الكتاب: كلمة التقوى
المؤلف: الشيخ محمد أمين زين الدين
الجزء: ٥
الوفاة: ١٤١٩
المجموعة: فقه الشيعة ( فتاوى المراجع )
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤١٣
المطبعة: إسماعيليان
الناشر: مؤسسة إسماعيليان - قم
ردمك:
ملاحظات:

كلمة التقوى
الجزء الخامس
كتاب الشفعة
فأنزل الله سكينته على رسوله
وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة
التقوى، وكانوا أحق بها وأهلها،
وكان الله بكل شئ عليما.
1

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم، وأفضل صلواته وتسليماته وبركاته
الدائمة ورحماته الشاملة المباركة على سيد الأولين والآخرين محمد وآله
المطهرين المعصومين المنتجين.
ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شئ قدير.
وبعد فهذا هو الجزء الخامس من رسالة كلمة التقوى، وهو يحتوي على
كتاب الشفعة، وكتاب الجعالة، وكتاب العارية، وكتاب الوديعة، وكتاب إحياء
الموات، وما يتبع ذلك من المشتركات العامة، وكتاب المزارعة والمساقاة
وكتاب السبق والرماية، وكتاب الاقرار، من كتب المعاملات ومن الله عز اسمه أسأل
لي ولجميع إخواني في ديني وأوليائي فيه أن يتم علينا نعمه، ويتفضل علينا
بالمزيد من فضله وطوله وهداه، وأن يزكي أنفسنا ويثبت أقدامنا، ويبلغنا ما نأمل
من توفيقه ورعايته وكفايته في جميع أمورنا في دنيانا وأخرانا. إنه أرحم الراحمين
وخير الغافرين وأن يستجيب.
لعبده المفتقر إليه
محمد أمين زين الدين
3

[كتاب الشفعة]
وهذا الكتاب يشتمل على ثلاثة فصول:
[الفصل الأول]
[في موارد ثبوت الشفعة وشروطها]
(المسألة الأولى):
إذا كانت العين المملوكة مشتركة بين شخصين على وجه الإشاعة بينهما، ثم
باع أحد الشريكين حصته المشاعة من العين على شخص آخر غير شريكه، ثبت
لشريكه الحق في أن يتملك الحصة المبيعة بالثمن الذي اشتراها به الأجنبي، وكان
الشريك أحق بها من ذلك الأجنبي، وإن لم يرض المشتري بتملكه وشفعته، وهذا
إذا اجتمعت الشروط الآتي بيانها ويسمى هذا الحق الذي يثبت له حق الشفعة
ويسمى الشريك الذي ثبت له حق التملك شفيعا.
(المسألة الثانية):
يثبت حق الشفعة للشريك إذا كان المبيع من الأعيان غير المنقولة، كالبساتين
والمساكن والعقارات وغيرها، سواء كان مما يقبل القسمة أم كان مما لا يقبلها عادة
كالدور والعقارات الضيقة، وتثبت الشفعة أيضا على الأصح في الشجر والنخيل
والأبنية، والتمار على النخيل والأشجار إذا باعها الشريك كذلك، وتثبت أيضا في
الأعيان المنقولة كالثياب والمتاع والآلات والحيوان والمماليك من الانسان ونحو
ذلك، فإذا كانت العين المبيعة في جميع هذه الصور مشتركة بين شريكين على نحو
الإشاعة، وباع أحدهما حصته على شخص غير شريكه استحق شريكه أن يشفع
في الحصة المبيعة فيتملكها بالثمن الذي جرى عليه عقد البيع على ذلك المشتري
وإن كانت العين من المنقولات أو كانت مما لا تقبل القسمة عادة.
4

