الانتخاب معتبرا ومعيارا لتعيين الوالي.
فإن قيل: يتعين الأعلم منهم.
قلت: مجرد اشتراط الأعلمية لا يكفي في رفع المحذور، لإمكان التساوي
في العلم، ولاختلاف أنظار الأمة وأهل الخبرة في تشخيص الأعلم، كما هو
المشاهد. فيلزم تعدد الولاة بالفعل في بلد واحد فيختل النظام.
فإن قيل: من سبق منهم إلى الأمر وتصديه فهو المتعين ويسقط التكليف عن
الباقين، نظير التكليف في الوجوب الكفائي، ويجب على المسلمين إطاعته وإن لم
يكونوا مقلدين له في المسائل الفقهية، بل يجب على جميع الفقهاء إطاعته فيما
حكم به ولا يجوز مزاحمتهم له.
قلت أولا: المسألة نظير الوجوب العيني فلا يرفع التكليف عن الباقين سبقة
أحدهم فإنهم - في هذا الفرض - منصوبون جميعا ولهم الولاية الفعلية في عرض
واحد، فيجب عليهم التدخل في الأمور فيختل النظام.
وثانيا: هذا يتم إذا أذعن الفقهاء الآخرون بكون متصدي الأمر واجدا
للشرائط التي اعتبرها الشرع في الوالي، وان لم يذعنوا بذلك فلا تجب الإطاعة
142

قهرا وإن أمكن القول بحرمة التجاهر بالمخالفة، ولا يخفى أنه من هذه النقطة أيضا
ينشأ التشاجر والاختلاف واختلال النظام، وليس هذا الفرض بقليل.
الثالث: أن يكون المنصوب واحدا منهم فقط.
ويرد عليه: أنه كيف يعين من جعل له الولاية الفعلية؟ فإن قيل بالانتخاب
فقد انعقدت الإمامة بالانتخاب لا بالنصب. وإن قيل تتعين للأعلم فقد مر الجواب
عنه آنفا.
الرابع: أن يكون المنصوب الجميع، ولكن اعمال الولاية لكل واحد منهم
مقيد بالاتفاق مع الآخرين.
الخامس: أن يكون المنصوب هو المجموع من حيث المجموع، فيكون
المجموع بمنزلة إمام واحد. ومآل هذين الاحتمالين إلى واحد كما لا يخفى.
ويرد على الاحتمال الرابع، وكذا الخامس، أولا: أنه مخالف لسيرة العقلاء
والمتشرعة، ومما لم يقل به أحد.
وثانيا: كيف يعلم حد الجميع أو المجموع، فإن بعض الفقهاء متفق عليه في
الفقاهة وبعضهم مختلف فيه.
والحاصل ان نصب الأئمة (عليهم السلام) للفقهاء في عصر الغيبة بحيث تثبت الولاية
الفعلية بمجرد النصب، بمحتملاته الخمسة قابل للخدشة ثبوتا. وإذا لم يصح بحسب
مقام الثبوت فلا تصل النوبة إلى البحث فيه إثباتا.
نعم لما ذكروا أدلة للنصب العام في مقام الإثبات، فلنتعرض لها ولما أورد
عليها من المناقشات.
النصب في مقام الإثبات:
إثبات نصب الفقيه واليا بالعقل:
اعلم أن للسيد الأستاذ البروجردي - طاب ثراه - دليلا عقليا لنصب الفقيه
143

واليا. قال: " إن اثبات ولاية الفقيه وبيان الضابطة لحدود ولايته يتوقف على أمور:
الأول: أن في المجتمع أمورا لا تكون من وظائف الأشخاص ولا ترتبط
بهم، بل هي اجتماعية عامة يتوقف عليها حفظ نظام المجتمع.
الثاني: لا يبقى شك لمن تتبع قوانين الإسلام وضوابطه في أنه دين سياسي
اجتماعي، ولأجل ذلك اتفق الخاصة والعامة على أنه يلزم في محيط الإسلام
وجود سائس وزعيم يدبر أمور المسلمين. بل هو من ضروريات الإسلام وان
اختلفوا في شرائطه وخصوصياته، وأن تعيينه من قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو بالانتخاب
العمومي.
الثالث: لا يخفى أن سياسة المدن وتأمين الجهات الاجتماعية في دين
الإسلام لم تكن منفصلة عن الأمور الروحانية... بل كانت السياسة فيه من الصدر
الأول مختلطة بالديانة ومن شؤونها...
وحينئذ فنقول: إنه لما كان من معتقداتنا معاشر الشيعة الإمامية أن خلافة
رسول الله (صلى الله عليه وآله) وزعامة المسلمين من بعده كانت للأئمة الاثني عشر (عليهم السلام)... فكانوا
هم المراجع الأحقاء للأمور السياسية والاجتماعية وكان على المسلمين الرجوع
إليهم وتقويتهم في ذلك، فلا محالة كان هذا مركوزا في أذهان أصحاب الأئمة (عليهم السلام)
أيضا وكان أمثال زرارة ومحمد بن مسلم من فقهاء أصحاب الأئمة وملازميهم لا
يرون المرجع لهذه الأمور إلا الأئمة (عليهم السلام) أو من نصبوه لذلك، فلذلك كانوا يرجعون
إليهم فيما يتفق لهم مهما أمكن كما يعلم ذلك بمراجعة أحوالهم... فنحن نقطع بأن
صحابة الأئمة (عليهم السلام) سألوهم عمن يرجع إليه الشيعة في تلك الأمور مع عدم التمكن
منهم (عليهم السلام) وأن الأئمة (عليهم السلام) أيضا أجابوهم ونصبوا للشيعة مع عدم التمكن منهم (عليهم السلام)
أشخاصا يرجعون إليهم إذا احتاجوا، غاية الأمر سقوط تلك الأسئلة والأجوبة من
144

الجوامع الحديثية التي بأيدينا، ولم يصل إلينا إلا ما رواه عمر بن حنظلة وأبو
خديجة (1). وإذا ثبت بهذا البيان النصب من قبلهم (عليهم السلام)... فلا محالة يتعين الفقيه
لذلك، إذ لم يقل أحد بنصب غيره. فالأمر يدور بين عدم النصب وبين نصب الفقيه
العادل، وإذا ثبت بطلان الأول بما ذكرناه صار نصب الفقيه مقطوعا به، وتصير
مقبولة ابن حنظلة أيضا من شواهد ذلك...
وبما ذكرناه يظهر أن مراده (عليه السلام) بقوله في المقبولة: " حاكما " هو الذي يرجع
إليه في جميع الأمور العامة الاجتماعية... ولم يرد به خصوص القاضي " (2).
أقول: أما ما ذكره - طاب ثراه - من أن أصحاب الأئمة (عليهم السلام) كانوا يرجعون
إليهم فيما يتفق لهم من الأمور السياسية فأمر يحتاج إلى تتبع، ولا يتيسر لي ذلك
فعلا.
وأما إن الأئمة (عليهم السلام) إما أنهم لم ينصبوا لهذه الأمور أحدا وأهملوها، أو أنهم
نصبوا الفقيه لذلك وإذا ثبت بطلان الأول صار نصب الفقيه مقطوعا به.
ففيه أن طريق انعقاد الولاية إن كان منحصرا في النصب من العالي كان ما
ذكره صحيحا. وأما إن قيل بما قويناه من أنها تنعقد بانتخاب الأمة أيضا، غاية
الأمر كونه في طول النصب وفي صورة عدمه، فنقول: لعل الأئمة (عليهم السلام) أحالوا
الأمور الولائية في عصر الغيبة إلى انتخاب الأمة. غاية الأمر لزوم كون المنتخب
واجدا للشرائط والصفات التي اعتبرها الشارع في الوالي. فعلى الأمة في عصر
الغيبة أن يختاروا فقيها جامعا للشرائط ويولوه على أنفسهم. وباختيارهم وتوليهم
يصير واليا بالفعل، ولا يبقى محذور في البين.

(1) سيأتي الخبران.
(2) البدر الزاهر: 52. وطبعة أخرى: 74.
145

إثبات نصب الفقيه واليا بالنقل:
1 - مقبولة عمر بن حنظلة:
روى الكليني باسناده عن عمر بن حنظلة، قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن
رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحا كما إلى السلطان أو
إلى القضاة، أيحل ذلك؟ فقال: من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى
الطاغوت، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتا وإن كان حقا ثابتا له، لأنه أخذه بحكم
الطاغوت وقد أمر الله أن يكفر به، قال الله - تعالى -: (يريدون أن يتحاكموا إلى
الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به) قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران (إلى) من
كان منكم ممن روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا، فليرضوا
به حكما فإني قد جعلته عليكم حاكما، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما
استخف بحكم الله، وعلينا رد، والراد علينا الراد على الله، وهو على حد الشرك
بالله " (1).
وقد تلقى الأصحاب الرواية بالقبول حتى اشتهرت بالمقبولة.
أقول: حيث إن الإمام (عليه السلام) تمسك في المقبولة بالآية الشريفة فالأولى
التعرض لها مقدمة.
قال الله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين
الناس أن تحكموا بالعدل، ان الله نعما يعظكم به، إن الله كان سميعا بصيرا * يا أيها
الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شئ
فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن
تأويلا * ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك

(1) الكافي: 1، 67، التهذيب: 6، 218 و 301، الوسائل: 18، 98.
146

يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن
يضلهم ضلالا بعيدا) (1).
والظاهر أن الأمانات في الآية عامة لفظا ومفهوما فتشمل أمانات الله عند
عباده، وإمامة الأئمة المعصومين من أنفسها، وأمانات الناس بينهم من الأموال
وغيرها والولاية المفوضة من قبلهم إلى الوالي من أعظمها، والتكليف بالنسبة إليها
خطير.
واقتران الأمانة في الآية بالحكم بالعدل قرينة على إرادة هذا المصداق،
فيكون الحكم بالعدل من فروع الولاية ومن مصاديق أداء الأمانة.
والروايات الواردة من طرق الفريقين في تفسير الآية تكون من باب
التطبيق لا الحصر.
فعن أبي جعفر (عليه السلام): " إن أداء الصلاة والزكاة والصوم والحج من الأمانة " (2).
وعن بريد العجلي قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله - عز وجل -: (ان الله
يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)
" قال: إيانا عنى أن يؤدي الأول إلى الإمام الذي بعده الكتب والعلم والسلاح
(وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) الذي في أيديكم ثم قال للناس: (يا
أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) إيانا عنى خاصة.
أمر جميع المؤمنين إلى يوم القيامة بطاعتنا " (3).
وعن زيد بن أسلم في قوله: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها)

(1) النساء 4: 58 - 60.
(2) مجمع البيان: 2، 63.
(3) نور الثقلين: 1، 497، الكافي: 1، 276.
147

قال: " أنزلت هذه الآية في ولاة الأمر وفيمن ولى في أمور الناس شيئا " (1).
وأما الحكم فقال الراغب: " حكم، أصله: منع منعا لإصلاح، ومنه سميت
اللجام حكمة الدابة... والحكم بالشيء أن تقضي بأنه كذا أوليس بكذا، سواء
الزمت ذلك غيرك أو لم تلزمه، قال - تعالى -: (وإذا حكمتم بين الناس أن
تحكموا بالعدل...) والحكم: المتخصص بذلك فهو أبلغ " (2).
وفي لسان العرب: " والحاكم: منفذ الحكم، والجمع حكام " (3).
أقول: بالتتبع في الكتاب والسنة يظهر لك أن الحكم والحكومة والحاكم
والحكام كان أكثر استعمالها في القضاء والقاضي، وربما استعملت في الولاية
العامة والوالي أيضا. ولعل من الأول قوله - تعالى -: (وتدلوا بها إلى الحكام
لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم) (4). وعن ابن فضال نقلا عن خط أبي الحسن
الثاني (عليه السلام) في تفسير هذه الآية: " الحكام: القضاة " (5).
ومن قبيل الثاني ما في نهج البلاغة: " فأبدلهم العز مكان الذل والأنس مكان
الخوف فصاروا ملوكا حكاما وأئمة أعلاما... فهم حكام على العالمين وملوك في
أطراف الأرضين " (6).
وبالجملة، فالحاكم قد يراد به القاضي، وقد يراد به الوالي. وكذا سائر
المشتقات. ولا يخفى أن الاشتراك معنوي لا لفظي.

(1) الدر المنثور: 2، 175.
(2) مفردات الراغب: 126.
(3) لسان العرب: 12، 142.
(4) البقرة 2: 188.
(5) الوسائل: 18، 5.
(6) نهج البلاغة، عبده: 2، 177، صالح: 296 الخطبة 192.
148

وأما قوله تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (1) فقد مر
تفسيره بالتفصيل في الباب الثاني، فراجع.
والمخاطب في قوله - تعالى -: (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله
والرسول) (2) هم المؤمنون في صدر الآية، والظاهر منه التنازع الواقع بين أنفسهم
لا بينهم وبين أولي الأمر فأوجب الله - تعالى - عليهم أن يردوا المنازعات إلى الله
والرسول في قبال الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت.
وقد تحصل مما ذكرناه أن الحكم بالعدل في الآية الأولى من الآيات
الثلاث ظاهر في القضاء، وأن مورد الآية الثالثة أيضا هو القضاء، كما أن التنازع
المذكور في الآية الثانية أيضا يناسب القضاء.
ولكن لا يخفى ان القضاء بنفسه ليس قسيما للإمامة والولاية، بل هو من
شؤونها (3)، فالآيات الثلاث مترابطة، فالأمانة في الأولى بمعنى الإمامة، والحكم
بالعدل متفرع عليها. والآية الثانية في إطاعة الرسول وأولي الأمر يعني الأئمة.
والطاغوت في الثالثة ظاهر في الوالي الجائر، إذ القاضي بما هو قاض لا قوة له
حتى يطغى. إلا بالاعتماد على قوة الوالي وجنوده.
2 - مشهورة أبي خديجة:
روى الشيخ باسناده، عن أبي خديجة، قال: بعثني أبو عبد الله (عليه السلام) إلى
أصحابنا فقال: قل لهم: " إياكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تدارى بينكم في شئ

(1) النساء 4: 59.
(2) النساء 4: 59.
(3) هذا يصح في عصر كان سياسة المدن أمرا ساذجا، ولكن اليوم الذي تحتاج سياسة بلد
صغير إلى علوم وتخصصات عديدة لا تجتمع عادة في شخص واحد فلا يمكن القول بأن
القضاء ليس قسيما للإمامة، ولا مفر من القول بتفكيك السلطات الثلاث - م -.
149

من الأخذ والعطاء أن تتحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفساق. اجعلوا بينكم رجلا
ممن قد عرف حلالنا وحرامنا. فإني قد جعلته قاضيا، وإياكم أن يخاصم بعضكم
بعضا إلى السلطان الجائر ".
هكذا في التهذيب المطبوع بطبعتيه (1) ولكن في الوسائل: " فإني قد جعلته
عليكم قاضيا " بإضافة كلمة " عليكم " فلعله سهو من النساخ أو منه، أو أن نسخة
التهذيب عند صاحب الوسائل كانت كذلك (2).
وروى الصدوق باسناده عن أبي خديجة سالم بن مكرم الجمال قال: قال
أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): " إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل
الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم، فإني
قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه " (3).
وأبو خديجة لم يثبت وثاقته، فعن الشيخ في الفهرست: أنه ضعيف. وعن
النجاشي أنه قال: " ثقة ثقة، روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن (عليهما السلام)، له كتاب " (4).
قال الأستاذ الإمام (رحمه الله) في تقريب الاستدلال بالمقبولة والمشهورة على
نصب الفقيه واليا ما محصله: " إن قول الراوي: " بينهما منازعة في دين أو ميراث،
فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة " لا شبهة في شموله للمنازعات التي يرجع
فيها إلى القضاة... والمنازعات التي يرجع فيها إلى الولاة والأمراء... ولذا قال:
" فتحاكما إلى السلطان، أو إلى القضاة "... وكيف كان، فلا إشكال في دخول الطغاة
من الولاة فيه، سيما مع مناسبات الحكم والموضوع، ومع استشهاده بالآية التي

(1) التهذيب: 6، 303.
(2) الوسائل: 18، 100.
(3) الوسائل: 18، 4.
(4) تنقيح المقال: 2، 5، الفهرست للطوسي: 79، رجال النجاشي: 134.
150

هي ظاهرة فيهم في نفسها...
وقوله (عليه السلام): " فليرضوا به حكما " يكون تعيينا للحاكم في التنازع مطلقا...
فاتضح من جميع ذلك أنه يستفاد من قوله (عليه السلام): " فإني قد جعلته عليكم
حاكما " أنه جعل الفقيه حاكما فيما هو من شؤون القضاء، وما هو من شؤون
الولاية. فالفقيه ولي الأمر في البابين وحاكم في القسمين، سيما مع عدوله (عليه السلام) عن
قوله " قاضيا " إلى قوله " حاكما " بل لا يبعد أن يكون القضاء أيضا أعم من قضاء
القاضي ومن أمر الوالي وحكمه... ".
ثم تعرض (رحمه الله) لبعض الشبهات الواردة والجواب عنها، فقال ما حاصله:
" ثم إنه قد تنقدح شبهة في بعض الأذهان بأن أبا عبد الله (عليه السلام) في أيام إمامته
إذا نصب شخصا أو أشخاصا للامارة والقضاء كان أمده إلى زمان إمامته (عليه السلام) وبعد
وفاته يبطل النصب.
وفيها ما لا يخفى، فإنه مع الغض عن أن مقتضى المذهب أن الإمام إمام حيا
وميتا وقائما وقاعدا، أن النصب لمنصب الولاية أو القضاء أو نصب المتولي للوقف
أو القيم على السفهاء أو الصغار، لا يبطل بموت الناصب... فمن نصبه الإمام
الصادق (عليه السلام) منصوب إلى زمان ظهور ولي الأمر (عليه السلام).
وهنا شبهة أخرى أيضا، وهي أن الإمام وإن كان خليفة رسول الله وله نصب
الولاة والقضاة لكن لم تكن يده مبسوطة... فلا أثر لجعل منصب الولاية لأشخاص
لا يمكن لهم القيام بأمرها. وأما نصب القضاة فله أثر في الجملة.
وفيها: أنه مع وجود الأثر في الجملة لبعض الشيعة ولو سرا، أن لهذا الجعل
سرا سياسيا عميقا، وهو طرح حكومة عادلة إلهية وتهيئة بعض أسبابها حتى لا
يتحير المتفكرون لو وفقهم الله لتشكيل حكومة إلهية... بل الغالب في العظماء من
الأنبياء وغيرهم الشروع في الطرح أو العمل من الصفر تقريبا ".
151

... فحاصل كلامه (رحمه الله) أن قول السائل: " فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة "
وكذا قول الإمام (عليه السلام): " فإنما تحاكم إلى الطاغوت " حيث استعمل لفظ الطاغوت
واستشهد بالآية الشريفة، وكذا قوله: " فإني قد جعلته عليكم حاكما " بدل قوله
" قاضيا " كل ذلك قرينة على أن المقصود هو تعيين المرجع لجميع الأمور المرتبطة
بالولاة التي منها القضاء. وإلى هذا البيان أيضا يرجع كلام كل من استدل بالمقبولة،
فتكون دليلا على نصب الوالي والقاضي معا، وليس المراد أن هنا نصبين: نصب
الفقه واليا، ونصبه قاضيا. بل المراد نصبه واليا ولكن القضاء أيضا من شؤون
الوالي.
ولكن يمكن أن يناقش في استدلال الأستاذ بوجوه:
الأول: ما تقدم من الإشكال في النصب العام ثبوتا. وإذا فرض عدم
الإمكان ثبوتا لم تصل النوبة إلى مقام الاثبات. ولو وجد ظاهر يدل عليه وجب أن
يحمل على بيان الصلاحية لا الفعلية، وإنما تتحقق الفعلية بالرضا والانتخاب ولذا
قال " فليرضوا به حكما " وإنما أمر بذلك ردعا عن انتخاب الجائر أو انتخاب غير
الفقيه الواجد للشرائط.
الثاني: أن الولاية بالنصب ثابتة عندنا للإمام الصادق (عليه السلام) بنفسه، وبعده أيضا
للأئمة من ولده، فما معنى نصب الفقهاء ولاة بالفعل مع وجوده وظهوره؟ نعم يعقل
نصب القاضي (1) للمخاصمات الواقعة بين الشيعة لعصره أيضا بعد عدم جواز

(1) يظهر من كلمات الأستاذ - دام ظله - أنه تسلم نصب عموم الفقهاء العدول قضاة في عصر
الغيبة، ولم ير فيه إشكالا ثبوتا؛ ولكن لما كان ولاية القضاء والولاية الكبرى من واد واحد،
فلا يمكن في مقام الثبوت جعل عموم الفقهاء قضاة ولا يمكن الالتزام بتعدد القضاة بالفعل
لما مر في نصبهم للولاية الكبرى طابق النعل بالنعل. ولا تندفع الإشكالات الواردة على
النصب ثبوتا بمحدودية عمل القاضي في ظرف خاص ومنطقة محدودة، لأن جميع
الإشكالات يرد حتى في منازعة جزئية بين شخصين في بلد صغير يوجد فيه فقيهان.
فالأولى حمل المقبولة وخبر أبي خديجة وغيرهما من الأدلة التي يستدل بها على نصب
الفقيه قاضيا، على إرشاد الشيعة إلى من يكون صالحا للقضاء والولاية، وأما فعلية ولاية
القضاء أو الولاية الكبرى لا تكون إلا بالرضا بقضاء الصالح له أو انتخاب الصالح للولاية - م.
152

الرجوع إلى قضاة الجور.
ومورد السؤال أيضا التخاصم، كما أن مورد نزول الآية المستشهد بها أيضا
كان هو النزاع والتخاصم، والمجعول في خبر أبي خديجة بنقليه أيضا هو منصب
القضاء. وذكر السلطان فيهما كان من جهة أن المرجع للقضاء في الأمور المهمة
كان هو شخص السلطان، مضافا إلى أن التنفيذ والاجراء أيضا كان بقدرته وقوته.
الثالث: الظاهر أن الإمام الصادق (عليه السلام) لم يكن بصدد الثورة ضد السلطة
الحاكمة في عصره. بل كان بصدد رفع مشكلة الشيعة في عصره في باب
المخاصمات.
وكون النصب لعصر الغيبة دون عصره مساوق للإعراض عن جواب
السؤال، ولاستثناء المورد وهو قبيح.
اللهم إلا أن يقال إن الإمام جعل الولاية الكبرى للفقيه لعصره وما بعده،
غاية الأمر أن أثره في عصره كان خصوص القضاء والأمور الحسبية، ولعله في
الأعصار المتأخرة يفيد بالنسبة إلى جميع الآثار.
ويؤيده قوله: " فإني قد جعلته عليكم حاكما " الذي هو بمنزلة التعليل لما
سبقه، وإن لفظة " عليكم " قرينة على إرادة الولاية وإلا كان الأنسب أن يقول
" بينكم " وأنه أمرهم بالرضا به مع أن قضاء الوالي لا يشترط فيه رضا الطرفين لأنه
مثل الإمام (عليه السلام) نفسه لا ضمانة إجرائية لحكمه إلا ايمان الشخص ورضاه... فذيل
الرواية كبرى كلية ذكرت علة للحكم، فيجب الأخذ بعمومها.
153

الرابع: أن الحكومة ومشتقاتها قد غلب استعمالها في الكتاب والسنة في
خصوص القضاء، بل يمكن أن يقال: ليس إطلاق الحاكم على الوالي بالاشتراك
اللفظي أو المجاز، بل لأنه قاض حقيقة ولأن القضاء من أهم شؤونه ولا تتم الولاية
إلا به، فيكون قوله " حاكما " في المقبولة مساوقا لقوله " قاضيا " في خبر أبي
خديجة بنقليه. وأما التعليل فلأن القضاء لا يكون مشروعا إلا بإجازة الوصي
ونصبه، وأما ذكر السلطان فلأن الرجوع إلى القاضي المنصوب من قبله نحو رجوع
إليه.
وعلى هذا فما ذكره الأستاذ الإمام (رحمه الله) من استفادة الولاية الكبرى عن
طريق تقسيم التنازع إلى قسمين قابل للخدشة جدا.
فإن قلت: استعمال حرف الاستعلاء في قوله: " عليكم " يناسب الولاية
المطلقة. قلت: في القضاء أيضا نحو استيلاء واستعلاء، فيصح استعمال حرف
الاستعلاء على أي تقدير.
الخامس: أن الظاهر كون المخاطب في " منكم " و " عليكم " خصوص الشيعة
فيعلم بذلك أن غرضه (عليه السلام) كان رفع مشكلة الشيعة في منازعاتهم، ولو كان بصدد
نصب الوالي لكان المناسب نصبه على جميع الأمة لا على الشيعة فقط.
اللهم إلا أن يقال، كما مر في كلام الأستاذ (رحمه الله): إنه (عليه السلام) كان بصدد طرح
حكومة عادلة إلهية وبيان شرائطها ومواصفاتها حتى لا يتحير المفكرون لو وفقهم
الله - تعالى - لإقامتها ولو في الأعصار الآتية.
السادس: سلمنا أن الحكم بمشتقاته يعم القضاء وغيره ولكن لما كانت
المقبولة سؤالا عن المنازعة في الأموال، فالقضاء هو القدر المتيقن منها، والتمسك
بالاطلاق إنما يجري في الموضوعات لا في المحمولات.
ولكن يمكن أن يقال: إنا لا نرى فرقا بين الموضوعات وبين المحمولات.
154

وصرف وجود القدر المتيقن لا يصلح مانعا من انعقاد الاطلاق ولا حجة لرفع اليد
عنه، من غير فرق بين الموضوع وغيره. فالإشكال مدفوع من أساسه.
السابع: أن لفظ الحكم في المقبولة ظاهر في قاضي التحكيم، أي المحكم
من قبل المتخاصمين، فيكون المراد بالحاكم أيضا ذلك لتتلائم الجملتان. وعلى
هذا فليس في المقبولة نصب لا للوالي ولا للقاضي. وليس لفظ: " الجعل " هنا
بمعنى الإنشاء والإيجاد، بل بمعنى القول والتعريف.
هذا ولكن الظاهر من الجملة تحقق النصب، كما هو الظاهر من مشهورة أبي
خديجة أيضا. وجعل الجعل بمعنى القول خلاف الظاهر جدا. وما ذكرناه من
الخدشة ثبوتا في نصب الوالي بنحو العموم لا يجري في نصب القاضي.
وبالجملة، دلالة المقبولة على أن الصالح للولاية والمتعين لها إجمالا هو
الفقيه الجامع للشرائط مما لا إشكال فيه، وإنما الاشكال في أن فعليتها تتحقق
بالنصب من قبل الإمام (عليه السلام) أو بالانتخاب من قبل الأمة.
3 - حديث " اللهم ارحم خلفائي ":
رواه الصدوق في آخر الفقيه قال: " قال أمير المؤمنين (عليه السلام): قال رسول
الله (صلى الله عليه وآله): " اللهم ارحم خلفائي. قيل يا رسول الله، ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يأتون
من بعدي يروون حديثي وسنتي " (1). ورواه أيضا في المعاني بسنده عن علي بن
أبي طالب (عليه السلام) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " اللهم ارحم خلفائي، اللهم ارحم
خلفائي، اللهم ارحم خلفائي. قيل له يا رسول الله... " (2) ورواه بسند آخر، وفيه
" الذين يبلغون حديثي وسنتي ثم يعلمونها أمتي " (3). ورواه بسند آخر عن الرضا

(1) الفقيه: 4، 420.
(2) معاني الأخبار: 2، 374.
(3) الأمالي للصدوق: 109.
155

عن آبائه (عليهم السلام) وفيه " الذين يأتون من بعدي ويروون أحاديثي وسنتي فيعلمونها
الناس من بعدي " (1) ورواه في المستدرك (2) وفي البحار (3). وفي كنز العمال:
" رحمة الله على خلفائي. قيل: ومن خلفاؤك يا رسول الله؟ قال: الذين يحيون
سنتي ويعلمونها الناس " (4).
ولعل كثرة اسناد الحديث توجب الاطمئنان بصدوره إجمالا.
وأما الدلالة فإن اطلاق الخلافة عنه (صلى الله عليه وآله) يقتضي العموم لجميع الشؤون
الثلاثة: التبليغ والقضاء والولاية، لو لم نقل بكون الأخير هو القدر المتيقن. وتوهم
إرادة خصوص الأئمة الاثني عشر في غاية الوهن، إذ التعبير عنهم (عليهم السلام) برواة
الحديث غير معهود فإنهم عترة النبي (صلى الله عليه وآله) وآله وخزان علمه. والمراد من قوله (صلى الله عليه وآله):
" يروون حديثي وسنتي " المتفقهون في أقواله وسنته. ويشهد لذلك قوله في بعض
النقول " فيعلمونها الناس من بعدي " إذ التعليم شأن من درى الرواية وتفهمها.
مضافا إلى أنه بمناسبة الحكم والموضوع يظهر لنا عدم إرادة الراوي المحض.
فإن قلت: مقتضى إطلاق الخلافة أن يكون الفقيه في خلافته عن رسول
الله (صلى الله عليه وآله) نظير أمير المؤمنين (عليه السلام) في خلافته عنه، وهل يمكن الالتزام بذلك؟
قلت: نبوته (صلى الله عليه وآله) ورسالته من خصائصه التي لا يشاركه فيهما أحد، كما أن
الفضائل المعنوية والكرامة الذاتية له وكذلك للأئمة المعصومين (عليهم السلام) من
خصائصهم. ولكن البحث هنا في الولاية الاعتبارية الجعلية التي بها يتكفل

(1) عيون أخبار الرضا: 2، 37، روى ما في الفقيه والمعاني والأمالي والعيون في الوسائل: 18،
65 و 66 و 100.
(2) مستدرك الوسائل: 3، 182.
(3) بحار الأنوار: 2، 25.
(4) كنز العمال: 10، 229.
156

الشخص بتدبير الأمور وسياسة البلاد وهي ليست ميزة واثرة، بل هي مجرد وظيفة
ومسؤولية خطيرة، ولا فرق في ذلك بين النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) بل والفقيه الجامع
للشرائط الذي تحمل هذه المسؤولية، فله وعليه مثل ما لهم وعليهم فيما يرجع إلى
الوظائف السياسية. فهل لأحد أن يحتمل مثلا أن النبي (صلى الله عليه وآله) يجلد الزاني مأة جلدة
والفقيه يجلده أقل من ذلك؟ أو أن النبي (صلى الله عليه وآله) له أن يعين الامراء والقضاة للبلاد
والفقيه ليس له ذلك؟ إلى غير ذلك من وظائف الولاة.
هذا غاية تقريب الاستدلال بالحديث الشريف، ولكن في النفس منه شئ
فان قوله (عليه السلام) " فيعلمونها الناس من بعدي " له ظهور قوي في تحديد الخلافة وان
الغرض منها هو الخلافة عنه (صلى الله عليه وآله) في التعليم والتبليغ. فاثبات الخلافة عنه (صلى الله عليه وآله) في
الولاية والقضاء يحتاج إلى دليل أقوى من ذلك.
4 - حديث " العلماء ورثة الأنبياء " وما يقرب منه:
رواه في الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من سلك
طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة.. وأن العلماء ورثة الأنبياء، إن
الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ولكن ورثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظ
وافر " (1) والرواية ببعض طرقها صحيحة.
وفي نهج البلاغة: " وقال (عليه السلام): إن أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاؤوا
به " (2).
وتقريب الاستدلال بهذه الروايات أن كون العلماء ورثة الأنبياء أو أولى
الناس بهم أو كالأنبياء، يقتضي أن ينتقل إليهم كل ما كان للأنبياء من الشؤون إلا ما
ثبت عدم صحة انتقاله أو عدم انتقاله، فاطلاق الروايات يقتضي انتقال الولاية

(1) الكافي: 1، 34.
(2) نهج البلاغة، عبده: 3، 171، صالح: 484، الحكمة 96.
157

الاعتبارية القابلة للانتقال والتوارث عند العقلاء التي كانت للنبي (صلى الله عليه وآله) إلى علماء
أمته. والاعتراض بعدم جريان الاطلاق في المحمولات قد مر الجواب عنه (1).
ودعوى كون المراد بالعلماء خصوص الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) مدفوعة
أولا: بعدم الدليل على الاختصاص. وثانيا: بأن قوله (عليه السلام) في صحيحة القداح: " من
سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة " (2) ظاهر في عدم إرادة
الأئمة (عليهم السلام).
هذا، ولكن الظاهر عدم كون الجملة انشائية متضمنة للجعل والتشريع، بل
خبرية حاكية عن أمر تكويني وهو انتقال العلم إلى العلماء.
وبيان فضيلة العلم والتعلم وطلابه، فيشكل حملها على الانشاء لاثبات
نصب الفقيه واليا بالفعل.
5 - حديث " الفقهاء حصون الإسلام ":
روى في الكافي بسنده عن علي بن أبي حمزة، قال: سمعت أبا الحسن
موسى بن جعفر (عليهما السلام) يقول: " إذا مات المؤمن بكت عليه الملائكة... وثلم في
الإسلام ثلمة لا يسدها شئ، لأن المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام كحصن سور
المدينة لها " (3) وفي السند علي بن أبي حمزة والمشهور ضعفه.
وأما الدلالة، فنقول: إن الإسلام ليس مقصورا على أحكام عبادية ومراسيم
شخصية بل له أحكام كثيرة في المعاملات، وسياسة المدن، والجهاد والدفاع،
والحدود والقصاص والديات ونحو ذلك.. وهل يصدق على فقيه اعتزل الناس
وقبع في زاوية من زوايا داره ولم يهتم بأمور المسلمين ولم يسع في إصلاح

(1) راجع الصفحة 146.
(2) الكافي: 1، 34.
(3) الكافي: 1، 38.
158

شؤونهم، أنه حصن الإسلام كحصن سور المدينة لها؟ فالسعي في إقامة الدولة
الحقة واجب بلا إشكال والمكلف به جميع المسلمين، والقائد لهم في ذلك
والمتصدي لإقامتها هو الفقيه الجامع للشرائط.
هذا ولكن لأحد أن يقول: نعم، الولاية على المسلمين حق للفقهاء، ولكن لا
يتعين كون ذلك بالنصب من قبل الأئمة (عليهم السلام) قهرا، بل لعل المراد أنه يجب عليهم
ترشيح أنفسهم وإعداد القوى، ويجب على المسلمين انتخابهم لذلك. نعم، لو
تقاعس المسلمون عن ذلك وجب على الفقهاء التصدي لشؤونها حسبة، كما يأتي.
ويمكن أن يقال أيضا أن المتبادر من حفظ الإسلام والقدر المتيقن منه إنما
هو النشاط العلمي، وأما الاجراء والتنفيذ في المجتمع فهو أمر آخر لا يعلم كونه
مشمولا للحديث.
6 - حديث " الفقهاء أمناء الرسل ":
روى في الكافي بسنده، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول
الله (صلى الله عليه وآله): " الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا. قيل: يا رسول الله، وما
دخولهم في الدنيا؟ قال: اتباع السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على
دينكم " (1) وسنده موثق، اعتمده علماؤنا في أبواب الفقه المختلفة. ورواه في
المستدرك أيضا، عن دعائم الإسلام. وعن نوادر الراوندي باسناد صحيح، وفيه
" فاحذروهم على أديانكم " (2). وروى شبيها به في كنز العمال (3).
وبيان الاستدلال بالرواية أن أهم شؤون الرسل ثلاثة: بيان أحكام الله
تعالى، وفصل الخصومات، واجراء العدالة الاجتماعية. فالفقيه جعل أمينا للرسل

(1) الكافي: 1، 46.
(2) مستدرك الوسائل: 3، 187 و 2، 437، بحار الأنوار: 2، 36.
(3) كنز العمال: 10، 183.
159

في جميع شؤونهم العامة على ما يقتضيه إطلاق اللفظ.
ويمكن أن يقال إن الأمانة المفوضة إلى الفقيه هي أمة الرسول، فيجب تأمين
صلاحها وبقائها بإقامة الدولة العادلة.
هذا، ولكن لفظ الأمناء محفوف بما يمنع من انعقاد اطلاقه أعني قوله
" فاحذروهم على دينكم " مضافا إلى أنه (صلى الله عليه وآله) لو قال: " أمنائي " أمكن ادعاء كونه
إنشاء لنصب الفقهاء من أمته، لكنه قال: " أمناء الرسل " فظهوره في الانشاء ضعيف
كما لا يخفى.
7 - حديث " وأما الحوادث الواقعة ":
قال الصدوق (رحمه الله): حدثنا محمد بن يعقوب الكليني عن إسحاق بن يعقوب،
قال: سألت محمد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتابا قد سألت فيه عن مسائل
أشكلت علي، فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان (عليه السلام) " أما ما سألت عنه
- أرشدك الله وثبتك - من أمر المنكرين لي من أهل بيتنا وبني عمنا... وأما
الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة
الله عليهم " (1).
ورواه الشيخ بسند لا بأس به، وفي آخره " وأنا حجة الله عليكم " (2).
والمراد برواة حديثنا الفقهاء المستند فقههم إلى روايات العترة، الحاكية
لسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، في قبال الفتاوى الصادرة عن الأقيسة والاستحسانات الظنية
غير المعتبرة.
قال الشيخ الأنصاري في تقريب الاستدلال بالرواية: " فإن المراد
بالحوادث ظاهرا مطلق الأمور التي لابد من الرجوع فيها عرفا أو عقلا أو شرعا

(1) كمال الدين: 2، 483.
(2) الغيبة للشيخ الطوسي: 176، والوسائل: 18، 101.
160

إلى الرئيس...
وأما تخصيصها بخصوص المسائل الشرعية فبعيد من وجوه:
منها: أن الظاهر وكول نفس الحادثة إليه ليباشر أمرها مباشرة أو استنابة لا
الرجوع في حكمها إليه.
ومنها: التعليل بكونهم حجتي عليكم وأنا حجة الله، فإنه إنما يناسب الأمور
التي يكون المرجع فيها هو الرأي والنظر...
ومنها: أن وجوب الرجوع في المسائل الشرعية إلى العلماء الذي هو من
بديهيات الإسلام من السلف إلى الخلف مما لم يكن يخفى على مثل إسحاق بن
يعقوب حتى يكتبه في عداد مسائل أشكلت عليه، بخلاف وجوب الرجوع في
المصالح العامة إلى رأي أحد ونظره... والحاصل أن الظاهر أن لفظ الحوادث ليس
مختصا بما اشتبه حكمه ولا بالمنازعات " (1).
أقول: وإن شئت قلت: اطلاق الرجوع إلى رواة حديثهم يقتضي الرجوع
إليهم في الجميع. وظاهر المقابلة بين حجية نفسه وحجيتهم أيضا تساوي اللفظين
بحسب المفهوم والانطباق. والإمام المعصوم حجة في الافتاء والقضاء واعمال
الولاية فكل ما ثبت له من الشؤون الثلاثة يثبت للفقهاء أيضا من قبل الإمام (عليه السلام).
هذا، ولكن يمكن أن يناقش في الاستدلال:
أولا: بأنه يظهر أن كتاب إسحاق بن يعقوب إلى الناحية المقدسة كان
مشتملا على أسئلة كثيرة معهودة للسائل، فاللام في قوله " وأما الحوادث الواقعة "
لعلها إشارة إلى حوادث وقعت في السؤال، فيشكل الحمل على الاستغراق. اللهم
إلا أن يقال: إن عموم التعليل يقتضي كونهم حجة في جميع الحوادث.
وثانيا: أن القدر المتيقن هو الأحكام الشرعية للحوادث، فالأخذ بالاطلاق

(1) المكاسب: 154.
161

مع وجود القدر المتيقن وما يصلح للقرينية مشكل.
وثالثا: أن الظاهر من الحجية الاحتجاج في كشف الأحكام الكلية وتعليل
الإمام (عليه السلام) بكونهم حجتي عليكم لعله من جهة أنه (عليه السلام) هو المأمور أولا ببيان أحكام
الله - تعالى - والفقهاء نواب عنه في ذلك.
ورابعا: أن المراد بالحوادث لا يخلو إما أن يكون بيان الأحكام الكلية
للحوادث الواقعة، أو فصل الخصومات الجزئية التي كان يرجع فيها إلى القضاة، أو
الحوادث الأساسية المرتبطة بالدول كالجهاد وعلاقات الأمم وتدبير أمور البلاد
والعباد.
فعلى الأولين لا يرتبط الحديث بأمر الولاية الكبرى، وعلى الثالث يحتاج
إلى إقامة دولة لأن مفاد الحديث يكون وجوب الرجوع إلى الفقهاء وتقويتهم حتى
يتمكنوا من حل الحادثة. وعلى هذا فتحصل الولاية لهم بالانتخاب لا بالنصب.
نعم، يدل التوقيع الشريف على صلاحية الفقيه وأنه المتعين للإنتخاب، فلا
يجوز الرجوع إلى غيره وانتخابه لذلك.
8 - حديث " العلماء حكام على الناس ":
روى في الغرر والدرر عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: " العلماء حكام على
الناس " (1).
أقول: إن المحتملات في الرواية ثلاثة:
الأول: أن تحمل الجملة على الاخبار عن حقيقة في كل المجتمعات فيراد
بها بيان فضل العلم والعلماء، نظير قوله (عليه السلام): " العلم حاكم والمال محكوم عليه " (2).
الثاني: أن تحمل على الانشاء ويراد بها جعل منصب الحكومة والولاية

(1) الغرر والدرر: 1، 137.
(2) نهج البلاغة، عبده: 3، 187، صالح: 496، الحكمة 147.
162

للعلماء.
الثالث: أن تحمل على الانشاء أيضا ويراد بها إيجاب انتخاب العلماء
للحكومة وتعينهم لذلك بحكم الشرع.
والاستدلال بها يتوقف على الاحتمال الثاني، وان يراد بالعلماء فيها
خصوص فقهاء الإسلام ولا دليل على تعينهما. وإذا جاء الاحتمال بطل
الاستدلال.
وفي البحار قال الصادق (عليه السلام): " الملوك حكام على الناس، والعلماء حكام
على الملوك " (1) والمراد من الجملة الأولى الاخبار قطعا، فلعله قرينة على إرادة
الاخبار في الثانية أيضا لوحدة السياق، بل على المراد في الخبر السابق أيضا.
9 - حديث " مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء ":
روى في تحف العقول عن أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) في خطبة طويلة يخاطب
بها علماء عصره وقال: ويروى عن أمير المؤمنين (عليه السلام) "... وأنتم أعظم الناس
مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تشعرون. ذلك بأن مجاري الأمور
والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه. فأنتم المسلوبون
تلك المنزلة، وما سلبتم ذلك إلا بتفرقكم عن الحق واختلافكم في السنة بعد البينة
الواضحة. ولو صبرتم على الأذى وتحملتم المؤونة في ذات الله كانت أمور الله
عليكم ترد وعنكم تصدر وإليكم ترجع، ولكنكم مكنتم الظلمة من منزلتكم... " (2).
والاستدلال بها في المقام مبني على كون المراد بالجملة نصب العلماء
لتدبير أمور المسلمين. ولكنها في مقام بيان أن الحكومة على المسلمين للعلماء
الأمناء، وأما كونها بالنصب أو بالانتخاب فمسكوت عنه، فلعلها تكون بالانتخاب.

(1) بحار الأنوار: 1، 183.
(2) تحف العقول: 237.
163

ويوجد هنا روايات كثيرة وردت من طرق الفريقين في فضل العلم والعالم،
ذكر المحقق النراقي في العوائد بعضا منها في هذا الباب:
منها: عن النبي (صلى الله عليه وآله): " فضل العالم على الناس كفضلي على أدناهم " (1).
وفي البحار عن النبي (صلى الله عليه وآله): " إن الله لا ينتزع العلم انتزاعا ولكن ينتزعه
بموت العلماء حتى إذا لم يبق منهم أحد اتخذ الناس رؤساء جهالا، فأفتوا الناس
بغير علم فضلوا وأضلوا " (2).
أقول: عدم دلالة هذه الروايات على نصب الفقيه واليا واضح. نعم دلالتها
بكثرتها على صلاحية الفقيه وأصلحيته من غيره مما لا إشكال فيها.
قال في العوائد - بعد ذكر الأخبار ودعوى أن كل ما كان للنبي (صلى الله عليه وآله)
والإمام (عليه السلام) فللفقيه أيضا ذلك إلا ما أخرجه الدليل من إجماع أو نص أو غيرهما: -
" فالدليل عليه بعد ظاهر الاجماع حيث نص به كثير من الأصحاب بحيث
يظهر منهم كونه من المسلمات ما صرح به الأخبار المتقدمة من كونهم وارث
الأنبياء، أو أمين الرسل، وخليفة الرسول، وحصن الإسلام...
وإن أردت توضيح ذلك فانظر إلى أنه لو كان حاكم أو سلطان في ناحية
وأراد المسافرة إلى ناحية أخرى وقال في حق شخص بعض ما ذكر فضلا عن
جميعه فقال: فلان خليفتي، وبمنزلتي ومثلي، وأميني، والكافل لرعيتي، والحاكم
من جانبي وحجتي عليكم، والمرجع في جميع الحوادث لكم، وعلى يده مجاري
أموركم وأحكامكم فهل يبقى لأحد شك في أن له فعل كل ما كان للسلطان في
أمور رعية تلك الناحية إلا ما استثناه؟
وما أظن أحدا يبقى له ريب في ذلك ولا شك ولا شبهة. ولا يضر ضعف تلك

(1) العوائد: 186.
(2) بحار الأنوار: 2، 24.
164

الأخبار بعد الانجبار بعمل الأصحاب وانضمام بعضها ببعض وورود أكثرها في
الكتب المعتبرة " (1).
أقول: نقلنا كلامه (قدس سره) لأنه أحسن بيان لدلالة الروايات السابقة، ولكن لا
يخفى أن هذه الجملات ليس مجتمعة متعاقبة في رواية واحدة حسبما سردها (قدس سره)
فإن أراد الاستدلال بها على النصب والولاية الفعلية جرت المناقشات فيها. نعم،
ان أراد دلالتها على أصلحية الفقيه بل تعينه، صح ما ذكره.
وعلى هذا فالأحوط مع تعدد الفقهاء الواجدين للشرايط تعين الإمامة
لخصوص من انتخبه الأمة لذلك.
ويعجبني كلام للعوائد أيضا يناسب المقام، قال:
" نرى كثيرا من غير المحتاطين من أفاضل العصر وطلاب الزمان إذا
وجدوا في أنفسهم قوة الترجيح والاقتدار على التفريع يجلسون مجلس الحكومة
ويتولون أمور الرعية... ويجرون الحدود والتعزيرات ويتصرفون في أموال
اليتامى والمجانين والسفهاء والغياب، ويتولون أنكحتهم، ويعزلون الأوصياء
وينصبون القوام، ويقسمون الأخماس ويتصرفون في المال المجهول مالكه،
ويؤجرون الأوقاف العامة، إلى غير ذلك من لوازم الرياسة الكبرى. وتراهم ليس
بيدهم فيما يفعلون دليل...، بل اكتفوا بما رأوا وسمعوا من العلماء الأطياب،
فيفعلون تقليدا... فيهلكون ويهلكون. أأذن الله لهم أم على الله يفترون؟ " (2).

(1) العوائد: 188.
(2) العوائد: 185.
165

الفصل الثالث
فيما يمكن أن يستدل به لصحة انعقاد الإمامة
بانتخاب الأمة
1 - حكم العقل الذي هو أم الحجج، فإنه يحكم بالبداهة بقبح الفوضى والهرج
والفتنة، ووجوب إقامة النظام وحفظ المصالح العامة الاجتماعية، ولا يحصل ذلك
كله إلا بدولة صالحة عادلة ذات قدرة، وإطاعة الأمة لها، فيجب تحقيق ذلك بحكم
العقل. وكل ما حكم به العقل حكم به الشرع، كما قرر في محله.
والدولة، لا تخلو من أن توجد بالنصب من قبل الله - تعالى - أو بقهر قاهر
على الأمة، أو بالانتخاب من قبلها. فان تحققت بالنصب فلا كلام والمفروض عدم
ثبوته بالأدلة، والثاني ظلم على الأمة بحكم العقل بقبحه، ولا يحكم بوجوب
الخضوع له. فيتعين الثالث أعني الانتخاب وهو المطلوب.
2 - فحوى قاعدة السلطنة؛ فإن العقل العملي يشهد ويحكم بسلطة الناس
على الأموال التي حازوها أو إنتجوها، وقد نفذ الشرع أيضا ذلك بحيث صار هذا
من مسلمات فقه الفريقين يتمسكون بها في الأبواب المختلفة. فهم بطريق أولى
مسلطون على أنفسهم وذواتهم. فإن السلطة على الذات قبل السلطة على المال
بحسب الرتبة. فليس لأحد أن يحدد حريات الأفراد أو يتصرف في مقدراتهم بغير
166

إذنهم. وللناس أن ينتخبوا الفرد الأصلح ويولوه على أنفسهم (1)، بل يجب ذلك
بعدما حكم العقل بأن المجتمع لابد له من نظام وحكم.
3 - استمرار سيرة العقلاء في جميع الأعصار والظروف على الاهتمام بإقامة

(1) قد ناقش بعض الفضلاء في هذا الوجه وقال: " إن للإنسان سلطة على نفسه وقواه وأفعاله
وليس له سلطة على هذه السلطة حتى يولي غيره ويجعله وليا على نفسه بل لا يمكن ذلك ".
ويرد هذا الكلام بوجوه:
الأول: أن معنى سلطة الإنسان على نفسه وقواه وأفعاله هو أن تكون له قدرة واختيار
بنفس ذاته بحيث يفعل ما يشاء، لا بمعنى أن له سلطة أخرى على هذه السلطة لأنه يتسلسل.
الثاني: أنه ليس المراد بالتولي (أي انتخاب الولي) جعل الإنسان ولايته وسلطته على
نفسه للولي تكوينا؛ لأنه غير ممكن، بل يراد به أنه كما يمكن أن يجعل ما له من القوة على
إتيان الأفعال تحت حاكمية عقله، يمكن أن يجعله تحت حاكمية الفقيه الواجد لشرائط
الحكم، بالبيعة، فيسمع له ويطيعه في مدة معينة، وموارد معلومة بحيث روعي مصالحه؛ كما
يمكن أن يجعله تحت حاكمية هوى نفسه أو فاسق جبار.
فبالبيعة يكون المبايع مطيعا للمبايع له بخلاف الوكالة فإنها ليست كذلك بل الوكيل مطيع
للموكل. وهذا أحد الفروق بين العقد الموجد للولاية والعقد الموجد للوكالة.
الثالث: جرت سيرة العقلاء، حتى في البلاد غير الإسلامية على جعل سلطتهم بالمعنى
المذكور لغيرهم في مختلف المجالات، فإن تصرف رئيس الجمهورية أو المجلس، أو القضاة
في دمائهم وأموالهم وحرياتهم ليس إلا من حيث أنهم صاروا مسلطين على الناس بأخذ
أصواتهم.
الرابع: أليس قد وجدت ولاية الزوج على زوجته بعقد النكاح عند جميع الفقهاء؟
وكذلك الأمر في قاضي التحكيم فإنه برجوع المتخاصمين إليه يوجد له نحو ولاية لم تكن
للقاضي قبل رجوعهما إليه.
الخامس: القرآن يصرح بإمكان اتخاذ الإنسان وليا لنفسه إما " الله " أو " الشيطان " كما
قال الله - تعالى -: (من يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا) (النساء 4:
119).
وقال أيضا: (قل أغير الله أتخذ وليا) (الأنعام 6: 14) وظاهر الاتخاذ أنه عمل اختياري.
والمراد بالولي في الآيتين هو من يطاع أمره ونهيه وليس بمعنى الحبيب - م -.
167

الدولة وتعيين الولاة والحكام بالانتخاب لتفويض ما يعسر انفاذه مباشرة إليهم،
ومن جملة ذلك الأمور العامة التي يتوقف إنفاذها على مقدمات كثيرة وقوات
متعاضدة، كالدفاع عن البلاد وإيجاد الطرق ونحوها مما لا يتيسر لكل فرد فرد
وللمجتمع بهيئته الاجتماعية مباشرتها، فينتخبون لذلك واليا متمكنا ويفوضونها
إليه ويساعدونه.
4 - إن انتخاب الأمة للوالي نحو معاقدة ومعاهدة بين الأمة وبين الوالي،
فيدل على صحتها ونفاذها جميع ما دل على صحة العقود ونفاذها من بناء العقلاء،
وقوله - تعالى -: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) (1).
لا يقال: وجوب الوفاء بالعقد يتوقف على كون العمل المعقود عليه تحت
اختيار الطرفين، وكون الولاية والحكم في اختيار الأمة أول الكلام.
فإنه يقال: إن تعيين الوالي من قبل المجتمع كان أمرا رائجا متعارفا في
جميع الأعصار والقرون، وهو أمر اعتباري قابل للإنشاء وكانوا ينشئونها بالبيعة
ونحوها. والآية الشريفة ناظرة إلى العقود العقلائية المتعارفة بينهم، فيستدل بها
على صحة كل عقد عقلائي إلا ما دل الدليل على بطلانه كالإنتخاب مع وجود
النص على خلافه.
5 - الآيات والروايات المتضمنة للتكاليف الاجتماعية التي لوحظ فيها
مصالح المجتمع الإسلامي بما هو مجتمع وخوطب بها الأمة. فان المجتمع وإن لم
يكن له بالنظر الدقي الفلسفي وجود واقعي وراء وجودات الأفراد، ولكنه عند
علماء الاجتماع له واقعية عقلائية، ويعتبر له في قبال الفرد وجود، وعدم، وحياة،
وموت، ورقي، وانحطاط، وحقوق وواجبات.
وقد اعتنى القرآن الكريم بتواريخ الأمم كاعتنائه بقصص الأشخاص.

(1) المائدة 5: 1.
168

والشريعة الإسلامية كما أوجبت على الفرد في حياته الفردية واجبات عبادية
وغيرها فكذلك وضعت على عاتق المجتمع واجبات وتكاليف خوطبت بها الأمة
الإسلامية.
قال الله - تعالى -: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا) (1).
وقال: (وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما...) (2).
وقال: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مأة جلدة) (3). إلى غير
ذلك من التكاليف التي يتوقف تنفيذها على جماعة متفرغة لذلك وجهاز حكم. فلا
محالة يجب على المجتمع الإسلامي أن يقوم بتشكيل دولة ويفوض إليها مهمة
القيام بهذه التكاليف والوظائف، إذ لا يعقل أن يتوجه إلى المجتمع التكليف ولا
يكون على عاتقه إعداد ما يتوقف الامتثال عليه.
6 - ما دل من الآيات والروايات على الحث على الشورى والأمر بها في
ثبوت الولاية كقوله - تعالى -: (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم
شورى بينهم) (4).
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): " إذا كانت أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحاءكم
وأموركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها " (5).
وعن النبي (صلى الله عليه وآله) أيضا قال: " من جاءكم يريد أن يفرق الجماعة ويغصب
الأمة أمرها ويتولى من غير مشورة فاقتلوه، فإن الله قد أذن ذلك " (6).

(1) البقرة 2: 190.
(2) الحجرات 49: 9.
(3) النور 24: 2.
(4) الشورى 42: 38.
(5) سنن الترمذي: 3، 361 وتحف العقول: 36.
(6) عيون أخبار الرضا: 2، 62.
169

إذ الظاهر من إضافة الأمر إلى الأمة كون اختياره بيدها والمشورة طريقة
لثبوتها بناء على كون المراد المشورة في التصدي لأصل الولاية لا المشورة في
أعمالها.
وكلمة " الأمر " في الآية الشريفة وفي الروايات ينصرف إلى الحكومة، أو
هي القدر المتيقن منه. وقد جعل أكثر المسلمين الشورى أساسا للخلافة بعد النبي
الأكرم (صلى الله عليه وآله)، ونحن الشيعة الإمامية وإن ناقشناهم في ذلك لثبوت النص عندنا على
ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمة من ولده، ولكن عند فقد النص كما في عصر الغيبة
ان قلنا بدلالة المقبولة ونظائرها على النصب العام فهو، وإلا وصل الأمر إلى
الشورى قهرا بمقتضى عموم الآية والروايات.
لا يقال: يحتمل أن يراد بالآية، الشورى في اجراء الأمر وتنفيذه لا في
أصل عقده كما هو المراد قطعا في قوله - تعالى - مخاطبا نبيه (صلى الله عليه وآله): (وشاورهم في
الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله) (1).
فإنه يقال: إطلاق الآية يقتضي مطلوبية الشورى ونفاذها في أصل الولاية
وفي فروعها واجرائها. والعلم بالمقصود في الآية الأخرى لا يوجب رفع اليد عن
الإطلاق في هذه الآية.
نعم، يبقى الإشكال في كيفية اجراء الشورى، وسيأتي التعرض لها.
7 - الآيات والروايات الواردة في البيعة؛ كقوله تعالى: (ان الذين يبايعونك
إنما يبايعون الله، يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن أوفى
بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما) (2).
وقال: (يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله

(1) آل عمران 3: 159.
(2) الفتح 48: 10.
170

شيئا ولا يسرقن ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن
ولا يعصينك في معروف فبايعهن) (1).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " لما فتح رسول الله (صلى الله عليه وآله) مكة بايع الرجال ثم
جاءت النساء يبايعنه " (2).
وفي سيرة ابن هشام عن الزهري ما حاصله: " أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أتى بني
عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم:... ان
نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟
قال: الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء " (3).
والظاهر من لفظ الأمر هو القيادة والحكومة، فيظهر من الرواية إن البيعة
كانت على الحكم، أو على قبول الرسالة المستتبعة للحكم.
وعن الباقر (عليه السلام): " وكذلك أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) البيعة لعلي (عليه السلام) بالخلافة " (4).
ومن كلام علي (عليه السلام): " أيها الناس، إنكم بايعتموني على ما بويع عليه من كان
قبلي، وإنما الخيار للناس قبل أن يبايعوا، فإذا بايعوا فلا خيار لهم، وإن على الإمام
الاستقامة وعلى الرعية التسليم " (5).
وفي نهج البلاغة في كتابه إلى معاوية " إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر
وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن
يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فان اجتمعوا على رجل وسموه إماما

(1) الممتحنة 60: 12.
(2) نور الثقلين: 5، 307.
(3) سيرة ابن هشام: 2، 66.
(4) الاحتجاج للطبرسي: 1، 34.
(5) إرشاد المفيد: 116.
171

كان ذلك (لله) رضا " (1) إلى غير ذلك من الروايات.
وكيف كان فقد ظهر بالآيات والأخبار المتواترة إجمالا عناية النبي (صلى الله عليه وآله)
واهتمامه بالبيعة التي كانت نحو معاهدة بين الرئيس وأمته، وهكذا أمير المؤمنين
والأئمة من ولده والمسلمون جميعا.
والظاهر أنها لم تكن من مخترعات الإسلام، بل كانت من رسوم العرب
وعاداتها الممضاة في الإسلام، بل لعلها كانت معمولا بها في سائر الأمم أيضا. وقد
أكد الكتاب والسنة وجوب الوفاء بها وحرمة نكثها، كما يظهر مما مر.
كلام في ماهية البيعة
لا يخفى أن البيع والبيعة مصدران لباع، وحقيقتهما واحدة، فكما أن البيع
معاملة خاصة تنتج تبادل المالين فكذلك المبايع للرئيس كأنه يجعل ماله
وإمكاناته تحت تصرفه، ويتعهد هو في قبال ذلك بالسعي في إصلاح شؤونه
وتأمين مصالحه.
فالذي ينسبق إلى الذهن في ماهية البيعة أنها كانت وسيلة لإنشاء التولية
بعدما تحققت المقاولة والرضا، ولعله المستفاد من كلمات أهل اللغة أيضا.
قال الراغب: " بايع السلطان: إذا تضمن بذل الطاعة له بما رضخ له، ويقال
لذلك بيعة ومبايعة " (2).
وفي لسان العرب: " والبيعة: الصفقة على إيجاب البيع، وعلى المبايعة
والطاعة. والبيعة: المبايعة والطاعة " (3).

(1) نهج البلاغة، عبده: 3، 8، صالح: 366، الكتاب 6.
(2) المفردات للراغب: 66.
(3) لسان العرب: 8، 26.
172

وقال العلامة الطباطبائي: " والكلمة مأخوذة من البيع بمعناه المعروف، فقد
كان من دأبهم أنهم إذا أرادوا انجاز البيع أعطى البايع يده للمشتري... وبذلك سمى
التصفيق عند بذل الطاعة بيعة ومبايعة. وحقيقة معناه اعطاء المبايع يده للسلطان
مثلا ليعمل به ما يشاء " (1).
فإن قلت: ولكن نحن نعلم أن الرسالة والولاية لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وكذلك
الإمامة لأمير المؤمنين والأئمة من ولده (عليه السلام) عندنا لم تحصلا بتفويض الأمة
وبيعتهم بل بجعل الله - تعالى - ونصبه، بايعت الأمة أم لا. فأهل المدينة في بيعة
العقبة الأولى أو الثانية مثلا بايعوه بعد قبول نبوته وزعامته، فكانت البيعة تأكيدا
للاعتراف القلبي وميثاقا بينهما على تنفيذ ما التزموا به.
قلت: نعم، رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان رسولا لله ووليا من قبل الله - تعالى - بلا
إشكال وإن لم تبايعه الأمة ولم تسلم له، وكذلك الإمامة لأمير المؤمنين والأئمة
من ولده (عليهم السلام) عندنا. ولكن لما ارتكز في أذهان الناس ثبوت الرياسة والزعامة
بتفويض الأمة وبيعتهم وكانت البيعة أوثق الوسائل لانشائها وتنجيزها في عرفهم،
طالبهم النبي (صلى الله عليه وآله) بذلك لتحكيم ولايته خارجا. وبالجملة، إذا كان لتحقق أمر
طريقان وكان أحدهما أعهد عند الناس وأوثق وأنفذ فإيجاده بالطريقين يوجب
تأكده قهرا، كما هو مقتضى اجتماع العلل على معلول واحد.
وعلى هذا فإمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) وان تحققت عندنا بنصب الله أو نصب
الرسول، ولكن لما كان انشاؤها وجعلها من قبل الأمة بالبيعة مما يوجب تأكدها
وأوقعيتها في النفوس واستسلام الناس لها، أخذ له رسول الله (صلى الله عليه وآله) البيعة بعد نصبه.
وما يقال من أن تمسك أمير المؤمنين (عليه السلام) لإثبات خلافته في مكاتباته ومناشداته
ببيعته المهاجرين والأنصار وقع منه جدلا، فلا يراد منه أنه (عليه السلام) لم يكن يرى للبيعة

(1) الميزان: 18، 274.
173

أثرا وأنها كانت عنده كالعدم. بل الجدل منه (عليه السلام) كان في تسليم ما كان يزعمه
الخصم من عدم النصب من قبل الله - تعالى -.
وكيف كان فالبيعة مما تتحقق به الولاية إجمالا. وما قد يقال من أنها لتأكيد
النصب فمآله إلى ما نقول أيضا، إذ لو لم يكن يترتب عليها تحقيق الإمامة لم تكن
مؤكدة فإن الشيء الأجنبي عن الشيء لا يؤكده، وإنما يطلق المؤكد على السبب
الوارد على سبب آخر.
نعم، البيعة باليد إحدى الوسائل لإنشاء الولاية وتنجيزها وهي أتقنها عند
الناس ولكن لا تتعين، لكفاية الإنشاء باللفظ وبالمكاتبة أيضا كما في البيع وسائر
المعاملات.
8 - الروايات الواردة في انعقاد الحكومة للإمام علي (عليه السلام) والإمام الحسن (عليه السلام)؛
كما في كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى شيعته: " وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) عهد إلي عهدا
فقال: يا بن أبي طالب لك ولاء أمتي، فإن ولوك في عافية وأجمعوا عليك بالرضا
فقم بأمرهم، وإن اختلفوا عليك فدعهم وما هم فيه " (1).
فان الولاء وإن كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) بالنصب عندنا ويدل عليه الخبر
أيضا، ولكن يظهر منه أن لتولية الأمة أيضا أثرا وأن الأمر أمرهم، فيكون في طول
النص وفي الرتبة المتأخرة، عنه.
وما في نهج البلاغة لما أرادوا بيعته بعد قتل عثمان قال (عليه السلام): " دعوني
والتمسوا غيري... ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم " (2).
حيث يظهر من الحديث أن الأمر أمر المسلمين وأن توليته بأيديهم.
لا يقال: هذا منه (عليه السلام) جدل في قبال المنكرين لنصبه. فإنه يقال: نعم، ولكنه

(1) كشف المحجة لابن طاووس: 180.
(2) نهج البلاغة، عبده: 1، 182، صالح: 136، الخطبة 92، تاريخ الطبري: 6، 3076، الكامل
لابن الأثير: 3، 193.
174

ليس جدلا بأمر باطل خلاف الواقع، كما مر.
وما في تاريخ الطبري بسنده عن محمد بن الحنفية، قال: " كنت مع أبي حين
قتل عثمان فقام فدخل منزله فأتاه أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالوا: إن هذا الرجل
قد قتل، ولابد للناس من إمام، ولا نجد اليوم أحدا أحق بهذا الأمر منك، لا أقدم
سابقة ولا أقرب من رسول الله (صلى الله عليه وآله). فقال: " لا تفعلوا، فإني أكون وزيرا خير من أن
أكون أميرا. فقالوا: لا والله، ما نحن بفاعلين حتى نبايعك. قال: ففي المسجد فإن
بيعتي لا تكون خفيا (خفية) ولا تكون إلا عن رضى المسلمين " (1).
فجعل (عليه السلام) لرضى المسلمين اعتبارا وجعل الإمامة ناشئة منه.
وما في كتاب الحسن بن علي (عليهما السلام) إلى معاوية: " إن عليا لما مضى لسبيله...
ولاني المسلمون الأمر بعده... فدع التمادي في الباطل وادخل فيما دخل فيه
الناس من بيعتي فإنك تعلم أني أحق بهذا الأمر منك " (2).
يظهر من الحديث أن التولية حق للمسلمين. والاعتراض على ذلك بكونه
جدلا قد مر الجواب عنه، إلى غير ذلك من الموارد التي يعثر عليها المتتبع في
خلال الروايات.
واعلم أنه ليس الغرض الاستدلال بكل واحد واحد من هذه الأخبار
المتفرقة حتى يناقش في سندها أو دلالتها، بل المقصود أنه يستفاد من مجموع
هذه الأخبار الموثوق بصدور بعضها إجمالا كون انتخاب الأمة أيضا طريقا
عقلائيا لانعقاد الإمامة والولاية، وقد أمضاه الشارع أيضا (3)، فلا ينحصر الطريق

(1) تاريخ الطبري: 6، 3066.
(2) مقاتل الطالبيين: 35.
(3) لازم هذا القول أن للناس خيارا في أن يجعلوا بالبيعة ولايتهم مطلقة لشخص واحد بنحو
تتمركز فيه السلطات الثلاث ما دام هو واجد للشروط، كما هو ظاهر من كلمات الأستاذ -
دام ظله - في هذا الكتاب، ومن كلمات القائلين بنصب الفقيه، ففي هذه الصورة تكون الولاية
مطلقة، غير مقيدة بزمان وعمل معينين.
أو أن يجعلوا بالبيعة بعض ولايتهم لبعض الأشخاص مقيدة بزمان وعمل معينين
ويتخذوه وليا. كما أن للناس أن يجعلوا بالانتخاب بعض الأشخاص وكلاء لبعض أمورهم
المعينة لمدة معينة. ففي هاتين الصورتين يكون كل ولي أو وكيل مستقلا في عمله مسؤولا
في قبال صاحب الأمر وهو الأمة. وللأمة أن تراقب كل مسؤول في حوزة عمله.
وقد مال الأستاذ إلى آراء جديدة؛ فإن تطور الآراء للمفكرين أمر طبيعي لا يستثنى منهم
كبار المجتهدين، فقد يبدو لهم بعد مدة طويلة أو قصيرة ما يوجب تغير رأيهم في هذه
المسألة أو تلك.
ومن الطبيعي أيضا أنه بعد مضي خمسة عشر عاما على تأليف الكتاب، والتطبيق العملي
لولاية الفقيه المطلقة، المبنية على نظرية نصب الفقيه من قبل الإمام المعصوم (عليه السلام) واجهت
هذه النظرية في تطبيقها مجموعة إنتقادات وإشكالات علمية، من ناحية فقهاء كبار في
الحوزات العلمية وأساتذة الجامعات وحقوقيين متخصصين. وبعض هذه الإشكالات يرد
على رأي الأستاذ في الكتاب، حيث تبنى نظرية ولاية الفقيه بانتخاب الناس، ولكنه قال
بإطلاقها. وقد حافظ في آرائه الجديدة على أن ولاية الفقيه تكون بانتخاب الناس، لكنه قبل
الإشكالات على إطلاق ولاية الفقيه، فأصلح بسبب ذلك عددا من آرائه، أهمها:
أ - أنه أفتى بجواز تفكيك السلطات الثلاث واستقلالها عن بعضها، وأنه يجوز للناس أن
ينتخبوا مسؤولا لها - شخصا واحدا أو هيئة شورى - لمده محدودة وصلاحيات محددة لأن
تمركز السلطات الواسعة بيد شخص واحد هو الولي الفقيه، يؤدي لا محالة إلى الاستبداد
والاختلال.
وفي نظرية التفكيك أيضا قد ضمن تحقق الحكومة الإسلامية وعدم مخالفة قوانين البلد
لأحكام الإسلام.
بل نرى أن الأستاذ - مد ظله - طرح أخيرا دمج القائد ورئيس الجمهورية، وسبب ذلك ما
نشاهده اليوم من الصراع الشديد على السلطة بين خط القائد ومعه المسؤولون المنصوبون
من قبله، مثل مجلس المحافظة على الدستور، ورئيس القوة القضائية، وأعضاء مجمع
تشخيص مصلحة النظام، وأئمة الجمعة. وبين رئيس الجمهورية والمسؤولين المنصوبين من
قبله، مثل الوزراء، والمحافظين، وبقية الجهاز التنفيذي.
وقد جر هذا الصراع أنواعا من المصائب والمشكلات على البلد. حتى أن الأستاذ
المعظم كتب في أحد منشوراته: " وها نحن عمليا نشاهد تناقضا عجيبا! وذلك لأن
المسؤوليات وضعت على عاتق رئيس الجمهورية، مع أن مراكز القوة الأساسية في يد
القائد!! (الجيش والقوات النظامية والقوة القضائية والإذاعة والتلفزيون وغيرها وغيرها)،
وهذا الأمر سبب وجود التضاد والخلل في إدارة البلد ". (كتيب الدولة الشعبية والدستور:
22).
وفي هذه الحالة يمكن إعطاء صلاحيات دستورية لمراجع التقليد، مثل الرقابة على
تنفيذ القوانين، ونصب أعضاء مجلس المحافظة على الدستور، ونصب أئمة الجمعة، وإعلان
ثبوت الهلال.
كما يمكن أن تكون الأهلية العلمية لأعضاء مجلس المحافظة على الدستور مشهودا بها
من قبل مراجع التقليد، ثم يتم انتخابهم من قبل الناس.
كما يمكن أن تجعل أمور هي الآن من صلاحية القائد، من صلاحية رئيس الجمهورية،
مثل عفو السجناء، ونصب أمير الحاج، وما شابه.
ب - كما يرى الأستاذ - مد ظله - أنه إذا لم يتم دمج منصب القائد ومنصب رئيس
الجمهورية، وجعل صاحبه مسؤولا أمام الشعب، فإنه يجب حصر صلاحية القائد بالرقابة
على عدم مخالفة قرارات مجلس النواب لأحكام الإسلام.
ج - وقد رجع الأستاذ - مد ظله - أخيرا أن يتم انتخاب رئيس السلطة القضائية من قبل
مجلس الشورى، أو من قبل القضاة أنفسهم، بعد تأييد صلاحيته العلمية والعملية من قبل
مراجع التقليد.
وكل هذه التفريعات في تفكيك السلطات، وكيفية انتخاب مسؤوليها، مبنية على أصل
حاكمية الناس على أنفسهم الذي كان مبنى الأستاذ في الكتاب - م -.
175

نقل هامش
176

في النصب من العالي وإن تقدمت رتبته على الانتخاب ولا مجال للإنتخاب مع
وجوده.
177

الفصل الرابع
في ستة عشر مسألة مهمة يجب الالتفات إليها
والبحث فيها
المسألة 1 - تفترق الحكومة الإسلامية عن الحكومة الديموقراطية بوجهين
أساسيين:
الأول: أنه يشترط في حاكم المسلمين مطلقا، سواء كان بالنصب أو
الانتخاب أن يكون أعلم الناس وأعدلهم وأتقاهم وأقواهم بالأمر وأبصرهم
بمواقع الأمور، وبالجملة أجمعهم للفضائل. وفي صورة الانتخاب تكون آراء
الأمة معتبرة ولكنها في طول الشروط المذكورة وفي الرتبة المتأخرة عنها، فلا
تصح إمامة الفاقد لها.
الثاني: أن الحكومة الإسلامية بشعبها الثلاث: من التشريع والتنفيذ والقضاء
تكون في إطار قوانين الإسلام وموازينه، وليس لها أن تتخلف عما حكم به
الإسلام (1) قيد شعرة. فالحكومة مشروطة مقيدة، والحاكم في الحقيقة هو الله

(1) لا ريب في أن الإسلام في نفسه لا عيب فيه ويكون من أعدل الأديان وأكملها وأتقنها
حكما. ولكن قوانين الإسلام وموازينه اجتهادية يستنبطها المجتهدون مع اختلافهم في الفهم
وفي المباني المؤدي إلى آراء وفتاوي مختلفة ينسبونها كلها مع هذا الاختلاف إلى الله -
تعالى - أو إلى الدين. والفقهاء المجتهدون هم رجال الدين والحكومة الإسلامية في هذا
المجال، لا تتحقق إلا بهم وبآرائهم، فهي في الحقيقة حكومتهم وحكومة آرائهم، لا حكومة
الله - تعالى - أو الدين. اللهم إلا أن يقال هي حكومة الله أو الدين باعتبار كونها في إطار
قوانين اتخذت من كتاب الله - م -.
178

- تعالى - والدين الحنيف بمقرراته الجامعة. ولذا يعبر عنها بالحكومة التيوقراطية
في قبال الحكومة الديموقراطية. فالمراد بالتيوقراطية حكومة القانون الإلهي، لا
حكومة رجال الدين حكومة استبدادية على نحو ما كان لرجال الكنيسة والبابا
في القرون الوسطى.
وأما في الحكومة الديموقراطية الغربية فلا تقيد للشعب ولا للحاكم، لا
بالنسبة إلى إيديولوجية خاصة، ولا بالنسبة إلى المصالح النوعية والفضائل
الأخلاقية (1)، بل ترى الشعب ينتخب من يجري وينفذ نواياه وأهواءه. والحاكم
يكيف نفسه وفق أهواء الشعب وإن خالفت مصالحهم الواقعية ومصالح النوع
والفضائل الأخلاقية.
فما أكثر الحكام الذين تجاوبوا مع أهواء شعبهم وتجاهلوا نداءات الضمير
والوجدان طمعا في الانتخاب المجدد!
وأما الحاكم الإسلامي فبعدله وتقواه لا يفكر في الانتخاب المجدد إذا
فرض توقفه على الانحراف والتخطي عن الحق. بل واضح أن انحرافه يوجب
سقوط عدالته وعدم جواز انتخابه قهرا.

(1) القول بأن في الحكومات الديموقراطية لا تقيد للشعب بالنسبة إلى إيديولوجية خاصة ولا
بالنسبة إلى المصالح النوعية والفضائل الأخلاقية مخالف للواقع؛ إذ المشهود فيها أن الشعب
يتقيدون بإيديولوجية الرأسمالية ويعتقدون بمصالح وفضائل تبتنى عليها.
نعم بعض الأمور يعد عندهم صلاحا أو فضيلة ولا يعد عندنا كذلك - م -.
179

المسألة 2 - الظاهر وجوب الترشيح للولاية ولشعبها لمن يقدر عليها، إذ
الحكومة كما عرفت من ضروريات حياة البشر، وعليها يتوقف حفظ كيان
الإسلام والمسلمين وتعطيلها يوجب تعطيل الإسلام بمفهومه الوسيع.
فإن اخترنا أن الفقهاء الواجدين للشرائط منصوبون من قبل الأئمة (عليهم السلام)
للولاية، فعليهم التصدي لشؤونها كفاية، وعلى المسلمين إطاعتهم، وإن قلنا
بصلاحهم لذلك فقط، وأن الولاية الفعلية تتوقف على انتخاب الأمة، فعليهم عرض
أنفسهم وعلى المسلمين ترشيحهم وإنتخابهم. والتارك لذلك من الفريقين مع
الإمكان عاص بلا إشكال، كما هو مقتضى الوجوب الكفائي.
المسألة 3 - هل الشروط الثمانية التي اعتبرناها في الوالي تجب رعايتها
تكليفا فقط حين الانتخاب، أو لابد منها وضعا بحيث يبطل الانتخاب ولا تنعقد
الإمامة بدونها؟
أما على القول بنصب الفقهاء فلا إشكال، إذ المنصوب هو العنوان الواجد
للشرائط وغير الواجد لم ينصب فلا يكون واليا.
وأما على القول بالانتخاب فظاهر الآيات والروايات أيضا كونها في مقام
بيان الحكم الوضعي وأن الاسلام والفقاهة والعدالة وغيرها شروط للوالي، فلا
تنعقد الولاية لمن فقدها وان اختاروه بآرائهم. فتأمل في قوله تعالى: (لا ينال
عهدي الظالمين) (1). وقول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): " لا تصلح الإمامة إلا لرجل فيه
ثلاث خصال: ورع يحجزه عن معاصي الله، وحلم يملك به غضبه، وحسن الولاية
على من يلي " (2). والأمر والنهي في هذا السنخ من الأمور أيضا ظاهران في
الإرشاد إلى الشرطية والمانعية. هذا.

(1) البقرة 2: 124.
(2) الكافي: 1، 407.
180

ولكن المسألة لا تخلو من غموض، إذ لو فرض أن المنتخب ينفذ مقررات
الإسلام ولا يتخلف عنها فهل تبطل إمامته ويجوز التخلف عنه؟ مشكل جدا (1)، إذ
الخطأ والاشتباه وكذا العصيان مما يكثر وقوعها في أفراد البشر، وجواز التخلف
عنها حينئذ يوجب تزلزل النظام وعدم قراره أصلا، فلا يقاس المقام بما إذا ظهر
التخلف في المبيع ذاتا أو وصفا كما إذا باع الشيء على أنه خل فبان إنه خمر أو
على أنه صحيح فبان معيبا، حيث يحكمون فيهما بفساد البيع أو الخيار فيه.
المسألة 4 - هل الشروط واقعية، أو علمية فقط كما في اشتراط العدالة في
إمامة الجماعة؟
إذا فرض استنباط الشرطية من الأدلة فظاهرها شرطية نفس هذه
الأوصاف لا إحرازها والعلم بها كما هو واضح. نعم يقع الإشكال على الانتخاب،
إذ قد يصير تجويز نقض الانتخاب والبيعة وسيلة لتخلف بعض الناس تمسكا بهذا
العذر، فيلزم الهرج والمرج. وبالجملة فالحكم في المسألتين لا يخلو من غموض.
المسألة 5 - إذا فرض وجود بعض الشرائط في بعض وبعضها في آخر ولم
يوجد الواجد للجميع فما هو التكليف حينئذ؟
قال الماوردي: " ولو كان أحدهما أعلم والآخر أشجع روعي في الاختيار
ما يوجبه حكم الوقت " (2).
وقال ابن سينا: " والمعول عليه الأعظم العقل وحسن الإيالة، فمن كان

(1) قد أشكل على الأستاذ - دام ظله - الفتوى ببطلان إمامة الفاقد للشروط بعد فرض القطع
بتنفيذ مقررات الإسلام. وهذا منه يدل على أن من عليه التنفيذ لا يلزم أن يكون فقيها في
هذا الفرض. وهذا منطبق على مشروع تفكيك السلطات، إذ في هذا المشروع يرجع كل أمر
وسلطة إلى من يحسنه. وعلى هذا لا فرق في الفرض المزبور بين من فقد الشروط من الأول
أو في الأثناء - م -.
(2) الأحكام السلطانية: 7 ونحو ذلك في الأحكام السلطانية لأبي يعلى: 24.
181

متوسطا في الباقي ومتقدما في هذين بعد أن لا يكون غريبا في البواقي وصائرا
إلى أضدادها فهو أولى " (1).
وموارد التزاحم لا تنحصر فيما ذكروه بل هي كثيرة جدا بلحاظ الشروط
الثمانية المعتبرة في الإمام، كما لا يخفى.
والظاهر أن هذا البحث لا مجال له على القول بالنصب من قبل الأئمة (عليهم السلام)،
إذ لا دليل على نصب غير الفقيه الجامع للشرائط الثمانية. فإذا لم يوجد الجامع لها
فإن قلنا بصحة الانتخاب في هذه الصورة جرى البحث وإلا وجب كفاية من باب
الحسبة، كما يأتي وجهه. والظاهر صحة الانتخاب وعموم أدلته لهذه الصورة أيضا.
لا يقال: أدلة اعتبار الشروط الثمانية في الوالي مخصصة لهذه العمومات بل
لها نحو حكومة عليها.
فإنه يقال: لا يبعد كونها بنحو تعدد المطلوب فمع عدم التمكن منها يكون
أصل انتخاب الحاكم مطلوبا شرعا لعدم جواز تعطيل الحكومة. فتأمل في أدلتها
ولا سيما مثل كلام أمير المؤمنين (عليه السلام): " هؤلاء يقولون لا امرة إلا لله وأنه لابد
للناس من أمير بر أو فاجر " (2).
وعليه فمع عدم التمكن من الواجد للجميع يجب رعاية الأهم فالأهم من
ناحية نفس الشرائط ومن ناحية الظروف والحاجات. فالعقل والإسلام وقوة
التدبير بل والعدالة من أهم الشرائط، كما أن الحاجات والظروف أيضا - كما أشار
إليه الماوردي وأبو يعلى - مختلفة والتشخيص لا محالة محول إلى الخبراء في كل
عصر ومكان.
ومن أهم موارد التزاحم وأكثرها ابتلاء التزاحم بين الفقاهة، وبين القوة

(1) الشفاء: 452، طبعة أخرى: 564.
(2) نهج البلاغة، عبده: 1، 87، صالح: 82، الخطبة 40.
182

وحسن التدبير، ولعل الثاني أهم، ويمكن أن يفصل بحسب الظروف وبحسب
الأزمنة والأمكنة.
المسألة 6 - قد يعترض بأنه لو كانت الشورى والانتخاب من قبل الأمة
مصدرا للولاية شرعا كان على شارع الإسلام بيان حدوده وشرائطه وكيفياته.
ويمكن الجواب عن هذا الاعتراض بأن عدم التحديد للشورى والانتخاب
بحسب الكيفية ومواصفات الناخب، كما وكيفا وغير ذلك وعدم صوغها في قالب
معين يجب أن يعد من ميزات الشريعة السمحة السهلة حيث أراد الشارع بقاءها
إلى يوم القيامة.
وطبع الشريعة الباقية يقتضي بيان الأصول وإحالة الأشكال والخصوصيات
إلى المتشرعة المطلعين على الحاجات والإمكانات والظروف.
وأصل الشورى قد ورد في الكتاب والسنة مؤكدا كما مر.
ففي كلام علي (عليه السلام): " وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار؛ فإن اجتمعوا على
رجل وسموه إماما كان ذلك (لله) رضا " (1).
فهو (عليه السلام) تعرض لبعض خصوصيات الشورى، وجعل الملاك شورى أهل
الحل والعقد، وأهل العلم والمعرفة، ولعل هذا كان في صورة عدم إمكان تحصيل
آراء الأمة مباشرة.
ولم يكن الانتخاب على أساس الشورى أمرا مستحدثا بل كان رائجا بين
العقلاء، وقد أراد شارع الإسلام انفتاح باب الاجتهاد وبقاء المجتهدين في جميع
الأعصار ليبقى الفقه ناميا ويتكامل بتكامل الزمان وظهور الموضوعات الحديثة.
المسألة 7 - قد يقال إن من معضلات الانتخاب أن أكثر الناس بسطاء تؤثر
فيهم الدعايات الكاذبة، أو لا يكون لهم تقوى فتشترى آراؤهم بالتطميع، أو لا

(1) نهج البلاغة، عبده: 3، 8، صالح: 367، الكتاب 6.
183

يكون فيهم شجاعة وقوة نفسية فتشترى الآراء بالتهديدات.
ويمكن أن يجاب عن ذلك أولا: بالنقض بانتخاب المفتي ومرجع التقليد،
حيث فوض ذلك إلى الأمة والطريق إليه هو العلم الشخصي، أو الشياع المفيد له،
أو شهادة أهل الخبرة العدول.
وثانيا: بأن جهل الناخبين وبساطتهم أو عدم صلاحهم لا يضرنا كثيرا ما دام
المنتخب في الحكومة الإسلامية يشترط فيه الشروط الثمانية (1)، فلا تنعقد الولاية
لفاقدها وما دام الحاكم مقيدا بموازين الإسلام ومقرراته وليس له حرية مطلقة.
نعم، يبقى احتمال اشتباه الناخبين أو تعمدهم انتخاب حاكم فاسد. ويمكن أن
يجبر ذلك بإحالة تشخيص واجد الشرائط إلى هيئة متخصصة.
وثالثا: بأن لنا أن نشترط في الناخبين العدالة والعلم والتدبير لأجل اختيار
الأصلح وسيأتي بيانه.
ورابعا: بأن يكون الانتخاب ذا مرحلتين.
فتنتخب الأمة الخبراء العدول، والخبراء ينتخبون الوالي الأعظم.
والاطمينان بالصحة في هذه الصورة أكثر، واحتمال رعاية الخبراء لمصالحهم
الفردية دون مصالح المجتمع يدفعه اشتراط العدالة فيهم (2).

(1) وظيفة احراز هذه الشروط الثمانية على من؟
إن كانت على الناس فيعود الإشكال ويضر جهلهم وبساطتهم وعدم صلاحهم.
وإن كانت على هيئة متخصصة، فهذه الهيئة إن كانت منتخبة من قبل الناس فيعود
الإشكال فيهم.
وإن كانت منتصبة من قبل الفقهاء والمراجع في الحوزات العلمية، فيمكن أن لا يكون
نظرهم مقبولا عند أكثر الناس فيفقد الوالي مساندة أكثر الناس وقبولهم - م -.
(2) صرف اشتراط العدالة في الخبراء لا يمنعهم عن رعاية مصالحهم الشخصية ضد مصالح
موكليهم.
والذي يعالج المشاكل في الجملة هو تقوية الوعي السياسي في الناس ورفع موانع
معرفتهم ورعاية حقوقهم السياسية، التي نشير إلى بعضها في هامش الصفحة 201 - م -.
184

المسألة 8 - هل الملاك في الانتخاب آراء الجميع، أو الأكثر، أو جميع أهل
الحل والعقد أو أكثرهم، أو آراء الحاضرين في بلد الإمام؟ وجوه.
والتحقيق أن يقال: إنه بعدما أثبتنا صحة الانتخاب وانعقاد الإمامة به عند
عدم النص نقول: إن حصول الاطباق على فرد واحد مما يندر جدا لو لم نقل بعدم
وقوعه عادة فلا مجال لحمل الأدلة الدالة على صحة الإمامة بالانتخاب على
صورة حصول الاطباق فقط. وقد استمرت سيرة العقلاء في جميع الأعصار
والأصقاع على تغليب الأكثرية على الأقلية (1) في هذه الموارد، فتكون الأدلة

(1) استقرار هذه السيرة مخدوش، إذ لا يرى التزام العقلاء بتغليب الأكثرية على الأقلية مطلقا.
وسيأتي من الأستاذ - دام ظله - في المسألة 12 كأنه يميل إلى تقديم الأقلية في بعض
الفروض.
وعلى أي حال، إذا كان بين نظر الأكثرية والأقلية وسياساتهما وأهدافهما وحدة وكان
الاختلاف بينهما جزئيا، قد يشاهد توافق الأقلية مع الأكثرية مطلقا لإطمئنانها بحفظ حقوقها
ومراعاتها من قبل الأكثرية. وقد يشاهد اتفاقهما على تقسيم المناصب أو المنافع بنسبة
الآراء.
وأما إذا كانت مبانيهما وسياساتهما وأهدافهما متباينة:
فان كانت الأقلية بحيث لا يمكن لها الصمود قبال الأكثرية والدفاع عن حيثياتها
واستيفاء حقوقها، فتنقاد لها اضطرارا فان أمر الأقلية حينئذ يدور بين الحرمان من جميع
حقوقها أو بعضها فيختار الثاني، كما نشاهد ذلك كثيرا. وقد لا تنقاد لها وتدفع عن مصالحها
وحقوقها ويستشهد في طريقها.
وان كانت الأقلية بحيث يمكن لها الصمود، فلا تنقاد للأكثرية، ويتفق معها على أن يكون
حرا فيما يختص بها، وعلى تقسيم المناصب والمنافع بنسبة الآراء وأخذ القرارات بالشورى
في ما يشترك بينهما. وعلى هذا يعلم أنه لا يكون للأكثرية ترجيح مطلقا لا من جهة الحقوقية
ولا من جهة الكشف عن الواقع.
نعم في مورد الأكثرية الساحقة لا يبعد القول بالكشف النسبي عن الواقع الموجب
لحصول الاطمئنان وسكون النفس.
185

الشرعية التي أقمناها على صحة الانتخاب امضاء لهذه السيرة قهرا.
وبعبارة أخرى: بعد فرض ضرورة الحكومة في حفظ النظام وحفظ
الحقوق، وعدم تحقق النصب من العالي، وعدم تحقق الاطباق من قبل الأمة يدور
الأمر بين تعطيل الحكومة أو الأخذ بآراء الأكثرية أو بآراء الأقلية (1)، ولا إشكال
في ترجيح الأكثرية على الأقلية من الوجهة الحقوقية ومن جهة الكشف عن
الواقع.
ففي نهج البلاغة: " والزموا السواد الأعظم، فإن يد الله على الجماعة، وإياكم
والفرقة، فإن الشاذ من الناس للشيطان كما أن الشاذ من الغنم للذئب " (2).
فيستأنس من ذلك أنه في مقام تعارض الأكثرية والأقلية الشاذة يؤخذ
بالأكثرية.
نعم يقع الكلام في أن اللازم هل هو شركة الأمة في مرحلة واحدة لانتخاب

(1) الظاهر كما مر آنفا عدم دوران الأمر بين الفرضين، فإنه يمكن القول باتفاقهما على حضور
واجد آراء الأكثرية والأقلية مشتركا في مجلس الحكم. ولا يرد عليه مثل: " أن الشركة في
الملك تؤدي إلى الاضطراب " لأنه ناظر إلى استقلال كل من الشركاء، ومجلس الحكم له
شخصية حقوقية واحدة.
ويمكن القول أيضا باتفاقهما على أن واجد آراء الأكثرية يكون واليا وواجد آراء الأقلية
يكون نائبا له وغير ذلك من الصور المحتملة.
والظاهر أن نظر الأستاذ في الاستدلال إلى مشروع تمركز القدرة والاضطرار إلى انتخاب
أحد الأفراد، وأما بناء على توزيع القدرة وتفكيكها فلا ينحصر الأمر فيما فرض لعدم
الاضطرار - م -.
(2) نهج البلاغة، عبده: 2، 11، صالح: 184، الخطبة 127.
186

الوالي مباشرة، أو في مرحلتين، أو أن الانتخاب وظيفة وحق لأهل الحل والعقد
فقط أو الحاضرين في بلد الإمام فقط؟ في المسألة وجوه.
وقد وردت روايات ظاهرة في اختصاص الشورى والبيعة بالمهاجرين
والأنصار، أو بأهل المدينة، أو بالبدريين، أو بأهل الحجى والفضل وأن الإمامة
تنعقد ببيعتهم خاصة ولا تحتاج إلى بيعة العامة ورضاهم.
ففي نهج البلاغة: " ولعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتى تحضرها عامة
الناس فما إلى ذلك سبيل. ولكن أهلها يحكمون على من غاب عنها " (1) والمراد
بأهلها أهل الحكومة أو أهل المدينة المنورة وعلى الأول لها أهل خاص فينطبق
قهرا على أهل الحل والعقد المنطبق في ذلك العصر على المهاجرين والأنصار.
وفيه: " إنما الشورى للمهاجرين والأنصار " (2).
وعن الإمام علي (عليه السلام): " ليس ذلك إليكم، إنما ذلك إلى أهل بدر فمن رضى
به أهل بدر فهو خليفة " (3).
وكلامه (عليه السلام) في هذا المقام وفي أمثاله صدر عنه تقية أو مماشاة وجدلا،
ولكن قد عرفت منا إنه ليس معنى الجدل هنا بطلان البيعة بالكلية وكونها كالعدم،
بل هي طريق إلى الإمامة أيضا ولكن في طول النص وفي صورة عدمه، فالمماشاة
هنا فقط في تسليم عدم النص مع كونه ثابتا. وهو يدل على كفاية بيعة أهل الحل
والعقد المنطبق في ذلك العصر على المهاجرين والأنصار، كما لا يخفى.
وفي جواب سيد الشهداء (عليه السلام) لكتب أهل الكوفة: " وإني باعث إليكم... مسلم
ابن عقيل. فإن كتب إلي أنه قد اجتمع رأي ملئكم وذوي الحجى والفضل منكم

(1) نهج البلاغة، عبده: 2، 105، صالح: 248، الخطبة 173.
(2) نهج البلاغة، عبده: 3، 8، صالح: 366، الكتاب 6.
(3) تاريخ الخلفاء: 109.
187

على... فإني أقدم إليكم وشيكا " (1).
وما يختلج بالبال عاجلا في هذه الروايات أمور:
الأول: أن تحمل على التقية أو الجدل وقدم تقدم الكلام فيه.
الثاني: أن الشورى بطبعها تستدعي كون المشاور من أهل الخبرة
والاطلاع، وحيث إن المهاجرين والأنصار كانوا في المدينة مع النبي (صلى الله عليه وآله) في جميع
المواقف والمراحل وكانوا واقفين على سنته وأهدافه فلذلك خصوا بهذا الأمر.
ولعل التخصيص بالبدريين في بعض الروايات باعتبار أن اطلاعهم أكثر أو
لبقائهم على صفة العدالة، فوزان الشورى يكون وزان جميع الأمور التخصصية
التي يرجع فيها إلى الأخصاء.
الثالث: أن يقال إن انتخاب الوالي حق لجميع الأمة لا لفئة خاصة، ولكنه
يجب أن يكون بمرحلتين: فالعامة تنتخب الخبراء العدول، والخبراء ينتخبون
الإمام وفي الأعصار السابقة لم يكن اشتراك الجميع في الانتخابات ميسورا كما
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): " لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتى تحضرها عامة الناس فما
إلى ذلك سبيل " (2). وأما في أعصارنا فحيث يمكن اشتراك الجميع فلا محالة
يرشح الخبراء العدول فينتخبون من قبل الأمة، ثم ينتخب الخبراء الإمام والقائد
الأعظم.
والاحتياط والحرص على استحكام الأمر والحكومة يقتضيان شركة
الجميع ولكن بمرحلتين جمعا بين الحقين والدليلين.
ثم على فرض كون الانتخاب حقا للجميع فلا محالة تتساوى فيه جميع
الطبقات من الغني والفقير، والشيخ والشاب والأسود والأبيض، والشريف

(1) إرشاد المفيد: 185، الكامل لابن الأثير: 4، 21.
(2) نهج البلاغة، عبده: 2، 105، صالح: 248، الخطبة 173.
188

والوضيع، كسائر الأحكام من النكاح والطلاق والإرث والحدود والقصاص
والديات ونحو ذلك، فان الاختلاف الطبقي لا أثر له في الإسلام.
بل لعله لا فرق في المقام بين الرجل والمرأة، فان اختلافهما في بعض
الأحكام بدليل، لا يقتضي إسراءه إلى المقام. والقاعدة تقتضي التساوي إلا فيما
ثبت خلافه.
وما مر من عدم صحة ولايتها لا يدل على عدم حقها في الانتخاب لوضوح
الفرق بين المقامين. وقد بايع رسول الله (صلى الله عليه وآله) - بعد فتح مكة - النساء أيضا بأمر الله
- تعالى - في الكتاب الكريم (1) اللهم إلا أن يقال إنه لم يعهد بعده (صلى الله عليه وآله) شركة النساء
في البيعة لتعيين الولاة.
وأما ما ورد من النهي عن مشاورتهن فيحتمل أن يكون مختصا بما إذا
كانت المشورة مقدمة لقرار في الأمور المهمة وسببت الاقتناع كالمسائل الحربية.
المسألة 9 - ومما يعترض به على الشورى والانتخاب أن الأخذ بالأكثرية
يوجب ضياع حقوق الأقلية. وفي خبر أبي عبيدة، عن أبي جعفر (عليه السلام): " لا يبطل
حق امرئ مسلم " (2). هذا مضافا إلى أنه قلما يوجد مجتمع لا يكون فيه الغيب
والقصر ومن يولد بعد الانتخابات فكيف ينفذ انتخاب غيرهم بالنسبة إليهم؟
ويمكن أن يجاب عن هذا الاعتراض بأن الإنسان مدني بالطبع، ولكل من
أقسام الحياة الفردية والعائلية والاجتماعية لوازم وأحكام. فدخول الإنسان في
الحياة الاجتماعية والاستمتاع بإمكانياتها التزام منه بلوازمها، ومن جملتها قبول
فكرة الأكثرية (3) في المسائل الاجتماعية المختلفة التي من أهمها مسألة انتخاب

(1) الممتحنة 60: 12.
(2) الوسائل: 19، 65.
(3) قد مر الأشكال في تغليب الأكثرية، ونقول هنا: إن هذه الفكرة لم يكن أكمل الفكرات
وآخرها في المسائل الاجتماعية، والإنسان في هذه المسائل يسير إلى صوب يعطي كل ذي
حق حقه - م -.
189

الحاكم. فإنه أمر أذعن به العقلاء واختاروه حلا للمعضلة، وكذا بالنسبة إلى الغيب
والقصر والمتولد بعد الانتخاب. كل ذلك لاستمرار سيرة العقلاء عليه وامضاء
الشارع الحكيم لها بما مر من الأدلة. ولا يضر تضرر الأقلية أو القصر أحيانا في
ظل المجتمع ومقرراته بعدما يكون غنمهما ببركة المجتمع أكثر بمراتب. ومن له
الغنم فعليه الغرم، يحكم بذلك الوجدان والعقل.
فإن قلت: ورد في آيات كثيرة نفي العلم أو العقل عن الأكثر، كقوله
- تعالى -: (قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (1).
قلت: يظهر بالمراجعة أن موارد الآيات المذكورة المسائل الغيبية ومسائل
القضاء والقدر وخصوصيات القيامة، أو التقاليد وعادات الجاهلية المخالفة للعقل
والوجدان ونحو ذلك، فلا تشمل العقود والمقررات الاجتماعية التي لا محيص
عنها في استقرار الحياة التي لا مجال فيها لتقديم الأقلية على الأكثرية.
ولو فرض اطلاق الآيات المذكورة بحيث تشمل المسائل الحقوقية
والاجتماعية أيضا، فنقول إن الأقلية العالمة العاقلة متفرقة منتشرة في خلال
المجتمع، فإذا انقسم المجتمع إلى أكثرية وأقلية في الانتخابات فلا محالة يكون
عدد أهل العلم والعقل في طرف الأكثرية أكثر.
المسألة 10 - لو فرض أن أهل التفكر والسداد والثقافة والصلاح كانوا في
طرف الأقلية، وكان الهمج الرعاع وضعفاء العقول في طرف الأكثرية فهل الاعتبار
حينئذ بالكمية أو بالكيفية؟
ويمكن أن يجاب عن ذلك: بأن ما فرضته نادر جدا فان الأقلية المفكرة

(1) الأعراف 7: 187.
190

الصالحة كما مر ليست متميزة منفصلة بل هي منتشرة في خلال المجتمع. نعم لو
فرض تميزها أمكن القول بتقدمها على الأكثرية غير الصالحة ولا سيما على القول
باشتراط العدالة والعلم والتدبير في الناخبين، ويمكن أن يحمل كلام أمير
المؤمنين (عليه السلام) " إنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسموه
إماما كان ذلك (لله) رضا " (1) على هذا الفرض.
المسألة 11 - إذا كان هنا أمور لا يجوز لآحاد الأمة التصدي لها (2)
ومباشرتها كإجراء الحدود والتعزيرات ونحو ذلك، فكيف يجوز للحاكم المنتخب
من قبل الأمة التصدي لها وهو فرع لهم، والفرع لا يزيد على الأصل؟
ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن التكاليف الشرعية على قسمين: فردية،
واجتماعية. فالصلاة مثلا تكليف فردي. والخطاب فيها وإن كان بلفظ العموم
والجمع كقوله: (أقيموا الصلاة) (3) فإنه ينحل إلى أوامر متعددة بعدد المكلفين
والعام فيها عام استغراقي. وأما التكاليف الاجتماعية فهي الوظائف التي خوطب
بها المجتمع بما هو مجتمع وروعي فيها مصالحه، والعام فيها عام مجموعي (4). ففي

(1) نهج البلاغة، عبده: 3، 8، صالح: 367، الكتاب 6.
(2) " لا يجوز " لاختلال النظم ولعدم إمكان التصدي مباشرة لكل من أفراد الأمة، لا أنه " لا
يجوز " لأن العام في التكاليف الاجتماعية مجموعي وفي العام المجموعي لا يكون الخطاب
متوجها إلى كل فرد فرد، فإنه إن لم يكن الخطاب فيه متوجها إلى كل فرد فرد، فكيف ينبعث
الفرد إلى إتيان التكاليف الاجتماعية؟ فالتكليف فيه متوجه إلى كل فرد فرد ولكن لعدم
إمكان التصدي لكل فرد يعلم أن الشارع الحكيم أراد اشتراكهم في العمل وانتخاب من
يصلح للتصدي. ولعل هذا هو مقصود الأستاذ - دام ظله - وإن كانت عبارته مبهمة. وسيأتي
كلام في التكليف الاجتماعي - م -.
(3) الروم 30: 31، المزمل 73: 20.
(4) الخطاب في التكليف الاجتماعي متوجه إلى الفرد لا من حيث هو، بل من حيث هو جزء
من المجتمع، ولذا يكون كل فرد من أفراد المجتمع مكلفا بهذا اللحاظ، فينبعث نحو
المطلوب وإتيان مقدماته من تحصيل العلم وبذل المال ومساعدة الآخرين والاشتراك معهم
في كل أمر يقع مقدمة لتكليف اجتماعي كتنظيم حزب أو جمعية أو نشر صحيفة أو غير ذلك.
وعلى هذا فان اجتمع كلهم لإتيان الوظائف الاجتماعية فهو، وإن تقاعست فرقة منهم
أثموا ولم يسقط عن الباقين، فما دام عدد منهم باق فتكاليفهم أيضا باقية ويأتون بها ما
استطاعوا، فبحسب الظروف والإمكانيات عملوا، فإن اقتضت الظروف مثلا أن يؤمروا
أحدهم عليهم ولو خفية فعلوا ويراعون فيه الشروط من العلم والعقل والأمانة والقدرة. ولا
يتعطل كل الأمور بل بعضها قهرا، وهم يبذلون جهدهم لإتيان هذا البعض أيضا، ولا نحتاج
إلى فرض المسألة كما افترض في المسألة الثالثة عشرة - م -.
191

قوله - تعالى -: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) (1) ونحو ذلك يكون
الخطاب متوجها إلى المجتمع بما هو مجتمع، وليس إلى كل فرد فرد. فلا محالة
يجب أن يكون المتصدي لامتثاله من يتمثل ويتبلور فيه المجتمع إما بجعل الله
- تعالى - أو بانتخاب نفس الأمة.
هذا مضافا إلى أن تنفيذ كل واحد من هذه التكاليف يستدعي تشخيص
الموضوع والانظار في هذه الموارد تختلف كثيرا، فلأجل ذلك منع الشارع الحكيم
من تصدي الأفراد لها بل جعلها وظيفة لممثل المجتمع، قطعا لمادة النزاع والفساد.
المسألة 12 - على فرض تقاعس الأكثرية واستنكافهم عن الاشتراك في
الانتخابات فما هو التكليف حينئذ، وهل يكفي انتخاب الأقلية وينفذ على الجميع
أو يجبر الأكثرية على الاشتراك؟
ويمكن أن يجاب: بأنه بعدما ثبتت ضرورة الحكومة وكونها من أهم
الفرائض، فإن كان هنا حاكم منصوص عليه فهو، وإلا وجب على من وجد فيه
الشرائط، ترشيح نفسه لذلك ووجب على سائر المسلمين السعي لتعيينه وانتخابه.
والتقاعس عن ذلك معصية كبيرة، فيجوز للحاكم المنتخب في المرحلة السابقة

(1) المائدة 5: 38.
192

إجبارهم على ذلك (1)، كما هو المتعارف في بعض البلاد في عصرنا.
ولو فرض عدم إمكان ذلك فتقاعست الأكثرية وبادرت الأقلية إلى
الانتخاب فإن كان منتخبهم واجدا للشروط وجب على الأكثرية أما التسليم له أو
انتخاب فرد آخر واجد للشروط.
المسألة 13 - إذا لم تقدم الأمة على الانتخاب ولم يمكن إجبارهم ولم نقل
بكون الفقيه منصوبا بالفعل من قبل الأئمة (عليهم السلام) فهل تبقى الأمور العامة معطلة، أو
يجب من باب الحسبة تصدي كل فقيه لما أمكنه من هذه الأمور؟

(1) لا إشكال في أن تقاعس الأكثرية أو الجميع عن الاشتراك في الانتخاب معصية فيما إذا
كان تقاعسهم عن باطل بأن لا يريدوا الحكومة الإسلامية مع إذعانهم بأنها حكومة عادلة من
دون أي عيب وإشكال وأرادوا غيرها، ففي هذا الفرض يمكن القول بإجبارهم، ويستدل
عليه بأدلة النهي عن المنكر وغيرها.
ولكن حيث إن طبع الإسلام لا يقبل الإجبار والإكراه كما قال الله - تعالى -: (لا إكراه
في الدين) وأسنى أهداف الحكومة الإسلامية هو إقامة الدين، فكيف يمكن إجبار أكثرية
الناس للاشتراك في الانتخاب وإقامة الحكومة الإسلامية التي هي ذريعة لإقامة الدين؟
مضافا إلى أن القسر لا يدوم ويوجب تنفر الناس عما أكرهوا عليه وإن كان حقا. فإن أجبروا
ولم يسلموا فما حد الاجبار؟ أنقتلهم؟ فأين نظير لذلك في سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله) والإمام علي
والحسن (عليهما السلام) في مدة خلافتهم؟ بل لعل ما روي عن الإمام علي (عليه السلام) " اني لأعلم بما
يصلحكم ويقيم أودكم، ولكني لا أرى إصلاحكم بإفساد نفسي " (نهج البلاغة، صبحي
الصالح: 99، الخطبة 69) ناظر إلى هذا الفرض.
والإمام الحسن (عليه السلام) بعد أن رأى انحراف أكثرية أصحابه عنه وعن الحق، صالح معاوية
وسلم الأمر إليه.
وأما إذا كان تقاعسهم عن حق - باعتقادهم - بأن كان لاظهار أن المرشح فاقد للشروط،
أو لابراز مخالفتهم للنظام الفاسد الحاكم عليهم باسم الحكومة الإسلامية، فبطريق أولى لا
يمكن القول بإجبارهم، بل لهم عدم الاشتراك في الانتخاب وغير ذلك حتى يرشح الواجد
للشروط أو يصلح النظام، نعم لا يجوز التمسك بالباطل للوصول إلى الحق مطلقا - م -.
193

الظاهر عدم الإشكال في وجوب تصدي الفقهاء الواجدين للشرائط للأمور
المعطلة من باب الحسبة إذا أحرز عدم رضا الشارع الحكيم بإهمالها وتركها في
أي ظرف من الظروف. ولا تنحصر الأمور الحسبية في الأمور الجزئية، كحفظ
أموال الغيب والقصر مثلا. إذ حفظ نظام المسلمين وثغورهم ودفع شرور الأعداء
عنهم وعن بلادهم وبسط المعروف فيهم وقطع جذور المنكر والفساد عن
مجتمعهم من أهم الفرائض التي لا يرضى الشارع الحكيم بإهمالها قطعا، فيجب
على من تمكن منها أو من بعضها التصدي للقيام بها. وإذا تصدى واحد منهم لذلك
وجب (1) على باقي الفقهاء فضلا عن الأمة مساعدته على ذلك.
فإن قلت: إذا سلمنا أن شؤون الحكومة لا تتعطل على أي حال، فلأحد أن
يقول: لا يبقى على هذا وجه لوجوب إقدام الأمة على الانتخاب.
قلت: فعلية الحكومة تحتاج إلى قوة وقدرة، وواضح أن بيعة الأمة
وانتخابهم مما يوجب قوة الحكومة ونجدتها. وأما المتصدي حسبة فكثيرا ما لا
يجد قدرة تنفيذية، فيتعطل قهرا كثير من الشؤون.
المسألة 14 - هل انتخاب الوالي عقد جائز من قبيل الوكالة فيجوز للأمة
فسخه ونقضه إن أرادت، أو عقد لازم من قبيل البيع فلا يجوز نقضه إلا مع تخلف
الوالي عما شرط عليه.
أقول: الانتخاب وإن أشبه الوكالة بوجه بل هو قسم من الوكالة بالمعنى
الأعم أعني إيكال الأمر إلى الغير أو تفويضه إليه، كما في كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام)
إلى أصحاب الخراج: " فإنكم خزان الرعية ووكلاء الأمة وسفراء الأئمة " (2). ولكن

(1) إن كان تصديه عندهم مشروعا وإلا لم يكن وجه للقول بالوجوب، بل قد يجب
مخالفته - م -.
(2) نهج البلاغة، عبده: 3، 90، صالح: 425، الكتاب 51.
194

إيكال الأمر إلى الغير قد يكون بالإذن له فقط، وقد يكون بالاستنابة بأن يكون
النائب وجودا تنزيليا للمنوب عنه وكأن العمل عمل المنوب عنه، وقد يكون
بأحداث الولاية والسلطة المستقلة للغير مع قبوله.
والأول ليس عقدا، والثاني عقد جائز على ما ادعوه من الاجماع، وأما
الثالث فلا دليل على جوازه بل إطلاق قوله - تعالى -: (أوفوا بالعقود) (1) يقتضي
لزومه.
وقد مر في البحث عن البيعة أنها والبيع من باب واحد، فحكمها حكمه
والبيع لازم قطعا. وطبع الولاية أيضا يقتضي اللزوم والثبات وإلا لم يتحقق النظام.
وسيرة العقلاء أيضا استقرت على ترتيب آثار اللزوم عليها، بحيث يذمون الناقض
لها - اللهم إلا مع تخلف الوالي عن تكاليفه وتعهداته -. نعم، لو كان الانتخاب موقتا
فالولاية تنقضي بانقضاء الوقت، كما لا يخفى.
المسألة 15 - هل يشترط في الناخب شرط خاص، أو أن الانتخاب حق
لكل مسلم مميز، بل وغير المسلمين أيضا إذا كانوا في بلاد المسلمين؟
أقول: حيث إن الإمام المنتخب يشترط فيه الفقاهة والعدالة والسياسة
ونحوها كما مر، يقرب إلى الذهن اشتراط كون الناخب عادلا ملتزما مطلعا على
أحوال الرجال وأوصافهم. وإلا آلت القدرة إلى أهل الجور والفساد كما نشاهده
في أكثر البلاد. وقد مرت الروايات الدالة على كون الشورى والبيعة والرأي
للمهاجرين والأنصار، أو لأهل المدينة، أو للبدريين، أو لأهل الحجى والفضل.
وما ذلك إلا لأنهم أهل الخبرة بسنن النبي (صلى الله عليه وآله) وأهدافه، وإلا فليس لمدينة يثرب
بما هي هي خصوصية بلا إشكال. وفي أعصارنا يمكن حل المشكلة بأن يحال
تشخيص صلاحية المرشحين على هيئة المحافظة على الدستور وهم فقهاء عدول

(1) المائدة 5: 1.
195

من أهل الخبرة، أو بأن تنتخب الأمة الخبراء (1)، والخبراء الإمام. وكيف كان
فإحالة الانتخاب إلى العامة بلا تحديد مشكلة جدا مع فرض كون الأكثر من أهل
الأهواء والأجواء أو جهلاء بالمصالح والمفاسد.
المسألة 16 - هل يجوز للأمة الكفاح المسلح والخروج على الحاكم
المتسلط إذا فقد بعض الشرائط كالعدالة مثلا، أو لا يجوز، أو يفصل بين الشروط
المهمة وغيرها، أو بين ما إذا خيف على أساس الإسلام وبيضته وبين غيره، أو بين
الأخطاء الجزئية والانحرافات الأساسية؟ وجوه:
قد يظهر من بعض الأخبار والفتاوى من السنة وجوب الإطاعة والتسليم
للحاكم وإن كان جائرا فاجرا، وعدم جواز الخروج عليه. فلنذكر بعض النماذج:
1 - فعن حذيفة بن اليمان قال: " قلت: يا رسول الله، إنا كنا بشر فجاء الله
بخير فنحن فيه، فهل من وراء هذا الخير شر؟ قال: نعم. قلت: هل وراء ذلك الشر
خير؟ قال: نعم. قلت: فهل وراء ذلك الخير شر؟ قال: نعم. قلت: كيف؟ قال: يكون
بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب
الشياطين في جثمان إنس. قال: قلت كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟
قال: تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع " (2).
2 - وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: " خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم
ويصلون عليكم وتصلون عليهم. وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم

(1) مع فرض كون الأكثر من أهل الأهواء والأجواء أو جهلاء بالمصالح والمفاسد فكيف يعتمد
على انتخابهم للخبراء؟ ثم لماذا لا يجري هذا البيان في انتخاب الأمة للمراجع؟
وقد مر الإشكال في إحالة تشخيص المرشح للإمامة أو للنيابة عن الناس بعنوان الخبرة،
إلى هيئة متخصصة كهيئة المحافظة على الدستور في الهامش الأول في الصفحة 178 - م -.
(2) صحيح مسلم: 3، 1476.
196

وتلعنونهم ويلعنونكم. قيل: يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: لا، ما أقاموا
فيكم الصلاة. وإذا رأيتم من ولاتكم شيئا تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يدا
من طاعة " (1).
3 - وعن نافع، قال: " جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع حين كان من
أمر الحرة ما كان زمن يزيد بن معاوية... فقال: اني...، أتيتك لأحدثك حديثا
سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقوله، سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: " من خلع يدا من طاعة
لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة
جاهلية " (2).
وقال السنوسي: " وفي هذا دليل على أن مذهب عبد الله بن عمر كمذهب
الأكثرين في منع القيام على الإمام وخلعه إذا حدث فسقه، أما إذا كان فاسقا قبل
عقدها فاتفقوا على أنها لا تنعقد له، لكن إذا انعقدت له تغلبا أو اتفاقا ووقعت كما
اتفق ليزيد صار بمنزلة من حدث فسقه بعد انعقادها له، فيمتنع القيام عليه. ويدل
على ذلك ذكر ابن عمر الحديث في سياق الإنكار على ابن مطيع في قيامه على
يزيد " (3).
4 - وفي شرح النووي لصحيح مسلم: " فلو طرأ على الخليفة فسق قال
بعضهم: يجب خلعه إلا أن يترتب عليه فتنة وحرب. وقال جماهير أهل السنة من
الفقهاء والمحدثين والمتكلمين: لا ينعزل بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق ولا
يخلع ولا يجوز الخروج عليه بذلك، بل يجب وعظه وتخويفه للأحاديث الواردة

(1) صحيح مسلم: 3، 1481.
(2) صحيح مسلم: 3، 1478.
(3) حاشية الصحيح: 6، 22، من طبعة أخرى مجزئة بثمانية أجزاء.
197

في ذلك " (1).
5 - وقال القاضي أبو يعلى: " وقد روى عن الإمام أحمد ألفاظ تقتضي
إسقاط اعتبار العدالة والعلم والفضل فقال - في رواية عبدوس بن مالك القطان -:
" ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسمى أمير المؤمنين لا يحل لأحد يؤمن
بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماما عليه، برا كان أو فاجرا، فهو أمير
المؤمنين. وقال أيضا - في رواية المروزي -: فإن كان أميرا يعرف بشرب المسكر
والغلول يغزو معه، إنما ذاك له في نفسه " (2).
6 - قال ابن قدامة: " فإن كان القائد يعرف بشرب الخمر والغلول يغزى معه،
إنما ذلك في نفسه. ويروى عن النبي (صلى الله عليه وآله): " ان الله ليؤيد هذا الدين بالرجل
الفاجر " " (3).
7 - حكى أبو بكر الجصاص الحنفي في أحكام القرآن مخالفة أبي حنيفة لما
ذكر فقال: " كان مذهبه مشهورا في قتال الظلمة وأئمة الجور... وكان من قوله:
وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض بالقول، فإن لم يؤتمر له
فبالسيف على ما روى عن النبي (صلى الله عليه وآله) ".
وسأله إبراهيم الصائغ - وكان من فقهاء أهل خراسان ورواة الأخبار
ونساكهم - عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال: هو فرض، وحدثه
بحديث عن عكرمة، عن ابن عباس ان النبي (صلى الله عليه وآله) قال: " أفضل الشهداء حمزة بن
عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر فقتل " (4).