(المسألة الثالثة):
لا تثبت الشفعة على الأحوط، إن لم يكن عدم ثبوتها هو الأقوى: في السفينة
ولا في النهر ولا في الطريق ولا في الحمام ولا في الرحى، إذا كانت هذه الأشياء
مشتركة بين مالكين وكانت غير قابلة للقسمة، فإذا باع أحد الشريكين فيها حصته
من العين على شخص ثالث فلا شفعة للشريك الثاني في الحصة، فتستثنى هذه
الأشياء الخمسة من المبيعات المشتركة التي تثبت فيها الشفعة.
(المسألة الرابعة):
يشترط في ثبوت حق الشفعة أن تكون العين مشتركة ومشاعة غير مقسومة
بالفعل كما تقدم بيان ذلك، فإذا قسمت العين المشتركة وتعين لكل من المالكين
نصيبه الخاص منها ثم باع أحدهما حصته التي اختص بها بعد القسمة فلا شفعة
لشريكه في المبيع، عدا الصورة التي سيأتي استثناؤها ولا شفعة بسبب الجوار، فإذا
كانت لكل واحد من المتجاورين دار يختص بملكها تقع في جنب دار صاحبه ثم
باع أحدهما داره على شخص ثالث لم يثبت لجاره حق الشفعة في الدار المبيعة
المجاورة له، وكذلك إذا كان الشخصان شريكين في دار غير مقسومة بينهما وكانت
لأحد الشريكين دار ثانية يختص بملكها تقع في جنب الدار المشتركة المذكورة
فإذا باع تلك الدار التي يختص بها على أحد لم يثبت لشريكه في الدار المشتركة
5

حق الشفعة في بيع داره الخاصة. ويلاحظ الاستثناء الذي سنذكره في المسألة
الآتية فإنه يعم الفروض الثلاثة التي ذكرناها في هذه المسألة.
(المسألة الخامسة):
إذا قسمت الدار المشتركة بين شخصين، وانفرد كل واحد من الشريكين
بحصة خاصة منها وزالت الإشاعة بينهما، فلا شفعة إذا وقع بيع لإحدى الحصتين
بعد القسمة والافراز، وقد ذكرنا هذا في المسألة الماضية.
ويستثنى من هذا الحكم ما إذا كان الطريق إلى الحصتين مشتركا بينهما لم
يقسم، فإذا باع أحد الشريكين حصته المعينة له من الدار المقسومة على شخص
آخر وضم البايع إليها في البيع حصته المشاعة من الطريق الذي لم يقسم، ثبت
للشريك الثاني حق الشفعة في كل من الحصة المبيعة من الدار، ومن الطريق غير
المقسوم الذي جرى عليه البيع.
ومثله الحكم في المالكين المتجاورين، فإذا كان بينهما طريق يشتركان في
ملكه على وجه الإشاعة، وباع أحدهما داره الخاصة به، وباع معها حصته المشاعة
من الطريق المشترك على شخص ثالث، ثبت لجاره حق الشفعة في الدار المبيعة مع
الحصة من الطريق فيجوز له أن يتملكها بالثمن الذي جرى عليه عقد البيع على ذلك
المشتري وكذلك الحكم في الفرض الأخير من المسألة المتقدمة.
(المسألة السادسة):
إذا باع الشريك حصته التي عينت له من الدار بعد قسمتها مع شريكه فيها
ولم يضم إليها في المبيع حصته من الطريق المشترك، فلا شفعة لشريكه في بيع
الحصة في الدار كما قلنا ولا في الحصة من الطريق، ولا حق للمشتري في الحصة
6

من الطريق أيضا وتبقى ملكا لصاحبها، فإذا باعها بعد ذلك وحدها كان لشريكه في
الطريق حق الشفعة فيها إذا كان الطريق المشترك قابلا للقسمة، وكذلك الحكم إذا
باع الجار داره المجاورة لصاحبه ولم يضم إليها في البيع حصته من الطريق
المشترك بينهما، فلا شفعة لجاره في بيع الدار ولا في الحصة من الطريق، وإن كان
شريكا له فيه، وإذا باع الحصة من الطريق منفردة كان لشريكه في الطريق حق في
الشفعة في بيعها إذا كان الطريق قابلا للقسمة.
(المسألة السابعة):
يختص ثبوت الحق الذي ذكرناه في المسألة الخامسة بالدار المشتركة إذا
قسمت ثم باع الشريك حصته منها بعد قسمتها وافرازها، ولا يجري في الأملاك
الأخرى المشتركة كالبساتين والمحلات والدكاكين والعقار، فإذا قسمت وباع
الشريك حصته منها بعد القسمة وافراز الحصة على أجنبي فلا شفعة للشريك في
الحصة المبيعة وإن اشتركت معه في الطريق.
نعم، يجري ذلك على الظاهر في الدار المشتركة إذا قسمت، ثم غير الشريك
حصته بعد قسمة الدار وافراز الحصة فبناها دكاكين أو محلات أو عقارا آخر أو
جعلها أرضا فارغة لبعض الغايات المقصودة في ذلك أو صيرها بستانا، فإذا باعها
بعد تغييرها وضم إليها حصته من الطريق المشترك بينه وبين شريكه ثبت للشريك
حق الشفعة في المبيع.
(المسألة الثامنة):
لا يلحق اشتراك الدارين بنهر أو ببئر بساقية باشتراكهما بالطريق في الحكم
المتقدم كما يراه جماعة من العلماء فإذا قسمت الدار المشتركة إلى دارين أو إلى
7

حصتين وانفرد كل واحد من الشريكين بواحد منهما، ثم باع أحد الشريكين
حصته التي عينت له من الدار على شخص ثالث وباع معها حصته المشاعة من
النهر أو الساقية أو البئر المشترك بينها وبين الحصة الأخرى بثمن معلوم، لم يثبت
للشريك الآخر حق الشفعة في الدار المبيعة، وكذلك في الدارين المتجاورتين إذا
باع أحد الجارين داره المعلومة مع حصته المشاعة من النهر أو الساقية أو البئر
المشترك فلا يثبت بذلك لجاره حق الشفعة في الدار المبيعة.
نعم يثبت للشريك حق الشفعة إذا باع شريكه حصته من البئر المشترك
ويثبت له حق الشفعة إذا باع شريكه حصته من النهر أو من الساقية إذا كانا قابلين
للقسمة، ولا شفعة له فيهما إذا كانا غير قابلين لها وقد ذكرنا هذا في المسألة الثالثة
(المسألة التاسعة):
يشترط في ثبوت حق الشفعة أن تكون العين مشتركة بين شخصين لا أكثر
فإذا زاد عدد الشركاء في العين على اثنين وباع بعضهم حصته منها لم تثبت الشفعة
في بيعها للشركاء الآخرين، والظاهر عدم الفرق بين أن يكون الشريك الذي يبيع
حصته واحدا منهم فيتعدد الشفعاء فيها، وأن يكون متعددا، فيتساوى عدد من يبيع
من الشركاء ومن يشفع أو يختلف، بل وإن باعوا جميعا إلا واحدا منهم فيكون هو
الشفيع وحده، فلا تثبت الشفعة حتى في هذه الصورة.
(المسألة العاشرة):
إذا كانت العين مشتركة بين مالكين لا أكثر، ثم باع أحد المالكين حصته
المشاعة على شخصين أو على أكثر، ثبت لشريكه في العين حق الشفعة في حصته
التي باعها، وإن أصبح الشركاء في العين متعددين بعد هذا البيع، وجاز للشريك أن
8