(1) شرح صحيح مسلم للنووي: 8، 35، هامش إرشاد الساري.
(2) الأحكام السلطانية: 20.
(3) المغني: 10، 371.
(4) أحكام القرآن للجصاص: 1، 81.
198

8 - وقال الماوردي: " والذي يتغير به حاله فيخرج به عن الإمامة شيئان:
أحدهما: جرح في عدالته، والثاني: نقص في بدنه. فأما الجرح في عدالته وهو
الفسق فهو على ضربين: أحدهما، ما تابع فيه الشهوة، والثاني: ما تعلق فيه
بشبهة " (1).
9 - وقال ابن حزم: " والواجب إن وقع شئ من الجور وإن قل أن يكلم
الإمام في ذلك ويمنع منه، فان امتنع وراجع الحق وأذعن للقود من البشرة أو من
الأعضاء، ولإقامة حد الزنا والقذف والخمر عليه فلا سبيل إلى خلعه، وهو إمام كما
كان، لا يحل خلعه. فإن امتنع من إنفاذ شئ من هذه الواجبات عليه ولم يراجع
وجب خلعه وإقامة غيره ممن يقول بالحق، لقوله تعالى: (تعاونوا على البر
والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) (2). ولا يجوز تضييع شئ من واجبات
الشرايع " (3).
10 - وقال ابن أبي الحديد: " وعند أصحابنا ان الخروج على أئمة الجور
واجب. وعند أصحابنا أيضا إن الفاسق المتغلب بغير شبهة يعتمد عليها لا يجوز أن
ينصر على من يخرج عليه، ممن ينتمي إلى الدين ويأمر بالمعروف وينهى عن
المنكر، بل يجب أن ينصر الخارجون عليه وإن كانوا ضالين في عقيدة اعتقدوها
بشبهة دينية دخلت عليهم، لأنهم أعدل منه وأقرب إلى الحق " (4).
11 - وعن شرح المقاصد لإمام الحرمين " إن الإمام إذا جار وظهر ظلمه
وغشه، ولم يرعو لزاجر عن سوء صنيعه فلأهل الحل والعقد التواطؤ على ردعه

(1) الأحكام السلطانية: 17.
(2) المائدة 5: 2.
(3) الفصل في الملل والأهواء والنحل: 4، 175.
(4) شرح نهج البلاغة: 5، 78.
199

ولو بشهر السلاح ونصب الحروب " (1).
وكيف كان فهناك أمران يجب البحث فيهما إجمالا:
الأول: أنه لا يجوز إطاعة الجائر الفاسق في فسقه وجوره. ويكفيك:
1 - قوله - تعالى -: (ولا تطيعوا أمر المسرفين * الذين يفسدون في الأرض
ولا يصلحون) (2).
2 - ومن ألفاظ رسول الله (صلى الله عليه وآله): " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " (3).
3 - وعن النبي (صلى الله عليه وآله) أيضا أنه قال: " على المرء المسلم السمع والطاعة فيما
أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة " (4).
4 - وعن علي (عليه السلام): " أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعث جيشا وأمر عليهم رجلا فأوقد
نارا وقال: ادخلوها فأراد ناس أن يدخلوها، وقال الآخرون: إنا قد فررنا منها.
فذكر ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال للذين أرادوا أن يدخلوها: " لو دخلتموها لم تزالوا
فيها إلى يوم القيامة، وقال للآخرين قولا حسنا وقال لا طاعة في معصية الله، إنما
الطاعة في المعروف " (5). إلى غير ذلك من الأخبار المتظافرة.
الثاني: أنه هل يجوز القيام والكفاح المسلح ضد الجائر أم لا؟
أقول: إن الحاكم إذا صدرت عنه معصية أو صار جائرا بعدما كانت حكومته
مشروعة في بادئ الأمر فالظاهر أنه لا يمكن القول بانعزاله عن الولاية قهرا، أو
بجواز الخروج عليه بمجرد صدور معصية جزئية أو ظلم، مع بقاء النظام على ما

(1) نظام الحكم والإدارة في الإسلام لباقر شريف القرشي: 54.
(2) الشعراء 26: 151، 152.
(3) الوسائل: 11، 422، نهج البلاغة، عبده: 3، 193، صالح: 500، الحكمة 165.
(4) صحيح مسلم: 3، 1469، البخاري: 4، 234.
(5) صحيح مسلم: 3، 1469.
200

كان عليه على أساس موازين الإسلام. بداهة أن الحكام غير المعصومين يكثر
منهم صدور الهفوات والأخطاء والمزالق، ولا سيما من عمالهم، فالحكم بالانعزال
القهري أو الخروج عليهم، بل العصيان والتخلف عن أوامرهم المشروعة بلا
ضابطة معينة يكون مخلا بنظام المسلمين ووحدتهم ويوجب الفوضى والهرج
والمرج وإراقة الدماء وإثارة الفتن في كل صقع وناحية، في كل يوم بل في كل
ساعة.
بل يمكن الخدشة في صدق عنوان الفاسق أو الجائر أو الظالم على هذا
الشخص، إذ المتبادر من هذه العناوين هو الوصف الثبوتي والملكة، لا صدور
المبدأ، فالظاهر في هذه الموارد بقاء المنصب المفوض إليه ووجوب النصح
والإرشاد، ووجوب إطاعتهم فيما يرتبط بشؤون الأمة من التكاليف وإن لم تجز
في الجور والمعصية كما مر.
وأما إذا انحرف الحاكم انحرافا أساسيا عن موازين الإسلام والعدالة (1)

(1) كان اللازم على الأستاذ - دام ظله - أن يبحث بالتفصيل في هذه الأطروحة عن مرجع أو
جهاز وظيفته الفحص عن الأخطاء والمزالق والمعاصي المنسوبة إلى المسؤولين والأجهزة
الحكومية. (وإن كان الأستاذ قد أشار إجمالا إلى هذا المهم في الباب السادس).
وكان اللازم أيضا أن يبحث عن حقوق الأمة تجاه الحاكم والحكومة وما يكون لهم
وللمؤسسات المدنية كالأحزاب والنقابات والصحائف وأجهزة الإعلام عند مشاهدة خطاء
أو معصية أو ضعف من أحد المسؤولين سواء كان واليا أو رئيسا أو وزيرا أو وكيلا أو غيرهم.
وعلى كل حال فإن رأوا ذلك منه وكان بحيث ينافي استمراره في العمل، فعليه الاعتزال
والتخلي عن منصبه، فإن لم يعتزل لأنه رأى نفسه صالحا للاستمرار فللناس وللمؤسسات
المدنية ما يلي:
1 - حق استجوابه عما صدر عنه ووعظه ونصحه.
2 - حق السؤال عن وكلائهم في مجلس النواب وإلزامهم بالعمل بوظائفهم قبال ذلك
المسؤول.
3 - حق رفع أمره إلى مرجع صالح ممهد لاستدعاء المسؤول والفحص عن أعماله
وإعلام براءته أو إثبات عدم صلاحيته وعزله، فإن عزله ولم يعتزل فللناس والمؤسسات
الخطوات الأخرى حتى العزل:
4 - حق إفشاء الحقائق بالبيان والقلم والطبع في الجرائد وفي أجهزة الإعلام.
5 - حق الاضراب عن العمل والمظاهرات السلمية بنحو لا يضيع حقوق الآخرين.
6 - حق الكفاح المسلح. ولا يخفى أنه إن كان للناس مجال لإحقاق الحقوق السابقة على
الكفاح المسلح لا يصل أمر المسؤولين إلى هذه المرحلة حتى يلزم عزلهم أو تغيير
حكومتهم إلى انتفاضة الشعب وثورته التي تستلزم عادة إراقة الدماء وإتلاف الحقوق
والأموال. هذا.
ولكن اليوم، كان أكثر انحرافات الحكومات والمسؤولين عن موازين الإسلام والعدالة
ناشئا عن القوانين غير العادلة أو عن تيارات سياسية أو اقتصادية، فعلى هذا فللناس أيضا
حق لتعديل القوانين وحق لمقابلة التيارات السياسية أو الاقتصادية التي تؤثر على
مصيرهم. ولا يحق للحكومة منع الناس من اعمال حقوقها ولو بجعل القانون - م -.
201

وصار متهتكا وجعل أساس حكمه الاستبداد والهوى، وجعل مال الله دولا وعباده
خولا، أو صار عميلا للاستعمار ومنفذا لأهواء الكفرة والأجانب وتغلبوا من هذا
الطريق على سياسة المسلمين وثقافتهم واقتصادهم، ولم يرتدع هو بالنصح
والتذكير بل لم يزده ذلك إلا عتوا واستكبارا - وإن فرض أنه يظهر الإسلام باللسان
بل ويتعبد ببعض المراسيم والطقوس الظاهرية من الصلاة والحج والشعارات
الإسلامية، كما نراه في أكثر الملوك والرؤساء في بلاد المسلمين في أعصارنا -.
ففي الوزراء والعمال يرفع أمرهم إلى الوالي الذي نصبهم حتى يكون هو
الذي يعزلهم إن رآه صلاحا.
وفي الوالي الأعظم يجوز بل يجب السعي في خلعه ورفع يده ولو بالكفاح
المسلح مع حفظ المراتب، ولكن يجب إعداد الأسباب: من إيجاد الوعي السياسي
في الأمة، وتشكيل الفئات والأحزاب والجمعيات واللجان، وتهيئة القوى
202

والمعدات، خفية أو علنا حسب اقتضاء الظروف. فإن حصل المقصود بالتكتل
والمظاهرات فهو، وإلا فبالكفاح المسلح. فتجب رعاية المراتب والأخذ بالأقل
ضررا والأكثر نفعا إلى أن يحصل النصر والظفر. بل الظاهر أنه ينعزل قهرا وإن لم
تقدر الأمة على خلعه، فليست حكومته حينئذ حكومة مشروعة.
ويدل على جواز ذلك بل وجوبه أمور:
الأول: آيات شريفة من الكتاب العزيز وروايات مستفيضة يستفاد منها ذلك
ولو بالملازمة. كقوله تعالى: (لا ينال عهدي الظالمين) (1). دل على أن الظالم لا
ينال الإمامة التي هي عهد الله. وإطلاق الآية يشمل الحدوث والبقاء معا.
وقوله: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) (2). وحيث لا محيص
عن الدولة والحكومة لما مر من الأدلة، ولا يجوز تصدي الظالم لها ولا الركون إليه
بمقتضى الآيتين الشريفتين فلا محالة يجب نفيه وخلعه مع القدرة حتى تخلفه
الحكومة العادلة الصالحة.
وقوله تعالى: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل
من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به، ويريد
الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا) (3). يظهر من الآية وجوب الكفر بالطاغوت
وحرمة التحاكم إليه، وإذا حرم التحاكم إليه فلا محالة وجب إسقاطه حتى تخلفه
حكومة صالحة عادلة إذ لا محيص عن وجود الحكم والحاكم قطعا.
وفي نهج البلاغة: " ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم وكبرائكم الذين
تكبروا عن حسبهم وترفعوا فوق نسبهم وألقوا الهجينة على ربهم، وجاحدوا الله

(1) البقرة 2: 124.
(2) هود 11: 113.
(3) النساء 4: 60.
203

على ما صنع بهم، مكابرة لقضائه ومغالة لآلائه. فإنهم قواعد أساس العصبية
ودعائم أركان الفتنة وسيوف اعتزاء الجاهلية. فاتقوا الله ولا تكونوا لنعمه عليكم
أضدادا ولا لفضله عندكم حسادا، ولا تطيعوا الأدعياء الذين شربتم بصفوكم
كدرهم وخلطتم بصحتكم مرضهم، وأدخلتم في حقكم باطلهم، وهم أساس
الفسوق وأحلاس العقوق، اتخذهم إبليس مطايا ضلال وجندا بهم يصول على
الناس وتراجمة ينطق على ألسنتهم استراقا لعقولكم ودخولا في عيونكم ونفثا في
أسماعكم " (1). فتأمل في هذا الحديث الشريف، وانظر كيف تنطبق مضامينه على
الرؤساء الطغاة الحاكمين في أعصارنا، وكيف يصول بهم الشيطان على الناس!
وحيث لا تجوز إطاعتهم فلا محالة يجب إسقاط الحكومة المسرفة الفاسدة
لتخلفها الحكومة العادلة الصالحة المفترض طاعتها. واسقاطها من السلطة لا
يتحقق غالبا إلا بالكفاح المسلح.
فإن قلت: لعل النهي في الآيات والروايات متوجه إلى إطاعة أهل الإثم
والفساد في خصوص ما أمروا به من الإثم، فلا ينال في ذلك وجوب طاعتهم في
الشؤون الاجتماعية التي يتوقف عليها حفظ النظام.
قلت: ظاهر الآيات والروايات حرمة طاعتهم بنحو الإطلاق في كل ما
أمروا به. ولا تستغرب أن ينهى الشارع عن إطاعتهم بالكلية حتى في الأمور التي
تكون صلاحا بالذات حذرا من استحكام دولتهم وحكومتهم بذلك.
الثاني: أن الحكومة الإسلامية إنما شرعت لتنفيذ أحكام الإسلام وإقامة
العدل في الأمة، كما يشهد بذلك صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام). فإنه بعدما حكم
ببناء الإسلام على خمس وسئل (عليه السلام) عن أفضلها قال: " الولاية أفضل، لأنها

(1) نهج البلاغة، عبده: 2، 166، صالح: 289، الخطبة 192.
204

مفتاحهن والوالي هو الدليل عليهن " (1). إلى غير ذلك من الروايات الدالة على
الغرض من الإمامة والحكومة الحقة، فإذا انحرفت ولم تترتب عليها الآثار
المترقبة منها كان حفظها وبقاؤها ووجوب الإطاعة والتسليم لها ناقضا للغرض
المطلوب، فيجب إسقاطها وتعيين حاكم صالح لئلا يتعطل الإسلام وحدوده.
الثالث: ما دل من الآيات والروايات من طرق الفريقين على وجوب الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر بمفهومهما الوسيع، أعني السعي في إشاعة المعروف
وبسطه وقطع جذور المنكر والفساد مهما أمكن. فإذا انحرف الحاكم عن مسير
الحق والعدالة وأشاع البدع والمنكرات بجنوده وقدرته - والناس على دين
ملوكهم بالطبع - فلا محالة يجب على المسلمين مواصلة العمل لتحقيق أهداف
الأنبياء والمرسلين من السعي في بسط المعروف ورفع المنكرات ودفعها مع
القدرة والإمكان، ولكن مع رعاية المراتب، فإذا لم يؤثر النصح والإرشاد
والتهديد والوعيد فلا محالة تصل النوبة إلى المظاهرات الجماعية. ثم القيام
والكفاح المسلح، قطعا لمادة الفساد. نعم، يجب أن يكون القيام والكفاح تحت
نظام صحيح وقيادة رجل عالم عادل يقود الثوار، كيلا يلزم الهرج والمرج.
فعن أبي جعفر (عليه السلام) " فأنكروا بقلوبكم والفظوا بألسنتكم وصكوا بها جباههم
ولا تخافوا في الله لومة لائم " (2).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " ما جعل الله بسط اللسان وكف اليد، ولكن
جعلهما يبسطان معا ويكفان معا " (3).
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع

(1) الكافي: 2، 18.
(2) الوسائل: 11، 403.
(3) الوسائل: 11، 404.
205

فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الايمان " (1).
وعنه (صلى الله عليه وآله) أيضا: " إن رحى الإسلام ستدور، فحيث ما دار القرآن فدوروا به
يوشك السلطان والقرآن أن يقتتلا ويتفرقا، إنه سيكون عليكم ملوك يحكمون لكم
بحكم ولهم بغيره، فإن أطعتموهم أضلوكم وإن عصيتموهم قتلوكم. قالوا: يا رسول
الله، فكيف بنا إن أدركنا ذلك؟ قال: تكونوا كأصحاب عيسى (عليه السلام) نشروا بالمناشير
ورفعوا على الخشب. موت في طاعة خير من حياة في معصية " (2).
ولا يخفى أن إطلاق هذه الروايات يشمل محل البحث وإن لم يخل بعضها
عن إشكال. وضعف السند في بعضها لا يضر بعد معاضدة بعضها لبعض، والعلم
إجمالا بصدور بعضها.
الرابع: ما دل على جزاء المحارب والمفسد في الأرض. قال الله - تعالى -:
(إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو
يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض. ذلك لهم خزي
في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم، إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا
عليهم...) (3).
إذ لا فرق في الساعي بالفساد بين أن يكون فردا عاديا أو يكون صاحب
قدرة وسلطة، بل الفساد في الثاني أكثر.
الخامس: جواز قتال البغاة بل وجوبه الذي دل عليه الكتاب والسنة، وأفتى
به فقهاء الفريقين. قال الله - تعالى -: (وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا
بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله،

(1) صحيح مسلم: 1، 69.
(2) الدر المنثور: 2، 301.
(3) المائدة 5: 33، 34.
206

فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا، إن الله يحب المقسطين) (1). وتعليق
الحكم على الوصف يشعر بالعلية بل يدل عليها. فيعلم بذلك أن الملاك في وجوب
القتال أو جوازه هو البغي والطغيان، سواء كان من ناحية طائفة على أخرى، أو من
ناحية الأفراد أو الطوائف على الولاة، أو من ناحية الولاة على الأمة. ولذلك تعدى
الأصحاب والفقهاء منه إلى بغي الفرد أو الطائفة على الإمام. ومن لفظ الآية
الشريفة اقتبسوا اسم البغاة.
نعم، يمكن المناقشة بأن الأمر الواقع في مقام توهم الحظر لا يستفاد منه
أزيد من الجواز، ولكن الجواز يكفينا في المقام.
فإن قلت: مورد آية البغي وكذا آية المحاربة صورة وجود الحرب فعلا،
وأما الحاكم الجائر فالخروج عليه إشعال لنائرة الحرب.
قلت: إذا انحرف الحاكم عن مسير الحق والإسلام وضيع الحدود والحقوق
فلا محالة يحصل في ملكه الفساد والفحشاء والبغي على الضعفة كثيرا، بل ربما
خيف منه ومن عماله على بيضة الإسلام وكيان المسلمين، وأي شئ أشد وأفحش
من ذلك؟
السادس: قيام سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) وثورته على يزيد بن
معاوية، مع أنه كان يحكم باسم الإسلام وربما كان يقيم الشعائر. والحسين الشهيد
عندنا إمام معصوم، وعمله حجة شرعية كقوله، وقد بين هو (عليه السلام) أهدافه من ثورته.
فقد روى أن الحسين (عليه السلام) خطب أصحابه وأصحاب الحر، فحمد الله وأثنى
عليه ثم قال: " أيها الناس، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: من رأى سلطانا جائرا مستحلا
لحرم الله، ناكثا لعهد الله، مخالفا لسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، يعمل في عباد الله بالإثم
والعدوان فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقا على الله أن يدخله مدخله. ألا وإن

(1) الحجرات 49: 9.
207

هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمان، وأظهروا الفساد، وعطلوا
الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله، وأنا أحق من
غير " (1).
وعترة النبي (صلى الله عليه وآله) أحد الثقلين، وقد أوصى النبي (صلى الله عليه وآله) في الحديث المتواتر بين
الفريقين بالتمسك بهما. فقول الحسين (عليه السلام) حجة بلا إشكال، مضافا إلى أنه (عليه السلام) روى
الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) وهو عام يبين التكليف لجميع المسلمين في جميع الأعصار
ولا يختص بفريق خاص أو عصر خاص.
السابع: ثورة زيد على هشام بن عبد الملك. وقد أمضى عمله وقدسه أئمتنا
الأطهار (عليهم السلام) وعلماؤنا الأخيار، كما مر (2).
الثامن: ثورة الحسين شهيد فخ. وقد قام في المدينة في خلافة موسى
الهادي واستشهد بفخ، على فرسخ من مكة، وقد وردت روايات كثيرة تدل على
تقديسه وتقديس قيامه، منها:
ما رواه أبو الفرج الإصفهاني بسنده عن زيد بن علي، قال: انتهى رسول
الله (صلى الله عليه وآله) إلى موضع فخ فصلى بأصحابه صلاة الجنازة، ثم قال: " يقتل هاهنا رجل
من أهل بيتي في عصابة من المؤمنين، ينزل لهم بأكفان وحنوط من الجنة، تسبق
أرواحهم أجسادهم إلى الجنة " (3).
وما رواه بسنده، عن إبراهيم بن إسحاق القطان، قال: سمعت الحسين بن
علي، ويحيى بن عبد الله يقولان: " ما خرجنا حتى شاورنا أهل بيتنا، وشاورنا

(1) تاريخ الطبري (طبع ليدن): 7، 300، والكامل لابن الأثير: 4، 48.
(2) راجع الصفحة 84 وما بعد.
(3) مقاتل الطالبيين: 289.
208

موسى بن جعفر (عليه السلام) فأمرنا بالخروج " (1).
التاسع: ما في الكافي عن سدير الصيرفي، قال: " دخلت على أبي
عبد الله (عليه السلام) فقلت له: والله ما يسعك القعود. فقال: ولم يا سدير؟ قلت: لكثرة مواليك
وشيعتك وأنصارك... فقال: يا سدير، وكم عسى أن تكونوا؟ قلت: مأة ألف. قال:
مأة ألف؟ قلت: نعم، ومأتي ألف. قال: مأتي ألف؟ قلت: نعم ونصف الدنيا. قال:
فسكت عني ثم قال: يخف عليك أن تبلغ معنا إلى ينبع؟ قلت: نعم... فسرنا حتى
صرنا إلى أرض حمراء ونظر إلى غلام يرعى جداء فقال: والله يا سدير، لو كان لي
شيعة بعدد هذه الجداء ما وسعني القعود. ونزلنا وصلينا فلما فرغنا من الصلاة
عطفت على الجداء فعددتها فإذا هي سبعة عشرة " (2).
ولم يكن مراده (عليه السلام) لا محالة مطلق من يطلق عليهم اسم الشيعة، بل الشيعة
الخلص وهم قليلون جدا ولا سيما في تلك الأعصار.
وما في نهج البلاغة: " لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، وما
أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها
على غاربها... " (3).
فيظهر من الحديثين الشريفين أنه يجب القيام في قبال حكام الجور مع
وجود القدرة والعدة وأنه لا يحل للإنسان المسلم ولا سيما العالم أن يقعد في بيته
ولا يبالي بما يقع من الجور والظلم والإغارة على حقوق الضعفاء.
العاشر: ما دل على حرمة إعانة الظالم ومساعدته، بل وحب بقائه،
والأخبار في هذا الباب كثيرة من طرق الفريقين:

(1) مقاتل الطالبيين: 304.
(2) الكافي: 2، 242.
(3) نهج البلاغة، عبده: 1، 31، صالح: 50، الخطبة 3.
209

فعن النبي (صلى الله عليه وآله)، قال: " سيكون بعدي امراء، فمن دخل عليهم فصدقهم
بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه وليس بوارد علي
الحوض " (1).
وعن علي بن الحسين (عليهما السلام): " إياكم وصحبة العاصين ومعونة الظالمين " (2).
وفي خبر ابن أبي يعفور، قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) إذ دخل عليه رجل
من أصحابنا فقال له: جعلت فداك إنه ربما أصاب الرجل منا الضيق أو الشدة
فيدعى إلى البناء يبنيه أو النهر يكريه أو المسناة يصلحها، فما تقول في ذلك؟ فقال
أبو عبد الله (عليه السلام): " ما أحب إني عقدت لهم عقدة أو وكيت لهم وكاء وإن لي ما بين
لابتيها، لا ولا مدة بقلم، ان أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتى
يحكم الله بين العباد " (3).
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في خبر المناهي: " ألا ومن علق سوطا بين يدي
سلطان جعل الله ذلك السوط يوم القيامة ثعبانا من النار، طوله سبعون ذراعا،
يسلطه الله عليه في نار جهنم وبئس المصير " (4).
وعن صفوان بن مهران الجمال، قال " دخلت على أبي الحسن الأول (عليه السلام)
فقال لي: يا صفوان، كل شئ منك حسن جميل ما خلا شيئا واحدا. قلت: جعلت
فداك أي شئ؟ قال: إكراؤك جمالك من هذا الرجل، يعني هارون. قلت: والله ما
أكريته أشرا ولا بطرا، ولا للصيد ولا للهو، ولكني أكريته لهذا الطريق، يعني طريق
مكة، ولا أتولاه بنفسي ولكن أبعث معه غلماني. فقال لي: يا صفوان، أيقع كراؤك

(1) سنن الترمذي: 3، 358.
(2) الوسائل: 12، 128.
(3) الوسائل: 12، 129.
(4) الوسائل: 12، 130.
210

عليهم؟ قلت: نعم، جعلت فداك. قال: فقال لي: أتحب بقاءهم حتى يخرج كراؤك؟
قلت: نعم، قال: من أحب بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم ورد النار... " (1). إلى غير
ذلك من الروايات الدالة على حرمة إعانة الظالمين ومساعدتهم وحب بقائهم، ولا
يخفى أن إطاعة الظالم في أوامره الولائية من أشد مراتب الإعانة. وحيث إن
الحكومة لابد منها وإطاعة الحاكم من لوازمها ومقوماتها فلا محالة يستلزم ذلك
وجوب السعي في إسقاط الحكومة الظالمة الجائرة، حتى يخلفها حكومة عادلة.
وكيف كان، فقد تحصل مما ذكرناه أن أخطاء الحاكم الذي بدأت حكومته
مشروعة إن كانت جزئية شخصية لا تمس كرامة الإسلام والمسلمين، فالحكم
بانعزاله أو جواز الخروج عليه لذلك مشكل.
وإما إذا انحرف انحرافا كليا وصار أساس حكمه الاستبداد والأهواء،
وانطبق عليه عنوان الطاغوت فحينئذ يجري فيه مراتب الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر، وربما يصل الأمر إلى الكفاح المسلح وإسقاطه وإقامة دولة حقة
مكانه. وبعض الوجوه التي ذكرناها وإن كان قابلا للمناقشة ولكن يظهر من
المجموع ومن تتبع آيات الجهاد وأخباره وموارده، ومن أدلة الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، ومن سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) ولا سيما أمير المؤمنين
والسبط الشهيد (عليهما السلام) أن إقامة الحكومة الحقة وقطع جذور الفساد والجور مطابق
لروح الإسلام ومذاق الشرع، فيجب إعداد مقدماتها والاقدام عليها بقدر الوسع.
وأما الأخبار التي حكيناها في صدر المسألة من صحيح مسلم وغيره، فان
أريد بها ما ذكرناه من التفصيل فهو، وإلا وجب رد علمها إلى أهلها.
وليس كل ما يروى وينسب إلى النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أو إلى الأئمة أو الصحابة
بصحيح، بل يجب عرضه على الكتاب العزيز، فما خالفه زخرف وباطل. ويجب

(1) الوسائل: 12، 131.
211

على أهل النظر التتبع وتشخيص الغث من السمين والصحيح من السقيم. وقد ضبط
المؤرخون أحوال كثير من الوضاعين، فراجع (1)، وفي كنز العمال، عن أبي هريرة:
" إذا رأيت العالم يخالط السلطان مخالطة كثيرة فاعلم أنه لص " (2).

(1) راجع كتب الرجال من الفريقين، ومن جملة كتب السنة: كتاب " الضعفاء " لابن حبان،
و " الحافل المذيل على الكامل " لابن عدي، و " ميزان الاعتدال "، و " لسان الميزان ".
(2) كنز العمال: 10، 186.
212

الباب السادس:
في حدود ولاية الفقيه وواجباته تجاه
الإسلام والأمة وواجبات الأمة تجاهه
وفيه فصول:
213

الفصل الأول
وظائف الحاكم الإسلامي تجاه الأمة
قال الماوردي: والذي يلزمه من الأمور العامة عشرة أشياء:
أحدها: حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة...
الثاني: تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين وقطع الخصام بين المتنازعين...
الثالث: حماية البيضة والذب عن الحريم...
الرابع: إقامة الحدود...
الخامس: تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة...
السادس: جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة...
السابع: جباية الفيئ والصدقات على ما أوجبه الشرع نصا واجتهادا...
الثامن: تقدير العطايا وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقتير...
التاسع: استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوضه إليهم من الأعمال
ويكله إليهم من الأموال...
العاشر: أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال لينهض بسياسة
الأمة وحراسة الملة...
والأولى أن نذكر بعض الآيات والروايات المبينة للأهداف من الحكومة
215

الإسلامية وواجباتها.
1 - قال الله - تعالى -: (والذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه
مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل
لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت
عليهم، فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم
المفلحون) (1).
فالآية تعرضت لخمس من الأمور المهمة التي كان النبي (صلى الله عليه وآله) يهتم بها
ويستمر عليها في حياته في قبال الأمة.
والمعروف ما تعرفه الفطرة والعقول السليمة وأمر به الشرع لذلك. والمنكر
ما تنكره العقول السليمة ونهت عنه الشريعة المطهرة. ولعل المراد بالأغلال هو
الأعم من الرسوم والقيود الخرافية الطائفية، ومن الأحكام الصعبة المشروعة في
شريعة اليهود أو التي حرمها إسرائيل على نفسه.
2 - وقال - تعالى -: (ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز * الذين إن
مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر،
ولله عاقبة الأمور) (2).
3 - وقال - تعالى -: (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث
والنسل والله لا يحب الفساد * وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم
ولبئس المهاد) (3). فالحاكم الإسلامي يحرم عليه الإفساد والتعدي على الأموال
والنفوس، ويجب عليه الخضوع في قبال الذكرى والنصح.

(1) الأعراف 7: 157.
(2) الحج 22: 40 - 41.
(3) البقرة 2: 205 - 206.
216

4 - ولما بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) معاذ بن جبل إلى اليمن وصاه فقال: " يا معاذ،
علمهم كتاب الله وأحسن أدبهم على الأخلاق الصالحة، وانزل الناس منازلهم:
خيرهم وشرهم. وانفذ فيهم أمر الله ولا تحاش في أمره ولا ماله أحدا، فإنها ليست
بولايتك ولا مالك، وأد إليهم الأمانة في كل قليل وكثير. وعليك بالرفق والعفو في
غير ترك الحق، يقول الجاهل: قد تركت من حق الله واعتذر إلى أهل عملك من كل
أمر خشيت أن يقع إليك منه عيب حتى يعذروك. وأمت أمر الجاهلية إلا ما سنه
الإسلام. واظهر أمر الإسلام كله صغيره وكبيره. وليكن أكثر همك الصلاة، فإنها
رأس الإسلام بعد الإقرار بالدين. وذكر الناس بالله واليوم الآخر. واتبع الموعظة،
فإنه أقوى لهم على العمل بما يحب الله. ثم بث فيهم المعلمين. واعبد الله الذي إليه
ترجع. ولا تخف في الله لومة لائم... " (1).
5 - وبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) عمرو بن حزم واليا على بني الحارث؛ وكتب له
كتابا عهد إليه فيه عهده وأمره فيه بأمره:
" بسم الله الرحمن الرحيم
هذا بيان من الله ورسوله، يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود، عهد من محمد
النبي رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن، أمره بتقوى الله في أمره
كله، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون. وأمره أن يأخذ بالحق كما أمره
الله، وأن يبشر الناس بالخير ويأمرهم به، ويعلم الناس القرآن ويفقههم فيه. وينهى
الناس؛ فلا يمس القرآن إنسان إلا وهو طاهر. ويخبر الناس بالذي لهم والذي
عليهم. ويلين للناس في الحق، ويشتد عليهم في الظلم، فإن الله كره الظلم ونهى
عنه فقال: (ألا لعنة الله على الظالمين). ويبشر الناس بالجنة وبعملها، وينذر الناس
النار وعملها. ويستألف الناس حتى يفقهوا في الدين... وأمره أن يأخذ من المغانم

(1) تحف العقول: 25.
217

خمس الله وما كتب على المؤمنين في الصدقة... وأنه من أسلم من يهودي أو
نصراني إسلاما خالصا من نفسه ودان بدين الإسلام فإنه من المؤمنين؛ له مثل ما
لهم، وعليه مثل ما عليهم. ومن كان على نصرانيته أو يهوديته فإنه لا يرد
عنها... " (1).
6 - وفي نهج البلاغة: " اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في
سلطان، ولا التماس شئ من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك ونظهر
الإصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك وتقام المعطلة من حدودك " (2).
7 - وفيه أيضا: "... وإنه لابد للناس من أمير بر أو فاجر، يعمل في إمرته
المؤمن ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها الأجل ويجمع به الفيئ ويقاتل به
العدو وتأمن به السبل ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح بر ويستراح من
فاجر " (3).
8 - وفيه أيضا: " إنه ليس على الإمام إلا ما حمل من أمر ربه، إلا البلاغ في
الموعظة والاجتهاد في النصيحة والإحياء للسنة وإقامة الحدود على مستحقيها
وإصدار السهمان على أهلها " (4).
9 - وفيه أيضا: " أيها الناس إن لي عليكم حقا، ولكم علي حق، فأما حقكم
علي فالنصيحة لكم وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتأديبكم كيما
تعلموا. وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والإجابة

(1) سيرة ابن هشام: 4، 241؛ وتاريخ الطبري: 4، 1727 - 1729.
(2) نهج البلاغة، عبده: 2، 19، صالح: 189، الخطبة 131.
(3) نهج البلاغة، عبده: 1، 87، صالح: 82، الخطبة 40.
(4) نهج البلاغة، عبده: 1، 202، صالح: 152، الخطبة 105.
218

حين أدعوكم والطاعة حين آمركم " (1).
10 - وفيه أيضا: " ومكان القيم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه
ويضمه، فإذا انقطع النظام تفرق الخرز وذهب ثم لم يجتمع بحذافيره أبدا " (2).
11 - وفي خبر سليمان بن خالد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " اتقوا الحكومة،
فإن الحكومة إنما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبي (كنبي خ. ل)
أو وصي نبي " (3).
12 - وفي الخبر الطويل الذي رواه عبد العزيز بن مسلم، عن الرضا (عليه السلام): " إن
الإمامة زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح الدنيا وعز المؤمنين. إن الإمامة أس
الإسلام النامي وفرعه السامي. بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج
والجهاد وتوفير الفيئ والصدقات، وإمضاء الحدود والأحكام، ومنع الثغور
والأطراف. الإمام يحل حلال الله ويحرم حرام الله ويقيم حدود الله ويذب عن
دين الله ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة البالغة " (4).
والمتحصل من جميعها:
1 - جمع أمر المسلمين وحفظ نظامهم، ومنع الثغور والأطراف، والدفاع
عنهم وقتال مقاتليهم والبغاة عليهم.
2 - الإصلاح في البلاد وإيجاد الأمن فيها وفي السبل.
3 - أن يضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم من الرسوم والقيود
والعادات والتقاليد الباطلة.

(1) نهج البلاغة، عبده: 1، 80، صالح: 79، الخطبة 34.
(2) نهج البلاغة، عبده: 2 / 39؛ صالح: 203، الخطبة 146.
(3) الوسائل: 18، 7.
(4) الكافي: 1، 200، تحف العقول: 438.
219

4 - أن يعلمهم الكتاب والسنة وحدود الإسلام والايمان، ويبين لهم الحلال
والحرام وما ينفعهم ويضرهم. ويعمم التعليم والتربية ببث المعلمين فيهم وتأليف
الناس جميعا ليرغبوا في تعلم الدين والتفقه فيه.
5 - إقامة فرائض الله وشعائره من الصلاة والحج وغيرهما، وتأديب الناس
على الأخلاق الفاضلة.
6 - إقامة السنة وإماتة البدع، والذب عن دين الله وحفظ الشرائع والسنن
عن التغيير والتأويل والزيادة والنقصان.
7 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمفهومهما الوسيع، أعني السعي في
إشاعة المعروف وبسطه، ومكافحة أنواع المنكر والظلم والفساد.
8 - منع الظلم وإحقاق حقوق الضعفاء من الأقوياء واعمال الشدة في قبال
الظالمين.
9 - القضاء بالعدل وإقامة حدود الله وأحكامه.
10 - رد ما غصب من بيت المال والأموال العامة، وإجراء المساواة في
حكم الله وماله، ورفع التبعيضات الظالمة التي توجب كظة الظالمين وسغب
المظلومين.
11 - جباية الفيئ والصدقات على نحو ما أمر الله به وتوفيرها على
مستحقيها من الأشخاص والمصارف العامة.
12 - تتابع الوعظ والإنذار والتبشير.
13 - التمييز بين الأخيار من الناس والأشرار منهم بإكرام الخير والإحسان
إليه، وتأنيب الشر ومجازاته.
14 - إعمال الرفق والعفو في غير ترك الحق، فيكون للرعية كالوالد الرحيم.
15 - حسن العلاقة مع سائر الأمم والمذاهب بالسلم والبر والقسط وحفظ
220

الحقوق المتقابلة في النفوس والملة والأراضي والأموال إذا لم يقاتلوا المسلمين
ولم يخرجوهم من ديارهم، لا بأن يتخذهم الوالي بطانة أو يجعل لهم سبيلا على
المسلمين وشؤونهم.
وبما ذكرناه من الآيات والروايات يظهر لك أمران:
الأول: أن الإمام والحاكم الإسلامي قائد ومرجع للشؤون الدينية
والسياسية معا، وليس الدين منفكا عن السياسة، نعم، ساحة الدين الحق بريئة من
السياسة الحديثة المبنية على المكر والشيطنة والهضم للحقوق والبراعة في الكذب
والخداع.
وليس معنى ذلك أن الإمام بنفسه يتصدى لجميع الشؤون بالمباشرة، بل
كلما اتسع نطاق الملك وزادت التكاليف تكثرت الدوائر والمؤسسات والأجهزة.
ولكن الإمام بمنزلة رأس المخروط يحيط بجميعها ويشرف على الجميع إشرافا
تاما، فهو المسؤول والمكلف (1).

(1) استفادة الأستاذ من الأدلة في محله وعليها فالقيادة الدينية هي القيادة في العمل على ما
استنبط من المنابع وهي راجعة إلى القوتين العلمية والعملية، كما قال الإمام علي (عليه السلام): " أيها
الناس إن أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه " (عبده: 2، 104، صالح:
247).
ولكن هذه الأدلة بل وغيرها لم تكن بصدد بيان التعبد بكون المرجع للشؤون الدينية
قائدا، أو التعبد بكون القيادة والمرجعية معا، أو التعبد بكون القائد محيطا بجميع الدوائر
والمؤسسات والأجهزة ومشرفا عليها إشرافا تاما حتى نقول هو المسؤول والمكلف!!.
بل يستفاد منها أن المهم في نظر الشارع هو حصول مقاصده التي أشار إليها الأستاذ في
خمسة عشر أمرا، وأن الحكومة في الحقيقة أداة لحصول هذه المقاصد.
وأما الشكل المطلوب لهذه الأداة (الحكومة) فهو ما تقتضيه الظروف الزمانية والمكانية،
المبتنى على الأصول التي تستفاد من المنابع في باب السياسة الدينية نظير كون الأمور
شورائيا، وكون المتولي لكل أمر مبعوثا من قبل الناس، وكونه عالما، مديرا، مدبرا، أمينا.
نعم الظروف الحاكمة على المجتمع في زمن النبي والأئمة (عليهم السلام) تقتضي الشكل الذي
بينته الأدلة، ففي ذلك الزمان كان يمكن اجتماع القوة العلمية والعملية في شخص واحد لقلة
الأمور الاجتماعية وبساطتها وعدم الاحتياج إلى الخبروية في أكثرها. ومع الوصف رأينا أن
ذلك انجر إلى الانفراد بالسلطة والإنانية في جميع الولاة إلا من عصمه الله.
ولكن اليوم نرى إدارة بلد صغيرة تحتاج إلى علوم مختلفة تختص بكل واحد منها قوة
عملية لا يمكن اجتماعها في شخص واحد عادة، نظير علم السياسة، وعلم الاقتصاد، وعلم
الاجتماع، وعلم معرفة الحلال والحرام الشرعيين والأهم من كلها علم المديرية.
ومن جانب أخرى نرى الشعوب صاروا ذا وعي سياسي واجتماعي وذا معرفة
بمصالحهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية بحيث لا ينتخبون الأشخاص والفئات
السياسية ولا يعطونهم القدرة ليجعلوهم السادة على أنفسهم، بل للصيانة عن هذه المصالح
ولتحصيلها، فإن رأووهم غير قادرين على ذلك يطالبون انعزالهم أو عزلوهم. ونرى أيضا
الجرائد والأحزاب والوسائل الحديثة للمواصلات العامة تعين الناس إلى مقاصدهم.
نتيجة هذه التحولات ظهرت في تفكيك القوى في الحكومات الدارجة في البلاد إلى
ثلاث سلطات مستقلة: التشريعية والقضائية والتنفيذية وجعل كل واحدة منها لشخص أو
لشورى بانتخاب الأمة هو المسؤول تجاهها أو تجاه ممثليها في نطاق الاختيارات التي
فوضت إليه بحسب القوانين.
وحيث إن تصادم السلطات الثلاث في بعض الأحيان من جهة تفسير القانون أمر ممكن
فلابد من مركز مستقل متفق عليه لتفسير القانون هو المرجع لرفع الخلافات الحادثة بين
السلطات من تلك الجهة.
وهذه السلطات وإن كانت منفكة تعمل كل واحد منها في حوزة مختصة بها ولكن مع
الوصف تشتركون في إدارة الأمور وفقا للقانون تحت إشراف رئيس الجمهورية فإن
مسؤوليته مضافا إلى بعض الأعمال الجزئية كالاستقبال للضيوف الأجانب وإعطاء العلامة
لضباط الجند وأمرائه ونحوه، الاشراف على إدارة الأمور وفقا للقانون. ولا يشترط في
رئيس الجمهورية ولا في المسؤول على إجراء القوانين كونهما مجتهدين مطلقا، بل ولا
متجزيين، بل يكفي كونهما مديرين مدبرين أمينين ملتزمين بإجراء القوانين التي تبتنى
على فتاوى المراجع وأيدت من قبلهم.
وهذا القول لا يضر بصدق الحكومة الإسلامية لأن المقصد الأسنى لها هو حاكمية أصول
الإسلام وأحكامه لا سلطة الفقيه كيف ما كان، بل اشتراط الفقاهة والأعلمية عند القائل به
يكون بهذه الجهة إذ رب فقيه مجتهد مطلقا لم يقدر على إجراء الإسلام في مقام العمل
والإدارة.
وليس لازم هذا القول أيضا تقديم المفضول على الفاضل أو الفاضل على الأفضل لأن
القيادة العلمية حاكمة على القيادة العملية على كل حال فإن المسؤول للإجراء مجر للقوانين
الصادرة عن القيادة العلمية التي تمثلت في مجلس النواب وشورى المراجع - م -.
221

نقل هامش
222

الثاني: أن الحاكم إنما يتصدى ويتدخل في الأمور العامة الاجتماعية التي
لابد منها للمجتمع بما هو مجتمع، وأما الأمور والأحوال غير العامة كالزراعة
والصناعة والتجارة والأرزاق والمسكن والمصنع واللباس والزواج والتعليم
والتعلم والمسافرات والاحتفالات ونحو ذلك من الأمور المتعلقة بالأشخاص
والعائلات، فالناس في انتخابها وانتخاب أنواعها وكيفياتها أحرار، ولكل منهم أن
يختار ما يريده ويهواه ما لم يكن فيه منع شرعي.
اللهم إلا إذا فرض شئ منها في مورد خاص موجبا للأضرار بالمجتمع أو
ببعض الأفراد؛ فللحاكم حينئذ تحديده في ذلك المورد بمقدار يدفع به الضرر (1).
نعم، يتوقع من الحكومة بل ربما يتعين عليها بالنسبة إلى هذه الأمور
التخطيط الكلي والتعليم والإرشاد والهداية إلى أنواعها وطرق تحصيلها وبيان
أنفعها والأصلح منها، والإعانة وإيجاد الإمكانات لها لدى الاحتياج، والمنع عما
حرمه الله - تعالى - من الربا والاحتكار والتطفيف والغش والخيانة ونحو ذلك.
ولكنك تشاهد أن أكثر الحكومات الدارجة في أعصارنا ربما يتدخلون في هذه

(1) تشخيص الاضرار بالمجتمع لابد أن يكون وفقا للقانون وفي محكمة صالحة مع إمكان
دفاع المتهم عن نفسه، وإلا ينفتح باب الاستبداد وتضييع الحقوق المحترمة كما أشار إليه
الأستاذ دام ظله - م -.
223

الأمور ويحددون الاختيارات والحريات التي جعلها الله - تعالى - في طباع
البشر. ويوجب ذلك:
أولا: كراهة الأمة وبغضائها في قبال الحكومة.
وثانيا: كثرة العصيان والهتك لها.
وثالثا: احتياج الحكومة إلى استخدام موظفين كثيرين للتدخل والتحديد
والمراقبة.
ورابعا: إلى وضع ضرائب كثيرة فوق طاقة الأشخاص لمصارف الموظفين
وأجهزتهم.
ولنذكر مثالا من تحديد النبي (صلى الله عليه وآله) وتدخله بما أنه كان واليا وحاكما في هذا
السنخ من الأمور مقتصرا على قدر الضرورة:
ففي رواية حذيفة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " نفد الطعام على عهد رسول
الله (صلى الله عليه وآله) فأتاه المسلمون فقالوا: يا رسول الله، قد نفد الطعام ولم يبق منه شئ إلا عند
فلان، فمره ببيعه. قال: فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا فلان، إن المسلمين ذكروا
أن الطعام قد نفد إلا شئ عندك فأخرجه وبعه كيف شئت ولا تحبسه " (1) فإنه (صلى الله عليه وآله)
بمقتضى الضرورة الزم البيع في مورد الاحتكار ولكنه لم يسعر، إذ لم تكن فيه
ضرورة في ذلك العصر.
وكيف كان فالأحكام الولائية الصادرة عن اضطرار إنما تتقدر بقدر
الاضطرار والضرورة.

(1) الوسائل: 12، 317.
224

الفصل الثاني
في الشورى
1 - اهتمام الإسلام بالاستشارة:
لا يخفى أن بناء الحكم الإسلامي على إعمال التشاور وتبادل الآراء في
الأمور، والاجتناب عن الاستبداد والديكتاتورية.
والإسلام - على ما يظن - أول نظام قانوني حث على الشورى في مجال
الحكم وتدبير الأمور، حينما كان العصر عصر الحكومات الإستعبادية
الديكتاتورية.
قال الله - تعالى -: (والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، وإذا ما غضبوا
هم يغفرون * والذين استجابوا لربهم، وأقاموا الصلاة، وأمرهم شورى بينهم ومما
رزقناهم ينفقون) (1).
وقد بلغت الشورى من الأهمية بحيث أمر الله - تعالى - نبيه الأكرم (صلى الله عليه وآله) مع
عصمته واتصاله بمنبع الوحي أن يشاور أصحابه ويحصل آرائهم، واستمرت
سيرته (صلى الله عليه وآله) على ذلك. فقال - تعالى -: (وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على

(1) الشورى 42: 37 و 38.
225

الله) (1).
ولفظ " الأمر " بحسب اللغة والمفهوم يعم جميع الشؤون الفردية
والاجتماعية من السياسة والاقتصاد والثقافة والدفاع، وتحسن المشاورة أيضا
في جميع ذلك حتى في الشؤون الفردية المهمة، ولكن المتيقن منه هو الحكومة
بشعبها التي من أهمها مسألة الحرب والدفاع، كما يشهد بذلك ما عن أمير
المؤمنين (عليه السلام): " فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة. " (2)، فوقوع قوله - تعالى -:
(وشاورهم في الأمر) في سياق الآيات الحاكية عن غزوة أحد لا يدل على
اختصاص الكلمة بالحرب والأمور الدفاعية، ولا على اختصاص مشاورة
النبي (صلى الله عليه وآله) بها، وإن كانت الحرب بنفسها من أهم شؤون الحكومة ومن أحوجها إلى
التشاور. وقد نقلت موارد من استشارة النبي (صلى الله عليه وآله) في بعض غزواته كغزوة بدر (3)
وغزوة أحد (4) وغزوة الأحزاب (5).
ففي هذا الظرف يؤكد القرآن الكريم على مشاورة النبي (صلى الله عليه وآله) المسلمين
وعلى مشاورة بعضهم بعضا لتصير الشورى أساسا خالدا في الشريعة الإسلامية.
والسر في ذلك أن الشورى توجب تبادل الأفكار وتلاقحها واتضاح الأمر
واطمئنان الخاطر بعدم الاشتباه والخطأ.
وأما الأخبار الواردة في الحث على الشورى والاهتمام بها:
1 - فعن معمر بن خلاد قال: هلك مولى لأبي الحسن الرضا (عليه السلام) يقال له:

(1) آل عمران 3: 159.
(2) نهج البلاغة، عبده: 1، 31، صالح: 49، الخطبة 3.
(3) المغازي: 1، 48.
(4) سيرة ابن هشام: 3، 66.
(5) المغازي: 1، 444 و 477.
226

سعد، فقال له: أشر علي برجل له فضل وأمانة، فقلت: أنا أشير عليك؟ فقال شبه
المغضب: " إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يستشير أصحابه ثم يعزم على ما يريد " (1).
2 - وفي نهج البلاغة: "... ولا تظنوا بي استثقالا في حق قيل لي، ولا
التماس إعظام لنفسي، فإنه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه
كان العمل بهما أثقل عليه، فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل، فإني لست
بفوق أن أخطئ ولا آمن ذلك من فعلي إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به
مني " (2).
3 - وفي وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لابنه محمد بن الحنفية: " اضمم آراء
الرجال بعضها إلى بعض ثم اختر أقربها إلى الصواب وأبعدها من الارتياب ". (إلى
أن قال): " قد خاطر بنفسه من استغنى برأيه ومن استقبل وجوه الآراء عرف مواقع
الخطأ " (3).
والظاهر أن عمدة مشاورة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) كانت مع وجوه القبائل لجلب
أنظارهم وإعطاء الشخصية لهم وإظهار الاعتماد عليهم، ولا محالة كانت نفس هذا
العمل من أقوى العوامل المؤثرة في قوة عزمهم وتحركهم ومتابعتهم في جميع
المراحل.
وأما غيره (صلى الله عليه وآله) من الحكام غير المعصومين فاللازم (4) أن يكون لهم
مشاورون إخصائيون في الأمور العامة المهمة من السياسة والاقتصاد والثقافة

(1) الوسائل: 8، 428.
(2) نهج البلاغة، عبده: 2، 226؛ صالح: 335، الخطبة 216.
(3) الفقيه: 4، 385 و 388.
(4) لزوم المشاورة في الأمور العامة المهمة على مبنى الأستاذ يكون تحديدا لسلطة الحاكم
وولايته فلا تكون مطلقة - م -.
227

والدفاع، فيطرح لهم المسائل، ولا يتبادر إلى التصميم والقرار قبل المشاورة
وتبادل الأفكار وتلاقحها.
نعم لما كان المسؤول (1) والمكلف هو الحاكم فالملاك بعد المشاورة
واستماع الأنظار المختلفة هو تشخيص نفسه، ولا يتعين عليه متابعة الأكثرية، ولا
يلزم من ذلك كون الشورى بلا فائدة، إذ يترتب عليها مضافا إلى جلب أنظار
المشاورين وإعطاء الشخصية لهم، نضج الفكر والاطلاع على جوانب الأمر
وعواقبه حتى يختار ما هو الأصلح بعد التأمل في الأنظار المختلفة والمقايسة
بينها (2).
والله تعالى خاطب نبيه (صلى الله عليه وآله) فقال: (وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل
على الله). فجعل العزم والقرار في النهاية لشخص النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) (3).

(1) مسؤولية الحاكم تجاه الذين أعطوه الولاية تقتضي الدقة التامة لتشخيص ما هو الأصلح
لهم واقعا ولا يمكن ذلك إلا بعد الفحص والعمل الخبروي والمشاورات العديدة، ومع ذلك
فإن بان خطاءه بعد العمل، فللناس حقوق أشرنا إليها سابقا فراجع - م -.
(2) يمكن أن يقال: بناءا على مبنى الأستاذ وهو تحقق الولاية ببيعة الناس فلهم أن يشترطوا
في عقد البيعة على الحاكم العمل بنتيجة الشورى ومتابعة الأكثرية - م -.
(3) الهدف من المشورة والشورى في غير المعصومين (عليهم السلام) هو إما كشف مصلحة الأمور
المتغيرة في الظروف ليجعل عليها قانونا أو يحكم بها أحيانا في المحاكم، أو كشف الصالح أو
الأصلح من الأفراد أو الأساليب العملية.
ولكن بناءا على تمركز القوى العلمية والعملية في شخص الحاكم (وهو نظرية الأستاذ
في مباحث الكتاب وفي هذا البحث) لا يتحقق هذا الهدف غالبا سيما إذا كان أخذ التصميم
النهائي أيضا إلى الحاكم.
وقد شاهدنا أن النظم الحكومي المبتني على تمركز القوى لم يكن في العمل ناجحا لأن
الفرد الواحد لم يقدر على كشف جميع المصالح وإن كان أعلم الأفراد، ولم يقدر على
الأصلح في العمل والإجراء وإن كان أقوى الأفراد.
ومن طرف آخر فإن جعل الفرد الواحد مسؤولا فقط يسلب الشعور بالمسؤولية
وبالتكليف عن الآخرين ويجعله وازرا لأوزار الجميع وتحت الاضغاط الكاسرة التي
تستعده بالآخرة للانفراد بالسلطة ولنفوذ الآخرين وللإفساد باسمه.
ولهذا الافرازات اطرح النظم الحكومي القائم بالفرد المجتمعات الراقية. ولكن بالنظر
إلى مبنى آخر للأستاذ - دام ظله - وهو كون الحكومة أمر الناس وأمرهم شورى بينهم،
اقترحنا نظرية توزيع القوى والسلطات الثلاث وجعل كل سلطة على عاتق من انتخبه
الشعب لها، فعلى هذا المبنى لابد أن يكون أخذ التصميم في كلها بالشورى والمشورة مع
الشعب ففي القوتين القضائية والتنفيذية يجوز للشعب أن يشترطوا في البيعة أن يكون أخذ
القرار مشروطا بالمشاورة مع المخالف والموافق من الخبراء والعمل بنتيجة الشورى أو
يكون مشروطا باستلفات نظر المستشارين أو المعاونين.
وهذا الأمر في القوة التشريعية أوضح إذ ليس أخذ القرار فيها إلا شورائيا يؤخذ بنظر
الأغلب: أغلبية الثلثين، أو الأغلبية المطلقة، أو الأغلبية النسبية، أو يعمل بنحو يجمع بين
نظر الأغلب والأقل (حسب الموضوعات والمسائل).
فعلى هذه النظرية تكون الشورى أساسا للحكومة وسلطاتها ومبدءا لجعل القوانين
ومبنى لأخذ القرار وتنفيذها وإدارة الأمور - م -.
228

2 - مواصفات المشير وحق المستشير عليه:
ففيها روايات:
1 - عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال علي (عليه السلام): " شاور في حديثك الذين يخافون
الله " (1).
2 - وعنه أيضا قال: " ما يمنع أحدكم إذا ورد عليه ما لا قبل له به أن يستشير
رجلا عاقلا له دين وورع، ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): اما إنه إذا فعل ذلك لم يخذله الله
بل يرفعه الله ورماه بخير الأمور وأقربها إلى الله " (2).

(1) الوسائل: 8، 426.
(2) الوسائل: 8، 426.
229

3 - عن الإمام علي (عليه السلام): " خير من شاورت ذووا النهى والعلم وأولوا
التجارب والحزم " (1).
4 - وعنه (عليه السلام) في كتاب إلى ابنه الحسن (عليه السلام): " إياك ومشاورة النساء، فإن
رأيهن (2) إلى أفن وعزمهن إلى وهن " (3).
5 - عن علي بن الحسين (عليهما السلام): " وأما حق المستشير فإن حضرك له وجه
رأي جهدت له من النصيحة وأشرت عليه بما تعلم إنك لو كنت مكانه عملت
به... " (4).
6 - عن أبي عبد الله (عليه السلام): " من استشار أخاه فلم يمحضه (ينصحه) محض
الرأي سلبه الله عز وجل رأيه " (5).

(1) الغرر والدرر: 3، 428.
(2) لا يستفاد من الخبر أن رأي جميع النساء في جميع الأعصار وفي جميع الأمور إلى أفن
فإن ذلك خلاف الواقع، بل نستظهر منه أن الحكم دائر مدار العلة، فمن كان رأيه إلى أفن لا
تجوز المشاورة معه سواء كان من الرجال أو من النساء - م -.
(3) نهج البلاغة، عبده: 3، 63؛ صالح: 405، الكتاب 31.
(4) تحف العقول: 269.
(5) سفينة البحار: 1، 718؛ والوسائل: 8، 427.
230

الفصل الثالث
في مسؤولية الحاكم وعماله
اعلم أن المستفاد من الآيات والروايات التي مرت في بيان وظائف
الحاكم، وكذلك من سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) هو أن الإمام والحاكم في
الحكومة الإسلامية مكلف بحفظ كيان المسلمين وتدبير أمورهم وإصلاح شؤونهم
على أساس ضوابط الإسلام ومقرراته فهو مسؤول عما كلف به وليس له سلب
المسؤولية عن نفسه (1).
ففي خبر عبد الله بن عمر، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: " كلكم راع،
وكلكم مسؤول عن رعيته: الإمام راع ومسؤول عن رعيته... " (2).
وفي كتاب للإمام علي (عليه السلام) إلى عبد الله بن عباس عامله على البصرة: " فأربع
أبا العباس - رحمك الله - فيما جرى على لسانك ويدك من خير وشر؛ فإنا

(1) لا يخفى أنه بناءا على ما اختاره الأستاذ - دام ظله - في تحقق الولاية للفقيه بانتخاب
الناس وبيعتهم، يكون الحاكم مسؤولا تجاه الناس أيضا فلهم السؤال عما كلفوه به في عقد
البيعة. بل قد يجب عليهم السؤال - م -.
(2) صحيح البخاري: 1، 160.
231

شريكان في ذلك... " (1).
ولكن إذا اتسعت حيطة ملكه والاحتياجات والتكاليف المتوجهة إليه،
احتاج قهرا إلى تكثير المشاورين والأيادي والعمال في شتى الدوائر المختلفة،
ولا محالة يفوض كل أمر إلى فرد متخصص بعنوان الوزير، والكاتب، والجندي
والقاضي، فهم مسؤولون عما فوض إليهم من الأمر. ويجب على الحاكم الإشراف
عليهم وتفقد أعمالهم.
ففي كتاب الإمام علي (عليه السلام) لمالك بعد ذكر العمال وانتخابهم قال: " ثم تفقد
أعمالهم، وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم، فان تعاهدك في السر
لأمورهم، حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية وتحفظ من
الأعوان... " (2).

(1) نهج البلاغة، عبده: 3، 21، صالح: 376، الكتاب 18.
(2) نهج البلاغة، عبده: 3، 106؛ صالح: 435، الكتاب 53.
232

الفصل الرابع
في بيان إجمالي لأنواع السلطات والدوائر
في الحكومة الإسلامية
أصول السلطات في الحكومة ثلاثة: التشريعية والتنفيذية والقضائية، إذ
تدبير أمور الأمة يتوقف:
أولا: على ترسيم الخطوط الكلية وتعيين المقررات.
وثانيا: على إجراء المقررات والخطوط المعينة في شتى الأمور الواجبة
على الحكومة.
وثالثا: على فصل خصومات الأمة والقضاء بينهم في المنازعات.
فإلى هذه السلطات الثلاث يرجع جميع تكاليف الحاكم في نطاق حكومته.
وإنما عد القضاء سلطة مستقلة لأن شأنه شأن الحكم لا التنفيذ والاجراء، ولأن
المقصود عموم سلطته حتى بالنسبة إلى أعضاء سلطة التنفيذ والتشريع أيضا (1).

(1) لم يذكر الأستاذ شمول سلطة القضاء بالنسبة إلى الحاكم مع أنه لا فرق بينه وبين غيره، فإنه
غير معصوم وغير المعصوم محل الخطأ والعصيان - م -.
233

الأولى: السلطة التشريعية:
وفيها جهات من البحث:
1 - في بيان الحاجة إليها وحدودها وتكاليفها:
قد اصطلح على هذه السلطة في عصرنا مجلس الشورى والقوة المقننة.
والحاجة إليها مع فرض اتساع نطاق الملك وكثرة الحوادث الواقعة والحاجة إلى
ترسيم المخططات الكثيرة في غاية الوضوح.
ولما كان الأساس في الحكومة الإسلامية هو ضوابط الإسلام وأحكام الله
- تعالى - النازلة على رسوله الأكرم (صلى الله عليه وآله) في شتى المسائل المرتبطة بالحياة
بشؤونها المختلفة، لا يحق لأحد وإن بلغ ما بلغ من العلم والثقافة والقدرة أن يشرع
حكما أو يبدع قانونا بارتجال.
قال الله - تعالى - مخاطبا لنبيه: (وان احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع
أهوائهم، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك... أفحكم الجاهلية
يبغون...) (1).
وقسمنا الأحكام إلى أحكام إلهية كان الرسول واسطة لإبلاغها، وإلى أحكام
سلطانية مولوية صدرت عنه بما أنه كان ولي أمر المسلمين وحاكمهم. والظاهر أن
القسم الثاني كان أحكاما عادلة موسمية من قبيل الصغريات والمصاديق للأحكام
الكلية الشاملة النازلة من قبل الله - تعالى -، حتى ما ربما نسميها بالأحكام الثانوية
أيضا مستفادة من كبريات كلية أنزلها الله - تعالى - على نبيه.
فللحكم الشرعي ثلاث مراحل:
الأولى: مرحلة التشريع. وهو حق لله - تعالى - الذي يملك البلاد والعباد،

(1) المائدة 5: 49 و 50.
234

ويطلع على مصالحهم ومفاسدهم ومضارهم ومنافعهم، ولا يشركه في ذلك أحد
من خلقه.
الثانية: مرحلة استنباط الأحكام واستخراجها من منابعها الصحيحة،
والافتاء بها. ومرجعها الفقهاء العدول.
الثالثة: مرحلة ترسيم الخطوط الكلية والبرامج الصحيحة للبلاد
والمسؤولين على ضوء الفتاوى المستخرجة (1) من قبل الفقهاء. لا بتطبيق قوانين
الإسلام كيف ما كان على المشاكل وأهواء الأمة، بل بتطبيق المشاكل والحوادث
الواقعة على قوانين الإسلام بواقعيتها وقداستها. وهذا عمل مجلس الشورى في
الحكومة الإسلامية، وليس له التقنين والتشريع بارتجال أو على حسب أهواء
الأمة.
ولا يلزم من ذلك ضيق المجال أو انسداد الطرق في بعض الأحيان، إذ
الإسلام بجامعيته قد التفت إلى جميع جوانب الحياة وحاجاتها، وجميع الظروف
والحالات حتى موارد الضرر والضرورة، والعسر والحرج، وتزاحم الموضوعات
والملاكات ونحو ذلك.
2 - انتخاب النواب لمجلس الشورى:
قد عرفت أن المسؤول والمكلف هو الحاكم وهذا يقتضي (2) أن يكون

(1) الأحكام والفتاوى المستخرجة من المنابع الصحيحة إذا كانت شاملة للمسائل الحادثة في
أرضيات مختلفة من الثقافة والاقتصاد والسياسة وغيرها كانت صالحة لأن تكون مبنى
التقنين في هذه المرحلة، وعلى هذا فالاجتهاد لابد وأن يكون متطورا حسب الظروف
المكانية والزمانية وناظرا إلى ما يحتاج إليه الناس في تلك الظروف - م -.
(2) هذا الاقتضاء ممنوع إلا على نظرية النصب المردود عند الأستاذ، أو على نظرية النخب إذا
فوض الناس انتخاب النواب إلى الحاكم، ولكن التفويض بهذا النحو ينجر غالبا إلى الانفراد
بالسلطة والديكتاتورية والفساد - م -.
235

انتخاب أعضاء مجلس الشورى بيده وباختياره، لينتخب من يساعده في العمل
بتكاليفه.
ولكن لما كان الأمر، أمر الأمة والغرض من مجلس الشورى التشاور في
الأمور العامة المتعلقة بالأمة والتكليف تكليفها فالتصميم واتخاذ القرار فيها أيضا
يناسب أن يكون من قبل ممثلي الأمة وتكون السلطة التشريعية منبعثة عن إرادتها
واختيارها كاختيار نفس الوالي عند عدم النص، فيشترط عليه حين انتخابه، كون
انتخاب فريق الشورى بيد الأمة لا بيده.
ثم إن اتفاق الآراء في مجلس الشورى مما لا يحصل غالبا، فلا محالة
يكون الاعتبار بآراء الأكثرية كما هو المتعارف. والإشكال في ذلك بلزوم سحق
حقوق الأقلية وضياع حقوق الغيب، يظهر الجواب عنه بما مر.
3 - مواصفات الناخبين والمنتخبين:
لا إشكال في أن الناخب يعتبر فيه البلوغ والعقل والرشد الفكري (1) بحيث
يقدر على تشخيص من يكون أصلح لتحمل هذه المسؤولية الخطيرة المتعلقة
بمصالح الأمة.
واللازم في المنتخب أن يكون بالغا عاقلا متدينا ورعا عالما بزمانه مطلعا
على حاجات الأمة شجاعا قادرا على أخذ التصميم والقرار.
وقد مر في الفصل الثاني أخبار مستفيضة تدل على مواصفات من يستشار.
وسيأتي في هذا الفصل شرائط الوزراء والعمال. وكأن النائب في مجلس الشورى

(1) المعيار في سن الناخب هو الرشد الفكري الذي يتغير بحسب مستوى ثقافة المجتمع،
فيمكن أن يكون خمس عشرة سنة أو أزيد للشباب من الأبناء والبنات - م -.
236

مشاور وعامل، فيعتبر فيه مواصفات كليهما.
4 - منابع الحكم الإسلامي ومصادره:
قد مر أن أساس الحكومة الإسلامية هو قوانين الإسلام ومقرراته في شتى
مسائل الحياة، وأن منابعها ومصادرها هي الكتاب العزيز، والسنة القويمة
بأقسامها من قول النبي (صلى الله عليه وآله) وفعله وتقريره الثابتة بطريق صحيح معتبر، وحكم
العقل القطعي الخالي عن شوائب الأوهام والتعصبات، كالحسن والقبح العقليين
وكالملازمات العقلية القطعية، وهذه الثلاثة مما اتفق عليها الشيعة والسنة. وفي
خبر هشام بن الحكم، عن موسى بن جعفر (عليهما السلام): " يا هشام إن لله على الناس
حجتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة (عليهم السلام)،
وأما الباطنة فالعقول " (1).
نعم هنا أمور اختلف في حجيتها الفريقان:
الأول - الإجماع:
فعلماء السنة يعتبرون إجماع الفقهاء بما هو إجماع، حجة مستقلة. وأهم ما
يستندون به، ما رووه عن النبي (صلى الله عليه وآله) من قوله: " لا تجتمع أمتي على ضلالة أو
خطأ " (2).
وأما علماء الشيعة الإمامية فيقولون: لا موضوعية للإجماع بما هو إجماع
واتفاق عندنا.
نعم، لو اتفقت الأمة على قول بحيث لا يشذ منها أحد فلا محالة يكون
الإمام المعصوم من العترة الطاهرة داخلا فيها، فيكون حجة لذلك. كما أنه كذلك لو

(1) الكافي: 1، 16.
(2) سنن ابن ماجة: 2، 1303.
237

كانت كثرة القائل في المسألة بحيث يحدس منها تلقي المسألة عن النبي (صلى الله عليه وآله) أو عن
الإمام المعصوم (عليه السلام) حدسا قطعيا، فيكون الإجماع كاشفا عن الحجة. والرواية لم
تثبت عندنا بسند يعتمد عليه.
نعم في تحف العقول عن الإمام الهادي (عليه السلام) قال: " وقد اجتمعت الأمة قاطبة
لا اختلاف بينهم أن القرآن حق لا ريب فيه عند جميع أهل الفرق، وفي حال
اجتماعهم مقرون بتصديق الكتاب وتحقيقه، مصيبون مهتدون، وذلك بقول رسول
الله (صلى الله عليه وآله): " لا تجتمع أمتي على ضلالة " فأخبر أن جميع ما اجتمعت عليه الأمة كلها
حق " (1).
وعلى فرض صحة الحديث فظاهره اطباق جميع الأمة ومنهم الشيعة
الإمامية بأئمتهم الاثني عشر، وقد مر ان اتفاق جمع يوجد فيه الإمام المعصوم
حجة عندنا بلا إشكال.
الثاني - القياس والاستحسانات الظنية:
فأكثر علماء السنة يعتمدون عليهما، حيث إنهم تركوا التمسك بأقوال العترة
ولم يتمكنوا من استنباط الفروع المبتلى بها من الكتاب والسنة النبوية الواصلة
إليهم، فلجؤوا إلى الآراء والاستحسانات، ولكن أخبار أهل البيت (عليهم السلام) والروايات
الحاكية لسيرتهم مليئة بالمعارف والأحكام والآداب، بحيث تشفي العليل.
وقد استفاضت بل تواترت أخبارنا على عدم حجية القياس والآراء الظنية،
فراجع (2).
منها: ما رواه في الوسائل بسند صحيح، عن أبان بن تغلب، عن أبي

(1) تحف العقول: 458.
(2) الوسائل: 18، 20، مستدرك الوسائل: 3، 175.
238

عبد الله (عليه السلام) قال: " إن السنة لا تقاس، ألا ترى أن المرأة تقضي صومها ولا تقضي
صلاتها، يا أبان إن السنة إذا قيست محق الدين " (1).
وعن عوف بن مالك الأشجعي، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " تفترق أمتي على
بضع وسبعين فرقة، أعظمها فتنة قوم يقيسون الدين برأيهم؛ يحرمون به ما أحل الله
ويحلون ما حرم الله " (2).
الثالث - أقوال العترة الطاهرة:
الشيعة الإمامية يعدون أقوال الأئمة الاثني عشر من العترة وكذا أفعالهم
وتقريرهم حجة، لعصمتهم عندنا، ولأنهم عترة النبي (صلى الله عليه وآله) وقد عد النبي (صلى الله عليه وآله) عترته
عدلا للكتاب العزيز في خبر الثقلين المتواتر بين الفريقين. وقد تعرض له أكثر
أرباب الصحاح والسنن والمسانيد، فراجع.
ومن ذلك ما رواه الترمذي بسنده، عن زيد بن أرقم، قال: قال رسول
الله (صلى الله عليه وآله): " إني تارك فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من
الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي. ولن
يتفرقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما " (3). ودلالة الخبر
على حجية أقوال العترة ظاهرة لايجاب التمسك بهم وبالكتاب العزيز.
5 - الاستنباط والاجتهاد:
" الاستنباط: الاستخراج. واستنبط الفقيه: إذا استخرج الفقه الباطن

(1) الوسائل: 18، 25.
(2) إعلام الموقعين: 1، 53.
(3) سنن الترمذي: 5، 328.
239

باجتهاده وفهمه. قال الله - عز وجل -: (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) " (1).
وأما الاجتهاد بمعنى إفراغ الوسع والطاقة في استنباط الأحكام من أدلتها
الشرعية من الكتاب والسنة والعقل القطعي، فهو أمر واجب ضروري لا منع فيه
وليس لأحد إنكاره.
وعن أبي عبد الله (عليه السلام): " إنما علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن
تفرعوا " (2).
وعن الرضا (عليه السلام): " علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع " (3).
والروايات الواردة في الإرجاع إلى الكتاب والسنة في غاية الكثرة.
6 - التخطئة والتصويب:
لا يخفى إن المسائل الدينية على قسمين: فقسم منها مسائل أصلية
ضرورية أجمع عليها جميع فرق المسلمين بلا خلاف فيها ودل عليها نص الكتاب
العزيز أو السنة المتواترة القطعية أو العقل السليم، ولا مجال فيها للاجتهاد
والاستنباط.
والقسم الآخر فروع اجتهادية استنباطية تحتاج إلى إعمال الاجتهاد
والنظر، فلا محالة قد يقع فيها الخلاف والاختلاف في الدرك أو المدرك. وفي هذا
القسم قد وقع البحث في أن الآراء المستنبطة المختلفة كلها حق وصواب، أو أن
الحق واحد منها والباقون مخطؤون وإن كانوا معذورين؟
فاتفق أصحابنا الإمامية على أن لله - تعالى - في كل واقعة خاصة حكما
واحدا يشترك فيه الجميع. وجميع المسلمين مأمورون أولا وبالذات بالعمل به،

(1) لسان العرب: 7، 410.
(2) الوسائل: 18، 41.
(3) الوسائل: 18، 41.
240

وإنما تكون آراء الفقهاء والمجتهدين طرقا محضة قد تصيب الواقع وقد تخطئه،
وليس الحكم الواقعي تابعا لمفاد الطريق، مجعولا على وفقه كيفما كان، هذا ما
عليه أصحابنا الإمامية، ويسمون بذلك مخطئة.
وأما علماء السنة ففيهم خلاف: بعضهم مخطئة وبعض منهم مصوبة.
قال الإمام الغزالي: " الذي ذهب إليه محققوا المصوبة أنه ليس في الواقعة
التي لا نص فيها، حكم معين يطلب بالظن، بل الحكم يتبع الظن. وحكم الله على
كل مجتهد ما غلب على ظنه، وهو المختار، إليه ذهب القاضي " (1).
وقال ابن حزم الأندلسي: "... ومن ادعى أن الأقوال كلها حق وأن كل
مجتهد مصيب، فقد قال قولا لم يأت به قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا معقول، وما
كان هكذا فهو باطل " (2).
ويدل على التخطئة - مضافا إلى وضوحها، فإن الاجتهاد في الحكم
واستنباطه متفرع على وجوده واقعا في الرتبة السابقة، فلا يعقل كونه تابعا له - ما
في نهج البلاغة: " ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها
برأيه، ثم ترد بذلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلافه، ثم يجتمع القضاة
بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوب آرائهم جميعا، وإلههم واحد ونبيهم
واحد، وكتابهم واحد... " (3).
وما عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: " إن الوالي إذا اجتهد فأصاب الحق فله أجران،
وإن اجتهد فأخطأ الحق فله أجر واحد " (4).

(1) المستصفى: 2، 363.
(2) المحلى لابن حزم: 1، 70.
(3) نهج البلاغة، عبده: 1، 50، صالح: 60، الخطبة 18.
(4) كنز العمال: 5، 630.
241

7 - انفتاح باب الاجتهاد المطلق:
قد ظهر أن منابع أحكام الله - تعالى - هي الكتاب العزيز، والسنة القويمة،
والعقل القطعي. فيجب أولا وبالذات الرجوع إلى هذه المنابع وأخذ الأحكام منها.
فمن كان قادرا على الرجوع إليها والاستنباط منها عمل على وفق ما
استنبط. وعلى هذا فليس لمجتهد خاص وفقيه مخصوص خصوصية. وقد كثر
الفقهاء من الشيعة وكذا من السنة في جميع الأعصار. ولكن العامة لما رأوا تشتت
المذاهب في الفروع استقرت آراء علمائهم وحكامهم في النهاية على حصر
المذاهب في المذاهب الأربعة الدارجة لهم فعلا، أعني مذاهب أبي حنيفة، ومالك،
والشافعي، وأحمد بن حنبل.
وقد تقدم الفقهاء الأربعة وتأخر عنهم فقهاء كثيرون ويوجدون في أعصارنا
أيضا، ولم يكن الفقهاء الأربعة معاصرين للنبي (صلى الله عليه وآله) ولا وراث علمه بلا واسطة، بل
تأخروا عنه (صلى الله عليه وآله) بأكثر من قرن، ولم يرد آية ولا رواية على تعين الأربعة، ولا دل
عليه دليل من العقل. فبأي وجه يتعين التقليد منهم، أو الاجتهاد في نطاق مذاهبهم
فقط؟!
وقد سبقهم أساتذتهم، وتقدمهم وعاصرهم أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ولحقهم
فقهاء كثيرون ملكوا علوم القدماء وتجاربهم وأضافوا إليها استنباطات جديدة
ويكونون أعلم بشرائط الزمان وأعرف بحاجاته وخصوصياته.
كان أبو حنيفة يقول: " علمنا هذا رأي لنا وهو أحسن ما قدرنا عليه؛ فمن
جاءنا بأحسن منه فهو الصواب... ".
وكان مالك يقول: " أنا بشر؛ أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فإن وافق
الكتاب والسنة فخذوا به، وما لم يوافقهما فاتركوه ".
242

وكان الشافعي يقول لأتباعه: " لا تقلدوني في كل ما أقول، وانظروا في
ذلك، فإنه دين ".
ويقول الإمام أحمد بن حنبل: " لا تقلدوني، ولا مالكا، ولا الشافعي، ولا
الثوري. وخذوا من حيث أخذوا " (1).
نعم، الأئمة الاثني عشر من العترة الطاهرة (عليهم السلام) لكونهم أهل البيت لهم ميز
بلا ريب. وقد جعلهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) عدلا للكتاب العزيز وقرينا له في حديث
الثقلين المتواتر بطرق الفريقين. وقد مر بيان دلالته على حجية أقوال العترة
الطاهرة.
وفي نهج البلاغة: " هم موضع سره ولجأ أمره وعيبة علمه وموئل حكمه
وكهوف كتبه وجبال دينه... " (2).
وعن أبي ذر، قال: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول: " ألا إن مثل أهل بيتي فيكم مثل
سفينة نوح من قومه؛ من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق " (3).
8 - التقليد وأدلته (4):
قد استقرت سيرة العقلاء في جميع الأعصار والأمصار من جميع الأمم
والمذاهب على رجوع الجاهل في كل فن إلى العالم الخبير المتخصص فيه إذا كان

(1) نظم الحكم والإدارة في الشريعة الإسلامية: 35.
(2) نهج البلاغة، عبده: 1، 24؛ صالح: 47، الخطبة 2.
(3) مستدرك الحاكم: 3، 151.
(4) التقليد إن كان هو الرجوع إلى العالم الخبير والعمل بقوله من دون مطالبة الدليل منه فيمكن
أن يكون مع حصول العلم أو الوثوق من قوله، وهذا ما استقرت عليه سيرة العقلاء ولا بأس
بأن يسمى تقليدا عند الأستاذ.
ويمكن أن يكون بدون حصول العلم ويسمى ذلك التقليد التعبدي وقد أقام له الأستاذ
أدلة تحت عنوان حجية فتوى الفقيه وناقش فيها - م -.
243

ثقة، وقد يعبر عنه بأهل الخبرة. فالمريض يرجع إلى الطبيب الحاذق الثقة ويعمل
برأيه، وهكذا في سائر الأمور التخصصية فهذا أمر فطري ضروري لا محيص عنه،
فالمجتهد المتخصص يعرف حكم الواقعة بنحو التفصيل، ومن لم يبلغ مرتبة
الاجتهاد فلا محالة أما أن يحتاط في العمل مع الإمكان، أو يرجع إليه ويكسب
العلم أو الوثوق بالحكم إجمالا منه ويعمل بما حصل له من العلم أو الوثوق.
والأحوط بل الأقوى في المسائل الخلافية رعاية الأعلمية، على ما يقتضيه
ارتكاز العقلاء وسيرتهم.
فليس بناء العقلاء في الرجوع إلى الخبراء مبنيا على التعبد، ولا على
الاضطرار إلى العمل بالتقليد والظن، ولا على اعتماد كل فرد في عمله على سائر
العقلاء وبنائهم، بل على اعتماد كل فرد في عمله على الإدراك الحاصل في ضميره
برجوعه إلى الخبير الثقة، وهو علم عادي تسكن به النفس، والعلم حجة عند
العقل، فيرجع بناء العقلاء إلى حكم العقل.
والعقلاء لا يتقيدون في نظامهم بالعلم التفصيلي المستند إلى الدليل في
جميع المسائل، بل يكتفون بالعلم الإجمالي، كما لا يتقيدون بما لا يحتمل فيه
خلاف أصلا، بل يكتفون بالعلم العادي، أي ما يكون احتمال الخلاف فيه ضعيفا
جدا، وليس في هذا تعبد أصلا لعدم التعبد في عمل العقلاء بما هم عقلاء.
فإذا فرض أنه في مورد خاص لم يحصل لهم الوثوق الشخصي بقول خبير،
فإن لم يكن الموضوع مهما وجاز فيه التسامح أمكن العمل رجاء. وأما إذا كان
الموضوع من الأمور التي لا يتسامح فيها كالمريض الدائر أمره بين الحياة
والموت مثلا فلا محالة يحتاطون حينئذ إن أمكن، أو يرجعون فيه إلى خبير آخر،
أو شورى طبية مثلا.
244

فإن قلت: سيرة العقلاء في مقام الاحتجاج مبني على الاحتجاج بقول
الخبير الثقة مطلقا وإن لم يحصل الوثوق الشخصي.
قلت: لا نسلم الفرق بين المقامين، ولا يسمع اعتذار من لم يحصل لشخصه
الوثوق وفاتت المصلحة بأنه عمل بقول الثقة.
والتقليد المذموم في الكتاب العزيز هو تقليد الجاهل لجاهل مثله أو لفاسق
غير مؤتمن، لا رجوع الجاهل في كل فن إلى العالم الخبير الثقة.
والإشكال في السيرة بأنها إنما تفيد إذا اتصلت بعصر الأئمة (عليهم السلام) ولم يردعوا
عنها، والاجتهاد بنحو يوجد في أعصارنا من إعمال الدقة واستنباط الفروع من
الأصول الكلية لم يعهد وجوده في تلك الأعصار، مدفوع؛ إذ التفريع على الأصول
وكذا مقايسة الأخبار المتعارضة واعمال الترجيح واستفتاء الجاهل من العالم
الخبير الثقة للعمل به كان متعارفا في عصر النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام).
حجية فتوى الفقيه:
استدلوا على حجية فتوى الفقيه والتقليد عنه تعبدا ببعض الآيات
والروايات، فمن الآيات:
1 - قوله - تعالى -: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا
أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) (1). بتقريب أن وجوب السؤال يستلزم وجوب
القبول وترتيب الأثر عليه وإلا وقع لغوا، وإذا وجب قبول الجواب وجب قبول كل
ما يصح أن يسأل عنه، إذ لا خصوصية لسبق السؤال.
ولكن الظاهر من هذه الآية أن الجاهل يجب عليه السؤال حتى يحصل له

(1) النحل 16: 43.
245

العلم ولو بنحو الإجمال، فلا ترتبط بباب التقليد التعبدي.
هذا مضافا إلى أن الآية في مقام بيان وجوب السؤال، لا وجوب العمل بما
أجيب، حتى يتمسك بإطلاقه لصورة عدم حصول الوثوق والعلم أيضا، ويكفي في
عدم لغوية السؤال ترتب فائدة ما عليه، وهو العمل بالجواب مع الوثوق.
2 - قوله - تعالى -: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين
ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) (1). بتقريب أن الظاهر بمقتضى
كلمة " لولا " وجوب النفر فتجب التفقه والانذار ببيان الأحكام الشرعية وحذر
القوم، وإذا وجب بيان الأحكام وجب ترتيب الأثر، وإلا وقع لغوا.
ولكن محط النظر فيها هو بيان وجوب التفقه في العلوم الدينية ثم نشرها
ليتعلم غير النافرين، وليست في مقام جعل الحجية التعبدية لقول الفقيه مطلقا حتى
يتمسك بإطلاقه لصورة عدم حصول العلم أيضا.
وأما العمدة من الروايات:
1 - ما في توقيع صاحب الزمان (عج): " وأما الحوادث الواقعة فارجعوا
فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم " (2).
والظاهر أن المراد بالرواة في الحديث، هم الفقهاء وهم بجعله (عليه السلام) صاروا
حجة علينا، وإطلاقه يقتضي جواز الرجوع إليهم والأخذ بقولهم سواء حصل العلم
من قولهم أم لا.
2 - ما في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (عليه السلام): " فأما من كان من
الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا على هواه، مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن

(1) التوبة 9: 122.
(2) كمال الدين: 483 والوسائل: 18، 101.
246

يقلدوه، وذلك لا يكون إلا بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم " (1).
وإطلاق الرواية يدل على حجية قول الفقيه الواجد للشرائط مطلقا، حصل
الوثوق من قوله أم لا. ولعل عدم إيجاب التقليد من جهة التخيير بينه وبين
الاحتياط.
هذا ولكن الروايتين ضعيفتان، وإثبات الحجية لقول الفقيه الثقة مطلقا وإن
لم يحصل العلم، بمثلهما مشكل. وتمسكوا بروايات أخرى نظير:
1 - ما عن علي بن المسيب الهمداني، قال: قلت للرضا (عليه السلام): " شقتي بعيدة
ولست أصل إليك في كل وقت، فممن آخذ معالم ديني؟ قال: " من زكريا بن آدم
القمي المأمون على الدين والدنيا ". قال علي بن المسيب: فلما انصرفت قدمنا
على زكريا بن آدم فسألته عما احتجت إليه " (2).
2 - ما عن سليمان بن خالد، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " ما أجد أحدا
أحيا ذكرنا وأحاديث أبي (عليه السلام) إلا زرارة وأبو بصير ليث المرادي، ومحمد بن مسلم،
وبريد بن معاوية العجلي. ولولا هؤلاء ما كان أحد يستنبط هذا. هؤلاء حفاظ
الدين وأمناء أبي على حلال الله وحرامه... " (3).
والظاهر أن مثل هذين الحديثين ليس في مقام جعل الحجية التعبدية لخبر
الثقة أو فتواه، بل مفادهما إمضاء السيرة المستمرة وبيان المصداق لموضوعهما.
3 - ما عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنه قال لأبان بن تغلب: " اجلس في مجلس
المدينة وأفت الناس فإني أحب أن يرى في شيعتي مثلك " (4).

(1) الوسائل: 18، 95.
(2) الوسائل: 18، 106.
(3) الوسائل: 18، 104.
(4) الفهرست للطوسي: 17.
247

4 - ما عن أبي عبيدة، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): " من أفتى الناس بغير علم ولا
هدى من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ولحقه وزر من عمل بفتياه " (1).
وغير ذلك من الأخبار التي دل على الترغيب في الافتاء، أو جوازه أو
تقريره، فلا يدل على وجوب القبول والتعبد به مطلقا، بل لعل الواجب هو العمل
بالفتوى بعد حصول الوثوق بمطابقته للواقع كما عليه السيرة.

(1) الوسائل: 18، 9.
248

الثانية: السلطة التنفيذية:
1 - المراد منها والحاجة إليها ومراتبها:
المراد بهذه السلطة هم الوزراء والأمراء والمدراء والعمال والضباط
والكتاب في الشؤون المختلفة والدوائر المتفرقة في البلاد والنواحي. وأهمها
وأعلى مراتبها في أعصارنا هي الوزارة. فمهمة السلطة التنفيذية بمراتبها من
الوزارة وغيرها، تنفيذ القوانين والتصميمات المتخذة من قبل السلطة التشريعية
في شتى مسائل الحياة. والاحتياج إليها واضح، فإن القانون مهما كان صالحا راقيا
فهو بنفسه لا يكفي في إصلاح شؤون المجتمع ورفع حاجاته العامة. ولا يمكن أن
يفوض تنفيذ التكاليف العامة المتعلقة بالمجتمع، مثل الدفاع عنها إلى عامة
المجتمع؛ فإنه يوجب إهمال كثير من الأمور والفوضى والاختلاف، فلابد من أن
يفوض كل قسمة منها إلى مسؤول خاص يكون متخصصا فيها ويصير ملتزما
بإجرائها.
ولا تتحدد السلطة التنفيذية بشكل خاص أو عدد خاص أو مرتبة خاصة.
بل كلما اتسع نطاق الملك وتشعبت مسائل الحياة واحتياجاتها تشعبت الدوائر
مثل وزارة الدفاع، ودائرة إيجاد الأمن في السبل والبلاد، ودائرة التعليم والتربية،
ودائرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والوزارة المالية والوزارة الخارجية
ونحوها، وكثر العمال قهرا.
نعم، تجب رعاية القصد فيها والاحتراز عن الإفراط والتفريط. فإن كثرة
العمال والموظفين توجب كثرة الدوائر وتفرقها وتضييع أوقات المراجعين ووضع
ضرائب كثيرة على عاتق المجتمع. وكل ذلك خسارة.
249

وقد كانت الحكومة في عصر النبي (صلى الله عليه وآله) في غاية السذاجة والبساطة فكان
هو (صلى الله عليه وآله) بنفسه يتولى قسما كبيرا من الشؤون السياسية والقضائية والاقتصادية
والعسكرية.
نعم، كان يفوض بعض التكاليف والمسؤوليات أيضا إلى الأفراد الصالحين
للقيام بها حسب الضرورة والحاجة، فكان يعين الولاة على البلاد، والجباة على
الصدقات، والأمراء للسرايا وفي بعض الغزوات، ومن يستخلفه حينما خرج من
المدينة، ومن بعثه للدعوة إلى الإسلام أو تعليم الناس. ويرسم لهم تكاليفهم
ومنهجهم مما ضبطتها التواريخ.
وكذلك نشاهد البساطة فيما بعده في خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) أيضا مع سعة
نطاق الملك وكثرة البلاد. فالمهم هو إنجاح الطلبات ورفع الحاجات والعمل
بالتكاليف بأسهل الطرق وفي أسرع الأوقات والأزمان بأقل المؤونات.
وبذلك يستقر الملك ويكتسب رضا الأمة الذي يكون ضمانة لبقاء الدولة
والأمن.
قال الإمام علي (عليه السلام) في كتابه للأشتر النخعي: " وليكن أحب الأمور إليك
أوسطها في الحق وأعمها في العدل واجمعها لرضا الرعية... " (1).
2 - مصدر السلطة التنفيذية:
لا يخفى أن الوزراء والعمال بأصنافهم ومراتبهم إما أن ينتخبوا من قبل
الإمام والوالي الأعظم، أو من قبل مجلس الشورى، أو من قبل الأمة مباشرة، أو
بالتبعيض فتنتخب بعض المراتب من قبل الأمة بالمباشرة وبعضها من قبل الوالي
أو المجلس، كما هو المتعارف في بعض البلاد. ولا محالة ينتهي جميع ذلك إلى

(1) نهج البلاغة، عبده: 3، 95، صالح: 429، الكتاب 53.
250

انتخاب الأمة قهرا إذا فرض كون انتخاب الوالي وكذا المجلس من قبلها.
ويكون انتخاب سائر العمال من شؤون الوزراء على حسب أعمالهم
ومسؤولياتهم. ولا ضير في ذلك بعد تشريعه في مجلس الخبراء ورعاية الشرائط
المعتبرة عقلا وشرعا.
3 - مواصفات الوزراء والعمال والأمراء بمراتبهم:
العقل والشرع يحكمان باعتبار شروط ومواصفات في الولاة والوزراء
والعمال تجب رعايتها وإعمال الدقة في تحقيقها، ويكون إهمالها خيانة بالإسلام
والأمة.
وعمدتها: العقل الوافي والايمان والتخصص والتجربة والقدرة على
التصميم والعمل والوثاقة والأمانة وأن لا يكون من أهل الحرص والطمع.
وقد مر بيان حكم العقل، والآيات والروايات الدالة على اعتبار شروط في
الولاة في الباب الرابع. ولعله يستفاد من كثير منها أدلة المقام أيضا، فلنذكر هنا أدلة
في خصوص الوزراء والأمراء:
1 - في نهج البلاغة في كتابه (عليه السلام) لمالك الأشتر: " إن شر وزرائك من كان
للأشرار قبلك وزيرا، ومن شركهم في الآثام، فلا يكونن لك بطانة فإنهم أعوان
الأثمة واخوان الظلمة... فول من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله
ولإمامك، وأنقاهم جيبا، وأفضلهم حلما... ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم
اختبارا ولا تولهم محاباة واثرة، فإنهم (فإنهما) جماع من شعب الجور والخيانة...
ثم انظر في حال كتابك، فول على أمورك خيرهم... " (1).
2 - قوله: " آفة الوزراء خبث السريرة " (2).

(1) نهج البلاغة عبده: 3، 97، صالح: 430، الكتاب 53.
(2) الغرر والدرر: 3، 102.
251

3 - قوله: " إذا ملك الأراذل هلك الأفاضل " (1).
4 - قوله: " تولى الأراذل والأحداث الدول دليل انحلالها وإدبارها " (2).
5 - قوله: " حسن التدبير وتجنب التبذير من حسن السياسة " (3).
6 - قوله: " خير السياسات العدل " (4).
7 - قوله: " خور السلطان أشد على الرعية من جور السلطان " (5).
8 - قوله: " فقدان الرؤساء أهون من رياسة السفل " (6).
9 - قوله: " ليكن أبغض الناس إليك وأبعدهم منك أطلبهم لمعايب
الناس " (7).
10 - عن ابن عباس، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): " من استعمل عاملا من المسلمين
وهو يعلم أن فيهم أولى بذلك منه وأعلم بكتاب الله وسنة نبيه فقد خان الله ورسوله
وجميع المسلمين " (8). إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة التي يستفاد منها ولو
بالالتزام مواصفات الحكام والوزراء والأمراء والعمال وأنه يجب على المسؤولين
رعايتها في انتخابهم. ومع ذلك كله فقد غفل الأكثر في البلاد الإسلامية عن ذلك،
وكم قد وردت وترد من قبل ذلك خسارات على الأمة.

(1) الغرر والدرر: 3، 129.
(2) الغرر والدرر: 3، 295.
(3) الغرر والدرر: 3، 385.
(4) الغرر والدرر: 3، 420.
(5) الغرر والدرر: 3، 442.
(6) الغرر والدرر: 4، 424.
(7) الغرر والدرر: 5، 50.
(8) سنن البيهقي: 10، 118.
252

الثالثة: السلطة القضائية:
1 - الحاجة إليها:
لا يخفى على من راجع تواريخ الأمم والأجيال في العالم أن لأمر القضاء
وفصل الخصومات مكانة خاصة حساسة في جميع الأمم والمجتمعات البشرية.
والسر في ذلك إن عالم الطبيعة عالم التزاحم والتصادم، والإنسان في طبعه مجبول
على الولع والطمع، وقد زين له حب الشهوات من النساء والضياع والأموال، فربما
يستفيد الشخص من قوته وقدرته أو من غفلة غيره استفادة سوء فينزوا على
أموال الناس وحقوقهم.
مضافا إلى أنه قد يشتبه الأمر عليه فيتسلط على مال غيره عن جهل وشبهة،
ويستعقب ذلك التنازع والبغضاء، بل ربما يؤول الأمر إلى القتال وإتلاف النفوس
والأموال. فلا محيص عن وجود سلطة عالمة عادلة نافذة الأمر تصلح بينهم أو
تقضي بينهم بالحق والعدل فيرتفع النزاع ويجد كل ذي حق حقه.
2 - اهتمام الإسلام بالقسط والحق والحكم بهما:
قال الله - تعالى -: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب
والميزان ليقوم الناس بالقسط، وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس) (1).
يظهر من الآية الشريفة أن من الأهداف الأساسية لبعث الرسل وإنزال
الكتب ووضع الموازين المقررة، هو القسط (2).

(1) الحديد 57: 25.
(2) بالتأمل في الآية يظهر لنا أمران مهمان:
1 - إنه لما كان من الأهداف الأساسية لتشريع الأديان هو قيام الناس بالقسط فلابد أن تكون
جهة فهم الأحكام واستنباطها وإجرائها هو القسط. فكل ما يفهم من الإسلام ويعرض باسمه
وهو ينافي هذا الهدف ليس من الإسلام.
2 - إن القسط أمر يفهمه العقل والعقلاء وكان عنصرا معروفا عند العقل مقبولا لديه ولو لم
يكن دين ولا شريعة، فالأمر إليه أمر إرشادي - م -.
253

وقال مخاطبا للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله): (وان حكمت فاحكم بينهم بالقسط، إن الله
يحب المقسطين) (1).
وقال: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس
أن تحكموا بالعدل...) (2).
وقال: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا
عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم عما جاءك من الحق) (3).
وعن الإمام علي (عليه السلام) مخاطبا لزياد عامله على فارس وأعمالها: " استعمل
العدل واحذر العسف والحيف، فإن العسف يعود بالجلاء، والحيف يدعو إلى
السيف " (4).
وعن أبي إبراهيم (عليه السلام) في قول الله - عز وجل -: (يحيي الأرض بعد موتها)
قال: " ليس يحييها بالقطر، ولكن يبعث الله رجالا فيحيون العدل فتحيى الأرض
لإحياء العدل " (5).
وعن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " من حكم في درهمين
بغير ما أنزل الله - عز وجل - فهو كافر بالله العظيم " (6).
وليس معنى العدالة تساوي الأفراد في المواهب والأعمال والمناصب، بل
المراد بها إعطاء كل ذي حق حقه، وتقديم الضوابط والموازين التي شرعها الله

(1) المائدة 5: 42.
(2) النساء 4: 58.
(3) المائدة 5: 48.
(4) نهج البلاغة: عبده 3، 266؛ صالح، 559 الحكمة 476.
(5) الوسائل 18، 308.
(6) الوسائل 18، 18.
254

على أساس الطبائع والقابليات على الأهواء والعلاقات الشخصية.
3 - المساواة أمام القانون: (1)
يتميز الحكم الإسلامي عن غيره بأنه لا يفرق فيه بين أفراد المجتمع

(1) ربما أشكل بأن العدل يقتضي المساواة في نفس قوانين الإسلام بالنسبة إلى كل فرد
وجنس، فالتمايز بين الذكر والأنثى في الإرث والطلاق والدية وكذا بين الكافر الذمي
والمسلم وكذا بين العبد والحر في الدية ونظائره مناف للمساواة والعدل.
وأجيب بما أشير إليه في المتن أيضا بأن معنى العدالة ليس التساوي في كل الجهات، بل
معناها إعطاء كل ذي حق حقه. والتفاوت في الحقوق الناشئ من التفاوت في الاستحقاق لا
ينافي العدالة بل هو عينها. والتفاوت في الاستحقاق يرجع إلى الاختلاف في الطبايع أو
الموضوعات أو الأفعال أو الاكتسابات النفسانية. فطبيعة المرأ غير المرأة، فيستحق المرأ ما
لا تستحقها المرأة بلحاظ طبيعتهما، ومن قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض يستحق
القتل، ومن اكتسب مواصفات اشترطت لتصدي أمر يستحق التصدي، ومن لم يكتسب
فليس له التصدي، وإذا تغير موضوع حكم تغير حكمه.
نعم قد نشاهد حكم الناس باستحقاق فرد لشيء في زمان أو مجتمع وفي زمان آخر أو
مجتمع آخر لضد ذلك الشيء فصار هذا منشاءا للقول بنسبية العدالة أو القيم.
ولكن إذا دققنا حكمهم وتفحصناه وعرضناه على الأصول القطعية الثابتة عند العقول
رأينا خطائهم في الزمان الأول أو في الزمان الثاني أو في كلا الزمانين.
وعلى هذا فلا مجال للقول بنسبية العدالة والقيم والتبعية للآراء والأجواء المتأثرة من
الدعايات الكاذبة أو البواعث غير السليمة. ولا بأس بتغير حكم تغير موضوعه في الظروف
المتغيرة في الزمان والمكان.
ومن طرف آخر يمكن أن يقال: إن كان مراد القائلين بنسبية القيم الأخلاقية نسبية
مفهومها فبطلانه ضروري إذ مفهوم العدالة - أي إعطاء كل ذي حق حقه - لا يتغير بتغير
الظروف قطعا.
وإن كان مرادهم مصاديقها وافرادها الخارجي فهو في بعض الأمور معقول ومقبول إذ
الظروف والأحوال والاستعدادات والقابليات تتغير والحق الناشئ منها تتغير أيضا، فيمكن
أن يكون شئ حقا في زمان وحال ولا يكون حقا في زمان وحال آخرين وأمثلته
كثيرة - م -.
255

وطبقاته في تطبيق القوانين الحقوقية والجزائية عليهم وإخضاعهم لها. فلا فرق فيه
بين القوي والضعيف، والرئيس والمرؤوس، والراعي والرعية، والعربي
والأعجمي، والأسود والأحمر، والغني والفقير، بل والبر والفاجر.
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): " أيها الناس، ألا إن ربكم واحد وان أباكم واحد، ألا لا
فضل لعربي على عجمي ولا عجمي على عربي ولا لأسود على أحمر ولا لأحمر
على أسود إلا بالتقوى " (1).
وعنه أيضا: " لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير
متتعتع " (2).
وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " كان لأم سلمة زوج النبي (صلى الله عليه وآله) أمة فسرقت من قوم،
فأتي بها النبي (صلى الله عليه وآله) فكلمته أم سلمة فيها، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): يا أم سلمة، هذا حد من
حدود الله لا يضيع فقطعها رسول الله (صلى الله عليه وآله) " (3).
وما ورد في شأن المرأة المخزومية التي سرقت وشأنها أهم قريشا فأرسلوا
أسامة عند النبي (صلى الله عليه وآله) للشفاعة فقال (صلى الله عليه وآله): "... وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد
سرقت لقطعت يدها " (4).
وفي كتاب لأمير المؤمنين (عليه السلام) إلى بعض عماله حين اختطف بعض ما كان
عنده من أموال المسلمين: " والله لو أن الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلت
ما كانت لهما عندي هوادة ولا ظفرا مني بإرادة حتى آخذ الحق منهما وأزيل
الباطل عن مظلمتها " (5).
ومن أظهر مظاهر العدل والمساواة أن أمير المؤمنين (عليه السلام) في عصر خلافته

(1) تفسير القرطبي: 16، 342.
(2) نهج البلاغة، عبده: 3، 113، صالح: 439، الكتاب 53.
(3) الوسائل: 18، 332.
(4) صحيح مسلم: 3، 1315.
(5) نهج البلاغة، عبده: 3، 74، صالح: 414، الكتاب 41.
256

وحكومته حضر مجلس القضاء عند شريح القاضي وجلس في جنب يهودي
مخاصم (1).
4 - مصدر السلطة القضائية:
الأصل الأولي يقتضي عدم ثبوت الولاية لأحد على أحد. والقضاء ولاية
ملازمة للتصرف في سلطة الغير، فلا محالة لا يصح القضاء ولا ينفذ إلا من قبل الله
تعالى مالك الجميع أو من ولاه الله أو أجاز له ذلك ولو بالواسطة باسمه وشخصه أو
بعنوان عام:
قال - تعالى -: (إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين) (2).
وقال: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم
الخيرة من أمرهم) (3).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام): " اتقوا الحكومة، فإن الحكومة إنما هي للإمام العالم
بالقضاء العادل في المسلمين، لنبي (كنبي) أو وصي نبي " (4).
وكان من شؤون الأنبياء وتكاليفهم أيضا فصل الخصومات والقضاء بين
الناس بالعدل. والظاهر أن المقصود بالوصي الوارد في الرواية هو الأعم من
الوصاية بلا واسطة أو معها، جعلت لشخص خاص أو لعنوان عام معرف
بالمواصفات؛ فإن حاجة الناس إلى القضاء في كل عصر واضحة، ولا يمكن
تعطيله وإهماله في عصر من الأعصار. فيتعين له الفقيه الجامع للشرائط فإنه القدر
المتيقن.