يشفع في جميع الحصة فتصبح العين بعد أخذه بالشفعة كلها ملكا له خاصة، وجاز
له أن يبعض في أخذه بالشفعة، فيشفع في نصيب بعض المشترين بما ينوبه من
الثمن، ولا يشفع في نصيب الباقي منهم.
(المسألة 11):
لا يشترط في ثبوت حق الشفعة أن يكون الشريكان متساويين في مقدار ما
يملكانه من العين، فإذا ملك أحدهما ثلث العين أو ربعها أو أقل من ذلك أو أكثر
وملك الثاني الباقي منها، ثم باع أحدهما حصته منها على شخص ثالث غيرهما
استحق الشريك الآخر الشفعة فيها سواء كان أقل من البايع حصة أم أكثر، ومثال
ذلك أن يموت الأب ويخلف بعد موته ولدا وبنتا، ويترك لهما دارا، فيرث الولد
ثلثي الدار وترث البنت ثلثها، فإذا باع الولد حصته وهي الثلثان جاز للبنت أن
تشفع في بيع حصة أخيها وإن كانت هي أقل نصيبا منه، وإذا باعت البنت حصتها
وهي الثلث جاز للولد أن يشفع في حصة أخته وإن كان أكثر نصيبا منها.
(المسألة 12):
إذا باع أحد الشريكين في العين بعضا من حصته التي يملكها فيها ثبت
لشريكه حق الشفعة في ذلك البعض الذي باع من الحصة، فإذا أخذ بالشفعة ملك
ذلك البعض المبيع من الحصة بالثمن المعين الذي جرى به البيع وبقي البعض
الذي لم يجر عليه البيع من الحصة في ملك البايع فلا يختص ثبوت حق الشفعة في
أن يبيع الشريك جميع حصته من العين.
(المسألة 13):
لا يثبت حق الشفعة في غير البيع من المعاوضات، فإذا صالح الشريك أحدا
9

على حصته المشاعة من العين المشتركة بينه وبين المالك الآخر بعوض معلوم، أو
وهبها للغير هبة معوضة بعوض معين أو جعل حصته صداقا لامرأة في زواج، أو
جعلتها المرأة فدية في خلع أو مباراة، أو جعلت عوضا لشئ في إحدى
المعاملات الأخرى، لم يثبت للشريك الثاني حق الشفعة فيها في جميع هذه
الفروض.
(المسألة 14):
إذا باع الرجل على أحد دارا أو متاعا أو شيئا آخر يختص به ملكه ولا يكون
مشتركا بينه وبين مالك آخر، وضم إليه في البيع حصة مشاعة من دار أو عين أخرى
يشترك فيها مع غيره، فباعهما معا صفقة واحدة بثمن واحد معلوم، ثبت لشريكه
حق الشفعة في الحصة المبيعة من العين المشتركة بما ينوب عن تلك الحصة من
الثمن ولا شفعة له في الدار أو الشئ الذي يختص به البايع.
(المسألة 15):
لا يثبت حق الشفعة لمتولي الوقف، ولا للشخص الموقوف عليه وإن كان
واحدا، إذا باع شريكه حصته المملوكة له من العين المشتركة بين الوقف والمالك
المذكور، ومثال ذلك أن تكون دارا أو عين أخرى مشتركة على وجه الإشاعة بين
وقف وملك مطلق، فحصة مشاعة من تلك الدار موقوفة على جهة خاصة، أو على
شخص موقوف عليه، وحصة أخرى مشاعة من الدار مملوكة لمالك معين يتصرف
فيها كيف يشاء، فإذا باع الشريك حصته التي يملكها من الدار على أحد، فلا شفعة
لمتولي الجهة الموقوف عليها أو الشخص الموقوف عليه في الحصة التي باعها
الشريك من العين.
10

وإذا طرأ للحصة الموقوفة في المثال الذي ذكرناه بعض الطوارئ
المسوغة لبيع الوقف، فإن كان الوقف على جهة خاصة، وباع متولي الوقف تلك
الحصة الموقوفة جاز للشريك المالك للحصة الثانية أن يشفع في البيع، وإن كان
الوقف على شخص موقوف عليه وباع الحصة الموقوفة عليه أشكل الحكم بثبوت
الشفعة للشريك، وإن كان الشخص الموقوف عليه واحدا عند بيع الوقف، فإن
الموقوف عليه متعدد غير منحصر في أصل الوقف، بحسب العادة المتعارفة في
الوقف وألا تكن من المنقطع الآخر وأشد من ذلك اشكالا ما إذا تعدد الأشخاص
الموقوف عليهم عند بيع الحصة الموقوفة.
11