(1) راجع بحار الأنوار: 41، 56.
(2) الأنعام 6: 57.
(3) الأحزاب 33: 36.
(4) الوسائل: 18، 7.
257

ويستفاد أيضا من مقبولة عمر بن حنظلة ومشهورة أبي خديجة المتقدمتين
- حيث منع الإمام فيهما من الرجوع إلى قضاة الجور وأرجع شيعته إلى من يعرف
أحكامهم (عليهم السلام) -. جعل المنصب من قبل الإمام (عليه السلام) وتفريع جواز التحاكم إلى الفقيه
على جعله (عليه السلام) وأنه لولا نصبه وجعله إياه قاضيا لم يجز الرجوع إليه ولم يكن
قضاؤه شرعيا نافذا (1).

(1) ويرد على الاستدلال بالخبرين على نصب الفقهاء عموما للقضاء - مضافا إلى ضعف
سندهما كما صرح به الأستاذ دام ظله في المتن - أمور:
1 - إن النصب على الفرض يكون من قبيل الحكم الولائي وهو لا يعقل أن يكون دائميا -
كما مر غير مرة - ولا سيما مع النظر إلى وجود أئمة آخرين (عليهم السلام) بعد الإمام الصادق (عليه السلام)، فمع
وجود الإمام المعصوم بعده (عليه السلام) في كل زمان كيف يعقل نصب القاضي من ناحية الصادق (عليه السلام)
لذلك الزمان؟
2 - استلزام النصب العام للهرج والمرج والتشاح ولو في الجملة إذ لكل فقيه التدخل
ابتداء فيما يرتبط بحقوق الله - تعالى - وفي أمر الاقاف والأيتام والمجانين والغيب ونحوها،
وقد يحكم الفقيهان بحكمين مختلفين في موضوع واحد.
3 - إن هذا النحو من النصب للقاضي مخالف لسيرة العقلاء في إعطاء المناصب
والولايات لأهلها فإن نصب القاضي من شؤون الحاكم ويستلزم اختبارا وانتخابا وآدابا،
فكيف ينسب النصب بنحو كلي وعام لجميع الأزمنة والأمكنة من دون اختبار وتحقيق إلى
الإمام الصادق (عليه السلام) وهو أعقل العقلاء؟
واشتراط الفقاهة والعدالة وغيرها فيه لا يغني عن الاختبار إذ العمدة إحراز تلك
الشرائط، فرب فقيه يكون واجدا لها بنظره أو بنظر شخص ولا يكون واجدا لها بنظر غيره أو
شخص آخر فيستلزم الهرج والمرج.
4 - نصب القاضي بحسب العادة هو إعطاء القدرة والولاية له من ناحية واجدها وهو
يستلزم عادة حياة المعطي للقدرة والمعطى له إذ مع عدم حياة أحدهما أو كليهما لا يعقل
إعطاء القدرة والولاية.
5 - وجود الاضطراب في خبر أبي خديجة فان قوله (عليه السلام): اجعلوا بينكم رجلا... " لا
يناسب قوله: فإني جعلته حاكما " فالأول يشعر بالانتخاب والتحكيم والثاني بالنصب. نعم
قوله (عليه السلام) في المقبولة: فليرضوا به حكما... " لا ينافي جعله قاضيا من ناحية الإمام (عليه السلام) إذ
مفاده لزوم الرضا بجعله (عليه السلام).
6 - بناءا على مشروعية القضاء بالتحكيم ولزوم اشتراط الاجتهاد في قاضي التحكيم
كما هو المشهور فلا ريب أن النصب حينئذ لغو فلو كان جميع الفقهاء منصوبين من ناحية
الإمام (عليه السلام) فلا يتصور قاضي التحكيم أصلا إلا في الأزمنة السابقة على النصب وهو كما ترى.
فالخبران بعد عدم إمكان دلالتهما على النصب وبعد الغض عن ضعف سندهما لا يدلان
على أزيد من الاذن والإشارة إلى صلاحية الفقيه العادل للقضاء. وأما فعلية منصب القضاء
وولايته فهو أمر آخر خارج عن مصبهما، قد تتحقق بالتحكيم - كما لعله المراد من مورد
الخبرين - وقد تتحقق بالنصب من ناحية الحاكم الواجد للشرائط - م -.
258

5 - شرائط القاضي ومواصفاته:
قال المحقق: " ويشترط فيه البلوغ وكمال العقل والايمان والعدالة وطهارة
المولد والعلم والذكورة " (1).
وفي مختصر أبي القاسم الخرقي في فقه الحنابلة: " ولا يولى قاض حتى
يكون بالغا عاقلا مسلما حرا عدلا عالما فقيها ورعا " (2).
وقال أبو يعلى الفراء: " لا يجوز تقليد القضاء إلا لمن كملت فيه سبع شرائط:
الذكورية والبلوغ، والعقل، والحرية، والإسلام، والعدالة، والسلامة في السمع
والبصر والعلم " (3).
أقول: أما اعتبار البلوغ والعقل فلقصور الصغير والمجنون وكونهما مولى
عليهما مسلوبي العبارة والأفعال شرعا.

(1) الشرائع: 4، 67.
(2) راجع المغني لابن قدامة: 11، 380.
(3) الأحكام السلطانية: 60.
259

وأما الايمان فإن أريد به ما في قبال الكفر فيدل على اعتباره كل ما دل على
حرمة تولي الكفار، وقوله - تعالى -: (لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين
سبيلا) (1).
وإن أريد بالايمان كونه إماميا فيدل على اعتباره - مضافا إلى أصالة عدم
الانعقاد مع الشك - قوله (عليه السلام): " منكم " في خبر أبي خديجة، وكذا المقبولة. هذا
مضافا إلى أن القاضي في كل مذهب يناسب أن يكون من أنفسهم.
وأما العدالة فيدل على اعتبارها - مضافا إلى الأصل المشار إليه، وإلى
وضوحه - ما عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " اتقوا الحكومة، فإن الحكومة إنما هي
للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين... " (2).
وأما طهارة المولد، وكذا الذكورة فيدل على اعتبارهما ما دل على
اعتبارهما في الوالي فراجع.
وفي اعتبار الحرية، قد مر أن موضوع البحث منتف في أعصارنا.
وأما العلم فيدل على اعتباره إجمالا - مضافا إلى الأصل، وإلى وضوح ذلك
لتوقف القضاء بالحق عليه - خصوص خبر أبي خديجة، وكذا مقبولة عمر بن
حنظلة وخبر سليمان بن خالد المذكور في عدالة القاضي.
وهل تعتبر الأعلمية مع الإمكان أو لا؟ قال المحقق: " إذا وجد اثنان
يتفاوتان في الفضيلة مع استكمال الشرائط المعتبرة فيهما فإن قلد الأفضل جاز.
وهل يجوز العدول إلى المفضول؟ فيه تردد. والوجه الجواز، لأن خلله ينجبر بنظر
الإمام " (3).

(1) النساء 4: 141.
(2) الوسائل: 18، 7.
(3) الشرائع: 4، 69.
260

فللقائل بعدم الاعتبار أن يستدل بوجهين:
الأول: إطلاق المقبولة والمشهورة والتوقيع الشريف الآتيات ونحوها مما
أستفيد منه الإذن في القضاء للفقيه.
الثاني: استقرار السيرة في زمان النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) على الرجوع
والإرجاع إلى آحاد الصحابة من غير لحاظ الأعلمية مع وضوح اختلافهم في
الفضيلة.
ويستدل على اعتبار الأعلمية بأمور:
الأول: الأصل في المسألة يقتضي اعتبار الأعلمية فإنه القدر المتيقن.
ويرد عليه أن الأصل لا يقاوم ما مر من الدليلين.
الثاني: أن الظن بقول الأعلم أقوى، وترجيح المرجوح قبيح.
ويرد عليه مضافا إلى منع القوة دائما؛ إذ لعل المفضول يوافق كثيرا من
أفاضل الأموات، أنه لا دليل على تعين الأخذ بهذا الرجحان هنا بعد احتمال
وجود الرجحان في تسهيل الأمر على الناس بالتخيير بين الأفضل وغيره.
الثالث: ما في كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك: " ثم اختر للحكم بين الناس
أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور ولا تمحكه الخصوم ولا يتمادى
في الزلة... " (1).
ويرد عليه أنه لا دلالة فيه على اعتبار الأعلمية، إذ المراد بالأفضل في
كلامه (عليه السلام) من اشتمل على صفات كمالية عديدة ذكرها (عليه السلام) كما يظهر بالمراجعة. ولو
سلم شمول إطلاقه للأعلمية أيضا فهو في مقام بيان وظيفة الوالي، فلا يدل على
تكليف المتخاصمين.
الرابع: بعض الروايات الدالة على تقديم الأفقه على غيره: ففي مقبولة عمر

(1) نهج البلاغة، عبده: 3، 104؛ صالح: 434، الكتاب 53.
261

ابن حنظلة السابقة عند اختلاف الحاكمين، قال (عليه السلام): الحكم ما حكم به أعدلهما
وأفقههما... " (1).
ويرد عليه أن المفروض فيها اختيار أحدهما لغير الأفقه، ولو لم يجز ذلك
لكان على الإمام (عليه السلام) الردع عنه لا الاقتناع ببيان حكم اختلافهما فقط بإعمال
الترجيح بالأفقهية.
وكيف كان فمقتضى إطلاق المقبولة والمشهورة والتوقيع الشريف مما دل
على الإذن في القضاء هو كفاية الاجتهاد وعدم اعتبار الأعلمية ولم نجد ما يوجب
رفع اليد عن هذا الإطلاق، فالظاهر عدم اعتبارها.
6 - هل يعتبر في علم القاضي كونه عن اجتهاد؟
هل يعتبر في القاضي أن يكون علمه عن اجتهاد، أو يكفي التقليد أيضا؟
وعلى الأول فهل يعتبر كونه مجتهدا مطلقا، أو يكفي التجزي؟
قال الشيخ: " ولا يجوز أن يتولى القضاء إلا من كان عارفا (عالما خ. ل)
بجميع ما ولى، ولا يجوز أن يشذ عنه شئ من ذلك، ولا يجوز أن يقلد غيره ثم
يقضي به " (2).
وقال المحقق: " وكذا لا ينعقد لغير العالم المستقل بأهلية الفتوى، ولا يكفيه
فتوى العلماء. ولابد أن يكون عالما بجميع ما وليه ويدخل فيه أن يكون ضابطا،
فلو غلب عليه النسيان لم يجز نصبه " (3).
وفي كتاب الأقضية من بداية المجتهد: " واختلفوا في كونه من أهل

(1) الوسائل: 18، 75.
(2) الخلاف: 3، 309.
(3) الشرائع: 4، 67.
262

الاجتهاد، فقال الشافعي: يجب أن يكون من أهل الاجتهاد، ومثله حكى عبد
الوهاب عن المذهب. وقال أبو حنيفة: يجوز حكم العامي " (1).
ما يستدل به على اعتبار الاجتهاد في القاضي:
قد يستدل على اعتبار الاجتهاد في القاضي - مضافا إلى الأصل الحاكم
بعدم صحة القضاء ونفوذه إلا فيما ثبت بالدليل، وإلى الإجماع المدعى - بمقبولة
عمر بن حنظلة وخبر أبي خديجة وتوقيع صاحب الأمر (عج).
أما المقبولة فعن عمر بن حنظلة، قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجلين من
أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة
أيحل ذلك؟... قال (عليه السلام): ينظران (إلى) من كان منكم ممن قد روى حديثنا، ونظر
في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكما فإني قد جعلته عليكم
حاكما... " (2).
وتقريب الاستدلال به للمقام هو أن الظاهر من قوله: " روى حديثنا " كونه
مجتهدا، إذ منبع علم المقلد هو فتوى المجتهد لا الأحاديث الصادرة عنهم (عليهم السلام).
والظاهر من قوله (عليه السلام): " نظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا " أيضا كونه
بالاجتهاد، إذ تشخيص أحكام الأئمة (عليهم السلام) وفتاواهم في الحلال والحرام من خلال
أحاديثهم المروية، ولا سيما إذا كانت متعارضة بحسب الظاهر أو محتاجة إلى
الشرح والتفسير لا يتيسر إلا لمن كان له ملكة الاجتهاد والفقاهة. واحتمال أن
الاجتهاد أخذ طريقا لا موضوعا، فالملاك هو الاطلاع على الأحكام ووقوع
القضاء على وفق الحق ولو كان عن تقليد، مخالف لظاهر الحديث جدا.

(1) بداية المجتهد: 2، 449.
(2) أصول الكافي: 1، 67.
263

وأما خبر أبي خديجة فقال: " بعثني أبو عبد الله (عليه السلام) إلى أصحابنا فقال (عليه السلام):
" قل لهم: إياكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تدارى في شئ من الأخذ والعطاء أن
تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفساق. اجعلوا بينكم رجلا ممن قد عرف حلالنا
وحرامنا، فإني قد جعلته قاضيا... " (1).
وتقريب الاستدلال به واضح، لظهور المعرفة في الإحاطة بالشيء بجميع
خصوصياته.
وأما التوقيع عن صاحب الزمان (عليه السلام) فقوله (عليه السلام): " وأما الحوادث الواقعة
فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم " (2). بناءا
على شموله للافتاء والولاية والقضاء. والاستدلال به واضح إذ الإرجاع وقع إلى
رواة الحديث، والمقلد ليس مبنى علمه الأحاديث.
فهذه روايات يمكن أن يستدل بها لاعتبار الاجتهاد (3) في القاضي.

(1) الوسائل: 18، 4.
(2) الوسائل: 18، 101.
(3) مضافا إلى الخدشة في دلالة الأحاديث على اعتبار الاجتهاد في القاضي لا حاجة إليه
غالبا؛ لأن الاجتهاد هو القدرة على استنباط الأحكام الكلية عن المنابع، والقضاء هو الحكم
بهذه الأحكام في القضايا الجزئية بعد احراز أن هذه القضية تكون من مصاديقها سواء أكان
القاضي قادرا على استنباط الكليات وقد استنبطها أم لم يقدر عليه.
وعلى هذا فإن كان قد استنبطت الاحكام ودونت في الكتب فأي حاجة إلى القدرة على
الاستنباط فعلا سواء أكان بنحو الإطلاق أو التجزي؟ فيجوز أن يأخذ القاضي الحكم عمن
يثق به في استنباطاته ويحكم به.
نعم يشترط في القاضي أن يكون عارفا باصطلاحات باب القضاء وقادرا على الجري
والتطبيق في بدو الأمر. وإذا وردت عليه قضية لا تضبط في الكتب ولا يحكم فيها أحد فيما
سبق لزم أن يكون مجتهدا ولا أقل في باب القضاء.
وعليه إذا لم يقدر على الاستنباط ولم تدون في الكتب، فعليه إرجاع القضية إلى قاض
آخر قادر على استنباط حكمها - م -.
264

وعلى فرض اعتبار الاجتهاد، فهل يجزي التجزي فيه، أو يعتبر كونه
مجتهدا مطلقا؟
أقول: قد يقع الإشكال في أصل فرض التجزي في الاجتهاد بتقريب أن
الاجتهاد إن كان عبارة عن الاستنباط الفعلي للأحكام بأن يستخرجها من أدلتها
التفصيلية بالفعل أمكن فيه التجزي والتبعض.
وأما إذا أريد به ملكة الاستنباط والقدرة عليه فهي أمر بسيط، وأمرها دائر
بين الوجود والعدم، فلا يتصور فيه تبعض.
واستدل لكفاية التجزي بخبر أبي خديجة عن الصادق (عليه السلام): " انظروا إلى
رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا، فاجعلوه بينكم فإني قد جعلته قاضيا فتحاكموا
إليه " (1).
ويرد عليه أنه ورد بنقل آخر وفيه: " اجعلوا بينكم رجلا ممن قد عرف
حلالنا وحرامنا، فإني قد جعلته قاضيا " (2). وظاهره اعتبار الاجتهاد المطلق.
والمحتمل قريبا كونهما رواية واحدة، فلا مجال للاستدلال بها للمقام، فيرجع إلى
الأصل في المسألة ومقتضاه عدم الكفاية.
وربما يقال: إن الظاهر من قوله: " عرف أحكامنا " و " عرف حلالنا
وحرامنا " هو المعرفة الفعلية التفصيلية، ومن الواضح ندرة تحقق ذلك بالنسبة إلى
جميع الأحكام فيجزي التجزي بحسب الفعلية قطعا، ولا بأس بهذا القول.

(1) الوسائل: 18، 4.
(2) الوسائل: 18، 100.
265

7 - هل للفقيه أن ينصب أو يوكل المقلد للقضاء؟
قد يقال: يجوز للمجتهد المأذون فيه نصب مقلده العالم بمسائل القضاء عن
تقليد لأمر القضاء، بتقريب أن للنبي (صلى الله عليه وآله) والوصي بمقتضى الولاية المطلقة نصب
كل أحد لذلك وإن لم يكن مجتهدا. وكل ما كان لهما كان للفقيه الجامع للشرائط
أيضا، لعموم أدلة الولاية والنيابة.
ونحن نقول: - مضافا إلى ما مر من ظهور المقبولة في كون الإمام (عليه السلام) بصدد
بيان شرائط من يجوز التحاكم إليه شرعا لا شرائط المنصوب من قبله فقط - أن
المستفاد من خبر سليمان بن خالد، اختصاص القضاء شرعا بالنبي والوصي، فلا
أهلية لغيرهما له، غاية الأمر استثناء الفقيه الجامع للشروط بالدليل، فلا دليل على
استثناء غيره وصحة قضاء المقلد.
وقد يقال: يجوز للفقيه أن يوكل المقلد العالم بمسائل القضاء عن تقليد لذلك
بإطلاق أدلة الوكالة، كصحيحة مروية عن أبي عبد الله (عليه السلام) إنه قال: " من وكل رجلا
على امضاء أمر من الأمور فالوكالة ثابتة أبدا حتى يعلمه بالخروج منها كما أعلمه
بالدخول فيها " (1).
ويجاب: بأن الرواية ليست في مقام بيان ما فيه الوكالة، بل بيان أن الوكالة
بعد ثبوتها تبقى ما لم يبلغه العزل.
هذا، ولكن إذا لم يوجد قضاة مجتهدون واجدون للشروط، فالأحوط إن لم
يكن أقوى تصدي بعض من يقدر ويطلع على موازين القضاء إجمالا ولو عن
تقليد لأمر التحقيق وتهيئة المقدمات، ثم يحال القضاء والحكم الجازم إلى القاضي
المجتهد الواجد للشروط، ولو لم يتيسر ذلك وخيف على تعطيل القضاء يجوز بل

(1) الوسائل 13، 285.
266

يجب على الفقيه المتصدي للحكومة الإسلامية نصب بعض الملتزمين المحتاطين
ممن يطلع على الموازين ولو عن تقليد أو توكيله بمقدار الضرورة، ولكن يراقب
أعمالهم وعلى فرض الخطأ يجبر أخطائهم.
8 - استقلال القاضي:
لا يخفى أن سلامة أمر القضاء وقوته لا يحصل إلا باستقلال القاضي وقوته
في السياسة والاقتصاد حتى لا يطمع أحد في إجباره وإخضاعه أو استمالته
وأطماعه.
وقد ألفت أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى هذه النكتة المهمة في عهده إلى مالك، فقال:
" ثم أكثر تعاهد قضائه وافسح له في البذل ما يزيل علته ويقل معه حاجته إلى
الناس. وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ليأمن بذلك
اغتيال الرجال له عندك، فانظر في ذلك نظرا بليغا " (1).
وإنما عدت سلطة القضاء مستقلة عن سلطة التنفيذ لئلا تتأثر عنها ولتعم
سلطته مراتب سلطة التنفيذ فيهاب منها جميع الوزراء والعمال والأمراء. بل قد
رأيت أن أمير المؤمنين (عليه السلام) أيضا في عصر خلافته حضر مجلس قضاء شريح مع
خصمه اليهودي. فيعلم بذلك أهمية موقعية القاضي. ولولا ذلك لأثرت السلطات
السياسية أو الاقتصادية في أمر القضاء والقضاة (2).

(1) نهج البلاغة، عبده: 3، 105، صالح: 435، الكتاب 53.
(2) لا ريب أن سلطة القضاء تقدر شرعا على محاكمة الحاكم كسائر أفراد المجتمع وهذا دليل
على لزوم استقلال هذه السلطة، ولكن التجربة تشهد بأن القاضي المنصوب من ناحية
الحاكم قلما يقدر على محاكمة نفس الحاكم سيما على القول بتمركز السلطات في الحاكم؛ إذ
طبع القدرة في أكثر النفوس يمنع عن الخضوع أمام المحكمة والجلوس في موضع الاتهام
ولا يقاس نفوس الأكثر على مثل الإمام علي (عليه السلام).
فلا مناص إلا من القول بتفكيك السلطات والتصريح في القوانين بأن للسلطة القضائية
احضار الحاكم للفحص عن الشكاوي منه رفعت إليها - م -.
267

9 - بعض آداب القضاء:
عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " إذا تقاضى إليك رجلان فلا
تقض للأول حتى تسمع من الآخر، فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء " (1).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " كان أمير المؤمنين (عليه السلام) لا يأخذ بأول الكلام دون
آخره " (2).
وعنه (عليه السلام) أيضا، قال: " قال أمير المؤمنين (عليه السلام): من ابتلى بالقضاء فليواس
بينهم في الإشارة وفي النظر وفي المجلس " (3).
وعنه (عليه السلام) أيضا، قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من ابتلى بالقضاء فلا يقضي وهو
غضبان " (4).
وعنه (عليه السلام) أيضا: " وإما الرشا في الحكم فهو الكفر بالله " (5).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) مخاطبا لشريح: "... ثم واس بين المسلمين بوجهك
ومنطقك ومجلسك... وإياك والتضجر والتأذي في مجلس القضاء... " (6).
وقال الشيخ الطوسي: " وإذا أراد أن يجلس للقضاء ينبغي أن ينجز حوائجه
التي تتعلق نفسه بها ليفرغ للحكم ولا يشتغل قلبه بغيره... ولا يجلس وهو غضبان

(1) الوسائل: 18، 158.
(2) الوسائل: 18، 158.
(3) الوسائل: 18، 157.
(4) الوسائل: 18، 156.
(5) الوسائل: 18، 163.
(6) الوسائل: 18، 155.
268

ولا جائع ولا عطشان ولا مشغول القلب بتجارة ولا خوف ولا حزن ولا فكر في
شئ من الأشياء، وليجلس وعليه هدى وسكينة ووقار... وإذا دخل عليه
الخصمان فلا يبدأ أحدهما بالكلام. فإن سلما أو سلم أحدهما رد السلام دون ما
سواه، وليكن نظره إليهما واحدا ومجلسهما بين يديه على السواء. ولا ينبغي
للحاكم أن يسأل الخصمين بل يتركهما حتى يبدأ الكلام " (1).
10 - تكاليف القاضي واختياراته:
قال الماوردي في الأحكام السلطانية ما ملخصه:
" فصل: ولا تخلو ولاية القاضي من عموم أو خصوص، فإن كانت ولايته
عامة مطلقة فنظره مشتمل على عشرة أحكام:
أحدها: فصل في المنازعات وقطع التشاجر والخصومات، أما صلحا عن
تراض أو إجبارا بحكم بات.
والثاني: استيفاء الحقوق ممن مطل بها وإيصالها إلى مستحقيها بعد ثبوت
استحقاقها من أحد وجهين: إقرار أو بينة.
واختلف في جواز حكمه فيها بعلمه فجوزه مالك والشافعي في أحد قوليه.
وقال أبو حنيفة: يجوز أن يحكم بعلمه فيما علمه في ولايته ولا يحكم بما علمه
قبلها (2).
والثالث: ثبوت الولاية على من كان ممنوع التصرف بجنون أو صغر،
والحجر على من يرى الحجر عليه لسفه أو فلس حفظا للأموال على مستحقيها.

(1) النهاية، 337.
(2) الأحوط عند الأستاذ - دام ظله - أنه لا يجوز أن يحكم القاضي بعلمه سيما في حق الله
المحض مثل الزنا واللواط. (رسالة توضيح المسائل، المسألة 3119).
269

والرابع: النظر في الأوقاف بحفظ أصولها وتنمية فروعها والقبض عليها
وصرفها في سبلها...
والخامس: تنفيذ الوصايا على شروط الموصى فيما أباحه الشرع ولم
يحظره...
والسادس: تزويج الأيامى بالأكفاء إذا عد من الأولياء ودعين إلى النكاح...
والسابع: إقامة الحدود على مستحقيها، فإن كانت من حقوق الله - تعالى -
تفرد باستيفائه من غير طالب إذا ثبت بإقرار أو بينة، وإن كانت من حقوق
الآدميين كان موقوفا على طلب مستحقيه...
والثامن: النظر في مصالح عمله من الكف عن التعدي في الطرقات والأفنية
وإخراج ما لا يستحق من الأجنحة والأبنية، وله أن ينفرد بالنظر فيها وان لم
يحضره خصم. وقال أبو حنيفة: لا يجوز النظر فيها إلا بحضور خصم مستعد.
والتاسع: تصفح شهوده وأمنائه واختبار النائبين عنه من خلفائه في إقرارهم
والتعويل عليهم مع ظهور السلامة والاستقامة وصرفهم والاستبدال بهم مع ظهور
الجرح والخيانة.
والعاشر: التسوية في الحكم بين القوي والضعيف والعدل في القضاء بين
المشروف والشريف... " (1).
أقول: فيظهر من ذلك أن عمل القاضي في تلك الأعصار لم يكن منحصرا
في القضاء وفصل الخصومات فقط، بل كان هو المرجع أيضا في الأمور العامة
الحسبية التي لا مناص عن إجرائها ولا يجوز إهمالها وليس لها مسؤول خاص.
ونحو ذلك إقامة الحدود والتعزيرات، بل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ويمكن أن يستفاد من منع أئمتنا المعصومين (عليهم السلام) شيعتهم من الرجوع إلى

(1) الأحكام السلطانية: 70.
270

قضاة عصرهم من قضاة الجور وإرجاعهم إلى فقهاء الشيعة كما في المقبولة
والمشهورة، إرجاعهم إليهم في كل ما كان يرجع فيها إلى هؤلاء القضاة من فصل
الخصومات والتصدي للأمور الحسبية وإقامة الحدود الشرعية والتعزيرات
والإشراف على الوصايا والأوقاف ونحو ذلك.
11 - ولاية المظالم:
قد عقد الماوردي وأبو يعلى الفراء بابا باسم ولاية المظالم تكون من
متممات القضاء وتكون المرجع الأعلى للشكايات والمظالم التي لا يقدر القضاة
على حلها، أو لمظالم نفس القضاة.
ونظيرها في عصرنا وبلادنا - بوجه ما - مجموع الديوان العالي والمحكمة
العليا، وديوان العدالة، وإدارة التفتيش عن مظالم الموظفين. ولعلها بوحدتها
تتضمن جميع ذلك.
قال الماوردي ما ملخصه:
" ونظر المظالم هو قود المتظالمين إلى التناصف بالرهبة، وزجر المتنازعين
عن التجاهد بالهيبة... فإن كان ممن يملك الأمور العامة كالوزراء والأمراء لم
يحتج النظر فيها إلى تقليد، وكان له بعموم ولايته النظر فيها. وإن كان ممن لم
يفوض إليه النظر احتاج إلى تقليد وتولية إذا اجتمعت فيه الشروط المتقدمة....
فصل: فإذا نظر في المظالم من انتدب لها جعل لنظره يوما معروفا يقصده فيه
المتظلمون ويراجعه فيه المتنازعون، ليكون ما سواه من الأيام لما هو موكول إليه
من السياسة والتدبير إلا أن يكون من عمال المظالم المنفردين لها فيكون مندوبا
للنظر في جميع الأيام. وليكن سهل الحجاب، نزه الأصحاب. ويستكمل مجلس
نظره بحضور خمسة أصناف:
أحدهم: الحماة والأعوان...
271

والصنف الثاني: القضاة والحكام...
والصنف الثالث: الفقهاء...
والصنف الرابع: الكتاب...
والصنف الخامس: الشهود.
والذي يختص بنظر المظالم يشتمل على عشرة أقسام:
فالقسم الأول: النظر في تعدي الولاة على الرعية وأخذهم بالعسف في
السيرة. فهذا من لوازم النظر في المظالم الذي لا يقف على ظلامة متظلم، فيكون
لسيرة الولاة متصفحا وعن أحوالهم مستكشفا ليقويهم إن أنصفوا ويكفهم إن
عسفوا، ويستبدل بهم إن لم ينصفوا...
والقسم الثاني: جور العمال فيما يجبونه من الأموال، فيرجع فيه إلى
القوانين العادلة في دواوين الأئمة فيحمل الناس عليها ويأخذ العمال بها وينظر
فيما استزادوه، فإن رفعوه إلى بيت المال أمر برده وإن أخذوه لأنفسهم استرجعه
لأربابه...
والقسم الثالث: كتاب الدواوين، لأنهم أمناء المسلمين على ثبوت أموالهم
فيما يستوفونه له ويوفونه منه، فيتصفح أحوال ما وكل إليهم فإن عدلوا بحق من
دخل أو خرج إلى زيادة أو نقصان أعاده إلى قوانينه وقابل على تجاوزه...
وهذه الأقسام الثلاثة لا يحتاج والي المظالم في تصفحها إلى متظلم.
والقسم الرابع: تظلم المسترزقة من نقص أرزاقهم أو تأخرها عنهم
وإجحاف النظر بهم، فيرجع إلى ديوانه في فرض العطاء العادل فيجريهم عليه
وينظر فيما نقصوه أو منعوه من قبل، فإن أخذه ولاة أمورهم استرجعه منهم، وإن لم
يأخذوه قضاه من بيت المال...
والقسم الخامس: رد الغصوب، وهي ضربان:
272

أحدهما: غصوب سلطانية قد تغلب عليها ولاة الجور كالأملاك المقبوضة
عن أربابها إما لرغبة فيها وإما لتعد على أهلها. فهذا إن علم به والي المظالم عند
تصفح الأمور أمر برده قبل التظلم إليه، وإن لم يعلم به فهو موقوف على تظلم
أربابه...
والضرب الثاني من الغصوب ما تغلب عليها ذوو الأيدي القوية وتصرفوا
فيه تصرف الملاك بالقهر والغلبة. فهذا موقوف على تظلم أربابه ولا ينتزع من يد
غاصبه إلا بأحد أربعة أمور: أما باعتراف الغاصب، وأما بعلم والي المظالم، وأما
ببينة تشهد على الغاصب، وأما بتظاهر الاخبار الذي ينفي عنها التواطئ.
والقسم السادس: مشارفة الوقوف، وهي ضربان: عامة وخاصة. فأما العامة
فيبدأ بتصفحها، وإن لم يكن فيها متظلم ليجريها على سبيلها ويمضيها على شروط
واقفها... وأما الوقوف الخاصة فإن نظره فيها موقوف على تظلم أهلها عند التنازع
فيها لوقفها على خصوم متعينين...
والقسم السابع: تنفيذ ما وقف القضاة من أحكامها، لضعفهم عن إنفاذها
وعجزهم عن المحكوم عليه لتعززه وقوة يده أو لعلو قدره وعظم خطره...
والقسم الثامن: النظر فيما عجز عنه الناظرون من الحسبة في المصالح
العامة، كالمجاهرة بمنكر ضعف عن دفعه والتعدي في طريق عجز عن منعه
والتحيف في حق لم يقدر على رده...
والقسم التاسع: مراعاة العبادات الظاهرة كالجمع والأعياد والحج والجهاد
من تقصير فيها وإخلال بشروطها، فان حقوق الله أولى أن تستوفى، وفروضه أحق
أن تؤدى.
والقسم العاشر؛ النظر بين المتشاجرين والحكم بين المتنازعين، فلا يخرج
من النظر بينهم عن موجب الحق ومقتضاه. ولا يسوغ أن يحكم بينهم إلا بما يحكم
273

به الحكام والقضاة. وربما اشتبه حكم المظالم على الناظرين فيها فيجورون في
أحكامها ويخرجون إلى الحد الذي لا يسوغ فيها.
أقول: يظهر لك بالتأمل أن ولاية المظالم عندهم كأنها كانت مرتبة عالية
لولاية القضاء امتزج فيها. وكانت تفترق عن القضاء العادي بالقوة والشوكة
الكثيرة.
وربما كان الوالي الأعظم بنفسه يتصدى لهما، كما نراه من تصدي رسول
الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) كثيرا لكليهما.
وأنت إذا تتبعت كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) تجد عنايته واهتمامه كثيرا إلى رد
المظالم وإحقاق الحقوق، فهو (عليه السلام) بعد تصديه للخلافة رد على المسلمين ما أقطعه
عثمان من أموالهم، وقال: " والله لو وجدته قد تزوج به النساء وملك به الإماء
لرددته، فإن في العدل سعة " (1).
وأنت تعلم أن أكثر المظالم الكبيرة تقع من خاصة السلاطين وعمالهم
بالاستناد إليه والقرب منه.

(1) نهج البلاغة، عبده: 1، 42، صالح: 57، الخطبة 15.
274

الفصل الخامس
في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإدارة الحسبة
الظاهر أن المراد بالمعروف في هذا الباب مطلق ما يستحسنه العقل أو
الشرع من الواجب والمندوب بل وبعض المباحات الراجحة لجهة من الجهات
الراجعة إلى مصالح المجتمع.
والمراد بالمنكر مطلق ما يستنكره العقل أو الشرع، محرما كان أو مكروها،
أو مباحا له حزازة عرضية لجهة من الجهات، إذ رب أمر لا يكون بالذات محرما
ولكن مصالح المجتمع والبلاد تقتضي تحديد حريات الأفراد بالنسبة إليه.
فنقول: في المسألة جهات من البحث:
الأولى: في أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم الفرائض
الشرعية، بل يحكم بوجوبهما العقل أيضا.
اعلم أنهما من أهم الفرائض التي حث عليها الكتاب والسنة، وعليهما يبتنى
بقاء أساس الدين، وحفظ نظام المسلمين وكيانهم.
والسر في ذلك أن الفرد من أفراد المجتمع ليس منعزلا عن غيره منفردا في
المسير والمصير، بل يتأثر بعضه ببعض في العقائد والأخلاق والأعمال بلا إشكال.
وانحراف الفرد كما يضر بشخصه يضر بالمجتمع أيضا، فيحكم العقل بلزوم الرقابة
العامة وحفظ المجتمع عن الفساد مهما أمكن.
275

وقد جعل هذه الفريضة أمير المؤمنين (عليه السلام) فوق الجهاد وسائر أعمال البر
بمراتب وقال: " وما أعمال البر كلها والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر إلا كنفثة في بحر لجي " (1).
الثانية: في أن للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر درجات ومراتب:
لا يخفى أن الفريضتين ببعض مراتبهما مما يتمكن منه كل مسلم عارف
بأحكام الإسلام وضرورياته، وذلك كالإنكار بالقلب وباللسان، فيجب على جميع
الناس ومنهم الولاة فعل ذلك وإعانة من يفعله، ويبدأ في الإنكار بالأسهل، فإن
زال المنكر فهو، وإلا أغلظ. فإن توقف على الضرب والجراح فهل يجوز لكل أحد
التصدي له أو لا يجوز إلا بإذن الحاكم؟ في المسألة قولان:
قال العلامة: " لو افتقر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى ضرب من
التأديب والإيلام والإضرار به والجراح وإتلاف نفسه. قال الشيخ في الاقتصاد:
الظاهر من مذهب شيوخنا الإمامية أن هذا الجنس من الإنكار لا يكون إلا للأئمة
أو لمن يأذن له الإمام ". ثم قال: " وكان المرتضى يخالف في ذلك ويقول: يجوز
ذلك بغير إذنه... وقال سلار: وأما القتل والجراح في الإنكار فإلى السلطان ومن
يأمره. وأبو الصلاح لم يشترط السلطان في ذلك وبه قال ابن إدريس. وابن البراج
اشترط إذن الإمام. والأقرب ما قاله السيد " (2).
أقول: ويستدل للقول بعدم الاشتراط بأنهما واجبان لمصلحة العالم، فلا
يتوقفان على شرط كغيرهما من المصالح، وبأنهما واجبان على النبي (صلى الله عليه وآله)
والإمام (عليه السلام) فيجب علينا أيضا لوجوب التأسي، وبإطلاق الآيات والروايات
الواردة في الباب مثل خبر يحيى الطويل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " ما جعل الله

(1) نهج البلاغة، عبده: 3، 244، صالح: 542، الحكمة 374.
(2) المختلف: 1، 339.
276

بسط اللسان وكف اليد ولكن جعلهما يبسطان معا ويكفان معا " (1).
ويرد على الوجه الأول: أن وجوبهما لمصلحة العالم لا ينافي اشتراطهما
بإذن الإمام.
ويرد على الثاني: أن التأسي إنما يجب في الأحكام العامة لا في الوظائف
الخاصة، والحكومة وشؤونها من الوظائف الخاصة.
وخبر يحيى الطويل مجهول اللهم إلا أن يجبر ذلك بكون الراوي عنه ابن
أبي عمير.
هذا ولكن الإنصاف أن إطلاق الرواية وآية التأسي مما يمكن التمسك بهما
لعدم الاشتراط.
ويمكن أن يستدل للاشتراط، بوجوب عصمة النفوس وحرمة إراقة الدماء
والتصرف في سلطة الغير إلا بالمقدار المتيقن جوازه.
وبأن الضرب والجراح يتوقفان على القدرة والسلطة.
وبأنه لا يتيسر لكل فرد فرد تشخيص الموارد والشروط والظروف المناسبة
وإنما يتيسر ذلك لمن له إحاطة بالمجتمع وعلاقاته وإمكاناته.
وبأن تصدي كل فرد فرد لذلك يوجب اختلال النظام غالبا.
اللهم إلا إذا لم نتمكن من الوصول إلى الإمام وتوقف حفظ بيضة الإسلام
وكيان المسلمين على الإقدام، فإن الدفاع عنهما لا يشترط فيه إذن الإمام بلا
إشكال.
الثالثة: في أنه هل يكون وجوبهما على الأعيان أو على الكفاية؟
قال الشيخ: " واختلفوا في كيفية وجوبه؛ فقال الأكثر: إنهما من فروض
الكفايات إذا قام به البعض سقط من الباقين. وقال قوم: هما من فروض الأعيان،

(1) الوسائل: 11، 404.
277

وهو الأقوى عندي لعموم آي القرآن والأخبار " (1).
وحكى في المختلف عن السيد المرتضى أنه احتج للكفاية:
" بأن المطلوب في نظر الشارع تحصيل المعروف وارتفاع المنكر ولم يتعلق
غرضه من مباشر بعينه فيكون واجبا على الكفاية ".
قال العلامة: " والأقرب قول السيد، وهو اختيار أبي الصلاح وابن
إدريس " (2).
أقول: والظاهر أن الحق مع هؤلاء لما ذكره السيد من الدليل (3).
الرابعة: في ذكر بعض الآيات والروايات الواردة في المسألة:
لا يخفى أن الآيات والروايات الواردة في المسألة أيضا على طائفتين،
يستفاد من بعضها كون الفريضة فريضة عامة كلف بها كل مسلم ومن بعضها كونها
فريضة خاصة أعني كونها من شؤون الحكومة.
فمن الطائفة الأولى قوله - تعالى -: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء
بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة
ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم) (4).
فالحكم في الآية عام لكل مؤمن ومؤمنة. فالله - تعالى - بولايته العامة على
عباده جعل لكل مؤمن ومؤمنة حق الولاية والسلطة على غيره ليكون له حق الأمر
والنهي، غاية الأمر أن الولاية لها مراتب والولاية هنا محدودة بمقدار جواز الأمر
والنهي.

(1) الاقتصاد: 147.
(2) المختلف: 1، 338.
(3) قد مر منا أن الواجب الاجتماعي مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون نوعا آخر
للواجب يتفاوت مع الواجب الكفائي والعيني الفردي، فراجع - م -.
(4) التوبة 9: 71.
278

لا يقال: الأمر والنهي في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إرشاديان
لكونهما إرشادا إلى إطاعة أمر الله ونهيه، فلا يتوقفان على ثبوت الولاية والسلطة
الشرعية.
فإنه يقال: الظاهر من الأدلة وجوب الأمر والنهي المولويين تأكيدا لأمر الله
ونهيه.
وقوله - تعالى -: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون
عن المنكر وتؤمنون بالله. ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم، منهم المؤمنون
وأكثرهم الفاسقون) (1).
والظاهر أن المسلمين بما هم مسلمون خير أمة خلقت وأخرجت لنفع
المجتمعات البشرية، وملاك خيريتهم بسطهم للمعروف وردعهم عن المنكرات
وإصلاح المجتمعات.
ومن الطائفة الثانية قوله - تعالى -: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير
ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون) (2).
والظاهر أن الخطاب موجه إلى جميع المسلمين. والمستفاد منه أنه يجب
على الجميع السعي في تمحيص جماعة خاصة لهذا الشأن.
وفي موثقة مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول - وسئل
عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أواجب هو على الأمة جميعا؟ - فقال: لا،
فقيل له: ولم؟ قال: إنما هو على القوي المطاع العالم بالمعروف من المنكر، لا على
الضعيف الذي لا يهتدي سبيلا إلى أي من أي، يقول: من الحق إلى الباطل.
والدليل على ذلك كتاب الله عز وجل قوله: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى

(1) آل عمران 3: 110.
(2) آل عمران 3: 104.
279

الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)
وبعض أخبار الباب خبر جامع يشتمل على جميع المراتب مما هي وظيفة
خاصة ومما تكون من الفرائض العامة مثل ما عن عبد الرحمان بن أبي ليلى أنه
قال: سمعت عليا (عليه السلام) يقول يوم لقينا أهل الشام: " أيها المؤمنون، إنه من رأى
عدوانا يعمل به ومنكرا يدعى إليه فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ، ومن أنكره بلسانه
فقد أجر وهو أفضل من صاحبه، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله هي العليا
وكلمة الظالمين هي السفلى فذلك الذي أصاب سبيل الهدى وقام على الطريق
ونور في قلبه اليقين " (1).
وواضح أن قتال أهل الشام كان تحت لوائه وأمره، فلا يستفاد من هذا
الحديث جواز الإنكار بالسيف ولو بدون إذن الإمام.
ومن الأخبار الجامعة أيضا ما رواه في الوسائل عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال:
" لا تزال أمتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وتعاونوا على البر. فإذا
لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات وسلط بعضهم على بعض ولم يكن لهم ناصر في
الأرض ولا في السماء " (2).
وأيضا ما عن السبط الشهيد (عليه السلام) قال: "... فبدأ الله الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر فريضة منه لعلمه بأنها إذا أديت وأقيمت استقامت الفرائض كلها، هينها
وصعبها. وذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء إلى الإسلام مع رد
المظالم ومخالفة الظالم وقسمة الفيئ والغنائم، وأخذ الصدقات من مواضعها
ووضعها في حقها " (3).

(1) نهج البلاغة، عبده: 3، 243، صالح: 541، الحكمة 373.
(2) الوسائل: 11، 398.
(3) تحف العقول: 237.
280

ولكن قد يتوهم أن قوله - تعالى -: (يا أيها الذين آمنوا، عليكم أنفسكم. لا
يضركم من ضل إذا اهتديتم...) (1) يدل على أن الإنسان إذا لزم بيته وأصلح نفسه
فلا يبال بما يقع في المجتمع من الفساد والضلال.
وفيه أنه لا يمكن رفع اليد عن الآيات الكثيرة، والأخبار المتواترة،
وإجماع المسلمين بهذا الظهور المتوهم. بل الظاهر أن المقصود بالآية بيان أنه إذا
فرض ضلال أفراد المجتمع أو بعضهم فليس للإنسان أن يجعل نفسه تابعا لهم كما
هو المتعارف في أكثر المجتمعات، بل يجب على كل فرد أن يستقل في فكره
وإرادته ويعمل بوظائفه المقررة من قبل الله، التي من أهمها الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر. وإذا فعل ذلك نفعه هداه قهرا ولم يضره ضلال من ضل.
الخامسة: في وجوب إنكار العامة على الخاصة وتغيير المنكر عليهم إذا
علموا به:
عن مسعدة بن صدقة، عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام):
" إن الله لا يعذب العامة بذنب الخاصة إذا عملت الخاصة بالمنكر سرا من غير أن
تعلم العامة، فإذا عملت الخاصة بالمنكر جهارا فلم تغير ذلك العامة استوجب
الفريقان العقوبة من الله - عز وجل -. " (2).
وعن عدي، يقول: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: " إن الله - عز وجل - لا يعذب
العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه
فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة " (3).
إلى غير ذلك من الأخبار الواردة بهذا المضمون. ويظهر منها أن تكليف

(1) المائدة 5: 105.
(2) الوسائل: 11، 407.
(3) مسند أحمد: 4، 192.
281

العامة في قبال الفسق المتجاهر به أشد، وأنه يجب عليهم القيام في قبال الخاصة
وإن كانت لهم السلطة والقدرة وأوجب ذلك الكفاح. وإطلاقها يشمل الكفاح
المسلح أيضا.
السادسة: في وجوب إنكار المنكر بالقلب وتحريم الرضا به ووجوب
الرضا بالمعروف:
1 - قد مر في أخبار كثيرة الترغيب في الإنكار بالقلب ومنها خبر جابر،
وفيه: " فأنكروا بقلوبكم، والفظوا بألسنتكم وصكوا بها جباههم " (1).
2 - وفي نهج البلاغة قال (عليه السلام): " الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم، وعلى
كل داخل في باطل إثمان: إثم العمل به، وإثم الرضا به " (2).
3 - وفي خبر طلحة بن زيد، عن جعفر بن محمد، عن آبائه، عن علي (عليهم السلام)
قال: " العامل بالظلم، والراضي به، والمعين عليه شركاء ثلاثة " (3).
إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في هذا المجال.
ولا يخفى أن إنكار المنكر بالقلب بعد العلم به وإن كان من لوازم الايمان
قهرا، ولكن المؤاخذة على مجرد الرضا القلبي بالمنكر ربما تنافي ما دل على أن
العبد إذا هم بالسيئة لم تكتب عليه (4). وإذا لم يؤاخذ بنية فعل نفسه فكيف يؤاخذ
بالرضا بفعل غيره؟!
فلعل المقصود في هذه الروايات هو الرضا الظاهر في مقام العمل. فإن من
سمع ارتكاب غيره للمنكر وجب عليه السعي في نهيه ورفع المنكر أو إظهار

(1) الوسائل: 11، 403.
(2) نهج البلاغة، عبده: 3، 191، صالح: 499، الحكمة 154.
(3) الوسائل: 11، 410.
(4) الوسائل: 1، 36 وما بعدها.
282

البراءة ممن ارتكبه، فإن ترك ذلك بل ظهر منه أمارات الرضا به بل والافتخار به
أحيانا صار بهذا شريكا في ذلك المنكر.
السابعة: في وجوب الإعراض عن فاعل المنكر وهجره إذا لم يرتدع:
عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " قال أمير المؤمنين (عليه السلام): أمرنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن
نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرة " (1).
وفي رواية هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " لو أنكم إذا بلغكم عن
الرجل شئ تمشيتم إليه فقلتم: يا هذا، إما أن تعتزلنا وتجتنبنا، وإما أن تكف عن
هذا، فإن فعل، وإلا فاجتنبوه " (2).
وبالجملة، يجب إنكار المنكر بالقلب وباللسان بقول لين بليغ أولا، ثم يغلظ
عليه في ذلك إلى أن تصل النوبة إلى اليد بمراتبها، والأحوط كونها بإذن الحاكم
فإن لم يتيسر ذلك أو لم يؤثر فبالإعراض والهجر وترك المجالسة معه. كل ذلك
ليتأثر الفاعل ويرتدع. لا للانتقام ونحوه. ورعاية المراتب لازمة وبها صرح
الفقهاء وهو المستفاد من الأخبار أيضا.
الثامنة: في بيان ما ذكروه شرطا لوجوبهما:
الشرط الأول: قال المحقق: " ولا يجب النهي عن المنكر ما لم يكمل شروط
أربعة:
الأول: أن يعلمه منكرا ليأمن الغلط في الإنكار. الثاني: أن يجوز تأثير
إنكاره فلو غلب على ظنه أو علم أنه لا يؤثر لم يجب. الثالث: أن يكون الفاعل له
مصرا على الاستمرار فلو لاح منه أمارة الامتناع أو أقلع عنه، سقط الإنكار.
الرابع: أن لا يكون في الإنكار مفسدة، فلو ظن توجه الضرر إليه أو إلى ماله أو إلى

(1) الوسائل: 11، 413.
(2) الوسائل: 11، 415.
283

أحد من المسلمين سقط الوجوب " (1).
أقول: كون الشرط الأول شرطا للوجوب بحيث لا يجب تحصيل العلم
وكون الجاهل بالحكم ولو عن تقصير معذورا في هذا الباب لا يخلو من إشكال؛ إذ
الموضوع هو واقع المعروف والمنكر لا المعلوم منهما. نعم لما كان العلم طريقا إلى
الواقع فبدونه لا يمكن الأمر والنهي، فهو شرط للوجود قهرا، والجاهل القاصر
معذور لا محالة.
وليس مفاد خبر مسعدة السابق إلا ما هو حكم العقل من توقف العمل
وتنجز التكليف به على القدرة والعلم بالموضوع، إذ العاجز وكذا الجاهل في حال
العجز والجهل لا يمكن أن يصدر عنهما الفعل، وهذا لا ينافي وجوب تحصيل
القدرة والعلم عليه لما بعد ذلك.
الشرط الثاني: أن يجوز تأثير إنكاره. ويدل عليه أخبار مستفيضة:
1 - منها: ما في ذيل موثقة مسعدة، قال: وسمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول
- وسئل عن الحديث الذي جاء عن النبي (صلى الله عليه وآله): إن أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام
جائر ما معناه - قال: " هذا على أن يأمره بعد معرفته وهو مع ذلك يقبل منه، وإلا
فلا " (2).
2 - ومنها: خبر ابن أبي عمير عن يحيى الطويل، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام):
" إنما يؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر مؤمن فيتعظ، أو جاهل فيتعلم، فأما
صاحب سوط أو سيف فلا " (3).
وهنا فرعان ينبغي الالتفات إليهما:

(1) الشرائع: 1، 342.
(2) الوسائل: 11، 400.
(3) الوسائل: 11، 400.
284

الأول: مقتضى إطلاق هذه الأخبار عدم كفاية غلبة الظن في سقوط
التكليف. وإن الساقط مع العلم بعدم التأثير هو الوجوب لا الجواز؛ اللهم إلا مع
الضرر الذي لا يجوز تحمله. وإنه لولا هذه الأخبار أمكن القول بالوجوب مطلقا
حتى مع العلم بعدم التأثير. وفائدته إتمام الحجة على الفاعل.
الثاني: الظاهر أنه لا يتعين أن يكون التأثير في الحال، فلو جوز التأثير فيه
ولو في المآل وجب الأمر والنهي، بل لا يبعد الوجوب لو علم أن النهي لا يؤثر في
شخص الفاعل ولكنه يؤثر في غيره ممن رأى أو سمع فيوجب إعراضه عن الفاعل
وعمله.
بل لو كان الناهي عالما دينيا شاخصا مثلا وكان سكوته موجبا لضعف
عقائد المسلمين ووهن علماء الدين، ونهيه واعتراضه على الفاعل سببا لقوة
إيمانهم أمكن القول بالوجوب أيضا وإن لم يؤثر في شخص الفاعل.
الشرط الثالث: أن يكون الفاعل له مصرا على الاستمرار، فلو لاح منه أمارة
الامتناع أو أقلع عنه سقط الإنكار.
أقول: التعرض للغير هتك لحرمته فمع الشك الابتدائي أو احتمال فعل
المنكر لا يجوز التعرض له قطعا، ولا التفتيش والتجسس.
وأما مع سبق العصيان واحتمال الإصرار على العمل خارجا أو بمجرد قصد
التكرار فهل يحكم بجواز النهي عن المنكر بل بوجوبه لإطلاق الأدلة، أو
لاستصحاب الوجوب ما لم يحرز الامتناع أو الندم والتوبة. أو بعدم الجواز إلا مع
احراز الإصرار كما عن جماعة، أو ظهور أمارة الاستمرار كما عن آخرين، أو
يفصل بين كون المحتمل استدامة العمل خارجا وبين كونه مجرد القصد إذ لا حرمة
لقصد المعصية حتى ينهى عنه؟
في المسألة وجوه بل أقوال. والاحتياط حسن على كل حال.
285

وهل يكفي مجرد الامتناع عن الاستمرار أو لابد من التوبة؟ الظاهر استقرار
السيرة في جميع الأعصار على مراقبة ظواهر الشرع والمنع عن التجاهر
بالمعصية، ولم يكن بناء الأفراد ولا المحتسبين على التفتيش والتدخل في دخائل
الناس أو الأمر والنهي بمجرد الاستصحاب ونحوه. وفي رواية محمد بن مسلم أو
الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا تطلبوا عثرات المؤمنين،
فإن من تتبع عثرات أخيه تتبع الله عثراته، ومن تتبع الله عثراته يفضحه ولو في
جوف بيته " (1).
الشرط الرابع: أن لا يكون في الإنكار مفسدة. فلو ظن توجه الضرر إليه أو
إلى ماله أو إلى أحد من المسلمين سقط الوجوب. وأرادوا بالضرر، الأعم مما في
النفس أو العرض أو المال في الحال أو في المآل. والملاك في باب الضرر خوفه
وهو يحصل مع الظن بل وبعض مراتب الاحتمال أيضا.
واستدلوا عليه بمثل ما رواه الصدوق عن جعفر بن محمد (عليه السلام) قال: " والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان على من أمكنه ذلك، ولم يخف على نفسه
ولا على أصحابه " (2). إلى غير ذلك من الأخبار.
أقول: ليس الغرض من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحصيل المثوبة
مثلا، بل هما شرعا بمفهوم وسيع، لإصلاح المجتمع وقطع جذور المنكر والفساد.
ومقتضى رعاية ملاكات الأحكام ومصالحها أن يعامل مع الدليلين معاملة
التزاحم، فلربما يريد أحد قتل واحد أو جماعة أو التجاوز على امرأة مسلمة
محترمة مثلا ويكون نهيه وردعه موجبا لخسارة ما على الناهي.
وربما يكون المنكر منكرا فظيعا يتجاهر به ويكون في معرض السراية إلى

(1) الكافي: 2، 355.
(2) الوسائل: 11، 398.
286

المجتمع، وربما يفسد المجتمع بسببه، أو يكون المرتكب له ذا شخصية اجتماعية
أو دينية يقتدي به الناس طبعا، أو يكون عمله موجبا لهدم أساس الدين، أو يريد
بعمله تغيير قانون من قوانين الإسلام أو تحريفه، أو يريد إقامة السلطة الظالمة
الغاصبة على شؤون المسلمين، ونحو ذلك من الأمور المهمة. فهل لا يجب النهي
والردع بظن ضرر مالي أو حبس أو تضييق أو نحو ذلك؟!
يشكل جدا الالتزام بذلك. مضافا إلى دلالة روايات كثيرة على وجوب
الإقدام والقيام في قبال المنكر والفساد ولو ترتب عليه ضرر أو شدة:
مثل خبر جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " يكون في آخر الزمان قوم يتبع
فيهم قوم مراؤون يتقرؤون ويتنسكون، حدثاء سفهاء لا يوجبون أمرا بمعروف
ولا نهيا عن منكر إلا إذا أمنوا الضرر، يطلبون لأنفسهم الرخص والمعاذير، يتبعون
زلات العلماء وفساد علمهم، يقبلون على الصلاة والصيام وما لا يكلمهم في نفس
ولا مال، ولو أضرت الصلاة بسائر ما يعملون بأموالهم وأبدانهم لرفضوها كما
رفضوا أتم الفرائض وأشرفها... فأنكروا بقلوبكم وألفظوا بألسنتكم وصكوا بها
جباههم ولا تخافوا في الله لومة لائم " (1).
ومثل ما عن السبط الشهيد: " ألا ترون إن الحق لا يعمل به وإن الباطل لا
يتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء الله محقا فإني لا أرى الموت إلا سعادة ولا
الحياة مع الظالمين إلا برما " (2).
وما في كنز العمال: " سيكون عليكم أئمة يملكون أرزاقكم، يحدثونكم
فيكذبونكم، ويعملون فيسيئون العمل، لا يرضون منكم حتى تحسنوا قبيحهم
وتصدقوا كذبهم، فأعطوهم الحق ما رضوا به فإذا تجاوزوا فمن قتل على ذلك فهو

(1) الوسائل: 11، 394 و 402 و 403.
(2) تاريخ الطبري: 7، 301 وتحف العقول: 245.
287

شهيد " (1). إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة.
وبالجملة، فالواجب في المقام إجراء باب التزاحم وتقديم ما هو الأهم
ملاكا.
وهكذا كانت سيرة أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) الملتزمين بالموازين
الشرعية أمثال أبي ذر، وميثم التمار، وحجر بن عدي وأمثالهم. وقد استشهدوا في
طريق الدفاع عن الحق.
وفي الجواهر بعد بيان الشروط الأربعة قال:
" وعن البهائي (رحمه الله) في أربعينه عن بعض العلماء زيادة أنه لا يجب الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بعد كون الآمر والناهي متجنبا عن المحرمات
وعدلا... " (2).
ولكن روى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: قيل له: لا نأمر بالمعروف حتى نعمل
به كله ولا ننهى عن المنكر حتى ننتهي عنه كله؟ فقال: " لا، بل مروا بالمعروف وإن
لم تعملوا به كله وانهوا عن المنكر وإن لم تنتهوا عنه كله " (3).
التاسعة: في الحسبة وشروط المحتسب:
من الدوائر التي كانت رائجة في أعصار الخلافة الإسلامية هي دائرة
الحسبة، ويرجع تاريخها إلى عصر النبي (صلى الله عليه وآله) كما سيظهر.
وكانت وظيفتها إجمالا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمراتبهما
ومفهومهما الوسيع. وقد وزعت وظائفها في أعصارنا في أكثر البلاد على الوزارات
والمؤسسات المختلفة المنشعبة من سلطة التنفيذ، كما فوض بعض وظائفها أيضا

(1) كنز العمال: 6، 67.
(2) الجواهر: 21، 373.
(3) الوسائل: 11، 420.
288

إلى سلطة القضاء.
قال في الصحاح: " احتسبت عليه كذا: إذا أنكرته عليه. قال ابن دريد:
واحتسبت [طلبت] أجرا عند الله، والاسم الحسبة بالكسر وهي الأجر " (1).
قال ابن الأخوة: " الحسبة من قواعد الأمور الدينية. وقد كان أئمة الصدر
الأول يباشرونها بأنفسهم، لعموم صلاحها وجزيل ثوابها. وهي أمر بالمعروف إذا
ظهر تركه ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله، وإصلاح بين الناس...
والمحتسب: من نصبه الإمام أو نائبه للنظر في أحوال الرعية والكشف عن
أمورهم ومصالحهم (وبياعاتهم ومأكولاتهم وملبوسهم ومشروبهم ومساكنهم
وطرقاتهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر. خ. ل)... " (2).
وقال القاضي أبو يعلى الفراء: "... ومن شروط والي الحسبة أن يكون خبيرا
عدلا ذا رأي وصرامة وخشونة في الدين، وعلم بالمنكرات الظاهرة... " (3).
العاشرة: في ذكر بعض الموارد التي تصدى فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو أمير
المؤمنين (عليه السلام) لأمر الحسبة أو أمرا بها:
1 - سيأتي في فصل الاحتكار: " أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) مر بالمحتكرين فأمر
بحكرتهم أن تخرج إلى بطون الأسواق وحيث تنظر الأبصار إليها " (4).
2 - وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله،
إني سألت رجلا بوجه الله فضربني خمسة أسواط؟ فضربه النبي (صلى الله عليه وآله) خمسة أسواط
أخرى وقال: سل بوجهك اللئيم " (5).

(1) الصحاح: 1، 110.
(2) معالم القربة: 7 - 8.
(3) الأحكام السلطانية: 284.
(4) الوسائل: 12، 317.
(5) الوسائل: 18، 577.
289

3 - عن ابن عمر: " إنهم كانوا يشترون الطعام من الركبان على عهد النبي (صلى الله عليه وآله)
فيبعث عليهم من يمنعهم أن يبيعوه حيث اشتروه حتى ينقلوه حيث يباع
الطعام " (1).
4 - وعن كليب بن وائل الأزدي، قال: رأيت علي بن أبي طالب (عليه السلام) مر
بالقصابين فقال: " يا معشر القصابين، لا تنفخوا فمن نفخ اللحم فليس منا " (2).
5 - وأمر أمير المؤمنين (عليه السلام) مالكا بمنع التجار من الاحتكار ومعاقبة من
قارف الحكرة بعد نهيه (3).
6 - وفي خبر حبابة الوالبية، قالت: " رأيت أمير المؤمنين (عليه السلام) في شرطة
الخميس ومعه درة لها سبابتان يضرب بها بياعي الجري والمارماهي والزمار " (4).
7 - وعن أبي عبد الله (عليه السلام): " أن أمير المؤمنين (عليه السلام) أتى برجل عبث بذكره
فضرب يده حتى احمرت ثم زوجه من بيت المال " (5) إلى غير ذلك من الروايات.
وليس مقتضى نقلنا لها الالتزام بصحة الجميع وجواز الاعتماد على كل
واحدة منها بانفراده، بل الغرض هو إثبات اهتمام النبي (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام)
بأمر الحسبة إجمالا. والظاهر تحقق الوثوق بصدور بعض هذه الروايات إجمالا.
الحادية عشرة: في وظيفة المحتسب:
وظيفة المحتسب إجمالا هي نشر المعروف وبسطه في المجتمع، ودفع
المنكر والمكروه عنه.
وقد الف ابن الأخوة - المتوفى 729 ه‍ - كتابا جامعا في الحسبة سماه

(1) صحيح البخاري: 2، 14.
(2) كنز العمال: 4، 158.
(3) نهج البلاغة، عبده: 3، 110، صالح: 438، الكتاب 53.
(4) الوسائل: 16، 332.
(5) الوسائل: 18، 574.
290

" معالم القربة في أحكام الحسبة " وفصل فيها وظائف المحتسب، فلنذكر بعض ما
ذكره إجمالا، وإن كان للبحث والاشكال في بعضه مجال واسع. ونشير إلى بعض
عناوين كتابه فمن شاء التفصيل فليراجعه:
قال في الباب الثاني منه: " أما بعد فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله به النبيين أجمعين... وأما
الأمر بالمعروف فينقسم إلى ثلاثة أقسام: أحدها: ما تعلق بحقوق الله، والثاني: ما
تعلق بحقوق الآدميين، والثالث: ما كان مشتركا بينهما.
وأما المتعلق بحقوق الله تعالى فضربان: أحدهما: ما يلزم الأمر به في
الجماعة دون الانفراد كترك الجمعة في وطن مسكون، فإن كانوا عددا قد اتفق
انعقاد الجمعة بهم كالأربعين فما زاد فواجب أن يأخذهم بإقامتها ويأمرهم بفعلها،
ويؤدب على الإخلال بها...
وأما ما يؤمر به آحاد الناس وإفرادهم فكتأخير الصلاة حتى يخرج وقتها
فيذكر بها ويؤمر بفعلها ويراعى جوابه عنها فإن قال: تركتها للنسيان حثه على
فعلها بعد ذكره ولم يؤدبه، وإن تركها لتوان واهوان أدبه زجرا وأخذه بفعلها
جبرا... (1).
وأما الأمر بالمعروف في حقوق الآدميين فضربان: عام وخاص. فأما العام
فكالبلد إذا تعطل سربه واستهدم سوره... فإن شرع ذووا المكنة في عمله وباشروا
القيام به سقط عن المحتسب حق الأمر به.
وأما الخاص كالحقوق إذا بطلت (مطلت) والديون إذا أخرت فللمحتسب
أن يأمر بالخروج منها مع المكنة إذا استعداه أصحاب الحقوق... (2).

(1) معالم القربة: 24.
(2) معالم القربة: 26.
291

وأما الأمر بالمعروف فيما كان مشتركا بين حقوق الله وحقوق الآدميين
فكأخذ الأولياء بنكاح الأيامى من أكفائهن إذا طلبن...
وأما النهي عن المنكر فينقسم أيضا على ثلاثة أقسام: أحدها: ما كان من
حقوق الله - تعالى -. والثاني: ما كان من حقوق الآدميين. والثالث: ما كان مشتركا
بين الحقين.
فأما النهي عنها في حقوق الله - تعالى - فعلى ثلاثة أقسام: أحدها: ما تعلق
بالعبادات. والثاني: ما تعلق بالمحظورات. والثالث: ما تعلق بالمعاملات... " (1).
وذكر في الباب - 4 - الحسبة على أهل الذمة. وفي الباب - 5 -، الحسبة
على أهل الجنائز ومراقبة شؤونها من التجهيز والغسل والتكفين والصلاة والتدفين
بمباشرة أولياء الميت.
وفي الباب - 6 - المعاملات المنكرة كالبيوع الفاسدة والربا والسلم الفاسد
والإجارة الفاسدة والشركة الفاسدة والشروط المعتبرة في العقد والعاقد والمعقود
عليه (2).
وتعرض في الباب - 7 - لحرمة لبس الحرير والذهب على الرجال، وحرمة
اتخاذ الأواني من الذهب والفضة مطلقا، والمنع من تحلية الكعبة والمساجد
بقناديل الذهب والفضة (3).
وفي الباب - 9 - والباب - 10 - لمعرفة القناطير والأرطال والمثاقيل
والدراهم والموازين والمكاييل والأذرع (4).

(1) معالم القربة: 27.
(2) معالم القربة: 52.
(3) معالم القربة: 76.
(4) معالم القربة: 80.
292

وتعرض في الباب - 11 - للحسبة على العلافين والطحانين (1).
وفي الباب - 12 - للحسبة على الفرانين والخبازين (2).
وفي الباب - 13 - وعدة أبواب أخر للحسبة على صناع الأغذية
والحلويات: الشوائين والنقانقيين والكبوديين والبوارديين والرواسين
والطباخين والشرائحيين والهرايسيين وقلائي السمك وقلائي الزلابية
والحلوانيين بأنواعها وأصنافها المختلفة، وذكر المواد المستعملة فيها وكيفية
صنعها وان المحتسب يراقبهم في أعمالهم ليحسنوا صنعا ويحترزوا عن الغش
والخيانة ويراعوا موازين السلامة والصحة والنظافة (3).
وفي الباب - 16 - للحسبة على الجزارين والقصابين وكيفية الذبح والنحر
وشرائطهما وآدابهما (4).
وفي الباب - 24 - للحسبة على الشرابيين، وأراد بذلك صناع أنواع الأشربة
المتخذة من العقاقير المختلفة للتداوي بها (5). وفي الحقيقة يراد بالحسبة في هذا
الباب والباب التالي، الحسبة على أنواع الأدوية المستعملة للتداوي وكيفية صنعها
وتركيباتها، وهي أمور سرية خفية غالبا ويكثر فيها التدليس كما ذكر، فيحتاج إلى
مراقبة كثيرة ودقيقة جدا.
وتعرض في الباب - 25 - للحسبة على العطارين والشماعين، ولأنواع
الغش وطرقه في الأدوية والعقاقير المختلفة، وكذا الغش في الشموع (6).

(1) معالم القربة: 89.
(2) معالم القربة: 91.
(3) معالم القربة: 92.
(4) معالم القربة: 98.
(5) معالم القربة: 115.
(6) معالم القربة: 121.
293

وهذا ما أشرنا إليه من أهمية أمر الأدوية ولزوم مراقبة الصيادلة في صنعهم
ومعاملاتهم، وتحتاج إدارة الحسبة لا محالة إلى المتخصصين في الفنون المختلفة.
وتعرض في الباب - 26 - للحسبة على البياعين واللبانين والبزازين وإنه
يعتبر عليهم الموازين والمكاييل والصنج والأذرع والنظافة وسلامة الجنس
ومعرفة أحكام البيع وعقود المعاملات وما يحل لهم وما يحرم عليهم وصدق
القول في أخبار الشراء ومقدار رأس المال. وأن يظهروا جميع عيوب السلعة
خفيها وجليها، فإن الغش حرام (1).
وفي الباب - 29 - للحسبة على الدلالين (2).
وتعرض في الباب - 30 - والأبواب بعده للحسبة على الحاكة والخياطين
والرفائين والقصارين وصناع القلانس، والحريريين والصباغين والقطانين
والكتابين والصاغة والنحاسين والحدادين والأساكفة وغيرهم من أرباب المهن
والحرف، فيؤمرون بحسن العمل وجودته والانصاف وترك الغش والخيانة
والسرقة وحفظ الأمانة وترك المماطلة (3).
وفي الباب - 36 - للحسبة على الصيارفة (4).
وفي الباب - 40 - للحسبة على البياطرة (5). وفي الباب - 41 - للحسبة على
سماسرة العبيد والجواري والدواب والدور (6). وفي الباب - 42 - للحسبة على

(1) معالم القربة: 128.
(2) معالم القربة: 135.
(3) معالم القربة: 136.
(4) معالم القربة: 143.
(5) معالم القربة: 150.
(6) معالم القربة: 152.
294

الحمامات وقوامها (1).
وتعرض في الباب - 44 - و - 45 - للحسبة على الأطباء والكحالين
والجرائحيين والمجبرين والفصادين والحجامين والختانين (2).
أقول: ومن الأمور المهمة في هذا المجال في عصرنا هو أجرة الطبيب
والجراح، فعليهما رعاية الإنصاف ولا سيما في معالجة الضعفاء وأن يكتفيا
بالكفاف ولا يبيعا علمهما الشريف وخدمتهما الشريفة بالمتاع الفاني، وعلى
المحتسب مراقبتهما في ذلك ومنعهما من الإجحاف بالوعظ والتوبيخ والتخويف.
وتعرض في الباب - 46 - للحسبة على مؤدبي الصبيان (3).
وتعرض في الباب - 47 - للحسبة على القومة والمؤذنين (4).
وفي الباب - 49 - للحسبة على المنجمين وكتاب الرسائل (5).
وتعرض في الباب - 50 - من الكتاب (6) للحدود والتعزيرات الشرعية،
فذكر فيه ما فيه الحد وما فيه التعزير أو التأديب وكيفية إجراء الحدود والتعزيرات
وآلة إجرائهما وحكم التعزير بالمال وبالحبس ونحو ذلك من الفروع (7).
وفي الباب - 51 - للقضاة والشهود (8). وتعرض في الباب - 52 - للأمراء
والولاة، فقال: " وينبغي للمحتسب أن يقصد مجالس الامراء والولاة ويأمرهم

(1) معالم القربة: 154.
(2) معالم القربة: 159.
(3) معالم القربة: 170.
(4) معالم القربة: 172.
(5) معالم القربة: 182.
(6) معالم القربة: 184.
(7) معالم القربة: 197.
(8) معالم القربة: 200.
295

بالشفقة على الرعية والإحسان إليهم...
وليكن في وعظه وقوله في ردعهم عن الظلم لطيفا ظريفا لين القول بشوشا
غير جبار ولا عبوس، قال الله تعالى: (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من
حولك...) (1).
وتعرض في الباب - 54 - للحسبة على أصحاب السفن والمراكب (2).
وما ذكره في هذا الباب أمر خطير مهم يلزم رعايته والاهتمام به في
السيارات والطيارات أيضا.
وتعرض في الباب - 43 - للحسبة على السدارين (3).
وتعرض في الباب - 55 إلى 70 - للحسبة على أمور. ففي الباب - 55 -
على باعة قدور الخزف والكيزان. وفي الباب - 56 - على الفاخرانيين
والغضارين. - 57 - على الابارين والمسلاتيين. - 58 - على المرادنيين. - 59 -
على الحناويين. - 60 - على الامشاطيين. - 61 - على معاصر الشيرج والزيت.
- 62 - على الغرابليين. - 63 - على الدباغين والبططيين. - 64 - على اللبوديين.
- 65 - على الفرائين. - 66 - على الحصريين والعبداني والكركر. - 67 - على
التبانين. - 68 - على الخشابين والقشاشين. - 69 - على النجارين والنشارين
والبنائين والدهانين والمبيضين والضببيين والجباسين والجيارين. - 70 - على
الرزازين والمراوحيين وباعة الكبريت والمكانس والزفاتين وسقائي الكيزان
وأرباب الروايا والقرب والدلاء والغسالين لأقمشة الناس، والانكار على نطاح

(1) معالم القربة: 216.
(2) معالم القربة: 222.
(3) معالم القربة: 158.
296

الكباش ونقار الديوك وصياح السمان وأمثالها (1).
ومن أراد المقصود من هذه العناوين ووظيفة المحتسب في قبالها يرجع إلى
الكتاب المذكور. والحكم في الجميع واحد، وهو أنه يجب على المحتسب مراقبة
الأعمال وآلات العمل والمواد المستعملة ومحال العمل ومقدار الأجرة وكون
العامل متخصصا في عمله ونحو ذلك، والمتخلف يعزر.
فهذا ما اقتبسناه من كتاب معالم القربة في بيان وظيفة المحتسب.
وقد تعرض ابن الأخوة لآداب المحتسب وما يجب عليه أو ينبغي له في
احتسابه.
فقال في الباب الأول من كتابه: " أول ما يجب على المحتسب أن يعمل بما
يعلم، ولا يكون قوله مخالفا لفعله، فقد قال - تعالى -: (أتأمرون الناس بالبر
وتنسون أنفسكم...)؟ ويجب عليه أن يقصد بقوله وفعله وجه الله - تعالى - وطلب
مرضاته خالص النية لا يشوبه في طويته رياء ولا مراء، ويتجنب في رياسته
منافسة الخلق ومفاخرة أبناء الجنس...
ومن الشروط اللازمة للمحتسب أن يكون عفيفا عن أموال الناس متورعا
عن قبول الهدية من المتعيشين وأرباب الصناعات، فإن ذلك رشوة وقد قال (صلى الله عليه وآله):
" لعن الله الراشي والمرتشي، ولأن التعفف عن ذلك أصون لعرضه وأقوم
لهيبته... " (2).
وليكن سمته الرفق ولين القول، وطلاقة الوجه وسهولة الأخلاق عند أمره
الناس ونهيه، فإن ذلك أبلغ في استمالة القلوب وحصول المقصود... " (3).

(1) معالم القربة: 222.
(2) معالم القربة: 13.
(3) معالم القربة: 14.
297

أقول: وعن أبي عبد الله (عليه السلام): " إنما يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من
كانت فيه ثلاث خصال: عامل بما يأمر به، تارك لما ينهى عنه، عادل فيما يأمر
عادل فيما ينهى، رفيق فيما يأمر، رفيق فيما ينهى. " (1).

(1) الوسائل 11، 419.
298

الفصل السادس
في البحث حول التعزيرات الشرعية (1)

(1) البحث عن العقوبات الإسلامية في زماننا كما يبحث عنها أربعة عشر قرنا قبل هذا في
الكتب الفقهية مثل البحث عن: " مقدار الضرب التأديبي " للزوجة بيد الزوج، أو الصبي بيد
المعلم، والبحث عقيب ذلك فيما إذا أدى الضرب إلى قتل المضروب عن: " حكم من قتله
التعزير أو التأديب " يثير شبهات كثيرة حول تشريعات الإسلام الجزائية التي عدم الاعتناء
بها وردها يوجب وهن الإسلام.
اليوم قام العلماء بمدارسة العقوبات والتحري عن كل واحد منها حتى يعلموا أنه هل أثر
في إصلاح المجرم ومنعه ومنع الآخرين عن تكرار الجرم أم لا؟ وإن أثر فبأي مقدار أثر؟
هذه الدراسات نفسها دليل على أن العقلاء لم يتعبدوا بنوع خاص من العقوبات في ردع
المجرم وإمحاء الجرم إلا أن يشاهدوا حسب الاحصاء أن ذلك النوع من العقوبة أثر كذلك
فيقرروه، أو يجعلوه قانونا ليحكم به في المحاكم.
ولهذا نرى في المجتمعات الراقية طرحت مباحث وحدث علوم مثل: فلسفة الحقوق،
وعلم العقوبة، وعلم الإجرام، وعلم نفس المجرمين، وعلم الاجتماع من حيث الإجرام حتى
يمنع من وقوع الجرم وتمحى الجرائم عن صفحة الاجتماع بأدق الطرق وأحسنها.
فالأولى أن تطرح هذه الأبحاث في الحوزات العلمية وأن لا تفتى تعبدا: إنه إذا نشزت
الزوجة فللزوج بعد الوعظ وعدم التأثير أن يضربها بالسوط تأديبا، من دون أن يلاحظ إنه
هل يؤثر الضرب في إصلاحها أو يفضيها إلى مراحل أسوأ؟
لا نظن قائلا يعرف ظروف الزمان ومقتضياته يقول: إن العقوبات الواردة في الشريعة
كانت تعبدية ولمصالح غيبية غير قابلة لأي اجتهاد جديد من ناحية الفقهاء العالمين بزمانهم.
فإن الله - تعالى - بعد أن شرع القصاص خاطب العقلاء وقال: " ولكم في القصاص حياة يا
أولي الألباب " (البقرة 2: 179).
فاللازم على الحوزات العلمية والجامعات والمراكز القضائية والتربوية أن يبحثوا
ويدارسوا العقوبات الشرعية من الجهات المختلفة، وعلى الفقهاء أيضا أن لا يدخلوا في
البحث عن العقوبات إلا بعد العلم بنتائج هذه الدراسات.
ولنذكر هنا أن الأستاذ - دام ظله - عقد الفصل السادس من البحث حول التعزيرات
الشرعية للإشارة إلى أن للحكومة الإسلامية تعزير المجرمين، وقد تسلم لنكتتين
أساسيتين:
1 - إن التعزير ليس أمرا عباديا تعبديا محضا شرع لمصالح غيبية لا نعرفها. ولأجل ذلك
فوض تعيين حدوده ومقداره إلى الحاكم. فيختلف بحسب تفاوت الجرائم وكذا المجرمين
بحسب الموقعية والسوابق الحسنة أو السيئة، ولا شك أن الحاكم يتأثر من ظروف زمانه ومن
معطيات العلوم المرتبطة بالجرم والعقوبة التي أشرنا إليها آنفا.
2 - إنه لا يراد بالتعزير الضرب فقط بل يشمل التوبيخ والتهديد والهجر ونفي البلد
والحبس والمجازاة المالية والضرب ليس إلا مصداقا شايعا من مصاديقه. وفي الموارد التي
جوز الضرب لا يجوز أزيد عن تسعة وثلاثين في التعزير ولا أزيد عن الست في التأديب
(انظر الصفحات، 299، 300، 302، 304، 308، 309 و 310 من التلخيص).
وعلى هذا ففي موارد التعزير كما يجوز تعزير المجرمين بالعقوبات المذكورة يجوز أن
يعزروا بالعقوبات السالبة لبعض الحريات والحقوق الاجتماعية والمدنية والثقافية
والسياسية، أو يلزموا ببعض الأعمال أو التعاليم - م -.
299

نصابا من غير حرز، أو أقل من نصاب من حرز، أو وطئ أجنبية فيما دون
الفرج أو قبلها، أو شتم إنسانا أو ضربه، فإن الإمام يعزره " (1).
وقال أبو الصلاح الحلبي: " التعزير تأديب تعبد الله - سبحانه - به لردع
المعزر وغيره من المكلفين. وهو مستحق للإخلال بكل واجب وإيثار كل قبيح لم

(1) المبسوط: 8، 69.
300

يرد الشرع بتوظيف الحد عليه... فمن ذلك أن يخل ببعض الواجبات العقلية كرد
الوديعة وقضاء الدين، أو الفرائض الشرعية كالصلاة والزكاة والصوم والحج...
ومن ذلك أن يفعل بعض القبائح. وهي على ضروب: منها وجود الرجل
والمرأة لا عصمة بينهما في ازار واحد أو بيت واحد...
ويعزر من عرض بغيره بما يفيد القذف بالزنا أو اللواط، كقوله يا ولد
خبث... أو نبزه بما يقتضي النقص كقوله: يا سفلة، أو يا ساقط، أو يا أحمق أو فاسق
أو مجرم أو كافر أو تارك الصلاة أو الصوم، وهو غير مشهور بما يقتضي ذلك...
وإذا عير المسلم ببعض الآفات كالعمى والعرج والجنون والجذام والبرص
عزر... ويعزر من أكل أو شرب أو باع أو ابتاع أو تعلم أو علم أو نظر أو سعى أو
بطش أو أصغى أو آجر أو استأجر أو أمر أو نهى على وجه قبيح... " (1).
وقال المحقق: " كل من فعل محرما أو ترك واجبا فللإمام تعزيره بما لا يبلغ
الحد. وتقديره إلى الإمام... " (2) وفي الجواهر: " لا خلاف ولا إشكال نصا
وفتوى " (3).
ويدل على الحكم مضافا إلى وضوحه وعدم الخلاف فيه كما مر من
الجواهر:
أولا: استقرار سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) على ذلك على ما مر منا
من حسبتهما في موارد كثيرة بعد إلغاء الخصوصية.
وثانيا: الروايات الدالة على أن الله - تعالى - جعل لكل شئ حدا وجعل
على من تعدى حدا من حدود الله حدا: منها صحيحة داود بن فرقد عن أبي

(1) الكافي لأبي الصلاح: 416 - 420.
(2) الشرائع: 4، 168.
(3) الجواهر: 41، 448.
301

عبد الله (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): " إن الله قد جعل لكل شئ حدا وجعل لمن تعدى
ذلك الحد حدا " (1).
وواضح أن الحد في مثل هذا الخبر أعم من الحد المصطلح، إذ هو لا يثبت
إلا في موارد خاصة.
إذا عرفت ما ذكرناه فاعلم أن هنا جهات يجب البحث فيها:
الأولى - في اهتمام الإسلام بإقامة الحدود والتعزيرات:
لا يخفى أن إدارة المجتمع وحفظ النظام وأمن السبل وإقامة القسط والعدل
تتوقف على تحديد الحريات ووضع المقررات، وعلى تأديب المتخلفين ومجازاة
المجرمين. إذ لولا خوف أهل الفساد من العقوبة والخذلان لما بقي للنفوس
والأعراض والأموال حرمة، ولاختل أمر الحياة وشاعت الفوضى والهرج.
والإسلام بجامعيته لجميع ما يحتاج إليه الإنسان في معاشه ومعاده وما به
صلاحه في الدارين اهتم بهذا الأمر: قال الله - تعالى -: (لقد أرسلنا رسلنا
بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه
بأس شديد ومنافع للناس...) (2).
والظاهر من الروايات ومن فتاوى الأصحاب أن إقامة الحدود بحسب
الطبع واجبة لا يجوز تعطيلها: ففي خبر ميثم، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "... يا محمد
من عطل حدا من حدودي فقد عاندني وطلب بذلك مضادتي " (3).
نعم، لو تاب المجرم قبل قيام البينة عليه سقط الحد، كما أنه لو كان الثبوت

(1) الوسائل: 18، 310.
(2) الحديد 57: 25.
(3) الوسائل: 18، 309.
302

بالإقرار لا بالبينة كان للإمام عفوه، بل مطلقا على قول (1).
وأما التعزيرات فهل يكون تنفيذها واجبا، أو تكون باختيار الإمام، أو فيه
تفصيل؟
في المسألة وجوه: قال الشيخ: " التعزير إلى الإمام بلا خلاف، إلا إذا علم أنه
لا يردعه إلا التعزير لم يجز له تركه. وإن علم أن غيره يقوم مقامه من الكلام
والتعنيف كان له أن يعدل إليه، ويجوز له تعزيره... " (2).
وفي المغني لابن قدامة: " والتعزير فيما شرع فيه التعزير واجب إذا رآه
الإمام، وبه قال مالك وأبو حنيفة. وقال الشافعي: ليس بواجب... " (3).
ولكن المستفاد من أكثر الأخبار الواردة في التعزيرات، وكذا من أكثر
كلمات الأصحاب وجوب التعزير في موارده بدوا وبالطبع، وإن قلنا بسقوطه إن
تاب قبل قيام البينة، وبجواز عفو الحاكم عنه إن كان الثبوت بالإقرار لا بالبينة كما
هو الظاهر. فأنت ترى روايات الباب وكلمات الأصحاب مشحونة بقولهم: عزر،
أو يعزر، أو أدب، أو يؤدب، أو ضرب، أو يضرب تعزيرا، أو عليه تعزير، أو جلد،
أو يجلد ونحو ذلك من الألفاظ التي تكون بصورة الإخبار ويراد بها الأمر قطعا.
وبعض فقهائنا أيضا عبروا بلفظ الوجوب، وحمله على معناه اللغوي، أعني الثبوت
خلاف الظاهر:
ففي الغنية: " واعلم أن التعزير يجب بفعل القبيح والإخلال بالواجب الذي
لم يرد من الشارع بتوظيف حد عليه... " (4).

(1) راجع الوسائل: 18، 330 - 331.
(2) الخلاف: 3، 223.
(3) المغني: 10، 348.
(4) الجوامع الفقهية: 562.
303

وقال العلامة: " التعزير يجب في كل جناية لا حد فيها... " (1).
الثانية - في عموم الحكم للصغائر أيضا:
ظاهر ما مر من المبسوط عموم الحكم لكل محرم، صغيرا كان أو كبيرا.
ولكن في الجواهر: " قد يقال باختصاص التعزير بالكبائر دون الصغائر ممن كان
يجتنب الكبائر... " (2).
أقول: نظره (رحمه الله) إلى قوله - تعالى -: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر
عنكم سيئاتكم...) (3).
ولكن يمكن الإشكال في أصل الاختصاص بالكبائر، لأن المفروض كون
الصغيرة أيضا محرمة مبغوضة شرعا، والآية إنما تدل على التكفير والعفو عنها في
العقبى فلا ينافي جواز التعزير عليها فعلا ردعا للفاعل عن تكرارها ولغيره عن
الإتيان بمثلها.
الثالثة - في بيان مفهوم التعزير بحسب اللغة والفقه:
قال في الصحاح: " التعزير: التعظيم والتوقير، والتعزير أيضا: التأديب، ومنه
سمى الضرب دون الحد تعزيرا " (4).
وفي القاموس: " العزر: اللوم. عزره يعزره وعزره، التعزير: ضرب دون
الحد أو هو أشد الضرب " (5).

(1) تحرير الأحكام: 2، 239.
(2) الجواهر: 41، 448.
(3) النساء 4: 31.
(4) صحاح اللغة: 2، 744.
(5) القاموس: 278.
304

وفي لسان العرب: " العزر: اللوم. وعزره يعزره عزرا وعزره: رده. والعزر
والتعزير: ضرب دون الحد لمنعه الجاني من المعاودة... وأصل التعزير: التأديب،
ولهذا يسمى الضرب دون الحد تعزيرا، إنما هو أدب... " (1).
وقال المحقق: " كل ما له عقوبة مقدرة يسمى حدا، وما ليس كذلك يسمى
تعزيرا " (2).
وقال الماوردي: " والتعزير: تأديب على ذنوب لم تشرع فيها الحدود.
ويختلف حكمه باختلاف حاله وحال فاعله " (3).
وفي المغني: " التعزير هو العقوبة المشروعة على جناية لا حد فيها... " (4).
الرابعة - في أن التعزير يراد به الضرب والإيلام، أو مطلق التأديب؟
قد ظهر من تتبع كلمات أهل اللغة أن اللفظ بحسب الوضع لم يوضع
للضرب، بل للمنع والتأديب ونحوهما، نعم، يظهر من أكثر كلمات الفقهاء كونه
بمعنى الضرب الذي دون الحد، كما أنه الظاهر من كلمات أهل اللغة كالقاموس
أيضا.
ولكن يظهر من بعض الفقهاء ولا سيما فقهاء السنة كونه بحسب الاصطلاح
أيضا بمعنى مطلق ما يتحقق به المنع والتأديب؛ فيشمل التوبيخ والتهديد والحبس
والمجازاة المالية. فليس في المقام نقل ولا حقيقة شرعية، بل الملحوظ نفس
المفهوم اللغوي بعمومه، والضرب ليس إلا مصداقا شائعا من مصاديقه.
كما أنه يظهر من بعض آخر أن المراد باللفظ خصوص الضرب ولكنه لا

(1) لسان العرب: 4، 561 - 562.
(2) الشرائع: 4، 147.
(3) الأحكام السلطانية: 236.
(4) المغني: 10، 347.
305

يتعين اختياره، بل يكون بحسب الرتبة متأخرا عن مثل التوبيخ والهجر ونحوهما.
قال الشيخ: " إذا فعل إنسان ما يستحق به التعزير مثل أن قبل امرأة حراما...
فللإمام تأديبه؛ فإن رأى أن يوبخه على ذلك ويبكته أو يحبسه فعل، وإن رأى أن
يعزره فيضربه ضربا لا يبلغ به أدنى الحدود - وأدناها أربعون جلدة - فعل... " (1).
وظاهره كون التأديب أعم من التعزير والتعزير ينحصر في الضرب، ولكن
الإمام مخير بين الضرب وغيره.
وفي التحرير: " التعزير يجب في كل جناية لا حد فيها... وهو يكون
بالضرب والحبس والتوبيخ، من غير قطع ولا جرح ولا أخذ مال " (2) وظاهره كون
التعزير أعم وكون الإمام مخيرا بين أفراده.
وفي الأحكام السلطانية للماوردي: " ويختلف حكمه باختلاف حاله
وحال فاعله؛ فيوافق الحدود من وجه وهو أنه تأديب استصلاح وزجر يختلف
بحسب اختلاف الذنب... " (3).
وفي المنهاج للنووي في فقه الشافعية: " يعزر في كل معصية لا حد لها ولا
كفارة بحبس، أو ضرب، أو صفع، أو توبيخ. ويجتهد الإمام في جنسه
وقدره... " (4).
وفي المغني: " والتعزير يكون بالضرب والحبس والتوبيخ " (5).
أقول: فيظهر من هؤلاء المصنفين من علماء السنة أن مفهوم التعزير عندهم

(1) المبسوط: 8، 66.
(2) تحرير الأحكام: 2، 239.
(3) الأحكام السلطانية: 236.
(4) المنهاج: 535.
(5) المغني: 10، 348.
306

بحسب الاصطلاح أيضا يكون أعم من الضرب والايلام، كما يكون كذلك بحسب
اللغة، وقد وردت أخبار في التأديب بغير الضرب والايلام أو معه، منها:
1 - " قد نفى رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحكم بن أبي العاص إلى الطائف، لكونه حاكاه
في مشيته وفي بعض حركاته، فسبه وطرده وقال له: " كذلك فلتكن ". فكان الحكم
متخلجا يرتعش " (1).
2 - وفي مكارم الأخلاق: " لعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) المخنثين وقال: أخرجوهم
من بيوتكم " (2).
3 - وروى الصدوق عن علي (عليه السلام) قال: " يجب على الإمام أن يحبس الفساق
من العلماء والجهال من الأطباء والمفاليس من الأكرياء... " (3).
4 - وعن جعفر عن أبيه (عليهما السلام): أنه رفع إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) رجل وجد تحت
فراش امرأة في بيتها، فقال: هل رأيتم غير ذلك؟ قالوا: لا، قال: " فانطلقوا به إلى
مخرؤة فمرغوه عليها ظهرا لبطن ثم خلوا سبيله " (4).
5 - وعن أبي عبد الله (عليه السلام) أن أمير المؤمنين (عليه السلام) أتي برجل اختلس درة من
أذن جارية، فقال: " هذه الدغارة المعلنة، فضربه وحبسه " (5).
ولعل المتتبع يقف على موارد كثيرة من هذا القبيل. وهذه كلها من باب
التعزير قطعا، إذ لا ثالث للحد والتعزير، فيكون مفهومه أعم من الضرب وهو
المطلوب.

(1) التراتيب الإدارية: 1، 301.
(2) الوسائل: 14، 259.
(3) الوسائل: 18، 221.
(4) التهذيب: 10، 48.
(5) الوسائل: 18، 244.
307

ما يستدل به لتعين الضرب والإيلام:
الأول: إطلاق ما دل على الضرب في موارد خاصة، كوطي الحائض
والصائمة ونحوهما.
الثاني: عموم ما دل على أن الله جعل لكل شئ حدا، وجعل على من تعدى
حدا من حدود الله حدا.
وهذه الروايات كانت عمدة دليلنا على ثبوت التعزير في كل معصية كما مر،
وحيث إن الحد المصطلح يكون من سنخ الضرب فلا محالة يكون التعزير أيضا من
سنخه.
ويجاب عن الأول: بأنا نسلم تعين الضرب في الموارد التي ورد فيها
الضرب بخصوصه كوطي الصائمة أو الحائض، وإنما الكلام في غيرها من
التخلفات التي لم يذكر لها بخصوصها شئ في الأخبار.
وعن الثاني: بأن الحد في هذه الروايات لا يراد به الحد المصطلح قطعا كما
هو مبنى الاستدلال بل يراد به معناه اللغوي، وهو في اللغة بمعنى المنع والكف
والصرف؛ فيراد به في هذه الروايات كل ما يوجب تحديد فاعل المنكر ومنعه
فيشمل الحدود المصطلحة وكذا التعزيرات بأنواعها؛ مثل التوبيخ والتهديد ونفي
البلد والحبس أيضا لحصول المنع بسببها.
مضافا إلى أن الحد المصطلح أيضا لا ينحصر في العقوبة والإيلام، ففي حد
المحارب يكون النفي أحد أفراد التخيير، كما نقل عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام) في
حديث طويل: " فإن كانوا أخافوا السبيل فقط ولم يقتلوا أحدا ولم يأخذوا مالا
أمر بإيداعهم الحبس، فإن ذلك معنى نفيهم من الأرض بإخافتهم السبيل " (1).

(1) الوسائل: 18، 536.
308

الخامسة - في التعزير المالي:
هل يجوز التعزير بالمال أيضا بإتلافه أو أخذه منه أم لا؟ فيه وجهان: من أن
الغرض ردع فاعل المنكر وربما يكون التعزير المالي أوفى بالمقصود.
ومن أن أحكام الشرع توقيفية، فلا يجوز التعدي عما ورد في باب الحدود
والتعزيرات.
قال ابن الأخوة: " وأما التعزير بالأموال فجائز عند مالك، وهو قول قديم
عند الشافعي... " (1).
وفي الفقه على المذاهب الأربعة: " وأجاز بعض الحنفية التعزير بالمال على
أنه إذا تاب يرد له... " (2).
ولكن في المغني: " والتعزير يكون بالضرب والحبس والتوبيخ، ولا يجوز
قطع شئ منه ولا جرحه ولا أخذ ماله، لأن الشرع لم يرد بشيء من ذلك عن أحد
يقتدى به، ولأن الواجب أدب، والتأديب لا يكون بالإتلاف " (3).
فالتعزير بالمال كان معنونا في كلمات الفقهاء من السنة.
ما يمكن أن يستدل به للتعزير بالمال بإتلافه أو بأخذه:
الأول: تحريق موسى (عليه السلام) للعجل المتخذ إلها: ففي سورة طه: (وانظر إلى
إلهك الذي ظلت عليه عاكفا؛ لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا) (4). وأحكام
الشرائع السابقة يجوز استصحابها ما لم يثبت نسخها، والعجل كان قيما جدا؛ صنعه

(1) معالم القربة: 194 - 195.
(2) الفقه على المذاهب الأربعة: 5، 401.
(3) المغني: 10، 348.
(4) طه 20: 97.
309

السامري من مجموع حلي بني إسرائيل.
الثاني: هدم مسجد ضرار وتحريقه مع ماليته: ففي مجمع البيان: " فوجه
رسول الله (صلى الله عليه وآله) - عند قدومه من تبوك - عاصم بن عوف العجلاني، ومالك بن
الدخشم... فقال لهما: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه. وروي:
أنه بعث عمار بن ياسر، ووحشيا فحرقاه، وأمر بأن يتخذ كناسة يلقى فيها
الجيف " (1).
الثالث: جميع موارد الكفارات الواردة من عتق الرقبة أو الصدقة بمال أو
إطعام مسكين بمد أو إطعام ستين مسكينا أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم،
حيث إنها بأجمعها صرف المال وتكون نوعا من التأديب والتعزير وإن كانت أمورا
عبادية يشترط فيها القربة، فيستأنس منها إمكان التعزير بالمال.
الرابع: الاعتبار العقلي الموجب للوثوق بالحكم. بتقريب أن التعزير ليس
أمرا عباديا تعبديا محضا شرع لمصالح غيبية لا نعرفها، بل الغرض منه هو تأديب
الفاعل وردعه وكذا كل من رأى وسمع فيصلح بذلك الفرد والمجتمع، ولأجل ذلك
فوض تعيين حدوده ومقداره إلى الحاكم.
الخامس: الأولوية القطعية. فإن الإنسان كما يكون مسلطا على ماله، فكذلك
يكون مسلطا على نفسه وبدنه، بل هي ثابتة بالأولوية القطعية، فإذا جاز نقض
سلطنته على بدنه وهتك حريمه بضربه وإيلامه بداعي الردع والتأديب فليجز نقض
السلطة المالية بطريق أولى ولكن بهذا الداعي وبمقدار لابد منه لذلك. ويؤيد ما
ذكرناه استقرار سيرة العقلاء في الأعصار المختلفة على التغريم المالي في كثير من
الخلافات.

(1) مجمع البيان 3، 73.
310

السادسة - في حد التعزير البدني ومقداره قلة وكثرة:
الأقوال في المسألة كثيرة:
الأول: أن لا يبلغ حد الحر في الحر وحد العبد في العبد، كما في الشرائع (1)
والقواعد (2). ولا يخفى أن في عبارتهما نحو إجمال، لاحتمال أكثر الحد وأقله.
وقد مر تفسير الجواهر (3) حد الحر بالمأة أعني الأكثر، وحد العبد بالأربعين أعني
الأقل. ولعل غرضه كان شمول هذا المقياس للمأة إلا سوطا التي أفتى بها
الأصحاب ودلت عليها الأخبار في الرجلين أو المرأتين أو الرجل والمرأة
الأجنبية إذا وجدا مجردين تحت لحاف واحد (4).
الثاني: أن لا يبلغ أدنى حد الحر في الحر، وأدنى حد العبد في العبد، وفسر
أدنى الحد فيهما تارة بالثمانين وبالأربعين كما في الخلاف (5) وإن ناقشناه،
وأخرى بالخمسة والسبعين وبالأربعين كما حكاه في الجواهر (6) وثالثة بالأربعين
وبالعشرين كما عن الشافعي (7) وغيره.
الثالث: أن لا يبلغ أدنى حد العبد مطلقا، وفسر تارة بالأربعين كما هو
الظاهر مما حكاه في الجواهر (8) وكذا مما عن أبي حنيفة (9) وأخرى بالعشرين كما

(1) الشرائع: 4، 168.
(2) قواعد الأحكام: 2، 262.
(3) الجواهر: 41، 448.
(4) راجع الوسائل: 18، 363.
(5) الخلاف: 3، 224.
(6) جواهر الكلام: 41، 448.
(7) المنهاج: 535.
(8) الجواهر: 41، 448.
(9) الخلاف: 3، 224.
311

هو الظاهر مما في المنهاج (1) ومعالم القربة (2).
الرابع: أن لا يبلغ أكثر الحد والحد الكامل أعني المأة مطلقا، كما هو الظاهر
من السرائر (3).
الخامس: أن يفصل بين المعاصي؛ فيلاحظ في كل منها ما يناسبها، كما
وجهه في السرائر (4) ونسبه في المسالك (5) إلى الشيخ والفاضل في المختلف،
وحكاه في المغني (6) عن أحمد أيضا.
السادس: أن الأكثر خمسة وسبعون، كما عن ابن أبي ليلى وأبي يوسف (7).
السابع: أن التعزير مأة فأقل، على ما حكاه المحلى (8) ويشهد له بعض
الأخبار الواردة في المجردين تحت لحاف واحد (9).
الثامن: أن أكثره ثلاثون سوطا (10).
التاسع: أن أكثره تسعة، حكاهما في المحلى (11).
العاشر: أن لا يزداد على عشر جلدات، كما عن أحمد في إحدى الروايتين
عنه (12).

(1) المنهاج: 535.
(2) معالم القربة: 192.
(3) السرائر: 450.
(4) السرائر: 450.
(5) الجواهر: 41، 448.
(6) المغني: 10، 347.
(7) و (8) المحلى: 8، 401.
(9) الوسائل: 18، 363.
(10) و (11) المحلى: 8، 401.
(12) المغني: 10، 347.
312

الحادي عشر: أنه إلى اجتهاد الإمام، فلا حد له كما عن مالك والأوزاعي (1).
ولا يخفى أن ما ذكر من الأقوال إنما هو فيما إذا لم يرد من قبل الشرع تقدير
مخصوص. وذلك في مواضع ذكر خمسة منها في المسالك:
الأول: تعزير المجامع زوجته في نهار رمضان؛ مقدر بخمسة وعشرين
سوطا.
الثاني: من تزوج أمة على حرة ودخل بها قبل الإذن، ضرب اثنى عشر
سوطا ونصفا ثمن حد الزاني.
الثالث: المجتمعان تحت إزار واحد مجردين؛ مقدر بثلاثين إلى تسعة
وتسعين على قول.
الرابع: من افتض بكرا بإصبعه...
الخامس: الرجل والمرأة يوجدان في لحاف واحد وإزار مجردين...
أقول: يمكن أن يضاف إليها وطي الحائض والبهيمة، حيث ورد فيهما
خمسة وعشرون جلدة.
إذا عرفت هذا فلنذكر ما ورد من الأخبار لتحديد التعزير بنحو الإطلاق
وهو محل الكلام هنا.
بعض الأخبار الواردة في مقدار التعزير:
1 - صحيحة حماد بن عثمان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " قلت له: كم التعزير؟
فقال: دون الحد. قال: قلت: دون ثمانين؟ قال: لا، ولكن دون أربعين، فإنها حد
المملوك. قلت: وكم ذلك؟ قال: على قدر ما يراه الوالي من ذنب الرجل وقوة
بدنه " (2).

(1) معالم القربة: 192.
(2) الوسائل: 18، 584.
313

2 - موثقة إسحاق بن عمار، قال؛ سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن التعزير كم هو؟
قال: " بضعة عشر سوطا؛ ما بين العشرة إلى العشرين " (1).
3 - مرسلة الصدوق (رحمه الله) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " لا يحل لوال يؤمن بالله
واليوم الآخر أن يجلد أكثر من عشرة أسواط إلا في حد. وأذن في أدب المملوك
من ثلاثة إلى خمسة " (2).
4 - وفي المستدرك، عن فقه الرضا (عليه السلام)، قال: " التعزير ما بين بضعة عشر
سوطا إلى تسعة وثلاثين، والتأديب ما بين ثلاثة إلى عشرة " (3).
أقول: ظاهر الأخبار المذكورة: أن الأمر في التعزيرات العامة يدور بين
كونها دون الأربعين بلا حد في ناحية القلة كما في صحيحة حماد، أو بين بضعة
عشر إلى تسعة وثلاثين كما في فقه الرضا (عليه السلام)، أو بين بضعة عشر إلى عشرين كما
في الموثقة، أو لا تزيد على عشرة كما في مرسلة الصدوق وما بمضمونها.
ويمكن أن يقال: إن مرسلة الصدوق وما بمضمونها، أعني ما دل على عدم
جواز الزيادة على العشرة لم نجد من يفتي بها من أصحابنا الإمامية، وإنما أفتى
بمضمونها بعض فقهاء السنة.
ويمكن حمل مفاد الموثقة على كونه من باب المثال وتعيين بعض
المصاديق. ويؤيد ذلك إطلاقات التعزير الواردة في أخبار كثيرة في الأبواب
المختلفة في مقام البيان من غير ذكر المقدار. فبذلك يجمع بين الصحيحة وبين
الموثقة، وتصير عبارة فقه الرضا (عليه السلام) شاهدة لهذا الجمع. وعلى هذا فالجمع بين
الأخبار العامة يقتضي الأخذ بما في فقه الرضا، أعني ما بين بضعة عشر سوطا إلى

(1) الوسائل: 18، 583.
(2) الوسائل؛ 18، 584.
(3) مستدرك الوسائل: 3، 248.
314

تسعة وثلاثين.
وربما يحمل اختلاف الأخبار في المقام على تفاوت الجرائم وكذا
المجرمين بحسب الموقعية والسوابق الحسنة أو السيئة، واختلاف مراتب التعزير
والشرائط الزمانية والمكانية ونحو ذلك. وليس التعزير أمرا تعبديا محضا يقتصر
فيه على مقدار خاص نظير الحد، بل الغرض منه تأديب الشخص وتنبيه المجتمع
فيختلف باختلاف الجهات المذكورة.
وكأن الأمر في كل منها إرشاد إلى مرتبة خاصة منها. وقد يشعر بذلك
قوله (عليه السلام) في صحيحة حماد: " على قدر ما يراه الوالي من ذنب الرجل وقوة
بدنه " (1).
نعم، لا يجوز تجاوزه عن الحد بل بلوغه إلى حده أيضا كما يدل عليه معتبر
السكوني، عن أبي عبد الله عن آبائه (عليهم السلام)، قال؛ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " من بلغ حدا في
غير حد فهو من المعتدين " (2). ورواه البيهقي أيضا عن النبي (صلى الله عليه وآله) (3).
السابعة - في مقدار الضرب التأديبي:
لا يخفى أن تأديب الصبي المتخلف غير تعزير المجرم، فإن التعزير يكون
في قبال العمل المحرم ذاتا والتأديب يقع في قبال ما لا ينبغي صدوره عادة.
ومقدار الضرب فيه أيضا لا يبلغ مقدار الضرب في التعزير.
قال الشيخ في النهاية: " والصبي والمملوك إذا أخطئا أدبا بخمس ضربات
إلى ست، ولا يزاد على ذلك " (4).

(1) الوسائل: 18، 584.
(2) الوسائل: 18، 312.
(3) سنن البيهقي: 8، 327.
(4) النهاية: 732.
315

وقال المحقق: " يكره أن يزاد في تأديب الصبي على عشرة أسواط... " (1).
وفي خبر حماد بن عثمان، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) في أدب الصبي
والمملوك، فقال: " خمسة أو ستة وارفق " (2).
وفي خبر السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن أمير المؤمنين (عليه السلام) ألقى صبيان
الكتاب ألواحهم بين يديه ليخير بينهم، فقال: " أما إنها حكومة، والجور فيها
كالجور في الحكم. أبلغوا معلمكم إن ضربكم فوق ثلاث ضربات في الأدب اقتص
منه " (3).
ولا يخفى انصراف الخبرين المذكورين عن صورة ارتكاب الصبي المميز
لواحدة من المعاصي الشرعية التي شرع فيها الحد أو التعزير، إذ الظاهر أن الثابت
حينئذ هو التعزير لا التأديب. فمورد التأديب هو التخلفات العادية والأحوط فيها
هو الأخذ بما في النهاية وإن أمكن القول بجواز التعدي عن الست مع الاحتياج إذا
لم يفرط.
وهل يجب التأديب في موارده أم لا؟ فنقول: إن حصرنا مورده في
التخلفات العادية كما هو الظاهر فلا وجه للوجوب، وإن قلنا بكونه أعم منها ومن
بعض المحرمات الشرعية ذاتا ففيه تفصيل: فإن ترتب الفساد على تركه وجب
وإلا فلا.
الثامنة - في حكم من قتله الحد أو التعزير أو التأديب:
قال الشيخ في الخلاف: " إذا ضرب الإمام شارب الخمر ثمانين فمات لم

(1) الشرائع: 4، 167.
(2) الوسائل: 18، 581.
(3) الوسائل: 18، 582.
316

يكن عليه شئ. وقال الشافعي: يلزمه نصف الدية... " (1).
وقال فيه أيضا: " إذا عزر الإمام من يجب تعزيره أو من يجوز تعزيره وإن
لم يجب فمات منه لم يكن عليه شئ، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: يلزمه
ديته... " (2).
وقال في المبسوط: "... فأما إن ضرب الأب أو الجد الصبي تأديبا فهلك، أو
ضربه الإمام أو الحاكم أو أمين الحاكم أو الصبي، أو ضربه المعلم تأديبا فهلك منه
فهو مضمون، لأنه إنما أبيح بشرط السلامة... " (3).
وقال المحقق: " من قتله الحد أو التعزير فلا دية له، وقيل: تجب على بيت
المال، والأول مروي " (4).
وقال أيضا: " الثامنة: إذا أدب زوجته تأديبا مشروعا فماتت، قال الشيخ؛
عليه ديتها لأنه مشروط بالسلامة. وفيه تردد، لأنه من جملة التعزيرات
السائغة... " (5).
وفي المغني: " وإذا مات من التعزير لم يجب ضمانه، وبهذا قال مالك وأبو
حنيفة. وقال الشافعي: يضمنه... " (6).
وفيه أيضا: " وليس على الزوج ضمان الزوجة إذا تلفت من التأديب
المشروع في النشوز، ولا على المعلم إذا أدب صبيه الأدب المشروع، وبه قال
مالك. وقال الشافعي وأبو حنيفة: يضمن... " (7).