[الفصل الثاني]
[في الشفيع]
(المسألة 16):
لا يثبت حق الشفعة للكافر إذا كان المشتري الذي باع الشريك عليه حصته
مسلما، ولا فرق في هذا الحكم بين أصناف الكفار ومللهم، ولذلك فيشترط في
ثبوت الحق للشفيع أن يكون مسلما إذا كان الذي اشترى الحصة مسلما، سواء
اشتراها من مسلم أم من كافر حربي أو ذمي أو مرتد، ويثبت حق الشفعة للشفيع
المسلم على المشتري سواء كان مسلما أم كافرا حربيا أو ذميا أو مرتدا، وتثبت
الشفعة للكافر على المشتري إذا كان كافرا وإن خالفه في الصنف أو في الملة، نعم
يشكل الحكم بثبوت الشفعة للكافر على المشتري إذا كان مرتدا.
(المسألة 17):
يشترط في ثبوت حق الشفعة للشفيع أن يكون قادرا على تأدية الثمن تاما
عند أخذه بالشفعة ولو بالاقتراض أو بيع بعض ما يملك، فلا يثبت له حق الشفعة
إذا كان عاجزا عن أداء جميع الثمن أو عاجزا عن أداء بعضه، ولا يكفي في تحقق
هذا الشرط أن يضمن الثمن عنه ضامن، وإن كان موثوقا به أو يجعل عليه رهنا، وإذا
رضي المشتري بتأجيل الثمن أو رضي بضمان الضامن أو بالرهن صح ولم يسقط
12

حقه من الشفعة.
(المسألة 18):
إذا أخذ الشريك بالشفعة وخرج من المكان ليحضر الثمن وكان مع
المشتري في بلد واحد، انتظر به ثلاثة أيام من الوقت الذي أخذ فيه بالشفعة، فإن هو
أحضر المال في المدة نفذت شفعته وكانت الحصة المبيعة ملكا له، وإذا انقضت
الأيام الثلاثة ولم يحضر الثمن فيها، نفذ البيع للمشتري وسقطت شفعة الشفيع
ويكفي في المدة أن تكون الأيام الثلاثة ملفقة، فإذا أخذ الشريك بالشفعة في أول
الساعة الرابعة من النهار كانت نهاية المدة في أول الساعة الرابعة من اليوم الرابع.
وإذا كان المال في بلد آخر انتظر بالشفيع مدة يمكنه فيها السفر بحسب
العادة المتعارفة بين الناس إلى البلد الذي فيه المال والرجوع منه، ويزيد على ذلك
بثلاثة أيام بعد رجوعه فإن أحضر الثمن في تلك المدة صحت شفعته، وإذا انتهى
الأجل ولم يحضر الثمن فلا شفعة له، وتكفي المدة الملفقة أيضا كما تقدم.
(المسألة 19):
إذا كان تأجيل دفع الثمن إلى أن يسافر الشريك أو وكيله إلى البلد الآخر
الذي يدعي وجود المال فيه، ثم الرجوع منه مما يوجب الضرر على المشتري
فالظاهر سقوط حق الشريك من الشفعة ونفوذ البيع في الحصة للمشتري.
(المسألة 20):
لا يشترط في ثبوت حق الشفعة للشفيع أن يكون حاضرا في المجلس الذي
جرى فيه عقد البيع للحصة، أو يكون حاضرا في بلد البيع، فإذا وقع البيع على
الحصة من العين المشتركة بينه وبين شريكه البايع، وكان الشفيع غائبا عن المجلس
13