(1) و (2) الخلاف: 3، 222، كتاب الأشربة المسألة 9 و 10.
(3) المبسوط: 8، 66.
(4) الشرائع: 4، 171.
(5) الشرائع: 4، 192.
(6) المغني: 10، 349.
(7) المغني: 10، 349.
317

وقال أبو يعلى الفراء: " والتعزير لا يوجب ضمان ما حدث عنه من التلف،
وكذلك المعلم إذا ضرب صبيا أدبا معهودا في العرف فأفضى إلى تلفه، وكذلك
الزوج إذا ضرب عند النشوز وتلفت فلا ضمان عليه... " (1).
فهذه بعض كلمات العلماء من الفريقين، ويظهر منهم التسالم على عدم
الضمان في الحدود المقدرة إلا مع التعدي، وإنما وقع النزاع في التعازير
والتأديبات. والفارق بينهما هو أن الحد المصطلح له مقدار معين، فإذا أجراه
الحاكم المأمور بإجرائه بلا تعد وتفريط فلا يتصور وجه لضمانه، لأن الحكم من
قبل الله - تعالى - وهو ممتثل لأمره - تعالى -.
وإما التعزير والتأديب فحيث لم يقدر لهما مقدار خاص بل الحاكم أو الوالي
هو الذي يعين حدهما ومقدارهما والغرض هو الأدب مع حفظ موضوعه وسلامته
فيمكن أن يقال فيهما إن الموت مستند إلى خطأه واشتباهه في تعيين المقدار،
فيثبت الضمان وإن كان استقرار ضمان الحاكم على بيت مال المسلمين لا على
نفسه.
وأما أخبار المسألة فهي طائفتان:
الأولى: ما دلت على عدم الدية فيما قتله الحد أو القصاص مطلقا:
1 - صحيحة الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " أيما رجل قتله الحد أو
القصاص فلا دية له " (2).
2 - خبر معلى بن عثمان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " من قتله القصاص أو
الحد لم يكن له دية " (3).

(1) الأحكام السلطانية: 282.
(2) الوسائل: 19، 47.
(3) الوسائل: 19، 47.
318

الطائفة الثانية ما دلت على التفصيل بين حدود الله وحدود الناس:
كخبر الحسن بن محبوب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: " من ضربناه
حدا من حدود الله فمات فلا دية له علينا، ومن ضربناه حدا من حدود الناس
فمات فإن ديته علينا " (1). ومثال حدود الناس حد القذف.
والظاهر أن المراد بكون ديته علينا، كون ديته عليهم بما هم حكام
المسلمين، فتكون على بيت مال المسلمين. والأحوط في باب الحدود هو الأخذ
بهذا التفصيل جمعا بين الأخبار.
وأما التعازير والتأديبات فالقاعدة الأولية تقتضي الضمان فيها، لقوله (عليه السلام):
" لا يبطل دم امرء مسلم " (2).
ويمكن أن يستدل لعدم الضمان فيها بأصالة البراءة، وبقاعدة الإحسان،
وبالأخبار التي مرت بناء على عموم الحد لهما.
ولكن الأحوط هو الحكم بالضمان لا سيما في التأديبات، فإن الأصل لا
يقاوم الدليل. والضمان في التعازير على بيت المال لا على الحاكم المحسن. وكون
المراد بالحد في الأخبار المذكورة هو الأعم قابل للمنع.
ثم إن هذا كله فيما إذا لم يتعد المنفذ للحكم عن وظيفته، وإلا فهو ضامن
قطعا واستقر الضمان على نفسه:
فعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " إن لكل شئ حدا، ومن تعدى ذلك الحد كان له
حد ".
وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " إن أمير المؤمنين (عليه السلام) أمر قنبرا أن يضرب رجلا
حدا فغلط قنبر فزاده ثلاثة أسواط، فأقاده علي (عليه السلام) من قنبر بثلاثة أسواط ". وغير

(1) الوسائل: 19، 46.
(2) الوسائل: 19، 112.
319

ذلك من الأخبار فراجع الوسائل (1).
وهل تنصف الدية على الحد وعلى الزيادة مطلقا، أو تقسط بينهما بحسب
الأسواط، أو يستقر الجميع على الحداد لكونه معتديا، والزيادة هي الجزء الأخير
من العلة، والمعلول يستند عرفا بل عقلا إلى الجزء الأخير من العلة؟ في المسألة
وجوه، والأظهر عندي هو الأخير، ونحيل التحقيق فيه إلى محل آخر.
التاسعة - في إشارة إجمالية إلى ما تثبت به موجبات الحدود والتعزيرات:
نذكرها من كتاب الشرائع. قال؛ " يثبت الزنا بالإقرار أو البينة: أما الإقرار
فيشترط فيه بلوغ المقر وكماله والاختيار والحرية وتكرار الإقرار أربعا في أربعة
مجالس... وأما البينة فلا تكفي أقل من أربعة رجال، أو ثلاثة وامرأتين... " (2).
ويثبت القذف بشهادة عدلين أو الإقرار مرتين... (3) ويثبت [الموجب لحد
المسكر] بشهادة عدلين مسلمين، ولا تقبل فيه شهادة النساء منفردات ولا
منضمات، وبالإقرار دفعتين، ولا يكفي المرة (الواحدة)... " (4).
وتثبت [السرقة] بشهادة عدلين أو بالإقرار مرتين، ولا يكفي المرة... " (5).
ويثبت [الاستمناء] بشهادة عدلين أو الإقرار ولو مرة... " (6).
ولا يخفى أن مقتضى العمومات الأولية كفاية شهادة العدلين أو الإقرار مرة
واحدة إلا فيما دل الدليل على خلافه. ولا يعتبر الإقرار فيما إذا كان على غيره

(1) الوسائل: 18، 311 - 312.
(2) الشرائع: 4، 151.
(3) الشرائع: 4، 167.
(4) الشرائع: 4، 169.
(5) الشرائع: 4، 176.
(6) الشرائع: 4، 189.
320

بوجه.
بقي الكلام فيما إذا وجد الاتهام ولم يثبت بعد بالدليل؛ فهل يجوز بمجرد
ذلك مزاحمة المتهم وحبسه أو تعزيره للكشف؟ نتعرض لمسائل بنحو الإجمال:
المسألة الأولى - في ضرب المتهم لكشف الجرم في حقوق الناس:
الظاهر أن ضرب المتهم وتعزيره بمجرد الاتهام لكشف ما يحتمل أن يطلع
عليه من فعل نفسه أو فعل غيره أو الوقائع الخارجية ظلم في حقه واعتداء عليه،
ويخالف هذا حكم الوجدان وسلطة الناس على أنفسهم، وأصالة البراءة عن التهم
إلا أن تثبت بالدليل، وما دل من الأخبار على حرمة ضرب الناس وتعذيبهم:
ففي صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن أعتى
الناس على الله - عز وجل - من قتل غير قاتله، ومن ضرب من لم يضربه " (1).
وعنه (عليه السلام) أيضا قال: " لو أن رجلا ضرب رجلا سوطا لضربه الله سوطا من
نار " (2).
أقول: التعرض للناس وضربهم وتعذيبهم بمجرد الاتهام يوجب تزلزل
الناس وعدم إحساسهم بالأمن الاجتماعي. وقد نهى الكتاب والسنة عن التجسس
ليكون الناس في حياتهم آمنين مطمئنين. قال الله - تعالى -: (ولا تجسسوا) (3).
وعن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: " إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم " (4).
نعم إذا كان الموضوع في غاية الأهمية كحفظ النظام مثلا بحيث يتنجز مع
الاحتمال أيضا وإن كان ضعيفا، وفرض توقفه على تعزير المتهم للكشف، أمكن

(1) الوسائل: 19، 11.
(2) الوسائل: 19، 12.
(3) الحجرات 49: 12.
(4) سنن البيهقي: 8، 333.
321

القول بجوازه على أساس باب التزاحم، حيث يتزاحم الواجب الأهم والحرام
الذي ليس في حده (1).
المسألة الثانية - في عدم اعتبار الإقرار مع التعذيب:
لا إشكال في أن الاعتراف مع التعذيب والتشديد لا اعتبار به شرعا في
المحاكم الشرعية. ويدل على ذلك - مضافا إلى ما ورد من رفع ما استكرهوا عليه -
أخبار مستفيضة:
1 - عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: " من أقر عند تجريد، أو
تخويف، أو حبس، أو تهديد فلا حد عليه " (2).
2 - صحيحة سليمان بن خالد، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل سرق
سرقة فكابر عنها فضرب، فجاء بها بعينها هل يجب عليه القطع؟ قال: " نعم. ولكن

(1) يمكن أن يقال أولا؛ هذا الاحتمال يوجد دائما لكل حكومة تبتغي مبررا لحبس وتعذيب
مخالفيها. ومع هذا الاحتمال وفرض أهمية حفظ النظام بل كونه من أهم الواجبات لا يزاحمه
حرام إلا وقد صار حلالا والمتصدي لحفظ النظام يرى نفسه مجازا لإتيانه.
ثانيا: فرض توقف حفظ النظام على حبس أو تعذيب فرد أو أفراد وإن كانوا من رؤوساء
الجيش أو منظمة سياسية في غاية البعد، لأن بقاء كل نظام يتوقف على عدة أمور من أهمها
رضا الناس به، فمع رضا عامة الناس فمخالفة فرد أو فرقة صغيرة لا يضر به حتى يتمسك
باحتمال حفظه في حبسهم أو تعذيبهم.
ثالثا: من أين يعلم أن المتهم بالحبس أو التعذيب يقر ويفشي ما عنده من المعلومات؟
ومن أين يعلم أن أقاريره صادقة؟ ومن أين يعلم أن أقاريره الصادقة تنتزع منه في وقت
يحتاج إليها؟
رابعا: المستفاد من الأخبار أن التعزير يجوز لفعل الحرام أو ترك الواجب، فلو لم يكن إظهار
شئ واجبا عند فرد أو أفراد - بأي دليل - لم يكن عدم إظهاره حراما فكيف يعزر من لم
يرتكب بنظره حراما، وكونه حراما عند من إليه التعزير لم يكن وجها شرعيا له - م -.
(2) و (2) الوسائل: 18، 497.
322

لو اعترف ولم يجيء بالسرقة لم تقطع يده، لأنه اعترف على العذاب " (1).
3 - عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " إن أول ما استحل الامراء العذاب لكذبة كذبها
أنس بن مالك على رسول الله (صلى الله عليه وآله): أنه سمر يد رجل إلى الحائط ". ومن ثم استحل
الامراء العذاب " (2).
وبالجملة: فتعزير المتهم وتعذيبه بمجرد الاحتمال مشكل، وترتيب الأثر
على الاعتراف المبتنى على التعذيب والتعزير أشكل.
وبما ذكرنا يظهر عدم جواز اعتماد الإمام والقضاة على أقارير المتهمين
التي ينتزعها بعض أجهزة التحقيق والتجسس بواسطة الحبس والتخويف
والتعذيب والخداع وأمثالها، وأنه لا قيمة لها في المحاكم الشرعية.
المسألة الثالثة - في حبس المتهم:
مقتضى الأصل الأولي عدم جواز التعرض للشخص بمجرد التهمة، فإنه
مخالف لحريته وسلطته على نفسه، ولأصالة البراءة، فالجواز يحتاج إلى دليل
متقن:
1 - في معتبرة السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " إن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يحبس
في تهمة الدم ستة أيام؛ فإن جاء أولياء المقتول بثبت، وإلا خلى سبيله " (3)
وموردها خصوص الدم فلا تدل على الجواز في غيره.
2 - عن أمير المؤمنين (عليه السلام) تنه قال: " إني لا آخذ على التهمة ولا أعاقب على
الظن، ولا أقاتل إلا من خالفني وناصبني وأظهر لي العداوة... " (4).
مقتضى هذه الرواية عدم الجواز مطلقا، اللهم إلا أن يقال: إن موردها

(2) بحار الأنوار: 76، 203.
(3) الوسائل: 19، 121.
(4) تاريخ الطبري: 6، 3443.
323

النشاطات السياسية كما هو الظاهر.
إن قلت: إن حفظ نظام المسلمين وكيانهم، وكذلك حفظ أموالهم وحقوقهم
أمران مهمان عند الشارع وهما يتوقفان كثيرا على القبض على المتهمين وحبسهم
بداعي الكشف والتحقيق إذا كانوا في معرض الفرار. فالقول بعدم الجواز لذلك
يوجب ضياع الحقوق والأموال واختلال النظم، ولا سيما إذا غلب الفساد على
الزمان وأهله. فالظاهر هو الجواز إذا كان الأمر مهما معتنى به بحيث يكون احتماله
أيضا منجزا عند العقلاء، ولكن مع رعاية الدقة والاحتياط وحفظ شؤون
الأشخاص مهما أمكن.
قلت: القول بجواز القبض على المسلم وحبسه بمجرد الاتهام والاحتمال
في غير الدم لا يخلو من إشكال، لشدة اهتمام الشرع بحريم المسلمين وشؤونهم.
المسألة الرابعة - في جواز التعزير لكتمان الشهادة:
ما ذكرناه كله كان مع التهمة والاحتمال، وأما إذا علم الحاكم أنه يوجد عند
الشخص معلومات نافعة في حفظ النظام ورفع الفتنة، أو في تقوية الإسلام ورفع
شر الأعداء، أو في إحقاق حقوق المسلمين بحيث يحكم العقل والشرع بوجوب
الاعلام عليه وكان الوجوب بينا واضحا له أيضا، بحيث يعتقد هو أيضا بوجوبه
وأهميته شرعا ولا يكون في شبهة ولكنه مع ذلك يكتم الشهادة والاعلام عنادا
وفرارا من الحق جاز (1) حينئذ تعزيره للكشف والاعلام فقط، من دون أن يترتب

(1) هذا الحكم يتوقف على جواز حكم القاضي بعلمه، وقد مر في هامش الصفحة 263 أنه لا
يجوز أن يحكم القاضي بعلمه في حق الله المحض عند الأستاذ ويحتاط هو في غيره، ولا
فرق بين القاضي والحاكم من هذه الجهة.
نعم إذا أقر الشخص، من دون كره وإجبار، بأن عنده معلومات نافعة كذلك ومع ذلك كتم
الشهادة يجوز تعزيره للكتمان، لا للكشف والإعلام.
فإن رأى الحاكم أن يعزره بضربات دون الحد وضرب ولم يشهد بعد وأصر على الكتمان
الحرام، فهل يجوز استمرار تعزيره، أو الحكم بتعزيره مرة ثانية، أم لا؟
قيل نعم لدلالة ما نقل عن علي (عليه السلام) في المتن، من جعل المولي في حظيرة من قصب
يمنعه من الشراب والطعام حتى يطلق، على استمرار تعزير من عليه حق حتى يؤديه!!
ولكنا نمنع ذلك لوجوه:
الأول: سلمنا أن الحق القديم لا يبطله شئ ولكن استيفاء الحق لا يلازم الحكم
باستمرار التعزير، أو التعزير مرة أخرى، فإن العقوبة لابد وأن تحدد بمقتضى مفهوم الحد
الشامل للتعزير في قوله (عليه السلام): " إن لكل شئ حدا ومن تعدى ذلك الحد كان له حد "
(الوسائل: 18، 311). فيجب تحديد العقوبة للكاتم ولا تجوز الحكم بعقوبة لا نهاية ولا حد
لها، ثم لا يجوز التعدي عما حدد له.
الثاني: أن الكاتم كتم حقيقة واحدة وعزر لكتمانها، فلا وجه لتعزيره بعد ذلك.
الثالث: استمرار تعزيره يحتاج إلى حكم جديد، والحكم الجديد يحتاج إلى سبب وجرم
جديد، والمفروض أنه لم يأت بجرم جديد.
الرابع: قد تلحق ضربة أخرى التعزير بالحد وقد قالوا: التعزير دون الحد.
الخامس: بعد الغض عن سند الخبر نقول: لم لم يستفد الإمام (عليه السلام) من ولايته على المولي
ولم يطلق زوجته قهرا عليه، فإن الحاكم ولي الممتنع.
السادس: حبس المولي وجعله في حظيرة يكفي لإلزامه على الطلاق، فلم منعه
الإمام (عليه السلام) عن الطعام والشراب، فمضمون الخبر قضية في واقعة لا نعلم تمام جهاتها، فلا
مجال للاستناد به للقول باستمرار التعزير أو الحكم به مرة أخرى. وما ورد من قصة كنانة بن
أبي الحقيق أيضا قابل للمناقشة من جهات لا نطيل الكلام بذكرها - م -.
324

عليه المجازاة إلا مع علم الحاكم وجواز حكمه بعلمه (1).
وذلك لما عرفت من جواز التعزير على ترك الواجب مطلقا، وقد قال الله
- تعالى -: (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) (2).

(1) فهم القاضي لكون وجوب الشهادة والإظهار واضحا عند المتهم وفهم اعتقاده بوجوب
الإظهار في المورد المنظور وعدم الشبهة فيه في غاية الندرة إذ لا سبيل له إلى هذا الفهم إلا
إظهار المتهم وهو لا يقر عادة بهذا الأمر.
(2) البقرة 2: 283.
325

ولعل ما ورد في بعض الروايات من التعذيب أو التهديد بداعي الكشف
على فرض صحتها كان من هذا القبيل، أي كان في صورة العلم باطلاع الشخص
وكتمانه، أو كان من جهة كونه مهدور الدم شرعا؛ فمن ذلك قصة كنانة بن أبي
الحقيق، حيث صالح رسول الله (صلى الله عليه وآله) أهل خيبر على حقن دمائهم وترك جميع
أموالهم للمسلمين، وكنز كنانة حلي آل أبي الحقيق وكتمها، فلما ظهر الكنز
وأخرج، أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) الزبير بن العوام أن يعذب كنانة حتى يستخرج كل ما
عنده، فعذبه الزبير حتى جاء بزند يقدحه في صدره (1). ويؤيد ذلك ما ورد من
التعذيب أو التهديد في قبال ترك الواجبات والاستنكاف عن الإتيان بها:
فعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " المولي إذا أبى أن يطلق، قال: كان أمير
المؤمنين (عليه السلام) يجعل له حظيرة من قصب ويجعله (يحبسه) فيها ويمنعه من الطعام
والشراب حتى يطلق " (2).
المسألة الخامسة - في التعزير لكشف الجرم في حقوق الله:
قد كان ما ذكرناه في حقوق الناس المهمة. وإما في مثل الزنا واللواط
وشرب الخمر ونحو ذلك من حقوق الله فلا يجب على المرتكب إظهارها، وليس
للحاكم أيضا تهديده أو تعزيره لذلك، بل الأولى في مثلها هو الستر والتوبة إلى الله
- عز وجل -:
ففي خبر أبي العباس، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): " أتى النبي (صلى الله عليه وآله) رجل فقال:
إني زنيت (إلى أن قال) فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لو استتر ثم تاب كان خيرا له " (3).
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: " أيها الناس، قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود

(1) المغازي للواقدي: 2، 672.
(2) الوسائل: 15، 545.
(3) الوسائل: 18، 328.
326

الله، من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله، فإنه من يبد لنا صفحته
نقم عليه كتاب الله " (1). إلى غير ذلك من الروايات.
نعم، لو كان مع حق الله - تعالى - حق الناس أيضا كما إذا دعى عليه أنه لاط
بغلام مكرها له فجرحه، كان حكمه حكم ما سبق من حقوق الناس.
العاشرة - في إشارة إجمالية إلى فروع أخرى في المسألة:
لا يخفى أن هنا فروعا كثيرة تعرض لها الأصحاب في كتاب الحدود،
والظاهر اتحاد حكم الحدود والتعزيرات في أكثرها.
فلنذكر بعض الروايات الواردة فيها ونحيل التفصيل إلى الكتب الفقهية
الباحثة في مسائل الحدود.
الأول - ليس في الحدود بعد ثبوتها نظر ساعة:
فعن علي (عليه السلام) قال: " ليس في الحدود نظر ساعة " (2).
الثاني - الحدود تدرأ بالشبهات ولا شفاعة ولا يمين فيها:
فعن الصدوق (رحمه الله) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " ادرؤوا الحدود بالشبهات ولا
شفاعة ولا كفالة ولا يمين في حد " (3).
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): " ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان
له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في
العقوبة " (4).
الثالث - حرمة ضرب المسلم بغير حق وعند الغضب، ووجوب الدفاع عن

(1) الموطأ: 2، 169 وراجع المبسوط: 3، 2 و 8، 40.
(2) الوسائل: 18، 336.
(3) الوسائل: 18، 336.
(4) سنن الترمذي: 2، 438.
327

المظلوم:
1 - عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " إن أبغض الناس إلى الله
- عز وجل - رجل جرد ظهر مسلم بغير حق " (1).
2 - و " نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الأدب عند الغضب " (2).
3 - وعن جعفر، عن أبيه (عليهما السلام) قال: " لا يحضرن أحدكم رجلا يضربه سلطان
جائر ظلما وعدوانا، ولا مقتولا ولا مظلوما إذا لم ينصره، لأن نصرة المؤمن على
المسلم فريضة واجبة إذا هو حضره، والعافية أوسع ما لم تلزمك الحجة
الظاهرة " (3).
الرابع - في عفو الإمام عن الحدود والتعزيرات:
فعن بعض الصادقين (عليهم السلام) قال: " جاء رجل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فأقر
بالسرقة، فقال له: أتقرأ شيئا من القرآن؟ قال: نعم، سورة البقرة. قال: قد وهبت
يدك لسورة البقرة. قال: فقال الأشعث: أتعطل حدا من حدود الله؟ فقال: ما يدريك
ما هذا؟ إذا قامت البينة فليس للإمام أن يعفو، وإذا أقر الرجل على نفسه فذاك إلى
الإمام؛ إن شاء عفا، وإن شاء قطع " (4).
ومفاد الخبر هو التفصيل بين البينة وبين الإقرار.
وعن أبي الحسن الثالث (عليه السلام) في حديث قال: " وأما الرجل الذي اعترف
باللواط فإنه لم يقم عليه البينة، وإنما تطوع بالإقرار من نفسه. وإذا كان للإمام
الذي من الله أن يعاقب عن الله كان له أن يمن عن الله. أما سمعت قول الله: (هذا

(1) الوسائل: 18، 336.
(2) الوسائل: 18، 337.
(3) الوسائل: 18، 313.
(4) الوسائل: 18، 331.
328

عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب) " (1).
وظاهر الرواية أيضا هو التفصيل، وإن كان المترائي من التعليل المستفاد من
الكلام الأخير جواز العفو في كلتا الصورتين.
وكيف كان فمقتضى الجمع بين الروايات في المقام هو التفصيل بين ما ثبت
بالبينة فلم يجز للإمام العفو، وما ثبت بالإقرار فله الخيار في العفو أو إقامة الحد.
والمقصود بالإمام في أمثال المقام هو المتصدي للحكومة الحقة العادلة في
كل عصر وزمان، لا خصوص الإمام المعصوم.
ثم إن الظاهر أن مورد عفو الإمام هو الحدود التي تكون لله وليس فيها حق
الناس، وأما الحد الذي يغلب عليه جانب حق الناس كحد القذف فالعفو فيه دائر
مدار عفو من له الحق.
العفو عن التعزيرات:
وأما التعزيرات المفوضة إلى الإمام والحاكم فإن كانت في قبال حق الناس
فالظاهر أن العفو فيها أيضا دائر مدار عفو من له الحق. وأما ما كانت في قبال
حقوق الله - تعالى - فالمستفاد من إطلاق الآيات والروايات الكثيرة الواردة في
العفو والإغماض، ومن سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) وغيرهما جواز عفو
الإمام عنها إذا رآه صلاحا ولم يوجب تجري المرتكب:
1 - قال الله تبارك - تعالى -: (ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا
منهم، فاعف عنهم واصفح، إن الله يحب المحسنين) (2).
2 - وقال تعالى: (خذ العفو، وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين) (3).

(1) الوسائل: 18، 331.
(2) المائدة 5: 13.
(3) الأعراف 7: 199.
329

3 - وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " عليكم بالعفو، فان العفو
لا يزيد العبد إلا عزا، فتعافوا يعزكم الله " (1).
4 - وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " الندامة على العفو أفضل وأيسر من الندامة
على العقوبة " (2).
5 - وعن علي (عليه السلام): " أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة " (3).
6 - وعنه أيضا: " المروءة العدل في الإمرة، والعفو مع القدرة، والمواساة في
العشرة " (4).
7 - وعنه أيضا: " ظفر الكرام عفو وإحسان. ظفر اللئام تجبر وطغيان " (5).
وبالجملة: فيصح العفو بل يستحسن فيما إذا كان التعزير لحق الله - تعالى -،
وكان الشخص صالحا للعفو والإغماض.
وأما إذا كان لحق آدمي فهل يجوز عفو الحاكم بدون إذن من له الحق أم لا؟
وجهان بل قولان. وإن استظهرنا نحن عدم العفو فيها ما لم يتجاوز صاحب الحق،
اللهم إلا في المعارك العامة:
قال الماوردي: "... ولو تعلق بالتعزير حق لآدمي كالتعزير في الشتم
والمواثبة، ففيه حق للمشتوم والمضروب وحق السلطنة للتقويم والتهذيب. فلا
يجوز لوالي الأمر أن يسقط بعفوه حق المشتوم والمضروب، وعليه أن يستوفي له
حقه من تعزير الشاتم والضارب، فإن عفا المضروب والمشتوم كان ولي الأمر بعد

(1) الكافي: 2، 108.
(2) الكافي: 2، 108.
(3) نهج البلاغة، عبده: 3، 164؛ صالح: 478 الحكمة 52.
(4) الغرر والدرر: 2، 142.
(5) الغرر والدرر: 4، 273 و 274.
330

عفوهما على خياره في فعل الأصلح من التعزير تقويما والصفح عنه عفوا " (1).
وقال ابن الأخوة: " وإن رأى الإمام أو نائبه ترك التعزير جاز. هذا نقل
الشيخ أبي حامد. من غير فرق بين أن يتعلق به حق آدمي أو لا يتعلق " (2).
أقول: ومما يدل على جواز العفو أيضا استقرار سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام)
على العفو والإغماض في كثير من موارد التخلف الموجبة للتعزير.
العفو في المصالح العامة:
هذا كله في الموارد الشخصية الحادثة في خلال المجتمع، وأما في الموارد
العامة مثل قتال جيش ضد جيش وانتصار أحدهما على الآخر تكون رعاية
المصالح أولى وأهم من رعاية الحقوق الشخصية الفردية، والعفو فيها إلى الإمام،
لدلالة سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) عليه:
فرسول الله (صلى الله عليه وآله) عفا عن مشركي مكة بعد الظفر عليهم وهم قد شاركوا في
إراقة دماء المسلمين في بدر وأحد. وجعل دار أبي سفيان مأمنا فقال: " من دخل
دار أبي سفيان فهو آمن " (3).
وعفا عن هند زوجة أبي سفيان مع ما صنعت بجسد حمزة في أحد. وعفا
عن وحشي قاتل حمزة من غير أن يسترضي فيه بنت حمزة ووارثه (4).
وأمير المؤمنين (عليه السلام) عفا عن أصحاب الجمل وقد قال فيهم: " فوالله لو لم
يصيبوا من المسلمين إلا رجلا واحدا متعمدين لقتله بلا جرم جره لحل لي قتل

(1) الأحكام السلطانية: 237.
(2) معالم القربة: 192.
(3) سيرة ابن هشام: 4، 46 والكامل لابن الأثير: 2، 245.
(4) الكامل: 2، 250 و 251.
331

ذلك الجيش كله " (1).
فهذه مسألة فقهية يمكن أن تقرب لها بوجوه أخرى:
الأول: أن أدلة القصاص والضمان وإن كانت مطلقة ولكنه مع تزاحم
الملاكات تقدم المصالح العامة على المصالح الخاصة، فيجوز للإمام العفو عن
الجيش الكافر أو الباغي بعد الغلبة عليه إذا رأى ذلك صلاحا للإسلام والأمة.
الثاني: أن حق القصاص وإن جعل لولي الدم مطلقا ولكن الإمام ولي
الأولياء، فتقدم ولايته على ولاية ولي الدم كما تقدم ولاية الجد على ولاية الأب
مع التعارض.
الثالث: أن أدلة القصاص والضمان منصرفة عن صورة مقابلة جيش لجيش
ونظام لنظام، ولا يتوهم أن الإغماض عن مثل أبي سفيان وأمثالهم كان لإسلامهم
وأن الإسلام يجب ما قبله، إذ الجب كان في مقام الامتنان، ولا امتنان في إسقاط
الضمانات والحقوق.
الخامس - لا تضرب الحدود في شدة الحر أو البرد:
فعن العبد الصالح (عليه السلام) قال: "... إنه لا يضرب أحد في شئ من الحدود في
الشتاء إلا في أحر ساعة من النهار، ولا في الصيف إلا في أبرد ما يكون من
النهار " (2).
وعن أبي الحسن (عليه السلام) قال: "... ينبغي لمن يحد في الشتاء أن يحد في حر
النهار، ولمن حد في الصيف أن يحد في برد النهار " (3).
أقول: إطلاق الروايات يشمل جميع الحدود حتى حد الزنا. وظاهر الرواية

(1) نهج البلاغة، عبده: 2، 104؛ صالح: 247، الخطبة 172.
(2) الوسائل: 18، 315.
(3) الوسائل: 18، 315.
332

الأولى الحرمة. ولفظ " ينبغي " في الأخيرة لا ينافيها.
قال في الجواهر: " ثم إن ظاهر النص والفتوى كما اعترف به في المسالك
كون الحكم على الوجوب دون الندب. وحينئذ فلو أقامه على غير الوجه المزبور
ضمن " (1).
والظاهر استفادة حكم الضرب التعزيري أيضا من هذه الروايات بالمناط
والأولوية.
السادس - لا تجري الحدود على من به قروح أو يكون مريضا حتى تبرأ، أو
يرفق به في الضرب:
فعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " أتى أمير المؤمنين (عليه السلام) برجل أصاب حدا وبه
قروح في جسده كثيرة، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): أقروه حتى تبرأ، ولا تنكؤها
عليه فتقتلوه " (2).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله) برجل دميم قصير قد سقى
بطنه وقد درت عروق بطنه قد فجر بامرأة... ثم دعا بعذق فقده مأة، ثم ضربه
بشماريخه " (3).
ولا يخفى أن المتفاهم من الأخبار أن الشارع المقدس لا يرضى بإيذاء
المجرم وإيلامه بأكثر مما يقتضيه طبع الجلد في الحالة العادية.
ويستفاد حكم الضرب التعزيري أيضا من هذه الأخبار بتنقيح المناط
والأولوية.
السابع - كيفية إجراء الحدود والتعزيرات:

(1) الجواهر: 41، 344.
(2) الوسائل: 18، 321.
(3) الوسائل: 18، 322.
333

فعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " يضرب الرجل الحد قائما والمرأة قاعدة. ويضرب
على كل عضو، ويترك الرأس والمذاكير " (1).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " الزاني أشد ضربا من شارب
الخمر، وشارب الخمر أشد ضربا من القاذف، والقاذف أشد ضربا من التعزير " (2).
وعن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) قال: " لا يجرد في حد ولا يشنج " - يعني: يمد -
وقال: " ويضرب الزاني على الحال التي يوجد عليها: إن وجد عريانا ضرب
عريانا، وإن وجد وعليه ثيابه ضرب وعليه ثيابه " (3).
قال في الشرائع: " ويجلد الزاني مجردا. وقيل: على الحال التي وجد
عليها " (4).
والأحوط هو القول الثاني، إذ الحدود وكذا خصوصياتها تدرأ بالشبهات.
وعن هنيدة بن خالد أنه شهد عليا (عليه السلام) أقام على رجل حدا فقال للجالد:
" اضرب وأعط كل عضو حقه، واتق وجهه ومذاكيره " (5).
قال ابن الأخوة في كيفية إجراء الحدود والتعزيرات: "... أما السوط فيتخذ
وسطا، لا بالغليظ الشديد ولا بالرفيق اللين، بل يكون من وسطين حتى لا يؤلم
الجسم... وإما الدرة فتكون من جلد البقر أو الجمل مخروزة....
ويضرب الرجل في الحد والتعزير قائما. ولا يمد ولا يربط، لأن لكل عضو
قسطا من الضرب. ويتوقى الوجه والرأس والفرج والخاصرة وسائر المواضع

(1) الوسائل: 18، 369.
(2) الوسائل: 18، 449.
(3) الوسائل: 18، 370.
(4) الشرائع: 4، 157.
(5) سنن البيهقي: 8، 327.
334

المخوفة....
ولا يتولى الضرب غير الرجال، لأنهم أبصر به. ولا يبلغ بالضرب ما يجرح
وينهر الدم. وإما المرأة فتضرب جالسة في إزارها، لأنها عورة؛ فإذا كانت قائمة
ربما تكشفت. وتشد عليها ثيابها لتستر بها....
وأما صفات الضرب في التعزير فيجوز أن يكون بالعصا وبالسوط الذي
كسرت ثمرته، لا يجوز أن يبلغ بتعزيره كما تقدم أنهار الدم....
ويشهر في الناس وينادى عليه بذنبه إذا تكرر منه ولم يقلع عنه... " (1).
أقول: لا يخفى أن إقامة الدليل على بعض ما ذكروه في المقام مشكل.
وبعضها يخالف مضامين الأخبار التي مضت. والاحتياط حسن على كل حال.
وطريق الاحتياط واضح.

(1) معالم القربة: 184 إلى 194.
335

الفصل السابع
في أحكام السجون وآدابها
وفيها جهات من البحث:
الأولى - في بيان مفهوم السجن والحبس بحسب اللغة:
قال الراغب: " السجن؛ الحبس في السجن. وقرئ: (رب السجن أحب
إلي...) بفتح السين وكسرها... " (1)، وقال: " الحبس: المنع من الانبعاث. قال
- عز وجل -: (تحبسونهما من بعد الصلاة) والحبس: مصنع الماء الذي
يحبسه " (2).
وفي لسان العرب: " السجن: الحبس. والسجن بالفتح: المصدر. سجنه
يسجنه سجنا، أي حبسه... (3)، وفيه أيضا: " حبسه... واحتبسه وحبسه: أمسكه عن
وجهه. والحبس ضد التخلية... " (4).
فيظهر من أهل اللغة أن مفاد اللفظين هو تحديد الشخص ومنعه من

(1) المفردات: 230 والآية من سورة يوسف 12: 33.
(2) المفردات: 104، والآية من سورة المائدة 5: 106.
(3) لسان العرب: 13، 203.
(4) لسان العرب: 6، 44.
336

الانبعاث والانطلاق والتصرفات الحرة، فليس للمكان وخصوصياته ووجود
الإمكانات وعدمها دخل فيه.
وفي الخطط المقريزية: " الحبس الشرعي ليس هو السجن في مكان ضيق،
وإنما هو تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه، سواء كان في بيت أو مسجد،
أو كان يتولى نفس الخصم أو وكيله عليه وملازمته له. ولهذا سماه النبي (صلى الله عليه وآله)
أسيرا... ومضت السنة في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبي بكر وعمر وعثمان
وعلي (رض) أنه لا يحبس على الديون ولكن يتلازم الخصمان...
وأما الحبس الذي هو الآن فإنه لا يجوز عند أحد من المسلمين. وذلك أنه
يجمع الجمع الكثير في موضع يضيق عنهم، غير متمكنين من الوضوء والصلاة،
وقد يرى بعضهم عورة بعض، ويؤذيهم الحر في الصيف والبرد في الشتاء، وربما
يحبس أحدهم السنة وأكثر ولا جدة له وأن أصل حبسه على ضمان " (1).
أقول: ما ذكره كلام متين، لما عرفت من عدم دخل للمكان الخاص في
صدق مفهوم الحبس وما هو المقصود منه. والحبس الرائج المتعارف في أعصارنا
أكثر مصاديقه ظلم على الإنسان والإنسانية، ومخالف لموازين العقل والشرع.
ولا يخفى أن في حرية الشخص وانطلاقه وانبعاثه منافع لنفسه ولمن تعلق
به، وربما توجد فيها أيضا خسارات. فيترتب عليها أثران متضادان:
فإن وقع الحبس بداعي المنع عن الأول كان من قبيل العقوبة والمجازاة
حدا أو تعزيرا.
وإن وقع بداعي المنع عن الثاني فقط، لم يكن من هذا القبيل، بل كان من
قبيل حفظ حقوق الناس ورفع الشر والظلم عنهم. ولعل أكثر موارد السجن في
الشرائع الإلهية كانت من القسم الثاني.

(1) الخطط: 3، 99.
337

الثانية - في مشروعية الحبس إجمالا:
الحبس مشروع بالأدلة الأربعة: فمن الكتاب:
1 - قوله - تعالى -: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في
الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من
الأرض) (1). حيث فسر النفي في الآية بالحبس.
قال الطبرسي: " وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن النفي هو الحبس والسجن.
واحتجوا بأن المسجون يكون بمنزلة المخرج من الدنيا إذا كان ممنوعا من
التصرف محولا بينه وبين أهله مع مقاساته الشدائد في الحبس... " (2).
وعن أبي جعفر (عليه السلام) محمد بن علي الرضا (عليهما السلام) في حديث: " فإن كانوا أخافوا
السبيل فقط ولم يقتلوا أحدا ولم يأخذوا مالا أمر بإيداعهم الحبس. فإن ذلك معنى
نفيهم من الأرض بإخافتهم السبيل " (3).
قد يقال: إن النفي من الأرض حقيقة غير ممكن، إذ كل مكان يرسل هو إليه
يكون من الأرض لا محالة، فالمراد جعله بحيث لا يتمكن أن يتصرف فيها تصرف
الأحياء، فينطبق قهرا على الحبس.
ولكن معظم أصحابنا الإمامية لم يفتوا بالحبس في المقام.
قال الشيخ: " إن لم يجرح ولم يأخذ المال وجب عليه أن ينفى من البلد
الذي فعل فيه ذلك الفعل إلى غيره... " (4).

(1) المائدة 5: 33.
(2) مجمع البيان: 2، 188.
(3) الوسائل: 18، 536.
(4) النهاية: 720.
338

وقال أبو الصلاح: " وإن لم يقتلوا ولم يأخذوا مالا أن ينفيهم من الأرض
بالحبس أو النفي من مصر إلى مصر " (1).
2 - قوله تعالى: (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن
أربعة منكم، فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله
لهن سبيلا) (2).
وقد فسر الإمساك في الآية بالحبس. والأغلب على نسخ الآية بما ورد في
الجلد والرجم وقالوا إنهما السبيل المجعول لهن.
قال الطبرسي: " أي فاحبسوهن " في البيوت حتى يتوفاهن الموت "... ثم
نسخ ذلك بالرجم في المحصنين والجلد في البكرين... " (3).
3 - قوله تعالى: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث
وجدتموهم، وخذوهم واحصروهم...) (4).
قال في المجمع: " معناه: واحبسوهم واسترقوهم، أو فادوهم بمال... " (5).
وأما السنة فالروايات الدالة على مشروعية الحبس كثيرة نذكر منها نماذج
ويأتي ذكر كثير منها في الجهات الآتية:
ففي صحيحة عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: جاء رجل إلى
رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: إن أمي لا تدفع يد لامس؟ قال: فاحبسها. قال: قد فعلت. قال:
فامنع من يدخل عليها. قال: قد فعلت. قال: قيدها، فإنك لا تبرها بشيء أفضل من

(1) الكافي: 252.
(2) النساء 4: 15.
(3) مجمع البيان: 2، 20 - 21.
(4) التوبة 9: 5.
(5) مجمع البيان: 3، 7.
339

أن تمنعها من محارم الله - عز وجل - " (1).
وعموم التعليل في الصحيحة يدل على جواز الحبس والتقييد بالنسبة إلى
كل من لا يتمكن من منعه عن محارم الله - تعالى - إلا بذلك.
وعن علي (عليه السلام) قال: " يجب على الإمام أن يحبس الفساق من العلماء،
والجهال من الأطباء والمفاليس من الأكرياء " (2).
وأما الإجماع فلا بأس بادعائه مقدرا، بمعنى وضوح المسألة بحيث إن كل
فقيه من الفريقين لو سئل عنها لأفتى بها بلا شك. ولكن بعد وضوح المسألة وثبوتها
بالكتاب والسنة لا حاجة فيها إلى الإجماع، لأن الإجماع بما هو إجماع لا
موضوعية له عندنا، بل تكون حجيته من جهة كشفه عن قول النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام)
وإذا كان المكشوف بذاته قطعيا فلا حاجة فيه إلى الكاشف والكشف.
وأما العقل فبيانه إجمالا هو أن العقل يحكم بوجوب صيانة الحقوق
والمصالح العامة، ولا يحصل هذا الغرض إلا بدولة عادلة ترفع شرور العتاة
والظالمين عنهم، وحبس الجاني وإن كان فيه ضرر لنفس المحبوس ويكون منافيا
لسلطته على نفسه وجميع شؤونه ولكن إطلاقه تهديد لأمن العامة وتضييع
لحقوقهم، فيحكم العقل السليم بوجوب تقديم المصالح العامة على مصلحة الفرد
وحبس الجاني لحفظها ورفع شره، وكل ما حكم به العقل حكم به الشرع، كما حقق
في محله.
الثالثة - في موضوع الحبس الشرعي والغرض منه:
لا يخفى أن موضوع العقوبات الشرعية هو الإنسان البالغ العاقل القادر

(1) الوسائل: 18، 414.
(2) الوسائل: 18، 221.
340

المختار، نعم ربما يؤدب الصبي والمجنون، ولو بحبس ما ولكن الأدب غير
العقوبة.
والغرض الأساسي من وضع العقوبات الشرعية ليس هو الانتقام وإرضاء
القوة الغضبية، وليست هي أيضا أمورا تعبدية محضة، بل الملاك في تشريعها قلع
جذور الفساد وإصلاح الفرد والمجتمع. بل جميع أحكام الله - تعالى - في جميع
شؤون الإنسان تابعة للمصالح والمفاسد النفس الأمرية وإن لم نعرفها (1). فعن
الرضا (عليه السلام): " إنا وجدنا كل ما أحل الله ففيه صلاح العباد وبقاؤهم ولهم إليه الحاجة
التي لا يستغنون عنها، ووجدنا المحرم من الأشياء لا حاجة بالعباد إليه ووجدناه
مفسدا داعيا إلى الفناء والهلاك " (2).
وبالجملة: فالعقوبات الشرعية ومنها السجون التعزيرية تستهدف الإصلاح
وتحقيق المصالح العامة، لا الانتقام من المجرم وإفنائه أو تحقيره وتحطيم
شخصيته ونفسياته.
ولكن من المؤسف عليه أن السجون الرائجة في أعصارنا في أكثر البلاد
حتى البلاد الإسلامية ليست على وزان ما يريده الشرع ويحكم به العقل، بل لا
تنتج إلا خسارات في الأموال والنفوس.
قال في كتاب " التشريع الجنائي الإسلامي " ما ملخصه:
" المقياس الصحيح لنجاح عقوبة ما هو أثرها على المجرمين والجريمة،
فإن نقص عدد المجرمين وقلت الجرائم فقد نجحت العقوبة، وإن زاد عدد
المجرمين والجرائم فقد فشلت العقوبة ووجب أن تستبدل بها عقوبة أخرى قمينة

(1) عدم معرفتنا للمصالح والمفاسد النفس الأمرية مختص بأحكام العبادات وقليل من
المعاملات بالمعنى الأعم وأما غيرها فمعرفتها ممكن ومقدور للعقل السليم - م -.
(2) علل الشرائع: 197.
341

بأن تردع المجرمين وتصرفهم عن ارتكاب الجرائم...
وعقوبة الحبس هذه هي العقوبة الأساسية لمعظم الجرائم، يجازي بها
المجرم الذي ارتكب جريمته لأول مرة، ويجازى بها المجرم العاتي الذي
تخصص في الإجرام، ويجازى بها الرجال والنساء والشبان والشيب، ويجازى
بها من ارتكب جريمة خطيرة ومن ارتكب جريمة تافهة، وتنفذ العقوبة على
هؤلاء جميعا بطريقة واحدة تقريبا.
وقد أدى تطبيق هذه العقوبة على هذا الوجه إلى نتائج خطيرة ومشاكل
دقيقة نبسطها فيما يلي:
1 - إرهاق خزانة الدولة وتعطيل الانتاج:... والمحكوم عليهم يكونون في
الغالب من الأشخاص الأصحاء القادرين على العمل. فوضعهم في السجون هو
تعطيل لقدرتهم على العمل...
ولقد حاولت مصلحة السجون أن تستغل قدرة المسجونين على العمل،
ولكنها لم تستطع الآن أن توجد عملا إلا لعدد قليل من المسجونين، أما الباقون
فيكادون يقضون حياتهم في السجون دون عمل، يأكلون ويتطيبون على حساب
الحكومة...
2 - إفساد المسجونين: فالسجن يجمع بين المجرم الذي ألف الإجرام
وتمرس بأساليبه، وبين المجرم المتخصص في نوع من الإجرام، وبين المجرم
العادي. كما يضم السجن أشخاصا ليسوا بمجرمين حقيقيين، وإنما جعلهم القانون
مجرمين اعتبارا كالمحكوم عليهم في حمل الأسلحة...
واجتماع هؤلاء جميعا في صعيد واحد يؤدي إلى تفشي عدوى الإجرام
بينهم، فالمجرم الخبير بأساليب الإجرام يلقن ما يعلمه لمن هم أقل منه خبرة...
فالسجن الذي يقال عنه إنه إصلاح وتهذيب ليس كذلك في الواقع، وإنما هو معهد
342

للإفساد وتلقين أساليب الإجرام...
3 - انعدام قوة الردع:... فالذين يعاقبون بالأشغال الشاقة وهي أقصى أنواع
الحبس لا يكادون يخرجون من السجن حتى يعودوا لارتكاب الجرائم...
4 - قتل الشعور بالمسؤولية: وعقوبة السجن - فوق أنها غير رادعة - تؤدي
إلى قتل الشعور بالمسؤولية في نفس المجرمين وتحبب إليهم التعطل... فلا
يكادون يخرجون من السجن حتى يعملوا للعودة إليه، لا حبا في الجريمة ولا
حرصا عليها، وإنما حبا في العودة إلى السجن وحرصا على حياة البطالة.
5 - ازدياد سلطان المجرمين: ومن المجرمين من يغادر السجن ليعيش عالة
على الجماعة ويستغل جريمته السابقة لإخافة الناس وإرهابهم وابتزاز أموالهم
ويعيش على هذا السلطان الموهوم...
6 - انخفاض المستوى الصحي والأخلاقي:... ولما كان عدد المحبوسين
يزيد عاما بعد عام، والمحابس لا تزيد، فقد اضطر ولاة الأمور إلى حشرهم حشرا
في غرف السجون، كما يحشر السردين في علبته... فالسجون إذن أداة لنشر
الأمراض بين المسجونين ولإفساد أخلاقهم وتضييع رجولتهم...
7 - ازدياد الجرائم: وقد وضعت عقوبة الحبس على اختلاف أنواعها
لمحاربة الجريمة، ولكن الإحصائيات التي لا تكذب تدل على أن الجرائم تزداد
عاما بعد عام زيادة تسترعي النظر وتبعث على التفكير الطويل...
ولكن هذه الخسائر تنتفي لو نفذ النظام الإسلامي، لأن الشريعة لا تعرف
الحبس في جرائم الحدود والقصاص، وهي كما بينا تبلغ ثلثي الجرائم عادة. كما
أن الشريعة تفضل في التعازير عقوبة الجلد على عقوبة الحبس...
وإذا فرض أن عقوبة الجلد تطبق في نصف الجرائم الباقية كان الباقي
الأخير من الجرائم - حوالي 15 % من مجموع الجرائم - يقسم بين عقوبات
343

الحبس والغرامة والتغريب وغير ذلك من عقوبات التعازير المتعددة... فتكون
النتيجة أن لا يحبس فعلا إلا في حوالي 5 % من مجموع الجرائم. وهذه نتيجة لا
يمكن الوصول إليها إلا بتطبيق نظرية الشريعة الإسلامية في العقاب... " (1).
أقول: فاللازم التفكير في تقليل السجن والسجناء مهما أمكن، وتنفيذ سائر
التعزيرات بل والتوصل بالعفو والإغماض أو القناعة بمثل التعنيف والتوبيخ
والتهديد في أكثر الموارد التي لا يرى فيها ضرورة للتعزير أو الحبس.
الرابعة - في إشارة إجمالية إلى مكان السجن من العقوبات في الشريعة
الإسلامية:
هل الحبس الشرعي حد أو تعزير، أو قسيم لهما، أو يختلف بحسب
الموارد؟
أقول: العقوبات المشرعة في الإسلام في قبال الجرائم عبارة عن الحدود،
والتعزيرات، والكفارات، والقصاص، والديات.
والحبس قد يقع حدا مثل تخليد السارق الذي قطعت يده ورجله في
السجن، إذ الظاهر كونه من قبيل القطع الذي هو حد قطعا.
وقد يقع تعزيرا. مثل ما يقع من قبل الحكام في موارد التعزير بدل الضرب
أو بضميمته بناء على جواز ذلك، كما هو الأقوى.
وقد لا يكون الحبس حدا ولا تعزيرا. كحبس المتهم للكشف أو الانكشاف
المعبر عنه بالتوقيف الموقت، حيث لم يثبت الجرم بعد حتى يعاقب المرتكب، بل
وكذا كل من يحبس لرفع شره وضرره فقط، إذ لم يلحظ في حبسه تأديبه وتنبيهه
حتى يصدق عليه التعزير.

(1) التشريع الجنائي الإسلامي: 1، 730 إلى 742.
344

ولعل أكثر موارد الحبس في عصر النبي (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) من قبيل
القسم الثالث أو الرابع.
الخامسة - في إشارة إجمالية إلى موارد الجمع بين الحبس وبعض
العقوبات الأخر:
قد ظهر أن للحبس أربعة أقسام: أما القسمان الأولان، أعني ما يقع بداعي
العقوبة حدا أو تعزيرا، فيجوز بل قد يجب أن يضاف (1) إليه بعض العقوبات الأخر
من القيد والغل والضرب قبل الحبس أو في الحبس، والتضييق في المأكل
والمشرب وزيارة الأهل والعيال والإخوان وسائر الإمكانات إذا رأى الحاكم
العادل البصير به وبنفسياته دخل هذه الأمور في تنبهه وفي إصلاحه وتهذيبه. وقد
ورد أخبار ذكر فيها العقوبات المكملة للحبس، منها:
1 - عن أبي عبد الله (عليه السلام) في المرتدة عن الإسلام، قال: " لا تقتل، وتستخدم
خدمة شديدة، وتمنع الطعام والشراب إلا ما يمسك نفسها وتلبس خشن الثياب،
وتضرب على الصلوات " (2).
2 - وفي خبر أبي مريم، قال: " أتي أمير المؤمنين (عليه السلام) بالنجاشي الشاعر قد
شرب الخمر في شهر رمضان، فضربه ثمانين، ثم حبسه ليلة، ثم دعا به من الغد
فضربه عشرين، فقال له: يا أمير المؤمنين، هذا ضربتني ثمانين في شرب الخمر،

(1) إضافة عقوبات أخر إلى الحبس لابد وأن يكون بحكم القاضي في محكمة عادلة وإلا
فليس لأحد بعد الحكم أن يضيف إلى العقوبة المعينة من قبل القاضي شيئا فإن ذلك من
التعدي في الحدود. نعم إذا أتى المحكوم عليه بجرم آخر يحكم عليه بعقوبة أخرى
لذلك - م -.
(2) الوسائل: 18، 549.
345

وهذه العشرون ما هي؟ قال: هذا لتجرئك على شرب الخمر في شهر رمضان " (1).
3 - وفي خبر الفضيل بن يسار، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): عشرة قتلوا
رجلا؟ قال: إن شاء أوليائه قتلوهم جميعا وغرموا تسع ديات، وإن شاؤوا تخيروا
رجلا قتلوه وأدى التسعة الباقون إلى أهل المقتول الأخير عشر الدية كل رجل
منهم. قال: ثم الوالي بعد يلي أدبهم وحبسهم " (2).
4 - وعن جعفر، عن أبيه أن عليا (عليهم السلام) كان إذا أخذ شاهد زور، فإن كان غريبا
بعث به إلى حيه وإن كان سوقيا بعث به إلى سوقه فطيف به، ثم يحبسه أياما ثم
يخلي سبيله " (3).
وأما في القسم الثالث والرابع من أقسام الحبس فلا وجه غالبا للتضييقات
وضم سائر العقوبات إذ الغرض يحصل غالبا بمجرد حبسه ومنعه من الفرار
والانبعاث.
نعم في خصوص الحبس الموقت بداعي الكشف ربما يتوقف ذلك على منع
زيارة أهله وإخوانه له. وربما تقع الحاجة إلى الضرب ونحوه تعزيرا له لكتمان
الشهادة، لما مر من جواز التعزير على ذلك.
وأما من يحبس لعدم الفرار فقط، أو من يحبس لدفع شره وضرره فقط بعد
العلم بعدم ارتداعه أصلا فلا وجه لإيراد التضييقات عليه.
وبذلك يظهر أن إجبار الشخص المسجون على المقابلة التلفزيونية أو على
أمور أخر تسلب حريته وسلطته على نفسه وتحطم شخصيته الاجتماعية، كالشركة
في بعض الحفلات أو التصدي لبعض الأعمال أو المساعدة في الاستخبارات أو

(1) الوسائل: 18، 474.
(2) الوسائل: 19، 30.
(3) الوسائل: 18، 244.
346

غير ذلك من الأمور المتعارفة في عصرنا، أمر محرم لا يرضى به الشارع الذي له
اهتمام كثير بحقوق المسجونين، وكذلك إيقاع المسجون في موقع روحي غير
متعادلة ليصدر عنه ما يريدون منه باختياره.
فعن جعفر، عن أبيه: " أن علي بن أبي طالب (عليه السلام) لما قتله ابن ملجم قال:
" احبسوا هذا الأسير وأطعموه وأحسنوا إساره " (1).
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: " لا تتبعوا عثرات المسلمين، فإنه من تتبع عثرات
المسلمين تتبع الله عثرته، ومن تتبع الله عثرته يفضحه " (2).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): " من كشف حجاب أخيه انكشف عورات بيته " (3).
نعم، لو بلغ الشخص المجرم في الإجرام والتجاهر به والعناد في قبال الحق
حدا لا يبقى له مع ذلك حرمة عند الله - تعالى - وعند عقلاء الناس وصار عندهم
رجلا متهتكا ساقطا عن الإنسانية فالظاهر حينئذ عدم حرمة الإذاعة لأسراره ما
لم يسر ذلك إلى هتك حرمة غيره (4). وكذلك إذا كان الشخص يجب أن يعرفه
الناس حتى لا يغتروا به أو يعتمدوا عليه. كما في شاهد الزور، وغير ذلك من

(1) الوسائل: 19 / 96.
(2) الكافي: 2، 355.
(3) الغرر والدرر: 5 / 371.
(4) حيث إن إذاعة الأسرار حرام ففي جوازها غير ما جاء في المتن يشترط أمران آخران:
أ - أن تكون الإذاعة بحكم القاضي وتشخيصه في محكمة عادلة وفقا للقوانين.
ب - أن تكون مرتبطة بما تجاهر به فإن كانت له أسرار منكشفة للمحكمة أو لأجهزة الأمن
والاستخبارات ولكن لم ترتبط بما تجاهر به، فلا تجوز إذاعتها.
هذا وقد نشاهد إذاعة الأسرار لتحطيم الشخصيات سيما في حق المخالفين السياسيين
ولتمهيد أرضية قتلهم واغتيالهم من دون أن يحكم بهما في محكمة عادلة علنية، فهذه
محرمة شرعا بلا أي إشكال - م -.
347

الموارد التي يوجد في الإفشاء والإذاعة مصلحة ملزمة (1).
السادسة - في أقسام السجون بملاحظة أصناف السجناء وأسبابها
الرئيسية:
لا ريب أن السجون يجب أن تلحظ فيها وفي برامجها الموازين الشرعية
والأهداف الإصلاحية الإسلامية. ومن الواضح أن اختلاط الرجال بالنساء في
مكان خلوة مما يوجب الفساد قطعا. كما أن اختلاط الصبيان بل الشبان الأحداث
السذج بالرجال المجربين لطرق الفساد في مكان خلوة لا شغل لهم فيه إلا
المقاولة والمفاكهة يوجب نشوء الصبيان والشبان على الفساد في الأخلاق
والأفعال. فيجب أن يفرد لكل صنف من هؤلاء ومن أصناف المجرمين مكان
خاص لئلا يؤدي الأمر إلى الفساد. وبذلك يظهر وجوب افراد سجن الشبان
السذج أيضا عن سجن من توغل في الانحراف الفكري والعقائد الفاسدة
والمناهج الباطلة المعدية، إذ المعاشرة المستمرة مؤثرة قطعا؛ فينقلب السجن المعد
للإصلاح إلى محل الفساد والإفساد.
وقد تقسم السجون بملاحظة أسبابها، قال الوائلي: إنها أربعة أقسام رئيسية:
الأول: السجن الاحتياطي، وهو إجراء تحفظي يتخذ قبل المتهم الذي لم
تثبت إدانته بعد ويحتمل أن تظهر برائته...

(1) الملاك في تشخيص وجود المصلحة الملزمة للإفشاء والإذاعة لو كان ما يشخصه نفس
الحكومة ففي مثل ما يسمى بالجرائم السياسية الصادرة من الناقدين والمعترضين للحكومة
يشكل الالتزام بكفايته إذ الحكومة طرف للدعوى والاتهام في نظرهم فكيف يؤاخذ الطرف
بتشخيص الطرف الآخر؟ بل لابد من إرجاع الدعوى إلى محكمة مرضية عند الطرفين.
نعم في غير الجرائم السياسية لو كانت الحكومة صالحة، يصح لها العمل بتشخيصها في
تلك الجرائم - م -.
348

الثاني: السجن الاستبرائي، كسجن من أشكل حاله في العسر واليسر...
الثالث: السجن الحقوقي بقسميهما من العامة والخاصة...
الرابع: السجن الجنائي... (1).
أقول: ولم يظهر لي فرق بين بين القسم الأول والثاني. ثم إنه لم يذكر في
الأقسام، الأسباب والآراء السياسية (2) الموجبة للسجن في أعصارنا، اللهم إلا أن

(1) أحكام السجون: 128 - 130.
(2) الظاهر أن الأستاذ - دام ظله - لم يعثر على خبر ورد في حبس المخالف لرأيه السياسي أو
لنشاطه كذلك، في أخبار الشيعة والسنة إلا على خبرين مذكورين في أصل الكتاب:
1 - ما في تاريخ الطبري في رجل قال رجلان من أصحاب علي (عليه السلام): أنه يرى رأي
الخوارج فقال (عليه السلام): " لا يحل لنا دمه ولكنا نحبسه، فقال عدي بن حاتم: يا أمير المؤمنين،
ادفعه إلي وأنا أضمن أن لا يأتيك من قبله مكروه، فدفعه إليه ". (تاريخ الطبري: 6، 3384).
وفيه أولا: أنه لم تثبت حجيته.
وثانيا: أن مفاده مخالف لحرية الناس في عرض آرائهم السياسية المستفادة من قوله
تعالى: (فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) (سورة الزمر 39: 17)، ولعدم
جواز العقاب إلا بعد الإتيان بجريمة، وصرف عرض الرأي لم يكن بجرم وإن كان مخالفا
للآراء الحاكمة على اعمال الحكومة في المجالات السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية.
فمن له شبهة سياسية يجب إزالتها بالبرهان أو بالموعظة الحسنة أو بالجدال بالتي هي
أحسن كما نطق بها الكتاب العزيز، لا بالحبس والتشديد عليه وسلب حرياته ومنعه عن
حقوقه، فإنها تدل على بطلان طرفه وترسخه في اعتقاده وتبعثه على العمل وفقه.
2 - ما في الغارات في قصة خروج الخريت بن راشد من بني ناجية على أمير
المؤمنين (عليه السلام) واعتراض عبد الله بن قعين عليه بعدم استيثاقه قال (عليه السلام): " ولا أراني يسعني
الوثوب على الناس والحبس لهم وعقوبتهم حتى يظهروا لنا الخلاف ". (الغارات: 1، 335).
وهذا الخبر دل بمفهومه على أنه إن أظهروا له الخلاف يسعه الحبس لهم وعقوبتهم،
وإطلاق الخلاف يشمل الخلاف قولا وعملا.
ولكن لا يتمسك بمفهوم مثل هذا الخبر لإثبات الحبس والعقوبة لأي خلاف.
والأظهر أن الإمام (عليه السلام) لم يكن بصدد بيان الجزاء للخلاف، بل بيان أنه بمجرد الاطلاع
على أن شخصا مثل الخريت يريد مفارقته وخلافه ولم يظهره بعد، لا يجوز حبسه وعقوبته،
نعم بعد إظهار الخلاف ينظر ويعاقب من أتى به بحسبه.
وليس مراده بالخلاف، الخلاف بالبيان والقلم؛ لأن كثيرا من الأفراد ولا سيما الخوارج
كثيرا ما خالفوه باللسان بل سبوه ولم يرو أنه عاقبهم لذلك.
ففي نهج البلاغة: قال رجل من الخوارج " قاتله الله كافرا ما أفقهه " فوثب القوم ليقتلوه،
فقال (عليه السلام): " رويدا، إنما هو سب بسب أو عفو عن ذنب " (نهج البلاغة، صالح: 550، الحكمة
420).
ولأن نقد الآراء الحاكمة وسياسات الحكومة في المجالات المختلفة الاجتماعية
والاعتراض عليها بالبيان والقلم حق لكل فرد من أفراد المجتمع لارتباطها بمصيرهم ولهم
تقرير مصيرهم.
بل ولا الخلاف في العمل ما لم ينجر إلى منع المخالف من الذي عليه بالعهد، أو إلى
الجرائم التي ورد لها في الشرع جزاء مثل الفتنة والفساد والقتل والسرقة.
فإن النبي (صلى الله عليه وآله) احتمل عبد الله بن أبي رئيس المنافقين مع كثرة مخالفته له (صلى الله عليه وآله) قولا
وعملا ولم يرو أنه عاقبه لذلك بل قال فيه: " نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا " (سيرة ابن
هشام: 3، 305).
فالإضراب عن العمل والمظاهرات السلمية مع رعاية الحقوق الواجبة رعايتها لا بأس
بها. هذه كلها إذا كانت للحكومة مواصفات وهي:
أ - أن تكون مشروعة بأن أقيمت بشورى الناس وبيعتهم لا بالقهر والغلبة والخداع
والانقلاب العسكري وأن تكون مقبولة لدى الناس في الحال.
ب - أن تكون على أهبة للحوار وحل الاختلاف بالمسالمة والمصالحة أو بالتحكيم.
ج - أن تكون معطيا للحقوق المسلمة للمخالف ولا تمنعه عنها بالحجج الواهية ووسائل
الضغط الحكومية فتضطره إلى خطوات لاستيفاء حقوقه ربما تنتهي إلى سقوط النظام. وإلا
يجب إسقاطها ولو بالكفاح المسلح كما مر - م -.
349

تدخل هذه في قسم الحقوق العامة، أو يقال إن السجن بسببها بدعة ومخالف
لحرية الناس في إظهار آرائهم السياسية ما لم يترتب عليه القتل والإغارة وسلب
الأمن من المجتمع. ويشهد لذلك عمل أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام).
350

السابعة - في نفقات السجن والسجناء:
أما السجن فحيث إنه من المصالح العامة ومما يتوقف عليه استيفاء الحقوق
وتأديب المجرمين وحفظ النظام وأمن السبل، فلا محالة تكون نفقات بنائه
وعمارته ومرافقه ومراقبيه على بيت المال.
وأما نفقة المسجون فهل تكون على بيت المال مطلقا، أو على نفسه كذلك،
أو يفصل بين من له مال أو يقدر على تحصيله ولو بالعمل في السجن، وبين غيره،
أو يفصل بين المخلد في السجن فتكون على بيت المال كما في بعض الأخبار،
وبين غيره فتكون على نفسه، أو يفصل بين التوقيف الموقت للكشف فتكون على
بيت المال لعدم ثبوت تقصيره، وبين المحكوم بالسجن لثبوت تقصيره فتكون على
نفسه على طبق القاعدة؟ في المسألة وجوه ونحن نتعرض لأمور:
الأول: ما تقتضيه القواعد الأولية. فنقول: حيث إن نفقة الإنسان تكون أولا
وبالذات في أمواله وعلى عهدة نفسه فمع فرض تمكنه من تحصيل النفقة وأدائها
لا يرى وجه لتحميلها على بيت المال المتعلق بالمسلمين. نعم لو كان فقيرا وبقى
هو وعائلته بلا معاش، وكان السجن مانعا من شغله المناسب صار حكمه حكم
سائر الفقراء في الارتزاق من بيت المال.
ولكن لأحد أن يقول: إن ما ذكرت صحيح في من ثبت تقصيره وحكم
بحسبه لذلك، وأما المسجون في تهمة قبل إثبات تقصيره، فإن توقيفه الموقت
يكون في طريق المصالح العامة فكان المناسب رزقه من بيت المال حتى يتضح
الحال.
وهذا التفصيل عندي قوي وإن لم أعثر على من أفتى به. ويحتمل في المتهم
أيضا ثبوت حق المطالبة منه إذا ثبت بعد ذلك كونه مقصرا.
351

الثاني: بعض الروايات الواردة في المسألة:
1 - عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " تقطع رجل السارق بعد قطع اليد، ثم لا يقطع
بعد، فإن عاد حبس في السجن وانفق عليه من بيت مال المسلمين " (1).
2 - وعنه أيضا في حديث في السرقة، قال: " تقطع اليد والرجل ثم لا يقطع
بعد، ولكن إن عاد حبس وأنفق عليه من بيت مال المسلمين " (2).
3 - ومن قضايا أمير المؤمنين (عليه السلام): " أنه كان إذا سرق الرجل أولا قطع يمينه،
فإن عاد قطع رجله اليسرى، فإن عاد ثالثة خلده السجن وأنفق عليه من بيت
المال " (3).
ودلالتها إجمالا على كون نفقة السجناء على بيت المال ظاهرة، وظاهر
بعضها الإطلاق أيضا، فيرفع بسببها اليد عما أصلناه من القاعدة الأولية. اللهم إلا
أن يقال إن مورد الجميع السرقة الثالثة وحكمها التخليد في السجن، والغالب فيمن
خلد فيه تلاشي طرق المعيشة واضمحلالها، فلا يستفاد من هذه الروايات حكم
من بقي رأس ماله وثروته.
الثالث: بعض ما ذكره الفقهاء: ففي المستند: " مؤونة المحبوس حال الحبس
من ماله، ووجهه ظاهر. ويشكل الأمر لو لم يكن له شئ ظاهر، وكان ينفق كل يوم
بقرض أو كسب قدر مؤونته أو سؤال أو كل على غيره ونحوها، بل قد يغتنم
المحبس لذلك... " (4).
وقال الماوردي: " يجوز للأمير فيمن تكررت منه الجرائم ولم ينزجر عنها

(1) الوسائل: 18، 493.
(2) الوسائل: 18، 494.
(3) الوسائل: 18، 495.
(4) مستند الشيعة: 2، 549.
352

بالحدود أن يستديم حبسه إذا استضر الناس بجرائمه حتى يموت بعد أن يقوم
بقوته وكسوته من بيت المال ليدفع ضرره عن الناس " (1).
وكيف كان فالأقوى في المسألة هو التفصيل بين المتمكن فعلا أو بالقوة من
تحصيل ما يعيش به، وبين غيره، ففي الأول يكون على نفسه وفي الثاني على بيت
المال، اللهم إلا أن يكون للحكومة مانع من قبول المال والمؤونة من الخارج
وتقتضي المصلحة كون الجميع على بيت المال تحت نظام واحد، كما لعله الغالب
في سجون عصرنا.
الثامنة - في التعرض لفروع أخر جزئية ترجع إلى حقوق المحبوسين وما
على القاضي أو الإمام لهم:
الأول: - النظر في حال المحبوسين:
حيث إن السجون في جميع الأعصار كانت تحت أمر السلطة القضائية،
فعلى القاضي المنصوب في أول نصبه النظر في حال المحبوسين كيلا يبقى في
السجن شخص بلا جهة ملزمة.
قال الشيخ: " فإذا جلس للقضاء فأول شئ ينظر فيه حال المحبسين في
حبس المعزول، لأن الحبس عذاب فيخلصهم منه، ولأنه قد يكون منهم من تم
عليه الحبس بغير حق " (2).
وقال أبو إسحاق الشيرازي: " ويستحب أن يبدأ في نظرة المحبسين، لأن
الحبس عقوبة وعذاب، وربما كان فيهم من تجب تخليته، فاستحب البداية بهم.
ويكتب أسماء المحبسين وينادي في البلدان: القاضي يريد النظر في أمر

(1) الأحكام السلطانية: 220.
(2) المبسوط: 8، 91.
353

المحبسين في يوم كذا، فليحضر من له محبوس... " (1).
أقول: وقد صرح بهذا المضمون أكثر فقهاء الشيعة والسنة. وانظر كيف اهتم
الفقه الإسلامي بأمر المحبوسين ولاحظ ما تعارف في أكثر البلدان من امتلاء
السجون بمتهمين قضوا أشهرا عديدة بل سنوات في السجون بلا تعيين لحالهم.
الثاني: - رعاية حاجات المحبوسين:
إن على الإمام أن يراعي حاجات المحبوسين في معاشهم من الغذاء
والدواء والهواء الصافي والألبسة الصيفية والشتوية وسائر المرافق والإمكانات.
ففي كتاب أحكام السجون: " أن يكون بناء السجن مريحا وواقيا من الحر
والبرد مما يتوفر معه راحة السجين. ومن هنا ترى النبي (صلى الله عليه وآله) يحبس في الدور
الاعتيادية التي يسكنها سائر الناس ويتوفر فيها النور والسعة... " (2).
ومن الأمور المهمة التي ينبغي رعايتها إيجاد شرائط اللقاء بين المسجون
وزوجه وإمكان الخلوة بينهما، فإن الفصل الطويل بينهما ربما يوجب الفرقة
وتلاشي الحياة العائلية.
فعن علي (عليه السلام) " إن امرأة استعدت عليا (عليه السلام) على زوجها، فأمر علي (عليه السلام) بحبسه.
وذلك الزوج لا ينفق عليها إضرارا بها، فقال الزوج احبسها معي. فقال علي (عليه السلام)؛ لك
ذلك؛ انطلقي معه " (3).
الثالث: - ضمان السجان إذا فرط:
لو فرط السجان في أمن مكان السجين أو تهويته أو غذائه أو دوائه أو سائر
وسائل عيشته فمات أو مرض لأجل تفريطه فالظاهر ضمانه له قصاصا أو دية،

(1) أحكام السجون: 120.
(2) أحكام السجون: 117.
(3) مستدرك الوسائل: 2، 497.
354

لاستناد الموت والمرض إلى عمله.
قال الشيخ: " إذا أخذ حرا فحبسه فمات في حبسه فإن كان يراعيه بالطعام
والشراب فمات في الحبس فلا ضمان بوجه، صغيرا كان أو كبيرا...
فأما إن منعه الطعام أو الشراب أو هما، أو طين عليه البيت فمات، فإن مات
في مدة يموت فيها غالبا فعليه القود، وإن كان لا يموت فيها غالبا فلا قود وفيه
الدية... " (1).
وقال أبو إسحاق الشيرازي: " وإن حبس رجلا ومنع عنه الطعام والشراب
مدة لا يبقى فيها من غير طعام ولا شراب فمات، وجب عليه القصاص " (2).
إلى غير ذلك من كلمات فقهاء الفريقين. والعمدة صحة استناد الموت إليه
عرفا ولو بالتسبيب إذا كان أقوى من المباشرة. ولا ينحصر الحكم في الطعام
والشراب بل يعم الدواء وسائر ما يتوقف عليه إدامة الحياة بالنسبة إلى هذا
الشخص ولو مثل وسائل التهوية والتدفئة ونحوهما.
الرابع: - على الإمام أن يراعي الشؤون الدينية للسجناء:
فعن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: " على الإمام أن يخرج المحبسين في الدين
يوم الجمعة إلى الجمعة، ويوم العيد إلى العيد. فيرسل معهم، فإذا قضوا الصلاة
والعيد ردهم إلى السجن " (3).
وعن جعفر بن محمد، عن أبيه (عليهما السلام): " إن عليا (عليه السلام) كان يخرج أهل السجون
من الحبس في دين أو تهمة إلى الجمعة، فيشهدونها، ويضمنهم الأولياء حتى

(1) المبسوط: 7، 18.
(2) أحكام السجون: 119.
(3) الوسائل: 18، 221.
355

يردونهم " (1).
والظاهر أنه لا خصوصية للدين والتهمة، بل الظاهر عموم الحكم لكل
مسجون مسلم.
والمتفاهم من هاتين الروايتين أن الأمر لم يكن مثل ما في أعصارنا بحيث
يحكم بالحبس لكل أمر تافه موهوم أيضا، بل لم يعهد في عصر أمير المؤمنين (عليه السلام)
وما قبله وجود السجون السياسية الرائجة في عصرنا حيث إن الناس كانوا أحرارا
في عرض آرائهم السياسية ما لم يترتب عليها البغي والطغيان والقتل والإغارة.

(1) مستدرك الوسائل: 1، 410.
356

الفصل الثامن
في التجسس والاستخبارات العامة
وفيه جهات من البحث:
الأولى - في وجوب حفظ أعراض المسلمين وأسرارهم:
ونقدم هذه الجهة لأن مضمونها مطابق للأصل وهو عدم ولاية أحد على
أحد؛ فمراقبة الغير والتجسس عليه وإذاعة عيوبه وأسراره نحو تصرف في شؤون
الغير والأصل يقتضي عدم جوازه. ويدل عليه من الكتاب والسنة:
1 - قوله - تعالى -: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن، إن بعض
الظن إثم، ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه
ميتا فكرهتموه) (1).
فالله - تبارك وتعالى - نهى أولا عن سوء الظن بالمؤمنين، وثانيا عن
التفتيش والتجسس على دخائلهم، وثالثا عن إذاعتها وإشاعتها على فرض
الاطلاع عليها، ولعل المستفاد من الآية أن حياة الإنسان إنما هي بعرضه
وشخصيته الاجتماعية، والهتك لهما كأنه سلب لحياته هذه.

(1) الحجرات: 49، 12.
357

2 - وقوله أيضا: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم
عذاب أليم) (1).
3 - وعن محمد بن الفضيل، عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: قلت
له: جعلت فداك، الرجل من اخواني بلغني عنه الشئ الذي أكرهه فأسأله عنه
فينكر ذلك وقد أخبرني عنه قوم ثقات؟ فقال لي: يا محمد، كذب سمعك وبصرك
عن أخيك، وإن شهد عندك خمسون قسامة، وقال لك قولا فصدقه وكذبهم، ولا
تذيعن عليه شيئا تشينه به وتهدم به مروته فتكون من الذين قال الله - عز وجل -:
إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم " (2).
4 - وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " لا تطلبوا عثرات
المؤمنين، فإن من تتبع عثرات أخيه تتبع الله عثراته، ومن تتبع الله عثراته يفضحه
ولو في جوف بيته " (3).
5 - وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في
قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من اتبع عوراتهم يتبع الله
عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته " (4).
6 - وعن النبي (صلى الله عليه وآله) أيضا، قال: " إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس
أفسدهم " (5).
فليتأمل كل من له عناية واهتمام بالشرع وأحكامه فيما ذكر من الآيات

(1) النور 24: 19.
(2) الكافي: 8، 147، ونور الثقلين: 3، 582.
(3) الكافي: 2، 355.
(4) تفسير القرطبي: 16، 333.
(5) تفسير القرطبي: 16، 333.
358

والروايات، وليحفظ أسرار المسلمين وعثراتهم الخفية الفردية والعائلية، ولا
يتعرض لها بالاستماع والتفتيش والنشر والإشاعة، ولا يعتذر بكونه موظفا في
الاستخبارات، فإن الموظفين فيها لا يجوز لهم التفتيش والتحقيق إلا في الأمور
المهمة العامة الماسة بمصالح النظام والمجتمع بمقدار الضرورة (1).
الثانية - في لزوم الاستخبارات العامة والهدف منها إجمالا:
حيث إن حفظ نظام المسلمين من أهم ما اهتم به الشرع فلا محالة وجبت
مقدماته بحكم العقل والفطرة. فعلى الدولة الإسلامية أن تحصل على الاطلاعات
الكافية حول أوضاع الدول والأمم الأجنبية وقراراتهم ضد الإسلام والمسلمين،
وتجمع الأخبار حول تحركاتهم وتحركات عملائهم وجواسيسهم، ومؤامرات
الكفار وأهل النفاق والبغي والطغيان، وأن تراقب رجال الدولة والموظفين
وأحوال الناس وحوائجهم العامة.
وهذه المسؤولية تفوض لا محالة من قبل الدولة إلى مؤسسة عادلة صالحة
من جميع الجهات، ويطلق عليها في اصطلاح عصرنا: " إدارة الأمن
والاستخبارات ".
والهدف من هذا الجهاز ليس إلا حفظ مصالح الإسلام والمسلمين وتحكيم
نظام العدل وإيجاد الاطمئنان للنفوس لا الحفاظ على منافع الرؤساء وتحكيم
سلطتهم كيف ما كانوا وأرادوا ولو بالإخافة وكم أفواه الأمة المظلومة وسلب
حرياتهم المشروعة، كما قد يتوهم من سماع هذا اللفظ في أكثر البلاد.

(1) صرف اشتراط هذه القيود ما لم يتعين حدوده في القانون لا يكفي في تحقق الهدف منها،
إذ كل موظف في الاستخبارات يعمل بتشخيصه، فربما يكون أمر بنظر موظف مهما وماسا
بمصالح النظام، ويكون غير مهم وغير ماس بها عند موظف آخر. والأمر هكذا في " مقدار
الضرورة " - م -.
359

وعلى هذا فيجب أن يفوض هذه المسؤولية إلى أهلها، وأن يدقق في
انتخاب الأعضاء لها، واختيارهم من بين العقلاء الأذكياء الملتزمين بالموازين
الشرعية المهتمين بمصالح الأفراد والمجتمع، ويجب أن يتعرف كل منهم على ما
يجب الاطلاع عليه وما يحرم، ويميز الخط الدقيق الفاصل بينهما، فإن الأمر في
كثير من الموارد دائر بين الواجب المهم والحرام المؤكد.
ويستفاد وجوب حفظ النظام - مضافا إلى كونه ضروريا وبديهيا - من
أخبار كثيرة:
ففي نهج البلاغة: " إن هؤلاء قد تمالؤوا على سخطة إمارتي، وسأصبر ما لم
أخف على جماعتكم، فإنهم إن تمموا على فيالة هذا الرأي انقطع نظام
المسلمين " (1).
وعن الرضا (عليه السلام) في حديث طويل: " إن الإمامة زمام الدين ونظام المسلمين
وصلاح الدنيا وعز المؤمنين " (2). إلى غير ذلك من الأخبار.
الثالثة - في بيان شعب الاستخبار وأهدافه وذكر الأخبار الواردة فيها:
فنقول: هي أربع شعب نتعرض لها في أربعة فصول:
الأول: في مراقبة العمال والموظفين:
لا يخفى أن مجرد تعيين الوزراء والعمال والأمراء لا يكفي في إدارة الملك
بنحو يرضى به العقل والشرع، بل اللازم مضافا إلى إحراز الأهلية والشروط
المعتبرة فيهم نصب من يراقبهم ويرصد أعمالهم ومعاملاتهم مع المراجعين في
شتى المؤسسات ولا سيما في المناطق البعيدة عن مقر الحكومة المركزية،

(1) نهج البلاغة، عبده: 2، 100؛ صالح: 244 الخطبة 169.
(2) الكافي: 1، 200.
360

والأطماع ربما تغلب على النفوس، والأقوياء يغلب على طباعهم الاستبداد في
الرأي وتحقير الضعفاء والمستضعفين وعدم الاعتناء بهم، فلابد من المراقبة
والتفتيش عنهم، كما كان يصنعه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام).
فعن الريان بن الصلت، قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: " كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا
وجه جيشا فأمهم أمير بعث معه من ثقاته من يتجسس له خبره " (1).
وأمير المؤمنين (عليه السلام) لم يكتف بالأمر بانتخاب العمال من أهل التجربة
والحياء والقدم في الإسلام، بل أوجب مع ذلك أن تبعث عليهم عيون تبلغ من
الصدق والوفاء حدا يكتفى بأخبارهم في خيانة العمال، وأوجب عقوبة الخائن
وتذليله. فهذا الذي يحكم أساس الملك والحكومة ويوجب انجذاب الأمة إلى
الدولة ودفاعها عنها، لا ما قد يتوهم من الإغماض والتغاضي عن تقصيرات
المسؤولين وخياناتهم باسم الدفاع عن الدولة.
وكان هو بنفسه يراقب عماله بعيونه. ويدل عليه ما ورد في كتبه إلى عماله
من بلوغ أخبارهم إليه مع بعد المسافة بين البلاد وعدم وسائل الإعلام والأخبار
الموجودة في عصرنا.
1 - ففي كتابه إلى ابن عباس على ما قيل: " أما بعد فقد بلغني عنك أمر إن
كنت فعلته فقد أسخطت ربك وعصيت إمامك وأخزيت أمانتك، بلغني إنك جردت
الأرض فأخذت ما تحت قدميك وأكلت ما تحت يديك فارفع إلي حسابك " (2).
2 - وفي كتابه إلى زياد حين كان خليفة لابن عباس عامله على البصرة:
" وإني أقسم بالله قسما صادقا لئن بلغني أنك خنت من فيئ المسلمين شيئا صغيرا

(1) قرب الإسناد: 148.
(2) نهج البلاغة، عبده: 3، 72؛ صالح: 412، الكتاب 40.
361

أو كبيرا لأشدن عليك " (1).
وغير ذلك من الموارد.
الثاني: في مراقبة التحركات العسكرية للسلطات الخارجية:
لا يخفى أن مراقبة التحركات العسكرية وغيرها للعدو، والتعرف على
مواقعه وأسراره النظامية والاقتصادية وعن عدته وعدته من أهم الأسباب
للانتصار عليه.
ولو لم يكن لنا في هذا المجال إلا قوله - تعالى -: (واعدوا لهم ما استطعتم
من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) (2). لكفى في الدلالة على
وجوب الاهتمام به.
كيف؟ وعمل النبي (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) تدلنا على أهمية هذا الأمر:
1 - ففي سيرة ابن هشام: " وبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) عبد الله بن جحش... وكتب
له كتابا، وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين... فلما سار عبد الله بن جحش
يومين فتح الكتاب فنظر فيه، فإذا فيه: إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل
نخلة بين مكة والطائف، فترصد بها قريشا وتعلم لنا من أخبارهم " (3).
2 - وفي المغازي في غزوة أحد؛ " وبعث النبي (صلى الله عليه وآله) عينين له أنسا ومؤنسا
ابني فضالة ليلة الخميس، فاعترضا لقريش بالعقيق فسارا معهم حتى نزلوا بالوطاء
فأتيا رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأخبراه " (4).
3 - وفيه أيضا في غزوة الخندق: " قال خوات بن جبير: دعاني رسول

(1) نهج البلاغة، عبده: 3، 22؛ صالح: 377، الكتاب 20.
(2) الأنفال 8: 60.
(3) سيرة ابن هشام: 2، 252.
(4) المغازي: 1، 206.
362

الله (صلى الله عليه وآله) ونحن محاصرو الخندق، فقال: انطلق إلى بني قريظة فانظر هل ترى لهم
غرة أو خللا من موضع فتخبرني... " (1).
4 - وفي مجمع البيان في غزوة الحديبية: " وبعث (صلى الله عليه وآله) بين يديه عينا له من
خزاعة يخبره عن قريش: وسار رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى إذا كان بغدير الاشطاط قريبا
من عسفان أتاه عينه الخزاعي فقال: إني تركت كعب بن لؤي قد جمعوا لك
الأحابيش وجمعوا جموعا وهم قاتلوك أو مقاتلوك وصادوك عن البيت.
فقال (صلى الله عليه وآله): روحوا فراحوا " (2).
5 - وفي نهج البلاغة من كتابه (عليه السلام) إلى قثم بن العباس عامله على مكة: " أما
بعد، فإن عيني بالمغرب كتب إلي يعلمني أنه وجه إلى الموسم أناس من أهل
الشام، العمي القلوب، الصم الأسماع، الكمه الأبصار الذين يلتمسون الحق
بالباطل... فأقم على ما في يديك قيام الحازم الصليب... " (3).
إلى غير ذلك من الروايات.
والظاهر من هذه الروايات أنه يتعين مراقبة الأعداء ولو في عقر دارهم
والتجسس على قواهم وإمكاناتهم النفسية والعسكرية والصناعية والاقتصادية (4).

(1) المغازي: 1، 460.
(2) مجمع البيان: 5، 117.
(3) نهج البلاغة، عبده: 3، 65؛ صالح: 406، الكتاب 33.
(4) لم يبين الأستاذ - دام ظله - المراد من الأعداء هنا.
فهل يشمل الدول الكافرة الشقيقة التي لا تحارب الدولة الإسلامية فعلا ولم تكن بصدده
أيضا، بل لها علاقات معها؟
وهل يشمل الدول المسلمة التي لها أرضية العداء والحرب مع الدولة الإسلامية لجهة من
الجهات؟ - م -.
363

الثالث: في مراقبة نشاطات المخالفين (1) وأهل النفاق والجواسيس
والأحزاب السرية الداخلية المعاندة:
لا يخفى أن حفظ نظام المسلمين والدولة الحقة العادلة يتوقف على دفع
التحركات الداخلية المخالفة وتفريق الجموع المعادية.
ومن الواضح أن ذلك يتوقف على المراقبة الصحيحة لتحركات أهل الريب
والطابور الخامس وتجمعاتهم السرية بالاستخبارات الدقيقة. ويدل على وجوب
ذلك مضافا إلى ما مر، بعض ما ورد في خصوص المقام أيضا:
1 - قال الله - تبارك وتعالى - في شأن المنافقين: (هم العدو، فاحذرهم،
قاتلهم الله أنى يؤفكون) (2).
فالله - تعالى - أوجب الاحتراز عن المنافقين. وإطلاق الحذر والاحتراز
يقتضي مراقبتهم في نشاطاتهم وتجمعاتهم، بل هي من أظهر طرق الحذر
ومصاديقه، والمسلمون صاروا بأجمعهم إلا ما شذ عيونا للنبي (صلى الله عليه وآله) فترى زيد بن
أرقم لما سمع من عبد الله بن أبي المنافق قوله: (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن
الأعز منها الأذل " (3) مريدا بالأعز نفسه وبالأذل رسول الله (صلى الله عليه وآله) مشى إلى
الرسول (صلى الله عليه وآله) وأخبره " (4).

(1) كان الأولى أن يبين الأستاذ - دام ظله - مفهوم المخالف. والظاهر أن المراد بالمخالف الذي
يجب مراقبة نشاطاته هو الذي أظهر الخلاف والعداء للنظام الإسلامي والسيرة الإسلامية
ويقصد الصدمة بهما وحذفهما، يعني أنه يخالفه أصولا ويبتغي منهجا ونظاما آخر غير
إسلامي. ولا يراد كل من خالف أمرا جزئيا أو شخصا خاصا وإلا يجب مراقبة كل
الناس - م -.
(2) المنافقين 63: 4.
(3) المنافقين 63: 8.
(4) مجمع البيان: 5، 294.
364

2 - ولما فارق الخريت بن راشد الناجي وأصحابه، أمير المؤمنين (عليه السلام)
وتفرقوا في البلاد كتب أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى عماله في البلاد: "... أما بعد، فإن
رجالا لنا عندهم بيعة خرجوا هرابا فنظنهم وجهوا نحو بلاد البصرة فاسأل عنهم
أهل بلادك واجعل عليهم العيون في كل ناحية من أرضك، ثم اكتب إلي بما ينتهي
إليك عنهم، والسلام " (1).
الرابع: في مراقبة الأمة في حاجاتها وخلاتها وشكاياتها وما تتوقعه من
الحكومة المركزية وفي تعهداتها للحكومة وما تتوقعه الحكومة منها:
اعلم أن الغرض من تأسيس الدولة عندنا إصلاح أمر الأمة، والحافظ للدولة
والضامن لقدرتها على التنفيذ هو قوة الأمة ودفاعها، فلا محالة يتعين وجود
الارتباط التام بين الحكومة والأمة والتعرف على حاجات الطرفين وتوقعاتهما
بوسائط منصوبة أو منتخبة.
وقد كان يطلق في الأعصار الأول للإسلام على هذه الوسائط اسم النقباء
والعرفاء.
ففي الصحاح: النقيب: العريف وهو شاهد القوم وضمينهم، والجمع النقباء.
والعريف: النقيب، وهو دون الرئيس. والجمع العرفاء.
أقول: ظاهر كلمات أهل اللغة كونهما بمعنى واحد أو متقاربين. وقد كان
النقيب والعريف رابطا بين القبيلة أو العشيرة وبين الإمام أو الأمير يتعرف منه
حالاتهم، وكان المتعارف انتخابه من أفراد القبيلة لكونه أعرف بهم من غيره.
وقد أمضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكذا أمير المؤمنين (عليه السلام) في حكمهما وسياستهما
لأمور الأمة أمر النقابة والعرافة، كما سيظهر:
1 - ففي سيرة ابن هشام؛ " أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حينما بايعه أهل المدينة في

(1) الغارات: 1، 337.
365

العقبة الثانية قال لهم: " أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا ليكونوا على قومهم بما
فيهم. فأخرجوا منهم اثنى عشر نقيبا: تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس " (1).
2 - وعن الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) في حديث المناهي، قال: قال رسول
الله (صلى الله عليه وآله): " من تولى عرافة قوم أتي به يوم القيامة ويداه مغلولتان إلى عنقه، فإن قام
فيهم بأمر الله - عز وجل - أطلقه الله وإن كان ظالما هوى به في نار جهنم وبئس
المصير " (2).
3 - وعن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: " وأما قولك إن قومي كان لهم
عريف فهلك فأرادوا أن يعرفوني عليهم، فإن كنت تكره الجنة وتبغضها فتعرف
عليهم، يأخذ سلطان جائر بامرئ مسلم فيسفك دمه فتشترك في دمه ولعلك لا
تنال من دنياهم شيئا " (3).
أقول: وفي الحديث دلالة على أن ما في بعض الروايات من ذم العرافة كان
من جهة أن الغالب فيها كان هو العرافة من قبل حكام الجور، فكان العريف يعرفهم
أهل الصدق والإيمان فيسفكون دماءهم. فوزان هذه الروايات وزان ما ورد في
ذم الإمارة، وإلا فالاجتماع لا يتم بلا أمير وعريف. بل يجب التصدي لهما إن لم
يقم بهما الغير كما هو واضح.
وكيف كان فعلى إمام الأمة ورئيسها أن يشرف عليها ويعرف حالات
الناس واحتياجاتهم وتوقعاتهم من الحكومة ليسعى في تنظيم أمورهم ورفع
حاجاتهم وتوقعاتهم إلى الإمام، ويكون في هذا الأمر ضمانة لبقاء الملك وانتظام
الأمور، ولولا ذلك لخيف الفشل وسقوط الملك.

(1) سيرة ابن هشام: 2، 85.
(2) الوسائل: 12، 136.
(3) الوسائل: 11، 280.
366

ويجب أن يكون المنصوب لهذا الشأن عاقلا ذكيا فطنا ثقة عدلا صدوقا ذا
صرامة وصراحة لا يمنعه أبهة الإمام من بيان جميع ما عاينه وشاهده، وأن يكون
معاشرا للناس حاضرا في أسواقهم ومجامعهم بحيث يطلع على أهوائهم
وأفكارهم وتوقعاتهم، وأن يكون عمدة همه الدفاع عن الناس ولا سيما الضعفاء
والمحرومين منهم فيرفع حاجاتهم وتوقعاتهم إلى الإمام ويصر في إنجاح طلباتهم
بقدر الإمكان لا أن يفكر فقط في فرض سياسة الدولة وآرائها كيف ما كانت
عليهم، وفي ترضية خاطر السلطان والأمراء والعمال فقط.
الرابعة - في أمور أخر في الاستخبارات ينبغي التنبيه عليها:
الأول: قد مر أن عمل المراقبة والتجسس عمل خطير له مساس تام بحريم
الناس وحرياتهم المشروعة فلا يجوز أن يستخدم لهذا العمل إلا من يكون عاقلا،
ذكيا، ثقة، ملتزما بالشرع، عالما بما يجب ويحرم، رؤوفا بالناس، حافظا
لأسرارهم، لا يحقر الناس ولا يريد تذليلهم ولا سيما بالنسبة إلى ذوي الهيئات
والسوابق الحسنة في المجتمع، ولا يكون فيه حقد أو حسد بالنسبة إلى أحد.
الثاني: لا يخفى أن سنخ المراقبة للأعداء من الكفار وأهل النفاق المعاندين
للإسلام والدولة الإسلامية يختلف عن سنخ المراقبة للعمال وللأمة، حيث إن
الشعبتين الأوليين تلازمان بحسب العادة نوعا من الغلظة، فلا تناسب هذه الحالة
لمراقبة الأمة وكذا العمال البرءاء غالبا، إذ المراقبة لهما تقتضي رعاية الرحمة
غالبا، واجتماع الخصلتين المتضادتين في شخص واحد نادر جدا، فلأجل ذلك
يترجح بل يتعين تفكيك الشعب ولا يفوض الجميع إلى شخص واحد.
الثالث: قد عرفت أن الذي يجوز بل يجب مؤكدا التجسس عليه تحركات
الناس ضد الإسلام والنظام والمصالح العامة.
وحيث إن الأمر في كثير من الموارد يشتبه على الموظفين وربما يدور
367

الأمر بين الواجب المهم والحرام المؤكد، فلا محالة يتعين:
أولا: تعيين الخط الفاصل بين ما يجوز وما لا يجوز بتشريع حدود وقوانين
يبين فيها بالتفصيل الموارد التي يجوز فيها مراقبة الناس والقبض عليهم والتحقيق
منهم، وكيفية معاملتهم في التحقيقات، ويبين كيفية ارتباط المستخبرين بجهاز
القضاء وغيره من أجهزة الحكومة، ويميز وظيفة كل منها. ولا يجوز أن يفوض
الأمر بنحو الإطلاق إلى الموظف في الاستخبارات بحيث يصنع كل ما شاء وأراد
كما هو الرائج في الحكومات الاستبدادية.
وثانيا: إعمال الدقة والتعمق في انتخاب الموظفين كما مر.
وثالثا: مراقبتهم حينا بعد حين بعيون بصيرة نافذة تراقبهم في أعمالهم
وعشرتهم، ثم مجازاة المتخلفين منهم بأشد المجازاة.
ولو فرض انحراف هذه المؤسسة الخطيرة الدقيقة عن برامجها وأهدافها
ولو بنقطة صارت في المآل فاجعة على الدولة والأمة معا.
الرابع: ربما يتوهم أن للمستخبر أن يتصدى في طريق استخباراته للكذب،
بل ولسائر المحرمات الشرعية من شرب الخمر وأكل لحم الخنزير وترك الصلاة
والصيام ومصافحة الأجنبية بل والروابط الجنسية المحرمة ونحو ذلك مطلقا كما
هو المتعارف بين جواسيس بلاد الكفر وقد يعبرون عن ذلك بأن الهدف يبرر
الوسيلة.
أقول: هذا بكليته ممنوع جدا، إذ الحكومة بنفسها ليست عندنا هدفا بل
الهدف ليس إلا تثبيت الأحكام الشرعية في المجتمع، ولا تشرع الحكومة
والاستخبارات إلا ما دامت واقعة في طريق ذلك. ويجب أن يفدى الجميع في هذا
الطريق. نعم (1) ربما يتوقف حفظ النظام أو المصالح العامة أو تثبيت واجب مهم

(1) لم يبحث في كلمات الأصحاب الموازين المرجحة عند التزاحم في نطاق الحكومة
والسياسة، نعم قد يقال إن مصلحة النظام أو المصالح العامة من أهم الأمور وعند التزاحم
تقدم على غيرها، ولكنه لا يعلم المراد من مصلحة النظام أو المصالح العامة، فهل تنفك تلك
المصالح عن مصالح تحقق وإجراء الأحكام الشرعية وقيمها؟
وهل تنفك مصالح النظام السياسي الشرعي عن المصالح العامة؟
وفي فرض التفكيك في كلا الموردين أيهما يقدم على الآخر؟
وهل الملاك تشخيص كل فرد أو موظف في نطاق مسؤوليته أو تشخيص الحاكم؟
والظاهر أن إحالة الأمر إلى تشخيص كل فرد أو موظف في الحكومة يستلزم غالبا الهرج
والمرج وتضييع الحقوق المحترمة التي لحفظها أسست قاعدة التزاحم ومرجحاته.
وإما الحكومة وإن كانت صالحة ولكنها تقدم غالبا مصالح نفسها على غيرها عند
التزاحم. فالأولى إحالة الأمر إلى مجلس النواب المستقل فإنه يتشكل من نواب الشعب
ولهم حق النظر في مصالح الشعب. فيلزم أن يحصوا ولو في الجملة موارد التزاحم وموارد
الأهم منها وفقا للعقل والشرع ويجعلوها قانونا لعمل الحكومة في كل المجالات - م -.
368

على ارتكاب محرم ليس بهذه الأهمية كالكذب والتورية مثلا لحفظ النبي (صلى الله عليه وآله) أو
نظام العدل مثلا، فيجري هنا موازين باب التزاحم، فالواجب رعاية مرجحات
هذا الباب التي تختلف بحسب اختلاف الأحكام والأشخاص والأصقاع
والأزمنة. فالقول بتبرير الهدف للوسيلة مطلقا باطل جدا بحكم العقل والشرع. فلا
يشتبه الأمر على الموظفين في الاستخبارات بما رأوه أو سمعوه من أعمال
الجواسيس في بلاد الكفر حيث يستحلون كل جناية وجريمة في طريق عملهم (1).
وهل يجوز الانتحار عمدا لأجل التخلص من العدو، كما إذا تيقن بأنه يعذب
عذابا لا طاقة له به فيعترف بما يضر المسلمين؟

(1) قد مر آنفا أن الموظف في الاستخبارات كغيره ما لم تتعين حدود الموضوعات المشار إليها
في المتن، في القانون يعمل على وفق تشخيصه ونظره فيها، فكثيرا ما يوجد الاختلاف في
تشخيص مصاديق الموضوعات المذكورة بين الموظفين في الاستخبارات. فيمكن أن يكون
عمل واجبا أهم بنظر موظف محرما أهم بنظر موظف آخر وبالعكس فيختل نظام التحقيق
الشرعي - م -.
369

في المسألة وجهان: والظاهر أن الواجب رعاية موازين التزاحم، ولكن
تشخيص المهم والأهم يحتاج إلى اطلاع وسيع على أحكام الشرع وليس هذا
شأن كل أحد.
الخامس: قد مر منا في الجهة التاسعة من فصل التعزيرات بحث في تعزير
المتهم للكشف والاعتراف، فراجع.
السادس: لا يتوقف اتخاذ الشخص عينا ومراقبا على كونه فارغا لا شغل له،
بل الملاك كونه أهلا لذلك، فيمكن أن يستفاد لهذه المسؤولية من كل موظف أو
شاغل، وإن كان الأحوط والأولى أن يستفاد من بعض المتطوعين في شتى
المشاغل وأصناف الناس.
السابع: هل يرتبط جهاز الاستخبارات بالسلطة التنفيذية ويكون جزءا
منها، أو بالسلطة القضائية، أو بالإمام مباشرة؟ في المسألة وجوه.
والأنسب الأولى هو اختيار الثالث، لأن الإمام هو الأصل في الحكومة
الإسلامية وهو الحاكم والمسؤول حقيقة، ومسؤولية البقية من فروع مسؤوليته
فيكون هو إلى الاستخبارات أحوج، فالأنسب أن تكون الاستخبارات مرتبطة به
مباشرة وهو يأمر جهاز الاستخبار بالتفاهم مع سائر الأجهزة (1).

(1) هذا مبنى على مشروع تمركز السلطات في شخص الإمام، وأما بناءا على تفكيك
السلطات وتوزيعها كما هو مختار الأستاذ - دام ظله - أخيرا فلا وجه لما ذكر في المتن لأنه
بناءا على التفكيك كل واحد من مسؤولي السلطات الذي ينتخب من ناحية الشعب هو
المسؤول عند الله وفي وجه الشعب. وعلى هذا فالأنسب أن يكون جهاز الأمن تحت اختيار
من تكون إدارة المجتمع على عاتقه في السلطة الإجرائية. وليعلم أن اللازم على مجلس
النواب أن يعين الوظائف والاختيارات لجهاز الأمن في مسير أهدافه بنحو لا يمكن لأحد
فيه التعدي منها كما أشار إليه الأستاذ في الأمر الثالث من الجهة الرابعة.
واللازم أيضا - إذا اشتكى أحد من جهاز الأمن كلا أو جزءا - أن يمكن البحث والفحص
للسلطة القضائية ومجازاة المتخلف عن الحدود، وهذا الأمر إنما يمكن عملا إذا كانت
السلطات مستقلة إذ في صورة تمركزها في الإمام أو الشورى، كان احتمال إعمال النفوذ في
سلطة القضاء من ناحية الحاكم أو حواشيه موجودا دائما - م -.
370

الثامن: في عمدة ما أوجب الفساد في أجهزة الأمن:
1 - فساد نفس الحاكم، حيث يعتمد في حكمه على إرادة القوى الأجنبية
الكافرة، لا على إرادة الشعب المسلم واختياره طبقا للضوابط الإسلامية. فيكون
مصدرا للفساد وتضييع الحقوق وتضعيف الإسلام والمسلمين وتقوية خطط الكفر،
وينعكس ذلك في جميع أجهزة حكمه ولا سيما جهاز أمنه واستخباراته، يأخذون
الناس بالتهمة والظنة ويعذبونهم بأنواع العذاب يهتكون حرمات المسلمين
ويقتلون النفوس المحترمة، يوجد كل ذلك على أساس خطط الكفر والضلال وأن
تسموا باسم الإسلام.
2 - إن أجهزة الأمن والاستخبارات الموجودة فعلا في البلاد الإسلامية
مقلدة لأجهزة استخبارات الأجانب في ثقافتها وتشكيلاتها وأعمالها. ولما كان
الجو الحاكم عند هؤلاء هو معاداة الشعوب والمستضعفين واستخدام أجهزتهم
لخنق أصواتها سرى ذلك إلى المقلدين لهم.
3 - إن الموظفين في جهاز الأمن والاستخبارات في أكثر البلاد ينتخبون
غالبا من بين الأشخاص الفاسدين المفسدين البعيدين عن موازين الشرع
والأخلاق، فيصير الجو الحاكم على الاستخبارات هو الفساد والغدر والكذب
والإرهاب والتعذيب وغيرها من الأخلاق والأعمال الفاسدة.
4 - إن هدف أجهزة الأمن والاستخبارات في البلاد ومحور عملها هو حفظ
الحكام وتحكيم سلطتهم كيف ما كان، فكل الأمور توزن عندهم بهذا الميزان فقط،
371

ولا عبرة عندهم بغير ذلك من الموازين الشرعية والأخلاقية وهذا عين الفساد،
نعم في النظام الإسلامي كان حفظ حريم الإمام (1) في إطار حفظ الإسلام أيضا
مطلوبا.

(1) الظاهر أنه ليس مراد الأستاذ - دام عزه - من حفظ حريم الإمام جعله من المقدسات التي
لا يجوز القرب منها كما قد يتوهم، بل هو كغيره من المسؤولين فتجب الرقابة على أعماله
وأقواله وتدابيره ونقدها ونصحه وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، لشمول أدلة هذه الأمور
له أيضا.
فإن انسداد باب النقد والنصيحة بالنسبة إلى القائد يجره إلى أن يتوهم أنه ليس بخاطئ
إطلاقا، فيقول ويعمل بالاستبداد ويذهب بالدين إلى التغيير وبالأمة إلى المفاسد وبالملك
إلى الزوال - م -.
372

الفصل التاسع
في ثبوت الهلال بحكم الوالي
هل يثبت الهلال بحكم الحاكم الشرعي غير المعصوم مطلقا، أو لا يثبت، أو
يفصل بين ما إذا ثبت له بشاهدين وبين ما إذا ثبت له برؤيته أو بعلمه وعلى فرض
الثبوت فهل يقتصر فيه على الوالي الأعظم أو يكفي الفقيه المنصوب من قبله لعمل
أو قضاء، أو يكفي أي فقيه وإن لم يكن متصديا لعمل أو قضاء؟
واستدل القائل بعدم الحجية كما في المستند (1) بالأصل، وبالأخبار الكثيرة
الظاهرة في حصر الصوم والفطر على الرؤية أو الشاهدين أو مضى ثلاثين،
وبالأخبار الناهية عن اتباع الشك والظن في أمر الهلال، ومعلوم أن حكم الحاكم
لا يفيد أزيد من الظن.
ويرد على ما ذكر أن الأصل لا يقاوم الدليل إن ثبت. وظهور الأخبار في
الحصر ممنوع، إذ مفهومها من قبيل مفهوم اللقب. ومع قيام الدليل على اعتبار
الحكم صارت حجيته قطعية كسائر الأمارات المعتبرة، فلا يشمله ما دل على
النهي عن اتباع الظن.
ويستدل للحجية أولا: بأن أمر الهلال المتوقف عليه صوم المسلمين
وعيدهم وحجهم ونحو ذلك يكون من الأمور المهمة العامة للمسلمين، والمرجع

(1) مستند الشيعة: 2، 132.
373

فيها هو الإمام، كما يشهد بذلك السيرة المستمرة الباقية من زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
وأمير المؤمنين (عليه السلام) إلى أعصارنا. والمراد بالإمام هنا الحاكم العادل وإن لم يكن
معصوما كما يقتضيه إطلاق اللفظ، وإن كانت الأئمة الاثنا عشر مع ظهورهم أحق
بهذا المنصب الشريف عندنا.
وقد عرفت بالتفصيل أن الإمامة وشؤونها داخلة في نسج الإسلام ونظامه
وأنها لا تتعطل في عصر من الأعصار.
وثانيا: بأنه قد تصدى لأمر الهلال وتعيين تكليف المسلمين النبي (صلى الله عليه وآله) في
عصره بما أنه كان حاكما عليهم وكذلك أمير المؤمنين وجميع الخلفاء:
فعن ابن عباس، قال: " جاء أعرابي إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: إني رأيت الهلال
- قال الحسن في حديثه: يعني رمضان - فقال (صلى الله عليه وآله): أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال:
نعم. قال: أتشهد أن محمدا رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قال: نعم. قال (صلى الله عليه وآله): يا بلال، أذن في
الناس فليصوموا غدا " (1).
وعن عبد الله بن سنان، عن رجل، قال: " صام علي (عليه السلام) بالكوفة ثمانية
وعشرين يوما شهر رمضان فرأوا الهلال فأمر مناديا ينادي اقضوا يوما فإن الشهر
تسعة وعشرون يوما " (2).
وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " إذا شهد عند الإمام شاهدان أنهما رأيا الهلال منذ
ثلاثين يوما أمر الإمام بإفطار ذلك اليوم " (3). وغير ذلك من الأخبار.
ودلالة هذه الأخبار الكثيرة على أن أمر الهلال كان بيد الحاكم الإسلامي
واضحة. والناس كانوا متابعين له في الصوم والفطر والحج، فكان للناس رمضان

(1) سنن أبي داود: 1، 547.
(2) الوسائل: 7، 214.
(3) الوسائل: 7، 199.
374

واحد وعيد واحد وموقف واحد وكان نظامها بيد الحاكم دفعا للاختلاف والهرج
والمرج.
وثالثا: بأن السيرة المستمرة أيضا شاهدة على ذلك فكان الحاكم في جميع
الأعصار مرجعا للناس في صومهم وفطرهم، وكان أمير الحاج المنصوب من قبل
الإمام يأمر بالوقوف والإفاضة، والناس يتبعونه.
وكان أئمتنا المعصومون (عليهم السلام) وأصحابهم أيضا في مدة أكثر من مائتي سنة
يحجون في جماعة الناس، ولم يعهد ولم ينقل تخلفهم عن الناس في الوقوف
والإفاضة والنحر وسائر الأعمال، ولو كان لبان ونقله المؤرخون والأصحاب.
وبذلك يظهر اجتزاء العمل بحكم الحاكم من أهل الخلاف أيضا ولا أقل في
صورة عدم العلم بالخلاف (1).

(1) هنا نكات ينبغي الإشارة إليها:
أمر الهلال وإن كان من شؤون الحكومة ولكن هل يكون الحكم بثبوته حجة تعبدية كما
في البينة على المشهور، أو يكون حجة عقلائية؟
لو كان مراد الأستاذ - دام ظله - الأول، فما استدل به لا يثبت مراده إذ ليس في سيرة
العقلاء والمسلمين التعبد بشيء كما صرح به الأستاذ في بحث التقليد. وهكذا الأمر في
الأخبار المذكورة في المتن فإنها لا تدل على التعبد بالحكم.
مضافا إلى أن الحجية التعبدية مبنى على نظرية النصب، وقد ناقش في ذلك الأستاذ في
محله، وأما على نظرية النخب فيحصل غالبا للناس الاطمئنان وسكون النفس بحكم
الحكومة المقبولة عندهم.
2 - البحث عن ثبوت الهلال بحكم الحاكم أيضا كغيره من أبحاث الكتاب طرح على
أساس تمركز القوى والمسؤوليات في شخص الفقيه الحاكم، وأما بناء على نظرية النخب إذا
بايع الناس حاكما أو حكومة فمعناه قبول الأحكام الحكومية الصادرة منهما في مواقع
وموارد يحق لهما الحكم. وعلى هذا فلا خصوصية للبحث عن ثبوت الهلال بالحكم بل كل
حكم حكومي كذلك كالحكم بالجهاد أو بحظر استيراد بعض البضائع أو اصداره أو الحكم
بحظر التجول أو نصب الأشخاص لمناصب وغير ذلك.
وحيث أن في النظام الجمهوري غير المتمركز عينت وظائف السلطات الثلاث
واختياراتها في القانون فالأحكام الحكومية حسب الموارد يصدر من قبلها.
3 - السؤال الأساسي هنا هو: هل يحق لفرد أو فئة - إن رأى خطأ من ناحية الحكومة أو
الحاكم مع أنه قد أعطى صوته المثبت لهما - أن لا يتبعهما أو يخالفهما قولا، أو يدعو على
خلافهما بالبيان والقلم؟
الظاهر عدم وجوب المتابعة لقوله تعالى: (لا تقف ما ليس لك به علم) ولأن الحكم
الحكومي طريق إلى الواقع فمع العلم بخلافه فلا دليل على وجوب متابعته.
وأما المخالفة، أو الدعاية على خلاف من أصدر حكما بالبيان والقلم، فهو يجوز إلا فيما
إذا انجر إلى اختلال النظام الاجتماعي.
نعم، قد يجوز بل يجب المخالفة حتى فيما إذا انجر إلى الاختلال إذا كان الحاكم جائرا
في حكمه وكان الأمر من الأمور المهمة الأساسية.
ولكن في هذه الحالة تجب رعاية الحقوق الواجبة رعايتها. (راجع المسألة السادسة
عشرة).
والدليل على جواز المخالفة هو:
1 - قد يؤثر الخطأ في الحكم الحكومي على مصير الأمة ويحرفها عن مسيرها
ويفسدها، ففي مثله لا يجوز السكوت ومشاهدة انحراف المجتمع الإسلامي، فإن الساكت
شريك لهذه الجريمة.
2 - كيف يمكن أن يعلم الخاطئ بخطأه إن قلنا بوجوب السكوت والمتابعة؟
3 - إن الأئمة (عليهم السلام) كثيرا ما خالفوا الخلفاء بنحو تقتضيه الشرائط لعلمهم بأنهم أخطأوا في
أحكامهم السلطانية.
4 - الآيات والروايات الدالة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الشاملة بعمومها
لما نحن فيه.
5 - كثير من الروايات التي حث على نصح الإمام، فعند العلم بخطأه يجب نصحه وإن
استلزم الإعلان بخطأه - م -.
375

فروع:
الأول: لا يخفى أن الدليل على حجية حكم الحاكم في باب الهلال إن كان
376

هو الأخبار الخاصة التي مرت فالموضوع فيها هو الإمام، والظاهر منه هو
المتصدي فعلا لزعامة المسلمين. فشمول الحكم لعماله في البلاد وللقضاة
المنصوبين من قبله محل إشكال.
وأشكل من ذلك الفقيه المنعزل عنهما فعلا وإن صلح لهما.
ولكن يمكن أن يقال: إن بناء الشرع كان على توحيد كلمة المسلمين في
أمر الهلال وصومهم وعيدهم ومواقف حجهم فلا محالة يجب أن يتصدى لذلك في
كل بلد من ينوب عنه من العمال والقضاة كما هو المتعارف في أعصارنا. ولا سيما
إذا قلنا بأنه مع اختلاف الآفاق يكون لكل بلد حكم نفسه كما هو المشهور
والأقوى في المسألة.
والمناسب في باب الحج تصدي أمير الحجاج له وإن لم يكن نفس الإمام،
فيجوز بل يجب تصديهما له ولا سيما إذا فوض الإمام إليهما ذلك بالصراحة.
الثاني: الحكم عبارة عن إنشاء الإلزام بشيء أو ثبوت أمر، فيكفي فيه قوله:
" اليوم من رمضان أو من شوال، أو يجب عليكم صوم اليوم أو الفطر فيه " ونحو
ذلك مما هو حكم واقعا وبالحمل الشائع.
الثالث: حكم الحاكم في الهلال وفي سائر الموضوعات على القول به
طريق شرعي إلى الواقع فلا مجال له مع العلم بالواقع سواء أصابه أم أخطأه.
وكذلك لا مجال للعمل به إذا علم بتقصير الحاكم في مقدمات حكمه،
لسقوطه بالتقصير عن أهلية الحكم ولقول الصادق (عليه السلام) في المقبولة: " فإذا حكم
بحكمنا ". إذ المراد به كون حكمه على أساس حكمهم بأن يستند إلى الكتاب
والسنة الصحيحة في قبال من يستند إلى الأقيسة والاستحسانات الظنية فلا
يصدق ذلك على من قصر في مبادئ حكمه، بل من غفل عنها ولو عن قصور (1).

(1) يرد على الاستدلال بالمقبولة هنا، أولا: أن الأستاذ - دام ظله - ناقش سابقا في دلالتها على
ثبوت الولاية للفقيه، وقد أصر على دلالتها على ثبوت الولاية له في باب القضاء.
ثانيا: يظهر منها أن المراد بالحكم " بحكمهم " (عليهم السلام) الأحكام المعينة في كلماتهم (عليهم السلام) لا
الأحكام الصادرة من الحكومة في الموضوعات المتغيرة التي لم يبين حكمها في
كلماتهم (عليهم السلام) بالخصوص - م -.
377

الرابع: حكم المجتهد في الهلال ونحوه على فرض حجيته لا ينحصر في
حق مقلديه بل يعم المجتهدين أيضا إذا أذعنوا باجتهاده وجامعيته لشرائط الحكم
وعدم تقصيره في مباديه. وكذلك حكمه في المرافعات ولو كانت الشبهة حكمية
مختلفا فيها بين الفقهاء كما إذا اختلفا في منجزات المريض مثلا وأنها من الأصل
أو من الثلث فترافعا إليه فحكم بالأصل مثلا فيكون حكمه نافذا حتى في حق من
يرى أنها من الثلث، إذ حسم النزاع يقتضي وجوب الأخذ بحكم الحاكم
للمترافعين وإن خالف نظر أحدهما اجتهادا أو تقليدا.
378

الفصل العاشر
في الاحتكار والتسعير
لما صارت مسألة احتكار الأمتعة والسلع الضرورية وتسعيرها من أهم
مشاكل العصر بحيث ربما توشك الحكومة بسببها على التزلزل والسقوط، كان من
المناسب التعرض لها من جهة أن للحكومة منع الاحتكار أو تسعير الأمتعة أم لا؟
وفيه جهات من البحث:
الاحتكار
الأولى - الاحتكار والحصار التجاري مشكلة حضارة العصر:
لا يخفى أن عملية الاحتكار للسلع والأمتعة مما يعود تاريخها إلى أولى
أعصار حياة الإنسان الاجتماعية، وكلما اتسعت مجالات التبادل التجاري
وتكاملت فنونها كثرت الحكرة والحصارات الاقتصادية وسرت إلى جميع ما
يحتاج إليه الإنسان في نفقاته وصناعاته وإنتاجاته، فعمت شرورها وكثرت
أضرارها وصارت أكبر وسيلة استعمارية تستخدمها الدول الكبرى المستكبرة
ضد الدول والأمم المستضعفة، للضغط عليها والتسلط على سياستها وثقافتها
وثرواتها.
379

فيفرض على الرجال العقلاء الملتزمين من العالم الثالث أن يفكروا في حل
هذه المشكلة التي بليت بها دولهم وأممهم.
ونقول إجمالا: إن الوسيلة الوحيدة لذلك هي التمسك بالإسلام وشرائعه،
وتوحيد الكلمة تحت لوائه.
الثانية - مفهوم الاحتكار في اللغة وفي كلمات الفقهاء:
ففي لسان العرب: " الحكر: ادخار الطعام للتربص. وصاحبه محتكر. ابن
سيدة: الاحتكار: جمع الطعام ونحوه مما يؤكل واحتباسه انتظار وقت الغلاء به...
والحكر والحكرة: الاسم منه... وحكره يحكره حكرا: ظلمه وتنقصه وأساء
معاشرته. قال الأزهري: الحكر: الظلم والتنقص وسوء العشرة. ويقال: فلان يحكر
فلانا: إذا أدخل عليه مشقة ومضرة في معاشرته ومعايشته... والحكر:
اللجاجة " (1).
فهو بحسب المفهوم اللغوي عام لكل ما يحتاج إليه الناس ويكون منعهم منه
موجبا للظلم والتنقص، فلا يختص بالطعام.
والمذكور في كلمات الفقهاء غالبا هو الطعام، أو الأقوات، أو أشياء خاصة،
إليك بعضها:
ففي المقنعة: " والحكرة: احتباس الأطعمة مع حاجة أهل البلد إليها وضيق
الأمر عليهم فيها... " (2).
وفي النهاية: " الاحتكار: هو حبس الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن
من البيع " (3).

(1) لسان العرب: 4، 208.
(2) المقنعة: 96.
(3) النهاية: 374.
380

وفي المختصر النافع: " والاحتكار وهو حبس الأقوات... " (1).
ولكن الظاهر أن الفقهاء لم يكونوا بصدد تعريف اللفظ بحسب وضعه
ومفهومه، بل بصدد تعريف ما ثبت عندهم حرمته أو كراهته بالروايات الواردة.
والحاصل: أن اللفظ بحسب المفهوم عام وإن فرض كون المحرم منه بحسب
الأدلة أشياء خاصة أعني الغلات الأربع والسمن والزيت.
الثالثة - هل الاحتكار محرم أو مكروه؟
اختلف علماؤنا في الاحتكار هل هو محرم أو مكروه؟ قال بعضهم: إنه
حرام:
ففي مقنع الصدوق: " ولا بأس أن يشتري الرجل طعاما فلا يبيعه، يلتمس به
الفضل إذا كان بالمصر طعام غيره. وإذا لم يكن بالمصر طعام غيره، فليس له
إمساكه وعليه بيعه وهو محتكر " (2).
وفي بيع الكافي لأبي الصلاح:
" ولا يحل لأحد أن يحتكر شيئا من أقوات الناس مع الحاجة الظاهرة
إليها " (3). وغير ذلك من كلماتهم.
وقال بعضهم: إنه مكروه:
ففي المقنعة: " والحكرة احتباس الأطعمة مع حاجة أهل البلد إليها وضيق
الأمر عليهم فيها، وذلك مكروه " (4).
وفي المبسوط: " وأما الاحتكار فمكروه في الأقوات إذا أضر ذلك

(1) المختصر النافع: 120.
(2) الجوامع الفقهية: 31.
(3) الكافي: 360.
(4) المقنعة: 96.
381

بالمسلمين ولا يكون موجودا إلا عند إنسان بعينه " (1).
وبالجملة: فالظاهر أن محط القولين للأصحاب كان صورة الحاجة والشدة.
الرابعة - أخبار الاحتكار:
الأخبار الواردة في الاحتكار على خمس طوائف:
الطائفة الأولى - ما دلت على المنع مطلقا:
فعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) " الجالب مرزوق والمحتكر
ملعون " (2).
وعنه (صلى الله عليه وآله) عن جبرئيل، قال: " اطلعت في النار فرأيت واديا في جهنم يغلي،
فقلت: يا مالك لمن هذا؟ فقال: لثلاثة؛ المحتكرين، والمدمنين الخمر،
والقوادين " (3).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه كتب إلى رفاعة: " إنه عن الحكرة، فمن ركب
النهى فأوجعه ثم عاقبه بإظهار ما احتكر " (4).
وعنه أيضا: " الاحتكار داعية الحرمان " (5).
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): " من احتكر فهو خاطئ " (6).
وعن علي (عليه السلام): " نهى عن الحكرة في البلد " (7) إلى غير ذلك من الروايات.
وظهور هذه الروايات في حرمة الاحتكار واضح، بل بعضها يدل على التشديد

(1) المبسوط: 2، 195.
(2) الوسائل: 12، 313.
(3) الوسائل: 12، 314.
(4) دعائم الإسلام: 2، 36.
(5) الغرر والدرر: 1، 66.
(6) صحيح مسلم: 3، 1227.
(7) كنز العمال: 4، 98.
382

فيها.
الطائفة الثانية - ما دلت على المنع مطلقا في خصوص الطعام:
فعن أبي عبد الله عن أبيه (عليهما السلام) قال: " لا يحتكر الطعام إلا خاطئ " (1).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " لا يحتكر الطعام إلا خاطئ " (2).
وعنه (صلى الله عليه وآله) أيضا: " من احتكر على المسلمين طعاما ضربه الله بالجذام
والإفلاس " (3). وظهور هذه الأخبار في الحرمة أيضا واضح.
ويحتمل قويا أنه يراد بالطعام مطلق ما يطعم من الأقوات والأغذية، فيعم
جميع الغلات الأربع وغيرها من الأرز والذرة ونحوهما. كما فسر الطعام المذكور
في قوله تعالى: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) (4) في اخبارنا بالحبوب
والبقول وبالعدس والحمص وغير ذلك، فراجع الوسائل (5).
الطائفة الثالثة - ما دلت على المنع بعد الثلاثة أو بعد الأربعين يوما:
فعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " الحكرة في الخصب أربعون يوما، وفي الشدة
والبلاء ثلاثة أيام، فما زاد على الأربعين يوما في الخصب فصاحبه ملعون، وما
زاد على ثلاثة أيام في العسرة فصاحبه ملعون " (6).
أقول: يشكل الالتزام بموضوعية الأربعين والثلاثة شرعا ولو بنحو الإمارة
الشرعية المجعولة، بل الظاهر أن التحديد بهما كان بلحاظ الأعم الأغلب. فإن

(1) الوسائل: 12، 315.
(2) الوسائل: 12، 314.
(3) مستدرك الوسائل: 2، 468.
(4) المائدة 5: 5.
(5) الوسائل: 16، 380 - 382.
(6) الوسائل: 12، 312.
383

الإنسان ولو في الشدة يتمكن غالبا من تهيئة القوت لثلاثة أيام، فلا يصدق
الاحتكار المضر إلا بعد هذه المدة. كما أنه لو تحقق حبس الأقوات أربعين يوما
فلا محالة يتحقق الضيق والغلاء للأكثر ولو في حال الخصب. فالملاك في
الاحتكار المحرم هو وقوع الناس بسببه في الضيق والشدة.
وعن موسى بن جعفر (عليهما السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله) وفيه: " وأما الحناط فإنه يحتكر
الطعام على أمتي. ولأن يلقى الله العبد سارقا أحب إلي من أن يلقاه قد احتكر
الطعام أربعين يوما " (1).
وظهور هذه الأخبار في الحرمة أيضا واضح.
الطائفة الرابعة - ما دلت على التفصيل بين وجود الطعام في البلد وعدمه؛
فمنها:
1 - صحيحة سالم الحناط، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): ما عملك؟ قلت:
حناط، وربما قدمت على نفاق، وربما قدمت على كساد فحبست. قال: فما يقول
من قبلك فيه؟ قلت: يقولون: محتكر. فقال (عليه السلام): يبيعه أحد غيرك؟ قلت: ما أبيع أنا
من ألف جزء جزءا. قال: لا بأس، إنما كان ذلك رجل من قريش يقال له: حكيم بن
حزام، وكان إذا دخل الطعام المدينة اشتراه كله، فمر عليه النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: " يا
حكيم بن حزام، إياك أن تحتكر " (2). وقوله (صلى الله عليه وآله): " إياك أن تحتكر " ظاهر في
التحذير بوجه شديد، فيلازم الحرمة.
ووجود هذا التعبير في المكروهات الشديدة لا يجوز رفع اليد عن ظاهره
ما لم يثبت الترخيص.

(1) الوسائل: 12، 98.
(2) الوسائل: 12، 316.
384

ويظهر من هذه الصحيحة أن الاحتكار المضر المنهي عنه هو الذي يصدر
من قبل الأفراد أو الشركات التجارية التي تقدم على الحصار الاقتصادي بحيث
يستقر جميع المتاع في قبضتهم ويعاملون معه كيف ما شاؤوا كما هو المعمول في
عصرنا في الدول الكبرى الرأسمالية. وأما بائع الجزء الذي لا يوجب حبسه تأثيرا
عميقا في السوق بحيث يستعقب فقد المتاع فلا يكون محتكرا.
2 - عن حذيفة بن منصور، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " نفد الطعام على عهد
رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأتاه المسلمون فقالوا: يا رسول الله، قد نفد الطعام ولم يبق منه شئ
إلا عند فلان، فمره ببيعه. قال: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا فلان، إن المسلمين
ذكروا أن الطعام قد نفد إلا شئ عندك فأخرجه وبعه كيف شئت ولا تحبسه " (1).
أقول: فظاهر الأمر الوجوب - إما حكما إلهيا أو ولائيا - وعلى الاحتمال
الثاني لا يختص حكمه (صلى الله عليه وآله) بزمانه لأنه (صلى الله عليه وآله) ولي المؤمنين وأولى بهم إلى يوم
القيامة (2). ومقتضى وجوب البيع حرمة الحبس والاحتكار.
3 - بسند صحيح عن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سألته عن الرجل
يحتكر الطعام ويتربص به، هل يصلح ذلك؟ قال: " إن كان الطعام كثيرا يسع الناس
فلا بأس به. وإن كان الطعام قليلا لا يسع الناس فإنه يكره أن يحتكر الطعام ويترك

(1) الوسائل 12، 316.
(2) لقائل أن يقول: يمكن أن يكون الحكم الصادر عن النبي (صلى الله عليه وآله) بما أنه ولي المؤمنين حكما
إلهيا دائميا ولكن إذا كان الحكم الصادر عنه (صلى الله عليه وآله) ولائيا يختص بزمانه إذ لا معنى لحكومته
في غير زمانه. ولا شك أن لكل زمان حاكما شرعيا - منصوبا أو منتخبا - فلو كان النبي (صلى الله عليه وآله)
بعد وفاته حاكما أيضا بالمعنى المصطلح يلزم أن يكون في زمان كل من الأئمة حاكمان
وإمامان. وهذا باطل بالعقل والنقل. نعم سنة النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) المبينة للأحكام الإلهية
الدائمية حجة في جميع الأزمنة إلى يوم القيامة فلا يختص بزمان حياتهم (عليهم السلام) - م -.
385

الناس ليس لهم طعام " (1).
ولفظ الكراهة أعم من الحرمة والكراهة المصطلحة عند الفقهاء.
وحيث إنه (عليه السلام) نفى البأس في الجملة الأولى، والجملة الثانية تكون بيانا
لمفهوم الأولى، صار قوله: " فإنه يكره " بمنزلة أن يقول: " فيه بأس " وظاهره
الحرمة أيضا.
وبهذه الطائفة من الأخبار المصرحة بالتفصيل، تفسر الأخبار السابقة من
الطوائف الثلاث وإن كانت بصورة الإطلاق.
فالمستفاد من جميعها بعد حمل بعضها على بعض هو أن الحكرة المنهي
عنها إنما هي محرمة فيما إذا لم يكن في البلد طعام أو متاع بقدر الكفاية بحيث
يكون حبسه موجبا لأن يبقى الناس بلا طعام في الشدة والضيق.
وقد عرفت أن ظاهر كثير منها التشديد فيها وكونه موجبا للدخول في النار
وفي عرض المحرمات الكبيرة من قبيل الإدمان على الخمر والقيادة ونحوهما.
هذا، مضافا إلى أنه لو لم يكن محرما لم يكن وجه لعقوبة فاعله وإجباره
على البيع من قبل الحاكم. كيف؟! وهل يمكن القول برضا الشارع بعمل يوجب
الضرر والضيق على الناس؟
فمناسبة الحكم والموضوع أيضا تقتضي القول بالحرمة. فلا دخالة
لخصوصية الاشتراء في ذلك، نعم يشترط فيه الاستبقاء للزيادة في الثمن، فلو
استبقاه لحاجة نفسه وعائلته أو للبذر لم يكن محتكرا ولم يحرم، اللهم إلا في
بعض الفروض.

(1) الوسائل: 12، 313.
386

أقسام حبس المتاع:
لا يخفى أن حبس المتاع على أقسام:
الأول: أن يكون حبس هذا الشخص، أو حبسه وحبس أمثاله موجبا لفقد
المتاع أو قلته في السوق، بحيث يقع الناس في ضيق وشدة سواء وقع الحبس
بقصد الإضرار والتضييق أم لا.
وهذا هو القدر المتيقن من الحكرة ويكون موردا للنهي في صحيحتي
الحلبي والحناط وغيرهما من الأخبار. والظاهر حرمته بمقتضى الأخبار بل بحكم
العقل. ولعل تشخيص كون الحبس من هذا القبيل من وظائف الحاكم.
الثاني: أن يحصل بحبسه وحبس أمثاله ترقي القيمة السوقية للمتاع ولكن
لا بنحو يقع الناس في الضيق والشدة، إذ يوجد من يعرض المتاع كثيرا بقدر
الحاجة، ويكون الترقي بنحو يتحمل عادة.
وشمول أدلة النهي لهذه الصورة مشكل بل ممنوع، ولا سيما إذا لم نقل بجواز
التسعير على المالك.
الثالث: أن يكون الحبس لانتظار النفاق والرواج. فإن الأمتعة حين
حصادها وورودها في السوق من جميع النواحي ربما تواجه الكساد ونزول
القيمة، فربما تحبس للأزمنة الآتية فرارا من الكساد. ولا يصدق على هذا النحو
من الحبس مفهوم الحكرة أصلا.
الرابع: أن يكون حبسه لادخار قوت سنته؛ له ولعياله، لا للبيع والتجارة.
وقد تعارف ادخار الناس لقوت سنتهم وإن صار اقدام الكثير منهم لهذا الأمر
موجبا لرواج المتاع وترقي قيمته قهرا. وهذا أيضا لا إشكال فيه.
الطائفة الخامسة - ما دلت على أن الحكرة المنهي عنها إنما هي في أمور
خاصة؛ منها:
1 - عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " ليس الحكرة إلا في الحنطة والشعير والتمر
387

والزبيب والسمن " (1).
2 - عنه (عليه السلام) أيضا عن آبائه (عليهم السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله)، قال: " الحكرة في ستة أشياء:
في الحنطة والشعير والتمر والزيت والسمن والزبيب " (2).
3 - وعن طب النبي، قال (صلى الله عليه وآله): " الاحتكار في عشرة، والمحتكر ملعون: البر
والشعير والتمر والزبيب والذرة والسمن والعسل والجبن والجوز والزيت " (3).
فالذي تقتضيه الصناعة الفقهية، بعد الأخذ بهذه الروايات هو حمل
المطلقات السابقة عليها. وهو مدار الفتوى لأكثر أصحابنا من الحصر في الأشياء
الخاصة أو في الأطعمة أو الأقوات، وعدم جريان الحكرة في غيرها.
ففي النهاية: " الاحتكار هو حبس الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن
من البيع. ولا يكون الاحتكار في شئ سوى هذه الأجناس " (4).
وفي القواعد: " وهو حبس الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن
والملح " (5).
وفي الدروس: " وهو حبس الغلات الأربع والسمن والزيت والملح على
الأقرب فيهما " (6).
وفي المقنعة: " والحكرة: احتباس الأطعمة مع حاجة أهل البلد إليها وضيق
الأمر عليهم فيها " (7).

(1) الوسائل: 12، 313.
(2) الوسائل: 12، 314.
(3) مستدرك الوسائل: 2، 468.
(4) النهاية: 374.
(5) القواعد: 1، 122.
(6) الدروس: 332.
(7) المقنعة: 96.
388

وفي الغنية: " ولا يجوز الاحتكار في الأقوات مع الحاجة الظاهرة إليها " (1).
وأما فقهاء السنة، ففي فقه الحنفية: " ثم الاحتكار يجر ى في كل ما يضر
بالعامة عند أبي يوسف، قوتا كان أو لا... " (2).
وفي فقه مالك: " وسمعت مالكا يقول: الحكرة في كل شئ في السوق من
الطعام والكتاب والزيت وجميع الأشياء والصوف وكل ما يضر بالسوق " (3).
الخامسة - هل تختص الحكرة المنهي عنها بأقوات الإنسان، أو الأشياء
الخاصة أم لا؟
الظاهر أن حرمة الاحتكار أو كراهته ليس حكما تعبديا بلا ملاك أو بملاك
غيبي لا يعرفه أبناء نوع الإنسان. بل الملاك له على ما هو المستفاد من أخبار
الباب أيضا هو حاجة الناس إلى المتاع وورود الضيق والضرر عليهم من فقده.
ففي صحيح الحلبي: " إن كان الطعام كثيرا يسع الناس فلا بأس به. وإن كان
قليلا لا يسع الناس فإنه يكره أن يحتكر الطعام ويترك الناس ليس لهم طعام " (4).
يظهر من هذه الصحيحة علة الحكم وهي أن لا يترك الناس بلا طعام يتوقف
عليه حياتهم. وقد أوضح أمير المؤمنين (عليه السلام) ما هو الملاك في المنع من الاحتكار
فقال:
" واعلم - مع ذلك - أن في كثير منهم ضيقا فاحشا، وشحا قبيحا، واحتكارا
للمنافع، وتحكما في البياعات، وذلك باب مضرة للعامة وعيب على الولاة؛ فامنع

(1) الجوامع الفقهية: 528.
(2) بدائع الصنائع: 5، 129.
(3) المدونة الكبرى: 3، 290.
(4) الوسائل: 12، 313.
389

من الاحتكار " (1). ولم يذكر (عليه السلام) الأشياء الخاصة، ولا الأقوات مع كونه في مقام
البيان.
وبالجملة: أحكام الشريعة الإسلامية شرعت على أساس المصالح
والمفاسد، ولكافة الناس في جميع البلدان إلى يوم القيامة. وحاجات الناس
وضروريات معاشهم تختلف بحسب الأزمنة والظروف. واطلاقات الروايات
الكثيرة الناهية عن مطلق الحكرة تشمل الجميع. ومناسبة الحكم والموضوع،
وملاحظة الملاك أيضا تقتضيان الأخذ بالإطلاق.
والأخبار الحاصرة أيضا بنفسها مختلفة كما عرفت. فاحدس من ذلك عدم
انحصار الاحتكار المحرم في أشياء خاصة.
فإن قلت: فعلى أي محمل تحمل الأخبار الحاصرة؟
قلت: يحتمل فيها وجوه:
الأول: أن تكون القضية فيها خارجية لا حقيقية بتقريب أن الأشياء الخاصة
كانت عمدة ما يحتاج إليه الناس في عصر صدور الخبر، ولا محالة كانت هي التي
تقع موردا للحكرة ولم يكن غيرها من الأمتعة قليلة بحيث تحتكر أو كثيرة
المصرف بحيث يرغب في حبسها أو يضرهم فقدها على فرض الحبس.
الثاني: أن الحصر في الروايات الحاصرة لم يكن حكما فقهيا كليا لجميع
الأزمنة والظروف، بل حكما ولائيا لعصر خاص ومكان خاص، فيكون تعيين
الموضوع من شؤون الحاكم بحسب ما يراه من احتياجات الناس في عصره
ومجال حكمه.
ومما يشهد لكون أمر الحكرة والنهي عنها من شؤون الولاة والحكام، أمر
أمير المؤمنين (عليه السلام) مالكا ورفاعة بالنهي عن الحكرة ومعاقبة من تخلف، بل أمر

(1) نهج البلاغة، عبده: 3، 110، صالح: 438، الكتاب 53.
390

رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالإخراج والبيع في خبر حذيفة. وما مر منا في توضيح خبر حذيفة
من عمومية الحكم الولائي لكل زمان، فإنما هو فيما إذا لم تكن قرينة على
الاختصاص بزمان خاص. ومن الدقة في ملاك الحكم يفهم كونه مختصا بعصر
خاص (1).
وصاحب الجواهر بعدما أفتى بكراهة الاحتكار بذاته وحرمته مع قصد
الاضرار أو حصول الغلاء والإضرار بفعله، أو باطباق المعظم عليه قال: " بل هو
كذلك في كل حبس لكل ما تحتاجه النفوس المحترمة ويضطرون إليه ولا مندوحة
لهم عنه من مأكول أو مشروب أو ملبوس أو غيرها، من غير تقييد بزمان دون
زمان، ولا أعيان دون أعيان... " (2).
وقال المحقق الحائري: " إذا فرض الاحتياج إلى غير الطعام من الأمور
الضرورية للمسلمين كالدواء والوقود في الشتاء بحيث استلزم من احتكارها
الحرج والضرر للمسلمين فمقتضى ما تقدم من دلالة دليل الحرج والضرر حرمته
وإن لم تصدق عليه لغة الاحتكار... " (3).
السادسة - إجبار المحتكر على البيع:
1 - قال المفيد: " وللسلطان أن يكره المحتكر على إخراج غلته وبيعها في
أسواق المسلمين إذا كانت بالناس حاجة ظاهرة إليها " (4).
2 - وقال الشيخ: " ومتى ضاق على الناس الطعام ولم يوجد إلا عند من

(1) قد مر الإشكال في تصوير الحكم الولائي العام لكل زمان. فراجع - م -.
(2) الجواهر: 22، 481.
(3) ابتغاء الفضيلة: 1، 197.
(4) المقنعة: 96.
391

احتكره كان على السلطان أن يجبره على بيعه ويكرهه عليه " (1).
3 - وفي الحدائق: " لا خلاف بين الأصحاب في أن الإمام يجبر المحتكرين
على البيع، وعليه تدل جملة من الأخبار المتقدمة " (2).
أقول: ويدل على الحكم، بعد وضوحه وعدم الخلاف المدعى، أمر النبي (صلى الله عليه وآله)
بالبيع وعدم الحبس في خبر حذيفة السابق، واخراج الحكرة إلى بطون الأسواق
في خبر ضمرة الآتي، وأمر أمير المؤمنين (عليه السلام) مالكا ورفاعة بالمنع من الاحتكار
والنهي عنه وعقاب من تخلف، كما مر.
وفي الجواهر: " لو تعذر الإجبار قام الحاكم مقامه، بل ظاهر بعض قيامه
مقامه مع عدم تعذر الإجبار خصوصا الإمام، وإن كان قد يناقش بأنه خلاف
المأثور " (3).
التسعير
السابعة - في أنه هل يجوز التسعير أم لا؟ وذكر بعض كلمات الفقهاء وأخبار
المسألة:
اختلفت كلمات الفقهاء في ذلك، والأكثر على المنع:
1 - ففي النهاية: " ولا يجوز له أن يجبره على سعر بعينه، بل يبيعه بما يرزقه
الله - تعالى -، ولا يمكنه من حبسه أكثر من ذلك " (4).

(1) النهاية؛ 374.
(2) الحدائق: 18، 64.
(3) الجواهر: 22، 485.
(4) النهاية: 374.
392

2 - وفي الغنية: " ولا يجوز إكراه الناس على سعر مخصوص " (1).
3 - وفي الشرائع: " ولا يسعر عليه. وقيل: يسعر. والأول أظهر " (2).
4 - وفي القواعد: " ويجبر على البيع، لا التسعير على رأي " (3).
5 - ولكن في المقنعة: " وله أن يسعرها على ما يراه من المصلحة ولا
يسعرها بما يخسر أربابها فيها " (4).
6 - وفي الدروس: " ولا يسعر عليه إلا مع التشدد " (5).
ولعل المراد بالتشدد هو الإجحاف.
وأما فقهاء السنة:
1 - فقال العلامة: " على الإمام أن يجبر المحتكرين على البيع، وليس له أن
يجبرهم على التسعير، بل يتركهم يبيعوا كيف شاؤوا. به قال أكثر علمائنا وهو
مذهب الشافعي. وقال المفيد وسلار (رحمهما الله): للإمام أن يسعر عليهم فيسعر بسعر البلد.
وبه قال مالك " (6).
2 - وفي موسوعة الفقه الإسلامي: " صرح الحنابلة بأن لولي الأمر أن يكره
المحتكرين على بيع ما عندهم بقيمة المثل عند ضرورة الناس إليه... " (7).
وأما الأخبار: فعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " نفد الطعام على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)
فأتاه المسلمون فقالوا: يا رسول الله، قد نفد الطعام ولم يبق منه شئ إلا عند فلان،

(1) الجوامع الفقهية: 528.
(2) الشرائع: 2، 21.
(3) القواعد: 1، 122.
(4) المقنعة: 96.
(5) الدروس؛ 332.
(6) المنتهى: 2، 1007.
(7) موسوعة الفقه الإسلامي: 3، 198.
393

فمره ببيعه. قال: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا فلان، إن المسلمين ذكروا أن
الطعام قد نفد إلا شئ عندك، فأخرجه وبعه كيف شئت ولا تحبسه " (1).
فرسول الله (صلى الله عليه وآله) رخصه في البيع كيف شاء ولم يسعر عليه.
وعن علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنه قال: رفع الحديث إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه مر
بالمحتكرين فأمر بحكرتهم أن تخرج إلى بطون الأسواق، وحيث تنظر الأبصار
إليها. فقيل لرسول الله (صلى الله عليه وآله): لو قومت عليهم، فغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى عرف
الغضب في وجهه فقال: " أنا أقوم عليهم؟! إنما السعر إلى الله؛ يرفعه إذا شاء
ويخفضه إذا شاء " (2).
وعن أنس بن مالك، قال: قال الناس: يا رسول الله، غلا السعر فسعر لنا،
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق. وإني لأرجو أن
ألقى الله وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم ولا مال " (3).
أقول: السعر العادي الطبيعي المتعارف معلول لمسألة العرض والطلب
والظروف الطبيعية والاجتماعية. والظاهر أن قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): " إنما السعر إلى
الله... " (4) وما مر من الأئمة (عليهم السلام) في أمر السعر لا يراد به إلا هذا السعر الطبيعي.
فكأن القوم أرادوا من النبي (صلى الله عليه وآله) التصرف في هذا السعر والتسعير بما دون
المتعارف، فغضب (صلى الله عليه وآله) عليهم لذلك.
وأما إذا فرض إيجاد الحصار الاقتصادي فلا محالة يحتاج إلى تدخل
الحكومة والإلزام من قبلها بمقدار الضرورة.

(1) الوسائل: 12، 316.
(2) الوسائل: 12، 317.
(3) سنن أبي داود؛ 2، 244.
(4) الوسائل: 12، 317.
394

فقد ترتفع الضرورة بالأمر بعرض المتاع على الناس فقط. وقد يواجه
الحاكم إجحاف المالك فيمنعه عن ذلك. وقد لا تعالج المشكلة إلا بالتسعير. وقد
يواجه الحاكم عصيان المالك لأوامر الحاكم بالكلية فيتدخل بنفسه في بيع الأمتعة
المحتكرة بثمن المثل.
فروايات المنع من التسعير ناظرة إلى الموارد التي لا تصل فيها النوبة إلى
تسعير الحاكم.
قال في المسالك - بعد استظهار المصنف عدم التسعير -: " إلا مع الإجحاف
وإلا لانتفت فائدة الإجبار، إذ يجوز أن يطلب في ماله ما لا يقدر على بذله أو يضر
بحال الناس، والغرض دفع الضرر " (1).
وفي الجواهر: " نعم لا يبعد رده مع الإجحاف، كما عن أبي حمزة والفاضل
في المختلف وثاني الشهيدين وغيرهم لنفي الضرر والضرار... " (2).
ويدل على كون المنع من الإجحاف من وظائف الحاكم، مضافا إلى
وضوحه، كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في كتابه إلى مالك الأشتر حيث قال: " فامنع من
الاحتكار، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) منع منه. وليكن البيع بيعا سمحا بموازين عدل
وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع ".

(1) المسالك: 1، 177.
(2) الجواهر: 22، 486.
395

الفصل الحادي عشر
في وظائف الحكومة قبال أموال المسلمين
يجب على الإمام وعماله الاهتمام بالأموال العامة للمسلمين وحفظها،
وصرفها في مصارفها المقررة، ورعاية العدل في قسمها، والتسوية فيها، وإعطاء
كل ذي حق حقه، وقطع أيادي الغاصبين عنها بمصادرتها.
يمكن الاستدلال على هذه المسائل بأخبار واردة فيها:
1 - عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " لما ولى علي (عليه السلام) صعد المنبر فحمد الله وأثنى
عليه ثم قال: إني والله لا أرزؤكم من فيئكم درهما ما قام لي عذق بيثرب،
فليصدقكم أنفسكم، أفتروني مانعا نفسي ومعطيكم؟ قال: فقام إليه عقيل - كرم الله
وجهه - فقال له: والله لتجعلني وأسود بالمدينة سواء؟! فقال: اجلس أما كان هيهنا
أحد يتكلم غيرك؟! وما فضلك عليه إلا بسابقة أو بتقوى؟ " (1).
2 - في خطبة الإمام علي (عليه السلام): " أيها الناس إن آدم لم يلد عبدا ولا أمة، وإن
الناس كلهم أحرار، ولكن الله خول بعضكم بعضا، فمن كان له بلاء فصبر في الخير
فلا يمن به على الله - عز وجل - ألا وقد حضر شئ ونحن مسوون فيه بين الأسود
والأحمر. فقال مروان لطلحة والزبير: ما أراد بهذا غيركما. قال: فأعطى كل واحد

(1) الكافي: 8، 182.
396

ثلاثة دنانير، وأعطى رجلا من الأنصار ثلاثة دنانير، وجاء بعد غلام أسود فأعطاه
ثلاثة دنانير، فقال الأنصاري: يا أمير المؤمنين، هذا غلام أعتقته بالأمس تجعلني
وإياه سواء؟! فقال: إني نظرت في كتاب الله فلم أجد لولد إسماعيل على ولد
إسحاق فضلا " (1).
3 - وعن أبي مخنف الأزدي، قال: أتى أمير المؤمنين (عليه السلام) رهط من الشيعة
فقالوا: يا أمير المؤمنين لو أخرجت هذه الأموال ففرقتها في هؤلاء الرؤساء
والأشراف وفضلتهم علينا حتى إذا استوسقت الأمور عدت إلى أفضل ما عودك
الله من القسم بالسوية والعدل في الرعية. فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): " أتأمروني
- ويحكم - أن أطلب النصر بالظلم والجور فيمن وليت عليه من أهل الإسلام؟! لا
والله لا يكون ذلك ما سمر السمير وما رأيت في السماء نجما، والله لو كانت
أموالهم مالي لساويت بينهم فكيف وإنما هي أموالهم؟ " (2).
4 - وعن حفص بن غياث، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول - وسئل عن
قسم بيت المال - فقال: " أهل الإسلام هم أبناء الإسلام أسوي بينهم في العطاء
وفضائلهم بينهم وبين الله، أجعلهم كبني رجل واحد، لا يفضل أحد منهم لفضله
وصلاحه في الميراث على آخر ضعيف منقوص " (3).
5 - وفي كتاب للإمام علي (عليه السلام) إلى بعض عماله: " أما بعد، فإني كنت أشركتك
في أمانتي وجعلتك ستاري وبطانتي... فلما أمكنتك الشدة في خيانة الأمة
أسرعت الكرة وعاجلت الوثبة، واختطفت ما قدرت عليه من أموالهم المصونة
لأراملهم وأيتامهم اختطاف الذئب الأزل دامية المعزى الكسيرة... فسبحان الله!

(1) الكافي: 8، 69.
(2) فروع الكافي: 4، 31 وراجع نهج البلاغة، عبده: 2، 10 وصالح: 183 الخطبة 126.
(3) الوسائل: 11، 81.
397

أما تؤمن بالمعاد؟ أوما تخاف نقاش الحساب؟... كيف تسيغ شرابا وطعاما وأنت
تعلم أنك تأكل حراما وتشرب حراما؟ وتبتاع الإماء وتنكح النساء من مال
اليتامى والمساكين والمؤمنين والمجاهدين الذين أفاء الله عليهم هذه الأموال
وأحرز بهم هذه البلاد؟ فاتق الله واردد إلى هؤلاء القوم أموالهم، فإنك إن لم تفعل
ثم أمكنني الله منك لأعذرن إلى الله فيك، ولأضربنك بسيفي الذي ما ضربت به
أحدا إلا دخل النار!
والله لو أن الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلت ما كانت لهما عندي
هوادة، ولا ظفرا مني بإرادة حتى آخذ الحق منهما وأزيل الباطل عن
مظلمتهما " (1).
6 - وقال الإمام علي (عليه السلام): " والله لأن أبيت على حسك السعدان مسهدا
وأجر في الأغلال مصفدا، أحب إلي من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالما
لبعض العباد وغاصبا لشيء من الحطام... والله لقد رأيت عقيلا وقد أملق حتى
استماحني من بركم صاعا، ورأيت صبيانه شعث الشعور غبر الألوان من فقرهم
كأنما سودت وجوههم بالعظلم، وعاودني مؤكدا وكرر علي القول مرددا، فأصغيت
إليه سمعي فظن إني أبيعه ديني وأتبع قيادة مفارقا طريقي، فأحميت له حديدة ثم
أدنيتها من جسمه ليعتبر بها، فضج ضجيج ذي دنف من ألمها... فقلت... أتئن من
الأذى ولا أئن من لظى؟!...
وأعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة في وعائها... فقلت: أصلة أم زكاة
أم صدقة؟ فذلك محرم علينا أهل البيت فقال: لا ذا ولا ذاك ولكنها هدية، فقلت:
هبلتك الهبول، أعن دين الله أتيتني لتخدعني؟... والله لو أعطيت الأقاليم
السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت

(1) نهج البلاغة، عبده: 3، 72؛ صالح: 412، الكتاب 41.
398

(ما فعلته خ. ل) (1).
7 - وفي المناقب: " وسمعت مذاكرة أنه دخل عليه (عليه السلام) عمرو بن العاص ليلة
وهو في بيت المال فطفئ السراج وجلس في ضوء القمر، ولم يستحل أن يجلس
في الضوء من غير استحقاق " (2).
8 - وفيه أيضا: "... إن طلحة والزبير جاءا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وقالا: ليس
كذلك كان يعطينا عمر. قال: فما كان يعطيكما رسول الله (صلى الله عليه وآله) فسكتا. قال: أليس
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقسم بالسوية بين المسلمين؟ قالا: نعم. قال: " فسنة رسول الله
أولى بالاتباع عندكم أم سنة عمر؟ قالا: سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله). يا أمير المؤمنين، لنا
سابقة وعناء وقرابة. قال: سابقتكما أقرب أم سابقتي؟ قالا: سابقتك. قال:
فقرابتكما أم قرابتي؟ قالا: قرابتك. قال: فعناؤكما أعظم من عنائي؟ قالا: عناؤك.
قال: فوالله ما أنا وأجيري هذا إلا بمنزلة واحدة. وأومى بيده إلى الأجير " (3).
9 - وعن علي (عليه السلام) قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: " لا يحل للخليفة من
مال الله إلا قصعتان: قصعة يأكل منها هو وأهله، وقصعة يضعها بين يدي
الناس " (4).
10 - وعن بكر بن عيسى، قال: وكان علي (عليه السلام) يقول: " يا أهل الكوفة، إذا أنا
خرجت من عندكم بغير رحلي وراحلتي وغلامي فأنا خائن. وكانت نفقته تأتيه
من غلته بالمدينة من ينبع. وكان يطعم الناس الخبز واللحم ويأكل الثريد

(1) نهج البلاغة، عبده: 2، 243؛ صالح: 346، الخطبة 224.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: 1، 377.
(3) المناقب: 1، 378.
(4) كنز العمال: 5، 773.
399

بالزيت " (1).
11 - وعن ابن عباس (رضي الله عنه) أن عليا (عليه السلام) خطب في اليوم الثاني من بيعته
بالمدينة فقال: " ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان وكل مال أعطاه من مال الله فهو
مردود في بيت المال، فإن الحق القديم لا يبطله شئ، ولو وجدته وقد تزوج به
النساء وفرق في البلدان لرددته إلى حاله، فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه
الحق فالجور عليه أضيق... " (2).
أقول: يظهر من الحديث الشريف أن من الوظائف المهمة على الحاكم
الإسلامي مضافا إلى إحقاق حقوق الضعفاء من الأقوياء، هو رد الأموال العامة
المغصوبة المتعلقة بالمجتمع، إلى بيت مال المسلمين، ويعبر عن هذا بالمصادرة.
ومرور الزمان والتداول بالأيدي المتعاقبة والتفرق في البلدان لا يوجب ذلك كله
بطلان الحق وعدم رده.

(1) الغارات: 1، 68 وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 2، 200.
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 1، 269.
400

الفصل الثاني عشر
في وجوب اهتمام الإمام وعماله بأمر الضعفاء
والأرامل والأيتام ومن لا حيلة له
1 - فعن أبي عبد الله (عليه السلام) أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: " أنا أولى بكل مؤمن من نفسه،
وعلي أولى به من بعدي ". فقيل له: ما معنى ذلك؟ فقال: " قول النبي (صلى الله عليه وآله): من ترك
دينا أو ضياعا فعلي، ومن ترك مالا فلورثته، فالرجل ليست له على نفسه ولاية إذا
لم يكن له مال، وليس له على عياله أمر ولا نهي إذا لم يجر عليهم النفقة، والنبي
وأمير المؤمنين (عليهما السلام) ومن بعدهما ألزمهم هذا، فمن هناك صاروا أولى بهم من
أنفسهم " (1).
2 - وعنه (عليه السلام) أيضا قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " أيما مؤمن أو مسلم مات
وترك دينا لم يكن في فساد ولا إسراف فعلى الإمام أن يقضيه فإن لم يقضه فعليه
إثم ذلك. إن الله - تبارك وتعالى - يقول: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) فهو
من الغارمين وله سهم عند الإمام، فإن حبسه فإثمه عليه " (2).

(1) أصول الكافي: 1، 406.
(2) أصول الكافي: 1، 407.
401

3 - وفي نهج البلاغة: " ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم
من المساكين والمحتاجين وأهل البؤس والزمنى، فإن في هذه الطبقة قانعا ومعترا،
واحفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قسما من بيت مالك، وقسما من
غلات صوافي الإسلام في كل بلد، فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى... وتعهد
أهل اليتم وذوي الرقة في السن ممن لا حيلة له، ولا ينصب للمسألة نفسه، وذلك
على الولاة ثقيل (والحق كله ثقيل)... واجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرغ لهم
فيه شخصك، وتجلس لهم مجلسا عاما... حتى يكلمك متكلمهم غير متتعتع، فإني
سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول في غير موطن: " لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها
حقه من القوي غير متتعتع " (1).
ولا يخفى أنه في هذه الأعصار التي اتسعت فيها مجالات الحياة وكثرت
الضعفاء والزمنى والأيتام ومن لا حيلة له، ويتصور أعمال يمكن أن يتصدى لها
بعض هذه الصنوف فالواجب على الإمام وعماله تنظيم برامج واسعة لإحداث
أشغال مناسبة لهم حتى لا يحسوا بالفقر ولا تحطم شخصياتهم وتتسع الإنتاجات
أيضا. فهذا أولى من التصدق عليهم مجانا الملازم غالبا لتحقيرهم.

(1) نهج البلاغة، عبده: 3، 111، صالح: 438، الكتاب 53.
402

الفصل الثالث عشر
في ذكر بعض الآيات والروايات الدالة على
ثبوت بعض الحقوق المتقابلة بين الإمام والأمة
يجب على الأمة التسليم للإمام وإطاعته:
قال الله - تعالى -: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي
الأمر منكم) (1).
قد مر أن الأمر بإطاعة الله - تعالى - ناظر إلى إطاعته في أحكامه المبينة في
الكتاب والسنة، والأمر بها إرشادي، والأمر بإطاعة الرسول وأولي الأمر ناظر إلى
إطاعتهم في أوامرهم المولوية الصادرة عنهم بما أنهم ولاة الأمر. والأمر بها
مولوي لا إرشادي. ولأجل ذلك كررت لفظة: " أطيعوا " (2).
والمقصود بالأمر في الآية هو الولاية والحكومة، وبأولي الأمر الحكام
الحق الذين لهم حق الأمر والنهي في سياسة البلاد وفصل الخصومات وتجب
إطاعتهم لا محالة. إذ كيف يمكن الالتزام بولاية الأمر والنهي لشخص شرعا ولا

(1) النساء 4: 59.
(2) مراد الأستاذ أن وجه تكرار لفظة " أطيعوا " استحالة استعمال لفظة واحدة في المعنيين
المتخالفين أعني المولوي والإرشادي معا - م -.
403

يلتزم بوجوب إطاعته.
نعم لا يحق لأحد الأمر بمعصية الله والنهي عن طاعته، ولا تجوز الطاعة
لمخلوق إذا كان المأمور به معصية للخالق - سبحانه - ويدل على ذلك الآيات
والأخبار المستفيضة بل المتواترة؛ فمنها:
1 - قوله - تعالى - حكاية عن أهل النار: (وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا
وكبرائنا فأضلونا السبيلا) (1).
2 - وقوله: (ولا تطيعوا أمر المسرفين * الذين يفسدون في الأرض ولا
يصلحون) (2).
3 - وفي نهج البلاغة: " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " (3).
4 - وفي المصنف لعبد الرزاق: " إن النبي (صلى الله عليه وآله) بعث عبد الله بن حذافة على
سرية، فأمر أصحابه فأوقدوا نارا ثم أمرهم أن يثبوها، فجعلوا يثبونها، فجاء شيخ
ليثبها فوقع فيها فاحترق منه بعض ما احترق، فذكر شأنه لرسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: ما
حملكم على ذلك؟ قالوا: يا رسول الله، كان أميرا وكانت له طاعة، قال: أيما أمير
أمرته عليكم فأمركم بغير طاعة الله فلا تطيعوه، فإنه لا طاعة في معصية الله " (4).
وأما ما اشتهر بين العوام من أن المأمور معذور فاعتذار شيطاني لا دليل له
لا في العقل ولا من النقل.
ومن الروايات الواردة في بيان ثبوت الحقوق المتقابلة بين الإمام والأمة:
1 - ما خطبه أمير المؤمنين (عليه السلام) بصفين فقال: " أما بعد، فقد جعل الله لي

(1) الأحزاب 33: 67.
(2) الشعراء 26: 151 و 152.
(3) نهج البلاغة، عبده: 3، 193؛ صالح: 500، الحكمة 165.
(4) المصنف: 11، 335.
404

عليكم حقا بولاية أمركم، ولكم علي من الحق مثل الذي لي عليكم. فالحق أوسع
الأشياء في التواصف وأضيقها في التناصف، لا يجري لأحد إلا جرى عليه، ولا
يجري عليه إلا جرى له... فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه، وأدى الوالي إليها
حقها عز الحق بينهم، وقامت مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل، وجرت على
أذلالها السنن، فصلح بذلك الزمان، وطمع في بقاء الدولة ويئست مطامع الأعداء.
وإذا غلبت الرعية واليها، أو أجحف الوالي برعيته اختلفت هنالك الكلمة
وظهرت معالم الجور وكثر الإدغال في الدين، وتركت محاج السنن فعمل بالهوى
وعطلت الأحكام وكثرت علل النفوس " (1).
2 - وفي نهج البلاغة أيضا: " أيها الناس إن لي عليكم حقا، ولكم علي حق،
فأما حقكم علي، فالنصيحة لكم وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كيلا تجهلوا،
وتأديبكم كيما تعلموا، وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد
والمغيب، والإجابة حين أدعوكم، والطاعة حين آمركم " (2).
3 - وفيه أيضا من كتاب علي (عليه السلام) إلى أمرائه على الجيوش: " أما بعد، فإن
حقا على الوالي أن لا يغيره على رعيته فضل ناله ولا طول خص به، وأن يزيده ما
قسم الله له من نعمة دنوا من عباده وعطفا على اخوانه، ألا وإن لكم عندي أن لا
أحتجز دونكم سرا إلا في حرب، ولا أطوي دونكم أمرا إلا في حكم، ولا أؤخر
لكم حقا عن محله، ولا أقف به دون مقطعه، وأن تكونوا عندي في الحق سواء.
فإذا فعلت ذلك وجبت لله عليكم النعمة ولي عليكم الطاعة، وأن لا تنكصوا
عن دعوة ولا تفرطوا في صلاح وان تخوضوا الغمرات إلى الحق... " (3).

(1) نهج البلاغة، عبده: 2، 223، صالح: 332، الخطبة 216.
(2) نهج البلاغة، عبده: 1، 80؛ صالح: 79، الخطبة 34.
(3) نهج البلاغة، عبده: 3، 88؛ صالح: 424، الكتاب 50.
405

4 - وفي أصول الكافي عن أبي حمزة قال: " سألت أبا جعفر (عليه السلام): ما حق
الإمام على الناس؟ قال: حقه عليهم أن يسمعوا له ويطيعوا. قلت: فما حقهم عليه؟
قال: يقسم بينهم بالسوية ويعدل في الرعية... " (1).
5 - وفي رسالة الحقوق لعلي بن الحسين (عليهما السلام): " فأما حق سائسك بالسلطان
فأن تعلم أنك جعلت له فتنة وأنه مبتلى فيك بما جعله الله له عليك من السلطان،
وأن تخلص له في النصيحة وأن لا تماحكه وقد بسطت يده عليك فتكون سبب
هلاك نفسك وهلاكه... " (2).
6 - وعن مصعب بن سعد، قال: قال علي بن أبي طالب (عليه السلام) كلمات أصاب
فيهن الحق، قال: " يحق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله وأن يؤدي الأمانة، فإذا
فعل ذلك فحق على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا ويجيبوه إذا دعا " (3).
7 - وعن يحيى بن حصين قال: سمعت جدتي تحدث أنها سمعت النبي (صلى الله عليه وآله)
يخطب في حجة الوداع وهو يقول: " ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله
فاسمعوا له وأطيعوا " (4).
إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في هذا المجال.
يجب على الإمام أن لا يحتجب عن رعيته:
1 - فعن الحسين بن علي (عليهما السلام) عن أبيه في وصف النبي (صلى الله عليه وآله): " إذا أوى إلى
منزله جزأ دخوله ثلاثة أجزاء: جزء لله، وجزء لأهله، وجزء لنفسه. ثم جزأ جزئه
بينه وبين الناس فيرد ذلك بالخاصة على العامة، ولا يدخر عنهم منه شيئا. وكان

(1) الكافي: 1، 405.
(2) تحف العقول: 260.
(3) الأموال لأبي عبيد: 13.
(4) صحيح مسلم: 3، 1468.
406

من سيرته في جزء الأمة إيثار أهل الفضل بإذنه وقسمه على قدر فضلهم في الدين،
فمنهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج، فيتشاغل بهم ويشغلهم
فيما أصلحهم والأمة: من مسألته عنهم، وإخبارهم بالذي ينبغي، ويقول: ليبلغ
الشاهد منكم الغائب، وأبلغوني حاجة من لا يقدر على إبلاغ حاجته، فإنه من أبلغ
سلطانا حاجة من لا يقدر على إبلاغها ثبت الله قدميه يوم القيامة " (1).
2 - وفي نهج البلاغة في كتابه (عليه السلام) لمالك الأشتر: " وأما بعد، فلا تطولن
احتجابك عن رعيتك، فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق وقلة علم
بالأمور، والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير،
ويعظم الصغير، ويقبح الحسن، ويحسن القبيح ويشاب الحق بالباطل، وإنما الوالي
بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور، وليست على الحق سمات تعرف
بها ضروب الصدق من الكذب، وإنما أنت أحد رجلين: أما امرؤ سخت نفسك
بالبذل في الحق، ففيم احتجابك؟ من واجب حق تعطيه، أو فعل كريم تسديه؟ أو
مبتلى بالمنع. فما أسرع كف الناس عن مسألتك إذا أيسوا من بذلك. مع أن أكثر
حاجات الناس إليك مما لا مؤونة فيه عليك من شكاة مظلمة أو طلب إنصاف في
معاملة " (2).
3 - وعن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: " أيما وال احتجب عن حوائج الناس
احتجب الله يوم القيامة عن حوائجه، وإن أخذ هدية كان غلولا، وان أخذ رشوة
فهو مشرك " (3).
4 - وفي مسند أحمد عن عمرو بن مرة الجهني أنه قال: إني سمعت رسول

(1) بحار الأنوار: 16، 150.
(2) نهج البلاغة، عبده: 3، 114؛ صالح: 441، الكتاب 53.
(3) بحار الأنوار: 72، 345.
407

الله (صلى الله عليه وآله) يقول: " ما من إمام أو وال يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة والمسكنة
إلا أغلق الله - عز وجل - أبواب السماء دون حاجته وخلته ومسكنته " (1).
وبالجملة، فمقتضى هذه الأخبار أن على الإمام أن لا يحتجب عن الرعية،
والرعية عامة تشمل جميع طبقات المجتمع.
حقوق المخالفين:
1 - ففي المناقب: " وكان علي (عليه السلام) في صلاة الصبح فقال ابن الكواء - وكان
من رؤساء الخوارج، اسمه عبد الله - من خلفه: (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من
قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) (2) فأنصت علي (عليه السلام)
تعظيما للقرآن حتى فرغ من الآية، ثم عاد في قرائته، ثم أعاد ابن الكواء الآية
فأنصت علي (عليه السلام) أيضا ثم قرأ، ثم أعاد ابن الكواء فأنصت علي (عليه السلام) ثم قال:
(فاصبر، إن وعد الله حق، ولا يستخفنك الذين لا يوقنون) ثم أتم وركع...
2 - وفيه أيضا عن العقد ونزهة الأبصار: " وأسر مالك الأشتر يوم الجمل
مروان بن الحكم فعاتبه (عليه السلام) وأطلقه. وقالت عائشة يوم الجمل: ملكت فأسجع،
فجهزها أحسن الجهاز وبعث معها بتسعين امرأة أو سبعين. واستأمنت لعبد الله بن
الزبير على لسان محمد بن أبي بكر فآمنه وآمن معه سائر الناس. وجئ بموسى
ابن طلحة بن عبيد الله فقال له: قل: استغفر الله وأتوب إليه ثلاث مرات، وخلى
سبيله وقال: اذهب حيث شئت، وما وجدت لك في عسكرنا من سلاح أو كراع
فخذه واتق الله فيما تستقبله من أمرك واجلس في بيتك " (3).

(1) مسند أحمد: 4، 231.
(2) الزمر 39: 65.
(3) المناقب: 1، 381.
408

3 - وعن علي (عليه السلام) في أمر وقعة النهروان: " إنا لا نمنعهم الفيء ولا نحول
بينهم وبين دخول مساجد الله ولا نهيجهم ما لم يسفكوا دما وما لم ينالوا
محرما " (1).
4 - وعن كثير بن نمر، قال: بينا أنا في الجمعة وعلي بن أبي طالب على
المنبر إذ جاء رجل فقال: لا حكم إلا لله، ثم قام آخر فقال: لا حكم إلا لله، ثم قاموا
من نواحي المسجد يحكمون الله. فأشار عليهم بيده: اجلسوا. نعم، لا حكم إلا لله،
كلمة حق يبتغى بها باطل، حكم الله ينتظر فيكم. ألا إن لكم عندي ثلاث خلال ما
كنتم معنا: لن نمنعكم مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، ولا نمنعكم فيئا ما كانت
أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلوا. ثم أخذ في خطبته " (2).
5 - وعن جعفر، عن أبيه (عليهما السلام) إن عليا لم يكن ينسب أحدا من أهل حربه إلى
الشرك ولا إلى النفاق، ولكنه كان يقول: " هم إخواننا بغوا علينا " (3).
أقول: فانظر إلى سعة صدر أمير المؤمنين (عليه السلام) وأنه كيف كان يحتمل مخالفيه
وأهل حربه من المسلمين وأنه كان يواجههم بالصفح والعفو وحسن العبارة.

(1) أنساب الأشراف: 2، 359.
(2) مصنف ابن أبي شيبة: 15، 327.
(3) الوسائل: 11، 62.
409

الفصل الرابع عشر
في أخلاق الإمام وسيرته مع المسلمين وغيرهم
وفي مطعمه وملبسه
إنما تعرضنا في هذا الفصل لبعض الآيات والروايات الواردة في خلق
النبي (صلى الله عليه وآله) وسيرته مع المسلمين وأعدائه وسيرته في مطعمه وملبسه لأنه أول من
أسس الدولة الإسلامية، فعلى الأمة ولا سيما أئمتهم الايتمام به في أخلاقه؛ كما
قال الله - تعالى -: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) (1).
مكارم أخلاق الإمام:
1 - قال الله - تعالى - مخاطبا لنبيه (صلى الله عليه وآله): (فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو
كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في
الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله، إن الله يحب المتوكلين) (2).
فعلى إمام المسلمين ومن يلي أمرهم أن يكون لينا عفوا رحيما بهم عطوفا

(1) الأحزاب 32: 21.
(2) آل عمران 3: 159.
410

عليهم خاليا من الفظاظة والغلظة حتى ينجذب إلى الإسلام جميع الأنام إلا من
طبع الله على قلبه، ولا ينافي هذا إجراء حدود الله وأحكامه في مواردها إذ
المنظور فيها أيضا هو إصلاح المجتمع لا الانتقام.
2 - وقال - تعالى -: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين * وإما
ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم) (1).
قال في المجمع: "... وروى أنه لما نزلت الآية سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله) جبرائيل
عن ذلك فقال: لا أدري حتى أسأل العالم، ثم أتاه فقال: يا محمد إن الله يأمرك أن
تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك... " (2).
3 - وقال: (لقد جائكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم، حريص
عليكم، بالمؤمنين رؤوف رحيم) (3).
قال في المجمع: " معناه شديد عليه عنتكم، أي ما يلحقكم من الضرر بترك
الإيمان ".
4 - وقال: (فاصبر، إن وعد الله حق، ولا يستخفنك الذين لا يوقنون) (4).
وفي البحار: " ولا يستخفنك، أي ولا يحملنك على الخفة والقلق الذين لا
يوقنون بتكذيبهم " (5).
5 - وفيه أيضا: عن الحسين بن علي (عليه السلام)، عن أبيه (عليهما السلام) في وصف رسول
الله (صلى الله عليه وآله)، قال: " كان (صلى الله عليه وآله) يخزن لسانه إلا عما يعنيه ويؤلفهم ولا ينفرهم، ويكرم كريم

(1) الأعراف 17: 199 و 200.
(2) مجمع البيان: 2، 512.
(3) التوبة 9: 128.
(4) الروم 30: 60.
(5) بحار الأنوار: 16، 205.
411

كل قوم ويوليه عليهم، ويحذر الناس ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد
بشره ولا خلقه، ويتفقد أصحابه، ويسأل الناس عما في الناس، ويحسن الحسن
ويقويه، ويقبح القبيح ويوهنه، معتدل الأمر غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا
أو يميلوا، ولا يقصر عن الحق ولا يجوزه، الذين يلونه من الناس خيارهم،
أفضلهم عنده أعمهم نصيحة للمسلمين، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة
وموازرة... ولا يوطن الأماكن وينهى عن إيطانها، وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث
ينتهي به المجلس ويأمر بذلك. ويعطي كل جلسائه نصيبه، ولا يحسب أحد من
جلسائه أن أحدا أكرم عليه منه، من جالسه صابره حتى يكون هو المنصرف عنه،
من سأله حاجة لم يرجع إلا بها أو بميسور من القول، قد وسع الناس من خلقه
وصار لهم أبا وصاروا عنده في الحق سواء، مجلسه مجلس حلم وحياء وصدق
وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن (لا توهن خ. ل) فيه الحرم، ولا تنثى
فلتأته، متعادلين متواصلين فيه بالتقوى، متواضعين يوقرون الكبير ويرحمون
الصغير، ويؤثرون ذا الحاجة ويحفظون الغريب.
فقلت: فكيف كان سيرته في جلسائه؟ فقال: كان دائم البشر، سهل الخلق،
لين الجانب، ليس بفظ ولا صخاب ولا فحاش ولا عياب ولا مداح، يتغافل عما لا
يشتهي فلا يؤيس منه ولا يخيب مؤمليه، قد ترك نفسه من ثلاث: المراء والاكثار
وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحدا ولا يعيره ولا يطلب عورته
ولا عثراته " (1).
6 - وفيه أيضا: عن موسى بن جعفر، عن أبيه، عن آبائه، عن أمير
المؤمنين (عليهم السلام) قال: إن يهوديا كان له على رسول الله (صلى الله عليه وآله) دنانير فتقاضاه، فقال له: يا
يهودي، ما عندي ما أعطيك، فقال: فإني لا أفارقك يا محمد حتى تقضيني، فقال

(1) بحار الأنوار: 16، 151 - 153.
412

إذا أجلس معك، فجلس معه حتى صلى في ذلك الموضع الظهر والعصر والمغرب
والعشاء الآخرة والغداة، وكان أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) يتهددونه ويتواعدونه،
فنظر رسول الله (صلى الله عليه وآله) إليهم فقال: ما الذي تصنعون به؟ فقالوا: يا رسول الله، يهودي
يحبسك؟ فقال (صلى الله عليه وآله): لم يبعثني ربي - عز وجل - بأن أظلم معاهدا ولا غيره، فلما
علا النهار قال اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله،
وشطر مالي في سبيل الله " (1).
7 - وفيه أيضا: عن جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي (عليهم السلام) قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله): " خمس لست بتاركهن حتى الممات: لباسي الصوف، وركوبي
الحمار موكفا، وأكلي مع العبيد، وخصفي النعل بيدي، وتسليمي على الصبيان
لتكون سنة من بعدي " (2).
8 - وفيه أيضا: عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقسم لحظاته
بين أصحابه ينظر إلى ذا، وينظر إلى ذا بالسوية " (3).
وغير ذلك من الروايات.
سيرة الإمام مع رعيته:
1 - فعن حنان بن سدير الصيرفي، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول:... صعد
النبي (صلى الله عليه وآله) المنبر فنعى إليهم نفسه ثم قال: أذكر الله الوالي من بعدي على أمتي ألا
يرحم على جماعة المسلمين فأجل كبيرهم ورحم ضعيفهم، ووقر عالمهم
(عاملهم) ولم يضربهم فيذلهم، ولم يفقرهم فيكفرهم، ولم يغلق بابه دونهم فيأكل

(1) بحار الأنوار: 16، 216.
(2) بحار الأنوار: 16، 215.
(3) بحار الأنوار: 16، 280.
413

قويهم ضعيفهم، ولم يخبرهم في بعوثهم فيقطع نسل أمتي، ثم قال: " قد بلغت
ونصحت فاشهدوا ". وقال أبو عبد الله (عليه السلام): هذا آخر كلام تكلم به رسول الله (صلى الله عليه وآله)
على منبره (1).
2 - وفي نهج البلاغة من عهد له (عليه السلام) إلى محمد بن أبي بكر حين قلده مصر:
" فاخفض لهم جناحك وألن لهم جانبك، وابسط لهم وجهك، وآس بينهم في
اللحظة والنظرة، حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم، ولا ييأس الضعفاء من
عدلك عليهم " (2).
3 - وفيه أيضا في كتابه (عليه السلام) لمالك: " واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم
واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك
في الدين أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل ويؤتى على
أيديهم في العمد والخطأ فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك
الله من عفوه وصفحه فإنك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاك،
وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم، ولا تنصبن نفسك لحرب الله، فإنه لا يدي لك
بنقمته ولا غنى بك عن عفوه ورحمته، ولا تندمن على عفو. ولا تبجحن بعقوبة ولا
تسرعن إلى بادرة وجدت منها مندوحة، ولا تقولن إني مؤمر آمر فأطاع، فإن ذلك
إدغال في القلب ومنهكة للدين وتقرب من الغير " (3).
4 - وفيه أيضا: " وإن من أسخف حالات الولاة عند صالح الناس أن يظن
بهم حب الفخر ويوضع أمرهم على الكبر، وقد كرهت أن يكون جال في ظنكم إني
أحب الإطراء واستماع الثناء، ولست - بحمد الله - كذلك، ولو كنت أحب أن يقال

(1) أصول الكافي: 1، 406.
(2) نهج البلاغة، عبده: 3، 31؛ صالح: 383، الكتاب 27.
(3) نهج البلاغة، عبده: 3، 93؛ صالح: 427، الكتاب 53.
414

ذلك لتركته انحطاطا لله - سبحانه - عن تناول ما هو أحق به من العظمة والكبرياء،
وربما استحلى الناس الثناء بعد البلاء فلا تثنوا علي بجميل ثناء لاخراجي نفسي
إلى الله وإليكم من التقية في حقوق لم أفرغ من أدائها وفرائض لابد من إمضائها،
فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل
البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالا في حق قيل لي ولا
التماس إعظام لنفسي، فإنه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه
كان العمل بهما أثقل عليه، فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل، فإني لست في
نفسي بفوق أن أخطئ ولا آمن ذلك من فعلي إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو
أملك به مني فإنما أنا وأنتم عبيد مملوكون لرب لا رب غيره، يملك منا ما لا نملك
من أنفسنا " (1) وغير ذلك من الروايات.
سيرة الإمام مع الأعداء:
1 - عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " إن رسول الله أتى باليهودية التي سمت الشاة
للنبي (صلى الله عليه وآله) فقال لها: ما حملك على ما صنعت؟ فقالت: قلت: إن كان نبيا لم يضره
وإن كان ملكا أرحت الناس منه. قال؛ فعفا رسول الله (صلى الله عليه وآله) عنها " (2).
2 - سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في فتح مكة ومعاملته مع رؤساء الكفار والمشركين
بعدما غلب عليهم، من أهم الوقائع التي ترشدنا إلى ما ينبغي أن يكون عليه إمام
المسلمين من سعة الصدر وكثرة الإغماض والعفو في قبال الأعداء بعد أن أظفره
الله عليهم (3).

(1) نهج البلاغة، عبده: 2، 226، صالح: 334، الخطبة 216.
(2) أصول الكافي: 2، 108.
(3) راجع سيرة ابن هشام: 4، 46 و 55، والكامل لابن الأثير: 2، 245 و 251 و 252.
415

وقد كان رؤساء مكة حاربوه في غزوات كثيرة وقتلوا المسلمين، فعفا عنهم
ولم ينتقم حتى من قاتل عمه حمزة ومن هند آكلة الأكباد (1).
وعفا عن مالك بن عوف النصري، وهو الذي جمع الجموع في حنين ضد
رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكانوا ثلاثين ألفا (2).
ولا ينافي هذا أمثال قوله - تعالى -: (يا أيها النبي، جاهد الكفار والمنافقين
واغلظ عليهم) (3).
إذ موردها صورة المواجهة والتهاجم وإعدادهم القوى لذلك أو نقضهم
العهود مرة بعد مرة. ومورد العفو والرحمة صورة الانتصار والتسلط عليهم والأمن
من هجومهم وتوطئتهم.
3 - وفي الغرر والدرر: " جمال السياسة العدل في الإمرة والعفو مع
القدرة " (4).
وأمير المؤمنين (عليه السلام) عفا عن أصحاب الجمل، بعدما ظفر عليهم وفيهم
الرؤساء كمروان وعبد الله بن الزبير وأمثالهما وعلى رأسهم أم المؤمنين عائشة مع
ما سببوا لقتل كثير من المسلمين (5).
4 - وعن النوفلي، قال: كنت عند الصادق (عليه السلام) فإذا بمولى لعبد الله النجاشي
أوصل إليه كتابه وإذا أول سطر فيه: " بسم الله الرحمن الرحيم (إلى أن قال): إني
بليت بولاية الأهواز فإن رأى سيدي ومولاي أن يحد لي حدا أو يمثل لي مثالا...

(1) راجع الكامل لابن الأثير: 2 / 252؛ ونحوه في سيرة ابن هشام: 4 / 55.
(2) راجع سيرة زيني دحلان المطبوع بحاشية السيرة الحلبية: 2 / 306 ونحوه في سيرة ابن
هشام: 4 / 133.
(3) التحريم 66: 9.
(4) الغرر والدرر: 3، 375.
(5) راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 1، 23.
416

فأجابه أبو عبد الله (عليه السلام): بسم الله الرحمن الرحيم... واعلم أني سأشير عليك برأي إن
أنت عملت به تخلصت مما أنت متخوفه، واعلم أن خلاصك مما بك (ونجاتك) من
حقن الدماء وكف الأذى عن أولياء الله والرفق بالرعية، والتأني وحسن المعاشرة
مع لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف، ومداراة صاحبك، ومن يرد عليك من
رسله، وارتق فتق رعيتك بأن توقفهم على ما وافق الحق والعدل إن شاء الله. وإياك
والسعاة وأهل النمائم، فلا يلتزقن بك أحد منهم. ولا يراك الله يوما وليلة وأنت
تقبل منهم صرفا ولا عدلا فيسخط الله عليك " (1).
سيرة الإمام في مطعمه وملبسه وإعراضه عن الدنيا وزخارفها:
1 - ففي نهج البلاغة: " وكذلك من عظمت الدنيا في عينه وكبر موقعها في
قلبه آثرها على الله فانقطع إليها وصار عبدا لها. وقد كان في رسول الله (صلى الله عليه وآله) كاف
لك في الأسوة، ودليل لك على ذم الدنيا وعيبها، وكثرة مخازيها ومساويها، إذ
قبضت عنه أطرافها ووطئت لغيره أكنافها، وفطم عن رضاعها، وزوى عن
زخارفها...
فتأس بنبيك الأطيب الأطهر (صلى الله عليه وآله)... قضم الدنيا قضما، ولم يعرها طرفا،
أهضم أهل الدنيا كشحا، وأخمصهم من الدنيا بطنا، عرضت عليه الدنيا فأبى أن
يقبلها، وعلم أن الله - سبحانه - أبغض شيئا فأبغضه، وحقر شيئا فحقره، وصغر شيئا
فصغره...
ولقد كان (صلى الله عليه وآله) يأكل على الأرض، ويجلس جلسة العبد، ويخصف بيده نعله،
ويرقع بيده ثوبه، ويركب الحمار العاري ويردف خلفه و... لم يضع حجرا على
حجر حتى مضى سبيله...

(1) الوسائل: 12، 150 - 152.
417

والله لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها... " (1).
2 - وفي البحار عن العيص بن القاسم، قال: قلت للصادق جعفر بن
محمد (عليهما السلام): حديث يروى عن أبيك (عليه السلام) أنه قال: " ما شبع رسول الله (صلى الله عليه وآله) من خبز بر
قط " أهو صحيح؟ فقال: " لا، ما أكل رسول الله (صلى الله عليه وآله) خبز بر قط ولا شبع من خبز
شعير قط " (2).
3 - وفيه أيضا عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: " كان فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله) عباءة
وكانت مرفقته أدم حشوها ليف، فثنيت له ذات ليلة فلما أصبح قال: لقد منعني
الفراش الليلة الصلاة. فأمر (صلى الله عليه وآله) أن يجعل بطاق واحد " (3).
4 - وفيه أيضا عن جعفر، عن أبيه (عليهما السلام): " إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يورث دينارا
ولا درهما ولا عبدا ولا وليدة ولا شاة ولا بعيرا. ولقد قبض (صلى الله عليه وآله) وأن درعه مرهونة
عند يهودي من يهود المدينة بعشرين صاعا من شعير استلفها نفقة لأهله " (4).
5 - وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): " إن الله جعلني إماما لخلقه، ففرض علي
التقدير في نفسي ومطعمي ومشربي وملبسي كضعفاء الناس كي يقتدى الفقير
بفقري ولا يطغى الغني غناه " (5).
6 - وعن المفضل، قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) بالطواف، فنظر إلي وقال
لي: يا مفضل، ما لي أراك مهموما متغير اللون؟ قال: قلت له: جعلت فداك نظري
إلى بني العباس وما في أيديهم من هذا الملك والسلطان والجبروت، فلو كان ذلك

(1) نهج البلاغة، عبده: 2، 72؛ صالح: 226، الخطبة 160.
(2) بحار الأنوار: 16، 216.
(3) بحار الأنوار: 16، 217.
(4) بحار الأنوار: 16، 219.
(5) أصول الكافي: 1، 410.
418

لكم لكنا فيه معكم، فقال: " يا مفضل، أما لو كان ذلك لم يكن إلا سياسة الليل،
وسياحة النهار وأكل الجشب ولبس الخشن، شبه أمير المؤمنين، وإلا فالنار، فزوى
ذلك عنا فصرنا نأكل ونشرب. وهل رأيت ظلامة جعلها الله نعمة مثل هذا؟ " (1).
7 - وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): "... إن الله - عز وجل - فرض على أئمة العدل
أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كيلا يتبيغ بالفقير فقره " (2).
8 - وعنه (عليه السلام) أيضا: " ألا وإن لكل مأموم إماما يقتدى به ويستضئ بنور
علمه، ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه. ألا وإنكم لا
تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد. فوالله ما كنزت من
دنياكم تبرا ولا ادخرت من غنائمها وفرا، ولا أعددت لبالي ثوبي طمرا، ولا حزت
من أرضها شبرا... " (3).
9 - وعن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: " والله إن كان علي (عليه السلام) ليأكل أكل العبد،
ويجلس جلسة العبد، وإن كان ليشتري القميصين السنبلانيين فيخير غلامه
خيرهما، ثم يلبس الآخر، فإذا جاز أصابعه قطعه، وإذا جاز كعبه حذفه، ولقد ولى
خمس سنين ما وضع آجرة على آجرة ولا لبنة على لبنة، ولا أقطع قطيعا ولا
أورث بيضاء ولا حمراء، وإن كان ليطعم الناس خبز البر واللحم وينصرف إلى
منزله ويأكل خبز الشعير والزيت والخل، وما ورد عليه أمران كلاهما لله رضى إلا
أخذ بأشدهما على بدنه، ولقد أعتق ألف مملوك من كد يده وتربت فيه يداه وعرق
فيه وجهه، وما أطاق عمله أحد من الناس " (4).

(1) بحار الأنوار: 52، 359.
(2) أصول الكافي: 1، 410.
(3) نهج البلاغة، عبده: 3، 78؛ صالح: 416، الكتاب 45.
(4) الوسائل: 1، 66.
419

10 - وفي نهج البلاغة: " يا دنيا يا دنيا، إليك عني، أبي تعرضت؟ أم إلي
تشوقت؟ لا حان حينك، هيهات! غري غيري، لا حاجة لي فيك، قد طلقتك ثلاثا
لا رجعة فيها... " (1).
11 - وعن مجمع التيمي، قال: خرج علي بن أبي طالب بسيفه إلى السوق
فقال: " من يشتري مني سيفي هذا؟ فلو كان عندي أربعة دراهم أشتري بها إزارا ما
بعته " (2).
إلى غير ذلك من الروايات الواردة في هذا المجال.

(1) نهج البلاغة، عبده: 3، 166؛ صالح: 480، الحكمة 77.
(2) تاريخ ابن عساكر: 3، 189.
420

الفصل الخامس عشر
في إشارة إجمالية إلى اهتمام الإسلام بالقوة
العسكرية
الغرض من عقد هذا الفصل هو الإشارة إلى أن من وظائف الإمام أو
الحكومة الإسلامية إجمالا هو إعداد العدة والعدة بقدر الكفاية، فنقول:
دفاع الإنسان عن نفسه وعما يتعلق به أمر يحكم بحسنه وضرورته العقل
والفطرة. بل الحيوانات أيضا مفطورة على ذلك. والله - تعالى - أودع في بناء روح
الإنسان قوة الغضب لينبعث قهرا إلى الدفاع عن نفسه، فكما يحتاج الفرد إلى
الدفاع عن منافعه ومصالحه، فكذلك الأمة تحتاج إلى القوة العسكرية الراقية.
ولكن الجنود والأجهزة العسكرية يجب أن تجعل في خدمة الشعب والدين
الحق لا في خدمة الأشخاص، ولا وسيلة للتجاوز على الحقوق والتسلط على
البلاد والعباد بالظلم والفساد.
قال الله - تعالى -: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل
ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم، الله يعلمهم. وما
تنفقوا من شئ في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون) (1).

(1) الأنفال 8: 60.
421

فالآية الشريفة تتضمن نكات:
أ - ضرورة القوة العسكرية، حيث إن المجتمع الإنساني يتألف من أفراد
وأقوام مختلفين في الطباع والأفكار والأهواء، ويوجد بينهم التضاد في المنافع
فلولا إعداد القوة لتجرأ الطرف على الهجوم والغلبة.
ب - والواجب هو إعداد القوة بمفهومها الوسيع، وهي كل ما يتقوى به على
حفظ النظام والدفاع عنه من أنواع الأسلحة الراقية وإحداث الجامعات والمعاهد
الحربية وتربية الرجال الأخصائيين حسب اقتضاء الأحوال والظروف.
ج - الآية تخاطب الأمة لا النبي (صلى الله عليه وآله) أو إمام المسلمين فقط، فتشعر بأن هذه
الوظيفة على عاتق كل فرد من آحاد المسلمين على حد استطاعته؛ وإن كان
التصدي لبعض شؤونها من وظائف الحكومة.
د - إن إعداد القوة ليس لإشعال نار الحرب، بل الغرض إرهاب العدو
الموجود أو المحتمل وإخافته جدا.
ه‍ - إن العدو لا ينحصر فيمن يعلم عداوته، بل لعل بعض من يظنه الإنسان
سلما مواليا، يكون بحسب الواقع من ألد الأعداء، ولعل التهيؤ في قبالهم يحتاج
إلى مؤونة أكثر.
و - إن إعداد القوة يتوقف على نفقات كثيرة لا يتمكن منها إلا بالتعاون
الاجتماعي وتطوع الجميع. وإطلاق قوله - تعالى -: (وما تنفقوا من شئ) يشمل
إنفاق الأموال والنفوس وغيرهما.
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "... ألا إن الله - عز وجل - ليدخل بالسهم الواحد
الثلاثة الجنة: عامل الخشبة، والمقوي به في سبيل الله، والرامي به في سبيل
الله " (1).

(1) الوسائل: 11، 107.
422

وعن الصادق (عليه السلام): " إن الملائكة لتنفر عند الرهان وتلعن صاحبه ما خلا
الحافر والخف والريش والنصل، وقد سابق رسول الله (صلى الله عليه وآله) أسامة بن زيد وأجرى
الخيل " (1).
أقول: من تسويغ الإسلام للرهان والسبق في الخيل والخف والرمي بل
ترغيبه فيه مع تحريمه الرهان في غير ذلك يعلم مقدار اهتمام الإسلام بتدرب
المسلمين في فنون الحرب.
والإسلام بإيجابه الجهاد على المسلمين جعل المسلمين بأجمعهم جندا
واحدا للإسلام. ومن أحسن الجيوش وأنجحها الجيوش المتطوعة المقبلون إلى
الجهاد والدفاع محتسبين به الله - تعالى - بالايمان والاخلاص، حيث إن سلاح
الايمان من أقوى الأسلحة وأقطعها.
ويظهر اهتمام الإسلام بأمر الجند من وصية أمير المؤمنين في كتابه (عليه السلام)
لمالك الأشتر فقال: " فالجنود - بإذن الله - حصون الرعية، وزين الولاة، وعز
الدين، وسبل الأمن، وليس تقوم الرعية إلا بهم.
ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به على
جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيما يصلحهم، ويكون من وراء حاجتهم...
فول من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك، وأنقاهم جيبا،
وأفضلهم حلما ممن يبطئ عن الغضب ويستريح إلى العذر، ويرأف بالضعفاء وينبو
على الأقوياء، وممن لا يثيره العنف ولا يقعد به الضعف... " (2).

(1) الوسائل: 13، 347.
(2) نهج البلاغة، عبده: 3، 100؛ صالح: 432، الكتاب 53.
423

الفصل السادس عشر
في السياسة الخارجية للإسلام
وفيها جهات من البحث نتعرض لها إجمالا:
الأولى - في أن الإسلام يدعو إلى الحق والعدالة:
قد فطر الله - تعالى - آدم وذريته على الحق والعدل وأودع فيهم العقول
الحاكمة بهما، ولكن النفس أمارة بالسوء وشياطين الجن والإنس حرصاء على
اغوائهم، فاحتاجوا إلى عقول منفصلة، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين
يستأدوهم ميثاق الفطرة ويثيروا لهم دفائن العقول حتى أتى النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله)
بدين الإسلام لجميع البشر إلى يوم القيامة. وقد مر منا أن الإسلام نظام كافل شامل
لجميع ما يحتاج إليه الإنسان في شؤونه الفردية والاجتماعية، وما يجب أو ينبغي
عليه في علاقته مع سائر الأمم، من أسلم أو لم يسلم، وأنه دين حق وعدالة يدعو
إلى الحق والعدالة:
1 - قال الله - تعالى -: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب
والميزان ليقوم الناس بالقسط) (1).

(1) الحديد 57: 25.
424

2 - وقال: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن
الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) (1).
3 - وقال: (قل أمر ربي بالقسط) (2).
4 - وقد أمر الله - تعالى - نبينا بالدعوة إلى الحق والتبليغ له، فقال: (ادع إلى
سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن، إن ربك هو
أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) (3).
فهو (صلى الله عليه وآله) صرف ليله ونهاره وجميع قواه في دعوة الأمة وهدايتهم حتى كاد
أن يبخع نفسه على آثارهم، وبعث رسله وسفرائه إلى القبائل وراسل الملوك من
غير العرب وفي خارج الجزيرة ودعاهم إلى قبول الإسلام والتسليم له (صلى الله عليه وآله) هم
وأممهم.
فلنذكر بعض كتبه (صلى الله عليه وآله) تأييدا لما ذكر:
1 - كتابه (صلى الله عليه وآله) إلى النجاشي ملك الحبشة:
" بسم الله الرحمن الرحيم.
من محمد رسول الله إلى النجاشي عظيم الحبشة. سلام على من اتبع الهدى.
أما بعد. فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو... وإني أدعوك إلى الله وحده لا
شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني وتوقن بالذي جاءني، فإني رسول
الله " (4).
2 - كتابه (صلى الله عليه وآله) إلى هرقل عظيم الروم:

(1) النحل 16: 90.
(2) الأعراف 7: 29.
(3) النحل 16: 125.
(4) الوثائق السياسية: 100.
425

" بسم الله الرحمن الرحيم.
من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم. سلام على من اتبع
الهدى. أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك
مرتين، فإن توليت فعليك إثم الاريسيين " (1).
3 - كتابه (صلى الله عليه وآله) إلى ابرويز عظيم فارس:
" بسم الله الرحمن الرحيم.
من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس. سلام على من اتبع الهدى،
وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده
ورسوله. وأدعوك بدعاء الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيا
ويحق القول على الكافرين. فأسلم تسلم، فإن أبيت فإن إثم المجوس عليك " (2).
وقد اتبعت الأمة إجمالا النبي (صلى الله عليه وآله) في الدعوة وبسط العدل وإقامة المعروف
وإرشاد الجاهل ودفع الظلم عن المظلوم فلا يسمح لأحد من المسلمين السكوت
في قبال الطغاة والظالمين، فقوله - تعالى -: (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله
والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه
القرية الظالم أهلها...) (3). مشعر بأن لزوم القتال في سبيل بسط التوحيد والدفاع
عن المستضعفين أمر يحكم به العقل والفطرة، فوبخهم الله - تعالى - على تركه.
وكثير من الناس يغلب عليهم الاعتداء ولا يقيمهم على الحق والعدالة إلا القوة
والسيف.
ولا يجوز قتال أحد من الكفار إلا بعد دعائهم إلى الإسلام والالتزام

(1) الوثائق السياسية: 109.
(2) الوثائق السياسية: 140.
(3) النساء 4: 75.
426

بشرائعه. والناس بفطرتهم متمايلون إلى دين الحق، فلو وقفت أمام عرضه عليهم
السلطات الكافرة أو الظالمة كما هو المشاهد غالبا في المجتمعات، وجب قتالها
ورفع شرها عن الأمم. فالجهاد في الإسلام للدفاع عن التوحيد وعن حقوق
المسلمين ولبسط العدالة، لا السلطة على البلاد والعباد على ما هو دأب
المستعمرين (1).

(1) الأصل في الإسلام أن يعيش المسلم مع غيره بالسلم وأن يدعو إلى العلاقات السلمية، قال
الله - تعالى -: (والصلح خير) (النساء 4: 128) لأن هذا الفضاء الهادئ صالح للدعوة إلى
الإسلام والنيل إلى أهدافه، فإن الإسلام دين المنطق والبرهان، قال الله - تعالى -: (أدع إلى
سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) (النحل 16: 125).
نعم جوز الإسلام الحرب والقتال في صورتين طبقا لحكم العقل أيضا:
1 - إذا وقف السلطات الظالمة والكافرة أمام دعوته إلى الحق والعدالة وأرادوا محو
الإسلام والداعين إليه، فأوجب على المسلمين القتال والدفاع عن دينهم وأنفسهم وما يتعلق
بهم بقدر الضرورة كما يحكم به العقل أيضا.
2 - إذا هجم عليهم الكفار وغيرهم للسلطة عليهم ولإمحاء أرضية طلب الحق والعدالة
من دون أن يتعرضهم المسلمون ويدعوهم إلى الإسلام، ففي هذه الصورة أيضا يجب القتال
والدفاع شرعا وعقلا.
وأما الغزو وتسيير الجيش للسلطة على البلاد والعباد وثرواتها فمردود في الإسلام أشد
الرد، وما روجه المخالفون من أن الإسلام دين السيف لا البرهان، ادعاء محض لا دليل له.
فليعلم أنه كان دأب المستعمرين المسيطرين في سالف الزمان حتى الحرب العالمية
الثانية تسيير الجيش لفتح البلاد والسلطة عليها، ولكن بعد الحرب العالمية الثانية غيروا
أسلوبهم واستمروا على دأبهم بشكل جديد يسمى بالاستعمار الجديد.
في هذا الأسلوب هجموا على البلاد المتأخرة وسلطوا عليها طي مراحل نشير إليها
باختصار:
أ - إيقافهم عن الرقي في المجالات المختلفة الاقتصادية والعلمية والتقنينية والصناعية
بإيجاد أنواع الحصار والمنع.
ب - جعلهم بحيث يطلبون منهم قضاء حوائجهم الضرورية في هذه المجالات.
ج - إجابتهم بعد أن جعلوهم منحازين إليهم بالمواثيق المؤكدة.
د - السلطة عليهم. وفي هذه المرحلة يرتفعوا حوائجهم إلى حد لا يقدروا أن ينافسوهم
في هذه المجالات.
وفي هذه المسيرة كانوا يحملون ثقافتهم على البلاد المتأخرة أيضا لئلا يمكن لهم
الرجوع إلى أنفسهم إلا أن يتحملوا مؤونات كثيرة وخسارات لا تتحمل عادة.
والبلاد الإسلامية أيضا تكون من البلاد المتأخرة المبتلية بهذا الداء منذ أواسط القرن
العشرين، فنرى البلاد الكافرة وثقافتهم في عقر دارنا ومع الأسف لا نقدر على دفعهم
والدفاع عن القيم الإسلامية والإنسانية مع أن ذلك واجب علينا - م -.
427

الثانية - في أن المسلمين بأجمعهم أمة واحدة:
العناصر التي تحقق مفهوم الأمة الواحدة خارجا هي الأرض والجنسية
واللغة واللون والمصلحة المشتركة والفكر والعقيدة، ولا شك أن لكل من هذه تأثيرا
في تحقيق الوحدة بين الأفراد، ولكنه من الواضح أن إنسانية الإنسان وكرامته
بعقله وفكره وآرائه، فلو فرضنا إنسانين اشتركا في جميع العناصر إلا في العقيدة
والفكر، نراهما كل يوم يتشاجران ولا يوجد بينهما العلاقة، وبالعكس؛ لو فرضنا
إنسانين اختلفا في جميع العناصر ولكنهما اتفقا في العقائد والآراء، نراهما
متحابين كأنهما روح واحد في جسدين.
ولأجل ذلك ترى الإسلام يحكم بوحدة الأمة الإسلامية وأخوة المؤمنين
بما هم مؤمنون.
1 - قال الله - تعالى -: (إنما المؤمنون اخوة) (1).
2 - وقال: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) (2). بناء على كون

(1) الحجرات 49: 10.
(2) الأنبياء 21: 92.
428

الأمة بمعنى الجماعة، لا بمعنى الدين والملة كما قيل.
3 - وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): " المؤمنون إخوة تتكافئ دماؤهم، وهم يد على
من سواهم؛ يسعى بذمتهم أدناهم " (1).
4 - وعنه (صلى الله عليه وآله) أيضا: " مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل
الجسد، إذا اشتكى منه شئ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " (2). وغير ذلك
من الآيات والروايات.
فالمسلمون لو خلوا وفطرتهم ووظيفتهم الإسلامية فكلهم أمة واحدة، ومن
الواجب أن يحكم عليهم وعلى بلادهم حكم واحد وتسوسهم سياسة واحدة،
ولكن أعداء الإسلام ألقوا بينهم التعصبات الباطلة والخلافات العنصرية المادية.
ومزقوهم بذلك كل ممزق وأشعلوا بينهم نيران الفتنة، وتسلطوا على بلادهم
وثقافتهم وذخائرهم، فيفرض على جميع المسلمين في شتى البلاد أقاصيها
وأدانيها، السعي في توحيد كلمتهم ورفع الفقر والاستضعاف والظلم وشر الأعداء
الخارجين والداخلين عنهم وعن بلادهم.
الثالثة - في النهي عن تولي الكفار واتخاذهم بطانة:
قد اهتم الإسلام باستقلال المسلمين ومجدهم وعزهم وأن لا يستولي
عليهم الكفار أو يستغلوهم أو يجدوا عليهم سبيلا، وذلك لأن الكفر ملة واحدة
يعاند الإسلام، والكافرون (3) بأجمعهم أعداء للمسلمين. والعدو همه المعاداة

(1) الكافي: 1، 404.
(2) مسند أحمد: 4، 270.
(3) الظاهر أن مراد الأستاذ بالكافر كل من لم يتدين بدين الإسلام، ولكن ليس كل من كان
كذلك بعدو، ولا يحكم بوجود العداوة في الواقع الخارجي إلا بعد أن يعرض العداوة في
العمل. فمن يجمد أموالنا أو يعين الذين يحاربونا في الحرب أو يضر بمصالحنا المختلفة أو
يمنعنا من استيراد التكنولوجيا المتطورة مثلا يكون عدوا وحينئذ لا فرق بين أن يكون
مسلما أو كافرا بالمعنى المراد.
وعلى هذا لا بأس بإيجاد العلاقات الطيبة السياسية أو الاقتصادية مع الذين لم يظهروا لنا
عداوتهم وإن كانوا كفارا، على أساس احترام متبادل وحسن الجوار وتساوي الحقوق كما
قال الله - تعالى -: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم
أن تبروهم وتقسطوا إليهم...) (الممتحنة 60: 7 - 8).
429

والاضرار بخصيمه علنا أو سرا ولو تحت ستار التظاهر بالصداقة والتعطف وباسم
العمران والحماية.
قال الله - تعالى -: (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن
ينزل عليكم من خير من ربكم) (1).
ولأجل ذلك فرض الله تعالى على الأمة الإسلامية أن تتجهز دائما بأنواع
أجهزة الدفاع وشدد في النهي عن تولي الكفار واتخاذهم بطانة:
قال الله - تعالى -: (يا أيها الذين آمنوا، لا تتخذوا بطانة من دونكم، لا
يألونكم خبالا ودوا ما عنتم، قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم
أكبر...) (2).
وقال: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون
المؤمنين...) (3).
وقال: (يا أيها الذين آمنوا، لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم
بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق...) (4).

(1) البقرة 2: 105.
(2) آل عمران 3: 118.
(3) النساء 4: 144.
(4) الممتحنة 60: 1.
430

وقال: (يا أيها الذين آمنوا ان تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم
فتنقلبوا خاسرين) (1).
فتأمل في هذه الآيات الشريفة وانظر كيف بلي المسلمون في أعصارنا
بولاة وحكام مرضى القلوب حطموا شخصيات أنفسهم وجعلوا بلادهم وثقافتهم
وذخائرهم وإمكاناتهم المتنوعة تحت سيطرة الكفار والصهاينة، معتذرين
بالخشية من أن تصيبهم دائرة!.
الرابعة - في مداراة الكفار وحفظ حقوقهم وحرمتهم:
قد ظهر بما مر أن كيان الإسلام ومجد المسلمين يستدعيان الحفاظ على
الاستقلال في الثقافة والسياسة والاقتصاد، والحذر من وقوعهم في حبائل الكفر.
ولكن نقول: إن ذلك كله لا ينافي مداراة الكفار ودعوتهم إلى الحق، بل
والبر والإحسان إليهم وتأليفهم كيما يرغبوا في الإسلام، بل وإيجاد العلاقات
السياسية والاقتصادية معهم إذا كان صلاحا للإسلام والمسلمين مع رعاية
الاحتياط.
قال الله - تعالى - بعد الأمر بقتال الكفار: (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم
وبينهم ميثاق أو جاؤوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم، ولو
شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم...) (2).
وقال: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من
دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن
الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن

(1) آل عمران 3: 149.
(2) النساء 4: 90.
431

تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) (1).
وقد عاهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) مشركي مكة ويهود المدينة ونصارى نجران
وغيرهم، وكان يعاشرهم ويعاملهم بالآداب والأخلاق الحسنة.
فعنه (صلى الله عليه وآله): " ألا من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا
بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة " (2).
وقد بلغ احترام الإسلام للذمي حدا يسمح له أن يخاصم إمام المسلمين
ويطالبه بالبينة لدعواه، كما اتفق ذلك في قصة درع أمير المؤمنين (عليه السلام) ومخاصمته
في عصر خلافته مع رجل من اليهود عند شريح القاضي (3).
وترى النبي (صلى الله عليه وآله) يحترم بنفسه أموات أهل الذمة ويأمرنا بذلك أيضا كما ورد
في الحديث (4).
وقد وجد اليهود والنصارى والمجوس في ظل الحكومات الإسلامية من
كرامة العيش والحرمة في جميع مجالات الحياة؛ من السياسة والاقتصاد والحرية
في اكتساب العلوم والصنائع ما لم يجدوه في ظل الحكومات المسيحية وغيرها،
بل ترى هذه الدول يستعبدون اليهود ويذلونهم كما شهد به التاريخ.
الخامسة - في الأمان والهدنة:
أما الأمان فالمراد به أن يعطي الإمام أو نائبه، أو فرد من المسلمين ولو كان
من أدناهم الذمام والأمان لفرد أو فئة من الكفار المقاتلين.
1 - قال الله - تعالى -: (وان أحد من المشركين استجارك فأجره حتى

(1) الممتحنة 60: 8 و 9.
(2) سنن أبي داود: 2، 152.
(3) بحار الأنوار: 41، 56.
(4) صحيح البخاري: 1، 228.
432

يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه) (1).
2 - وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): " المسلمون اخوة، تتكافئ دماؤهم ويسعى
بذمتهم أدناهم " (2).
3 - وروى السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلت له: ما معنى قول
النبي (صلى الله عليه وآله): يسعى بذمتهم أدناهم؟ قال: لو أن جيشا من المسلمين حاصروا قوما من
المشركين فأشرف رجل فقال: أعطوني الأمان حتى ألقى صاحبكم وأناظره،
فأعطاه أدناهم الأمان وجب على أفضلهم الوفاء به " (3).
قال الشيخ: " عقد الأمان جائز للمشركين... فإذا ثبت جوازه نظر، فإن كان
العاقد الإمام جاز أن يعقده لأهل الشرك كلهم... وإن كان العاقد خليفة الإمام على
إقليم فإنه يجوز أن يعقد لمن يليه من الكفار دون جميعهم... وإن كان العاقد آحاد
المسلمين جاز أن يعقد لآحادهم والواحد والعشرة... " (4).
وأما الهدنة فالمراد بها ما يعقده الإمام أو نائبه مع المقاتلين من ترك القتال
في مدة مع العوض أو بلا عوض على ما يراه من مصلحة الإسلام والمسلمين.
قال الله - تعالى -: (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا
ولم يظاهروا عليكم أحدا، فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم، إن الله يحب
المتقين) (5).
وقال: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها، وتوكل على الله، إنه هو السميع

(1) التوبة 9: 6.
(2) الكافي: 1، 403.
(3) الوسائل 11، 49.
(4) المبسوط: 2، 14.
(5) التوبة 9: 7.
433

العليم) (1).
وقال الشيخ: " الهدنة والمعاهدة واحدة، وهو وضع القتال وترك الحرب إلى
مدة من غير عوض. وذلك جائز، لقوله - تعالى -: (وان جنحوا للسلم فاجنح
لها...) ولأن النبي (صلى الله عليه وآله) صالح قريشا عام الحديبية على ترك القتال عشر
سنين... " (2).
وفي التذكرة:
" يشترط في صحة عقد الذمة أمور أربعة:
الأول: أن يتولاه الإمام أو من يأذن له، لأنه من الأمور العظام...
الثاني: أن يكون للمسلمين إليه حاجة ومصلحة...
والثالث: أن يخلو العقد من شرط فاسد...
الرابع: المدة، ويجب ذكر المدة التي يهادنهم عليها " (3).
أقول: هذا بحث إجمالي عن مسألتي الأمان والهدنة، ومحل بحثهما
التفصيلي كتاب الجهاد.
السادسة - في وجوب الوفاء بالعهد وحرمة الغدر ولو مع الكفار:
إذا عاهدت الحكومة الإسلامية أو أمتها دولة أو فردا من الكفار، أو مؤسسة
تجارية أو خدماتية لهم، واستحكم العقد بينهما وجب الوفاء به ولا يجوز نقضه
بوجه إلا مع تخلف الطرف ونقضه.
ويدل على ذلك العقل والشرع:

(1) الأنفال 8: 61.
(2) المبسوط: 2، 50.
(3) التذكرة: 1، 447.
434

قال الله - تعالى - في سورة المائدة: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) (1).
وعد الله - تعالى - من صفات المؤمنين وخواصهم رعاية العهد:
فقال: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) (2). وغير ذلك من الآيات.
وإطلاقها يشمل معاهدات المسلمين مع الكفار أيضا، مضافا إلى التصريح
بها في بعض الآيات الشريفة كقوله - تعالى -: (إلا الذين عاهدتم من المشركين...
فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم...) (3).
وعن عبد الله بن سليمان، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: " ما من رجل أمن
رجلا على ذمة (على دمه خ. ل) ثم قتله إلا جاء يوم القيامة يحمل لواء الغدر " (4).
وعن الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك: " وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة أو
ألبسته منك ذمة فحط عهدك بالوفاء، وارع ذمتك بالأمانة، واجعل نفسك جنة دون
ما أعطيت، فإنه ليس من فرائض الله شئ الناس أشد عليه اجتماعا مع تفرق
أهوائهم وتشتت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود... فلا تغدرن بذمتك ولا تخيسن
بعهدك ولا تختلن عدوك " (5).
فهذه سياسة الإسلام المبنية على أساس الصدق والوفاء بالعهود والذمم ولو
كانت مع الأعداء وأعقب الوفاء بها ضيقا وشدة، فلا مدالسة ولا خداع ولو مع
الأعداء؛ فإن الوفاء بالعهد أمر فطري تستحسنه عقول جميع الناس، فيجب على
الحكومة الإسلامية والأمة المسلمة الالتزام بالعهود والمواثيق ولو فرض كونه

(1) المائدة 5: 1.
(2) المؤمنين 23: 8.
(3) التوبة 9: 4.
(4) الوسائل: 11، 50.
(5) نهج البلاغة، عبده: 3، 117؛ صالح: 442، الكتاب 53.
435

بضررهم وكان الطرف كافرا؛ نعم إذا غدر ونقض العهد ارتفعت حرمته ويجوز
نقض عهده.
وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) في سيرته يلتزم بمعاهداته ما لم يخن صاحبه؛ ففي
الحديبية بعدما تم عقد الصلح بينه (صلى الله عليه وآله) وبين سهيل بن عمرو من قبل المشركين
وفيه أنه " من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم " جاء أبو جندل
فجعل سهيل يجره ليرده إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته يا
معشر المسلمين، أأرد إلى المشركين يفتنوني في ديني؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " يا أبا
جندل، اصبر واحتسب، فان الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا
ومخرجا. إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد
الله، وإنا لا نغدر بهم " (1).
ولرسول الله (صلى الله عليه وآله) معاهدات أخرى مع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم نشير
إلى عناوين بعضها:
1 - عهد كتبه (صلى الله عليه وآله) بين أهل المدينة بعدما ورد يثرب - المدينة - (2).
2 - عهد أمان منه (صلى الله عليه وآله) ليهود بني عاديا من تيماء (3).
3 - معاهدته مع أهل أيلة (4).
4 - معاهدته مع نصارى نجران (5).

(1) راجع سيرة ابن هشام: 3، 332.
(2) سيرة ابن هشام: 2، 147 - 150، الأموال: 260 - 264، الوثائق السياسية: 59 - 62.
(3) الوثائق السياسية: 98.
(4) الوثائق السياسية: 117.
(5) الوثائق السياسية: 175 - 176، وراجع أيضا فتوح البلدان: 76، والأموال: 244.
436

السابعة - في الحصانة السياسية للسفراء وحكم الجاسوس:
للسفراء والرسل حصانة سياسية واحترام، بحيث يجترئ أحدهم أن يبلغ
رسالته ويبرز عقائده المخالفة بجد وصراحة من دون أن يعرضه خوف أو يلحقه
ضرر.
فعن جعفر بن محمد، عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " لا
يقتل الرسل ولا الرهن " (1).
وعن أبي رافع، قال: بعثتني قريش إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلما رأيت رسول
الله (صلى الله عليه وآله) ألقى في قلبي الإسلام، فقلت: يا رسول الله، إني والله لا أرجع إليهم أبدا،
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " إني لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد، ولكن ارجع فإن كان
في نفسك الذي في نفسك الآن فارجع ". قال: فذهبت ثم أتيت النبي (صلى الله عليه وآله)
فأسلمت (2).
ولعل كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله) ناظر إلى أمر ارتكازي تحكم به الفطرة، ولذلك
ترى استقرار سيرة العقلاء على الاهتمام بأمر السفراء والرسل وحصانتهم.
حكم جاسوس العدو:
من المسائل المبتلى بها للدول، استخبارات العدو وجواسيسه الداخلية
والخارجية النافذة في المجتمعات والدوائر والجنود ومراكز التصميم. ولعل قوله
- تعالى -: (وآخرين من دونهم لا تعلمونهم، الله يعلمهم) (3). ناظر إلى الطابور
الخامس الذي يستخدمه العدو للاطلاع على إمكانات المسلمين وروحياتهم.
فلنذكر بعض الروايات:

(1) الوسائل: 11، 90.
(2) سنن أبي داود: 2، 75.
(3) الأنفال 8: 63.
437

1 - لما أجمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) المسير إلى مكة كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابا
إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثم أعطاه امرأة وجعل لها
جعلا على أن تبلغه قريشا... وأتى رسول الله الخبر من السماء... فدعا حاطبا
فقال: يا حاطب، ما حملك على هذا؟ فقال: يا رسول الله، أما والله إني لمؤمن بالله
ورسوله ولكن لي بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم عليهم. فقال عمر بن الخطاب:
يا رسول الله، دعني فلأضرب عنقه فإن الرجل قد نافق، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): وما
يدريك يا عمر، لعل الله قد اطلع إلى أصحاب بدر يوم بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد
غفرت لكم... " (1).
ورسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يردع عمر عما اعتقده من جواز قتل المنافق الجاسوس،
بل جعل سابقة حاطب في الإسلام وفي بدر مبررا للعفو عنه.
2 - وفي المغازي: " فلما نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ببقعاء أصاب عينا للمشركين...
فدعاه رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى الإسلام فأبى، فقال عمر: يا رسول الله أضرب عنقه.
فقدمه رسول الله (صلى الله عليه وآله) فضرب عنقه " (2).
3 - وعن سلمة بن الأكوع، قال: أتى النبي (صلى الله عليه وآله) عين من المشركين وهو في
سفر، فجلس عند أصحابه ثم انسل، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): " اطلبوه فاقتلوه "، قال:
فسبقتهم إليه فقتلته وأخذت سلبه فنفلني إياه (3).
4 - وفي إرشاد المفيد: " فلما بلغ معاوية بن أبي سفيان وفاة أمير
المؤمنين (عليه السلام) وبيعة الناس ابنه الحسن (عليه السلام) دس رجلا من حمير إلى الكوفة ورجلا

(1) سيرة ابن هشام: 4، 39 - 41 ملخصا، وراجع أيضا تفسير علي بن إبراهيم: 2، 361،
ومجمع البيان: 5، 269، وصحيح البخاري: 2، 170.
(2) المغازي: 1، 406.
(3) سنن أبي داود: 2، 45.
438

من بني القين إلى البصرة ليكتبا إليه الأخبار ويفسدا على الحسن (عليه السلام) الأمور،
فعرف ذلك الحسن (عليه السلام) فأمر باستخراج الحميري من عند لحام (حجام خ. ل)
بالكوفة فأخرج وأمر بضرب عنقه، وكتب إلى البصرة باستخراج القيني من بني
سليم، فأخرج وضربت عنقه.
أقول: فالظاهر أن استحقاق الجواسيس للقتل كان أمرا واضحا في عصر
النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) وإن كان قد يعفى عنهم لجهات مبررة (1).
والحاصل: إن حفظ النظام الذي هو من أهم الفرائض يتوقف على سياسة
الحزم مع جواسيس الأعداء، كما يتوقف على بعث العيون ليستخبروا مكائد العدو
وقراراته.

(1) الظاهر من مجموع الأدلة أن حكم الجاسوس - سواء كان مسلما أو غير مسلم - لم يكن من
الأحكام الثابتة، بل يتغير بحسب الأحوال والظروف فهو موكول إلى تشخيص من إليه
الحكم فإن الأمور التي يتجسس فيها الجاسوس مختلفة في الأهمية، فرب أمر يرتبط بكيان
الدولة الحقة ورب أمر لا يبلغ بهذه الدرجة من الأهمية فالحاكم يرى في كل مورد ما يناسبه
من العقوبة - م -.
439

الباب السابع:
في البحث عن المنابع المالية
للدولة الإسلامية
وفيه فصول:
441

الفصل الأول
في الزكاة والصدقات
وفيه جهات من البحث:
الأولى: في بيان مفهوم الزكاة والصدقة:
ففي معجم مقاييس اللغة: " الزاي والكاف والحرف المعتل أصل يدل على
نماء وزيادة. ويقال: الطهارة.
أقول: ومن النماء ظاهرا قوله (عليه السلام): " المال تنقصه النفقة، والعلم يزكو على
الإنفاق " (1). ومن الطهارة قوله - تعالى -: (ذلكم أزكى لكم وأطهر) (2) و (قد أفلح
من زكاها) (3).
والزكاة المصطلحة يمكن أخذها من كل من المعنيين، إذ بها نمو المال
وطهارته وطهارة صاحبه. وهي عبارة عن: " قدر مخصوص يطلب إخراجه من
المال بشروط خاصة "، أو غير ذلك مما قيل في تعريفها.