أو غائبا عن البلد، ثم علم به بعد مدة كان له حق الشفعة في الحصة، ولم يسقط حقه
بذلك، وإن كانت المدة طويلة، بل يكون له حق الشفعة وإن كان بلده غير بلد البيع
فإذا علم به جاز له أن يأخذ بالشفعة.
وإذا كان للشفيع وكيل مفوض في التصرف عنه، وإن كانت وكالته إياه على
نحو العموم، أو كان له وكيل في الأخذ بالشفعة، جاز للوكيل العام أو الخاص أن
يأخذ له بالشفعة إذا علم وإن لم يعلم الموكل نفسه بالبيع.
(المسألة 21):
يثبت حق الشفعة للشريك وإن كان سفيها قد حجر عليه في التصرف لسفهه
ويأخذ له وليه الشرعي بالشفعة، وإذا علم الولي الشرعي بثبوت حق الشفعة
للسفيه على الوجه الصحيح، وأذن الولي للسفيه في أن يأخذ لنفسه بالشفعة، جاز له
أن يتولى ذلك ويأخذ بالشفعة، وإذا سبق السفيه فأخذ لنفسه بالشفعة ثم أجاز
الولي فعله بعد الأخذ صحت شفعته ونفذت.
وتثبت الشفعة للشريك المفلس إذا لم يزاحم حقوق الغرماء في المال
الموجود، ومثال ذلك أن يرضى الغرماء جميعا له بأن يدفع الثمن من المال
الموجود ومن أمثلة ذلك أن يرضى المشتري بأن يبقى ثمن الحصة دينا في ذمته
فلا يزاحم به حقوق الغرماء في المال الموجود، ومن أمثلة ذلك أن يستدين المفلس
من أحد دينا جديدا يفي به الثمن، فتصح شفعته في جميع ذلك.
(المسألة 22):
لا يشترط في ثبوت الحق للشفيع أن يكون بالغا، ولا يشترط فيه أن يكون
عاقلا فيثبت له الحق إذا كان طفلا مميزا أو غير مميز، وباع شريكه حصته من العين
14

المشتركة بينهما، ويتولى وليه الشرعي الأخذ بالشفعة له، ويثبت له الحق كذلك
إذا كان مجنونا وإن كان غير مميز، ويتولى وليه ذلك كما في الطفل، فإذا كان ولي
الصبي أو المجنون هو الأب أو الجد للأب كفى في صحة تصرفه عنهما أن لا تكون
في الأخذ بالشفعة لهما مفسدة تعود عليهما، وإذا كان وليهما غير الأب والجد
كالوصي من الأب أو الجد، وكالقيم المنصوب من الحاكم الشرعي، لم ينفذ تصرفه
إلا مع وجود المصلحة لهما في التصرف، وقد بينا هذا في كتاب التجارة وفي كتاب
الحجر.
(المسألة 23):
إذا ثبت للصبي حق الشفعة في الحصة التي باعها شريكه، وكان الصبي
مميزا ويحسن الأخذ بالشفعة، وعلم وليه الشرعي باجتماع الشرائط كلها في
المعاملة وفي الصبي نفسه، جاز للولي أن يأذن للصبي بأن يأخذ لنفسه بالشفعة
فإذا أخذ الصبي بها بعد الإذن من الولي نفذ تصرفه على الأقوى.
(المسألة 24):
الشفعة حق من الحقوق الشرعية التي تثبت للانسان عند طروء أحد أسبابها
ومن أحكام الحق أنه يسقط إذا أسقطه صاحبه باختياره، أو أسقطه من يقوم مقامه
وسيأتي لذلك مزيد ايضاح وبيان، ونتيجة لذلك فإذا ثبتت الشفعة للصبي أو
للمجنون جاز للولي الشرعي عليهما أن يسقط هذا الحق، إذا دعت مصلحة الصبي
أو المجنون صاحب الحق إلى اسقاطه، بل وجاز للأب والجد أبي الأب أن يسقطا
هذا الحق إذا لم تكن في اسقاطه مفسدة تعود على المولى عليه، فإذا أسقطه الولي
حسب ما بيناه فليس للصبي إذا بلغ أن يطالب بالشفعة في الحصة المبيعة، وليس
15