(1) نهج البلاغة، عبده: 3، 187؛ صالح: 496، الحكمة 147.
(2) البقرة 2: 232.
(3) الشمس 91: 9.
443

وأما الصدقة فقال الراغب: " والصدقة ما يخرجه الإنسان من ماله على
وجه القربة كالزكاة، لكن الصدقة في الأصل يقال للمتطوع به والزكاة للواجب،
وقد يسمى الواجب صدقة إذا تحرى صاحبها الصدق في فعله، قال: " خذ من
أموالهم صدقة ".
أقول: كأن الصدقة مأخوذة من الصدق سواء كان لها تقدير خاص أم لا،
وسواء كانت فرضا أو نفلا.
وأما الزكاة فهي حق مالي مقدر في مال خاص أو على فرد خاص، فتشمل
زكاة المال والفطرة والزكوات الواجبة والمستحبة، بل لعلها تشمل الخمس
المصطلح أيضا.
ولو سلم كونها قسيما للخمس المصطلح فالظاهر إنها ذكرت في الآيات
الشريفة من باب المثال، فيراد بها الحث على الواجبات البدنية والمالية معا.
وليست الزكاة من مخترعات الإسلام بل كانت ثابتة في الشرائع السالفة
أيضا مثل الصلاة؛ فالقرآن يذكر الأنبياء السالفين فيقول: (وجعلناهم أئمة يهدون
بأمرنا، وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة) (1).
وهذا أيضا يؤيد كون المراد بالزكاة كل حق مالي مقدر، ولا محالة يختلف
مقدارا وموردا بحسب الشرائع والأصقاع والأزمنة.
الثانية: في بيان ما فيه الزكاة إجمالا:
روايات الفريقين في هذا الأمر وفتاواهما مختلفة فلنذكر نماذج منها:
قال السيد المرتضى: " ومما ظن انفراد الإمامية به القول بأن الزكاة لا تجب
إلا في تسعة أصناف: الدنانير والدراهم، والحنطة والشعير والتمر والزبيب، والإبل

(1) الأنبياء 21: 73.
444

والبقر والغنم، ولا زكاة فيما عدا ذلك، وباقي الفقهاء يخالفونهم في ذلك. وحكى
عن ابن أبي ليلى والثوري وابن حي إنه ليس في شئ من المزروع زكاة إلا
الحنطة والشعير والتمر والزبيب، وهذه موافقة للإمامية. وأبو حنيفة وزفر يوجبون
العشر في جميع ما أنبتت الأرض إلا فيما له ثمرة باقية ولا شئ في الخضروات.
وقال مالك: الحبوب كلها فيها الزكاة وفي الزيتون. وقال الشافعي: إنما يجب فيما
يبس ويقتات ويدخر مأكولا، ولا شئ في الزيتون " (1).
وفي الفقه على المذاهب الأربعة:
" الأنواع التي تجب فيها الزكاة خمسة أشياء: الأول: النعم وهي الإبل والبقر
والغنم... ولا زكاة في غير ما بيناه من الحيوان... الثاني: الذهب والفضة ولو غير
مضروبين. الثالث: عروض التجارة. الرابع: المعدن والركاز. الخامس: الزروع
والثمار ولا زكاة فيما عدا هذه الأنواع الخمسة " (2).
أقول: نحن وجهنا زكاة الأوراق المالية في كتابنا في الزكاة فراجع (3).
وأما أخبار ما فيه الزكاة: فهي كثيرة من طرق الفريقين وتنقسم إلى أربع
طوائف:
الأولى: ما تضمنت أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وضع الزكاة على تسعة أشياء وعفا
عما سواها. ومفاد هذه الأخبار نقل واقعة تاريخية فقط وإن كان فيها إشعار ببيان
الحكم أيضا:
منها ما عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) قالا: " فرض الله - عز وجل - الزكاة
مع الصلاة في الأموال، وسنها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في تسعة أشياء، وعفا رسول

(1) الجوامع الفقهية: 152.
(2) الفقه على المذاهب الأربعة: 1، 596.
(3) كتاب الزكاة: 1، 280 وما بعدها.
445

الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عما سواهن: في الذهب والفضة، والإبل والبقر والغنم، والحنطة والشعير
والتمر والزبيب، وعفا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عما سوى ذلك " (1).
الطائفة الثانية: ما اشتملت على بيان هذه الواقعة التاريخية مع التصريح أو
الظهور في كون الحكم الفعلي في عصر الإمام الحاكي لها أيضا ذلك وأنه حكم
أبدي يجب الأخذ به في جميع الأعصار وإن كان حكما سلطانيا منه (صلى الله عليه وآله وسلم) (2):
منها: خبر محمد الطيار، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عما تجب فيه الزكاة،
فقال: " في تسعة أشياء: الذهب والفضة، والحنطة والشعير والتمر والزبيب، والإبل
والبقر والغنم، وعفا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عما سوى ذلك ". فقلت: أصلحك الله فإن عندنا
حبا كثيرا، قال: فقال: وما هو؟ قلت: الأرز، قال: نعم ما أكثره. فقلت: أفيه الزكاة؟
فزبرني، قال: ثم قال: " أقول لك: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عفا عما سوى ذلك وتقول: إن
عندنا حبا كثيرا أفيه الزكاة؟ " (3).
وظاهر هاتين الطائفتين سعة موضوع الزكاة بحسب الجعل الأولي من قبل
الله - تعالى - ولكن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بما أنه كان سلطانا وحاكما وضعها على تسعة
وعفا عما سواها.
الطائفة الثالثة: ما دلت بالصراحة على ثبوت الزكاة في غير التسعة أيضا من
الذرة والأرز وسائر الحبوب:
فمنها: ما عن محمد بن مسلم، قال: سألته (عليه السلام) عن الحبوب ما يزكى منها؟
قال: " البر والشعير والذرة والدخن والأرز والسلت والعدس والسمسم، كل هذا

(1) الوسائل: 6، 36.
(2) قد مر التشكيك في صحة كون الحكم السلطاني من النبي أو الأئمة (عليهم السلام) أبديا - م -.
(3) الكافي: 3، 509.
446

يزكى وأشباهه " (1).
وعن زرارة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) مثله وقال: " كل ما كيل بالصاع فبلغ
الأوساق فعليه الزكاة. وقال: جعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الصدقة في كل شئ أنبتت
الأرض إلا ما كان من الخضر والبقول وكل شئ يفسد من يومه " (2).
وعن زرارة أيضا، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): في الذرة شئ؟ فقال لي:
" الذرة والعدس والسلت والحبوب فيها مثل ما في الحنطة والشعير. وكل ما كيل
بالصاع فبلغ الأوساق التي يجب فيها الزكاة فعليه فيه الزكاة " (3).
ظاهر الروايات الوجوب وحملها على التقية ينافيه تعرض الإمام (عليه السلام) في
آخر بعضها لبيان الميزان الكلي لما فيه الزكاة، إذ التقية ضرورة والضرورة ترتفع
بقوله: " نعم " مثلا.
وعن علي (عليه السلام): " ليس في الخضر والبقول صدقة " (4). وظاهره الثبوت في
غيرهما.
وهنا أخبار مستفيضة وردت من طرقنا يستفاد منها ثبوت الزكاة في مال
التجارة وظاهرها الوجوب أيضا، كما وردت أخبار تدل على عدم الوجوب
فيه (5). وقد أشبعنا الكلام في زكاة مال التجارة في كتابنا في الزكاة (6).
الطائفة الرابعة؛ ما اشتملت على مضمون الطائفتين: الثانية والثالثة

(1) الكافي: 3، 510.
(2) الوسائل: 6، 40.
(3) الوسائل: 6، 41.
(4) سنن البيهقي: 4، 130.
(5) الوسائل: 6، 45 و 48.
(6) كتاب الزكاة: 2 / 181.
447

المتعارضتين وهي ما عن علي بن مهزيار، قال: قرأت في كتاب عبد الله بن محمد
إلى أبي الحسن (عليه السلام): جعلت فداك روى عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: " وضع رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الزكاة على تسعة أشياء: الحنطة والشعير والتمر والزبيب، والذهب
والفضة، والغنم والبقر والإبل، وعفا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عما سوى ذلك. فقال له القائل:
عندنا شئ كثير يكون أضعاف ذلك، فقال: وما هو؟ فقال له: الأرز، فقال أبو
عبد الله (عليه السلام): أقول لك: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وضع الزكاة على تسعة أشياء وعفا عما
سوى ذلك وتقول: عندنا أرز وعندنا ذرة وقد كانت الذرة على عهد رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فوقع (عليه السلام) كذلك هو. والزكاة على كل ما كيل بصاع " (1).
فهذه أربع طوائف نتعرض لوجوه الجمع بينها:
الوجه الأول: أن العفو عن غير التسعة كان في أول النبوة.
وفيه أولا: أن الأمر بأخذ الزكاة لم يكن في أول النبوة، حيث إن قوله
- تعالى - (خذ من أموالهم صدقة) (2) قد نزل في أواخر النبوة.
وثانيا: أنه لا يفيد في الجمع بين جميع الأخبار، إذ المستفاد من أخبار
الطائفة الثانية حصر الزكاة في التسعة بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا فضلا عن عصره.
الوجه الثاني: حمل ما دل على الزكاة في غير التسعة على الاستحباب،
اختاره المفيد والشيخ ومن تبعهما (3).
وفيه - مضافا إلى أن كثيرا من الأخبار مما يأبى هذا الحمل - أن الجمع بين
الدليلين يجب أن يكون مما يقبله العرف والوجدان كما في حمل المطلق على
المقيد، وأما الجمع التبرعي بين الدليلين بإعمال الدقة العقلية فاعتباره بحيث يصير

(1) الكافي: 3، 510 و 511.
(2) التوبة 9: 103.
(3) راجع المقنعة: 40 والاستبصار: 2، 4.
448

أساسا للافتاء ومصححا للفتوى بالاستحباب محل إشكال، إذ الاستحباب يحتاج
إلى دليل شرعي وليس في أخبار الباب اسم منه.
الوجه الثالث: حمل ما دل على الزكاة في التسعة على التقية، ذكره السيد
المرتضى في الانتصار (1).
وأصر عليه صاحب الحدائق (2) وقربه المحقق الهمداني في مصباح
الفقيه (3).
ولكن يمكن أن يقال: أولا: أن ما قد يتوهم من كون أئمتنا (عليهم السلام) ضعفاء
مستوحشين يقلبون الحق بأدنى خوف من الناس أمر يعسر علينا قبوله. كيف؟!
وإن بنائهم كان على بيان الحق ورفع الباطل في كل مورد انحرف الناس عن مسير
الحق.
وثانيا: أن التقية ضرورة، والضرورات تتقدر بقدرها مع إن أجوبة
الأئمة (عليهم السلام) في الطائفة الثالثة وقعت فوق مقدار الضرورة.
وثالثا: أن الانحصار في التسعة ليس من خصائص الشيعة الإمامية بل أفتى
به بعض فقهاء السنة ووردت به رواياتهم أيضا، فلا يبقى مجال للتقية.
ففي المغني: "... عن عبد الله بن عمرو أنه قال: إنما سن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
الزكاة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب. وفي رواية عن أبيه عن جده عن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " والعشر في التمر والزبيب والحنطة والشعير " (4).
اللهم إلا أن يقال: إن التقية لم تكن لمصلحة السائل ولا لمصلحة الإمام (عليه السلام)

(1) الجوامع الفقهية: 153.
(2) الحدائق: 12، 108 و 109.
(3) مصباح الفقيه: 19.
(4) المغني: 2، 549.
449

بل لحفظ الشيعة من شر حكام الجور وجباتهم، حيث إنهم كانوا يطالبون الزكاة من
غير التسعة أيضا فأراد الأئمة (عليهم السلام) حث الشيعة على أدائها دفعا لشرورهم.
الوجه الرابع: ما احتملناه - وإن أشكل الالتزام به - وهو أن ثروات الناس
ومنابع أموالهم تختلف بحسب الأزمنة والأمكنة، ودين الإسلام شرع لجميع البشر
ولجميع الأعصار. وذكر في الكتاب العزيز أصل ثبوت الزكاة وخوطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
بقوله - تعالى -: (خذ من أموالهم صدقة) (1). ولم يذكر فيه ما فيه الزكاة بنحو
التعيين، بل الجمع المضاف يفيد العموم وفوض بيان ما فيه الزكاة إلى أولياء
المسلمين وحكام الحق في كل صقع وكل زمان، وقد وضع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الزكاة
على تسعة أشياء لأنها كانت عمدة ثروة العرب في عصره. وجعل أمير
المؤمنين (عليه السلام) الزكاة في الخيل.
ففي صحيحة محمد بن مسلم وزرارة، عنهما (عليهما السلام) جميعا، قالا: " وضع أمير
المؤمنين (عليه السلام) على الخيل العتاق الراعية في كل فرس في كل عام دينارين وجعل
على البراذين دينارا " (2).
وهل يمكن الالتزام في مثل أعصارنا بحصر الزكاة في التسعة المعهودة
بالشرائط الخاصة؟! مع أن الذهب والفضة المسكوكين وكذا الأنعام الثلاثة
السائمة لا توجد إلا أقل قليل وكأنها منتفية موضوعا، والغلات الأربع في قبال
سائر منابع الثروة: من المصانع العظيمة، والتجارات الضخمة المربحة، والأبنية
المرتفعة والسفن والسيارات والطيارات والمحصولات الزراعية المتنوعة غير
الغلات الأربع، قليلة القيمة جدا. ومصارف الزكاة الثمانية تحتاج إلى أموال كثيرة.

(1) التوبة 9: 103.
(2) الوسائل: 6، 51.
450

وقد دلت أخبار كثيرة على " أن الله - عز وجل - فرض للفقراء في مال
الأغنياء ما يسعهم، ولو علم أن ذلك لا يسعهم لزادهم. إنهم لم يؤتوا من قبل
فريضة الله - عز وجل - ولكن أوتوا من منعهم حقهم لا مما فرض الله لهم " (1).
و " أن الله - عز وجل - فرض على الأغنياء في أموالهم ما يكفي للفقراء. فإن
جاعوا أو عروا أو جهدوا فبمنع الأغنياء " (2).
فنفس هذه الروايات الدالة على حكمة الزكاة محكمات وميزان يوزن به
الحق من أخبار الباب.
فالقول بأن الله - تعالى - جعل الزكاة - أعني العشر وربع العشر ونحوهما -
في التسعة المعهودة فقط بشرائطها الخاصة للمصارف الثمانية بسعتها، وجعل
الخمس في سبعة أمور منها المعادن بسعتها وأرباح المكاسب بشعبها للإمام
ولفقراء بني هاشم فقط بالمناصفة، يستلزم القول بعدم إحاطة الله تعالى - نعوذ
بالله - باعداد الناس وإحصائياتهم وحاجاتهم.
ولكن الإنصاف أن ما بيناه وإن كان موافقا للاعتبار ولكنه ليس في الحقيقة
جمعا بين الأخبار بل طرحا لكثير منها فلابد لرفع المعضلة من ابداء فكر آخر،
وهو أن أخبار التعميم مضافا إلى كونها أكثر وفيها الصحاح والحسان لما كانت
موافقة لعمومات الكتاب، ولما دلت على مصالح التشريع وحكمه من سد جميع
الخلات، تقدم على أخبار التخصيص بالتسعة، فتطرح أخبار الحصر أو تحمل على
إرادة الأئمة (عليهم السلام) تضعيف الدول والحكومات الجائرة بسد منابعهم المالية، ولا
نسلم كون الشهرة الفتوائية مرجحة مطلقا حتى مع وجود عمومات الكتاب ومع
وضوح مبنى فتواهم.

(1) الوسائل: 6، 3 عن أبي عبد الله (عليه السلام).
(2) الأموال: 709، عن علي (عليه السلام).
451

الثالثة: في أن الزكاة تكون تحت اختيار الإمام:
اعلم إن الزكاة لم تكن تختص بالفقراء والمساكين فقط، بل شرعت لسد
جميع الخلات التي تحدث في المجتمع فلابد أن تكون تحت اختيار الحكومة
الإسلامية ويكون الحاكم هو الذي يتصدى لأخذها وصرفها. وعليه استقرت سيرة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والخلفاء من بعده.
ففي صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم أنهما قالا لأبي عبد الله (عليه السلام): أرأيت
قول الله - تبارك وتعالى -: (أنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها
والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من
الله) (1) أكل هؤلاء يعطى وإن كان لا يعرف؟ فقال: " إن الإمام يعطي هؤلاء جميعا
لأنهم يقرون له بالطاعة ". قال زرارة: قلت: فإن كانوا لا يعرفون؟ فقال: " يا زرارة
لو كان يعطي من يعرف دون من لا يعرف لم يوجد لها موضع، وإنما يعطي من لا
يعرف ليرغب في الدين فيثبت عليه. فإما اليوم فلا تعطها أنت وأصحابك إلا من
يعرف... " (2).
يظهر من الصحيحة أن الزكاة بحسب التشريع الأولي تكون في تصرف
الإمام وهو يسد بها خلات من يكون تحت حكمه، عارفا كان أو غير عارف.
ولكن لما تصدى للحكومة غير أهلها وكانت الزكوات تصرف في غير مصارفها
وكان الشيعة يبقون محرومين أمر الإمام (عليه السلام) بإعطاء الشيعة زكواتهم للعارفين
بحقهم. فهذا حكم موقت منه (عليه السلام) وإجازة موقتة.

(1) التوبة 9: 60.
(2) الوسائل: 6، 143.
452

وعن علي بن إبراهيم أنه ذكر في تفسيره تفصيل الأصناف الثمانية فقال:
" فسر العالم (عليه السلام) فقال: الفقراء هم الذين لا يسألون وعليهم مؤونات من عيالهم...
والمساكين هم أهل الزمانات وقد دخل فيهم الرجال والنساء والصبيان.
والعاملين عليها هم السعاة والجباة في أخذها وجمعها وحفظها حتى يؤدوها إلى
من يقسمها.
والمؤلفة قلوبهم قال: هم قوم وحدوا الله وخلعوا عبادة من دون الله ولم
يدخل المعرفة قلوبهم أن محمدا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وفي الرقاب قوم لزمتهم كفارات في قتل الخطأ وفي الظهار وفي الايمان
وفي قتل الصيد في الحرم وليس عندهم ما يكفرون وهم مؤمنون...
والغارمين قوم قد وقعت عليهم ديون أنفقوها في طاعة الله من غير إسراف
فيجب على الإمام أن يقضي عنهم...
وفي سبيل الله قوم يخرجون في الجهاد وليس عندهم ما يتقوون به، أو قوم
من المؤمنين ليس عندهم ما يحجون به أو في جميع سبل الخير فعلى الإمام أن
يعطيهم من مال الصدقات حتى يقووا على الحج والجهاد.
وابن السبيل أبناء الطريق الذين يكونون في الأسفار في طاعة الله فيقطع
عليهم ويذهب مالهم فعلى الإمام أن يردهم إلى أوطانهم من مال الصدقات " (1).
الرابعة: في الصدقات المندوبة والأوقاف العامة:
هذا كله في الزكاة، وأما الصدقات المندوبة فلا نصاب لها ولا حد،
وموضوعها جميع الأموال والطاقات، ولو كانت الحكومات صالحة عادلة
وواجهوا الناس بالصداقة آثروهم على أنفسهم بالأموال والطاقات. وما ينفقه

(1) الوسائل: 6، 145.
453

الإنسان بطوعه ورغبته أولى وأهنأ مما يؤخذ منه جبرا عليه.
ومن أوفر الصدقات نفعا الأوقاف العامة، فلو كان للحكومة كفاية كثرت
عوائدها ويرتفع ببركتها كثير من الحاجات في المجالات المختلفة.
والآيات والروايات الواردة في الإنفاق والصدقات في غاية الكثرة،
فلنذكر بعضا منها نموذجا:
1 - قال الله - تعالى -: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة
أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مأة حبة، والله يضاعف لمن يشاء والله واسع
عليم) (1).
2 - وقال - تعالى -: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون، وما تنفقوا من
شئ فان الله به عليم) (2).
3 - وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " تصدقوا فإن الصدقة
تزيد في المال كثرة... " (3).
4 - وعنه (عليه السلام) أيضا قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " الصدقة تدفع ميتة السوء " (4).
5 - وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " البر والصدقة ينفيان الفقر ويزيدان في العمر
ويدفعان عن صاحبهما سبعين ميتة السوء " (5).
6 - وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كل معروف صدقة " (6).

(1) البقرة 2: 261.
(2) آل عمران 3: 92.
(3) الوسائل: 6، 257.
(4) الوسائل: 6، 255.
(5) الوسائل: 6، 255.
(6) الوسائل: 6، 321.
454

7 - وعنه (عليه السلام) أيضا، قال: " ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلا ثلاث
خصال: صدقة أجراها في حياته فهي تجري بعد موته، وسنة هدى سنها فهي يعمل
بها بعد موته، وولد صالح يدعو له " (1).
إلى غير ذلك من الآيات والروايات الواردة في صدقات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
وأمير المؤمنين (عليه السلام) وفاطمة (عليها السلام) (2).

(1) الوسائل: 13، 292.
(2) راجع الوسائل ج 13.
455

الفصل الثاني
في الخمس
وفيه أيضا جهات من البحث:
الأولى: في بيان مفهوم الخمس وتشريعه:
قال في المقاييس: " والخمس: واحد من خمسة. يقال: خمست القوم:
أخذت خمس أموالهم، أخمسهم " (1).
وأما شرعا؛ فالخمس ضريبة مالية تعادل واحدا من خمسة جعلها في
الشرع على أمور يأتي بيانها. وكونه حقيقة شرعية ممنوع بل اللفظ استعمل بمعناها
اللغوي.
قال الله - تعالى -: (واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول
ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل...) (2).
علق - سبحانه وتعالى - الحكم المذكور في الآية على الموصول الذي هو
من المبهمات ويدل على العموم بعموم صلته، وفسره بمبهم آخر للدلالة على
التعميم، فكل ما انطبق عليه مفهوم الصلة وصدق عليه لفظ " الشئ " فهو موضوع

(1) معجم مقابيس اللغة: 2، 217.
(2) الأنفال 8: 41.
456

لهذا الحكم.
واختلفت كلمات أهل اللغة في معنى الغنم بمشتقاته، فيظهر من بعضها
اختصاصها بما أصيب به بالحرب، ومن بعضها عمومها لكل ما يستفيده الإنسان
ويفوز به من الأموال من غير مشقة، فتكون في الحقيقة نعمة غير مترقبة، سواء
أصيب به بالحرب أم بغيرها، فيكون إطلاق الكلمة على غنائم الحرب من باب
إطلاق المطلق على أظهر أفراده.
قال في القاموس: " والمغنم والغنيم والغنيمة والغنم بالضم: الفي... والفوز
بالشيء بلا مشقة " (1).
وفي لسان العرب أيضا: " والغنم: الفوز بالشيء من غير مشقة... " (2).
وفي المفردات: " الغنم معروف، قال: (ومن البقر والغنم حرمنا عليهم
شحومهما)، والغنم: إصابته والظفر به ثم استعمل في كل مظفور به من جهة العدى
وغيرهم " (3).
أقول: والظاهر أنه أحسن ما قيل في المقام.
ولا يصدق الغنم على كل ما يظفر به الإنسان، فلا محالة يعتبر في صدقه
خصوصية، وهي المجانية وعدم الترقب. فما يتصدى الإنسان لتحصيله في
الحروب هو خذلان العدو لا اغتنام الأموال، فهو نعمة غير مترقبة، وكذلك ما
يحصل بالظفر بالكنز والمعدن وبالغوص، وكذلك الزائد على حاجاته اليومية في
مكاسبه اليومية بحسب العادة.
وكيف كان فالظاهر أنه لم يؤخذ في مفهوم الغنم خصوصية الحرب والقتال

(1) قاموس اللغة: 783.
(2) لسان العرب: 12، 445.
(3) مفردات الراغب: 378.
457

كما يعرف ذلك بملاحظة ضده أعني الغرم. فالآية تشمل بإطلاقها غنائم الحرب
وغيرها. والمورد وسياق الآية وهو غنائم بدر لا يوجبان التخصيص قطعا، فهي
تشمل المعادن والكنوز والغوص وأرباح المكاسب. بل والهبات والجوائز أيضا.
ففي حديث وصايا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام): " يا علي، إن عبد المطلب سن في
الجاهلية خمس سنن أجراها الله له في الإسلام. (إلى أن قال:) ووجد كنزا فأخرج
منه الخمس وتصدق به فأنزل الله: " واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله
خمسه " (1).
وعن أبي جعفر الثاني (عليه السلام): " فأما الغنائم والفوائد فهي واجبة عليهم في كل
عام، قال الله - تعالى -: " واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه. الآية "
فالغنائم والفوائد - يرحمك الله - فهي الغنيمة يغنمها المرء والفائدة يفيدها والجائزة
من الإنسان للإنسان التي لها خطر، والميراث الذي لا يحتسب " (2).
وقال المحقق بعد ذكر الآية الشريفة:
" والغنيمة اسم للفائدة، وكما يتناول هذا اللفظ غنيمة دار الحرب بإطلاقه
يتناول غيرها من الفوائد " (3).
أقول: ويمكن أن يحمل على ذلك أيضا صحيحة عبد الله بن سنان، قال:
سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " ليس الخمس إلا في الغنائم خاصة " (4). فتحمل
الغنائم فيها على المعنى الأعم لا خصوص غنائم الحرب، ويكون الحصر في قبال
ما يملكه الإنسان بالاشتراء ونحوه بلا ربح، بل والأرباح بمقدار تصرف في مؤونة

(1) الوسائل: 6، 345.
(2) الوسائل: 6، 50 - 349.
(3) المعتبر: 293.
(4) الوسائل: 6، 338.
458

السنة أيضا لعدم صدق الغنيمة عليه.
أو يكون الحصر بالإضافة إلى الفي والأنفال.
وأما الخمس في الحلال المختلط بالحرام والأرض التي اشتراها الذمي
فسيأتي منا المناقشة في كونهما من الخمس المصطلح، والصحيحة ناظرة إلى
الخمس المصطلح.
الثانية: فيما يجب فيه الخمس:
قال المحقق: "... وهو سبعة: الأول: غنائم دار الحرب...
الثاني: المعادن...
الثالث: الكنوز...
الرابع: كل ما يخرج من البحر بالغوص...
الخامس: ما يفضل عن مؤونة السنة له ولعياله من أرباح التجارات
والصناعات والزراعات.
السادس: إذا اشترى الذمي أرضا من مسلم وجب فيها الخمس...
السابع: الحلال إذا اختلط بالحرام " (1).
أقول: موضوع الخمس المصطلح هو أمر واحد تعرض له الكتاب العزيز،
أعني قوله: (ما غنمتم) بمفهومه العام.
وكيف كان فنتعرض هنا للموضوعات السبعة بنحو الإجمال فنقول:
الأول: غنائم دار الحرب:
ويدل على ثبوت الخمس فيها إجمالا الكتاب والسنة وإجماع المسلمين.
وقد مر البحث في الآية الشريفة إجمالا.

(1) الشرائع: 1، 179.
459

ومن السنة قوله (عليه السلام) في صحيحة عبد الله بن سنان السابقة، قال: سمعت أبا
عبد الله (عليه السلام) يقول: " ليس الخمس إلا في الغنائم خاصة " (1). والمتيقن منها غنائم
الحرب.
وخبر أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " كل شئ قوتل عليه على شهادة
أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن لنا خمسه... " (2).
وبالجملة ثبوت الخمس إجمالا في غنائم الحرب مما لا إشكال فيه، من
غير فرق بين القليل منها والكثير، فلا يعتبر فيها نصاب.
وظاهر المشهور ثبوت الخمس حتى في الأراضي التي لا تقسم عندنا بين
الغانمين بل تبقى للمسلمين.
قال المحقق: " وأما ما لا ينقل فهو للمسلمين قاطبة وفيه الخمس، والإمام
مخير بين إفراز خمسه لأربابه وبين إبقائه وإخراج الخمس من ارتفاعه " (3).
وقال الشيخ: " ما لا ينقل ولا يحول من الدور والعقارات والأرضين عندنا
إن فيه الخمس... " (4).
واستدل لذلك بعموم الآية وعموم رواية أبي بصير التي مرت آنفا.
وخالف في ذلك صاحب الحدائق فقال ما حاصله: " قد تتبعت ما حضرني
من كتب الأخبار فلم أقف فيها على ما يدل على دخول الأرض ونحوها في
الغنيمة التي يتعلق بها الخمس " (5).

(1) الوسائل: 6، 338.
(2) الوسائل: 6، 339.
(3) الشرائع: 1، 322.
(4) الخلاف: 2، 333.
(5) الحدائق: 12، 325.
460

أقول: الروايات الكثيرة الواردة في بيان حكم أرض الخراج وبيان سيرة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيها مع كونها في مقام البيان ساكتة عن ثبوت الخمس فيها وهي أخص
موردا من الآية والرواية.
بل لأحد أن يدعي انصراف الآية الشريفة عن مثل الأراضي التي هي
فيئ لعنوان المسلمين.
هذا مضافا إلى أنه لم يعهد من الخلفاء ومن أمير المؤمنين (عليه السلام) تخميس
الأراضي التي فتحت عنوة، ولا تخميس عوائدها السنوية.
وإلى أن الخمس كما يأتي بيانه من الضرائب المالية المقررة في الإسلام
لمنصب الإمامة والحكومة الحقة، كما أن الأراضي المفتوحة عنوة أيضا تكون من
هذا القبيل وتكون تحت اختيار الحكومة، ولم يعهد جعل الضرائب على الضرائب
والأموال العامة الواقعة تحت اختيار الحكومة وإن اختلف فيها المصارف
والجهات، وإنما توضع على غنائم الناس وفوائدهم.
الثاني: المعادن:
من الذهب والفضة والرصاص والصفر والحديد والياقوت والزبرجد
والفيروزج والعقيق والزيبق والنفط والكبريت والقير والملح ونحو ذلك.
ولا إشكال عندنا في تعلق الخمس بها. ويدل على ذلك مضافا إلى عموم
الآية الشريفة كما مر، الأخبار المستفيضة:
1 - كصحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: سألته عن معادن
الذهب والفضة والصفر والحديد والرصاص، فقال: " عليها الخمس جميعا " (1).
2 - وصحيحة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن المعادن ما فيها؟
فقال: " كل ما كان ركازا ففيه الخمس ". وقال: " ما عالجته بمالك ففيه ما أخرج الله

(1) الوسائل: 6، 342.
461

- سبحانه - منه من حجارته مصفى الخمس " (1).
3 - وصحيحة محمد بن مسلم الأخرى، قال: " سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن
الملاحة، فقال: وما الملاحة؟ فقلت: أرض سبخة مالحة يجتمع فيه الماء فيصير
ملحا، فقال: هذا المعدن فيه الخمس. فقلت: والكبريت والنفط يخرج من الأرض؟
قال: فقال: هذا وأشباهه فيه الخمس " (2).
والمعدن عندنا مطلق ما تكون في الأرض ولو كان مائعا إذا اشتمل على
خصوصية يعظم الانتفاع بها وتصيره ذا قيمة وإن لم يخرج بها عن حقيقة الأرضية
كبعض الأحجار القيمة.
وهل يعتبر في خمس المعدن النصاب؟ في المسألة أقوال ثلاثة: الأول: عدم
اعتباره. الثاني: اعتبار بلوغه عشرين دينارا. الثالث: اعتبار بلوغه دينارا. فراجع
كتاب الخمس (3).
وههنا إشكال، وهو أن الأقوى عندنا كون المعادن من الأنفال، والأنفال
تكون بأجمعها للإمام بما أنه إمام المسلمين، وظاهر الأخبار الدالة على وجوب
الخمس في المعدن كون الباقي بعد الخمس لمن أخرجه فكيف الجمع بين هذين
الأمرين؟
ويمكن أن يجاب عن ذلك أولا: بأن جعل الخمس فيها لعله كان من قبل
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) بما هم أئمة، وحكما سلطانيا بعنوان حق الاقطاع، فيكون
تابعا لكيفية جعل الإمام إياه، وإذنا منهم (عليهم السلام) في استخراج المعادن بإزاء تأدية

(1) الوسائل: 6، 343.
(2) الوسائل: 6، 343.
(3) كتاب الخمس: 48 وما بعدها.
462

الخمس من حاصلها (1).
وثانيا: باحتمال كون التخميس حكما شرعيا إلهيا ثابتا لمن أخرج المعادن
باذنهم (عليهم السلام) ولو بالتحليل المطلق في عصر الغيبة.
وتحليل الأئمة (عليهم السلام) الأنفال لشيعتهم في عصر الغيبة لا ينافي جواز دخالة
الحاكم الشرعي فيها مع بسط يده. إذ التحليل صدر عنهم توسعة للشيعة عند عدم
بسط اليد للحكومة الحقة.
وعلى هذا فإذا فرض تصرف الحكومة الحقة في المعادن واستخراجها لها
مباشرة فالظاهر عدم تعلق الخمس بها حينئذ، إذ الخمس ضريبة إسلامية، ومورده
هو ما يغنمه الناس فلا يتعلق بما يغنمه الدولة بنفسها.
الثالث: الكنز:
وهو المال المذخور في الأرض أو الجدار أو الجبل، سواء كان من الذهب
أو الفضة أو غيرهما من الجواهر، ولا خلاف في ثبوت الخمس فيه بين الفريقين.
ويدل عليه - مضافا إلى عدم الخلاف فيه وصدق الغنم في الآية - أخبار
مستفيضة:
منها صحيحة البزنطي، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، قال: سألته عما يجب فيه
الخمس من الكنز فقال: " ما يجب الزكاة في مثله ففيه الخمس " (2).
وهل المراد بالمثلية، المثلية في الجنس أو المقدار أو كليهما؟ وجوه ذكرناها
في كتاب الخمس فراجع (3).

(1) قد مر الإشكال في تصوير الحكم السلطاني الدائم من قبل النبي والأئمة (عليهم السلام) لزمان
غيبتهم وعدم الحكومة الظاهرية لهم - م -.
(2) الوسائل: 6، 345.
(3) كتاب الخمس: 79 وما بعدها.
463

ويحتمل جدا كون الكنز أيضا مثل المعدن من الأنفال، أعني الأموال العامة
التي تكون بأجمعها تحت اختيار الإمام، فله عند بسط اليد منع الأشخاص عن
استخراجه. ولو استخرجه هو بنفسه فلا خمس فيه. ويساعد ذلك الاعتبار
العقلائي والسيرة الجارية في جميع البلاد أيضا.
الرابع: الغوص:
وهو إخراج الجواهر من البحر بلا خلاف فيه عندنا. ويشهد له مضافا إلى
صدق الغنم في الآية، النصوص:
منها: ما عن محمد بن علي بن أبي عبد الله، عن أبي الحسن (عليه السلام)، قال: سألته
عما يخرج من البحر من اللؤلؤ والياقوت والزبرجد، وعن معادن الذهب والفضة
هل فيها زكاة؟
فقال: " إذا بلغ قيمته دينارا ففيه الخمس " (1).
ونصاب الغوص دينار كما هو المشهور شهرة محققة، ويدل عليه الخبر
المزبور.
الخامس: ما يفضل عن مؤونة السنة:
من أرباح التجارات والصناعات والزراعات. وثبوت الخمس فيه إجمالا
مما لا إشكال فيه عند أصحابنا.
ويدل عليه عموم الكتاب وإجماع أصحابنا والروايات المستفيضة إن لم
تكن متواترة.
أما الكتاب فواضح، لصدق قوله: " ما غنمتم " على ما مر من بيان مفاده.
وقال الشيخ: " يجب الخمس في جميع المستفاد من أرباح التجارات
والغلات والثمار على اختلاف أجناسها بعد إخراج حقوقها ومؤنها... دليلنا إجماع

(1) الوسائل: 6، 343.
464

الفرقة واخبارهم... " (1).
وأما الأخبار في المسألة فكثيرة نذكر بعضها:
1 - موثقة سماعة، قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الخمس، فقال: " في كل ما
أفاد الناس من قليل أو كثير " (2).
2 - صحيحة علي بن مهزيار الطويلة، قال: كتب إليه أبو جعفر (عليه السلام) (إلى أن
قال): " فأما الغنائم والفوائد فهي واجبة عليهم في كل عام. قال الله - تعالى -:
واعلموا إنما غنمتم من شئ فان لله خمسه. الآية " (3).
3 - حسنة محمد بن الحسن الأشعري، قال: كتب بعض أصحابنا إلى أبي
جعفر الثاني (عليه السلام) أخبرني عن الخمس، أعلى جميع ما يستفيد الرجل من قليل وكثير
من جميع الضروب وعلى الصناع، وكيف ذلك؟ فكتب (عليه السلام) بخطه: " الخمس بعد
المؤونة " (4).
إلى غير ذلك من الروايات المستفاد منها ثبوت الخمس في الفوائد اليومية
بعد إخراج المؤونة له ولعياله وهي كثيرة. وظاهر أكثرها أو صريحها بيان الوظيفة
الفعلية للشيعة، وأكثرها صادرة عن الأئمة المتأخرين، وهم كانوا يطالبون الخمس
من شيعتهم، واستمرت هذه السيرة حتى في عصر النواب الأربعة للإمام الثاني
عشر (عليه السلام)، فلا مجال لأن يحمل هذه الأخبار على أصل التشريع ويقال إنه لا
يعارضها أخبار التحليل بل تحكم عليها.
وخمس الأرباح مالية كثيرة ضخمة جدا وتتغير بحسب منابع الثروة

(1) الخلاف: 1، 319.
(2) الوسائل: 6، 350.
(3) الوسائل: 6، 349.
(4) الوسائل: 6، 348.
465

والأصقاع والأزمان ولو طولب وجبي في كل عصر بنظام صحيح لسد به كثير من
الحاجات والخلات.
نعم، يقع البحث هنا في أمور ثلاثة:
الأمر الأول: في الإشارة إلى إشكال وقع في خمس الأرباح، وهو أنك لا
تجد في صحاحنا ولا صحاح السنة حديثا أو كتابا إلى العمال والجباة في هذا
الباب مرويا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو أمير المؤمنين (عليه السلام)، ولم يضبط في التواريخ
مطالبتهما (عليهما السلام) لهذا الخمس من أحد، مع إنه لو كان ثابتا مشرعا في عصرهما كان
مقتضى عموم الابتلاء به نقل الرواة والمؤرخين له من طرق الفريقين.
نعم، في رواية: " إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لأبي ذر وسلمان والمقداد...
وإخراج الخمس من كل ما يملكه أحد من الناس حتى يرفعه إلى ولي المؤمنين
وأميرهم " (1) ولكنها ضعيفة السند.
وما ورد في بعض كتب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعهوده من أخذ الخمس من المغانم
كقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في كتابه لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن: " وأمره أن يأخذ من
المغانم خمس الله وما كتب على المؤمنين في الصدقة من العقار... " (2). وقوله لوفد
عبد القيس: " وأن تعطوا من المغنم الخمس " (3).
إلى غير ذلك مما في كتب النبي وعهوده، يراد به خمس مغانم الحرب.
ولكن مع ذلك لا يضر هذا الإشكال بأصل الحكم بعدما ثبت بعموم الكتاب
وإجماع الفرقة المحقة والأخبار المستفيضة كما مر.
ولعل الحكم ثبت في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بنحو الاقتضاء والإنشاء المحض،

(1) الوسائل: 6، 386.
(2) سيرة ابن هشام: 4، 242.
(3) صحيح البخاري: 1، 20.
466

ولكن لما كان تنفيذه وإجرائه موجبا للحرج بسبب الفقر النوعي أو لاستيحاش
المسلمين منه لكونهم حديثي العهد بالإسلام، أخرت فعليته وتنفيذه إلى عصر
الأئمة (عليهم السلام) كما أخرت فعلية بعض الأحكام حتى إلى عصر ظهور الإمام المنتظر (عليه السلام)
لعدم تحقق شرائطها قبل ذلك.
ويمكن أن يقال أيضا: إن هذا الخمس ضريبة حكومية وضعها الأئمة
المتأخرون (عليهم السلام) بما هم أئمة وساسة البلاد شرعا حسب الاحتياج في أعصارهم،
حيث إن الزكوات وغيرها من الضرائب الإسلامية انحرفت عن مسيرها الأصلي
وصارت تحت سلطة الخلفاء وعمالهم، ولذلك ترى الأئمة (عليهم السلام) محللين له تارة
ومطالبين له أخرى.
الأمر الثاني: في ذكر أخبار التحليل وبيان محملها:
منها: ما يختص بحال الاعواز بالنسبة إلى حق الإمام فقط.
كصحيحة علي بن مهزيار، قال: قرأت في كتاب لأبي جعفر الثاني (الجواد)
من رجل يسأله أن يجعله في حل من مأكله ومشربه من الخمس، فكتب بخطه:
" من أعوزه شئ من حقي فهو في حل " (1). وظاهر الجواب هو التحليل لخصوص
المعوز لا مطلقا، بل لعل التحليل وقع للمعوز في عصره فقط.
ومنها: ما يحمل على تحليل المناكح والجواري المسبية المبتلى بها في تلك
الأعصار لشيعتهم حفظا لطيب الولادات.
كخبر أبي حذيفة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رجل وأنا حاضر: حلل لي
الفروج، ففزع أبو عبد الله (عليه السلام)، فقال له رجل: ليس يسألك أن يتعرض الطريق، إنما
يسألك خادما يشتريها أو امرأة يتزوجها أو ميراثا يصيبه أو تجارة أو شيئا أعطيه،
فقال: " هذا لشيعتنا حلال: الشاهد منهم والغائب، والميت منهم والحي وما يولد

(1) الوسائل: 6، 379.
467

منهم إلى يوم القيامة فهو لهم حلال... " (1).
والمراد بالميراث والتجارة وما أعطيه بقرينة السؤال خصوص الإماء
والفتيات المغنومة المنتقلة بالشراء أو بالميراث أو نحوهما.
ومنها: ما يحمل على تحليل ما يشترى ممن لا يعتقد الخمس أو من لا
يخمس في زمان خاص:
كرواية يونس بن يعقوب، قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فدخل عليه رجل
من القماطين فقال: جعلت فداك، تقع في أيدينا الأموال والأرباح وتجارات نعلم
أن حقك فيها ثابت وأنا عن ذلك مقصرون، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): " ما أنصفناكم إن
كلفناكم ذلك اليوم " (2). وظهورها في التحليل في زمان خاص ظاهر، كظهورها
فيما تعلق به الخمس أو حق آخر في يد الغير ثم انتقل إليه، فلا تشمل ما تعلق به
الحق في يده.
ومنها: ما دل على تحليل الفي وغنائم الحرب الواصلة إلى الشيعة من أيدي
المخالفين:
كخبر أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " إن الله جعل لنا أهل البيت سهاما
ثلاثة في جميع الفيئ فقال - تبارك وتعالى -: (واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن
لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل). فنحن

(1) الوسائل: 6، 379. هذا الخبر يؤيد ما كرر في كلمات الأستاذ من تصوير الحكم السلطاني
الدائم من قبل النبي والأئمة (عليهم السلام)، ولكن يمكن أن يقال: إن الإمام (عليه السلام) كان بصدد بيان حكم
إلهي دائمي، أو بيان مصداق لقاعدة كلية وهي حلية المال المنتقل ممن يستحله إلى من
يحرمه، ونظائره في الفقه كثيرة منها ثمن الخمر والخنزير مما يكتسبه الكافر، والغنائم التي
يغنمها المخالف من دون إذن الإمام ومال من لا يعتقد بإعطاء الخمس في عصر الغيبة
وغيرها - م -.
(2) الوسائل: 6، 380.
468

أصحاب الخمس والفئ وقد حرمناه على جميع الناس ما خلا شيعتنا. والله يا أبا
حمزة ما من أرض تفتح ولا خمس يخمس فيضرب على شئ منه إلا كان حراما
على من يصيبه فرجا كان أو مالا... " (1).
ومنها: ما دل على تحليل الأراضي والأنفال، ككثير من أخبار الباب،
فراجع ويأتي بحثه في الأنفال.
ومنها: التوقيع المروي عن إسحاق بن يعقوب، قال:... سألت عن مسائل
أشكلت علي، فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان (عج):... وأما الخمس فقد
أبيح لشيعتنا وجعلوا منه في حل إلى وقت ظهور أمرنا لتطيب ولادتهم ولا
تخبث " (2).
وإسحاق بن يعقوب لم يذكر بمدح ولا قدح.
ويظهر من التوقيع أن صاحب الأمر (عليه السلام) أيضا كان يطالب الأموال ولم يكن
يحللها بالكلية ولا دليل على حمل اللام على الاستغراق بعد كون جوابه (عليه السلام)
مسبوقا بالسؤال، والسؤال غير مذكور ولا معلوم، فلعل الخمس المسؤول عنه كان
مرتبطا بخمس الغنائم والجواري المسبية من قبل حكام الجور المبتلى بها الشيعة
كما يشعر بذلك التعليل بطيب الولادة.
وبالجملة فلا يستفاد من هذه الأخبار تحليل خمس أرباح المكاسب
وساير الموضوعات التي يتعلق بها الخمس عند المكلف.
مضافا إلى أن الخمس وكذا الأنفال ليسا ملكا لشخص الإمام المعصوم كما
قد يتوهم بل هما لمنصب إمامة المسلمين الحقة وإدارة شؤونهم العامة، وزعامة
مجتمع المسلمين من الضروريات في جميع الأعصار، والخمس من أهم الضرائب

(1) الوسائل: 6، 385.
(2) الوسائل: 6، 383.
469

المشرعة لها ولذا عبر عنه في رواية بوجه الامارة (1)، فالتحليل المطلق للخمس
والأنفال هدم لأساس الإمامة والحكومة الحقة (2).
الأمر الثالث: في أن الموضوع في هذا القسم من الخمس هل هو الأرباح أو
مطلق الفائدة؟
والمذكور في كلمات أكثر القدماء من أصحابنا خصوص ما يستفاد
بالاكتساب كأرباح التجارات والصناعات والزراعات التي بناء اقتصاد الناس
عليها.
نعم، قد يحصل للإنسان المال من دون تعب وتصد لتحصيله أما مع الاختيار
كالهبات والجوائز والصداق وعوض الخلع ونحوها أو بلا اختيار له كالميراث
ونذر النتيجة على القول بصحته، ولكنها فوائد اتفاقية نادرة لا يصدق عليها
الاكتساب.
وقد نسب إلى المشهور عدم ثبوت الخمس فيها، ولكن الأقوى عندنا هو
الثبوت في مثل الهدية والجائزة الخطيرة والميراث الذي لا يحتسب وفاقا لأبي
الصلاح.
قال في السرائر: " قال بعض أصحابنا إن الميراث والهدية والهبة فيه
الخمس. ذكر ذلك أبو الصلاح الحلبي ". واستحسن هذا القول في اللمعة ومال إليه
في شرحها وقواه الشيخ الأعظم في خمسه.

(1) الوسائل: 6، 341.
(2) لا ملازمة بين التحليل المطلق وهدم أساس الحكومة الحقة، فإنه يمكن أن يقال بالحكومة
الحقة وبأخذ الضرائب المالية حسب المكاسب والمداخل كما يأتي في الفصل الخامس في
بحث الضرائب التي ربما تمس الحاجة إلى تشريعها! مضافا إلى أن التحليل المطلق على
القول به يكون من قبيل الحكم السلطاني الدائمي وقد مر أنه لا معنى له. فيكون من قبيل
الحكم السلطاني الموقت فيكون زمامه بيد الحكومة الحقة المتحققة في كل زمان - م -.
470

ويدل على ذلك - مضافا إلى عموم الآية الشريفة لصدق الغنيمة عليها وقد
عرفت أن الغنيمة اسم لكل فائدة غير مترقبة، - أخبار مستفيضة:
1 - ففي صحيحة علي بن مهزيار، عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام) - بعد الحكم
بوجوب الخمس في الغنائم والفوائد - قال: " فالغنائم والفوائد - يرحمك الله - فهي
الغنيمة يغنمها المرء والفائدة يفيدها، والجائزة من الإنسان للإنسان التي لها خطر،
والميراث الذي لا يحتسب من غير أب ولا ابن، ومثل عدو يصطلم فيؤخذ ماله،
ومثل مال يؤخذ ولا يعرف له صاحب " (1).
وتقييد الجائزة بالتي لها خطر، لعله من جهة أن الجائزة الحقيرة تصرف
فورا فلا تبقى إلى السنة. ومن تقييد الميراث يستفاد عدم الخمس في المواريث
المتعارفة التي تحتسب كما يأتي بيانه.
2 - وفي صحيحته الأخرى عن أبي علي بن راشد عن أبي الحسن (عليه السلام)، قال:
" يجب عليهم الخمس ". فقلت: ففي أي شئ؟ فقال: " في أمتعتهم وصنائعهم " (2).
بتقريب أن المتاع بحسب اللغة والاستعمال يراد به كل ما يتمتع به في
الحاجات فيعم جميع لوازم المعيشة وإن حصلت بالهبة ونحوها.
وفي القاموس: " والمتاع: المنفعة والسلعة والأداة وما تمتعت به من
الحوائج، ج: أمتعة " (3).
3 - وفي خبر أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كتبت إليه في الرجل يهدي
إليه مولاه والمنقطع إليه هدية تبلغ ألفي درهم أو أقل أو أكثر هل عليه فيها

(1) الوسائل: 6، 50 - 349.
(2) الوسائل: 6، 348.
(3) قاموس اللغة: 508.
471

الخمس؟ فكتب (عليه السلام): " الخمس في ذلك " (1).
أقول: في سند الرواية أحمد بن هلال، وفيه كلام.
هذا مضافا إلى أنه إذا كان ما يحصل للإنسان بتعب ومشقة موردا للمالية
والضريبة فما يحصل له مجانا وبلا تعب أولى بذلك وأحق، فهذا أمر يحكم به العقل
والاعتبار العرفي.
وأما الميراث الذي يحتسب فحيث إنه مما يقتضيه نظام التكوين لكل أحد
بلا استثناء فيمكن أن يقال إنه أمر مترقب ومقطوع التحقق، فلا يصدق عليه
الاغتنام إلا فيما لا يحتسب كما دل على ذلك صحيحة ابن مهزيار.
ولعل وزان الصداق أيضا وزان الميراث، فإنه أمر يرجى حصوله بحسب
نظام المجتمع.
بل يمكن أن يقال: إنه عوض عن الزوجية والبضع.
ومن هذا القبيل أيضا عوض الخلع، فإنه بإزاء رفع اليد عن السلطة
المملوكة.
هذا مضافا إلى أنه لو ثبت فيها الخمس لاشتهر وبان، لكثرة الابتلاء بها
ولا سيما بالصداق والميراث.
السادس على ما قالوا: الأرض التي اشتراها الذمي من المسلم:
" عند أبني حمزة وزهرة وأكثر المتأخرين من أصحابنا، بل في الروضة
نسبته إلى الشيخ والمتأخرين أجمع، بل في المنتهى والتذكرة نسبته إلى علمائنا،
بل في الغنية الإجماع عليه، وهو - بعد اعتضاده بما عرفت - الحجة ". كذا في
الجواهر (2).

(1) الوسائل: 6، 351.
(2) الجواهر: 16، 65.
472

ولكن في المختلف: " لم يذكر ذلك ابن الجنيد ولا ابن أبي عقيل ولا المفيد
ولا سلار ولا أبو الصلاح " (1).
فالمسألة مختلف فيها. والأصل في المسألة صحيحة أبي عبيدة الحذاء، قال:
سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: " أيما ذمي اشترى من مسلم أرضا فإن عليه
الخمس " (2).
والظاهر من الحديث تعلق الخمس برقبة الأرض، وهو الظاهر من النهاية
والمبسوط وغيرهما.
ولكن التتبع يوجب التزلزل في المسألة:
قال أبو يوسف: " وكل أرض من أرض العشر اشتراها نصراني تغلبي فان
العشر يضاعف عليه... " (3).
وقال أبو عبيدة: " أخبرني محمد، عن أبي حنيفة، قال: إذا اشترى الذمي
أرض عشر تحولت أرض خراج، قال: وقال أبو يوسف: يضاعف عليه
العشر... " (4).
وقال الشيخ في المسألة " 84 ": من الزكاة: " إذا اشترى الذمي أرضا عشرية
وجب عليه فيها الخمس، وبه قال أبو يوسف فإنه قال: عليه فيها عشران... " (5).
وفي منتقى الجمان بعد نقل الصحيحة قال:
" قلت: ظاهر أكثر الأصحاب الاتفاق على أن المراد من الخمس في هذا

(1) المختلف: 203.
(2) الوسائل: 6، 352.
(3) الخراج: 121.
(4) الأموال: 116.
(5) الخلاف: 1، 300.
473

الحديث معناه المعهود، وللنظر في ذلك مجال... " (1).
وكيف كان فهل نلتزم بثبوت الخمس في رقبة الأرض تمسكا بظاهر
الصحيحة والإجماع المنقول وشهرة المتأخرين من أصحابنا، أو نمنع ذلك
لاحتمال صدور الحديث تقية أو كون مراد الإمام (عليه السلام) أيضا من الخمس ثبوت
العشرين في حاصل الأرض بعنوان الزكاة وفقا لهم.
إذ لا بعد في كون الحكم ذلك لئلا يرغب أهل الذمة في شراء أراضي
المسلمين، فيمنع بذلك ظهور الصحيحة في خمس الرقبة إذ عمدة الدليل على
حجية الخبر بناء العقلاء، ويمكن منع بنائهم على العمل مع تلك القرائن الموجبة
لعدم الظهور أو عدم إرادته، فالقول بثبوت الخمس بمعناه المصطلح في رقبة
الأرض التي اشتراها الذمي من المسلم لا يخلو من الإشكال. بل الثابت هو
الخمس في حاصلها بعنوان الزكاة. وعلى هذا تحمل الصحيحة أيضا.
نعم للحاكم الإسلامي منع الذمي من شراء الأرض وسائر العقارات من
المسلمين إذا كان هذا مقدمة لاستيلائهم على المسلمين، كما شوهد ذلك في
فلسطين، وله أيضا جعل الخمس على رقبة الأرض إذا فرض اشتراؤها وتصير
هذا نحو جزية عليهم.
السابع: الحلال المختلط بالحرام على وجه لا يتميز مع الجهل بصاحبه
وبمقداره، فيحل بإخراج خمسه:
قال الشيخ: " وإذا حصل مع الإنسان مال قد اختلط الحلال بالحرام ولا
يتميز له، وأراد تطهيره أخرج منه الخمس وحل له التصرف في الباقي " (2).
وقال ابن زهرة في عداد ما فيه الخمس:

(1) منتقى الجمان: 2، 443.
(2) النهاية: 197.
474

" وفي المال الذي لم يتميز حلاله من حرامه، وفي الأرض التي يبتاعها
الذمي، بدليل الإجماع المتردد " (1).
نعم، لم يذكره المفيد وابن أبي عقيل وابن الجنيد، كما في المختلف.
واستدلوا لوجوب الخمس في المقام بروايات:
منها: صحيحة عمار بن مروان، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " فيما
يخرج من المعادن والبحر والغنيمة والحلال المختلط بالحرام إذا لم يعرف صاحبه
والكنوز الخمس " (2).
ومنها ما في الفقيه: " روى السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، عن أبيه، عن
آبائه (عليهم السلام) قال: " أتى رجل عليا (عليه السلام) فقال: إني كسبت مالا أغمضت في طلبه حلالا
وحراما، فقد أردت التوبة ولا أدري الحلال منه ولا الحرام فقد اختلط علي؟ فقال
علي (عليه السلام): أخرج خمس مالك فإن الله - عز وجل - قد رضى من الإنسان بالخمس،
وسائر المال كله لك حلال " (3).
ورواه الكليني أيضا إلا أنه قال: " فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): " تصدق بخمس
مالك... " (4).
وعمدة الإشكال في المسألة هو أن الحكم الشرعي المستفاد من الأخبار
في الموارد المختلفة في المال الذي لا يعرف صاحبه أو لا يمكن إيصاله إلى
صاحبه كاللقطة هو التصدق به.
فيحتمل قويا كون مصرف الخمس في المقام هو مصرف الصدقات، غاية

(1) الجوامع الفقهية: 507.
(2) الوسائل: 6، 344.
(3) الفقيه: 3، 189.
(4) الكافي: 5، 125.
475

الأمر أن المقدار لما كان مجهولا فالله - تبارك وتعالى - مالك الملوك وولي
الغائب، صالح الحرام الموجود في البين بالخمس.
ويؤيد ذلك قوله (عليه السلام) في خبر السكوني بنقل الكليني: " تصدق بخمس
مالك ".
والكليني لم يجعل الخمس من المال المختلط من قبيل الخمس المصطلح،
ولذلك لم يذكر رواية السكوني في عداد روايات الخمس في كتاب الحجة من
الكافي.
الثالثة: في مصرف الخمس:
قال الشيخ: " عندنا أن الخمس يقسم ستة أقسام: سهم لله وسهم لرسوله
وسهم لذي القربى، فهذه الثلاثة أسهم كانت للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعده لمن يقوم مقامه من
الأئمة، وسهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لأبناء السبيل من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)
لا يشركهم فيه غيرهم... " (1).
وفي خراج أبي يوسف: " عن عبد الله بن عباس: إن الخمس كان في عهد
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على خمسة أسهم: لله وللرسول سهم، ولذي القربى سهم، ولليتامى
والمساكين وابن السبيل ثلاثة أسهم، ثم قسمه أبو بكر وعمر وعثمان على ثلاثة
أسهم... " (2).
وفي المغني لابن قدامة الحنبلي: " إن الخمس يقسم على خمسة أسهم،
وبهذا قال عطاء ومجاهد والشعبي والنخعي وقتادة وابن جريح والشافعي. وقيل

(1) الخلاف: 2، 340.
(2) الخراج: 19 - 21.
476

يقسم على ستة: سهم لله، وسهم لرسوله... " (1).
وكيف كان فتقسيم الخمس على ستة أسهم نسب إلى المشهور، وفي
الانتصار والخلاف والغنية الإجماع عليه.
واستدلوا عليه - مضافا إلى الإجماع المدعى والشهرة المحققة - بظاهر
الآية وبأخبار مستفيضة: قال الله - تعالى -: (واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله
خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) الآية (2).
وأما قوله: " فأن لله خمسه... " ففيه بالنظر البدوي احتمالان:
الأول: أن يراد به التقسيم على ستة أسهم، كما عليه المشهور من أصحابنا،
أو على خمسة أسهم بجعل سهم الله والرسول واحدا كما قال به بعض.
الثاني: أن يراد به الترتيب في الاختصاص لأن الخمس بأجمعه حق
وحداني جعله الله - تعالى - لمنصب الإمامة، وسيأتي.
وأما قوله - تعالى -: (ولذي القربى) يمكن أن يراد به أقارب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
من قريش أو من بني هاشم أو بني هاشم وبني عبد المطلب، مطلقا، واختار هذا
فقهاء السنة ونسب إلى ابن الجنيد من فقهائنا.
أو يراد به خصوص الإمام (عليه السلام) وقد ذكر مفردا للاشعار بذلك، حيث إن الإمام
في كل عصر شخص واحد. وهذا الاحتمال هو ظاهر أصحابنا الإمامية.
وأما قوله - تعالى -: (واليتامى والمساكين وابن السبيل) فالمشهور بين
أصحابنا اختصاصها بمن كان من آل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وادعى بعضهم الإجماع عليه.
واستدل له بأخبار مستفيضة:
منها: مرسلة ابن بكير، عن أحدهما (عليهما السلام): " واليتامى يتامى الرسول

(1) المغني: 7، 300.
(2) الأنفال 8: 41.
477

والمساكين منهم وأبناء السبيل منهم، فلا يخرج منهم إلى غيرهم " (1).
ويمكن أن يقرب التعميم لجميع يتامى المسلمين ومساكينهم وأبناء سبيلهم
بوجهين:
الأول: أن مورد الآية غزوة بدر وفي ذلك الوقت لم يكن لمن أسلم من بني
هاشم أيتام ومساكين وأبناء سبيل ولكن كثرت الأصناف الثلاثة من غيرهم. اللهم
إلا أن يقال إن التشريع وقع بلحاظ الأعصار اللاحقة لا عصر النزول فقط.
الثاني: مماثلة آية الفيء (2) لهذه الآية في الألفاظ والخصوصيات، والفئ
عندنا من الأنفال المختصة بالإمام ولا تقسيم ولا تسهيم فيه، نعم للإمام صرفه في
الأصناف الثلاثة مطلقا.
وأما الأخبار المتعرضة لمصرف الخمس فكثيرة يظهر من بعضها تقسيمه على
ستة أسهم ومن بعضها تقسيمه على خمسة أسهم، ولنذكر نماذج منها:
1 - مرسلة حماد الطويلة عن العبد الصالح (عليه السلام) قال:... ويقسم بينهم الخمس
على ستة أسهم: سهم لله وسهم لرسول الله وسهم لذي القربى وسهم لليتامى وسهم
للمساكين وسهم لأبناء السبيل... " (3).
2 - صحيحة ربعي بن عبد الله، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " كان رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أتاه المغنم أخذ صفوه وكان ذلك له ثم يقسم ما بقي خمسة أخماس
ويأخذ خمسه، ثم يقسم أربعة أخماس بين الناس الذين قاتلوا عليه. ثم قسم
الخمس الذي أخذه خمسة أخماس: يأخذ خمس الله - عز وجل - لنفسه. ثم يقسم
الأربعة أخماس بين ذوي القربى واليتامى والمساكين وأبناء السبيل يعطي كل

(1) الوسائل: 6، 356.
(2) الحشر 59: 7.
(3) أصول الكافي: 1، 539.
478

واحد منهم حقا. وكذلك الإمام يأخذ كما أخذ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) " (1).
وظاهر هذه الصحيحة عموم الأصناف الثلاثة وعدم اختصاصها بالذرية.
هذا ولكن يشكل القول بالتقسيم لأن في تفسير الآية احتمال آخر مر ذكره.
الخمس حق وحداني ثابت لمنصب الإمامة:
قد مر منا في تفسير الآية الشريفة احتمال آخر قوي وهو أن يراد بها
الترتيب في الاختصاص لا التقسيم والتسهيم، بتقريب أن الخمس بأجمعه حق
وحداني جعله الله - تعالى - لمنصب الإمامة والحكم فيكون أولا وبالذات لله
- تعالى - وفي الرتبة المتأخرة يكون بأجمعه للرسول بما أنه خليفة الله في الحكم،
وبعده للإمام القائم مقامه. ومثله الأنفال أيضا.
ويشهد لهذا الاحتمال سياق الآية وأخبار كثيرة:
أما الآية فأولا: من جهة أنه - تعالى - أدخل لام الاختصاص على اسمه
الشريف وعلى كل من الرسول وذي القربى. وظاهر اللام الاختصاص التام
والملكية المستقلة.
ومقتضى ذلك اختصاص جميع الخمس بالله - تعالى - مستقلا وبالرسول
كذلك وبذي القربى كذلك ولا محالة يكون ذلك طولية مترتبة.
وأما الأصناف الأخر فلا اختصاص بهم ولا ملكية لهم وإنما هم مصارف
محضة.
وثانيا: من جهة أن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر، وعلى هذا فتقديم
قوله: " لله " على قوله: " خمسه " مما يظهر منه اختصاص جميع الخمس بالله.
وأما الأخبار:

(1) الوسائل: 6، 356.
479

1 - فعن علي (عليه السلام) قال: " وأما ما جاء في القرآن من ذكر معايش الخلق
وأسبابها فقد أعلمنا - سبحانه - ذلك من خمسة أوجه: وجه الإمارة ووجه العمارة
ووجه الإجارة ووجه التجارة ووجه الصدقات.
فأما وجه الامارة فقوله - تعالى -: (واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله
خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين) فجعل لله خمس
الغنائم... " (1).
ولكن في صحة الرواية كلام.
2 - عن جعفر بن محمد عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال علي (عليه السلام): " الوصية
بالخمس، لأن الله - عز وجل - قد رضى لنفسه بالخمس " (2).
يظهر منه أن الخمس بأجمعه لله - تعالى - نعم يحتمل أن يراد بالخمس في
الرواية ما يوصى به من القربات لا الخمس المصطلح.
3 - قول الرضا (عليه السلام) في تفسير آية الخمس: " الخمس لله والرسول، وهو
لنا " (3). فجعل جميع الخمس لأنفسهم.
ومما يشهد أيضا لكون الخمس حقا وحدانيا ثابتا للإمام بما أنه إمام، أخبار
التحليل بكثرتها، إذ يستفاد منها أنه (عليه السلام) هو المرجع الوحيد في الخمس وأنه بأجمعه
له وأن الأصناف الثلاثة من باب المصرف.
ويشهد لذلك أيضا أنه - تعالى - جعل الفيء أيضا في آية الفيء (4) لنفس
المصارف الستة المذكورة في آية الخمس بلا تفاوت بينهما مع اختصاص الفيء

(1) الوسائل: 6، 341.
(2) الوسائل: 13، 361.
(3) الوسائل: 6، 361.
(4) الحشر 59: 7.
480

بالإمام وعدم وجوب تقسيمه ستة أسهم، وسيأتي البحث في آية الفيء.
ومقتضى الجمع بين ما دل على كون جميع الخمس حقا للإمام بما هو إمام،
وبين أخبار التقسيم هو حمل اخبار التقسيم على الجدل والإلزام أو نحو ذلك من
المحامل [حيث إن فتوى أبي حنيفة هو الرائج في عصر الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام)
وكان قائلا بتقسيم الخمس ثلاثة أسهم للأصناف الثلاثة] والالتزام بكون الخمس
بأجمعه للإمام.
ويشهد لذلك نفس أخبار التقسيم أيضا، حيث دلت على أن الزائد عن
مؤونة السنة للأصناف الثلاثة كان للإمام وكان يرجع إليه، فينتفي ملكية الأصناف
الثلاثة وثبوت التقسيم المتساوي قهرا.
فيتعين أن الخمس حق وحداني جعل لمنصب الإمامة ويكون تحت اختيار
الإمام وعليه أن يصرفه في جميع ما يراه من المصالح، كما جعلت الزكاة وسائر
الضرائب الإسلامية أيضا تحت اختياره، غاية الأمر أنه يتعين عليه أن يمون فقراء
بني هاشم من تلك الضريبة المنسوبة إلى الإمامة والإمارة رفعا لشأنهم لأنهم من
أهل بيت النبوة.
ولو أبيت ما ذكرناه فلنا أن نشيد المطلب بطريق آخر، ومحصله: أن خمس
المال المخلوط بالحرام لعله يكون من قبيل الصدقات.
وخمس أرض الذمي أيضا يكون من قبيل الزكوات. والمعادن والكنوز وما
في قعر البحار أيضا حيث إنها من الأنفال المختصة بالإمام، فالخمس فيها من قبيل
حق الاقطاع وهو بأجمعه للإمام بما هو إمام.
وأما خمس الأرباح فحيث يحتمل كونه من الضرائب المرسومة من قبل
الأئمة المتأخرين (عليهم السلام) لاحساس الاحتياج إليه بعد انقطاع أيديهم من الزكوات
والضرائب المشروعة من قبل الله - تعالى - فهو أيضا يختص بالإمام، ولذا أضافه
481

إلى نفسه بقوله (عليه السلام): " لي منه الخمس مما يفضل من مؤونته " (1).
وعلى هذا فلا يبقى للتقسيم والتسهيم إلا خمس مغانم الحرب. وموضوعه
منتف في أعصارنا.
الرابعة: في حكم الخمس في عصر الغيبة:
قال الشيخ: " فأما في حال الغيبة فقد رخصوا لشيعتهم التصرف في حقوقهم
مما يتعلق بالأخماس وغيرها فيما لابد لهم منه من المناكح والمتاجر والمساكن.
فأما ما عدا ذلك فلا يجوز له التصرف فيه على حال.
وما يستحقونه من الأخماس في الكنوز وغيرها في حال الغيبة فقد اختلف
قول أصحابنا فيه، وليس فيه نص معين إلا أن كل واحد منهم قال قولا يقتضيه
الاحتياط... " (2).
أقول: المسألة خلافية عند القدماء ولا إجماع فيها ولا شهرة، فيجب أن
يعمل فيها بما يقتضيه القواعد.
وقد أنهى الأقوال صاحب الحدائق إلى أربعة عشر (3) واستقرب، هو صرف
النصف إلى الأصناف وإباحة حصة الإمام للشيعة.
وللمتأخرين من الأصحاب قولان آخران:
الأول: صرف حصة الأصناف إليهم والتصدق بحصة الإمام من قبله، لما
يستفاد من أخبار التصدق بالمال (4) إذا لم يمكن إيصاله إلى صاحبه وإن كان

(1) الوسائل: 6، 348.
(2) النهاية: 200.
(3) الحدائق: 12، 437.
(4) الوسائل: 17، 357.
482

يعرفه بشخصه. وقد قوى هذا القول في الجواهر ومصباح الفقيه.
الثاني: صرف حصة الأصناف إليهم وصرف حصة الإمام فيما يعلم برضاه
أو يوثق به من تتميم نصيب الذرية أو إعانة فقراء الشيعة أو إدارة الحوزات العلمية
وكل ما فيه تشييد مباني الدين المبين.
أقول: ضعف بعض الأقوال كالقول بوجوب دفن الجميع أو حصة الإمام إلى
أن يظهر الإمام ويستخرجه، أو عزله وحفظه وإيداعه إلى أن يصل إليه ونحو ذلك
مما يوجب ضياع المال وتلفه وحرمان مستحقيه وتعطيل مصارفه الضرورية
واضح كالقول بالتحليل المطلق ولا سيما بالنسبة إلى سهام الأصناف مع حرمانهم
عن الزكاة أيضا.
ولا يخفى أن أكثر الأقوال مبتن على تنصيف الخمس وكون نصفه ملكا
للأصناف الثلاثة والنصف الآخر لشخص الإمام المعصوم ومن أمواله الشخصية،
ولكن قد مر منا أن الخمس بأجمعه حق وحداني جعل لمنصب الإمامة والحكومة
الحقة، فهو مال الإمام بما أنه إمام لا لشخصه. وحيثية الإمامة لوحظت تقييدية
لا تعليلية، ونحوه الأنفال فإنهما أموال عامة جعلتا شرعا في اختيار ممثل
المجتمع ومن له حق الحكم عليهم في كل عصر. وحيث إن الإمامة والحكومة لا
تتعطل شرعا ولو في عصر الغيبة فلا محالة لا يجوز حذف النظام المالي المقرر لها.
والخمس والأنفال من أهم المنابع المالية للحكومة الإسلامية.
وعدم بسط يد الفقهاء الصالحين للحكومة وعدم استقرار الحكومة لهم لا
ينافي وجوب تصديهم لبعض شؤونها الممكنة وصرف الأموال المقررة في
مصارفها، كما استقر على ذلك عمل أئمتنا (عليهم السلام).
ومن أهم المصارف الواجبة عقلا وشرعا حفظ الحوزات العلمية الدينية
483

وترويج الشرع المبين وتهيئة المقدمات والوسائل لتحقيق الحكومة الصالحة
الدينية.
484

الفصل الثالث
في الأنفال
وفيه جهات من البحث:
الأولى: في تفسير آية الأنفال ومعنى الأنفال والمقصود منها في الآية وفي
فقه الفريقين:
قال الله - تعالى -: (ويسألونك عن الأنفال، قل الأنفال لله والرسول...) (1).
قال الراغب: " النفل قيل هو الغنيمة بعينها... وقيل: هو ما يحصل للمسلمين
بغير قتال وهو الفيء. وقيل: هو ما يفضل من المتاع ونحوه بعدما تقسم الغنائم،
وعلى ذلك حمل قوله: " ويسألونك عن الأنفال ". وأصل ذلك من النفل أي الزيادة
على الواجب... " (2).
وقال أبو عبيدة: " فالأنفال أصلها جماع الغنائم إلا أن الخمس منها
مخصوص لأهله على ما نزل به الكتاب وجرت به السنة... " (3).
وقال الشيخ في تفسير آية الأنفال: " اختلف المفسرون في معنى الأنفال

(1) الأنفال 8: 1.
(2) المفردات: 524.
(3) الأموال: 386.
485

ههنا: فقال بعضهم هي الغنائم التي غنمها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم بدر فسألوه لمن هي فأمر
الله - تعالى - نبيه أن يقول لهم: هي لله ولرسوله، ذهب إليه عكرمة ومجاهد
والضحاك وابن عباس وقتادة وابن زيد.
وقال قوم: هي أنفال السرايا، ذهب إليه علي بن صالح بن يحيى (الحسن
ابن صالح بن حي - المجمع). وقال قوم: هو ما شذ من المشركين إلى المسلمين من
عبد أو جارية من غير قتال أو ما أشبه ذلك، عن عطاء.
وقال: هو للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة يعمل به ما يشاء. وروى عن ابن عباس في
رواية أخرى: أنه ما سقط من المتاع بعد قسمة الغنائم من الفرس والدرع والرمح.
وفي رواية أخرى: أنه سلب الرجل وفرسه ينفل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من شاء.
وقال قوم: هو الخمس روى ذلك عن مجاهد.
وروى عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام): أن الأنفال كل ما أخذ من دار
الحرب بغير قتال إذا انجلى عنها أهلها... " (1).
وفي مجمع البيان في ذيل الآية، قال: " قال ابن عباس: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال
يوم بدر: من جاء بكذا فله كذا، ومن جاء بأسير فله كذا، فتسارع الشبان وبقى
الشيوخ تحت الرايات فلما انقضى الحرب طلب الشبان ما كان قد نفلهم
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) به فقال الشيوخ كنا ردءا لكم ولو وقعت عليكم الهزيمة لرجعتم إلينا
وجرى بين أبي اليسر بن عمرو الأنصاري أخي بني سلمة وبين سعد بن معاذ كلام
فنزع الله - تعالى - الغنائم منهم وجعلها لرسوله يفعل بها ما يشاء فقسمها بينهم
بالسوية (2).
وفي تفسير الميزان قال: " الأنفال جمع نفل وهو الزيادة على الشئ...

(1) التبيان: 1، 780.
(2) مجمع البيان: 2، 517 و 518.
486

وتطلق على غنائم الحرب، كأنها زيادة على ما قصد منها، فإن المقصود بالحرب
والغزوة: الظفر على الأعداء واستيصالهم فإذا غلبوا وظفر بهم فقد حصل المقصود.
والأموال التي غنمها المقاتلون والقوم الذين أسروهم زيادة على أصل
الفرض " (1).
أقول: راجع في تفسير الآية أيضا تفسير علي بن إبراهيم القمي وتحف
العقول - رسالة الإمام الصادق (عليه السلام) في الغنائم، - وسيرة ابن هشام وتفسير القرطبي،
والدر المنثور، وسنن البيهقي، والأموال لأبي عبيد (2) وغير ذلك من الكتب يظهر
لك بذلك أن الغنائم من الأنفال قطعا إما بأجمعها أو بعض الأصناف منها وأنها التي
وقع فيها النزاع والسؤال ونزلت فيها الآية حيث إن مورد الآية هو غنائم بدر وإن
لم تعد منها في كلمات الفقهاء.
نعم: الأموال العامة كأرض الموات والجبال والآجام والقرى الخربة
ونحوها أيضا تكون عندنا من الأنفال بل هي المنصرف إليها اللفظ في فقه الشيعة
لأن الأموال على قسمين: أموال شخصية متعلقة عرفا وشرعا بالأشخاص، وأموال
عامة.
ونظام التشريع الصحيح هو ما ينطبق على نظام التكوين ويكون التكوين
أساسا له؛ فأنت ترى أن الشخص يملك تكوينا لأعضائه وجوارحه ولفكره وقواه
فيملك بتبع ذلك لأفعاله الصادرة منها ولمحصول أفعاله.
فمن أحيا أرضا ميتة مثلا فهي له بما أنها محياة ويملك هو آثار الحياة

(1) الميزان: 9، 5.
(2) راجع تفسير علي بن إبراهيم: 235 وتحف العقول: 339 وسيرة ابن هشام: 2، 295
وتفسير القرطبي: 8، 2 والدر المنثور؛ 3، 158 وسنن البيهقي: 6، 291 والأموال: 382 وما
بعدها.
487

لكونها نتيجة لفعله وقواه، وله أن ينقل ما ملكه إلى غيره بعوض أو بلا عوض كما
أنه قد ينتقل هذا منه إلى وارثه قهرا بحكم العرف والشرع. فهذا كله ملاك الأموال
الشخصية وأساسها.
وأما الأموال العامة فهي كالأراضي الميتة والجبال والآجام مما خلقها الله
- تعالى - للأنام، فهي زائدة على الأموال والأملاك المتعلقة بالأشخاص. ومثلها
غنائم الحرب.
فالنفل بفتح العين وسكونها وجمعه الأنفال يطلق عندنا على غنائم الحرب
وكذلك على الأموال العامة، والظاهر أن إطلاقه عليهما بملاك واحد وهو كونهما
زائدتين على الأموال المتعلقة بالأشخاص. وقد ظهر أن مفهوم الزيادة مأخوذة
في النفل.
وليعلم أنه ليس بين الأنفال وآية الخمس تهافت وليس في البين نسخ كما
قيل من نسخ آية الأنفال بآية الخمس، إذ ليس كون الأنفال للرسول أو الإمام إلا
بمعنى كونها تحت اختياره وتدبيره وأنه المتصرف فيها ولو بتقسيمها بين الغانمين،
ولا يتعين في الغنائم التقسيم بل للإمام أن يصرفها فيما ينوبه من المصالح العامة،
فإن بقي منها شئ خمسه ثم قسم الباقي. ويدل على ذلك مرسلة حماد وصحيحة
زرارة (1).
وقد ظهر لك مما مر أن الأنفال في فقه السنة وكلماتهم تطلق على خصوص
غنائم الحرب إما مطلقا أو على بعض أصنافها.
قال أبو عبيد: " وفي هذا النفل الذي ينفله الإمام سنن أربع لكل واحدة منهن
موضع غير موضع الأخرى: فإحداهن في النفل الذي لا خمس فيه. والثانية في
النفل الذي يكون من الغنيمة بعد إخراج الخمس. والثالثة في النفل الذي يكون من

(1) الوسائل: 6، 365.
488

الخمس نفسه والرابعة في النفل من جملة الغنيمة قبل أن يخمس منها شئ... " (1).
فالنفل بأقسامه الأربعة عند أبي عبيد لا يتجاوز حريم غنائم الحرب.
وعند البيهقي أيضا موضوع النفل والأنفال خصوص غنائم الحرب (2).
وراجع أيضا الأم للشافعي والمغني لابن قدامة (3).
ولكن المصطلح عليه في فقهنا إطلاقه على الأموال العامة التي لا تتعلق
بالأشخاص تبعا لما ورد من الأئمة (عليهم السلام) فكان بين المصطلح عندنا والمصطلح عليه
عند فقهاء السنة ومحدثيهم تباينا كليا.
قال المفيد: "... وكانت الأنفال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة في حياته، وهي
للإمام القائم مقامه من بعده خالصة... والأنفال كل أرض فتحت من غير أن يوجف
عليها بخيل ولا ركاب، والأرضون الموات، وتركات من لا وارث له من الأهل
والقربات، والآجام، والبحار، والمفاوز، والمعادن، وقطائع الملوك... " (4).
وقال الشيخ: " الأنفال كانت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة في حياته، وهي لمن
قام مقامه بعده في أمور المسلمين. وهي كل أرض خربة قد باد أهلها عنها، وكل
أرض لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب أو يسلمونها هم بغير قتال، ورؤوس
الجبال، وبطون الأودية والآجام والأرضون الموات التي لا أرباب لها، وصوافي
الملوك وقطائعهم مما كان في أيديهم من غير وجه الغصب، وميراث من لا وارث
له... " (5).

(1) الأموال: 387.
(2) سنن البيهقي: 6، 305 وما بعدها.
(3) الأم: 4، 66، والمغني: 10، 408 وما بعدها.
(4) المقنعة: 45.
(5) النهاية: 199.
489

وفي الكافي لأبي الصلاح: " فرض الأنفال مختص بكل أرض لم يوجف
عليها بخيل ولا ركاب، وقطائع الملوك، والأرضون الموات، وكل أرض عطلها
مالكها ثلاث سنين ورؤوس الجبال، وبطون الأودية من كل أرض والبحار
والآجام، وتركات من لا وارث له من الأموال وغيرها " (1).
إلى غير ذلك من كلمات فقهائنا في المقام، وسيأتي عبارة المحقق في
الشرائع في البحث عن مصاديق الأنفال بالتفصيل.
وعدم عدهم الغنائم من الأنفال مع كونها منها قطعا لكونها مورد نزول الآية،
لعله كان من جهة أنه يتعين عندهم تقسيم الغنائم بين المقاتلين ولا أقل من أن
يكون لهم حق ما، وعلى هذا فافترقت حكما عن الأنفال التي لا تعلق لها
بالمقاتلين أصلا بل تكون حقا للإمام بما هو إمام.
وأنت ترى كلماتهم مع تقاربها يخالف بعضها بعضا بحسب الأمثلة:
فذكر بعضهم المعادن والبحار مثلا ولم يذكرهما الآخرون. فلعله يشعر ذلك
بأن ما ذكروه من الأشياء يكون من باب المثال. وهكذا الكلام في أخبار الباب.
فيراد جميع الأموال العامة التي لا تتعلق بالأشخاص. وذلك يختلف بحسب
الأزمنة والأعصار؛ فالبحار والفضاء وحق عبور السيارات والطيارات من البلد
مثلا لها في أعصارنا أهمية وقيمة لم تكن لها في الأعصار السالفة فهي أيضا من
الأنفال الواقعة تحت اختيار الإمام.
وأما الأخبار المرتبطة بالأنفال ومصاديقها فكثيرة، فليراجع كتاب
الوسائل (2).

(1) الكافي لأبي الصلاح: 170.
(2) الوسائل: 6، 364 و 365 و 367.
490

الثانية: في أن الأنفال لله والرسول وبعده للإمام ومعنى كونها للإمام:
لا يخفى أن المالك لجميع الأشياء والأموال أولا وبالذات هو الله - تعالى -
فهو يملكنا ويملك جميع الأشياء والأموال بالملكية الحقيقية والواجدية التكوينية،
وعلى هذا الأساس يعتبر الملكية الاعتبارية أيضا لله - تعالى - وفي طولها للرسول
والإمام.
وأما ملكنا للأشياء فملكية اعتبارية محضة على أساس أن الإنسان أيضا
مالك لعقله وفكره وقواه تكوينا في طول مالكية الله - تعالى - لكل شئ. وبتبع
ذلك يملك محصول أفعاله من إحياء الأراضي وحيازة المباحات وصنعه في
المواد الأولية.
ومقتضى ما ذكرناه عدم مالكيته لما لم يقع تحت صنعه وفعله كالبحار
والقفار والآجام ونحوها، فهي تبقى على إطلاقها الأولي ملكا لله - تعالى - وقد
جعلها الله - تعالى - تشريعا للرسول وتحت اختياره وبعده للإمام القائم مقامه بما
هما إمامان.
ومعنى كون الخمس أو الفيء أو الأنفال للإمام يحتمل فيه بالنظر البدوي
ثلاثة احتمالات:
الأول: أن يكون عنوان الإمامة عنوانا مشيرا إلى شخص الإمام المتصدي
للإمامة، فأمير المؤمنين (عليه السلام) مثلا في عصر إمامته ملك جميع الأخماس والفئ
والأنفال لا بجهة إمامته بل بشخصه.
الثاني: أن تكون حيثية الإمامة حيثية تعليلية، فإمامة علي (عليه السلام) مثلا صارت
علة لصيرورة الأخماس والأنفال لشخص علي (عليه السلام) في عصر إمامته أجرة لإمامته
مثلا والعلة واسطة للثبوت.
الثالث: أن تكون حيثية الإمامة حيثية تقييدية تكون في الحقيقة هي
491

الموضوع، فالأنفال مثلا تكون ملكا لمقام الإمام ومنصبها لا للشخص. فتكون
الحيثية واسطة في العروض للشخص والحكم ثابت لنفس الواسطة.
والملكية أمر اعتباري يمكن اعتبارها للمقام والحيثية أيضا، كما ترى من
عد بعض الأموال ملكا للدولة والحكومة، بل للأمكنة أيضا كالمسجد والحسينية أو
المستشفى مثلا.
وقد ظهر لك أن الصحيح عندنا في المقام هو الاحتمال الثالث، كيف؟! وهل
يجوز أحد أن يجعل الإسلام الذي هو دين العدل والإنصاف الأنفال بأجمعها
وخمس جميع عوائد الناس لشخص واحد بشخصه ولو كان معصوما؟
وهل لا ينافي هذا التشريع حقيقة الإسلام وروحه المنعكسة في قوله
- تعالى -: (كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم)؟! (1) وأي حاجة للشخص بالنسبة
إلى هذه الأموال الكثيرة الواسعة بسعة الأرض، والناس إليها في حاجة شديدة؟
وليست التشريعات الإسلامية جزافية بل تكون على طبق المصالح النفس
الامرية.
ويؤيد ما ذكرناه ما في رسالة المحكم والمتشابه عن علي (عليه السلام): " إن للقائم
بأمور المسلمين بعد ذلك الأنفال التي كانت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)... " (2) فجعل فيه
الأنفال للقائم بأمور المسلمين، وظاهره كونها له بما أنه قائم بأمورهم، فهي من
الأموال العامة وتكون ملكا لمنصب الإمامة.
والأموال العامة قد تضاف إلى الله، وقد تضاف إلى الرسول أو الإمام كما في
المقام، وقد تضاف إلى المسلمين ومآل الكل واحد.
ففي نهج البلاغة: " وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة (خضم) الإبل

(1) الحشر 59: 7.
(2) الوسائل: 6، 370.
492

نبتة الربيع " (1).
وفيه أيضا مخاطبا عبد الله بن زمعة لما طلب منه مالا: " إن هذا المال ليس
لي ولا لك وإنما هو فيء للمسلمين وجلب أسيافهم " (2). مع ما مر منا من أن الغنائم
أيضا من الأنفال وأنها تحت اختيار الإمام.
ويشهد لما اخترناه من الاحتمالات الثلاث، خبر علي بن راشد عن أبي
الحسن الثالث (عليه السلام): "... ما كان لأبي بسبب الإمامة فهو لي، وما كان غير ذلك فهو
ميراث على كتاب الله وسنة نبيه " (3).
وصحيحة أبي ولاد الحناط، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل مسلم قتل
رجلا مسلما (عمدا) فلم يكن للمقتول أولياء من المسلمين إلا أولياء من أهل
الذمة من قرابته، فقال: " على الإمام أن يعرض على قرابته من أهل بيته (دينه)
الإسلام، فمن أسلم منهم فهو وليه يدفع القاتل إليه؛ فإن شاء قتل، وإن شاء عفا، وإن
شاء أخذ الدية.
فإن لم يسلم أحد كان الإمام ولي أمره؛ فإن شاء قتل، وإن شاء أخذ الدية
فجعلها في بيت مال المسلمين لأن جناية المقتول كانت على الإمام فكذلك تكون
ديته لإمام المسلمين. قلت: فإن عفا عنه الإمام؟ قال: فقال: إنما هو حق جميع
المسلمين وإنما على الإمام أن يقتل أو يأخذ الدية، وليس له أن يعفو " (4).
يظهر منها أن كون الشئ للإمام عبارة أخرى عن كونه للمسلمين، ولذا
حكم بجعله في بيت مال المسلمين، فيكون الشئ لمنصب الإمامة لا لشخصه.

(1) نهج البلاغة، عبده: 1، 30، صالح: 49، الخطبة 3.
(2) نهج البلاغة، عبده: 2، 253، صالح: 353، الخطبة 232.
(3) الوسائل: 6، 374.
(4) الوسائل: 19، 93.
493

كيف؟! ولو كان لشخصه لكان له العفو قطعا.
ولفظ الإمام لا في أصل اللغة ولا في أمثال تلك الروايات ليس موضوعا
للأئمة الاثني عشر أو مشيرا إليهم: فقد قال علي بن الحسين (عليه السلام) في حديث
الحقوق: " وكل سائس إمام " (1).
فالمراد به هو الحاكم الواجد للشرائط في عصره، والأموال ليست لشخصه
حتى تحفظ له، أو تصرف فيما حصل العلم برضاه، أو فيما يجب عليه، أو يتصدق
من قبله. بل لمقام الإمامة ومنصبها بنحو التقييد، ومنه تنتقل إلى الإمام بعده، وفي
الحقيقة تكون الأموال المذكورة من الأموال العامة ومن أهم أركان النظام المالي
للحكومة الإسلامية، جعلت تحت اختيار ممثل المجتمع وتصرف في مصالح
الإمام والأمة.
وهذا عندنا واضح بين ولكن مصير الأعاظم إلى أن المراد بالإمام، الإمام
المعصوم الخاص فيكون اللفظ إشارة إلى الأئمة الاثني عشر وتكون الأموال
المذكورة لأشخاصهم.
وكلماتهم وإن وردت في باب الخمس غالبا ولكن يظهر منهم وكذا من
الأخبار كون الخمس والأنفال على مساق واحد:
قال الشيخ: " وليس لأحد أن يتصرف فيما يستحقه الإمام من الأنفال
والأخماس إلا بإذنه، فمن تصرف في شئ من ذلك بغير إذنه كان عاصيا...
هذا في حال ظهور الإمام، فأما في حال الغيبة فقد رخصوا لشيعتهم
التصرف في حقوقهم مما يتعلق بالأخماس وغيرها فيما لابد لهم منه من المناكح
والمتاجر والمساكن. فأما ما عدا ذلك فلا يجوز له التصرف فيه على حال. وما
يستحقونه من الأخماس في الكنوز وغيرها في حال الغيبة فقد اختلف قول

(1) الخصال: 565.
494

أصحابنا فيه...
وقال قوم: يجب أن يقسم الخمس ستة أقسام: فثلاثة أقسام للإمام يدفن أو
يودع عند من يوثق بأمانته. والثلاثة أقسام الأخر يفرق على مستحقيه من أيتام
آل محمد ومساكينهم وأبناء سبيلهم. وهذا مما ينبغي أن يكون العمل عليه... " (1).
وقال العلامة في بيان حكم سهم الإمام في عصر الغيبة: " وهل يجوز قسمته
في المحاويج من الذرية كما ذهب إليه جماعة من علمائنا؟ الأقرب ذلك لما تقدم
من الأحاديث إباحة البعض للشيعة حال ظهورهم فإنه يقتضي أولوية إباحة
أنسابهم (عليهم السلام) مع الحاجة حال غيبة الإمام (عليه السلام) لاستغنائه (عليه السلام) وحاجتهم " (2).
فالعلامة (رحمه الله) كان يظن أن المال لشخص الإمام المعصوم وهو في حال الغيبة
مستغن عنه.
واستقرب هذا الكلام في الشرائع والجواهر ومصباح الفقيه وزبدة المقال
للعلامة الأستاذ البروجردي طاب ثراهم، فراجع (3).
فهذه نماذج من كلمات الأعاظم في المقام تراهم يرون الخمس مجعولا
لشخص الإمام المعصوم والسادة الفقراء فقط بالمناصفة. كأنهم لبعدهم عن ميدان
السياسة والحكم لم يخطر ببالهم ارتباط الخمس والأنفال والأموال العامة بباب
الحكومة وسعة نطاقها واحتياجها إلى نظام مالي واسع وانصرف لفظ الإمام الوارد
في اخبار الباب في أذهانهم إلى خصوص الأئمة الاثني عشر المعصومين عندنا
وحملوا الملكية للإمام على الملكية الشخصية.

(1) النهاية: 200 - 201.
(2) المختلف: 210.
(3) الشرائع: 1، 182 ومصباح الفقيه: 159 والجواهر: 16، 177 وزبدة المقال: 139 و 141.
495

الثالثة: في بيان الأنفال بالتفصيل:
قد مر أن المقصود من الأنفال جميع الأموال العامة التي خلقها الله - تعالى -
للأنام ولا تنحصر في أمور خاصة. فما ذكر في الأخبار وكلمات الأصحاب
يحتمل أن يكون من باب المثال.
فالأرض في الأعصار السالفة كانت أهم الأموال العامة وأقومها، وفي
أعصارنا صار البحر والجو أيضا من أهمها.
ولكن يظهر من الشرائع حصر الأنفال في أمور خمسة، حيث قال:
" الأول في الأنفال: وهي ما يستحقه الإمام من الأموال على جهة
الخصوص كما كان للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي خمسة: الأرض التي تملك من غير قتال سواء
انجلى أهلها أو سلموها طوعا، والأرضون الموات سواء ملكت ثم باد أهلها أو لم
يجر عليها ملك كالمفاوز وسيف البحار ورؤوس الجبال وما يكون بها وكذا بطون
الأدوية والآجام، وإذا فتحت دار الحرب فما كان لسلطانهم من قطائع وصفايا
فهي للإمام إذا لم تكن مغصوبة من مسلم أو معاهد، وكذا له أن يصطفي من الغنيمة
ما شاء من فرس أو ثوب أو جارية أو غير ذلك ما لم يجحف، وما يغنمه المقاتلون
بغير إذنه فهو له (عليه السلام) " (1).
ولم يذكر هو ميراث من لا وارث له والمعادن مع ورود الأخبار بهما
والأول متفق عليه أنه من الأنفال.
وكيف كان فلنتعرض للعناوين المشهورة والاستدلال عليها:
الأول: الأرضون الموات والخربة:
قال في الصحاح: " الموت ضد الحياة... والموات بالفتح ما لا روح فيه،

(1) الشرائع: 1، 183.
496

والموات أيضا الأرض التي لا مالك لها من الآدميين ولا ينتفع بها أحد... " (1).
وفي النهاية: " وفيه: من أحيا مواتا فهو أحق به. الموات: الأرض التي لم
تزرع ولم تعمر ولا جرى عليها ملك أحد... " (2).
وفي مجمع البحرين: " والموات بالضم وبالفتح يقال لما لا روح فيه ويطلق
على الأرض التي لا مالك لها من الآدميين... دار خربة بكسر الراء وهي التي باد
أهلها، والخراب ضد العمارة " (3).
والظاهر كون الموات والموتان بحسب العرف بل بحسب اللغة أيضا أعم
مما عرضه الموت فما كان حيا ثم زالت عنه الحياة بالكلية يصدق عليه الميت
قطعا.
والمتبادر من موت الأرض خرابها وعطلتها بحيث لا تصلح أن ينتفع بها
وإن فرض بقاء بعض رسوم العمارة وآثارها.
نعم لا يكفي في صدق الموات مطلق العطلة بانقطاع الماء أو استيلائه موقتا
لحوادث آنية، بل لابد من أن تكون بحيث يتوقف الانتفاع منها إلى إعداد وإصلاح
جديد يسمى إحياء.
وأما الخربة فربما ينسبق إلى الذهن اختصاصها بما كانت عامرة في سالف
الزمان ثم عرضها الموت فلا تشمل الموات بالأصالة (4).
وقال الشيخ: " الأرضون الغامرة في بلاد الإسلام التي لا يعرف لها صاحب

(1) صحاح اللغة: 1، 266.
(2) النهاية لابن الأثير: 4، 370.
(3) مجمع البحرين: 144 و 108.
(4) الظاهر أن المراد بالموات، الموات بالأصالة والخربة هي الأرض المحياة التي عرضها
الخراب - م -.
497

معين للإمام خاصة... دليلنا إجماع الفرقة على أن تكون أرض الموات للإمام
خاصة وأنها من جملة الأنفال، ولم يفصلوا بين ما يكون في دار الإسلام وبين ما
يكون في دار الحرب " (1).
وقال أيضا: " الأرضون الغامرة في بلد الشرك التي لم يجر عليها ملك أحد
للإمام خاصة... " (2).
وفي النهاية: " الغامر: ما لم يزرع مما يحتمل الزراعة من الأرض، سمى
غامرا لأن الماء يغمره... " (3).
وقال ابن زهرة: " والأرضون الموات للإمام خاصة دون غيره وله التصرف
فيها بما يراه من بيع أو هبة أو غيرهما وأن يقبلها بما يراه... ودليل ذلك كله
الإجماع المتكرر وفيه الحجة " (4).
فظاهر الأصحاب كما ترى الإجماع في الحكم في المسألة.
ويدل على الحكم أخبار كثيرة:
منها: صحيحة حفص عن أبي عبد الله (عليه السلام) في عداد الأنفال، قال: " وكل أرض
خربة... " (5).
ومنها: مرسلة حماد الطويلة: " وله بعد الخمس الأنفال، والأنفال كل أرض
خربة باد أهلها... وكل أرض ميتة لا رب لها " (6).
ومنها: مرفوعة أحمد بن محمد في عداد ما للإمام قال: " وبطون الأودية

(1) الخلاف: 2، 222.
(2) الخلاف: 2، 222.
(3) النهاية لابن الأثير: 3، 383.
(4) الجوامع الفقهية: 523.
(5) الوسائل: 6، 364.
(6) الوسائل: 6، 365.
498

ورؤوس الجبال والموات كلها هي له وهو قوله - تعالى -: يسألونك عن الأنفال.
الحديث " (1).
والظاهر من العمومات والإطلاقات الواردة في هذه الروايات عدم الفرق
بين الموات في بلاد الإسلام والموات في بلاد الكفر فجميعها من الأموال العامة.
ولا فرق أيضا بين أن لم يجر عليها ملك كالمفاوز أو ملكت وباد أهلها،
وبين أن يكون المالك الأولي شخصا أو عنوانا أو جهة كالأراضي المفتوحة عنوة
التي هي ملك للمسلمين بما هم مسلمون، والأراضي الموقوفة على العناوين
والجهات العامة بناء على كون الوقف ملكا وذلك لأن الأراضي من الأموال العامة
التي خلقها الله لجميع الأنام، والمحيي لها لا يملك رقبتها بل يملك آثار الاحياء
التي وقعت بفعله وصنعه وهي التي تنتقل من الكفار إلى المسلمين فإذا خربت
وانعدم آثار الإحياء بالكلية انقطعت نسبتها من المحيي وصارت تحت اختيار
الإمام.
وبذلك يظهر حكم الموقوفات أيضا فإن الواقف لا يقف إلا ما كان ملكا له
من آثار الإحياء.
الثاني: رؤوس الجبال وبطون الأودية والآجام:
قال الشيخ الأنصاري (رحمه الله): " لا خلاف ظاهرا في كونها من الأنفال في
الجملة " (2).
ويدل على الحكم - مضافا إلى كونها مواتا غالبا - مرسلة حماد الطويلة،
عن العبد الصالح (عليه السلام) قال في عداد الأنفال التي للإمام: " وله رؤوس الجبال وبطون

(1) الوسائل: 6، 369.
(2) كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري: 493.
499

الأودية والآجام وكل أرض ميتة لا رب لها " (1).
وخبر داود بن فرقد، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلت: وما الأنفال؟ قال:
" بطون الأودية ورؤوس الجبال والآجام... " (2).
وضعف الخبرين منجبر باشتهار الحكم بين الأصحاب، ولا سيما أن مرسلة
حماد قد عمل بها الأصحاب في الأبواب المختلفة.
هذا مضافا إلى أن الملاك في الأنفال التي للإمام كون المال من الأموال
العامة التي لا تتعلق بالأشخاص ولم تحصل بصنعهم، إذ عرفت سابقا أن أساس
الملكية للأشخاص هو الصناعة والعمل فلا يختص بهم إلا ما حصل بصنعهم أو
انتقل إليهم ممن حصل له بعمله ولو بوسائط، بالنواقل الاختيارية أو القهرية.
وأما معنى الآجام؛ ففي لسان العرب: " الأجمة: منبت الشجر كالغيضة، وهي
الآجام ".
وعن ابن سيدة: " والأجمة: الشجر الكثير الملتف... " (3).
ولكن في الروضة: " الآجام بكسر الهمزة وفتحها مع المد جمع أجمة
بالتحريك المفتوح، وهي الأرض المملؤة من القصب " (4).
أقول: الظاهر اتحاد الحكم في كليهما، إذ كلاهما من مظاهر الطبيعة التي لا
تتعلق بأشخاص خاصة فيكونان للإمام. هذا.
ومقتضى ما ذكرناه من الملاك وكذا إطلاق الأخبار عموم الحكم المذكور
للآجام وشقيقيها لما كان منها في الأراضي المفتوحة عنوة أو في جوار الأراضي

(1) الوسائل: 6، 365.
(2) الوسائل: 6، 372.
(3) لسان العرب: 12، 8.
(4) اللمعة الدمشقية: 2، 84.
500

المحياة الشخصية أيضا إلا أن تكون من مرافقها العرفية، فإنه لا ينتقل إلى
المسلمين من الأراضي المفتوحة عنوة إلا ما أحياها الكفار وصارت ملكا لهم،
فيبقى مواتها وجبالها وأوديتها وآجامها على اشتراكها الأولى فتكون للإمام.
وكذلك المسلم المحيي للأرض لا يملك إلا ما أحياها، فلا يملك الجبال
والأودية والآجام المجاورة للأرض المحياة له.
الثالث: سيف البحار:
سيف البحار بالكسر، أي ساحلها. ذكره في الشرائع ولا دليل عليه
بخصوصه، نعم لما كان الغالب عليه كونه مواتا فإن البحر وكذا الأنهار العظيمة لها
جزر ومد وتغييرات في سواحلها فيبقى الساحل مواتا لذلك فيكون من مصاديق
الأرض الموات. وهو المحتمل في عبارة الشرائع أيضا بأن يكون عطفا على
المفاوز وإلا لزادت الأنفال عن الخمسة.
ولو فرض كونه عامرا بالأصالة ذا أشجار نافعة صار من مصاديق الأرض
التي لا رب لها، ولو كان ملكا لأحد بالاحياء فغمره الماء فصار مواتا وأعرض عنه
صاحبه أو باد أهله فكذلك يصير للإمام.
الرابع: كل أرض عطلها مالكها ثلاث سنين:
عدها أبو الصلاح من الأنفال (1) فوزان هذه الأرض عنده وزان الأرض
الموات تكون تحت اختيار الإمام يقبلها من يراه بما يراه صلاحا.
والأصل في ذلك ما رواه الكليني عن العبد الصالح (عليه السلام)، قال: " إن الأرض
لله - تعالى - جعلها وقفا على عباده، فمن عطل أرضا ثلاث سنين متوالية لغير ما
علة أخذت من يده ودفعت إلى غيره... " (2).

(1) الكافي لأبي الصلاح الحلبي: 170.
(2) الوسائل: 17، 345.
501

والأرض في قوله: " من عطل أرضا " تعم بإطلاقها للمحجرة والمحياة معا
وإن كانت الأولى هي القدر المتيقن منها.
ومضمون الخبر مروي في كتب السنة في الأرض المحجرة:
ففي خراج أبي يوسف: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " عادي الأرض لله وللرسول
ثم لكم من بعد، فمن أحيا أرضا ميتة فهي له وليس لمحتجر حق بعد ثلاث
سنين " (1).
الخامس: المعادن مطلقا على قول قوي:
والأقوال في المسألة ثلاثة أو أربعة: الأول: كونها من الأنفال مطلقا. الثاني:
نفي ذلك مطلقا وأن الناس فيها شرع. الثالث: التفصيل وجعلها تابعة للأرض التي
فيها؛ فما في أرض الأنفال تكون منها، وما في الملك الشخصي أو المفتوحة عنوة
أيضا تتبعهما.
وربما يلوح من بعض العبارات التفصيل بين المعادن الظاهرة والباطنة
فتكون الأولى مباحة لجميع الناس والثانية للإمام.
قال الشيخ في بيان أقسام الأرضين: " ومنها: أرض الأنفال... " وعد منها
المعادن ثم قال: " وهذه كلها خاصة للإمام... " (2).
وقال في المبسوط: " وأما المعادن فعلى ضربين: ظاهرة وباطنة: فالباطنة
لها باب نذكره، وأما الظاهرة فهي الماء والقير والنفط والموميا والكبريت والملح
وما أشبه ذلك، فهذا لا يملك بالاحياء ولا يصير أحد أولى به بالتحجير من غيره،
وليس للسلطان أن يقطعه بل الناس كلهم فيه سواء يأخذون منه قدر

(1) الخراج: 65.
(2) النهاية: 419.
502

حاجتهم... " (1).
وقال: " وأما المعادن الباطنة مثل الذهب والفضة والنحاس... فهل تملك
بالاحياء أم لا؟ قيل فيه قولان: أحدهما: أنه يملك وهو الصحيح عندنا، والثاني: لا
يملك ويجوز للسلطان إقطاعه لأنه يملكه عندنا... " (2).
أقول: ظاهر كلامه الأخير أن كون المعادن الباطنة للإمام متفق عليه عندنا.
وراجع في حكم المعادن والتفصيل بين الظاهرة والباطنة منها والأقوال فيها
الشرائع (3) والتذكرة (4) والمغني لابن قدامة أيضا (5).
وللظاهرة والباطنة تفسيران:
الأول: الظاهرة ما ظهرت بنفسها على وجه الأرض، والباطنة ما تكون في
باطن الأرض مما تحتاج إلى حفر واستخراج.
الثاني: الظاهرة ما لا تحتاج إلى صنع وتصفية في بروز الجوهر وإن كانت
في باطن الأرض. والباطنة ما تحتاج إلى صنع وتصفية كالذهب ومثله وإن كانت
على وجه الأرض.
ولكن لا يوجد في أخبارنا أثر من الفرق بين المعادن الظاهرة والباطنة.
وليس هو من الأصول المتلقاة من المعصومين (عليهم السلام) حتى يفيد فيه الإجماع أو
الشهرة.
ويدل على كون المعادن مطلقا من الأنفال أخبار:

(1) المبسوط: 3، 274.
(2) المبسوط: 3، 277.
(3) الشرائع: 3، 278.
(4) التذكرة: 2، 403 و 404.
(5) المغني: 6، 156 وما بعدها.
503

1 - موثقة إسحاق بن عمار، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الأنفال فقال: "...
والمعادن منها... " (1).
2 - وعن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " لنا الأنفال " قلت: وما الأنفال؟
قال: " منها المعادن... " (2).
3 - وعن داود بن فرقد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: قلت: وما
الأنفال؟ قال: "... والمعادن... " (3).
فظاهر هذه الأخبار كون المعادن من الأنفال. ويساعد على ذلك الاعتبار
العقلي أيضا فإن المتعارف جعل ما لا يتعلق بالأشخاص مثل المعادن من الأموال
العامة المرتبطة بالحكومات، وقد جعل في شريعتنا للإمام بما هو إمام، وهو عبارة
أخرى عن جعلها للحكومة.
فإن قلت: مقتضى ما ذكرت من الإطلاق كون المعادن الواقعة في الأملاك
الشخصية أيضا من الأنفال وهو خلاف مقتضى الملكية.
قلت: الملكية أمر اعتباري، والمعتبر لها هم العقلاء، وهم لا يعتبرون الملكية
في مثل أرض إلا لساحتها ومرافقها المحتاجة إليها في الاستفادة منها، ومنها الجو
إلى حد خاص يتعلق عرفا بهذه الأرض وليست المعادن الواقعة في تخوم هذه
الأرض وكذا الفضاء الخارج عن المتعارف معدودا من توابعها العرفية.
وهل ترى عبور الطائرات مثلا في جو سماء البلدان إذا علت ولم تزاحم
ساكن الدور تصرفا في ملكهم؟ لا أظن أحدا يلتزم بذلك.
وكذلك الكلام بالنسبة إلى المعادن العظيمة الواقعة تحت ملك الغير. نعم،

(1) الوسائل: 6، 371.
(2) الوسائل: 6، 372.
(3) الوسائل: 6، 372.
504

المعادن الصغار السطحية وكذا العيون الصغار السطحية ربما تعد عرفا من توابع
الملك نظير الأشجار والأعشاب النابتة فيه.
وقد مر منا سابقا أن الملاك للمالكية الشخصية هو العمل الصادر من محيي
الأرض ومعمرها وهو حيثية الاحياء والعمران، فهو لا يملك إلا هذه الحيثية
وتوابعها ومرافقها العرفية، فلا وجه لأن يملك المعادن الواقعة في تخوم الأرض
بلا عمل منه بل ولا شعور بوجودها، اللهم إلا أن يستخرجها ويحييها بإذن الإمام
ولو عموما بالاحياء المناسب لها، فان إحياء الأرض ليس إحياء للمعدن المتكون
تحتها بل هو باق على اشتراكه.
نعم المالك الشخصي لأرض أحق باستخراج المعدن الموجود فيها إن أراد
وتمكن من ذلك، وليس لكل أحد الورود في ملك الغير بعنوان استخراج المعدن
وإنما يكون ذلك إلى الإمام إن رآه صلاحا وجبر خساراته، إن استلزم الاستخراج
تصرفا وخسارة في أرضه. وليس مرادنا بكون المعادن للإمام إلا أن زمام أمرها
بيده، فهي تحيى ويستفاد منها ولكن باذنه.
ولا يوجب ذلك ترك المعادن وعدم السعي في استخراجها، بل الإمام
العادل يقطعها إلى من يستخرجها بأجرة بحسب الأشخاص والإمكانيات
وأوضاع المعادن وكميتها وكيفياتها ومقدار ذخائرها وكيفية استخراجها وسائر
الشرائط، أو بلا أجرة حسب ما تقتضيه مصالح الإسلام والمسلمين، أو يحلل
للجميع استخراجها والاستفادة منها بنحو لا يضر بالإسلام ولا بالأمة.
فالأقوى عندي كون المعادن بإطلاقها من الأنفال ظاهرة كانت أو باطنة
فتكون تحت اختيار إمام المسلمين ولا تستخرج إلا باذنه خصوصا أو عموما
ويجوز له إقطاعها إذا رآه صلاحا.
ولا يراد بلفظ الإمام في هذا السنخ من المسائل السياسية أو الاقتصادية
505

خصوص الإمام المعصوم، غاية الأمر أنه مع حضور الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام)
لا تنعقد الإمامة لغيرهم.
وفي عصر الغيبة يكون زمام اختيار الأنفال والأموال العامة بيد الحاكم
الصالح العادل بشرائطه التي مرت في محله حفظا للنظام والعدالة.
والتحليل المطلق من الأئمة (عليهم السلام) للأنفال لشيعتهم لا ينافي جواز دخالته مع
بسط يده، فإن الظاهر أن الأئمة (عليهم السلام) أرادوا التوسعة لشيعتهم في زمان حكومة
خلفاء الجور وعدم التمكن من الحكومة الحقة الصالحة، والحكومة ضرورة في
جميع الأعصار واحتياجها إلى المنابع المالية والأموال العامة أيضا واضح.
ويشهد لكون المعادن من الأنفال إجمالا وكونها تحت اختيار الإمام
- مضافا إلى ما مر - ما ورد من اقطاع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعض المعادن لبعض
الأشخاص. فراجع سنن البيهقي (1) والأموال (2).
السادس: البحار والأنهار والجو:
عد في المقنعة والكافي لأبي الصلاح والكافي للكليني (3) البحار في عداد
الأنفال.
وعن غير واحد أنه لا دليل لهم عليه. وقد يقال: لعلهم أخذوه مما دل على
أن الدنيا وما فيها لله ولرسوله ولنا.
وكيف كان فلا شك عندنا أن البحار من الأنفال وكذا الأنهار الكبار والجو،
إذ قد مر أن الملاك في كون الشئ من الأنفال كونه من الأموال العامة غير المتعلقة
بالأشخاص لعدم حصولها بصنعهم.

(1) سنن البيهقي: 6، 149 و 151.
(2) الأموال: 350.
(3) المقنعة: 45 والكافي لأبي الصلاح: 170 والكافي للكليني: 1، 538.
506

والبحار في أعصارنا مما تهتم بها الدول وتستفيد كثيرا من صيدها
وجواهرها ومعادنها ومن الطرق البحرية فيها ومثلها الأنهار الكبار وكذا الطرق
الجوية.
ويدل على جميع ذلك ما دل على كون الدنيا بأجمعها للإمام. وقد مر أن
معنى كونها للإمام، كونها لمقام الإمامة وقيادة المسلمين الحقة.
السابع: ميراث من لا وارث له:
قال الشيخ: " ميراث من لا وارث له ولا مولى نعمة لإمام المسلمين، سواء
كان مسلما أو ذميا " (1).
وقال العلامة: " ومن الأنفال ميراث من لا وارث له، ذهب علماؤنا أجمع
إلى أنه يكون للإمام خاصة ينقل إلى بيت ماله... " (2).
ويدل على الحكم مضافا إلى كونه إجماعيا أخبار كثيرة نذكر بعضها:
1 - صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " من مات وليس له
وارث من قرابته ولا مولى عتاقه قد ضمن جريرته فما له من الأنفال " (3).
2 - صحيحة محمد الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله - تعالى -:
(يسألونك عن الأنفال) قال: " من مات وليس له مولى فما له من الأنفال " (4).
3 - صحيحة الحلبي أيضا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " من مات وترك دينا
فعلينا دينه وإلينا عياله، ومن مات وترك مالا فلورثته، ومن مات وليس له موالي

(1) الخلاف: 2، 251.
(2) المنتهى: 1، 553.
(3) الوسائل: 17، 547.
(4) الوسائل: 17، 548.
507

فما له من الأنفال " (1).
4 - وفي كتاب الأموال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "... وأنا وارث من لا وارث له
أرثه وأعقل عنه " (2).
وظاهر هذه الأخبار أن وزان ميراث من لا وارث له وزان سائر الأنفال
التي حكمنا بكونها للإمام فله أن يصرفه فيما يراه صلاحا.
نعم، هنا أخبار يتوهم معارضتها لما سبق:
ألف: مثل ما دل على أن ميراث السائبة لأقرب الناس لمولاه: فعن أبي
عبد الله بسند موثوق به قال: " السائبة ليس لأحد عليها سبيل فإن والى أحدا
فميراثه له وجريرته عليه، وإن لم يوال أحدا فهو لأقرب الناس لمولاه الذي
أعتقه " (3).
وقال في الوسائل في ذيل هذا الخبر: " ويحتمل التفضل منهم (عليهم السلام) ".
وقال في التهذيب: " هذا الخبر غير معمول عليه... " (4) والسائبة على ما في
المجمع: " هو العبد يعتق ولا يكون لمعتقه عليه ولاء ولا عقل بينهما ولا
ميراث " (5).
ب: ومثل ما دل على أن ميراث من لا وارث له يجعل في بيت مال
المسلمين: ففي صحيحة سليمان بن خالد، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سألته عن
مملوك أعتق سائبة؟ قال: " يتولى من شاء، وعلى من تولاه جريرته وله ميراثه ".

(1) الوسائل: 17، 548.
(2) الأموال: 282.
(3) الوسائل: 17، 550.
(4) التهذيب: 9، 395.
(5) مجمع البحرين: 115.
508

قلت: فإن سكت حتى يموت؟ قال: " يجعل في بيت مال المسلمين " (1).
أقول: لا يوجد فرق أساسي بين أن ينسب المال إلى الإمام بما هو إمام وبين
أن ينسب إلى المسلمين وبيت مالهم، فإن ما هو للإمام بما هو إمام أيضا يصرف
في مصالح الإمامة والأمة ولا يصرف في مصارفه الشخصية إلا أقل قليل وهي
أيضا من أهم المصالح العامة.
فلا تنافي بين مثل هذا الخبر والأخبار التي مضت، ويشهد لذلك جمع كلا
العنوانين في بعض الأخبار:
فعن أبي عبد الله (عليه السلام) بسند صحيح قال: " قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في رجل
وجد مقتولا لا يدرى من قتله، قال: إن كان عرف له أولياء يطلبون ديته أعطوا
ديته من بيت مال المسلمين، ولا يبطل دم امرئ مسلم لأن ميراثه للإمام فكذلك
تكون ديته على الإمام... " (2).
وهذا التعبير مذكور أيضا في صحيحتي أبي ولاد الحناط عن أبي عبد الله (عليه السلام)
فراجع (3).
والمتعارف أيضا في جميع الأعصار وجميع البلدان انتقال ميراث من لا
وارث له إلى الحكومة.
ج: ومثل ما دل على إعطاء المال لفقراء بلد الميت:
فعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " كان علي (عليه السلام) يقول في الرجل يموت ويترك مالا
وليس له أحد: أعط المال همشاريجه " (4).

(1) الوسائل: 17، 553.
(2) الوسائل: 19، 109.
(3) الوسائل: 19، 93.
(4) الوسائل: 17، 551.
509

وعنه (عليه السلام) أيضا قال: " مات رجل على عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يكن له
وارث فدفع أمير المؤمنين ميراثه إلى همشهريجه (همشيريجه خ ل) " (1) إلى غير
ذلك من الروايات.
أقول: إن فقهاءنا قد أخذوا بما مر أولا من الأخبار في المسألة فقالوا إن
ميراث من لا وارث له للإمام يصنع فيه ما يشاء حسب ما يراه صلاحا، وحملوا
الأخبار الأخيرة على حكاية فعل صدر عن الإمام تبرعا وتفضلا على اختلافهم
في التعبيرات (2).
فما نقل عن علي (عليه السلام) بطرقنا، وكذا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بطرق السنة من صرف
ميراث من لا وارث له في مصرف خاص، ليس إلا لأنهما كانا قائدان وإمامان
للمسلمين وكان المورد صلاحا في نظرهما (عليهما السلام).
ولكن مع ذلك اختلفت كلمات أصحابنا في حكمه في عصر الغيبة:
ففي الفقيه: " ومتى كان الإمام غائبا فماله لأهل بلده متى لم يكن له
وارث " (3).
ومراده أهل بلد الميت لا بلد الإمام.
وفي الشرائع: " وكان علي (عليه السلام) يعطيه فقراء بلده وضعفاء جيرانه تبرعا، وإن
كان غائبا قسم في الفقراء والمساكين " (4).
وفي الدروس: " وإن كان غائبا قال جماعة من الأصحاب: يحفظ له
بالوصاة أو الدفن إلى حين ظهوره والأظهر جواز قسمته في الفقراء

(1) الوسائل: 17، 552.
(2) راجع المقنعة: 108 والاستبصار: 4، 196.
(3) الفقيه: 4، 333.
(4) الشرائع: 4، 40.
510

والمساكين " (1).
أقول: لا دليل على ما ذكروه من صرفه في الفقراء والمساكين إلا توهم
دلالة ما دل على فعل أمير المؤمنين (عليه السلام) وإذنه، أو توهم كون المقام من قبيل المال
المتعذر إيصاله إلى صاحبه فيتصدق به عنه، كما مر عن الدروس، وما في الوسيلة
والجواهر (2).
والأول ممنوع، إذا المفروض رفع تعارض هذه الأخبار مع الأخبار الأول
بحملها على حكاية فعل لا إلزام في الأخذ به وليس فيها اسم من زمان الغيبة
وعدم إمكان الإيصال إلى الإمام.
وبطلان الثاني أيضا واضح، إذ بناؤه على كون المال لشخص الإمام
المعصوم فيتصدق به عنه، وقد عرفت فساد هذا.
ثم أي فرق بين ميراث من لا وارث له وغيره من الأنفال بعد تسلم كون
الجميع لشخص الإمام؟ ولم خصوا ميراث من لا وارث له بالصرف في الفقراء
والمساكين؟
فالحق في المسألة كون وزانه وزان سائر الأنفال فيصرف في كل ما يراه
الإمام صلاحا، وإن كان الأحوط إعطائه لأهل قرية الميت أو أكبر قبيلته رعاية لما
مر نقله عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) ولعله من جهة أن أهل بلد الميت وأكابر
قبيلته يتوقعون غالبا بالنسبة إلى هذا المال ويرون أنفسهم أقرب وأحق به. ولعل
السيرة العملية في أكثر البلاد أيضا استمرت على ذلك.

(1) الدروس: 265.
(2) الجوامع الفقهية: 777 والجواهر: 39، 262 و 263.
511

الثامن: الأرض التي لا رب لها:
وإن كانت عامرة بالأصالة لا من معمر كالغابات التي ينتفع بأشجارها كثيرا،
أو عامرة بالعرض كالتي جلا منها أهلها أو أعرض عنها أهلها أو باد أهلها بالكلية
بزلزلة أو سيل أو نحوهما بحيث لم يبق منهم أحد وبقيت القرية عامرة، فان الظاهر
كون جميع ذلك من الأنفال وكونها للإمام بما هو إمام وإن كان ينطبق على بعضها
عنوان ميراث من لا وارث له أيضا.
والظاهر إن المراد بالرب من يزاول الأرض ويدبرها.
ويدل على ذلك بعض الأخبار: فعن إسحاق بن عمار، قال: سألت أبا
عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الأنفال، فقال: "... وكل أرض لا رب لها... " (1) وهي تشمل
الموات والعامر بقسميها. وسند الخبر موثوق به.
وعن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " لنا الأنفال. قلت: وما الأنفال؟ قال:
" كل أرض لا رب لها... " (2).
ويشهد لذلك أيضا ما دل على أن الأرض كلها للإمام: ففي صحيحة أبي
خالد الكابلي، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: "... والأرض كلها لنا... " (3) إذ هي تعم
الموات والعامر كما لا يخفى والمتيقن منه ما لا رب لها. إلى غير ذلك من الأخبار.
ووصف الميتة في مرسلة حماد: " وكل أرض ميتة لا رب لها " (4) ناظر إلى
الغالب، فلا مفهوم له، فلا وجه لحمل المطلق على المقيد.
التاسع: الأرض التي تملك من غير قتال ولم يوجف عليها بخيل ولا ركاب:
سواء انجلى عنها أهلها أو سلموها للمسلمين طوعا وهم فيها، بلا خلاف

(1) الوسائل: 6، 371.
(2) الوسائل: 6، 372.
(3) الوسائل: 17، 329.
(4) الوسائل: 6، 365.
512

أجده، بل الظاهر أنه إجماع. كذا في الجواهر (1).
ويدل عليه أخبار كثيرة:
منها: صحيحة حفص أو حسنته، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " الأنفال ما لم
يوجف عليه بخيل ولا ركاب أو قوم صالحوا أو قوم أعطوا بأيديهم... " (2).
أقول: قوله: " ما لم يوجف عليه " عام يشمل ما جلا أهله عنه أيضا. وقوله:
" صالحوا " يعم ما إذا وقعت المصالحة في بادئ الأمر وما إذا وقعت بعد شروع
القتال.
والمصالحة قد تقع على أن تكون الأرض للإمام وقد تقع على أن تكون
للمسلمين.
وقد تقع على أن تكون لأنفسهم يؤدون عنها الخراج وتسمى حينئذ أرض
الجزية.
والظاهر أن الرواية بإطلاقها تعم الأقسام الثلاثة.
ومنها: موثقة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه سمعه يقول: " إن الأنفال
ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة دم أو قوم صولحوا وأعطوا بأيديهم... " (3) إلى
غير ذلك من الأخبار.
ولا يخفى أن الموضوع في أكثر الأخبار هو الأرض، ولكن في بعضها مطلق
كصحيحة حفص، فهل يحمل المطلق منها على المقيد أو يقال إنهما مثبتان ولا
تنافي بينهما فيؤخذ بالإطلاق؟
قال في المستمسك: " وإطلاق بعضها - كالمصحح - وإن كان يشمل الأرض

(1) الجواهر: 16، 116.
(2) الوسائل: 6، 364.
(3) الوسائل: 6، 368.
513

وغيرها لكنه مقيد بما هو مقيد بها... " (1).
أقول: ولكن الأقوى هو الأخذ بالإطلاق، وفي خمس الشيخ قال: " نسبه
بعض المتأخرين إلى الأصحاب "، هذا مضافا إلى منع المفهوم للأخبار المقيدة، إذ
ليست تلك الأخبار في مقام الحصر، بل لعلها في مقام بيان المثال، أو ذكر الأفراد
الغالبة وهي الأرض، ولهذا اختلفت في ذكر المصاديق قلة وكثرة.
ويؤيد ذلك الاعتبار العقلي أيضا فإن تقسيم المنقولات بين الغانمين
بمقتضى الآية الشريفة مستند إلى عملهم ونشاطاتهم، وما لم يوجف عليه بخيل
ولا ركاب يستوي نسبته إلى جميع المسلمين فيصير إلى ممثلهم والقائم بأمورهم
وهو الإمام من غير فرق بين الأرض وغيره.
وظاهر الأخبار كون عنوان ما لم يوجف عليه ملاكا مستقلا للحكم في قبال
سائر العناوين.
الرابعة: في التصرف في الأنفال ولا سيما في عصر الغيبة:
قد عرفت أن الأنفال تكون لله وللرسول وهي تكون للإمام القائم مقامه
بعده، وقد ظهر أنه ليس المراد بالإمام، في هذه المسائل الإمام المعصوم فقط، بل
يعم الحاكم الواجد للشرائط في عصر الغيبة أيضا، فلا يجوز عقلا ولا شرعا
التصرف فيها إلا بإذنه خصوصا أو عموما فإنه مقتضى كون المال له وتحت
اختياره. ولو تصرف متصرف عصى، ولو استولى عليه كان غاصبا، ولو حصلت له
فائدة تابعة للمال عرفا كانت للإمام من غير فرق بين زمان الحضور والغيبة.
وكون الشئ من الأموال العامة لا يصحح التصرف فيه بدون إذن من بيده
أمره.

(1) المستمسك: 9، 597.
514

ولو حصل من قبل الأئمة (عليهم السلام) الإذن والتحليل لشخص أو في عصر أو في
بعض الأشياء أو مطلقا خرج موضوعا عن ذلك، لعموم ولايتهم عندنا ولو بالنسبة
إلى الأعصار اللاحقة على ما ثبت في محله (1).
قال الشيخ: " وليس لأحد أن يتصرف فيما يستحقه الإمام من الأنفال
والأخماس إلا بإذنه. فمن تصرف في شئ من ذلك بغير إذنه كان عاصيا، وارتفاع
ما يتصرف فيه مردود على الإمام... فأما في حال الغيبة فقد رخصوا لشيعتهم
التصرف في حقوقهم مما يتعلق بالأخماس وغيرها فيما لابد لهم منه من المناكح
والمتاجر والمساكن، فأما ما عدا ذلك فلا يجوز له التصرف فيه على حال " (2).
وذكر نحو ذلك في المبسوط أيضا، فراجع (3) ومورد كلامه كما ترى الخمس
والأنفال معا.
وفي المراسم قال: " والأنفال له أيضا... وفي هذا الزمان فقد أحلونا مما
يتصرف فيه من ذلك كرما وفضلا لنا خاصة " (4).
وظاهر كلامه عموم التحليل في عصر الغيبة لجميع الأنفال لا الخمس.
وفي التذكرة: " الأرض الخربة والموات ورؤوس الجبال وبطون الأودية

(1) قد مر سابقا أن مقتضى عموم ولاية النبي والأئمة بمعنى حاكميتهم للأعصار اللاحقة، وجود
أكثر من ولاية وإمامة في زمان واحد إذ لابد في كل زمان من إمام معصوم حاضرا أو غائبا،
فمع ولايته في زمانه كيف يتصور ولاية أخرى في عرضه من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو إمام سابق؟
وبطلانه واضح عقلا ونقلا. نعم ولاية النبي والأئمة التكوينية في الجملة وأيضا حجية سنتهم
وكونها عدلا للقرآن ثابتة وباقية في كل زمان إلى يوم القيامة، وهما أمران غير الولاية
والحاكمية - م -.
(2) النهاية: 200.
(3) المبسوط: 1، 263.
(4) الجوامع الفقهية: 581.
515

والآجام من الأنفال يختص بها الإمام ليس لأحد التصرف فيها إلا بإذنه حال
ظهوره (عليه السلام) ويجوز للشيعة حال الغيبة التصرف فيها لأنهم (عليهم السلام) أباحوا شيعتهم
ذلك " (1) هذا.
ويظهر من أبي الصلاح إنكار التحليل مطلقا، قال: " ولا رخصة في ذلك بما
ورد من الحديث فيها، لأن فرض الخمس والأنفال ثابت بنص القرآن وإجماع
الأمة وإن اختلفت فيمن يستحقه، ولإجماع آل محمد (عليهم السلام) على ثبوته وكيفية
استحقاقهم وحمله إليهم وقبضهم إياه ومدح مؤديه وذم المخل به، ولا يجوز
الرجوع عن هذا المعلوم بشاذ الأخبار " (2).
والقاضي عبد العزيز أيضا تعرض في المهذب للأنفال ولم يتعرض لتحليلها
بل قال بعد ذكرها: " وجميع الأنفال كانت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته، وهي بعده
للإمام القائم مقامه، ولا يجوز لأحد من الناس التصرف في شئ منها إلا
بإذنه (عليه السلام) " (3). ولم يفصلا بين أقسام الأنفال ولا بين زمان الحضور وزمان الغيبة.
وظاهر من تعرض لتحليل العناوين الثلاثة، أعني المناكح والمساكن
والمتاجر أو المناكح فقط أيضا انحصار التحليل فيها وعدم تحليل غيرها، مع أن
تحليل مثل الأراضي والجبال وما يتبعهما من الأنهار والمعادن والآجام
والأعشاب والأشجار وجواز إحيائها وحيازتها إجمالا في عصر الغيبة وعدم
بسط الحكومة المشروعة الحقة كأنه أمر واضح مفروغ عنه، فإنها أموال عامة
خلقت لرفع حاجات الأنام، غاية الأمر إنه جعل اختيارها بيد الإمام العادل
الصالح، فلا يحتمل عدم تحليلهم (عليهم السلام) إياها في عصر الغيبة للمسلمين ولا أقل

(1) التذكرة: 1، 428.
(2) الكافي لأبي الصلاح: 173 و 174.
(3) المهذب: 1، 186.
516

لشيعتهم المتمسكين بحبل ولايتهم مع توقف حياة البشر عليها، ولا أظن إنكار
الحلبي والقاضي أيضا لذلك.
ويدل على ذلك - مضافا إلى الضرورة ولزوم العسر والحرج بدون ذلك بل
اختلال النظام لشيعتهم، المرغوب عنه عندهم (عليهم السلام) قطعا، واستقرار السيرة على
التصرف حتى في عصر الحضور بلا منع وردع - الأخبار الكثيرة الصادرة عنهم
ولا سيما في باب إحياء الموات من طرق الفريقين.
ولو سلم فيمكن القول بانحصار التحليل في صورة عدم انعقاد الحكومة
الحقة في عصر الغيبة، أو عدم منعها من التصرف.
وإليك بعض الأخبار الواردة في التحليل:
1 - فعن أبي جعفر (عليه السلام) بسند صحيح، قال: قال أمير المؤمنين علي بن أبي
طالب (عليه السلام): " هلك الناس في بطونهم وفروجهم لأنهم لم يودوا إلينا حقنا، ألا وإن
شيعتنا من ذلك وآبائهم في حل " (1).
أقول: الظاهر أن التحليل للآباء قرينة على إرادة تحليل المناكح لهم لتطيب
ولادة الأبناء، إلا أن قوله: " حقنا " يعم بإطلاقه الخمس والأنفال معا، سواء كانت
من المناكح أو غيرها.
2 - وفي صحيحة مسمع بن عبد الملك المكنى بأبي سيار عن أبي عبد الله (عليه السلام)
قال: "... يا أبا سيار! إن الأرض كلها لنا، فما أخرج الله منها من شئ فهو لنا. فقلت
له: وأنا أحمل إليك المال كله؟ فقال: يا أبا سيار، قد طيبناه لك وأحللناك منه فضم
إليك مالك. وكل ما في أيدي شيعتنا من الأرض فهم فيه محللون حتى يقوم قائمنا
فيجبيهم طسق ما كان في أيديهم ويترك الأرض في أيديهم. وأما ما كان في أيدي
غيرهم فان كسبهم من الأرض حرام عليهم حتى يقوم قائمنا، فيأخذ الأرض من

(1) الوسائل: 6، 379.
517

أيديهم ويخرجهم صغرة " (1).
ويستدل بهذه الصحيحة على أن كل ما كان في أيدي الشيعة من الأراضي
وما فيها من المعادن والأعشاب والأشجار فهي محلل لهم في حال الهدنة والغيبة
بلا طسق ولا خراج سواء كانت من الأنفال أو كانت للمسلمين كالمفتوحة عنوة
حيث إن زمام أمرها أيضا إلى الإمام.
هذا على فرض كون اللام في قوله: " الأرض كلها لنا " وكذا ما بعده
للاستغراق، ولكن من المحتمل أن يراد بها العهد فتكون إشارة إلى مثل أرض
البحرين التي كانت تولية غوصها لمسمع، مضافا إلى أنها على ما في موثقة
سماعة (2) تكون مما لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب فتكون من الأنفال. فاستفادة
حكم الأرض المفتوحة عنوة من هذه الصحيحة والحكم بالتحليل فيها بلا خراج
مشكل.
3 - وفي خبر داود بن كثير الرقي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سمعته يقول:
" الناس كلهم يعيشون في فضل مظلمتنا إلا إنا أحللنا شيعتنا من ذلك " (3).
قد يستدل بالخبر على تحليل كل ما لهم (عليهم السلام) من الحقوق المتعلقة بالإمامة
فيعم الخمس والأنفال والأراضي المفتوحة عنوة، ولكن قد مر أن مطالبة الأئمة
المتأخرين لخمس الأرباح ونحوها يدفع احتمال تحليل الخمس بإطلاقه. نعم
دلالة الخبر على تحليل الأراضي ونحوها للشيعة بلا إشكال.
وبالجملة فدلالة هذه الأخبار على تحليل الأنفال إجمالا في عصر الغيبة
ولا سيما مثل الأراضي والجبال والآجام والمعادن والأنهار ونحوها من الأموال

(1) الكافي: 1، 408.
(2) الوسائل: 6، 367.
(3) الوسائل: 6، 380.
518

العامة التي يحتاج إليها الأنام في معاشهم وجرت السيرة في جميع الأعصار على
التصرف فيها مما لا إشكال فيه.
وأما غير ما أشرنا إليه من أقسام الأنفال كالغنيمة بغير إذن الإمام وصفايا
الملوك وميراث من لا وارث له فيشكل استفادة تحليلها من الأخبار ولا سيما
الأخير منها.
نعم لو استولى عليها أئمة الجور بعنوان الإمامة أمكن القول بجواز أخذها
منهم.
ولكن حيث قلنا بوجوب تأسيس الدولة الحقة في عصر الغيبة فلا محالة
تحتاج هذه الدولة إلى الضرائب والمنابع المالية فيجب أن تجعل الزكوات
والأخماس وكذا الأنفال التي هي أموال عامة تحت سلطتها، فإن الملاك الذي
أوجب جعلها تحت اختيار الإمام في عصر الظهور يوجب جعلها تحت اختيار
الدولة الحقة في عصر الغيبة أيضا وإلا لما تيسر لها تحقيق العدالة والحق وقطع
جذور الخلاف والتشاجر الذي ربما يبدو في تصاحب الأموال العامة.
فنمنع إطلاق أدلة التحليل لهذه الصورة وينحصر جواز التصرف على صورة
عدم انعقاد الحكومة الحقة وضرورة وجود التحليل، وأما مع انعقادها بشرائطها
فلها الدخل في الأنفال والتصدي لتقسيمها أو الاستنتاج منها بنفع الإسلام
والمسلمين، فلا يجوز لأحد من الناس التصرف فيها إلا في إطار مقررات
الحكومة الحقة (1) فإذا تصرف فيها حينئذ أحد - وإن كان كافرا - بالتصرفات

(1) ما اختاره الأستاذ - دام ظله - من منع إطلاق أدلة التحليل لصورة وجود دولة حقة، إنما يتم
إذا كانت الدولة مقبولة عند كل الناس. وأما إذا لم يقبلها بعض لعدم كونها حقة عندهم، أو
لعدم اعتقادهم بوجوب إقامة الدولة في عصر الغيبة، فهل يبقى التحليل بإطلاقه لهم أو لا؟
للمسألة صور: إحداها هي أن يكون هذا القسم من المجتمع في الأقلية، ولا شك في لزوم
رعاية حقوقهم التي منها حق انتفاعهم من الأموال العامة مثل الأرضين الموات فلهم أن
يعيشوا في قطعة من هذه الأراضي بنحو يريدون. وإذا كانوا باضطرار إلى العيش في المجتمع
فلهم أن يصرفوا الضرائب الشرعية المعهودة في جهة يرونها مرضية لمولاهم وصلاحا
لدينهم. نعم لزم عليهم أن يؤدوا قيمة الخدمات التي تجريها الدولة غير المقبولة لديهم لحفظ
الثغور وإدارة الأمور التي ينتفعون منها - م -.
519

المملكة كالإحياء والحيازة والأخذ من الدولة مع رعاية مقررات الدولة صارت
ملكا له وجاز له بيعها مثلا.
وكذلك إذا كانت الأنفال بل والزكوات والأخماس والغنائم تحت اختيار
الدولة الجائرة سواء كانت للموافقين أو المخالفين أو الكفار وبليت الشيعة
بمعاملتهم وتصرفت فيها بتلك التصرفات المملكة، لتحقق الإذن العام من
الأئمة (1).

(1) لا يخفى أنه بعد تسلم أن الخمس والأنفال ضرائب مالية للحكومة الحقة وكان زمام أمرها
بيد الإمام في كل زمان فلابد من تسلم أن التحليل حكم حكومتي يمكن أن يصدر من كل
إمام في زمان حكومته إذا يراه صلاحا فمن شأنه كونه متغيرا بحسب الظروف المختلفة.
ومن أقوى الدليل على هذا الأمر مطالبة الأئمة المتأخرين لخمس الأرباح بعد تحليل
الأئمة المتقدمين. وعلى هذا فثبوت التحليل الدائمي حتى في زمان الغيبة موقوف على
صدور حكم التحليل من الإمام المنتظر (عج) وهذا الإشكال جار أيضا في تصوير الإذن
العام لزمن الغيبة.
وهنا بيان آخر للتحليل، وهو أنه بعد غصب الإمامة أحال الأئمة في زمان الغيبة أمر
الأموال التي كان زمامها بيدهم كالخمس والأنفال إلى الشيعة كما أحالوا أمر اختيار الحاكم
الحق في هذا الزمان إلى شيعتهم مع تعيين ضوابط كلية في الحاكم والحكومة. فمعنى
التحليل أن الشيعة في عصر الغيبة كانوا بالنسبة إلى هذه الأموال في حل، أي في سعة
واختيار. وليس معنى الحل والسعة الهرج والمرج في أمر الأموال التي جعلت في الشريعة
لسد خلات الحكومة الحقة. بل معناه إحالة حفظ هذه الأموال وصرفها في مصارفها واختيار
من يتصدى له إلى الشيعة. وهذا مشعر بل دليل على وجود حق الانتخاب للشيعة في عصر
الغيبة لمن يتصدى أمر الحكومة طبقا للضوابط المقررة شرعا، إذ هذه الأموال ضرائب مالية
للحكومة الحقة، فانتخاب المتصدي لها يستلزم انتخاب المتصدي للحكومة أيضا.
وعلى هذا فإن أمكن لهم إقامة الحكومة الحقة، فهي تتصرف في هذه الأموال من قبلهم،
وإن لم يمكن ذلك لهم فهم يصرفونها في مصارفها مع رعاية الحدود الشرعية، وإن لم يعلموا
الحدود فعليهم الرجوع إلى من يعلمها - م -.
520

[طرح الأستاذ مسائل مهمة حول إحياء الأرضين، وحيث لم نر لها صلة
وثيقة بالبحث عن المنابع المالية للدولة الإسلامية حذفناها بطولها واكتفينا بذكر ما
اختاره الأستاذ في كل مسألة، فمن أراد التفصيل فليراجع أصل الكتاب أو إحياء
الموات من الكتب الفقهية. فنقول باختصار تام:]
قد دلت الآيات والأخبار الكثيرة من طرق الفريقين على جواز إحياء
الموات من الأرضين والترغيب فيه وأن من أحياها فهي له؛ ولا ينافي الجواز
اشتراطه بشروط: كالاستيذان من الدولة الحقة، وعدم سبق الغير إليها بالتحجير،
وعدم الإضرار بالغير، وعدم كونها مرفقا وحريما لملك الغير، وعدم كونها من
المشاعر المحترمة، ونحو ذلك.
والأقوى عندنا بمقتضى الجمع بين أخبار الباب هو أن إحياء الأرض
الموات ولو كان بالإذن لا يوجب انقطاع علاقة الإمام منها بالكلية فإن المحيي لا
يصير مالكا إلا لآثار الاحياء ومحصول فاعليته وقواه بلا تفاوت في ذلك بين
المسلم والكافر إذ كل منهما يملك فكره وقواه وجهاز فاعليته تكوينا فيملك قهرا
آثار فعله.
وأما الرقبة فليست حاصلة بعمل المحيي ونشاطاته حتى يحكم بمالكيته
لها بذلك كما هو واضح، فهي باقية على حالها الأول من كونها من الأموال العامة
التي خلقها الله - تعالى - لجميع الأنام.
521

نعم يمكن القول بملكية الرقبة تبعا لآثار الاحياء ما بقيت، فيجوز بيعها
وهبتها ووقفها ونحو ذلك.
والأقوى عندنا أيضا أن الأرض المحياة إذا صارت مواتا ترجع إلى الإمام
بالكلية لزوال علة الاختصاص وهي الإحياء وآثاره بلا تفاوت بين أن يكون
صاحبها معلوما أو غير معلوم.
نعم إذا كان قد ملكها باشتراء الرقبة من الإمام، أو ورثها ممن اشترى الرقبة
منه ولو بوسائط يبقى ملكيته ولا تنقطع إلا بالنواقل العرفية أو الشرعية.
522

الفصل الرابع
في غنائم الحرب
قد عرفت في أول بحث الأنفال أن مقتضى آية الأنفال بضميمة الأخبار
الواردة في تفسيرها كون الغنيمة من الأنفال ومن الأموال العامة التي لا تتعلق
بالأشخاص، ولكن أفردناها بالبحث لافتراقها عن سائر الأنفال في بعض
الأحكام.
فنقول: لا تدخل الغنيمة بمجرد الاغتنام في ملك المقاتلين بل تقع تحت
اختيار قائد المسلمين فيضبطها ويحفظها وله أن يصطفي منها وينفل ويجعل
الجعائل مما احتوى عليه العسكر من المنقولات حسب ما يقتضيه المصالح العامة
في عصره وبيئته وإن استوعبت كلها، فليس التقسيم بين المقاتلين متعينا.
نعم إن بقي منها شئ أخذ منها الخمس لأهله ولما يمكن أن يواجهه من
الحاجات في المستقبل وقسم البقية بين المقاتلين:
1 - ففي مرسلة حماد عن العبد الصالح (عليه السلام) قوله: " وله أن يسد بذلك المال
جميع ما ينوبه من مثل إعطاء المؤلفة قلوبهم وغير ذلك مما ينوبه، فإن بقي بعد ذلك
شئ أخرج الخمس منه فقسمه في أهله، وقسم الباقي على من ولى ذلك، وإن لم
يبق بعد سد النوائب شئ فلا شئ لهم، وليس لمن قاتل شئ من الأرضين ولا ما
523

غلبوا عليه إلا ما احتوى عليه العسكر " (1).
2 - وفي صحيحة زرارة قال: " الإمام يجري وينفل ويعطي ما يشاء قبل أن
تقع السهام وقد قاتل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوم لم يجعل لهم في الفيء نصيبا وإن شاء
قسم ذلك بينهم " (2) هذا.
ولكن التقسيم بين المقاتلين كان في عصر كانت الجيوش المتطوعين
يشاركون في الحروب بداع إلهي وكانت الآلات العسكرية والأفراس ملكا لهم.
وأما اليوم حيث كانت الجيوش موظفين من قبل الحكومة أجراء على
الأعمال العسكرية وكانت النفقات والمراكب والوسائل العسكرية أيضا ملكا
للحكومة.
فهل تقسم الغنيمة بينهم أو يجري حكم التقسيم في المتطوعين فقط؟ في
المسألة وجهان. والعمدة ما ذكرناه من عدم تعين التقسيم إذا كان هنا مصارف
مهمة بحيث تستوعب الغنائم.
هذا كله فيما إذا حصلت الغنيمة في دار الحرب وبإذن الإمام وإلا فإن
حصلت بغير إذن الإمام، أو في دار الهجرة فيأتي حكمها. فهنا مسائل نذكر بعضها:
الأولى: ما يكون للإمام بما هو إمام:
وهو على قسمين:
الأول: قطائع الملوك وصفاياهم:
قال المحقق: " وإذا فتحت دار الحرب فما كان لسلطانهم من قطائع وصفايا

(1) الوسائل: 6، 365 وتمام الحديث في الكافي: 1، 539 - 543.
(2) الوسائل: 6، 365.
524

فهي للإمام إذا لم تكن مغصوبة من مسلم أو معاهد " (1).
وفي الجواهر قال: " بلا خلاف أجده فيه " (2).
والظاهر أن المراد بقطائع الملوك الأراضي القيمة التي يقتطعها الملوك
لأنفسهم من بين الأراضي.
والمراد بصفاياهم الأشياء النفيسة الغالية التي يأخذها الملوك لأنفسهم،
فتكون القطائع مستثناة من أرض الغنيمة التي تكون وقفا على المسلمين، والصفايا
المنقولة مستثناة من الغنائم التي تقسم بين المقاتلين.
ويدل على كونهما من الأنفال وللإمام - مضافا إلى عدم الخلاف فيه - أخبار
مستفيضة:
1 - مرسلة حماد الطويلة عن العبد الصالح (عليه السلام): " وله صوافي الملوك ما كان
في أيديهم من غير وجه الغصب لأن الغصب كله مردود " (3).
قال ابن الأثير: " الصوافي: الأملاك والأراضي التي جلا عنها أهلها أو ماتوا
ولا وارث لها، واحدها صافية... " (4).
2 - صحيحة داود بن فرقد، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): " قطائع الملوك كلها
للإمام وليس للناس فيها شئ " (5).
قال في مجمع البحرين: " القطائع اسم لما لا ينتقل من المال كالقرى

(1) الشرائع: 1، 183.
(2) الجواهر: 16، 123.
(3) الوسائل: 6، 365.
(4) النهاية: 3، 40.
(5) الوسائل: 6، 366.
525

والأراضي والأبراج والحصون " (1).
3 - موثقة إسحاق بن عمار، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الأنفال، فقال:
" هي القرى التي قد خربت وانجلى أهلها فهي لله وللرسول، وما كان للملوك فهو
للإمام... " (2).
وقوله: " ما كان للملوك " يعم الأرض وغيرها.
وإن أبيت عن شمول الرواية لغير الأراضي من الأشياء النفيسة للملوك
دخلت هذه في الصفي الذي للإمام أن يصطفيه من الغنيمة.
الثاني: صفايا الغنيمة:
لم نعثر على إطلاق لفظ الأنفال عليها في أخبارنا. وقد كان من المتعارف
في جميع الأعصار اصطفاء الملوك والأمراء من بين غنائم العدو الأشياء القيمة
النفيسة منها.
ولعل هذا السنخ من الأشياء القيمة على قسمين: قسم يصطفيه الإمام
لشخصه لشدة حاجته إليه، وهو أحق بأن يسد خلاته، وسد خلاته من أهم
المصالح العامة.
وقسم يصطفيه ليحفظه في بيوت الأموال العامة أو المتاحف أو البنوك
رصيدا للعملة وذخرا لمستقبل الأمة كالجواهر النفيسة التي لا تقبل التقسيم، وايثار
البعض دون البعض يوجب التبعيض والفتنة.
قال ابن الأثير: " الصفي: ما كان يأخذه رئيس الجيش ويختاره لنفسه من
الغنيمة قبل القسمة ويقال له الصفية، والجمع: الصفايا... " (3).

(1) مجمع البحرين: 360.
(2) الوسائل: 6، 371.
(3) النهاية لابن الأثير: 3، 40.
526

وقد استفاضت الروايات واستقرت الفتاوى على كون الصفايا من الأموال
التي جعلها الله - تعالى - لرسوله وبعده للإمام القائم مقامه:
قال الشيخ في عداد الأنفال: " وله أيضا من الغنائم قبل أن تقسم: الجارية
الحسناء والفرس الفارة والثوب المرتفع وما أشبه ذلك مما لا نظير له من رقيق أو
متاع " (1).
وفي الشرائع في عداد الأنفال: " وكذا له أن يصطفي من الغنيمة ما شاء من
فرس أو ثوب أو جارية أو غير ذلك ما لم يجحف " (2).
أقول: القيد الأخير لا يناسب للإمام المعصوم وهو واضح.
وفي صحيحة ربعي عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أتاه
المغنم أخذ صفوه وكان ذلك له... وكذلك الإمام يأخذ كما أخذ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) " (3).
وفي مرسلة حماد الطويلة، عن بعض أصحابنا، عن العبد الصالح (عليه السلام) قال:
" وللإمام صفو المال أن يأخذ من هذه الأموال صفوها: الجارية الفارهة والدابة
الفارهة والثوب والمتاع مما يحب أو يشتهي، فذلك له قبل القسمة وقبل إخراج
الخمس " (4).
إلى غير ذلك من الروايات الدالة على أن صفو الغنائم للإمام. وقد عرفت
معنى كون شئ للإمام من حيث هو إمام.
وعمدة النظر في تلك الروايات عدم تعين التقسيم في الصفايا بل تكون هي

(1) النهاية: 199.
(2) الشرائع: 1، 183.
(3) الوسائل: 6، 356.
(4) الوسائل: 6، 365. ولا منافاة بين ما اختاره الأستاذ من كون صفو الغنيمة للإمام من حيث
هو إمام وبين أن يصطفي لنفسه منها شئ، فإن له فيها حق لشخصه - م -.
527

تحت اختيار الإمام.
الثانية: الأراضي المفتوحة عنوة وخراجها:
وقبل البحث فيها نشير إلى أقسام الأرضين وأحكامها، فنقول:
الأرض إما موات وإما عامرة، وكل منهما إما أن تكون كذلك بالأصالة أو
عرض لها ذلك، فهي أربعة أقسام:
أما الموات بالأصالة، فلا إشكال ولا خلاف منا في كونها من الأنفال وكونها
للإمام بما هو إمام. ومثلها العامرة بالأصالة، أي لا من معمر، سواء كانتا في بلاد
الإسلام أو في بلاد الكفر، إذ لم يتحقق فيهما ما هو الملاك لتملك الشخص وهو
الاحياء (1).
وأما الموات بالعرض، فإن كانت العمارة السابقة فيها أصلية أو من معمر
بقصد الملك ولكن باد أهلها بالكلية أو أعرض عنها كذلك فهي أيضا للإمام، وصار
حكمها حكم الموات بالأصالة.
وإن كانت من معمر بقصد الملك ولم يبد أهلها ولم يعرض عنها ففي بقائها
بعد الموت على ملك معمرها أو خروجها عن ملكه، أو يفصل بين ما كان الملك
بغير الإحياء كالميراث والشراء ونحوهما فيبقى أو بالاحياء فيزول؟ وجوه مرت
في فصل الأنفال.
وأما العامرة بالعرض، فإن كانت العمارة بنفسها فهي أيضا للإمام. وإن كانت
من معمر بقصد التملك فهي له ويملكها المحيي إجمالا إما لرقبتها أو لحيثية

(1) الظاهر أن السلطة على أرض لم يجر عليها ملك أو حق لأحد بالاحياء أو التحجير موجب
لاختصاصها بصاحب السلطة بلا فرق في ذلك بين الكافر والمسلم، بل السلطة كذلك موجبة
للتملك عرفا ولم يرده الشرع - م -.
528

الاحياء فقط، بلا فرق بين المسلم والكافر فلا تخرج عن ملكه إلا بالإعراض أو
المعاملات الناقلة أو النواقل القهرية كالميراث مثلا أو صيرورتها مواتا على
الخلاف فيه كما مر. وحينئذ فإن كان المحيي مسلما أو أسلم عليها تترك في أيديهم
ويؤخذ منهم العشر أو نصف العشر بعنوان الزكاة. ويدل عليه خبر صفوان والبزنطي
وصحيحة البزنطي الآتيان.
وإن كان المالك لها كافرا محاربا فملكه يزول بما يزول به ملك المسلم،
وبالاغتنام عنوة كسائر أموالهم فتصير ملكا للمسلمين بما هم مسلمون، والمتولي
للتصرف فيها وتقبيلها هو الإمام يصرف حاصلها في مصالحهم.
وإما إن صولح عليها على أن تبقى ملكا لأنفسهم ويؤدوا عنها الخراج
سميت أرض الجزية وسيأتي ذكرها في بحث الجزية.
وإن انجلى أهلها وأخذت بغير حرب وعنوة أو صولح عليها على أن تكون
للإمام صارت للإمام وتكون من الأنفال والفئ.
إذا عرفت هذا فنقول: البحث هنا وإن كان في الأراضي المفتوحة عنوة
وقهرا التي هي قسم من غنائم الحرب، ولكن لما كان هذه الأقسام الثلاثة الأخيرة
من الأراضي من حيث تقبيلها وأخذ الخراج منها مشتركة رواية وفتوى ذكرناها
معا. وكانت تسمى هذه الأراضي خراجية.
والخراج والمقاسمة كانا يطلقان على الطسق الذي يؤخذ منها:
فإن كان التقبيل بمال معين بنحو الإجارة سمي خراجا وإن كان بسهم مشاع
من عائدة الأرض بنحو المزارعة سمي مقاسمة. وربما أطلق على كليهما الخراج.
وقد كان الخراج من أهم المنابع المالية للحكومة الإسلامية. ومقدار الخراج في
جميع الأقسام الثلاثة مفوض إلى الإمام أو الدولة الإسلامية. يدل عليه الخبران
المشار إليهما وكذا مرسلة حماد الآتية.
529

قال الشيخ: " الأرضون على أربعة أقسام: ضرب منها يسلم أهلها عليها
طوعا من قبل نفوسهم من غير قتال، فتترك في أيديهم ويؤخذ منهم العشر أو نصف
العشر، وكانت ملكا لهم يصح لهم التصرف فيها بالبيع والشراء والوقف وسائر أنواع
التصرف.
وهذا حكم أراضيهم إذا عمروها وقاموا بعمارتها، فإن تركوا عمارتها
وتركوها خرابا كانت للمسلمين قاطبة...
والضرب الآخر من الأرضين ما أخذ عنوة بالسيف، فإنها تكون للمسلمين
بأجمعهم. وكان على الإمام أن يقبلها لمن يقوم بعمارتها بما يراه من النصف أو
الثلث أو الربع، وكان على المتقبل إخراج ما قد قبل به من حق الرقبة، وفيما يبقى
في يده وخاصه العشر أو نصف العشر. وهذا الضرب من الأرضين لا يصح
التصرف فيه بالبيع والشراء والتملك والوقف والصدقات. وللإمام أن ينقله من
متقبل إلى غيره عند انقضاء مدة ضمانه. وله التصرف فيه بحسب ما يراه من
مصلحة المسلمين.
وهذه الأرضون للمسلمين قاطبة، وارتفاعها يقسم فيهم كلهم: المقاتلة
وغيرهم، فان المقاتلة ليس لهم على جهة الخصوص إلا ما يحويه العسكر من
الغنائم.
والضرب الثالث كل أرض صالح أهلها عليها، وهي أرض الجزية يلزمهم ما
يصالحهم الإمام عليه من النصف أو الثلث أو الربع، وليس عليهم غير ذلك. فإذا
أسلم أربابها كان حكم أراضيهم حكم أرض من أسلم طوعا ابتداء ويسقط عنهم
الصلح لأنه جزية بدل من جزية رؤوسهم وأموالهم وقد سقطت عنهم بالإسلام...
والضرب الرابع كل أرض انجلى أهلها عنها، أو كانت مواتا فأحييت، أو
كانت آجاما وغيرها مما لا يزرع فيها فاستحدثت مزارع، فإن هذه الأرضين كلها
530

للإمام خاصة ليس لأحد معه فيها نصيب، وكان له التصرف فيها بالقبض والهبة
والبيع والشراء حسب ما يراه، وكان له أن يقبلها بما يراه من النصف أو الثلث أو
الربع... " (1).
أقول: في قوله في الأراضي التي أسلم أهلها وتركوها خرابا إنها للمسلمين،
كلام. إذ الظاهر أنها بالإعراض عنها تصير من الأنفال وتكون للإمام. وكأن الشيخ
أخذ هذا من خبر صفوان والبزنطي، ويأتي الكلام في ذلك.
وما ذكره في ارتفاع الأراضي المفتوحة عنوة من أنه يقسم فيهم كلهم، قابل
للمناقشة، إذ لا يتعين فيه التقسيم بل يكون مفوضا إلى نظر الإمام. وكأنه أخذ ذلك
مما ورد من تقسيم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ارتفاع أراضي خيبر. فراجع.
وما ذكره في الضرب الثالث من كونها أرض الجزية وسقوط حق القبالة
عنهم بإسلامهم، إنما يصح إذا وقع الصلح على أن تبقى رقبة الأرض ملكا لأنفسهم.
وأما إذا وقع الصلح على أن تقع الأرض ملكا للمسلمين أو لإمام المسلمين فلا
وجه لرجوعها إليهم بالإسلام، كما لا يخفى.
وليعلم أن الشيخ لم يفصل في هذه العبارة وفي الخلاف والمبسوط بين
المحياة من أراضيهم وقت الفتح والموات منها، ولكن الظاهر اختصاص الحكم
بالمحياة منها وقت الفتح، إذ الموات ليس ملكا للكفار حتى يغنم منهم.
اللهم إلا أن يقال: إن الموات منها أيضا يكون تحت استيلاء دولة الكفر،
فيشمله عموم ما أخذت بالسيف المذكور في بعض أخبار الباب.
وفي موضع آخر من جهاد المبسوط فرق بين المحياة وقت الفتح والموات،
فقال: " وأما الأرضون المحياة فهي للمسلمين قاطبة، وللإمام النظر فيها... فأما
الموات فإنها لا تغنم وهي للإمام خاصة، فإن أحياها أحد من المسلمين كان أولى

(1) النهاية: 194.
531

بالتصرف فيها ويكون للإمام طسقها " (1).
وقال أبو عبيد: "... قد جاءت في افتتاح الأرضين بثلاثة أحكام: أرض
أسلم عليها أهلها، فهي لهم ملك أيمانهم، وهي أرض عشر لا شئ عليهم فيها
غيره.
وأرض افتتحت صلحا على خرج معلوم، فهم على ما صولحوا عليه لا
يلزمهم أكثر منه.
وأرض أخذت عنوة، فهي التي اختلف فيها المسلمون؛ فقال بعضهم: سبيلها
سبيل الغنيمة فتخمس وتقسم فيكون أربعة أخماسها خططا بين الذين افتتحوها
خاصة، فيكون الخمس الباقي لمن سمى الله - تبارك وتعالى - وقال بعضهم: بل
حكمها والنظر فيها إلى الإمام: إن رأى أن يجعلها غنيمة فيخمسها ويقسمها كما
فعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بخيبر، فذلك له. وإن رأى أن يجعلها فيئا فلا يخمسها ولا
يقسمها ولكن تكون موقوفة على المسلمين عامة ما بقوا، كما صنع عمر بالسواد،
فعل ذلك " (2).
بعض الروايات الواردة في الأراضي المفتوحة عنوة وحكم بيعها وشرائها
وتقبيلها:
1 - عن صفوان بن يحيى وأحمد بن محمد بن أبي نصر جميعا قالا: " ذكرنا
له الكوفة وما وضع عليها من الخراج وما سار فيها أهل بيته. فقال: من أسلم طوعا
تركت أرضه في يده وأخذ منه العشر مما سقت السماء والأنهار، ونصف العشر مما
كان بالرشا فيما عمروه منها.
وما لم يعمروه منها أخذه الإمام فقبله ممن يعمره وكان للمسلمين. وعلى

(1) المبسوط: 2، 29.
(2) الأموال: 69.
532

المتقبلين في حصصهم العشر ونصف العشر. وليس في أقل من خمسة أو ساق
شئ من الزكاة. وما أخذ بالسيف فذلك إلى الإمام يقبله بالذي يرى، كما صنع
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بخيبر: قبل سوادها وبياضها - يعني أرضها ونخلها - والناس
يقولون: لا يصلح قبالة الأرض والنخل، وقد قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خيبر. وعلى
المتقبلين سوى قبالة الأرض العشر ونصف العشر في حصصهم.
وقال: إن أهل الطائف أسلموا وجعلوا عليهم العشر ونصف العشر، وإن مكة
دخلها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنوة فكانوا أسراء في يده فأعتقهم وقال: اذهبوا فأنتم
الطلقاء " (1).
ولا يخفى أن صفوان وأحمد بن محمد كليهما من أعاظم أصحاب الرضا (عليه السلام)
فالضمير المجرور عائد إليه (عليه السلام) وقوله (عليه السلام) " وكان للمسلمين " أقوى شاهد على ما
نصر عليه من عدم تفاوت أساسي بين الأراضي المفتوحة عنوة وأرض النفل، وأن
كليهما من الأموال العامة المتعلقة بالمسلمين، وأن المتولي لهما والمتصدي
للتصرف فيهما هو الإمام بما أنه إمام وممثل للمجتمع، وعليه أن يراعي في ذلك
مصالح المسلمين ويصرف الخراج فيما يصلحهم. ولا فرق في ذلك بين الموات
وغيره.
ويطلق على هذا السنخ من الأموال المتعلقة بالمجتمع مال الله ومال الإمام
ومال المسلمين، ومآل الجميع واحد.
والمتبادر من قوله: " وما أخذ بالسيف " المحياة من أراضيهم لا مطلق
الأراضي وإن توهم.
وهل يراد به طبيعة ما أخذ بالسيف بإطلاقها، أو يكون إشارة إلى خصوص
ما أخذ بالسيف من أراضي الكوفة وسواد العراق المذكورة في السؤال؟ لعل

(1) الكافي: 3، 513.
533

الأظهر هو الأول.
وقد تعرض في الحديث لفتح مكة عنوة وأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أعتق أهلها،
فهل من عليهم بأراضيها أيضا أو أنه أبقاها للمسلمين؟ كما في المبسوط قال:
" وإنما لم يقسم الأرضين والدور لأنها لجميع المسلمين، كما نقوله في كل ما يفتح
عنوة " (1).
ولكنه من المحتمل إنه (صلى الله عليه وآله وسلم) من عليهم بها أيضا. وعليه فلا يتعين إبقاء
الأراضي المفتوحة عنوة للمسلمين بل تكون تحت اختيار الإمام كسائر الغنائم
والإبقاء أحد شقوق اختياره (2).
2 - عن أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي، قال: ذكرت لأبي الحسن
الرضا (عليه السلام) الخراج وما سار به أهل بيته، فقال: " العشر ونصف العشر على من أسلم

(1) المبسوط: 2، 33.
(2) وهذا الاحتمال هو الأقوى لما يظهر مما ورد من تقسيم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) غنائم خيبر.
فراجع الأموال: 69 و 71 وصحيح البخاري: 2، 193 والأحكام السلطانية: 146.
ومن مشاورة عمر أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في سواد الكوفة: " فشاور عليا (عليه السلام) فقال:
" إن قسمتها اليوم لم يكن لمن يجيء بعدنا شئ، ولكن تقرها في أيديهم يعملونها فتكون لنا
ولمن بعدنا " فقال: وفقك الله، هذا الرأي ". انظر تاريخ اليعقوبي: 2 / 129.
ولأن حال الأراضي متغير في الأعصار إذ رب أرض محياة صارت مواتا، فتكون من
الموضوعات المتغيرة فلا مجال للحكم عليها بإبقائها للمسلمين وعدم بيعها وشرائها حكما
إلهيا كليا أو حكما سلطانيا دائميا، مضافا إلى الخدشة في صحة الحكم السلطاني الدائمي كما
مر.
فالحكم المستفاد من الروايات الظاهرة في إبقائها للمسلمين وعدم جواز بيعها وشرائها
هو الحكم السلطاني الموقت. وعلى هذا فلا فرق بين المحياة من الأراضي المفتوحة عنوة
ومواتها في كونهما تحت اختيار الإمام، إلا أن الأراضي المحياة قابلة للانتفاع وتحصيل
الخراج منها لصالح الإسلام والمسلمين ولكن الموات ليست كذلك فتلحق بالموات من
أراضي المسلمين وتحيى بشروط ذكرت في محلها - م -.
534

طوعا، تركت أرضه في يده وأخذ منه العشر ونصف العشر فيما عمر منها، وما لم
يعمر منها أخذه الوالي فقبله ممن يعمره وكان للمسلمين. وليس فيما كان أقل من
خمسة أوساق شئ.
وما أخذ بالسيف فذلك إلى الإمام يقبله بالذي يرى، كما صنع رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بخيبر: قبل أرضها ونخلها. والناس يقولون: لا تصلح قبالة الأرض
والنخل إذا كان البياض أكثر من السواد، وقد قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خيبر وعليهم في
حصصهم العشر ونصف العشر " (1).
3 - مرسلة حماد بن عيسى، عن بعض أصحابنا، عن العبد الصالح (عليه السلام)، قال:
"... وليس لمن قاتل شئ من الأرضين ولا ما غلبوا عليه إلا ما احتوى عليه
العسكر...
والأرضون التي أخذت عنوة بخيل ورجال فهي موقوفة متروكة في يد من
يعمرها ويحييها ويقوم عليها، على ما يصالحهم الوالي على قدر طاقتهم من الحق:
النصف أو الثلث أو الثلثين، وعلى قدر ما يكون لهم صلاحا ولا يضرهم... " (2).
4 - صحيحة محمد الحلبي، قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن السواد ما منزلته؟
فقال: " هو لجميع المسلمين: لمن هو اليوم، ولمن يدخل في الإسلام بعد اليوم،
ولمن لم يخلق بعد ". فقلت: الشراء من الدهاقين؟ قال: " لا يصلح إلا أن يشترى
منهم على أن يصيرها للمسلمين، فإذا شاء ولى الأمر أن يأخذها أخذها ". قلت:
فإن أخذها منه؟ قال: " يرد عليه رأس ماله وله ما أكل من غلتها بما عمل " (3).
أقول: المراد بالسواد أرض العراق، والظاهر إن المقصود من ذيل الحديث

(1) الوسائل: 11، 120.
(2) الكافي: 1، 539.
(3) الوسائل: 12، 274.
535

عدم صحة اشتراء رقبة الأرض، ولكن يجوز اشتراء حق الزارع فيها من بناء أو
مرز أو غيرهما، ولا أقل من حق اختصاصه بها، وينتقل حق المسلمين إلى عهدته.
5 - موثقة محمد بن مسلم، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الشراء من أرض
اليهود والنصارى؟ فقال: " ليس به بأس، قد ظهر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على أهل خيبر
فخارجهم على أن يترك الأرض في أيديهم يعملونها ويعمرونها، فلا أرى بها بأسا
لو أنك اشتريت منها شيئا. وأيما قوم أحيوا شيئا من الأرض وعملوها فهم أحق بها
وهي لهم " (1).
أقول: الظاهر أن منشأ السؤال أن أراضي اليهود والنصارى لم تكن لأنفسهم
بل للمسلمين وهم كانوا زراعها وأكرتها. وأراضي خيبر كانت كذلك، لأنها فتحت
عنوة، فمتعلق الاشتراء فيها لا محالة لم يكن رقبتها بل حق الإحياء الثابت لليهود
فيها بالنسبة إلى ما حصل بعد الفتح.
ويستفاد من الحديث أن الإحياء يوجب الأحقية ولو كان المحيي غير
مسلم، وأنه لا يستلزم ملكية الرقبة، بل حيثية الإحياء والعمران فقط. ويستفاد هذا
المعنى من تطبيق الإمام (عليه السلام) قوله: " وأيما قوم أحيوا... " على أرض خيبر، مع أن
رقبتها خرجت عن ملك اليهود بالاغتنام.
والمستفاد من هذه الأخبار أن الأرض المفتوحة عنوة لا تقسم بين
المقاتلين، بل تكون لجميع المسلمين ويجب أن تبقى عدة لهم وتكون في اختيار
الإمام ولا يجوز بيع ولا اشتراء رقبتها، نعم يجوز نقل الآثار المحدثة فيها والحق
المتعلق بها لكل متصرف مع التزام المشتري بخراجها، وعلى هذا استقرت فتاوى
أصحابنا وحكى عليه إجماعهم.

(1) الوسائل: 11، 118.
536

مصرف الخراج:
يظهر مما مر أن الخراج للإمام بما هو إمام وتحت اختياره، وعليه أن
يصرفه في كل ما تقتضيه شؤون الإمامة ومصالح المسلمين.
ونضيف هنا أن الأراضي التي تكون للإمام بما هو إمام فحكمها واضح إذ
يكون خراجها لا محالة تحت اختياره. وأما ما كانت للمسلمين بما هم مسلمون
كالمفتوحة عنوة أو صلحا على أن تكون لهم فيدل على صرف خراجها في
مصالحهم مرسلة حماد الطويلة التي عمل بها الأصحاب في الأبواب المختلفة:
ففيها بعد ذكر تقبيل الإمام للأراضي المفتوحة عنوة قال: " ويؤخذ الباقي
فيكون بعد ذلك أرزاق أعوانه على دين الله وفي مصلحة ما ينوبه من تقوية
الإسلام وتقوية الدين في وجوه الجهاد وغير ذلك مما فيه مصلحة العامة ليس
لنفسه من ذلك قليل ولا كثير " (1).
وقوله (عليه السلام): " ليس لنفسه من ذلك قليل ولا كثير " لعله يراد به عدم كونه ملكا
لشخص الإمام والوالي أو عدم تعلق الخمس به للإمام، وإلا فإدارة شؤون الوالي
وسد خلاته أيضا من أهم المصالح العامة التي تنوبه.
ويظهر من بعض الأخبار أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صرف من عوائد خيبر في حاجات
نفسه أيضا، وخيبر كانت مفتوحة عنوة كما يظهر من خبر صفوان والبزنطي: ففي
كتاب الخراج والفئ من سنن أبي داود بسنده عن سهل بن أبي حثمة، قال: " قسم
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خيبر نصفين: نصفا لنوائبه وحاجته ونصفا بين المسلمين، قسمها
بينهم على ثمانية عشر سهما " (2).
وأفتى بمفاد مرسلة حماد في المقام فقهاؤنا:

(1) الوسائل: 11، 85.
(2) سنن أبي داود: 2، 142.
537

ففي المبسوط في حكم الأرض المفتوحة عنوة قال: " ويأخذ ارتفاعها
ويصرفه في مصالح المسلمين وما ينوبهم من سد الثغور ومعونة (تقوية)
المجاهدين وبناء القناطر وغير ذلك من المصالح " (1).
وفي جهاد الشرائع: " ويصرف الإمام حاصلها في المصالح مثل سد الثغور
ومعونة الغزاة وبناء القناطر " (2).
وفي المغني لابن قدامة: " ذكر أحمد الفيء فقال: فيه حق لكل المسلمين
وهو بين الغني والفقير ". ثم حكى عن القاضي أنه قال: " ومعنى كلام أحمد: " أنه
بين الغني والفقير " يعني الغني الذي فيه مصلحة المسلمين من المجاهدين والقضاة
والفقهاء، ويحتمل أن يكون معنى كلامه أن لجميع المسلمين الانتفاع بذلك المال
لكونه يصرف إلى من يعود نفعه على جميع المسلمين، وكذلك ينتفعون بالعبور
على القناطر والجسور المعقودة بذلك المال وبالأنهار والطرقات التي أصلحت
به... " (3).
إلى غير ذلك من كلمات علماء الفريقين في مصرف الخراج بأقسامه، حيث
يستفاد من جميع ذلك أنه يكون تحت اختيار إمام المسلمين وأنه يصرفه في ما
تنوبه من مصالح المسلمين.
نعم إدارة معايش الفقراء والضعفاء ومن لا حيلة له من أفراد المجتمع أيضا
تكون من المصالح المهمة التي وضعت على عاتق الإمام، فيجب سد خلاتهم من
الزكوات ومن خراج الأرضين إن لم تف الزكوات. كما أن سد خلات شخص
الإمام وعماله وولاته أيضا من أهم المصالح العامة.

(1) المبسوط: 2، 34.
(2) الشرائع: 1، 322.
(3) المغني: 7، 308.
538

ولأجل ذلك صرف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) - على ما روي - من أموال بني النضير
في نفقة نفسه وأزواجه وفقراء المهاجرين وبعض الأنصار.
وفي نهج البلاغة فيما كتبه (عليه السلام) لمالك: " ثم الله الله في الطبقة السفلى! من
الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين وأهل البؤسى والزمنى، فإن في هذه
الطبقة قانعا ومعترا، واحفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قسما من
بيت مالك وقسما من غلات صوافي الإسلام في كل بلد، فإن للأقصى منهم مثل
الذي للأدنى... " (1).
والظاهر أن المراد بالصوافي: أراضي الغنيمة أو الخالصة التي جلا أهلها
عنها.
ومن أهم المصالح العامة للدولة الإسلامية سد خلات جميع ولاتها وعمالها
حتى لا يطعموا في الارتشاء وتطمئن نفوسهم في مجالات أعمالهم.
الثالثة: الأسارى: (2)
قال الراغب: " الأسر: الشد بالقيد، من قولهم: أسرت القتب. وسمي الأسير
بذلك، ثم قيل لكل مأخوذ ومقيد وإن لم يكن مشدودا ذلك، وقيل في جمعه
أسارى وأسارى وأسرى " (3).
وقد كانت الأسارى في جميع البلدان والأعصار السالفة من أوفر الغنائم
وأنفعها. بل ربما كانت القبائل يشنون الغارات كثيرا لأخذ الأسارى واستعبادهم

(1) نهج البلاغة، عبده: 3، 111؛ صالح: 438، الكتاب 53.
(2) حيث إن أساس نظر الأستاذ - دام ظله - في البحث عن الأسارى البحث عن ماليتهم، وهذه
الجهة منتفية في زماننا، فلذا اكتفينا ببعض كلمات الأستاذ إشارة إلى أصل البحث - م -.
(3) المفردات: 13.
539

ويهاجمون الضعفاء ويسترقونهم لتوفير الأموال والثروات. وقد استمرت هذه
الخصلة السيئة الظالمة إلى قرب أعصارنا، فكان المتمكنون من الغربيين يهاجمون
قبائل السود في إفريقيا بخشونة وقسوة ويسترقونهم للبيع في الأسواق أو
الاستخدام في المزارع والمصانع.
ولكن للإسلام بالنسبة إلى الحروب والغنائم والأسارى نظر آخر يباين هذه
الطريقة بالكلية، فليس بناء الجهاد الإسلامي على أساس أن يسمح للمسلمين
التغلب على الأناس بداع استعبادهم.
نعم الأسارى نتائج طبيعية قهرية للحروب وقد فصل فيها فقهائنا. فإن أسرن
والحرب قائمة فلها أحكام من أرادها فليطلبها في كتاب الجهاد من الكتب الفقهية.
وإن أسرن وانتقلن وراء الجبهات والحرب قائمة أو أسرن بعدما وضعت الحرب
أوزارها فأمرها مفوض إلى الإمام، فله أن يختار المن أو الفداء أو الاسترقاق
حسب ما يراه صلاحا. وفي المنتهى والتذكرة (1) نسب هذا إلى علمائنا أجمع.
والمشهور بيننا عدم جواز القتل في هذه الصورة.
وصريح الكتاب العزيز يدل على جواز المن والفداء. وإطلاق الفداء يعم
الفداء بالمال وبالرجال، ويدل عليهما أيضا عمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما ذكر في
الخلاف (2).
وما رواه في الكافي عن طلحة بن زيد، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول:
كان أبي (عليه السلام) يقول: " إن للحرب حكمين... والحكم الآخر إذا وضعت الحرب
أوزارها وأثخن أهلها، فكل أسير أخذ في تلك الحال فكان في أيديهم فالإمام فيه
بالخيار؛ إن شاء من عليهم فأرسلهم وإن شاء فاداهم أنفسهم، وإن شاء استعبدهم

(1) المنتهى: 2، 927 والتذكرة: 1، 424.
(2) راجع كتاب الفيء من الخلاف: 2، 332.
540

فصاروا عبيدا " (1).
والسند إلى طلحة صحيح، وطلحة وإن كان بتريا ولكن عمل برواياته
الأصحاب، وقال الشيخ: إن كتابه معتمد (2).
الرابعة: الجزية:
إن الجزية ضريبة تؤخذ من أهل الكتاب عوضا عن الكف عنهم وعن
حرماتهم ومشاعرهم والحماية لهم وتمتعهم بمزايا الدولة الإسلامية، وأن يعامل
كل واحد منهم كمواطن مسلم إذا التزموا بشرائط الذمة، وليست مفروضة بداعي
العقوبة والإهانة والتذليل، نعم يلازم قبولها نوعا من التسليم والانقياد، وهذا شأن

(1) الوسائل: 11، 53.
(2) بعد الغض عن سند الخبر فقوله: " وإن شاء استعبدهم " لا يدل على جواز ذلك في جميع
الأعصار لأن من المحتمل قويا أن يكون ذلك في قبال الأعداء حيث إنهم استعبدوا أسارى
المسلمين وأن استعباد الإنسان كان أمرا عالميا في ذلك الزمان. وعلى هذا فلسان الخبر
كغيره آب عن بيان حكم إلهي كلي في المسألة؛ بل لسانه بقرينة تقييد الحكم بإرادة الإمام
ظاهر في كونه حكما سلطانيا، ولا ريب أن الحكم السلطاني متغير بتغير الموضوعات
والظروف، فالالتزام بجواز استعباد الإنسان أو الأسير في الحرب وإن قامت بقيادة دولة حقة
في زماننا مشكل جدا. ويؤيد هذا الاحتمال حث الإسلام وتأكيده في مجالات مختلفة على
اعتاق الرقاب. وهذا دليل على أن الإسلام لا يرضى ببقاء الرق على الرقية ويستنكرها وإذا
كان الإسلام لا يرضى ببقائها فبالطبع لا يرضى بحدوثها وأن تسلمه في صدر الإسلام كان
عن كره وعن مقتضيات زمانه ارتفعت في زماننا هذا.
ولا بأس بالإشارة إلى بعض حقوق الأسير في الإسلام كحق السكنى في مكان يناسب
حاله، وحق النظافة وحفظ الصحة والتداوي، وحق حسن الصحبة والمعاشرة. ولا يجوز أن
يحمل على عمل خلافا لاعتقاده كالتجسس، كل ذلك لقوله - تعالى - (ولا يجرمنكم شنآن
قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) فالعدالة في حق الأسير تقتضي رعاية
حقوقه - م -.
541

كل ضريبة، ولا غنى للحكومات عن الأموال والضرائب.
قال المفيد: " وجعلها - تعالى - حقنا لدمائهم ومنعا من استرقاقهم ووقاية
لما عداها من أموالهم " (1).
ويستفاد هذا من نصوص المعاهدات التي عقدها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والخلفاء
وأمرائهم مع أهل الكتاب.
ففيما كتبه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأهل نجران: " ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة
محمد النبي رسول الله على أموالهم وأنفسهم وأرضهم وملتهم وغائبهم وشاهدهم
وعشيرتهم وبيعهم وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير. لا يغير أسقف من أسقفيته
ولا راهب من رهبانيته ولا كاهن من كهانته، وليس عليه دنية (وليس عليهم ربية.
الوثائق) ولا دم جاهلية ولا يخسرون ولا يعسرون (ولا يحشرون ولا يعشرون.
الوثائق) ولا يطأ أرضهم جيش، ومن سأل منهم حقا فبينهم النصف غير ظالمين
ولا مظلومين... " (2).
أقول: قوله: " لا يحشرون " أي لا يندبون إلى المغازي ولا تضرب عليهم
البعوث. وقيل: لا يجلون من أوطانهم و " لا يعشرون " أي لا يؤخذ منهم العشر
فالجزية توضع عادة على رؤوس أهل الذمة أو على أراضيهم أو كليهما عوضا عن
الزكوات والأخماس التي كانت تؤخذ من المسلمين. والدولة لا مناص لها من
الأموال التي بها يقوم الملك وتدار شؤونه وبها يدفع عن البلاد والعباد.
فأهل الذمة بعد عقدها والعمل بشرائطها يعيشون بين المسلمين في ظل
حكومتهم عيشة حرة آمنين في الأموال والأعراض والنفوس، لهم ما لهم وعليهم
ما عليهم. بل الشواهد التاريخية تشهد بأنهم ربما كانوا يؤثرون العيش في ظل

(1) المقنعة: 44.
(2) الخراج لأبي يوسف: 72 والوثائق السياسية: 176.
542

الدولة الإسلامية العادلة على البقاء تحت لواء الحكومات المسيحية الدارجة
المستكبرة (1).

(1) حيث لم يكن كل أفراد المجتمع مشتركا في الدين والاعتقاد ولا يمكن إجبار الكل على
الانتحال بدين واحد فلا محالة توجد فرق غير مسلمة في مجتمع المسلمين سواء كانت
منتحلة بدين سماوي كاليهود والنصارى أو منتحلة بدين أرضي كالهنود والبوذيين
والماركسيين أو مشتبهة كالمجوس.
والمنتسبون بهذه الأديان يمكن أن يكونوا متفرقين في البلد الإسلامي أو يكونوا
مجتمعين في قطعة منه أو في أرضهم التي تكون في وسط أراضي المسلمين أو في حاشيتها.
وفي جميع هذه الصور يمكن أن يريدوا تعايشا سلميا مع المسلمين وفي ظل حكومتهم
والتمتع بمزاياها كالأمن من تعديات أعداء خارجية أو أشرار داخلية، فلابد وأن يتقبلوا
ضرائب مالية بعد الحوار على كميتها وكيفيتها واسمها والعقد على ذلك.
فيمكن أن تكون على نحو يؤدوه المسلمون وباسمه يعني الزكاة والخمس والخراج أو
بنحو آخر واسم آخر.
ومن آثار هذا التعايش السلمي أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم كما ورد في بعض
الروايات. وتصور هذه الحالة إذا لم تكن مسبوقة بالحرب والقتال والنزاع.
يستفاد ذلك من عموم الآيات والأخبار الآتية:
1 - قوله - تعالى -: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من
دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم...) (الممتحنة 60: 80).
2 - قوله - تعالى -: (وقولوا للناس حسنا) (البقرة 2: 83).
3 - قوله - تعالى -: (وان جنحوا للسلم فاجنح لها..) (الأنفال 8: 61).
4 - ما في كتاب علي (عليه السلام) لمالك: " وأشعر قلبك الرحمة للرعية... ولا تكونن عليهم سبعا
ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق... " (نهج البلاغة،
عبده: 3، 93، صالح: 427).
5 - ما في كتاب الغارات بسنده، قال: " بعث علي (عليه السلام) محمد بن أبي بكر أميرا على مصر،
فكتب إلى علي (عليه السلام) يسأله عن... زنادقة فيهم من يعبد الشمس والقمر وفيهم من يعبد غير
ذلك... فكتب إليه علي (عليه السلام): "... وأمره في الزنادقة أن يقتل من كان يدعي الإسلام، ويترك
سائرهم يعبدون ما شاؤوا ". وسيأتي الخبر (الغارات: 1، 230، الوسائل: 18، 415).
6 - ما في كتاب الرضا (عليه السلام) إلى المأمون، قال: " لا يحل (لا يجوز - العيون) قتل أحد من
النصاب والكفار في دار التقية إلا قاتل أو ساع في فساد. وذلك إذا لم تخف على نفسك
وعلى أصحابك ".
7 - سيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في معاهداته مع الكفار والمشركين مثل ما أشار إليه في المتن من
مكاتبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأهل نجران، وصلحه (صلى الله عليه وآله وسلم) مع مشركي قريش عام الحديبية. وغير ذلك
مما ورد في التواريخ.
وأما إذا لم يبق للتعايش السلمي معهم مجال لنقضهم العهد ولتعديهم إلى المسلمين فبعد
المفاوضة لحل الخلاف ودعائهم إلى الحق والمسالمة، فإن قبلوا المهادنة نهادنهم لمدة معينة
كما صالح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مشركي قريش عام الحديبية.
وإن لم يقبلوا ودخلوا في الحرب نقاتلهم لقوله - تعالى -: (قاتلوا في سبيل الله الذين
يقاتلونكم...) (البقرة 2: 190) ولقوله - تعالى -: (وقاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم
الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى
يعطو الجزية عن يد وهم صاغرون) (التوبة 9: 29). وغير ذلك من الآيات.
وإذا استمروا في الحرب وصاروا مغلوبين فللغالب أن يعاملهم بما يراه صلاحا للإسلام
والمسلمين، فيتملك أراضيهم ويخرجهم منها، أو يبقيهم فيها ويتقبلها بهم ويأخذ منهم
الخراج أو الجزية، أو يبقى الأراضي في ملكهم ويأخذ منهم الجزية أو غير ذلك.
فالجزية ضريبة على من غلب في الحرب ومن آثاره (راجع آثار الحرب للدكتور وهبة
الزحيلي: 693).
وعلى هذا توضع على من كان له دور في الحرب وتسقط عمن لم يكن له دور كالنساء
والولدان والشيوخ الهرمى وأهل الصوامع كما ورد في الروايات. فليست عوضا عن الزكاة
والخمس والخراج الموضوعة على المسلمين لإدارة شؤون الملك وإلا فلا وجه لوضعها عن
الأصناف المذكورة، لأن مخارج الدولة تكون على كل من يستفيد من خدماتها بلا فرق بين
النساء والولدان والشيوخ وغيرهم. ولا بين المسلم والكافر. نعم من لا مال له ولا كسب ولا
قدرة عليه يستثنى من الأداء، بل يجب على الدولة إدارة شؤونه - م -.
543

والأصل القرآني في الجزية قوله - تعالى -: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا
باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا
544

الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) (1).
والظاهر أن كلمة: " من " بيانية. والمراد برسوله إما النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وإما
رسول أنفسهم كموسى وعيسى (عليهما السلام).
ومن المظنون أن " الجزية " معربة من كلمة: " گزيت " الفارسية.
وقال الماوردي: " اسمها مشتق من الجزاء... " (2) وذكر نحوه أبو يعلى
أيضا (3).
وفي الجواهر: " هي فعلة من جزى يجزي، يقال: جزيت ديني: إذا
قضيته " (4).
وعلى هذا تكون الفارسية مأخوذة من العربية. ويحتمل أصالتهما أيضا.
والظاهر أن الصغار لا يراد به أزيد من التزامهم بأحكامنا وانقيادهم للدولة
الإسلامية.
وظاهر الآية أن قبول الجزية من أهل الكتاب إلزامي، فلا يجوز قتالهم
بعدما قبلوا اعطائها.
والآية بنفسها لا تنفي قبول الجزية من سائر الكفار فإنه من قبيل مفهوم
اللقب وليس بحجة.
والمراد بأهل الكتاب على ما هو المتبادر منه في تلك الأعصار هو اليهود
والنصارى، وألحق بهم المجوس أيضا للسنة، وإنما وقع الخلاف والبحث في

(1) التوبة 9: 29.
(2) الأحكام السلطانية: 142.
(3) الأحكام السلطانية: 153.
(4) الجواهر: 21، 227، ولا يخفى أن المستفاد من آية الجزية ومما نقل عن الماوردي وأبي
يعلى والجواهر أن الجزية ليست ضريبة مالية، بل هي نوع من الجزاء المرتبط بحالة
القتال - م -.
545

غيرهم.
فهنا جهات من البحث:
الأولى: فيمن تؤخذ منه الجزية:
قال الشيخ: " كل من خالف الإسلام من سائر أصناف الكفار يجب
مجاهدتهم وقتالهم، غير أنهم ينقسمون قسمين: قسم لا يقبل منهم إلا الإسلام
والدخول فيه، أو يقتلون وتسبى ذراريهم وتؤخذ أموالهم، وهم جميع أصناف
الكفار إلا اليهود والنصارى والمجوس.
والقسم الآخر هم الذين تؤخذ منهم الجزية، وهم الأجناس الثلاثة الذين
ذكرناهم، فإنهم متى انقادوا للجزية وقبلوها وقاموا بشرائطها لم يجز قتالهم ولم
يسغ سبي ذراريهم. ومتى أبوا الجزية أو أخلوا بشرائطها كان حكمهم حكم غيرهم
من الكفار في أنه يجب عليهم القتل وسبي الذراري وأخذ الأموال " (1).
وفي الشرائع: " الأول: من تؤخذ منه الجزية؟ تؤخذ ممن يقر على دينه،
وهم اليهود والنصارى، ومن لهم شبهة كتاب وهم المجوس، ولا يقبل من غيرهم
إلا الإسلام. والفرق الثلاث إذا التزموا شرائط الذمة أقروا، سواء كانوا عربا أو
عجما.
ولو ادعى أهل الحرب أنهم منهم وبذلوا الجزية لم يكلفوا البينة وأقروا " (2).
وفي الأحكام السلطانية في فقه الشافعي: " فيجب على ولي الأمر أن يضع
الجزية على رقاب من دخل في الذمة من أهل الكتاب ليقروا بها في دار الإسلام...
والعرب في أخذ الجزية منهم كغيرهم. وقال أبو حنيفة: لا آخذها من
العرب، لئلا يجري عليهم صغار. ولا تؤخذ من مرتد ولا دهري ولا عابد وثن.

(1) النهاية: 291.
(2) الشرائع: 1، 327.
546

وأخذها أبو حنيفة من عبدة الأوثان إذا كانوا عجما. ولم يأخذها منهم إذا كانوا
عربا.
وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى، وكتابهم التوراة والإنجيل. ويجري
المجوس مجراهم في أخذ الجزية منهم وإن حرم أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم.
وتؤخذ من الصابئين والسامرة إذا وافقوا اليهود والنصارى في أصل
معتقدهم وإن خالفوهم في فروعه. ولا تؤخذ منهم إذا خالفوا اليهود والنصارى في
أصل معتقدهم " (1).
وفي مختصر الخرقي في فقه الحنابلة: " ولا تقبل الجزية إلا من يهودي أو
نصراني أو مجوسي، إذا كانوا مقيمين على ما عوهدوا عليه. ومن سواهم فالإسلام
أو القتل " (2).
وقد تحصل مما حكيناه من الكلمات أنه لا إشكال عند أصحابنا في قبول
الجزية من اليهود والنصارى، بل ومن المجوس أيضا. نعم، عن ظاهر النعماني إنه
ألحقهم بعباد الأوثان وغيرهم ممن لا يقبل منهم إلا الإسلام، ولكن قال في
الجواهر: " قد سبقه الإجماع بقسميه ولحقه " (3).
وأفتى أصحابنا بعدم قبولها من غير الفرق الثلاث، وبه قال الشافعي أيضا،
وأفتى أبو حنيفة ومالك وأحمد في رواية بقبولها من جميع الكفار إلا مشركي
العرب أو قريش، وقال بعضهم بقبولها من جميعهم. هذا.
ولكن في كتاب السير من الخلاف: " إذا صالح الإمام قوما من المشركين
على أن يفتحوا الأرض ويقرهم فيها ويضرب على أرضهم خراجا بدلا عن

(1) الأحكام السلطانية: 143.
(2) المغني: 10، 568 و 573.
(3) الجواهر: 21، 228.
547

الجزية كان ذلك جائزا على حسب ما يعلمه (يراه - ظ) من المصلحة ويكون
جزية... " (1).
ولا يخفى أن هذه المسألة من الخلاف تنافي ما سبق منه من النهاية من عدم
قبول الجزية من المشركين.
اللهم إلا أن يفرق بين المسألتين بأن المنع من أخذ الجزية من المشرك
وأمثاله محمول على أخذها من الأقلية الكافرة الداخلة في المجتمعات الإسلامية
في دار الإسلام، فنقول بجواز أخذها من دول الكفر ومدنهم ليكف عنهم ويكونوا
مأمونين في ظل حماية الدولة الإسلامية والتعهد الدولي، إذ يبعد جدا وجوب قتل
جميع الكفار في بلاد الكفر مع سعتها وكثرتهم كالهنود والبوذيين وأمثالهم، ولا
إكراه في الدين ولا اعتبار به ما لم يكن على أساس العلم والمعرفة (2).
وكيف كان فلنتعرض لما يستدل به في المقام من الآيات والروايات:
1 - قال الله - تعالى -: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب) (3).
2 - وقال: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث
وجدتموهم...) (4).

(1) الخلاف: 3، 235.
(2) قد تسلم الأستاذ - دام ظله - أن الجزية ضريبة مالية أمرها كما وكيفا بيد الحكومة الحقة.
فلا مجال للتعبد في مثلها. وما نقل في رواية أبي يحيى الواسطي الآتية من عمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
لا يبعد أن يكون ناشئا عن ولايته (صلى الله عليه وآله وسلم) كما احتمله الأستاذ. فأخذ الجزية من كفار غير أهل
الكتاب أيضا موكول إلى نظر الحكومة ومصلحتها في الظروف المختلفة والاستبعاد المذكور
في المتن لقتل جميع الكفار في بلاد الكفر ودليله جاريان في قتل الكفار الداخل في
المجتمع الإسلامي أيضا - م -.
(3) محمد 47: 4.
(4) التوبة 9: 5.
548

3 - وقال: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) (1).
إلى غير ذلك من الآيات. ويمكن المناقشة في دلالة بعضها بكونها في مقام
رفع توهم الحظر، فلا تدل على أزيد من الترخيص.
4 - وقد مر قوله - تعالى -: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم
الآخر...) (2) ومر شرحها ومقدار دلالتها في أول البحث.
فيستفاد من هذه الآيات أن الكافر يدعى إلى الإسلام، فإن قبل جرى عليه
حكم الإسلام وإلا قتل، فتكون الجزية على خلاف القاعدة لا يصار إليها إلا
بدليل، وآية سورة التوبة الواردة فيها تكون بمنزلة الاستثناء، وموردها وإن كان
خصوص أهل الكتاب ولكن لا تدل على نفيها عن سائر الكفار.
5 - وفي خبر حفص بن غياث، عن أبي عبد الله (عليه السلام) الوارد في الأسياف
الخمسة، قال: " فأما السيوف الثلاثة المشهورة (الشاهرة) فسيف على مشركي
العرب، قال الله - عز وجل -: (أقتلوا المشركين حيث وجدتموهم...) فهؤلاء لا
يقبل منهم إلا القتل أو الدخول في الإسلام...
والسيف الثاني على أهل الذمة، قال الله - تعالى -: (وقولوا للناس
حسنا) (3). نزلت هذه الآية في أهل الذمة، ثم نسخها قوله - عز وجل -: (قاتلوا
الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر...) فمن كان منهم في دار الإسلام فلن يقبل
منهم إلا الجزية أو القتل... ومن كان منهم في دار الحرب حل لنا سبيهم، ولم تحل
لنا مناكحتهم ولم يقبل منهم إلا الدخول في دار الإسلام، أو الجزية أو القتل.
والسيف الثالث سيف على مشركي العجم، يعني الترك والديلم والخزر، قال

(1) الأنفال 8: 39.
(2) التوبة 9: 29.
(3) البقرة 2: 78.
549

الله - عز وجل - في أول السورة التي يذكر فيها الذين كفروا فقص قصتهم ثم قال:
(فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى
تضع الحرب أوزارها).
فإما قوله: " فإما منا بعد " يعني بعد السبي منهم، " وإما فداء " يعني المفاداة
بينهم وبين أهل الإسلام. فهؤلاء لن يقبل منهم إلا القتل أو الدخول في الإسلام، ولا
تحل لنا مناكحتهم ما داموا في دار الحرب " (1).
6 - وعن أبي يحيى الواسطي، عن بعض أصحابنا، قال: " سئل أبو عبد الله (عليه السلام)
عن المجوس أكان لهم نبي؟ فقال: نعم. أما بلغك كتاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أهل
مكة: أن أسلموا وإلا نابذتكم بحرب. فكتبوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أن خذ منا الجزية
ودعنا على عبادة الأوثان. فكتب إليهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إني لست آخذ الجزية إلا من
أهل الكتاب، فكتبوا إليه - يريدون بذلك تكذيبه -: زعمت أنك لا تأخذ الجزية إلا
من أهل الكتاب ثم أخذت الجزية من مجوس هجر. فكتب إليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
أن المجوس كان لهم نبي فقتلوه وكتاب أحرقوه، أتاهم نبيهم بكتابهم في اثنى
عشر ألف جلد ثور " (2).
وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إني لست آخذ الجزية إلا من أهل الكتاب " هل هو حكم
إلهي كلي فلا يجوز التخلف عنه، أو أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بما أنه كان حاكما على
المسلمين في عصره لم ير أخذها صلاحا إلا من أهل الكتاب فلا ينافي ذلك أخذ
الأئمة والحكام بعده ولو من غيرهم إذا رأوا في ذلك مصلحة للإسلام والمسلمين؟
كل محتمل. بل لعل ظاهر التعبير هو الثاني (3).

(1) الوسائل: 11، 16.
(2) الوسائل: 11، 96.
(3) لا يخفى أن بعد قبول هذا الاحتمال - وهو الموافق للاعتبار وبناء العقلاء - لا وجه لإطالة
الكلام في الجزية والبحث عمن تؤخذ منه.
والروايات المختلفة محمولة على الظروف المختلفة، وتشخيص المصلحة في من تؤخذ
منه وفي مقدارها وسائر جهاتها موكول إلى الحكومة الحقة في كل زمان. مضافا إلى أن أكثر
الفروع الآتية يناسب الظروف الموجودة في القرون الماضية ولا يناسب مع ما في
زماننا - م -.
550

7 - وعن المفيد في المقنعة، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: " المجوس إنما
ألحقوا باليهود والنصارى في الجزية والديات، لأنه قد كان لهم فيما مضى
كتاب " (1).
إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في هذا المجال.
أقول: مفاد بعض هذه الأخبار ثبوتها في أهل الكتاب أو المجوس، وأما نفي
غيرهم فلا. نعم، بعضها دلت على النفي أيضا.
وهنا بعض الأخبار التي ربما يمكن أن يستفاد منها إجمالا ثبوتها في غير
الفرق الثلاث أيضا، فلنتعرض لها:
1 - عن أبي بصير، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الجزية فقال: " إنما حرم الله
الجزية من مشركي العرب " (2).
وفي السند وهب، وهو مجهول أو ضعيف.
2 - وعن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا
بعث أميرا له على سرية أمره بتقوى الله - عز وجل - في خاصة نفسه ثم في أصحابه
عامة ثم يقول...: " وإذا لقيتم عدوا للمسلمين فادعوهم إلى إحدى ثلاث، فإن هم
أجابوكم إليها فاقبلوا منهم وكفوا عنهم:
أدعوهم إلى الإسلام، فإن دخلوا فيه فاقبلوا منهم وكفوا عنهم. وادعوهم إلى

(1) الوسائل: 11، 98.
(2) الوسائل: 11، 97.
551

الهجرة بعد الإسلام، فإن فعلوا فاقبلوا منهم وكفوا عنهم، وإن أبوا أن يهاجروا
واختاروا ديارهم وأبوا أن يدخلوا في دار الهجرة كانوا بمنزلة أعراب المؤمنين
يجري عليهم ما يجري على أعراب المؤمنين ولا يجري لهم في الفيء ولا في
القسمة شئ إلا أن يهاجروا (يجاهدوا خ. ل) في سبيل الله. فإن أبوا هاتين
فادعوهم إلى إعطاء الجزية عن يد وهم صاغرون، فإن أعطوا الجزية فاقبل منهم
وكف عنهم، وإن أبوا فاستعن بالله - عز وجل - عليهم وجاهدهم في الله حق
جهاده، الحديث " (1).
والسند موثوق به. وإطلاق هذه الموثقة يعم غير أهل الكتاب أيضا. اللهم إلا
أن يقال: إن قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مرسلة الواسطي: " إني لست آخذ الجزية إلا من أهل
الكتاب " يفسر هذه الموثقة ويقيد إطلاقها (2).
3 - في كتاب الغارات بسنده، قال: " بعث علي (عليه السلام) محمد بن أبي بكر أميرا
على مصر، فكتب إلى علي (عليه السلام) يسأله عن... زنادقة فيهم من يعبد الشمس والقمر،
وفيهم من يعبد غير ذلك، وفيهم مرتد عن الإسلام... فكتب إليه علي (عليه السلام): " أن أقم
الحد فيهم على المسلم الذي فجر بالنصرانية، وادفع النصرانية إلى النصارى
يقضون فيها ما شاؤوا. وأمره في الزنادقة أن يقتل من كان يدعي الإسلام، ويترك

(1) الوسائل: 11، 43.
(2) إن قلنا: إن مفاد مرسلة الواسطي كان بيان حكم سلطاني من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما استظهره
الأستاذ - دام ظله - فلا يصح تقييد الموثقة بها لأن التقييد يصح فيما كان المطلق والمقيد
كلاهما بصدد بيان حكم إلهي كلي يوهم التعارض بينهما فيحمل المطلق على المقيد، وما
نحن فيه ليس كذلك فإنه يحتمل قويا كون الموثقة بصدد بيان الحكم الإلهي وهو جواز أخذ
الجزية من عموم الكفار، والمرسلة بصدد بيان اختيار الحاكم الإسلامي وأخذ الجزية من
أهل الكتاب لمصالح يراها، ولا تعارض بين الأمرين - م -.
552

سائرهم يعبدون ما شاؤوا. الحديث " (1).
والظاهر أن المراد بقتل من كان يدعي الإسلام قتل المرتد لأن الارتداد من
الإسلام ولا سيما ما كان عن فطرة له وجهة سياسية وداء عضال يسري في
المجتمع سريعا، وبه تضعف شوكة دولته وعظمته. ولعل الحكم من أصله حكم
سياسي وولائي؛ فتراعى فيه شروط الزمان والمكان والبيئات أيضا: ففي كتاب
الرضا (عليه السلام) إلى المأمون، قال: " لا يحل (لا يجوز - العيون) قتل أحد من النصاب
والكفار في دار التقية إلا قاتل أو ساع في فساد. وذلك إذا لم تخف على نفسك
وعلى أصحابك " (2).
وكيف كان فالحكم بوجوب قتل من لم يسلم من غير أهل الكتاب بنحو
الإطلاق مشكل بل ممنوع. فاللازم إحالة أمرهم إلى إمام المسلمين وحاكمهم
فيراعى ما هو الأصلح.
نعم، لا يتعين إقرارهم على دينهم بقبول الجزية منهم على نحو ما كان يتعين
ذلك في أهل الكتاب بناء على نفي التعميم في الحكم، ولعل هذا هو الفارق بين
أهل الكتاب وبين غيرهم. وإن شئت فسم هذا صلحا مؤقتا، وعقد الذمة مع أهل
الكتاب صلح دائم.
ويؤيد ما ذكرنا من عدم وجوب قتل من لم يسلم من غير أهل الكتاب، أن
في عصر خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يوجد قطعا في البلاد الإسلامية مثل العراق
وإيران ومصر كفار غير أهل الكتاب والمجوس كثيرا، ولم يعهد أمره (عليه السلام) عماله
بإكراههم على الإسلام أو القتل.
ولا أظن أن يلتزم أحد بوجوب قتل ما يقرب من نصف سكان الأرض

(1) الغارات: 1، 230 والوسائل: 18، 415.
(2) الوسائل: 11، 62.
553

أعني مليارات من البشر إذا فرض القدرة عليهم. ولعل المقصود من قبول الجزية
ليس إلا مخالطة أهل الذمة للمسلمين فيتأثروا بالعلوم الإسلامية وأخلاقها
ومقرراتها الصالحة العادلة، ولا اعتبار بدين ليس على أساس العلم والمعرفة.
ولو قلنا باختصاص الجزية بالفرق الثلاث فهل يختص الحكم بالسابقين
منهم وأولادهم نسلا بعد نسل، أو يشمل من تهود أو تنصر أو تمجس بعد نسخ
الجميع بالإسلام؟
ظاهر الآيات والروايات التي علق الحكم فيها على عنوان أهل الكتاب أو
اليهود والنصارى والمجوس، كون القضايا على نحو القضايا الحقيقية لا القضايا
الخارجية، وكون الملاك هو الانتحال إلى الأديان الثلاثة ولو بتبديل دينهم إليها في
الأعصار اللاحقة كسائر الموضوعات في الأحكام الشرعية.
وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من بدل دينه فاقتلوه " ينصرف إلى المسلم إذا بدل دينه
وارتد، فلا يشمل الكافر إذا بدل دينه إلى كفر آخر أو الإسلام.
وأما الصابئة فعند فقهاء السنة يعدون من أهل الكتاب وتقبل منهم الجزية،
نعم خالفهم في ذلك أبو سعيد الإصطخري منهم والمشهور بين فقهائنا عدم قبول
الجزية منهم. وخالف في ذلك ابن الجنيد منا.
قال الشيخ: " الصابئة لا يؤخذ منهم الجزية ولا يقرون على دينهم، وبه قال
أبو سعيد الإصطخري.
وقال باقي الفقهاء: إنه يؤخذ منهم الجزية.
دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم " (1).
وقال المفيد: " والواجب عليه الجزية من الكفار ثلاثة أصناف: اليهود على
اختلافهم، والنصارى على اختلافهم، والمجوس على اختلافهم.

(1) الخلاف: 3، 238.
554

وقد اختلف فقهاء العامة في الصابئين ومن ضارعهم في الكفر سوى ما
ذكرناه من الثلاثة الأصناف.
فقال مالك بن أنس والأوزاعي: كل دين بعد دين الإسلام سوى اليهودية
والنصرانية فهو مجوسية وحكم أهله حكم المجوس.
وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: الصابئون مجوس. وقال الشافعي
وجماعة من أهل العراق حكمهم حكم المجوس. وقال بعض أهل العراق: حكمهم
حكم النصارى.
فأما نحن فلا نجاوز بإيجاب الجزية على غير من عددناه، لسنة رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهم والتوقيف الوارد عنه في أحكامهم. وقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام)
أنه قال: " المجوس إنما ألحقوا باليهود والنصارى في الجزية والديات لأنه قد كان
لهم فيما مضى كتاب "... " (1).
أقول: لعل ابتلاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في عصره كان باليهود والنصارى
والمجوس، فيشكل الاستدلال بسنته وعمله في أخذ الجزية منهم على عدم جواز
الأخذ من غيرهم ممن ادعى الكتاب.
وتعليل أمير المؤمنين (عليه السلام) لإلحاق المجوس باليهود والنصارى بأنه قد كان
لهم فيما مضى كتاب، يقتضي كفاية وجود الكتاب فيما مضى في الإلحاق حكما
وإن فرض تحريفه والالتزام بالعقائد الفاسدة، كما نعتقد بالتحريف في التوراة
والإنجيل وفساد الاعتقاد بالأقانيم الثلاثة.
وفي الجواهر: " وأما الصابئون فعن ابن الجنيد التصريح بأخذ الجزية منهم
والإقرار على دينهم ولا بأس به إن كانوا من إحدى الفرق الثلاث... " (2).

(1) المقنعة: 44.
(2) الجواهر: 21، 230.
555

وقال أبو عبيد: " شرائع القرآن كلها إنما نزلت جملا حتى فسرتها السنة.
فعلى هذا كان أخذه (صلى الله عليه وآله وسلم) الجزية من العجم كافة، إن كانوا أهل كتاب أو لم يكونوا،
وتركه أخذها من العرب إلا أن يكونوا أهل كتاب. فلما فعل ذلك استدللنا
بفعله (صلى الله عليه وآله وسلم) على أن الآية التي نزل فيها شرط الكتاب على أهل الجزية إنما كانت
خاصة للعرب، وأن العجم يؤخذ منهم الجزية على كل حال.
ومما يبين ذلك إجماع الأمة على قبولها من الصابئين بعده وليس يشهد لهم
القرآن بكتاب... " (1).
ويمكن أن يقال: إن ذكر الصابئين في الكتاب العزيز في عداد اليهود
والنصارى والمجوس لعله يدل على تمايزهم عن سائر الكفار، وأنه كان يوجد
لدينهم وجهة حق وارتباط بالوحي السماوي إما لإرتباطهم بأحد الأنبياء
السابقين ويعدون لذلك من أهل الكتاب، أو لكونهم من إحدى الفرق الثلاث وإنما
ذكروا بالخصوص من باب ذكر الخاص بعد العام لرفع الشبهة.
قال الله - تعالى -: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى
والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة...) (2).
وكيف كان فإن ثبت أن الصابئين من أهل الكتاب أو أنهم ليسوا من أهل
الكتاب فلا إشكال.
وأما مع احتمال كونهم منهم فالأحوط تحقيق حالهم بالرجوع إلى علمائهم
وكتبهم، فإن بقي الشك فالأحوط إقرارهم على دينهم وأخذ الجزية منهم حفظا
للدماء، ويشكل الحكم بجواز قتلهم.

(1) الأموال: 654.
(2) الحج 22: 17 راجع البقرة 2: 62 والمائدة 5: 69.
556

الثانية: فيمن تسقط عنه الجزية:
قال الشيخ في الخلاف: " المجنون المطبق لا خلاف أنه لا جزية عليه، وإن
كان ممن يجن أحيانا ويفيق أحيانا حكم بحكم الأغلب، وبه قال أبو حنيفة. وقال
الشافعي: يسقط حكم المجنون ولا تلفق أيامه... ".
وقال: " الشيوخ الهرمى وأصحاب الصوامع والرهبان يؤخذ منهم الجزية،
وللشافعي فيه قولان... وفي أصحابنا من قال: لا تؤخذ منهم الجزية ".
وقال: " من لا كسب له ولا مال لا يجب عليه الجزية، وبه قال أبو حنيفة،
وللشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه، والآخر وهو أصحهما: أنها تجب
عليه. دليلنا إجماع الفرقة " (1).
وقال في النهاية: "... وتسقط عن الصبيان والمجانين والبله والنساء
منهم " (2).
وقال في المبسوط: " والفقير الذي لا شئ معه تجب عليه الجزية... " (3).
وفي الجواهر بعد قول المصنف: " ولا تؤخذ الجزية من الصبيان والمجانين
والنساء " قال: " كما صرح به غير واحد، بل لا أجد فيه خلافا، بل في المنتهى
ومحكي الغنية والتذكرة الإجماع عليه، وهو الحجة " (4).
وفي المغني بعد قول المصنف: " ولا جزية على صبي ولا زائل العقل ولا
امرأة " قال: " لا نعلم بين أهل العلم خلافا في هذا... " (5).
وكيف كان فلا خلاف ولا إشكال في سقوط الجزية عن النساء والصبيان

(1) الخلاف: 3، 238.
(2) النهاية: 193.
(3) المبسوط: 2، 38.
(4) الجواهر: 21، 236.
(5) المغني: 10، 581.
557

والبله والمجنون المطبق. وأما الشيخ الفاني والمقعد والزمنى والأعمى والفقير
والرهبان وأهل الصوامع الذين لا قتال لهم ففيهم خلاف، وإن كان إطلاق الآية
الشريفة وكثير من أخبار الباب يقتضي الثبوت فيهم إلا أن يدل دليل على الخلاف.
فلنتعرض لأخبار المسألة وتفصيل العناوين المذكورة:
أ - في حكم النساء والصبيان والمجانين:
فعن حفص بن غياث (في حديث) أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن النساء كيف
سقطت الجزية عنهن ورفعت عنهن؟ قال: فقال: " لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى عن قتل
النساء والولدان في دار الحرب إلا أن يقاتلن... ولو امتنعت أن تؤدي الجزية لم
يمكن قتلها، فلما لم يمكن قتلها رفعت الجزية عنها... وكذلك المقعد من أهل الذمة
والأعمى والشيخ الفاني والمرأة والولدان في أرض الحرب، فمن أجل ذلك رفعت
عنهم الجزية " (1).
والسند وإن كان مخدوشا ولكن رواية حفص بهذا السند قد عمل بها
الأصحاب في كثير من الأبواب. ودلالتها على سقوط الجزية عن النساء والولدان
واضحة.
وظاهر الخبر وجود الملازمة بين جواز القتل وثبوت الجزية، فلا جزية
على من لا يجوز قتله (2).
وعن طلحة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " جرت السنة ألا تؤخذ الجزية من

(1) الوسائل: 11، 47.
(2) يظهر من هذا الخبر وأمثاله ما مر منا من أن الجزية ليست عوضا عن الزكاة والخمس، بل
جزاء للمغلوب في القتال بعد دخوله في الحرب، وإلا لم يكن وجه لاستثناء النساء والولدان
والأعمى والشيخ الفاني من أداء الجزية - م -.
558

المعتوه، ولا من المغلوب على عقله " (1).
والسند موثوق به إلى طلحة. وفي الصحاح: " المعتوه: الناقص العقل " (2).
ويدل على إرادة ناقص العقل من المعتوه لا فاقده عطف المغلوب على عقله عليه،
وظاهره المغايرة.
وفي سنن البيهقي بسنده عن ابن عباس أن النبي (صلى الله عليه وآله) كتب إلى معاذ بن جبل:
" أن من أسلم من المسلمين فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم. فمن أقام على
يهودية أو نصرانية فعلى كل حالم دينارا أو عدله من المعافر ذكرا أو أنثى حرا أو
مملوكا " (3). نعم، للإمام أن يزيد في جزية الرجل بلحاظ أهله وعياله، حيث إن
الحماية لهم تستدعي مؤونة زائدة على الدولة الإسلامية. واختيار الجزية كما
وكيفا يكون بيد الإمام كما يأتي.
ولو كان في اختيار المرأة أو الصبي أو المجنون أرض خراج فالظاهر أخذ
الخراج منهم، إذ لا وجه لوقوع أرض المسلمين في أيديهم مجانا، وهذا غير
الجزية التي ربما توضع على الأرض أيضا كما يأتي.
ب - حكم الشيخ الفاني المعبر عنه بالهم، وكذا المقعد والأعمى:
وأما الشيخ الفاني فإطلاق الآية وبعض الأخبار ومنها خبر معاذ وإن اقتضى
الثبوت، لكن مقتضى رواية حفص التي مرت هو السقوط عنه.
ويؤيد ذلك ما رواه السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام) أن

(1) الوسائل: 11، 48.
(2) صحاح اللغة: 6، 2239.
(3) سنن البيهقي: 9، 194.
559

النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " اقتلوا المشركين، واستحيوا شيوخهم وصبيانهم " (1). والسند لا
بأس به. وإذا لم يقتل شيوخ المشركين فشيوخ أهل الكتاب أولى بذلك. وقد مر في
رواية حفص تعليل سقوط الجزية عن النساء بأنه لما لم يمكن قتلها رفعت الجزية
عنها، وهذا التعليل جار في المقام أيضا.
وربما يفصل كما في التذكرة - بأن " الشيخ من المحاربين إن كان ذا رأي
وقتال جاز قتله إجماعا وكذا إن كان فيه قتال ولا رأي له أو كان له رأي ولا قتال
فيه... وإن لم يكن له رأي ولا قتال لم يجز قتله عندنا... " (2).
وهذا التفصيل قريب، والاحتياط حسن على كل حال.
ومقتضى خبر حفص سقوطها عن المقعد والأعمى أيضا. ونسب هذا إلى ابن
الجنيد منا. ولكن المشهور بيننا عدم السقوط.
قال العلامة: " حفص بن غياث عامي فلا نعول على روايته خصوصا مع
معارضتها بعموم القرآن " (3).
أقول: خبر حفص بهذا السند قد عمل به الأصحاب في الأبواب المختلفة،
فرفع اليد عنه مشكل.
نعم، يمكن أن يحمل إطلاقه على ما هو الغالب في الأعمى والمقعد من الفقر
الدائم، فلا يعم صورة يسارهما.
ج - حكم الفقير في هذا الباب:
وأما الفقير فقد مر عن الخلاف السقوط عنه وادعى عليه إجماع الفرقة.
وعن المبسوط ثبوتها عليه.

(1) الوسائل: 11، 48.
(2) التذكرة: 1، 412.
(3) المختلف: 1، 335.
560

أقول: إن أريد بالفقير الفقير الشرعي، أي من لا يملك مؤونة سنته، أو الفقير
العرفي وإن تمكن من أداء الجزية ولو تدريجا كأكثر أفراد المجتمع، فعموم الأدلة
يشمله. وقد كان الخلفاء وأمير المؤمنين (عليه السلام) يوظفون عليهم.
وإن أريد به من لا كسب له ولا مال أصلا فالحق هو السقوط. ويدل عليه
قوله - تعالى -: (لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها) والشيخ في الخلاف لم يعبر
بالفقير، بل عبر بمن لا كسب له ولا مال، فموضوع بحثه في الخلاف يخالف
موضوع بحثه في المبسوط. فراجع.
د - حكم الرهبان وأصحاب الصوامع في هذا الباب:
وأما الرهبان وأصحاب الصوامع فقد مر عن الخلاف ثبوت الجزية عليهم،
قال: وفي أصحابنا من قال: لا تؤخذ منهم الجزية، وللشافعي فيه قولان (1).
أقول: إطلاق الآية وعموم خبر معاذ (2) يقتضيان الثبوت ولا وجه
لاستثنائهم إلا إذا كانوا شيوخا هرمى أو فقراء وقلنا باستثنائهما، أو يقال بأن
الجزية تابعة لجواز القتل كما مر في النساء، والشيوخ والرهبان لا يقتلون لقوله
- تعالى -: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا) (3). والراهب لا
يقاتل.
وفي خبر ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا تقتلوا الولدان ولا أصحاب
الصوامع " (4).
ولو قيل بأن إدارة المجتمع تتوقف على أموال وضرائب، والجزية ضريبة

(1) راجع الخلاف: 3، 238.
(2) سنن البيهقي: 9، 194.
(3) البقرة 2: 190.
(4) سنن البيهقي: 9، 90.
561

أهل الكتاب، والرهبان أيضا يتمتعون من مزايا الدولة، ومن له الغنم فعليه الغرم،
فللحاكم الإسلامي أن يضع عليهم الجزية إن قدروا عليها ورأى في ذلك مصلحة
لم يكن هذا بعيدا عن الصواب.
الثالثة: في كمية الجزية وفي جواز أخذها من المحرمات:
قال الشيخ: " وليس للجزية حد محدود ولا قدر موقت، بل يأخذ الإمام
منهم على قدر ما يراه من أحوالهم من الغنى والفقر بقدر ما يكونون به
صاغرين " (1).
وقال المحقق: " الثاني في كمية الجزية، ولا حد لها، بل تقديرها إلى الإمام
بحسب الأصلح.
وما قرره علي (عليه السلام) محمول على اقتضاء المصلحة في تلك الحال. ومع انتفاء
ما يقتضي التقدير يكون الأولى إطراحه تحقيقا للصغار " (2).
والمراد بإطراحه عدم التقدير إلى وقت مطالبتها في آخر الحول فيقول لهم:
ادفعوا كذا وكذا.
وفي الجواهر نسب عدم الحد إلى المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة بل
نقل عن الغنية الإجماع وعن السرائر نسبته إلى أهل البيت (3).
وقال الماوردي: " واختلف الفقهاء في قدر الجزية: فذهب أبو حنيفة إلى
تصنيفهم إلى ثلاثة أصناف: أغنياء... وأوساط... وفقراء... فجعلها مقدرة الأقل
والأكثر ومنع من اجتهاد الولاة فيها.
وقال مالك: لا يقدر أقلها ولا أكثرها، وهي موكولة لاجتهاد الولاة في

(1) النهاية: 193.
(2) الشرائع: 1، 328.
(3) الجواهر: 21، 245.
562

الطرفين.
وذهب الشافعي إلى أنها مقدرة الأقل بدينار لا يجوز الاقتصار على أقل
منه، وعنده غير مقدرة الأكثر يرجع فيه إلى اجتهاد الولاة ويجتهد رأيه في التسوية
بين جميعهم أو التفصيل بحسب أحوالهم " (1).
وبالجملة فالمسألة واضحة عندنا وأن مقدارها موكول إلى اجتهاد الإمام
كما وكيفا وقلة وكثرة.
ويدل على ذلك مضافا إلى الشهرة المحققة والإجماعات المنقولة ما رواه
في الوسائل بسند صحيح، عن زرارة، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما حد الجزية
على أهل الكتاب، وهل عليهم في ذلك شئ موظف لا ينبغي أن يجوز إلى غيره؟
فقال: " ذلك إلى الإمام، يأخذ من كل إنسان منهم ما شاء على قدر ماله وما
يطيق (2)...
ويستدل للقائل بالتقدير شرعا بما أمر به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام)
في هذا الباب:
فعن معاذ بن جبل: " أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعثه إلى اليمن وأمره أن يأخذ من
البقر من كل ثلاثين تبيعا، ومن كل أربعين بقرة مسنة، ومن كل حالم دينارا أو عدله
ثوب معافر " (3).
وعن المفيد عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " أنه جعل على أغنيائهم ثمانية وأربعين
درهما، وعلى أوساطهم أربعة وعشرين درهما، وجعل على فقرائهم اثنى عشر

(1) الأحكام السلطانية: 144.
(2) الوسائل: 11، 113.
(3) سنن البيهقي: 9، 193.
563

درهما " وكذلك صنع عمر بن الخطاب قبله وإنما صنعه بمشورته (عليه السلام) (1).
أقول: أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) في عصرهما في موارد خاصة
بضرب مقدار معين لا ظهور له في تعين ذلك في جميع الأعصار وجميع البلدان،
بداهة أن هذا السنخ من الأمور ليست تابعة للتعبد المحض، بل يلاحظ فيها مصالح
المسلمين والدولة الإسلامية. ولا يرفع اليد عن الصحيحة التي عمل بها الأصحاب
وأيدها الإجماع المنقول والشهرة المحققة بهذه الأخبار الحاكية للفعل في موارد
خاصة.
وأما أخذ الجزية من المحرمات:
قال الشيخ: " ولا بأس أن تؤخذ الجزية من أهل الكتاب مما أخذوه من
ثمن الخمور والخنازير والأشياء التي لا يحل للمسلمين بيعها والتصرف فيها " (2).
وفي المختلف: " لا بأس بأخذ الجزية من ثمن المحرمات وعليه
علماؤنا... " (3).
والأصل في المسألة ما رواه في الوسائل بسند صحيح، عن محمد بن مسلم،
قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن صدقات أهل الذمة وما يؤخذ من جزيتهم من ثمن
خمورهم وخنازيرهم وميتتهم، قال: " عليهم الجزية في أموالهم، تؤخذ من ثمن
لحم الخنزير أو خمر، فكل ما أخذوا منهم من ذلك فوزر ذلك عليهم وثمنه
للمسلمين حلال يأخذونه في جزيتهم " (4).
وفي دعائم الإسلام: " وعن جعفر بن محمد (عليهما السلام) " أنه رخص في أخذ الجزية

(1) الوسائل: 11، 116.
(2) النهاية: 194.
(3) المختلف: 1، 335.
(4) الوسائل: 11، 117.
564

من أهل الذمة من ثمن الخمر والخنزير، لأن أموالهم كذلك أكثرها من الحرام
والربا " (1) ورواه عنه في المستدرك (2).
ولا يخفى أن الخمر والخنزير لا مالية لهما عند المسلمين وتكون المعاملة
عليهما باطلة، فيستفاد من الخبرين جواز إلزام الكفار بما ألزموا به أنفسهم من
صحة المعاملة عليهما وأخذ ثمنهما، وكذلك الميتة ونحوها.
ولعله ينفتح من ذلك باب واسع يمكن أن تنتفع به الدول المسلمة في
معاملاتهم مع الدول الأجنبية الكافرة.
الرابعة: في اختيار الإمام بين أن يضع الجزية على الرؤوس أو الأراضي أو
كليهما:
قال الشيخ: " وكل من وجبت عليه الجزية فالإمام مخير بين أن يضعها على
رؤوسهم أو على أرضيهم، فإن وضعها على رؤوسهم فليس له أن يأخذ من
أرضيهم شيئا. وإن وضعها على أرضيهم فليس له أن يأخذ من رؤوسهم شيئا " (3).
الظاهر أن مراده أنه لو جعلت على الرؤوس فقط أو على الأرضين فقط في
عقد الذمة فلا يجوز التخلف عن العقد، لا أنه لا يجوز الوضع عليهما في بادئ
الأمر.
وقال المحقق: " ويجوز وضعها على الرؤوس أو على الأرضين، ولا يجمع
بينهما. وقيل بجوازه ابتداء وهو الأشبه " (4).
أقول: ويدل على جواز ضرب الجزية على الأرض إجمالا مضافا إلى

(1) دعائم الإسلام: 1، 381.
(2) مستدرك الوسائل: 2، 267.
(3) النهاية: 193.
(4) الشرائع: 1، 328.
565

العمومات من الكتاب والسنة: صحيحة محمد بن مسلم، قال: سألته عن أهل الذمة
ماذا عليهم مما يحقنون به دمائهم وأموالهم؟ قال: " الخراج وإن أخذ من رؤوسهم
الجزية فلا سبيل على أرضهم، وإن أخذ من أرضهم فلا سبيل على رؤوسهم " (1).
ومرجع الضمير بقرينة ما قبله في الكافي هو أبو عبد الله (عليه السلام) مضافا إلى أن
مثل محمد بن مسلم الفقيه لا يروي عن غير الإمام (عليه السلام).
والمنساق منها بدوا وإن كان عدم جواز الجمع، ولكن لما كانت الجزية إنما
تثبت بتبع عقد الذمة فلعل المراد أنه بعدما وقع العقد على أحدهما فلا يجوز
التخلف عنه بالأخذ من الآخر، فلا ينافي هذا جواز الجمع بينهما ابتداء في متن
العقد. والمراد بالأخذ الوضع في متن العقد لا الأخذ خارجا.
وعن الصدوق، قال: قال الرضا (عليه السلام): " إن بني تغلب أنفوا من الجزية وسألوا
عمر أن يعفيهم، فخشي أن يلحقوا بالروم فصالحهم على أن صرف ذلك عن
رؤوسهم وضاعف عليهم الصدقة، فعليهم ما صالحوا عليه ورضوا به إلى أن يظهر
الحق " (2).
وظاهر هذا الخبر جواز مضاعفة الصدقة بعنوان الجزية وأن الملاك هو ما
صالحوا عليه.
والعلامة قوى جواز الجمع فقال: " ويتخير الإمام في وضع الجزية إن شاء
على رؤوسهم وإن شاء على أرضيهم. وهل يجوز له أن يجمع بينهما فيأخذ منهم
عن رؤوسهم شيئا وعن أرضهم شيئا؟ قال الشيخان وابن إدريس: لا يجوز ذلك،
بل له أن يأخذ من أيهما شاء. وقال أبو الصلاح: يجوز الجمع بينهما، وهو الأقوى

(1) الوسائل: 11، 114.
(2) الوسائل: 11، 116.
566

عندي... " (1).
والظاهر عدم الخصوصية للأرض، فيجوز وضعها على الأنعام والسيارات
ونحوها من الممتلكات، لما مر من العمومات والإطلاقات.
الخامسة: في أنه لا يؤخذ منهم سوى الجزية وما اشترطوا عليهم في عقد
الذمة شئ آخر:
الظاهر أن ضريبة أهل الجزية تنحصر في الجزية الموضوعة عليهم بكمها
وكيفها وما اشترط عليهم في عقد الذمة، فليس عليهم بعدها شئ من زكاة
وغيرها.
بل الظاهر من الأخبار والفتاوى سقوط الزكاة عنهم.
ففي صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) في أهل الجزية يؤخذ من
أموالهم ومواشيهم شئ سوى الجزية؟ قال: لا (2).
وفي صحيحته الأخرى عن أبي عبد الله (عليه السلام) قوله: " وليس للإمام أكثر من
الجزية، إن شاء الإمام وضع ذلك على رؤوسهم، وليس على أموالهم شئ وإن شاء
فعلى أموالهم وليس على رؤوسهم شئ ". فقلت: فهذا الخمس؟ فقال: " إنما هذا
شئ كان صالحهم عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) " (3).
والظاهر أن المراد بالخمس هنا هو الزكاة المضاعفة، فيجوز مطالبتها إن
شرطت في عقد الذمة وتكون في الحقيقة بعنوان الجزية نظير ما وضعه عمر على
بني تغلب وقد مر آنفا.
ومن هذا القبيل أيضا على الظاهر جعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) العشر ونصف العشر

(1) المنتهى: 2، 966.
(2) الوسائل: 11، 115.
(3) الوسائل: 11، 114.
567

على أهل خيبر بعد تقبيلهم أراضيها، كما دل عليه صحيحة صفوان وخبر البزنطي
أيضا فراجع (1).
وفي سنن البيهقي بسنده، عن العرباض بن سارية السلمي، قال: نزلنا مع
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خيبر، ومعه من معه من أصحابه، وكان صاحب خيبر رجلا ماردا
منكرا، فأقبل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا محمد، ألكم أن تذبحوا حمرنا وتأكلوا ثمارنا
وتضربوا نساءنا؟ فغضب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: " يا بن عوف، اركب فرسك ثم ناد:...
إن الله - عز وجل - لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن ولا ضرب
نسائهم ولا أكل ثمارهم إذا أعطوكم الذي عليهم " (2).
السادسة: فيما إذا مات الذمي أو أسلم:
قال الشيخ: " إذا وجبت الجزية على الذمي بحول الحول ثم مات أو أسلم
قال الشافعي: لم تسقط. وقال أبو حنيفة: تسقط. وقال أصحابنا: إن أسلم سقطت،
ولم يذكروا الموت. والذي يقتضيه المذهب: أنه إذا مات لا تسقط عنه، لأن الحق
واجب عليه فيؤخذ من تركته، وبه قال مالك " (3).
وقال الماوردي: " ولا تجب الجزية عليهم في السنة إلا مرة واحدة بعد
انقضائها بشهور هلالية، ومن مات منهم فيها أخذ من تركته بقدر ما مضى منها.
ومن أسلم منهم كان ما لزم من جزيته دينا في ذمته يؤخذ بها، وأسقطها أبو حنيفة
بإسلامه وموته " (4).
أقول: لما كانت الجزية ضريبة سنوية توضع على أهل الذمة في قبال الكف

(1) الوسائل: 11، 120.
(2) سنن البيهقي: 9، 204.
(3) الخلاف: 3، 239.
(4) الأحكام السلطانية: 145.
568

عنهم والحماية لهم طول السنة فالقاعدة تقتضي ثبوتها بعقد الذمة واشتغال ذمتهم
بها. والسقوط بالموت أو بالإسلام بالنسبة إلى ما مضى مخالف للأصل. نعم
بالإسلام ينتفي الموضوع بالنسبة إلى ما بعده.
وتعيين وقت المطالبة وتحديده بآخر الحول في العقد لا يوجب عدم
تقسيطها بحسب أيام السنة بداهة أنها ضريبة سنوية توضع بحساب جميع أيام
السنة فالسقوط بعد الثبوت يحتاج إلى دليل.
إذا عرفت هذا فنقول: الظاهر إنه لا خلاف ولا إشكال عندنا في عدم
سقوطها بالموت بعد الحول، بل تتعلق بالتركة كسائر الديون. بل لو مات في أثناء
الحول أيضا كان مقتضى القاعدة والاعتبار التقسيط كما مر، وإن كان لو لم يمت لم
يطالب في الأثناء عملا بمقتضى العقد وإنما يحل الأجل بالموت كسائر الديون
المؤجلة.
وأما من أسلم قبل الحول أو بعده قبل أداء الجزية فالمشهور فيهما السقوط،
بل ادعي الإجماع فيهما ولا سيما في الأول.
واستدلوا لذلك بقوله - تعالى -: (قل للذين كفروا أن ينتهوا يغفر لهم ما قد
سلف) (1).
وبالنبويين المشهورين نقلا وعملا:
أحدهما قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " الإسلام يجب ما قبله " (2).
والآخر قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ليس على مسلم جزية " (3).
أقول: لولا وضوح المسألة عند الأصحاب واشتهارها بينهم بل الإجماع

(1) الأنفال 8: 38.
(2) مستدرك الوسائل: 1، 580.
(3) مستدرك الوسائل: 2، 270.
569

عليها لأمكن الإشكال في كثير مما ذكر بالمناقشة في سند الروايات، وبأن
المتبادر من عدم الجزية على المسلم عدمها بلحاظ حال إسلامه لا بلحاظ حال
كفره السابق.
وكيف كان فبعد الإسلام لا يجوز أخذ الجزية بلا إشكال ولا سيما بالنسبة
إلى المستقبل وحال إسلامه.
السابعة: في مصرف الجزية:
قال الشيخ: " وكان المستحق للجزية في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المهاجرين
دون غيرهم، وهي اليوم لمن قام مقامهم في نصرة الإسلام والذب عن سائر
المسلمين " (1).
أقول: اعطاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إياها لخصوص المهاجرين لا يدل على
اختصاصها بهم.
وقال العلامة: " مصرف الجزية هو مصرف الغنيمة سواء، لأنه مال أخذ
بالقهر والغلبة فكان مصرفه مصرف المجاهدين كغنيمة دار الحرب " (2).
وقال المفيد: " وكانت الجزية على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عطاء المهاجرين،
وهي من بعده لمن قام مع الإمام مقام المهاجرين، وفيما يراه الإمام من مصالح
المسلمين " (3).
وقال الماوردي: " إن كل مال وصل من المشركين عفوا من غير قتال ولا
إيجاف خيل ولا ركاب كمال الهدنة والجزية وأعشار متاجرهم، أو كان واصلا
بسبب من جهتهم كمال الخراج ففيه إذا أخذ منهم أداء الخمس لأهل الخمس

(1) النهاية: 193.
(2) التذكرة: 1، 422.
(3) المقنعة: 44.
570

مقسوما على خمسة. وقال أبو حنيفة: لا خمس في الفيء...
وأما أربعة أخماسه ففيه قولان: أحدهما أنه للجيش خاصة لا يشاركهم فيه
غيرهم ليكون معدا لأرزاقهم. والقول الثاني أنه مصروف في المصالح التي منها
أرزاق الجيش وما لا غنى للمسلمين عنه... " (1).
أقول: الماوردي من علماء الشافعية، والشافعي قائل بثبوت الخمس في
الفيء بأنواعه. ونفينا نحن ثبوت الخمس في الفيء وأمثاله من الضرائب والأموال
العامة.
وقد تحصل مما ذكرناه من الكلمات أن في مصرف الجزية قولين أو
احتمالين:
أحدهما: أنها حيث كانت نتيجة الحرب وفداء عن النفوس التي وقعت في
معرض القتل أو الأسر تكون بحكم الغنيمة فتختص بالمقاتلين.
والثاني: أنها من أنواع الفيء، ومصرف الفيء مصالح المسلمين بشعبها
المختلفة ومنها مصارف المقاتلين.
والأصل في المسألة عندنا: صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:
سألته عن سيرة الإمام في الأرض التي فتحت بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: " إن أمير
المؤمنين (عليه السلام) قد سار في أهل العراق بسيرة، فهي إمام لسائر الأرضين ".
وقال: " إن أرض الجزية لا ترفع عنهم الجزية، وإنما الجزية عطاء
المهاجرين. والصدقات لأهلها الذين سمى الله في كتابه ليس لهم في الجزية
شئ " (2).

(1) الأحكام السلطانية: 126.
(2) التهذيب: 4، 118.
571

ورواها الفقيه أيضا وفيها: " عطاء المجاهدين " (1).
وهل يراد بالمهاجرين فيها خصوص من هاجر في صدر الإسلام في عصر
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة المنورة أو الأعم منهم؟ يبعد جدا إرادة الأول، إذ هم لم
يبقوا إلى عصر الباقر (عليه السلام)، وحكم الجزية عام ثابت في جميع الأعصار، فلا محالة
يراد بهم جنود الإسلام المهاجرين من بلادهم إلى صفوف القتال أو إلى الثغور،
فينطبق قهرا على المجاهدين.
وحيث إن من مصارف الصدقة سبيل الله ومن أظهر مصاديقه الجهاد بلا
إشكال فلا محالة لا يمكن الحكم بتباين المصرفين بالكلية.
ثم لو سلم كون الجزية كالغنيمة بحسب المصرف لكونها مثلها في الأخذ من
أهل الشرك بالقهر والغلبة كما مر في بعض الكلمات فنقول:
قد مر منا في مبحث الغنائم أنها أيضا تكون تحت اختيار الإمام ولا يتعين
فيها التقسيم بين المقاتلين كما في مرسلة حماد الطويلة (2).
فالأقوى في مصرف الجزية بل مطلق الفيء هو صرفها فيما يراه الإمام من
مصالح المسلمين، كما مر من المقنعة. نعم، مع وجود المهاجرين المجاهدين
واحتياجهم لا تصل النوبة غالبا إلى غيرهم فإن إدارة شؤونهم من أهم المصالح
العامة.
ويشبه أن يكون مصرف الجزية والخراج واحدا، لأنهما من الفيء ومصرف
الفيء بأنواعه واحد، بل ربما أطلق في بعض الأخبار لفظ الجزية على الخراج
وبالعكس فراجع الوسائل (3).

(1) الفقيه: 2، 53.
(2) الوسائل: 6، 365.
(3) الوسائل: 11، 119 و 114.
572

وقد ورد في مصرف خراج الأرض المفتوحة عنوة في مرسلة حماد قوله:
" ويؤخذ الباقي فيكون بعد ذلك أرزاق أعوانه على دين الله وفي مصلحة ما ينوبه
من تقوية الإسلام وتقوية الدين في وجوه الجهاد وغير ذلك مما فيه مصلحة العامة
ليس لنفسه من ذلك قليل ولا كثير " (1).
تكملة: في أنه يجب على إمام المسلمين وعماله أن يرفقوا بأهل الجزية
والخراج ويحفظوا عنهم بما يصلح به أمرهم ولا يجوز تعذيبهم والتضييق عليهم
في أمر الخراج والجزية.
قال علي (عليه السلام) في كتابه لمالك:
" وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحا لمن
سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم، لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله.
وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأن
ذلك لا يدرك إلا بالعمارة. ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك
العباد ولم يستقم أمره إلا قليلا. فإن شكوا ثقلا أو علة أو انقطاع شرب أو بالة، أو
إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش، خففت عنهم بما ترجو أن يصلح
به أمرهم.
ولا يثقلن عليك شئ خففت به المؤونة عنهم، فإنه ذخر يعودون به عليك
في عمارة بلادك... " (2).
المراد بالثقل: ثقل الخراج المضروب. والبالة: ما يبل الأرض من مطر
وندى. وإحالة الأرض: تحويلها البذور إلى الفساد.
فليتأمل في هذه الكلمات الشريفة أولياء الأمور وجباة الأموال والضرائب

(1) الوسائل: 11، 85.
(2) نهج البلاغة، عبده: 3، 106؛ صالح: 436 الكتاب 53.
573

ولا يلحظوا النفع العاجل فقط بل يراعوا شرائط الأمة وحاجاتها واحتياج الدولة
إلى ايمان الأمة وعواطفهم في المقاطع الحادة. فليرفقوا بهم في وضع الخراج
والضرائب وجبايتها. ولا يحملوا عليهم ما لا يحتملونها.
وفي فروع الكافي بسنده عن رجل من ثقيف، قال: استعملني علي بن أبي
طالب (عليه السلام) على بانقيا وسواد من سواد الكوفة فقال لي والناس حضور: " انظر
خراجك فجد فيه ولا تترك منه درهما، فإذا أردت أن تتوجه إلى عملك فمر بي ".
قال: فأتيته فقال لي: " إن الذي سمعت مني خدعة، إياك أن تضرب مسلما أو
يهوديا أو نصرانيا في درهم خراج، أو تبيع دابة عمل في درهم، فإنما أمرنا أن
نأخذ منهم العفو " (1).
قوله: خدعة: أي تقية. والعفو: ما جاء بسهولة. وعن مرآة العقول في معنى
العفو: " أي الزيادة أو الوسط أو يكون منصوبا بنزع الخافض " (2).
وروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " من ظلم معاهدا أو كلفه فوق طاقته
فأنا حجيجه ".
وعن هشام بن حكيم بن حزام: أنه وجد عياض بن غنم قد أقام أهل الذمة
في الشمس في الجزية فقال: يا عياض! ما هذا؟ فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " إن
الذين يعذبون الناس في الدنيا يعذبون في الآخرة " (3).

(1) الكافي: 3، 540.
(2) الكافي: 3، 540.
(3) الخراج: 124 و 125 وراجع أيضا: صحيح مسلم: 4، 2017 و 2018 ومسند أحمد: 3،
403 و 404 وسنن البيهقي: 9، 205.
وجوب الرفق والتخفيف المستفاد من الأدلة لا يختص بأهل الجزية والخراج، بل يعم كل من
عليه ضريبة مالية قبال الدولة الإسلامية. ولا بأس بأن نقول هنا أيضا يجب على الدولة
الإسلامية أن يدبر أمر الاقتصاد وأن يخطط للتنمية الاقتصادية واستجلاب الثروات وتوفير
الأموال للدولة والأمة من خارج البلد إليه، لا أن تبيع الخامات ساذجة بثمن بخس أو تصبر
حتى يكتسب الناس وتأخذ هي من مكاسبهم القليلة بجعل الضرائب والرسوم لإدارة
شؤونها ونفقات عمالها، وفي النهاية ينزل مستوى الدخل العام ويشيع الفقر ويزيد في عدد
الفقراء يوما فيوما، وكاد الفقر أن يكون كفرا - م -.
574

الخامسة: ما يغنمه المقاتلون بغير إذن الإمام:
قال الشيخ: " إذا دخل قوم دار الحرب وقاتلوا بغير إذن الإمام فغنموا كان
ذلك للإمام خاصة، وخالف جميع الفقهاء في ذلك. دليلنا إجماع الفرقة
وأخبارهم " (1).
وفي الشرائع في عداد الأنفال: " ما يغنمه المقاتلون بغير إذنه فهو له (عليه السلام) " (2).
وبالجملة، فالمشهور كون الغنيمة بأجمعها للإمام، ولم يفرقوا في الحكم بين
زمان الحضور والغيبة. ويستدل لذلك بوجوه:
الأول: الإجماع المدعى ولكن ثبوته بحيث يستكشف به قول المعصوم
مشكل. ولعل مدركهم الخبر الآتي.
الثاني: مرسلة العباس الوراق، عن رجل سماه، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:
" إذا غزا قوم بغير إذن الإمام فغنموا كانت الغنيمة كلها للإمام، وإذا غزوا بأمر الإمام
فغنموا كان للإمام الخمس " (3).
وفي السند ضعف يجبر بالشهرة لو ثبت اعتماد الأصحاب عليها. ومما
يشهد لاعتمادهم عليها ذكرهم لمضمونها في مقام الافتاء في كتبهم المعدة لنقل
الفتاوى المأثورة حتى أن ابن إدريس مع عدم عمله بالخبر الواحد قد أفتى في

(1) الخلاف: 2، 332.
(2) الشرائع: 1، 183.
(3) الوسائل: 6، 369.
575

السرائر بمضمون المرسلة فيشكل رفع اليد عنها.
ويظهر من بعض الترديد في الحكم واحتمال أو تقوية المساواة بين
المأذون فيه وغيره في وجوب التخميس وتقسيم البقية.
والذي يسهل الخطب أن الغنيمة عندنا بأجمعها تكون تحت اختيار الإمام
ولا يتعين فيها التقسيم وإن حصل القتال بإذنه كما دل على ذلك مرسلة حماد
وغيرها.
نعم لو لم يصدق عنوان الغزاء كما إذا كان الهجوم من الخصم ولم يقع من
المسلم إلا الدفاع غير المشروط بإذن الإمام كان الحكم بثبوت الخمس وتملك
البقية عملا بعموم الآية في محله.
وليعلم أن المتتبع في كلمات القوم فيما إذا وقع الغزاء بغير إذن الإمام يجد
أقوالا واحتمالات خمسة:
الأول: ما اختاره المشهور من كون الغنيمة بأجمعها للإمام مطلقا.
الثاني: كونها كسائر الغنائم تخمس وتقسم البقية مطلقا.
الثالث: التفصيل بين ما يؤخذ على وجه الجهاد والتكليف بالإسلام كما يقع
من خلفاء الجور، فيكون للإمام، وبين ما أخذ جهرا وغلبة وغصبا ونحو ذلك، كما
في الحدائق (1).
الرابع: تفصيل صاحب العروة بين ما كان في زمان الحضور وإمكان
الاستيذان فتكون الغنيمة للإمام، وبين ما كان في زمن الغيبة فالأحوط إخراج
خمسها (2).
الخامس: التفصيل بين ما إذا وقع الغزاء في لواء حاكم الجور ولا سيما إذا

(1) الحدائق: 12، 322.
(2) العروة الوثقى: 2، 367.
576

كان للدعوة إلى الإسلام وبسطه، وبين ما إذا حمل قوم على قوم فغنموا من دون
نظر الحاكم، فتحمل المرسلة على الصورة الثانية فقط ويكون المقصود منها المنع
عن الغزاء بدون إذن الحاكم وعدم تنفيذه حذرا من الهرج والفوضى وأنهم لو فعلوا
ذلك لم يكن لهم حظ في الغنيمة.
السادسة: غنائم أهل البغي وأساراهم في دار الهجرة:
قال في الجواهر في معنى البغي: " هو لغة: مجاوزة الحد، والظلم،
والاستعلاء، وطلب الشئ. وفي عرف المتشرعة: الخروج عن طاعة الإمام
العادل (عليه السلام)... " (1).
أقول: يشبه أن يرجع جميع المعاني إلى المعنى الأول، أعني المجاوزة
والتجاوز عن الحد.
والظاهر عدم اختصاص البغي وأحكامه شرعا بتجاوز الأمة على الإمام
العادل لعموم الآية وبعض الأخبار الواردة:
قال الله - تعالى -: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن
بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيئ إلى أمر الله، فإن فاءت
فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين) (2).
فالآية تعم البغي والتجاوز، سواء كان من فئة على فئة، أو دولة على دولة،
أو فئة على الإمام العادل، أو الإمام الجائر بجنوده على الأمة. والطائفة تصدق
على الثلاثة فما فوقها، بل على الاثنين والواحد أيضا.
فليس في الآية التي هي الأصل في هذا الحكم اسم من الإمام. نعم، القتال

(1) الجواهر: 21، 322.
(2) الحجرات 49: 9.
577

مطلقا يتوقف خارجا على وجود إمام أو أمير يقود المقاتلين ويجمع أمرهم
وكلمتهم.
وهذه المسألة تشتمل على ثلاث مسائل: حكم نساء البغاة، وذراريهم،
وحكم أموالهم مما حواها العسكر، وحكم ما لم يحوها:
ولكن لما كان أكثر أخبار الباب مشتركة والمسائل متشابكة رواية وفتوى
جعلناها مسألة واحدة، حذرا من التكرار.
وقد حكى إجماع أصحابنا الإمامية، بل إجماع المسلمين على عدم جواز
سبي النساء والذراري، وعدم اغتنام ما لم يحوها العسكر من أموالهم، واختلف
فيما حواها العسكر منها.
قال في الشرائع: " مسائل: الأولى: لا يجوز سبي ذراري البغاة، ولا تملك
نسائهم إجماعا. الثانية: لا يجوز تملك شئ من أموالهم التي لم يحوها العسكر،
سواء كانت مما ينقل كالثياب والآلات، أو لا ينقل كالعقارات، لتحقق الإسلام
المقتضي لحقن الدم والمال. وهل يؤخذ ما حواه العسكر مما ينقل ويحول؟ قيل:
لا، لما ذكرناه من العلة، وقيل: نعم، عملا بسيرة علي (عليه السلام) وهو الأظهر " (1).
وفي الجواهر في ذيل المسألة الأولى قال:
" محصلا ومحكيا عن التحرير وغيره، بل عن المنتهى: " نفي الخلاف فيه
بين أهل العلم ". وعن التذكرة: " بين الأمة ". لكن في المختلف والمسالك نسبته إلى
المشهور. ولعله لما في الدروس، قال: " ونقل الحسن: أن للإمام ذلك إن شاء
لمفهوم قول علي (عليه السلام): إني مننت على أهل البصرة كما من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على أهل
مكة. وقد كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يسبي فكذا الإمام (عليه السلام)، وهو شاذ " (2).

(1) الشرائع: 1، 337.
(2) الجواهر: 21، 334.
578

وفيه أيضا في ذيل المسألة الثانية في حكم ما لم يحوها العسكر من الأموال
قال:
" بلا خلاف أجده في شئ من ذلك، بل في المسالك هو موضع وفاق، بل
في صريح المنتهى والدروس ومحكي الغنية والتحرير الإجماع عليه، بل يمكن
دعوى القطع به بملاحظة ما وقع من أمير المؤمنين (عليه السلام) في حرب أهل البصرة والنهر
بعد الاستيلاء عليهم " (1).
وفي الفقه على المذاهب الأربعة:
" الحنفية والمالكية قالوا: لا يجوز أن يسبى للبغاة ذرية لأنهم مسلمون. ولا
يقسم لهم مال لعدم الاستغنام فيها، لقول الإمام علي (رضي الله عنه) يوم الجمل: " ولا يقتل
أسير، ولا يكشف ستر، ولا يؤخذ مال ". وهو القدوة لنا في هذا الباب، ولأنهم
مسلمون، والإسلام يعصم النفس والمال. ولا بأس بأن يقاتلوا بسلاحهم إن احتاج
المسلمون إليه، لأن الإمام عليا (رضي الله عنه) قسم السلاح فيما بين أصحابه بالبصرة وكانت
قسمته للحاجة لا للتملك...
الشافعية قالوا...: ويحبس أسيرهم وإن كان صبيا أو امرأة أو عبدا حتى
تنقضي الحرب ويفرق جمعهم وقالوا: إذا انقضت الحرب يجب على الإمام أن يرد
إلى البغاة سلاحهم وخيلهم وغيرها، ويحرم استعمال شئ من سلاحهم وخيلهم
وغيرها من أموالهم إلا لضرورة... " (2).
وفي المغني شرح المختصر:
" فأما غنيمة أموالهم وسبي ذريتهم فلا نعلم في تحريمه بين أهل العلم
خلافا، وقد ذكرنا حديث أبي أمامة وابن مسعود ولأنهم معصومون وإنما أبيح من

(1) الجواهر: 21، 339.
(2) الفقه على المذاهب الأربعة: 5، 421.
579

دمائهم وأموالهم ما حصل من ضرورة دفعهم وقتالهم، وما عداه يبقى على أصل
التحريم.
وقد روي أن عليا (عليه السلام) يوم الجمل قال: " من عرف شيئا من ماله مع أحد
فليأخذه " (1).
ويدل على المسألتين الأوليين - مضافا إلى الإجماع وعدم الخلاف بين
المسلمين والأصل المسلم في نفس المسلم وماله وعرضه المستفاد من الكتاب
والسنة -: خبر حفص، عن مروان بن الحكم، قال: لما هزمنا علي (عليه السلام) بالبصرة رد
على الناس أموالهم، من أقام بينة أعطاه ومن لم يقم بينة أحلفه. قال: فقال له قائل:
يا أمير المؤمنين، اقسم الفيء بيننا والسبي. قال: فلما أكثروا عليه قال: " أيكم يأخذ
أم المؤمنين في سهمه؟ " فكفوا " (2).
ومرسلة الصدوق، قال: " وقد روي أن الناس اجتمعوا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)
يوم البصرة فقالوا: يا أمير المؤمنين، اقسم بيننا غنائمهم. قال: أيكم يأخذ أم
المؤمنين في سهمه؟ " (3).
ولكن يظهر من أخبار كثيرة أن ما صنعه أمير المؤمنين (عليه السلام) أو أمر به في أهل
البصرة وقع منه منا عليهم، ففي الوسائل عن أبي بكر الحضرمي، قال: " سمعت أبا
عبد الله (عليه السلام) يقول: لسيرة علي (عليه السلام) في أهل البصرة كانت خيرا لشيعته مما طلعت
عليه الشمس، إنه علم أن للقوم دولة فلو سباهم لسبيت شيعته. قلت: فأخبرني عن
القائم (عليه السلام) يسير بسيرته؟ قال: لا، إن عليا (عليه السلام) سار فيهم بالمن لما علم من دولتهم،

(1) المغني: 10، 65.
(2) الوسائل: 11، 58.
(3) الوسائل: 11، 59.
580

وأن القائم يسير فيهم بخلاف تلك السيرة لأنه لا دولة لهم " (1).
إلى غير ذلك من الأخبار الواردة بهذا المضمون.
فالعمدة في المسألتين هي الإجماعات المدعاة فيهما وتسالم الفريقين على
المنع في النساء والذراري وأموالهم التي لم يحوها العسكر. وإنما الإشكال
والخلاف في أموالهم التي حواها العسكر، ولا سيما وسائل الحرب وأدواتها.
قال العلامة في المختلف:
" مسألة: اختلف علماؤنا في قسمة ما حواه العسكر من أموال البغاة: فذهب
السيد المرتضى في المسائل الناصرية إلى أنها لا تقسم ولا تغنم... وإنما اختلف
الفقهاء في الانتفاع بدواب أهل البغي وسلاحهم في دار الحرب...
وقال الشافعي: لا يجوز. وجوزه أبو حنيفة...
وقال ابن أبي عقيل: يقسم أموالهم التي حواها العسكر.
وقال الشيخ في النهاية: يجوز للإمام أن يأخذ من أموالهم ما حواه العسكر
ويقسم في المقاتلة... والأقرب ما ذهب إليه الشيخ في النهاية... " (2).
وفي المسالك: " القول بالجواز للأكثر ومنهم المصنف والعلامة في المختلف.
ومن حججهم سيرة علي (عليه السلام) في أهل الجمل، فإنه قسمه بين المقاتلين ثم رده على
أربابه " (3).
وفي التذكرة بعد ذكر القولين في المسألة، قال: "... ولا استبعاد في الجمع
بين القولين وتصديق نقلة السيرتين، فيقال بالقسمة للأموال إذا كان لهم فئة
يرجعون إليها، إضعافا لهم وحسما لمادة فسادهم، وبعدمها فيما إذا لم تكن لهم فئة

(1) الوسائل: 11، 56.
(2) المختلف: 1، 336.
(3) المسالك: 1، 160.
581

لحصول الغرض فيهم من تفريق كلمتهم وتبدد شملهم، هذا هو الذي اعتمده " (1)
وما ذكره من التفصيل احداث قول ثالث.
وفقهاء السنة جميعا على منع القسمة والتملك. نعم، أجاز بعضهم الانتفاع بما
لهم من آلات الحرب وأدواتها من دون تملك لها.
فأنت ترى أن المسألة مختلفة فيها. ويظهر من الروايات المستفيضة ومن
كتب التواريخ أن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حرب البصرة أجاز قسمة الأموال التي
حواها العسكر أولا أو قسمها بنفسه ثم أمر بردها. فلو ثبت ذلك بنحو القطع دل
على الجواز والحل وأن الرد ثانيا وقع منه منا وعفوا. فالعمدة إذا إثبات تحقق
التقسيم منه (عليه السلام) أو بإجازته أولا.
والأخبار التي يستفاد منها الجواز إجمالا أو إجازة التقسيم، كثيرة فلنذكر
بعض ما عثرنا عليه، ولعله يحصل القطع بصدور بعضها:
1 - ففي الوسائل، عن الكافي، قال: وفي حديث مالك بن أعين قال: حرض
أمير المؤمنين (عليه السلام) بصفين فقال: "... وإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا سترا
ولا تدخلوا دارا ولا تأخذوا شيئا من أموالهم إلا ما وجدتم في عسكرهم، ولا
تهيجوا امرأة بأذى وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراؤكم وصلحاؤكم... " (2).
2 - وفي دعائم الإسلام: " روينا عن علي (عليه السلام) أنه لما هزم أهل الجمل جمع
كل ما أصابه في عسكرهم مما أجلبوا به عليه فخمسه وقسم أربعة أخماسه على
أصحابه ومضى، فلما صار إلى البصرة قال أصحابه: يا أمير المؤمنين، اقسم بيننا
ذراريهم وأموالهم. قال: ليس لكم ذلك. قالوا: وكيف أحللت لنا دمائهم ولا تحل
لنا سبي ذراريهم؟ قال: حاربنا الرجال فحاربناهم، فأما النساء والذراري فلا

(1) التذكرة: 1، 456.
(2) الوسائل: 11، 71.
582

سبيل لنا عليهن لأنهن مسلمات وفي دار هجرة فليس لكم عليهن سبيل، فإما ما
أجلبوا عليكم به واستعانوا به على حربكم وضمه عسكرهم وحواه فهو لكم... " (1).
3 - وفي المستدرك عن أبي البختري، قال لما انتهى علي (عليه السلام) إلى البصرة...
فأمر علي (عليه السلام) مناديا ينادي: لا تطعنوا في غير مقبل... وما كان بالعسكر فهو لكم
مغنم، وما كان في الدور فهو ميراث... " (2).
4 - وفي شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: " اتفقت الرواة كلها على أنه (عليه السلام)
قبض ما وجد في عسكر الجمل من سلاح ودابة ومملوك ومتاع وعروض، فقسمه
بين أصحابه، وأنهم قالوا له: اقسم بيننا أهل البصرة فاجعلهم رقيقا، فقال: لا... أما
ما أجلب به القوم في معسكرهم عليكم فهو لكم مغنم، وأما ما وارت الدور
وأغلقت عليه الأبواب فهو لأهله، ولا نصيب لكم في شئ منه... " (3) إلى غير ذلك
من الأخبار وما ورد في التواريخ.
فالظاهر أن الأموال التي حواها العسكر يجوز اغتنامها، وفاقا للأكثر لما مر
من الأخبار.
مضافا إلى أن اغتنام الأموال التي حواها العسكر ومصادرتها أمر عرفي
استقرت عليه سيرة العقلاء في جميع الأعصار، لوقوعها في طريق البغي
والتجاوز، فكأنها تصادر على سبيل المقابلة والتقاص.
ولأن من جاء بها إلى أثناء المعركة بغيا وعدوانا فكأنه عرضها للتلف كما
عرض نفسه له فلا يبقى لها حرمة. هذا كله بالنسبة إلى الأموال الشخصية للبغاة.
وأما الأسلحة والأمتعة والرواتب التي وزعتها الدولة الباغية على جنودها

(1) دعائم الإسلام: 1، 395.
(2) المستدرك: 2، 252.
(3) شرح ابن أبي الحديد: 1، 250.
583

فهي من الأموال العامة، وأمرها موكول إلى إمام المسلمين بلا إشكال، وله إجازة
تقسيمها بين جنده تشويقا لهم (1).

(1) الالتزام بأن الحكم في مثل نساء البغاة وذراريهم وأموالهم مما يرتبط بمصالح الحكومة
الحقة والمجتمع الديني - التي تتغير بتغير الظروف في طول الأزمنة - حكم إلهي تعبدي
ودائمي في غاية البعد، بل رواية أبي بكر الحضرمي المتقدمة الدالة على ملاحظة مصلحة
الشيعة، وغيرها مما نقل فيها من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على أهل مكة بعد فتحها قرينة على أن الأمر
موكول إلى ما رآه إمام المسلمين صلاحا. فلا يبعد القول بأن المورد من الأحكام السلطانية.
وقد مر أن مثل تلك الأحكام الناشئة عن مصالح الإسلام والأمة غير ثابتة بل موكول في كل
عصر وظرف إلى ملاحظة المصالح في ذلك الزمان والظرف. والأستاذ وإن تسلم هذا
الاحتمال هنا في الكتاب ولكن جعل هذا الحكم من الأحكام السلطانية الثابتة كما هو رأيه
في غير مورد، وقد مر أن الحكم السلطاني الثابت في كل عصر وزمان مع تغير الظروف
والمصالح الناشئة منها لا محصل له - م -.
584

الفصل الخامس
في الضرائب التي ربما تمس الحاجة إلى تشريعها زائدا
على الزكوات والأخماس والخراج والجزية
اعلم أن مقتضى الأصل الأولي هو سلطة الناس على أنفسهم وأموالهم
وحرمة إكراه الغير وأن حرمة مال الإنسان كحرمة دمه. وقد ثبتت من ناحية الشرع
المبين ضرائب معلومة مثل الزكوات والأخماس للمسلمين والجزية لأهل الذمة
من اليهود والنصارى والمجوس. وظاهر ذلك أنه لا يجوز أخذ غيرها منهم.
فعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " والزكاة نسخت كل صدقة " (1) وعن أبي جعفر (عليه السلام): " لا
يسأل الله عبدا عن صلاة بعد الفريضة ولا عن صدقة بعد الزكاة " (2).
وعنه (عليه السلام) أيضا: " في أهل الجزية، يؤخذ من أموالهم ومواشيهم شئ سوى
الجزية؟ قال: لا " (3).
ولكن المستفاد من بعض الروايات جواز أخذ العشور من تجار أهل الذمة
وأهل الحرب، بل وتجار المسلمين أيضا - مع ورود أخبار بذم الماكس والعشار -

(1) و (2) الوسائل: 6، 6.
(3) الوسائل: 11، 115.
585

وقد استقرت السيرة على أخذ العشور والكمارك ووضع الضرائب والماليات في
البلاد الإسلامية.
فلنبحث هنا أيضا في جهات:
الأولى: في التعرض لبعض كلمات الأعلام في أخذ العشور:
قال الشيخ: " لا يجوز للحربي أن يدخل إلى دار الإسلام إلا بإذن الإمام.
ويجوز أن يدخلها بغير إذنه لمصلحة من أداء رسالة أو عقد هدنة وما أشبه ذلك...
فأما إن استأذن في الدخول فإن كان في رسالة بعقد هدنة أو أمان إلى مدة
ترك بغير عوض. وإن كان لنقل ميرة إلى المسلمين بهم غنى عنها أو لتجارة لم يجز
تركه إلا بعوض يشترط عليه حسب ما يراه الإمام من المصلحة سواء كان عشرا
أو أقل أو أكثر...
وأما أهل الذمة إذا اتجروا في سائر بلاد الإسلام ما عدا الحجاز لم يمنعوا
من ذلك لأنه مطلق لهم ويجوز لهم الإقامة فيها ما شاؤوا. وأما الحجاز فلا
يدخلون الحرم منه على حال وما عداه على ما قدمناه في دخول أهل الحرب بلاد
الإسلام في أكثر الأحكام...
إذا دخل أهل الذمة الحجاز، أو أهل الحرب دخلوا بلد الإسلام من غير
شرط فان للإمام أن يأخذ منهم مثل ما لو دخلوها بإذن. وقيل: ليس له أن يأخذ
منهم شيئا وهو قوي لأن الأصل براءة الذمة.
وقيل: إنهم يعاملون بما يعامل المسلمون إذا دخلوا بلاد الحرب سواء.
إذا اتجر أهل الذمة في الحجاز فإنه يؤخذ منهم ما يجب عليهم في السنة
مرة واحدة بلا خلاف.
وأما أهل الحرب إذا اتجروا في بلاد الإسلام فالأحوط أن يؤخذ منهم في
كل دفعة يدخلونها لأنهم ربما لا يعودون. وقيل: إنه لا يؤخذ منهم إلا في السنة
586

دفعة واحدة ويكتب لهم براءة إلى مثله من الحول " (1).
وفي المدونة الكبرى في فتاوى مالك:
" قلت: أرأيت النصراني إذا تجر في بلدة... فإذا خرج من بلدة إلى غيرها
من بلاد المسلمين تاجرا لم يؤخذ منه مما حمل قليل ولا كثير حتى يبيع. فإن أراد
أن يرد متاعه إلى بلاد أو يرتحل به إلى بلاد أخرى فذلك له وليس لهم أن يأخذوا
منه شيئا إذا خرج من عندهم بحال ما دخل عليهم ولم يبع في بلادهم شيئا ولم
يشتر عندهم شيئا. فإن كان قد اشترى عندهم شيئا بمال ناض كان معه أخذ منه
العشر مكانه من السلعة التي اشترى حين اشترى... قلت وإن دخل عليهم بغير مال
ناض إنما دخل عليهم بلادهم بمتاع متى يؤخذ منه؟ فقال: إذا باعه. قلت: فإذا
باعه أخذ منه العشر مكانه من ثمن المتاع؟ قال: نعم... قلت: أرأيت الذمي إذا
خرج بمتاع إلى المدينة فباع بأقل من مأتي درهم أيؤخذ منه العشر؟ فقال: نعم.
قلت: فيؤخذ منه مما قل أو كثر؟ فقال: نعم. قلت: وهذا قول مالك؟ فقال: نعم " (2).
وفي بدائع الصنائع في فقه الحنفية:
" وأما القدر المأخوذ مما يمر به التاجر على العاشر فالمار لا يخلو إما أن
كان مسلما أو ذميا أو حربيا، فإن كان مسلما يأخذ منه في أموال التجارة ربع
العشر لأن المأخوذ منه زكاة...
وإن كان ذميا يأخذ منه نصف العشر ويؤخذ على شرائط الزكاة لكن يوضع
موضع الجزية والخراج ولا تسقط عنه جزية رأسه...
وإن كان حربيا يأخذ منه ما يأخذونه من المسلمين فإن علم أنهم يأخذون

(1) المبسوط: 2، 48.
(2) المدونة الكبرى: 1، 240.
587

منا ربع العشر أخذ منهم ذلك القدر، وإن كان نصفا فنصف، وإن كان عشرا فعشر...
فإن كان لا يعلم ذلك يأخذ منه العشر.
وأصله ما روينا عن عمر أنه كتب إلى العشار في الأطراف أن خذوا من
المسلم ربع العشر ومن الذمي نصف العشر ومن الحربي العشر، وكان ذلك بمحضر
من الصحابة ولم يخالفه أحد منهم فيكون إجماعا منهم على ذلك. وروى إنه قال:
" خذوا منهم ما يأخذون من تجارنا ".
فقيل له: إن لم نعلم ما يأخذون من تجارنا؟ فقال: " خذوا منهم العشر " وما
يؤخذ منهم فهو في معنى الجزية " (1).
فهذه بعض كلمات الأعلام في المقام. وظاهر الجميع أن المأخوذ من
المسلم زكاة مال التجارة المشروعة سنوية.
الثانية: في التعرض لبعض الأخبار الواردة في أخذ العشور:
وهي على قسمين:
الأول - ما ورد في ذم العشارين إجمالا:
فمنها: ما في نهج البلاغة مخاطبا لنوف البكالي: " يانوف، إن داود (عليه السلام) قام
في مثل هذه الساعة من الليل فقال: إنها ساعة لا يدعو فيها عبد إلا استجيب له إلا
أن يكون عشارا أو عريفا أو شرطيا أو صاحب عرطبة - وهي الطنبور - أو صاحب
كوبة - وهي الطبل - " (2).
والعشار لا يتعين فيمن يأخذ العشور المحرمة، بل كان يطلق العشر كثيرا
على الصدقات الواجبة فيحتمل حمل هذه التعبيرات على خطورة هذه الحرف

(1) بدائع الصنائع: 2، 38.
(2) نهج البلاغة، عبده: 3، 174؛ صالح: 487، الحكمة 104.
588

ولزوم الدقة فيها لكثرة وقوع الزلات فيها، أو على خصوص الظالمين منهم في
استيفاء الحقوق.
ومنها: حديث ثواب الأعمال عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " على العشار كل يوم وليلة
لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا " (1).
ومنها: ما في مسند أحمد عن مالك بن عتاهية، قال: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
يقول: " إذا لقيتم عشارا فاقتلوه ". ثم حكى عن قتيبة بن سعيد قال: " يعني بذلك
الصدقة يأخذها على غير حقها " (2).
ومنها: ما فيه أيضا عن عقبة بن عامر، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول:
" لا يدخل الجنة صاحب مكس " يعني العشار (3).
وفي النهاية: المكس: الضريبة التي يأخذها الماكس وهو العشار.
أقول: لا دلالة في هذا القبيل من الأخبار على إرادة الجباة للعشور غير
المشروعة فقط، بل لعل المراد بالعشور فيها الزكوات المقدرة شرعا بالعشر ونصف
العشر وربع العشر، ووردت هذه الأخبار للإشارة إلى ما كان عليه غالب العشارين
في تلك الأعصار من الظلم والإجحاف، والمطالبة ثانيا ممن أدى زكاة ماله، وأخذ
الزيادة باسم الهدايا ونحو ذلك. ولعل كلمة المكس مأخوذة من المماكسة فإنهم
كانوا يماكسون الناس في أخذ الزيادة.
ولعل الأمر بقتل العاشر - وهو من يأخذ العشور - فيما مر من حديث
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا كان يراد به قتل من بلغ منهم حد الإفساد، وإلا فالحكومة الحقة
مثل الباطلة لابد لها من عشار. فمن يطمئن من نفسه بالاحتياط والتقوى ورعاية

(1) بحار الأنوار: 73، 369.
(2) مسند أحمد: 4، 234.
(3) مسند أحمد: 4، 143 و 150.
589

حال الضعفاء فتصديه لجباية الصدقات والضرائب يكون مرغوبا فيه شرعا بل
ربما يجب مع التعين.
وأما ما ورد في أخبارنا من الحلف كاذبا للعشارين لتخليص المال منهم:
كما في صحيحة زرارة قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): " نمر بالمال على العشار
فيطلبون منا أن نحلف لهم ويخلون سبيلنا ولا يرضون منا إلا بذلك، قال: فاحلف
لهم فهو أحل (أحلى) من التمر والزبد " (1) ونحوها، فالظاهر أن هذا كان من جهة
كونهم عشارين لحكومات الجور وكان أداء المال لهم تقوية لهم فكان الأولى
تخليص المال منهم حتى الزكوات الواجبة (2).

(1) الوسائل: 16، 135.
(2) الظاهر من كلمات الأستاذ - دام ظله - كما ترى توجيه أخبار الذم وحمل العشارين على
جباة الصدقات الذين يأخذونها ظلما وإجحافا.
ولكن يبعد جدا أن يكون المراد بالعاشر عامل الصدقة الذي يجحف أو يأخذ الهدية
والرشوة ونحوها، بل المراد به من ينصب ليأخذ عشر المال ممن يتجر بين البلاد سواء كان
مسلما أو ذميا أو كافرا كيفما كان حتى قبل حصول الفائدة لهم، أو من يأخذ العشر ضريبة
سنوية من دون أن يراعى أن الذي أخذ منه استفاد في تلك السنة من شغله وعمله أم لا؟ وإن
كان قد استفاد هل استفاد أزيد من العشر أم لا؟ وإن استفاد أزيد هل يكون بمقدار يأخذ منه
العشر أم لا؟ بل يأخذ العشر ظلما وعدوانا ويحمل المؤدى على أن يجبر خسارته ذلك من
جيب الناس عدوانا فيتسلسل الاعتداء المالي وينجر إلى فساد الاقتصاد كما كان أمرا شائعا
في بعض البلاد في الماضي ونراه في زماننا أيضا.
وبعض الروايات ناظر إلى القسم الأول وبعضها إلى القسم الثاني وفي زمن صدورها لم
يكن وجه شرعي أو عقلائي لكلا القسمين.
نعم للكمارك في زماننا أثر مهم في اقتصاد البلاد، فلابد أن يكون عملها في جهة مصالح
أهلها. وعلى هذا قد يجب أن يؤخذ الحقوق الجمركية أضعاف قيمة متاع ليمنع من ورودها
وليحمي عن توليد ذلك المتاع داخل البلد - م -.
590

الثاني - ما ورد من طرق السنة في موارد العشور:
فمنها: ما روى أبو داود في كتاب الخراج عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إنما
العشور على اليهود والنصارى، وليس على المسلمين عشور ". وروى بسند آخر
وقال " خراج " مكان " العشور " (1).
أقول: فالحديث على فرض صحته النقلان فيه يتعارضان ويتساقطان. ولعل
المراد بالخراج فيه الجزية. وعلى فرض صحة النقل الأول فلا إطلاق للفقرة
الأولى منه حتى يدل على جواز أخذ العشور منهم وإن لم تشترط إذ محط النظر
في الحديث هو الفقرة الثانية منه أعني عقد النفي كما لا يخفى.
ومنها: ما في سنن أبي داود أيضا عن رجل من بكر بن وائل، عن خاله،
قال: قلت: يا رسول الله، أعشر قومي؟ قال: " إنما العشور على اليهود
والنصارى " (2). ورواه عنه أحمد أيضا وزاد في آخره: " وليس على الإسلام
عشور " (3).
وقد تعرض لهذه الأخبار البيهقي في السنن ثم قال:
" وهذا إن صح فإنما أراد - والله أعلم - تعشير أموالهم إذا اختلفوا بالتجارة،
فإذا أسلموا رفع ذلك عنهم " (4).
أقول: فيظهر من البيهقي الترديد في صدور هذا الخبر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). ويؤيد
ذلك أن أكثر فقهائهم لا يتمسكون لجواز أخذ العشور بقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بل بفعل
عمر وقوله كما نقل.

(1) سنن أبي داود: 2، 151.
(2) سنن أبي داود: 2، 151.
(3) مسند أحمد: 4، 322.
(4) سنن البيهقي: 9، 199.
591

ومنها: ما في خراج أبي يوسف عن زياد بن حدير قال: أول من بعث عمر
بن الخطاب على العشور أنا. قال: فأمرني أن لا أفتش أحدا، وما مر علي من شئ
أخذت من حساب أربعين درهما درهما واحدا من المسلمين. ومن أهل الذمة من
كل عشرين واحدا، ومن لا ذمة له العشر. قال: وأمرني أن أغلظ على نصارى بني
تغلب، وقال: إنهم قوم من العرب وليسوا بأهل كتاب فلعلهم يسلمون. قال: وكان
عمر قد اشترط على نصارى بني تغلب أن لا ينصروا أبناءهم " (1).
ومنها: ما في سنن البيهقي والخراج أيضا عن أنس بن سيرين، قال: " أرادوا
أن يستعملوني على عشور الأبلة، فأبيت، فلقيني أنس بن مالك فقال: ما يمنعك؟
فقلت: العشور أخبث ما عمل عليه الناس. قال: فقال لي: لا تفعل، عمر صنعه؛
فجعل على أهل الإسلام ربع العشر، وعلى أهل الذمة نصف العشر، وعلى
المشركين ممن ليس له ذمة العشر " (2).
والأبلة هي: " البلد المعروف قرب البصرة من جانبها البحري " (3).
ولم يرد بالعشر في هذه الروايات زكاة التجارة المشروعة في عصر
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بشرائطها التي منها الحول، بل يظهر منها أنه كان أمرا منكرا عندهم ولم
يتعارف أخذه في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكان هو أمر يشبه الحقوق الجمركية المتعارفة
في أعصارنا. نعم يمكن أن يقال إن المأخوذ من المسلمين كان بعنوان زكاة
التجارة ولذا كان يؤخذ منهم ربع العشر.
وفي المنتهى عن أحمد في أهل الحرب: " إنه يؤخذ منهم العشر مطلقا لأن
عمر أخذ العشر ولم ينقل أنه شرط ذلك عليهم، واشتهر ذلك بين الصحابة، وعمل به

(1) الخراج: 135 و 169 وراجع سنن البيهقي: 9، 211 و 218.
(2) سنن البيهقي: 9، 210 والخراج: 137.
(3) النهاية: 1، 16.
592

الخلفاء بعده فصار إجماعا... " (1).
ومر دعوى الإجماع بهذا التقريب في عبارة بدائع الصنائع أيضا.
واتفاق الكل والإجماع عندهم حجة في قبال السنة، وأما نحن فلا نعتبره
حجة إلا إذا كشف بنحو من الأنحاء عن قول المعصوم أو فعله أو تقريره فيكون من
طرق إثبات السنة.
ولكن يمكن المناقشة في أصل وجود الاتفاق بينهم أيضا، إذ يظهر من
بعض الكلمات عدم التزام الجميع في تلك الأعصار بحلية العشور ومشروعيتها:
قال أبو عبيد: " وجوه هذه الأحاديث التي ذكرنا فيها العاشر، وكراهة
المكس والتغليظ فيه: أنه قد كان له أصل في الجاهلية يفعله ملوك العرب والعجم
جميعا فكانت سنتهم أن يأخذوا من التجار عشر أموالهم إذا مروا بها عليهم...
فأبطل الله ذلك برسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبالإسلام.
وجاءت فريضة الزكاة بربع العشر من كل مأتي درهم خمسة فمن أخذها
منهم على فرضها فليس بعاشر، لأنه لم يأخذ العشر إنما أخذ ربعه " (2).
ولكن مع ذلك فيمكن أن يستدل للجواز - مضافا إلى أن عمل الخليفة
وعماله كان بمرأى الصحابة ومسمعهم ولم يسمع منهم ردع عن ذلك ولو كان
لبان -: إن أمير المؤمنين (عليه السلام) بعدما تصدى للخلافة لم يرد من ناحيته ردع عن هذا
العمل المستمر في البلاد الإسلامية بسعتها بل كان يقبل الأموال التي كانت فيها
العشور قطعا وتجلب إليه من البلاد فكان هذا إمضاء منه (عليه السلام) للعشور. قال أبو بكر
ابن أبي شيبة مثلا بسنده: " أتى المختار علي بن أبي طالب بمال من المدائن
وعليها عمه سعد بن مسعود، قال: فوضع المال بين يديه وعليه مقطعة حمراء، قال:

(1) المنتهى: 2، 971.
(2) الأموال: 636 - 638.
593

فأدخل يده فاستخرج كيسا فيه نحو من خمس عشرة مأة، قال: هذا من أجور
المومسات. قال: فقال علي (عليه السلام): لا حاجة لنا في أجور المومسات. قال: وأمر بمال
المدائن فرفع إلى بيت المال " (1). وفي النهاية: " المومسة: الفاجرة " (2).
فيظهر بذلك إمضاء غير أجورهن، ومن البعيد جدا عدم وجود العشور أيضا
فيما أمضاه وقبله لما عرفت من تعارف أخذها في البلاد الإسلامية.
واحتمال أن بعض البدع قد رسخ في أعماق القلوب بحيث لم يكن يتمكن
أمير المؤمنين (عليه السلام) من ردعه نظير الجماعة في صلاة التراويح مثلا، مدفوع بأن
الثابت خلاف ذلك في كثير من المسائل المبدعة ولا سيما في أواخر خلافته
واستقرار أمره.
هذا مضافا إلى أنه لو شرط العشور في عقد الجزية فلا إشكال فيها حينئذ
لكون مقدار الجزية عندنا موكولا إلى نظر الإمام. ولعل المراد به في بعض الأخبار
هذه الصورة.
فللدولة الإسلامية منع أهل الحرب من الدخول في دار الإسلام لعمل
اقتصادي إلا بشروط منها إعطاء مال خاص قبل العمل أو بعده سواء كان عشرا أو
أقل أو أكثر.
كما أنه لو كانت للدولة الإسلامية مرافق وإمكانات محدثة كالمراسي
والمحطات والطرق المبلطة والجسور ونحوها فلها أن تعلق إجازة الاستفادة منها
على إعطاء حقوق خاصة من غير فرق في ذلك بين المسلمين وغيرهم.
الثالثة: في البحث في ضرائب أخرى غير الضرائب المعروفة:
الضرائب المشروعة المعروفة من الزكوات والأخماس والخراج والجزايا،

(1) المصنف: 11، 114.
(2) النهاية: 4، 373.
594

وما يمكن أن يتحصل من طسق أراضي الأنفال على ما اخترناه، ومن استخراج
المعادن الغنية وأخذ الحقوق الجمركية من تجار أهل الحرب ونحو ذلك إنما
شرعت لرفع حاجات الدولة الإسلامية وإدارة المجتمع في الأوضاع والشرائط
العادية، فلو لم تكف جميع ذلك في هذه الشرائط أو في الشرائط غير العادية فهل
يجوز تشريع ضرائب أخرى مرتجلة على الأعمال والأموال والمصانع والأبنية
والسيارات ونحوها حسب الحاجة إليها أو لا؟
أقول: فعلى ما قويناه من وجوب إقامة الحكومة في عصر الغيبة فيمكن أن
نستدل للجواز في الشرائط العادية بوجوه:
الأول: أن يقال: أصل الزكاة مما شرعها الله - تعالى - في الكتاب العزيز
وأمر بإعطائها وأخذها فقال: (أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) (1)، وقال: (يا أيها
الذين آمنوا، انفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض) (2).
ولم يذكر في الكتاب العزيز خصوص ما تتعلق به، بل ظاهر الآية الأخيرة
تعلقها بجميع ما يحصل للإنسان سواء كان بالكسب أو بالاستخراج من الأرض.
كما أن ظاهر قوله: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) (3) جواز أخذها
من جميع الأموال لظهور الجمع المضاف في العموم. وقد فوض تعيين ما تؤخذ
منها وتطالب فعلا إلى حكام الحق.
فعلى والي المسلمين في كل عصر ومكان ملاحظة ثروات الناس
والاحتياجات الموجودة في عصره ومقر حكمه وتعيين ما تؤخذ منه الزكاة
بحسبهما وهكذا كانت الزكاة المشرعة في الشرائع السابقة أيضا لا محالة فكانت

(1) البقرة 2: 43.
(2) البقرة 2: 267.
(3) التوبة 2: 103.
595

مناسبة للثروات والحاجات.
وقد وضع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بما أنه كان إمام المسلمين الزكاة على تسعة
أشياء معهودة لما كانت هذه التسعة عمدة ثروة العرب في عصره ومجال حكمه
وعفا عما سوى ذلك والعفو لا يصدق إلا مع وجود الحكم لولاه. وقد مر تفصيل
هذا الأمر في فصل الزكاة فراجع.
وإن أبيت ما ذكرناه من تفويض ما فيه الزكاة إلى ولاة العصر فلا محالة
يلتزم بذلك فيما إذا فرضها الولاة في الموارد التي جعلت فيها الزكاة بنحو
الاستحباب، وهي كثيرة أنهيناها في المجلد الثاني من كتاب الزكاة إلى اثنى عشر
موردا فراجع.
الثاني: الأخبار الواردة في حقوق غير الزكاة:
فمنها: موثقة سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " ولكن الله - عز وجل - فرض في
أموال الأغنياء حقوقا غير الزكاة فقال - عز وجل -: (والذين في أموالهم حق
معلوم للسائل والمحروم). فالحق المعلوم غير الزكاة وهو شئ يفرضه الرجل
على نفسه في ماله يجب عليه أن يفرضه على قدر طاقته وسعة ماله... ومما فرض
الله - عز وجل - أيضا في المال من غير الزكاة قوله - عز وجل -: (الذين يصلون ما
أمرهم به أن يوصل....) " (1).
وعن الحسين بن موسى، قال: روى أصحابنا، قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن
قول الله - عز وجل -: (الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل) فقال: هو صلة الإمام
في كل سنة بما قل أو كثر، ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): وما أريد بذلك إلا تزكيتكم " (2).
ولا يخفى أن صلة الإمام بما هو إمام لا يراد بها إلا تقويته بالأموال

(1) الوسائل: 6، 27.
(2) تفسير نور الثقلين: 2، 495.
596

والطاقات في جميع الحاجات الحادثة له في إدارة شؤون المسلمين، وإلا
فشخص الإمام بما هو شخص ليس له كثير حاجة.
ويمكن أن يستأنس أيضا بقوله - تعالى -: (خذ العفو) (1) بضميمة قوله:
(يسألونك ماذا ينفقون قل العفو) (2).
قال في المجمع في معنى العفو:
" فيه أقوال: أحدها: أنه ما فضل عن الأهل والعيال، أو الفضل عن الغنى،
عن ابن عباس وقتادة. ثانيها: أن العفو: الوسط من غير إسراف ولا إقتار، عن
الحسن وعطاء، وهو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام). وثالثها: أن العفو ما فضل عن
قوت السنة، عن أبي جعفر الباقر، قال: ونسخ ذلك بآية الزكاة، وبه قال السدي.
ورابعها: أن العفو أطيب المال وأفضله " (3).
أقول: نسخ الوجوب لا ينافي بقاء الاقتضاء والرجحان فيصير واجبا بحكم
الحاكم الشرعي.
الثالث: إذا كانت للدولة الإسلامية مرافق وإمكانات محدثة كالمراسي
والمحطات والطرق المبلطة والجسور والمستشفيات والمعاهد ونحو ذلك وإن كان
إحداثها غالبا من بيت المال والانتفاع منها بلا عوض، ولكن إن اقتضت الحاجة
فيجوز للدولة أن تعلق إجازة الانتفاع منها على أداء مال خاص من غير فرق في
ذلك بين المسلمين وغيرهم.
الرابع: حيث كانت ولاية الوالي بانتخاب المجتمع ومبايعتهم له كما قربناه
في محله فله أن يشترط في عقد البيعة العامة شروط خاصة ومنها السماح له لوضع

(1) الأعراف 7: 199.
(2) البقرة 2: 219.
(3) مجمع البيان: 1، 316.
597

ضرائب خاصة في مواقع متميزة فيتعين عليهم العمل بها لقوله - تعالى -: (يا أيها
الذين آمنوا أوفوا بالعقود) (1).
وأما في الأوضاع والشرائط غير العادية فيجوز ذلك:
إذا خافت الدولة الحقة على مصالح الإسلام والمسلمين، أو نظام الحكم
الإسلامي وفرضنا الحاجة إلى أموال أزيد مما يحصل من الضرائب التي مر ذكرها
فحيث إن حفظ هذه المصالح من أهم الفرائض على جميع الأمة فلا محالة يجب
على الولاة تقدير الحاجات والأموال اللازمة ووضع ضرائب بمقدارها مع رعاية
العدل والإنصاف، ويجب على الأمة تأديتها وإن لم ينطبق عليها أحد العناوين
المعروفة، كل هذا لضرورة وجوب المقدمة بوجوب ذيها (2).
نكات ينبغي الإشارة إليها:
الأولى: أنه يجب على المسؤولين في الدولة الإسلامية إيجاد التوازن بين
المنابع المالية الموجودة وبين المصارف؛ فيحذف المصارف غير الضرورية
والدوائر الزائدة التي تتصدى للأعمال التكرارية أو غير اللازمة، ولا سيما ما
يوجب منها صعوبة الأمر على المراجعين.
وكلما كانت الدوائر بسيطة والمقررات مرنة سهلة كانت أجلب لرضاية
الناس وعلاقتهم برجال الملك ومصادر الأمور وبقاء الدولة.

(1) المائدة 5: 1.
(2) لا يخفى أنه لابد وأن لا يكون حدوث الشرائط الخاصة مستندا إلى تقصير أولياء الأمور
وتفريطهم أو عدم اعتنائهم بالمصالح وإلا فليس على الناس جبر الخسائر المستندة إلى مثل
هؤلاء الأولياء بل عليهم أن لا يعاونوهم بأموالهم وليس معنى ذلك جواز إسقاط الحكومة
بالكلية بل إجبار الحكام على اصلاح عملهم لئلا ينجر إلى سقوط الحكومة - م -.
598

الثانية: يجب عليهم الاجتناب عن التبذير والإسراف، ولا فرق في
حرمتهما بين الأموال الشخصية وبين الأموال العامة المتعلقة بالمجتمع، بل الأمر
في الأموال العامة آكد، حيث إنها تكون في أيدي المسؤولين من قبيل الوديعة
والأمانة، والتعدي فيها خيانة:
قال الله - تعالى -: (ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان
الشياطين...) (1).
وقال أيضا: (وأن المسرفين هم أصحاب النار) (2).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " إن القصد أمر يحبه الله - عز وجل - وإن السرف
يبغضه حتى طرحك النواة، فإنها تصلح لشيء، وحتى صبك فضل شرابك " (3).
الثالثة: يجب أن يكون أداء الحقوق والمزايا على أساس العدل والإنصاف
وبحسب الأعمال وجودتها وصرف الوقت لها، وأن تكون الأجراء والموظفين في
حماية الدولة.
الرابعة: يجب على الدولة أن توجد الأمن الفكري والمالي في المجالات
المختلفة بحيث يتشوق الناس في الإنتاجات النافعة وصرف الأموال فيها، وأن
يخطط النظام الاقتصادي في البلاد بنحو يقع رؤوس الأموال والطاقات في قسمة
الإنتاجات لا الخدمات والتجارات إلا بمقدار الضرورة.
الخامسة: قد مر أن الناس مسلطون على أموالهم فهم أحرار في التصرف
فيها في أية أرضية اقتصادية مشروعة فلا يجوز للدولة أن تباشر النشاطات
الاقتصادية وتحدد حريات الناس فيها إلا عند الضرورة فإن التحديدات توجب

(1) الاسراء 17: 26 و 27.
(2) المؤمن - غافر 40: 43.
(3) بحار الأنوار: 68، 346.
599

أن تفقد الأشخاص اعتمادهم على أنفسهم ويضعف عامل التحرك في نفوسهم فلا
يزدهر الاستعدادات الكامنة ويقل الإنتاجات النافعة جدا.
ومباشرة الحكومات والدول لها توجب أولا: كراهة الأمة وبغضائها في
قبال الحكومة. وثانيا: قلة الجبايات. وثالثا: احتياج الدولة إلى استخدام موظفين
كثيرين. ورابعا: إلى وضع ضرائب كثيرة لمصارف الموظفين. وهذه كلها مضرة
بالرعايا وبالدولة معا.
نعم، تتصدى الدولة للتخطيط الكلي في المجال الاقتصادي والإرشاد
والهداية فيه إلى الأصلح والأنفع والأحوج، وإيجاد الأرضية الصالحة
والإمكانيات بقدر الحاجة.
وقد عقد ابن خلدون في كتابه فصلا بديعا بعنوان أن التجارة من السلطان
مضرة بالرعايا مفسدة للجباية، فراجع (1).

(1) مقدمة ابن خلدون: 197.
600

فهرس مصادر التحقيق
1 - ابتغاء الفضيلة في شرح الوسيلة لآية الله مرتضى الحائري " 1334 - 1406 ه‍. ق "، طبع مكتبة
الطباطبائي، قم.
2 - إثبات الهداة " إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات " للشيخ الحر العاملي، محمد بن الحسن بن علي،
صاحب الوسائل " 1033 - 1104 ه‍. ق "، في ثلاث مجلدات، طبع المطبعة العلمية، قم.
3 - الاحتجاج للطبرسي، أبي منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي " المتوفى سنة 588 ه‍ "، طبع
النجف، المطبعة المرتضوية، 1350 ه‍. ق وطبعة أخرى، في مجلدين طبع النجف، مطبعة النعمان، 1386 ه‍. ق.
4 - الأحكام السلطانية لأبي يعلى محمد بن الحسين الفراء الحنبلي " المتوفى 458 ه‍ "، تصحيح وتعليق
محمد حامد الفقي، طبع مكتب الإعلام الإسلامي، سنة 1406 ه‍. ق، مصورا من طبعة مصر سنة 1386 ه‍. ق.
5 - الأحكام السلطانية للماوردي أبي الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري البغدادي " المتوفى سنة
450 ه‍ "، طبع مكتب الإعلام الإسلامي، سنة 1406 ه‍. ق، مصورا من طبعة مصر، سنة 1393 ه‍. ق.
6 - أحكام السجون " أحكام السجون بين الشريعة والقانون " للدكتور الشيخ أحمد الوائلي، طبع مؤسسة
أهل البيت، بيروت.
7 - أحكام القرآن للجصاص، أبي بكر أحمد بن الرازي الحنفي " المتوفى 370 ه‍. ق "، في ثلاث مجلدات،
طبع المطبعة البهية بمصر، سنة 1347 ه‍. ق.
8 - الاختصاص للشيخ المفيد، أبي عبد الله محمد بن محمد بن نعمان " 336 أو 338 - 413 ه‍ "، تصحيح
وتعليق علي أكبر الغفاري، طبع مؤسسة الأعلمي بيروت، سنة 1402 ه‍. ق.
9 - الإرشاد " الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد " للشيخ المفيد " المتوفى 413 ه‍ " تصحيح وإخراج
السيد كاظم الموسوي المياموي، طبع دار الكتب الإسلامية، طهران، سنة 1377 ه‍. ق وطبعة أخرى، طبع مكتبة
بصيرتي، قم.
10 - الاستبصار " الاستبصار فيما اختلف من الأخبار " لشيخ الطائفة، أبي جعفر الطوسي " 385 - 460 ه‍ "،
في أربع مجلدات، طبع إيران، 1390 ه‍. ق.
11 - إعلام الموقعين " إعلام الموقعين عن رب العالمين " لابن قيم الجوزية " المتوفى 751 ه‍. ق "، تعليق
ومراجعة طه عبد الرؤوف سعد، في أربع مجلدات، طبع دار الجيل بيروت.
12 - الاقتصاد " الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد " لشيخ الطائفة، أبي جعفر الطوسي " 385 - 460 ه‍ "،
طبع مطبعة الخيام قم، سنة 1400 ه‍. ق.
13 - الأم للشافعي، محمد بن إدريس الشافعي " 150 - 204 ه‍ " سبعة أجزاء في أربع مجلدات (وبهامشه
611

مختصر أبي إسماعيل بن يحيى المزني الشافعي)، طبع القاهرة، دار الشعب، 1388 ه‍. ق.
14 - الأمالي " المعروف بالمجالس " للصدوق، أبي جعفر محمد بن علي بن بابويه " المتوفى 381 ه‍ " طبعه
القديم " بخط محمد حسن الگلپايگاني 1300 ه‍. ق ". وطبعة أخرى من منشورات مؤسسة الأعلمي، بيروت
الطبعة الخامسة، سنة 1400 ه‍. ق.
15 - الإمامة والسياسة " تاريخ الخلفاء " لابن قتيبة، أبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري " 213
- 276 ه‍ " جزءان في مجلد واحد، طبع شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر سنة 1378 ه‍.
ق.
16 - الأموال لأبي عبيد، القاسم بن سلام " المتوفى 224 ه‍ " طبع دار الفكر بيروت، الطبعة الثانية سنة
1395 ه‍. ق.
17 - أنساب الأشراف للبلاذري، أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري " المتوفى 279 ه‍ " طبع بيروت " حققه
وعلق عليه الشيخ محمد باقر المحمودي ".
18 - بحار الأنوار " الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار " للعلامة المجلسي، محمد باقر بن محمد تقي
" 1037 - 1111 ه‍ " في عشر ومائة مجلد طبع بيروت، وطبع إيران مع تفاوت في ترتيب أرقام بعض المجلدات.
وطبعه القديم، طبع أمين الضرب، الكمپاني، ستة وعشرون جزء في سبعة عشر مجلدا.
19 - بدائع الصنائع لابن مسعود الكاساني الحنفي " المتوفى 587 ه‍ " في سبع مجلدات، طبع بيروت دار
الكتاب العربي سنة 1394 ه‍. ق.
20 - بداية المجتهد " بداية المجتهد ونهاية المقتصد " لابن رشد، أبي الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن
أحمد بن رشد القرطبي " 520 - 595 أو 597 ه‍. ق " في جزئين، طبع مطبعة الاستقامة بالقاهرة سنة 1371 ه‍. ق.
وطبعة أخرى للمكتبة التجارية الكبرى بمصر في مجلدين.
21 - البدر الزاهر " البدر الزاهر في صلاة الجمعة والمسافر " للمؤلف (تقريرات أبحاث أستاذه آية الله
العظمى السيد حسين الطباطبائي البروجردي (قدس سره) " 1292 - 1380 ه‍ ") طبع مطبعة الحكمة - قم، سنة 1378 ه‍. ق.
22 - التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول للشيخ منصور علي ناصف، في خمس مجلدات، طبع دار
إحياء التراث العربي، بيروت.
23 - تاريخ ابن عساكر " تاريخ دمشق " لابن عساكر، أبي القاسم، علي بن الحسن ابن هبة الله الشافعي
" المتوفى 573 ه‍ " طبع دار التعارف للمطبوعات، بيروت، تحقيق محمد باقر المحمودي.
24 - تاريخ الخلفاء لجلال الدين السيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي الشافعي " المتوفى 910 ه‍ "
طبع لاهور، سنة 1304 ه‍. ق.
25 - تاريخ الطبري " تاريخ الأمم والملوك " لأبي جعفر، محمد بن جرير الطبري " 224 - 310 ه‍ " في ستة
عشر مجلدا، طبع ليدن.
26 - التبيان لشيخ الطائفة، أبي جعفر الطوسي، " 385 - 460 ه‍ "، طبعه القديم في مجلدين، طبع مطبعة
الإسلامية، سنة 1325 ه‍. ش " المكتوب بخط أبي القاسم وطاهر الخوشنويس سنة 1365 ه‍. ق ".
27 - التحرير " تحرير الأحكام الشرعية على مذهب الإمامية " للعلامة الحلي " 648 - 726 ه‍ "، طبع إيران
612

مؤسسة آل البيت (عليهم السلام)، " بخط محمد حسن بن محمد علي الگلپايگاني، سنة 1314 ه‍. ق ".
28 - تحف العقول " تحف العقول فيما جاء من الحكم والمواعظ من آل الرسول (صلى الله عليه وآله) " لابن شعبة، أبي محمد
الحسن بن علي بن شعبة الحراني (المعاصر للصدوق من أعلام القرن الرابع، المتوفى 381 ه‍)، طبع مؤسسة النشر
الإسلامي، قم، سنة 1404 ه‍. ق.
29 - التذكرة " تذكرة الفقهاء " للعلامة الحلي " 648 - 726 "، في مجلدين، طبع المكتبة المرتضوية لإحياء
الآثار الجعفرية، إيران.
30 - التراتيب الإدارية " نظام الحكومة النبوية " للشيخ عبد الحي الكتاني طبع دار الكتاب العربي، بيروت.
31 - التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي لعبد القادر عودة في مجلدين، طبع دار إحياء
التراث العربي، بيروت، سنة 1405 ه‍. ق.
32 - تفسير علي بن إبراهيم " تفسير القمي " لأبي الحسن علي بن إبراهيم القمي (من مشايخ الكليني)
" المتوفى 307 ه‍ " جزءان في مجلد واحد، طبع إيران سنة 1313 ه‍. ق. وطبعة أخرى حجرية، وطبع النجف في
مجلدين من منشورات مكتبة الهدى.
33 - تفسير القرطبي " الجامع لأحكام القرآن " لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي " توفي
على قول في سنة 671 ه‍ "، عشرون جزء في عشر مجلدات، طبع دار إحياء التراث العربي، بيروت.
34 - التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري، أبي محمد، الحسن بن علي العسكري (عليهم السلام) " المستشهد في 8
ربيع الأول من سنة 260 ه‍. ق " الطبع القديم (المطبوع بهامش تفسير علي بن إبراهيم القمي طبع إيران، سنة
1313 ه‍).
35 - تنقيح المقال " تنقيح المقال في علم الرجال " للمامقاني، الشيخ عبد الله بن محمد حسن " 1290 -
1351 ه‍ " في ثلاث مجلدات، طبع المطبعة المرتضوية في النجف الأشرف سنة 1349 إلى 1352 ه‍. ق.
36 - التهذيب " تهذيب الأحكام " لشيخ الطائفة، أبي جعفر الطوسي " 385 - 460 ه‍ " في عشر مجلدات،
طبع إيران، دار الكتب الإسلامية الطبعة الثالثة، سنة 1390 ه‍. ق. والطبع القديم في مجلدين، بالأفست من طبعة
سنة 1317 و 1318 ه‍. ق. مع تصحيح أرقام الصفحات.
37 - جامع الأصول " جامع الأصول من أحاديث الرسول " لابن الأثير، أبي السعادات، مبارك بن محمد
الجزري " 544 - 606 ه‍ " في اثني عشر مجلدا، طبع دار إحياء التراث العربي، بيروت، سنة 1400 ه‍. ق.
38 - الجوامع الفقهية، طبع طهران " بخط محمد رضا الخوانساري وابنه محمد علي، سنة 1276 ه‍. ق ".
وطبعة أخرى، طهران، انتشارات جهان مصورا من طبعه السابق مع حذف رسالة ترجمة أبي بصير وتغيير الترتيب
السابق للكتب جمع فيه أحد عشر كتابا في الفقه من تأليفات القدماء: 1 - المقنع في الفقه للصدوق " المتوفى
381 ه‍ ". 2 - الهداية للصدوق أيضا. 3 - الانتصار للسيد المرتضى " 355 - 436 ه‍ ". 4 - الناصريات له أيضا. 5 -
الجواهر لابن البراج " 400 - 481 ه‍ ". 6 - إشارة السبق لعلاء الدين الحلبي. 7 - المراسم لسلار " المتوفى 463 ه‍ ".
8 - النهاية لشيخ الطائفة " 385 - 460 ه‍ ". 9 - نكت النهاية للمحقق الحلي " 602 - 672 ه‍ ". 10 - الغنية لابن زهرة
" 511 - 585 ه‍ ". 11 - الوسيلة لابن حمزة. ورسالة عديمة النظير في ترجمة أبي بصير للسيد محمد مهدي
الموسوي الخوانساري
613

" المتوفى 1246 ه‍ ".
39 - الجواهر " جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام " للشيخ محمد حسن بن باقر النجفي المعروف بصاحب
الجواهر " المتوفى 1266 ه‍ ". في اثنين وأربعين مجلدا، طبع إيران، دار الكتب الإسلامية 1392 (1400 ه‍. ق.
40 - الحافل المذيل على الكامل " الحافل في تكملة الكامل " للشيخ أبي العباس أحمد بن محمد المعروف
بابن الرومية " المتوفى سنة 637 ه‍. ق ". والكامل لأبي أحمد عبد الله بن محمد المعروف بابن عدي الجرجاني
" المتوفى سنة 365 ه‍. ق ".
41 - الحدائق " الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة " للشيخ يوسف بن أحمد البحراني " 1107 -
1186 ه‍ " خرج منه حتى الآن خمسة وعشرون مجلدا من أول كتاب الطهارة إلى أواخر كتاب الظهار من سنة
1376 إلى 1409 ه‍. ق.
42 - الحكومة الإسلامية للإمام الخميني - قدس سره الشريف - " 1320 - 1409 ه‍. ق "، طبع منشورات
المكتبة الإسلامية الكبرى، إيران.
43 - الخراج للقاضي أبي يوسف، يعقوب بن إبراهيم بن حبيب - صاحب أبي حنيفة - " 113 - 182 ه‍ "،
طبع دار المعرفة للطباعة، بيروت، سنة 1399 ه‍. ق ".
44 - الخصال للصدوق، أبي جعفر، محمد بن علي بن الحسين " المتوفى 381 ه‍ " طبع منشورات جماعة
المدرسين في الحوزة العلمية، قم. " صححه وعلق عليه علي أكبر الغفاري ".
45 - الخطط " الخطط المقريزية (المسماة) بالمواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار " لتقي الدين أحمد
بن علي بن عبد القادر بن محمد، المعروف بالمقريزي " تقريبا 765 - 845 ه‍ "، في ثلاث مجلدات طبع بمطبعة
الساحل الجنوبي - الشياح - لبنان.
46 - الخلاف " الخلاف في الأحكام، أو مسائل الخلاف " لشيخ الطائفة، أبي جعفر الطوسي " 385 - 460 ه‍ "
في ثلاث مجلدات، طبع إيران.
47 - الخمس " كتاب الخمس " للمؤلف، طبع جماعة المدرسين، قم، سنة 1360 ه‍. ش.
48 - الدر المنثور للسيوطي، أبي الفضل، جلال الدين، عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي الشافعي " 849 -
910 أو 911 ه‍ "، ستة أجزاء، طبع مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي، قم. " مصورا من طبعه بالمطبعة الميمنية
بمصر، سنة 1314 ه‍. ق ".
49 - الدروس " الدروس الشرعية في فقه الإمامية " للشهيد الأول، شمس الدين أبي عبد الله محمد بن مكي
" 734 - 786 ه‍ " طبع قم، انتشارات الصادقي، تصحيح وتعليق: السيد مهدي اللازوردي الحسيني " بخط أبي
القاسم محمد صادق الحسيني 1269 ه‍. ق ".
50 - دعائم الإسلام للقاضي أبي حنيفة النعمان بن محمد التميمي المغربي " المتوفى 363 ه‍ " في مجلدين،
طبع القاهرة، دار المعارف.
51 - رجال النجاشي لأبي العباس أحمد بن علي المعروف بالنجاشي " 372 - 450 ه‍ " طبع إيران، مركز
نشر الكتاب للمصطفوي، وأعاد طبعه بالأوفست مكتبة الداوري، سنة 1398 ه‍. وطبعة أخرى، لجماعة المدرسين،
قم سنة 1407 ه‍ مع التحقيق للسيد موسى الشبيري الزنجاني.
614

52 - زبدة المقال " زبدة المقال في خمس الرسول والآل " للسيد عباس الحسيني القزويني الملقب بأبي
ترابي (تقريرات أبحاث أستاذه آية الله العظمى البروجردي " 1292 - 1380 ه‍ ") طبع المطبعة العلمية، قم.
53 - الزكاة " كتاب الزكاة " للشيخ الأنصاري (قدس سره)، راجع كتاب الطهارة منه.
54 - السرائر " السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي " لابن إدريس الحلي، أبي جعفر محمد بن منصور بن أحمد
بن إدريس الحلي " 558 - 598 ه‍ " طبع إيران، انتشارات المعارف الإسلامية، الطبعة الثانية سنة 1390 " بخط
السيد الحسن الموسوي 1270 ه‍. ق ".
55 - سفينة البحار للمحدث الشيخ عباس بن محمد رضا القمي (قدس سره) " المتوفى 1359 ه‍ " في مجلدين، طبع
المطبعة العلمية في النجف الأشرف، سنة 1355 ه‍. ق.
56 - سنن ابن ماجة لأبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني، الشهير ب‍ " ابن ماجة " " 207 - 275 ه‍ " في
مجلدين، طبع بيروت، دار إحياء التراث العربي 1395، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.
57 - سنن أبي داود لأبي داود، سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي " 202 - 275 ه‍ " في مجلدين طبع
مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، سنة 1371 ه‍. ق مع التعليقات للشيخ أحمد سعد علي.
58 - سنن البيهقي " السنن الكبرى " لأبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي " المتوفى 458 ه‍ " في
عشر مجلدات طبع دار المعرفة، بيروت، سنة 1355 ه‍. من طبعة الهند سنة 1344 ه‍. ق.
59 - سنن الترمذي " جامع الترمذي " لأبي عيسى، محمد بن عيسى الترمذي " المتوفى 279 ه‍ " في خمس
مجلدات، طبع دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية، سنة 1394 ه‍. ق. تحقيق وتصحيح عبد الوهاب عبد اللطيف وعبد
الرحمن محمد عثمان.
60 - سنن النسائي لأبي عبد الرحمن، أحمد بن شعيب الشهير ب‍ " النسائي " " 214 - 303 ه‍ " ثمانية أجزاء
في أربع مجلدات، طبع مع شرح السيوطي وحاشية السندي، طبع دار الكتاب العربي، بيروت.
61 - سيرة ابن هشام لأبي محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري " المتوفى 218 أو
213 ه‍ " في أربع مجلدات، طبع دار إحياء التراث العربي، بيروت، حققها وضبطها وشرحها ووضع فهارسها
مصطفى السقا، إبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ شبلي.
62 - الشرائع " شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام " للمحقق الحلي، أبي القاسم نجم الدين جعفر بن
الحسن " المتوفى 676 ه‍ " أربعة أجزاء في مجلدين، طبع مطبعة الآداب في النجف، الطبعة المحققة الأولى 1389 ه‍
. ق. تصحيح وتعليق عبد الحسين محمد علي. وطبعة أخرى، في أربعة أجزاء مع تعليقات السيد صادق الشيرازي،
طبع دار الهدى للطباعة والنشر، قم، من طبعة بيروت سنة 1403 ه‍. ق.
63 - شرح صحيح مسلم للنووي، محيي الدين أبي زكريا، يحيى النووي " 631 - 676 ه‍ " (المطبوع
بهامش إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري) راجع إرشاد الساري.
64 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد " 586 - 656 ه‍ " في عشرين مجلدا، طبع القاهرة، دار إحياء
الكتب العربية، الطبعة الأولى 1378 - 1383 ه‍. ق.
65 - الشفاء للشيخ الرئيس، أبي علي حسين بن عبد الله بن سينا " 370 - 427 ه‍ " طبع مصر سنة 1380 ه‍.
" تحقيق: الأب قنواتي وسعيد زايد ". وطبعة أخرى في مجلد واحد، قسم الإلهيات، طبع في إيران مع تعليقات صدر
615

المتألهين.
66 - الصحاح " تاج اللغة وصحاح العربية " لإسماعيل بن حماد الجوهري " المتوفى 393 ه‍. ق "، في ست
مجلدات، طبع دار العلم للملايين بيروت، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، الطبعة الثانية 1399 ه‍. ق.
67 - صحيح البخاري " الجامع الصحيح " لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري " 194 - 256 ه‍ " ثمانية
أجزاء في أربع مجلدات مع حاشية السندي، طبع دار إحياء الكتب العربية.
68 - صحيح مسلم لأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري " 206 - 261 ه‍ " في خمس
مجلدات، طبع دار إحياء التراث العربي، بيروت، وطبعة أخرى، ثمانية أجزاء في مجلدين، طبع مصر.
69 - الصحيفة السجادية تشتمل على نيف وخمسين دعاء للإمام الهمام علي بن الحسين بن علي بن أبي
طالب (عليهم السلام) " 38 أو 37 أو 36 - 95 أو 94 ه‍. ق ".
70 - الضعفاء لابن حبان، أبي حاتم محمد بن حبان البستي " المتوفى سنة 354 ه‍. ق ".
71 - العروة الوثقى للسيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي " المتوفى 1337 ه‍. ق " في مجلدين، طبع إيران،
المكتبة العلمية الإسلامية 1399 ه‍. ق. وبهامشها تعليقات أعلام العصر ومراجع الشيعة الإمامية.
72 - علل الشرائع للصدوق، أبي جعفر، محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي " المتولد
حدود 305 والمتوفى 381 ه‍ " طبعه القديم سنة 1311 ه‍. ق، وطبعة أخرى من منشورات المكتبة الحيدرية في
النجف، سنة 1385 ه‍.
73 - العوائد " عوائد الأيام من مهمات أدلة الأحكام ". للمولى أحمد بن محمد مهدي النراقي " المتوفى
1245 أو 1244 ه‍ "، طبع مكتبة بصيرتي، قم.
74 - عيون أخبار الرضا للصدوق، أبي جعفر، محمد بن علي بن الحسين " المتوفى 381 ه‍ " جزءان في
مجلد واحد طبع إيران سنة 1378 ه‍. ق مع التصحيح والتذييل للسيد مهدي الحسيني اللازوردي.
75 - الغارات لأبي إسحاق، إبراهيم بن محمد الثقفي الكوفي الأصفهاني " المتوفى 283 ه‍ " في مجلدين،
طبع إيران مع المقدمة والحواشي والتعليقات للسيد جلال الدين الحسيني الأرموي " المحدث ".
76 - غاية المرام " غاية المرام في حجة الخصام عن طريق الخاص والعام " للمحدث السيد هاشم بن
سليمان البحراني " المتوفى 1107 ه‍ " في مجلد واحد، طبع مؤسسة الأعلمي، بيروت، بالأفست من طبعه الحجري
القديم، سنة 1272 ه‍. ق.
77 - الغرر والدرر " غرر الحكم ودرر الكلم " من كلام أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام)، جمعه الآمدي، أبو
الفتح عبد الواحد بن محمد الآمدي الإمامي " المتوفى 510 ه‍ " في سبع مجلدات، طبع طهران، سنة 1346 ه‍. ش،
طبع مع شرحه للمحقق البارع جمال الدين بن الحسين الخوانساري " المتوفى 1125 ه‍ ".
78 - الغدير " الغدير في الكتاب والسنة والأدب " للعلامة الأميني، الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني
" المتوفى 1390 ه‍ " في أحد عشر جزء، طبع دار الكتب الإسلامية " آخوندي "، الطبعة الثانية، سنة 1372 ه‍. ق.
وطبع بيروت دار الكتاب العربي، الطبعة الرابعة، سنة 1397 ه‍.
79 - الغيبة لشيخ الطائفة، أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي " 385 - 460 ه‍ " إصدار مكتبة نينوى
الحديثة، طهران.
616

80 - الغيبة للنعماني، لابن أبي زينب، أبي عبد الله، محمد بن إبراهيم بن جعفر الكاتب النعماني " من أعلام
القرن الرابع " طبع بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، سنة 1403 ه‍، وطبعة أخرى، طبع مكتبة الصدوق طهران
مع التحقيق لعلي أكبر الغفاري.
81 - فتوح البلدان لأبي الحسن، أحمد بن يحيى البلاذري " المتوفى 279 ه‍ " طبع دار الكتب العلمية،
بيروت، سنة 1365 و 1398 ه‍. ق. " المراجعة والتعليق لرضوان محمد رضوان ".
82 - الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم الأندلسي، أبي محمد، علي بن أحمد بن سعيد بن حزم
" المتوفى 456 ه‍ " خمسة أجزاء في ثلاث مجلدات، طبع دار المعرفة، بيروت، سنة 1406 ه‍. ق.
83 - الفقه على المذاهب الأربعة لعبد الرحمن الجزيري " تأليف لجنة بإشراف وزارة الأوقاف بمصر "، في
خمس مجلدات، طبع المكتبة التجارية الكبرى بمصر، والأفست من دار إحياء التراث العربي، بيروت.
84 - الفقيه " كتاب من لا يحضره الفقيه " للصدوق، أبي جعفر، محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه
القمي " المتوفى 381 ه‍ " أربع مجلدات، طبع منشورات جماعة المدرسين، قم، صححه وعلق عليه علي أكبر الغفاري.
85 - الفهرست لشيخ الطائفة، أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي " 385 - 460 ه‍ " طبع المكتبة المرتضوية
في النجف " صححه وعلق عليه السيد محمد صادق آل بحر العلوم "، وطبعة أخرى، المطبعة الحيدرية في النجف
سنة 1380 ه‍.
86 - القاموس " القاموس المحيط والقابوس الوسيط " لمجد الدين، محمد بن يعقوب الفيروزآبادي
الشيرازي " 729 - 817 ه‍. ق "، الطبع القديم " الحجري " في مجلد واحد.
87 - قرب الإسناد لأبي العباس، عبد الله بن جعفر الحميري القمي (من أعلام القرن الثالث ومن أصحاب
الإمام العسكري (عليه السلام)) " المتولد في حدود 240 والمتوفى بعد 300 ه‍ " طبع مكتبة نينوى الحديثة، طهران.
88 - القواعد " قواعد الأحكام في مسائل الحلال والحرام " للعلامة الحلي " 648 - 726 ه‍ "، جزءان في
مجلد واحد، طبع قم، منشورات الرضي " الجزء الأول بخط الميرزا السيد حسن بن الحاج الميرزا علي نقي
المدرسي الحسني اليزدي، سنة 1330 ه‍. والجزء الثاني بخط محمد بن الميرزا عبد العلي، سنة 1315 ه‍. ق ".
89 - الكافي للكليني، أبي جعفر محمد بن يعقوب الكليني " المتوفى 328 ه‍ " في ثماني مجلدات؛ الأصول
والفروع والروضة، طبع دار الكتب الإسلامية، إيران، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري. وطبعة أخرى لفروع
الكافي في مجلدين، الطبع القديم الرحلي، سنة 1315 ه‍. ق (بخط أحمد التفرشي من سنة 1311 إلى 1314 ه‍. ق).
90 - الكافي لأبي الصلاح الحلبي، تقي الدين بن نجم الدين الحلبي (من تلاميذ السيد المرتضى) " 374 -
447 ه‍ " طبع مكتبة الإمام أمير المؤمنين، إيران.
91 - الكامل لابن الأثير، عز الدين، أبي الحسن علي بن أبي الكرم " المتوفى 630 ه‍ " في ثلاثة عشر مجلدا
طبع دار الصادر، بيروت 1385 ه‍. ق.
92 - كتاب الزكاة للمؤلف، طبع في اربع مجلدات، طبع مكتب الإعلام الاسلامي، قم، 1409 ه‍ ق.
93 - كتاب الطهارة للشيخ الأعظم، الشيخ مرتضى الأنصاري " المتوفى 1281 ه‍ " (المطبوع في آخره عدة
رسائل وكتب له، منها كتاب الزكاة وكتاب الخمس وكتاب الصوم)، طبع طهران " بخط علي بن الحسن التبريزي،
سنة 1303 ه‍ " وطبعة أخرى، طبع إيران " بخط أحمد الطباطبائي الأردستاني وزين العابدين الخوانساري، سنة
617

1298 ه‍. ق ".
94 - كتاب سليم بن قيس " كتاب السقيفة " لسليم بن قيس الكوفي الهلالي صاحب الإمام أمير المؤمنين
" المتوفى حدود 90 ه‍ " طبع دار الكتب الإسلامية، إيران.
95 - كشف الغمة " كشف الغمة في معرفة أحوال الأئمة (عليهم السلام)... " للأربلي، بهاء الدين أبي الحسن علي بن
عيسى " المتوفى 692 أو 693 ه‍ " في ثلاث مجلدات، طبع دار الكتاب الإسلامي، بيروت، سنة 1401 ه‍. ق.
96 - كشف المحجة " كشف المحجة لثمرة المهجة " لابن طاووس، السيد رضي الدين أبي القاسم علي بن
موسى بن طاووس " 589 - 664 ه‍ "، طبع المطبعة الحيدرية في النجف، سنة 1370 ه‍. ق.
97 - كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد للعلامة الحلي، جمال الدين أبي منصور، الحسن بن يوسف بن
علي بن المطهر الحلي " 648 - 726 ه‍ " طبع مكتبة المصطفوي، قم، والماتن: محمد بن محمد بن الحسن الطوسي
المعروف بالخواجة نصير الدين الطوسي " 597 - 672 ه‍ ".
98 - كمال الدين " كمال الدين وتمام النعمة... " للصدوق، أبي جعفر، محمد بن علي ابن الحسين بن موسى
القمي " المتوفى 381 ه‍ " الطبع القديم، سنة 1301 ه‍. ق، بخط محمد حسن الگلپايگاني وطبعة أخرى طبع جماعة
المدرسين، قم " تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري ".
99 - كنز العمال لعلاء الدين علي المتقي بن حسام الدين الهندي " المتوفى 975 ه‍ " في ستة عشر مجلدا،
طبع حلب، سنة 1390 ه‍. ق.
100 - لسان العرب لابن منظور، أبي الفضل، جمال الدين، محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري
" 630 - 711 ه‍. ق " مع الملحقات في ستة عشر مجلدا، طبع نشر أدب الحوزة، قم، سنة 1405 ه‍. ق.
101 - لسان الميزان لشهاب الدين، أبي الفضل، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني " المتوفى 852 ه‍ " في
سبع مجلدات، طبع مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، سنة 1390 ه‍ " مصورا من طبعة حيدرآباد الدكن سنة
1331 ه‍ ".
102 - اللمعة الدمشقية للشهيد الأول مع شرحها: " الروضة البهية للشهيد الثاني "، في عشر مجلدات، طبع
النجف، تصحيح وتعليق السيد محمد كلانتر. وطبعة أخرى، الطبع القديم في مجلدين. راجع الروضة البهية.
103 - المبسوط لشيخ الطائفة، أبي جعفر، محمد بن الحسن الطوسي " 385 - 460 ه‍ " ثمانية أجزاء، طبع
المكتبة المرتضوية، إيران، الطبعة الثانية 1387 - 1393 ه‍. ق.
104 - مجمع البحرين " مجمع البحرين ومطلع النيرين " للطريحي، فخر الدين بن محمد علي بن أحمد بن
طريح " 979 - 1087، وقيل 1089، وقيل 1085 والأرجح الأول "، طبع مكتبة المصطفوي، طهران، في مجلد
واحد " مصورا من طبعة سنة 1298 ه‍. ق ".
105 - مجمع البيان " مجمع البيان لعلوم القرآن " للطبرسي، أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي " المتوفى
548 ه‍. ق "، عشرة أجزاء في خمس مجلدات أو عشر مجلدات، طبع طهران، المكتبة الإسلامية مع تصحيح
الفاضل المتبحر الشيخ أبي الحسن الشعراني (قدس سره) [وطبعة أخرى، طبع مطبعة العرفان، صيدا (سوريا) من سنة 1333
إلى 1356 ه‍ ق].
106 - المحكم والمتشابه للسيد المرتضى علم الهدى، علي بن الحسين بن موسى ابن محمد " 355 -
618

433 ه‍ " رسالة شريفة كلها منقولة من تفسير النعماني، طبع طهران " بخط محمد تقي بن محمد حسين القمي سنة
1312 ه‍. ق ".
107 - المحلى لابن حزم الأندلسي، أبي محمد، علي بن أحمد بن سعيد بن حزم " المتوفى 456 ه‍ " أحد عشر
جزء في ثماني مجلدات، طبع دار الفكر، بيروت.
108 - المختصر النافع " المختصر النافع في فقه الإمامية " للمحقق الحلي، أبي القاسم، نجم الدين، جعفر بن
الحسن الحلي " المتوفى 676 ه‍ " طبع دار الكتاب العربي بمصر.
109 - المختلف " مختلف الشيعة في أحكام الشريعة " للعلامة الحلي، الحسن بن يوسف المطهر الحلي " 648
- 726 ه‍ " جزءان في مجلد واحد، طبع إيران بتصدي الشيخ أحمد الشيرازي سنة 1323 - 1324 ه‍. ق.
110 - المدونة الكبرى لمالك بن أنس بن مالك " 93 - 179 ه‍. ق " (ومعها مقدمات ابن رشد لأبي الوليد
محمد بن أحمد بن رشد، المتوفى 520 ه‍) في أربع مجلدات طبع دار الفكر، بيروت، سنة 1400 ه‍. ق.
111 - مسالك الأفهام " مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام " للفاضل، جواد بن سعد الله الكاظمي " المتوفى
1065 ه‍ " أربعة أجزاء في مجلدين، طبع مكتبة المرتضوية، طهران.
112 - مستدرك الحاكم " المستدرك على الصحيحين " لأبي عبد الله الحاكم النيسابوري " 321 - 405 ه‍ " في
أربع مجلدات، طبع دار الكتاب العربي، بيروت.
113 - مستدرك الوسائل " مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل " للحاج الميرزا حسين النوري الطبرسي
المعروف بالمحدث النوري " المتوفى 1320 ه‍ " في ثلاث مجلدات، طبع المكتبة الإسلامية بطهران والمكتبة
العلمية بالنجف. طبع مصورا في المطبعة الإسلامية سنة 1382 ه‍. ق. " بخط محمد صادق بن محمد رضا
التويسركاني 1318 ه‍. ق ".
114 - المستصفى " المستصفى من علم الأصول " للإمام، أبي حامد محمد بن محمد الغزالي " 450 -
505 ه‍ " في مجلدين طبع مطبعة أمير قم " مصورا من الطبعة الأولى بمصر، سنة 1322 ه‍. ق ".
115 - المستمسك " مستمسك العروة الوثقى " لآية الله العظمى السيد محسن الحكيم (قدس سره) " 1306 - 1390 ه‍ "
في أربعة عشر مجلدا. طبع قم، دار الكتب العلمية مصورا من طبع النجف بمطبعة الآداب.
116 - المستند " مستند الشيعة في أحكام الشريعة " للمولى أحمد بن محمد مهدي النراقي " المتوفى 1244
وقيل 1245 ه‍ " في مجلدين، طبع منشورات المكتبة المرتضوية، إيران، 1325 ه‍. ق.
117 - مسند أحمد لأحمد بن حنبل أبي عبد الله، أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني " 164 - 241 ه‍ " وبهامشه
منتخب كنز العمال، في ست مجلدات، طبع المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية 1398 ه‍. ق.
118 - مصباح الفقيه للحاج آقا رضا بن الآقا محمد هادي المعروف بالفقيه الهمداني " المتوفى 1322 ه‍ "
طبع منه ثلاث مجلدات: 1 - كتاب الطهارة، طبع مكتبة الصدر، طهران " بخط ميرزا حسين ناسخيان، سنة
1353 ه‍ ". 2 - كتاب الصلاة، طبع مكتبة الداوري، قم " بخط ميرزا محمود بن مهدي التبريزي وولده محمد علي
سنة 1347 ه‍. ق ". 3 - كتاب الزكاة والخمس والصوم والرهن، طبع مكتبة المصطفوي، قم " بخط طاهر بن عبد
الرحمن خوشنويس، سنة 1364 ه‍. ق ".
119 - المصنف لابن أبي شيبة " المتوفى 235 ه‍ " في ستة عشر مجلدا طبع باكستان، سنة 1406 ه‍. ق.
619

120 - معالم القربة في أحكام الحسبة لمحمد بن محمد بن أحمد القرشي المعروف بابن الأخوة " 648 -
729 ه‍ " طبع دار الفنون بكيمبريج (المعروف بطبع ليدن) سنة 1937 م. وطبعة أخرى بمصر مع تحقيق د. محمد
محمود شعبان وصديق أحمد عيسى المطيعي.
121 - معاني الأخبار للصدوق، أبي جعفر، محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي " المتوفى 381 ه‍ "،
عني بتصحيحه علي أكبر الغفاري، طبع بيروت، سنة 1399 وكذا طبع جماعة المدرسين في قم المشرفة، ومكتبة
الصدوق طهران.
122 - المغازي للواقدي، أبي عبد الله محمد بن عمر بن واقد " 130 - 207 ه‍ " ثلاثة أجزاء في مجلدين أو في
ثلاث مجلدات طبع دار المعارف بمصر " تحقيق الدكتور مارسدن جونس " والأفست في إيران، سنة 1405 ه‍. ق.
123 - المغني لابن قدامة، أبي محمد، عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة " 541 - 620 ه‍ " (شرح على
مختصر أبي القاسم الخرقي، المتوفى 334 ه‍) ويليه الشرح الكبير على متن المقنع في اثني عشر مجلدا، طبع دار
الكتاب العربي، بيروت 1392 ه‍. ق.
124 - المفردات للراغب الإصفهاني، الحسين بن محمد المفضل " توفي على قول في سنة 502 ه‍ " طبع دار
الكاتب العربي، سنة 1392 ه‍. " تحقيق نديم مرعشلي ".
125 - مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الإصفهاني، علي بن الحسين بن محمد بن أحمد " 284 - 356 ه‍ " الطبعة
الثانية طبع المطبعة الحيدرية في النجف الأشرف، سنة 1385 ه‍.
126 - مقدمة ابن خلدون لعبد الرحمن بن محمد بن خلدون المغربي " 732 - 806 أو 808 ه‍ "، طبع مطبعة
البهية المصرية، وطبعة أخرى، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الرابعة، سنة 1398 ه‍. ق.
127 - المقنعة " المقنعة في الأصول والفروع " للشيخ المفيد، أبي عبد الله، محمد بن محمد بن النعمان " 336 -
413 ه‍ " طبع مكتبة الداوري، قم " مصورا من طبعة سنة 1274 ه‍. ق. في دار الطباعة الآقا محمد تقي التبريزي،
بخط أحمد علي الخوانساري ".
128 - المكاسب للشيخ الأعظم، الشيخ مرتضى بن المولى محمد أمين الأنصاري " المتوفى 1281 ه‍ " طبع
تبريز، مطبعة الاطلاعات، الطبعة الثانية " بخط طاهر بن عبد الرحمن خوشنويس 1376 ه‍. ق " وطبعة أخرى
المطبوع مع شرحه للسيد محمد كلانتر، طبع منه حتى الآن أحد عشر مجلدا.
129 - المناقب " مناقب آل أبي طالب " لابن شهرآشوب، رشيد الدين محمد بن علي " المتوفى 588 ه‍ " في
ثلاث مجلدات، طبع المطبعة الحيدرية، النجف، سنة 1376 ه‍. ق ".
130 - منتقى الجمان " منتقى الجمان في الأحاديث الصحاح والحسان " لجمال الدين، أبي منصور الحسن
بن زين الدين، المعروف بابن الشهيد، " 959 - 1011 ه‍ " في ثلاث مجلدات، طبع جماعة المدرسين، قم،
" تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري ".
131 - المنتهى " منتهى المطلب في تحقيق المذهب " للعلامة الحلي " 648 - 726 ه‍ " في مجلدين، طبع
إيران، سنة 1333 ه‍. ق.
132 - المنهاج للنووي، محيي الدين أبي زكريا، يحيى النووي " 631 - 676 ه‍ " (المطبوع مع شرحه السراج
الوهاج للشيخ محمد الزهري الغمراوي)، في مجلد واحد، طبع مصر، سنة 1352 ه‍. ق.
620

133 - موسوعة الفقه الإسلامي، يصدرها المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في القاهرة. خرج منها حتى
الآن أكثر من عشرة مجلدات.
134 - الموطأ لأبي عبد الله، مالك بن أنس بن مالك " 93 - 179 ه‍ " جزءان في مجلد واحد، طبع مصر، سنة
1370 ه‍. ق.
135 - المهذب " المهذب في الفقه " لابن البراج، القاضي عبد العزيز بن البراج الطرابلسي " 400 - 481 ه‍ " في
مجلدين طبع مؤسسة النشر الإسلامي لجماعة المدرسين بقم المشرفة.
136 - الميزان " الميزان في تفسير القرآن " للعلامة الطباطبائي، السيد محمد حسين الطباطبائي " 1321 -
1402 ه‍ " في عشرين جزء طبع مؤسسة الأعلمي، بيروت، وكذا جماعة المدرسين في قم. وطبعة أخرى، طبع دار
الكتب الإسلامية، طهران.
137 - ميزان الاعتدال " ميزان الاعتدال في نقد الرجال " لأبي عبد الله، محمد بن أحمد عثمان الذهبي " 673 -
748 ه‍ " في أربع مجلدات طبع دار المعرفة، بيروت، " تحقيق علي محمد البجاوي ".
138 - نظام الحكم والإدارة في الإسلام لباقر شريف القرشي. طبع مطبعة الآداب في النجف الأشرف، الطبعة
الأولى، سنة 1386 ه‍. ق.
139 - نظم الحكم والإدارة في الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية لعلي - علي منصور، طبع بيروت،
الطبعة الثانية، سنة 1391 ه‍. ق.
140 - نور الثقلين " تفسير نور الثقلين " للشيخ عبد علي بن جمعة العروسي الحويزي - المعاصر للشيخ الحر
العاملي - " المتوفى 1112 ه‍ " في خمس مجلدات، طبع دار الكتب العلمية، قم " تصحيح وتعليق الحاج السيد
هاشم الرسولي المحلاتي ".
141 - النهاية " النهاية في غريب الحديث والأثر " لابن الأثير، مجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد
الجزري " 544 - 606 ه‍ " في خمس مجلدات، طبع دار إحياء الكتب العربية (تحقيق محمود محمد الطناحي
وطاهر أحمد الزاوي)، سنة 1383 ه‍. ق.
142 - النهاية " النهاية في مجرد الفقه والفتاوي " لشيخ الطائفة، أبي جعفر الطوسي " 385 - 460 ه‍ " طبع دار
الكتاب العربي، بيروت، سنة 1390 ه‍. ق.
143 - نهج البلاغة من كلام مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) جمعه الشريف الرضي محمد ابن الحسين " 359 -
406 ه‍ " له طبعات كثيرة، منها: مع الترجمة بالفارسية والشرح للحاج السيد علي نقي فيض الإسلام، المطبوع بخط
طاهر خوشنويس، ستة أجزاء في مجلد واحد. 2 - مع الشرح للشيخ محمد عبده ثلاثة أجزاء في مجلد واحد، طبع
مطبعة الاستقامة بمصر. 3 - مع ضبط نصه وابتكار فهارسه العلمية للدكتور صبحي الصالح، طبع بيروت سنة
1387 ه‍. وطبع بالأفست في إيران سنة 1395 ه‍ بإشراف انتشارات الهجرة، قم.
144 - الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة لمحمد حميد الله، طبع دار النفائس، بيروت، سنة
1405 ه‍. ق.
145 - الوسائل " تحصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة " للشيخ الحر العاملي، محمد بن
الحسن بن علي " 1033 - 1104 ه‍ " في عشرين مجلدا، طبع المكتبة الإسلامية.
621