للمجنون أن يطالب بها إذا أفاق من جنونه وكذلك الحكم إذا ترك الولي المطالبة
ولم يأخذ بالشفعة للصبي أو المجنون لوجود مفسدة غالبة في المطالبة، أو لعدم
المصلحة لهما في الأخذ بها، فليس للصبي أو للمجنون أن يطالبا بالشفعة بعد
ارتفاع الحجر عنهما.
وإذا أسقط الولي حق الشفعة للصبي أو للمجنون المولى عليهما مع عدم
تحقق الشرط الآنف ذكره لم يسقط حقهما بذلك، وكان لهما أن يطالبا بالحق
ويأخذا بالشفعة بعد ارتفاع الحجر عنهما، وكذلك إذا تسامح الولي في الأمر فلم
يأخذ لهما بحق الشفعة فيجوز للمولى عليهما المطالبة به بعد البلوغ والعقل.
(المسألة 25):
يجري في ولي السفيه نظير ما ذكرناه من الأحكام في ولي الطفل والمجنون
فإذا أسقط ولي السفيه حق الشفعة الثابت للمولى عليه مع وجود المصلحة له في
اسقاطه، لم يجز للسفيه أن يطالب بالشفعة والأخذ بها إذا رشد وارتفع عنه الحجر
وإن تجدد وجود مصلحة له بعد الاسقاط، وإذا ترك الولي الأخذ بالشفعة للسفيه
لوجود مفسدة غالبة تعود عليه إذا هو أخذ بها، أو لعدم مصلحة له في الأخذ، فلا
شفعة للسفيه كذلك إذا اتفق له الرشد، وإذا أسقط الولي حق السفيه مع عدم وجود
الشرط أو تساهل في الأمر فلم يأخذ له بحقه، جازت للمولى عليه المطالبة بالشفعة
بعد الرشد.
(المسألة 26):
إذا كان الأب أو الجد أبو الأب شريكا للصبي أو المجنون في العين المملوكة
لهما على وجه الإشاعة بينهما، جاز له أن يبيع حصة الصبي أو المجنون المولى
16

عليه على أجنبي مع وجود شرط صحة البيع لأنه ولي له فينفذ تصرفه عليه، فإذا باع
حصته المولى عليه من العين المشتركة كما ذكرنا ثبت للولي نفسه حق الشفعة في
الحصة المبيعة لأنه شريك في العين، فيجوز له أن يأخذ بالشفعة ويتملك الحصة
بالثمن الذي وقع عليه البيع على الأجنبي.
ويصح للولي في المثال المذكور أن يبيع حصته التي يملكها من العين
المشتركة على أحد، ثم يشفع في الحصة المبيعة للصبي أو المجنون بحسب ولايته
عليهما، ولا مانع له من ذلك في كلا الفرضين، لوجود الولاية، وتحقق شروط
الصحة في تصرفه كما هو المفروض، وإذا دل بعض القرائن الخاصة على وجود
تهمة، أو على وجود مفسدة، فلا ولاية له ولا يصح تصرفه.
وكذلك شأن الوصي القيم على اليتيم أو على المجنون إذا كان شريكا لهما
في العين المملوكة لهما، فيجري فيه ما تقدم من الأحكام ويصح بيعه وأخذه
بالشفعة لنفسه وللقاصر المولى عليه، مع وجود الشرائط، إلا أن تدل القرينة
الخاصة على ما يخالف ذلك.
ويجري مثل ذلك في الوكيل المفوض في البيع، وفي الأخذ بالشفعة إذا كان
شريكا مع الموكل في العين على وجه الإشاعة بينهما، فيجوز له أن يبيع حصته من
العين على شخص ثالث، ثم يأخذها بالشفعة لشريكه بالوكالة عنه بالثمن الذي
باعها به على المشتري، ويجوز له أن يبيع حصة موكله من العين المشتركة على
أحد ثم يشفع فيها لنفسه بالثمن المعين، فيصح البيع والأخذ بالشفعة مع وجود
الشرائط في كلتا الصورتين.
17

(المسألة 27):
إذا أخذ ولي الطفل أو المجنون لهما بالشفعة في حصة باعها شريكهما في
العين، ثم استبان بعد ذلك أن في أخذه بالشفعة لهما مفسدة غالبة تعود عليهما، أو
نقصا يضر بحالهما بطلت شفعة الولي لهما ولم تنفذ، وإن كان الولي الذي تولى
الشفعة لهما هو الأب أو الجد للأب، وكذلك إذا استبان عدم وجود مصلحة لهما في
الشفعة، وكان الولي الذي أخذ لهما بالشفعة هو الوصي القيم عليهما، فتبطل شفعته
لعدم وجود الشرط، ومثله حكم الولي على السفيه فلا تنفذ شفعته إذا تبين بعد
شفعته له أنه لا مصلحة فيها.
18

[الفصل الثالث]
[في الأخذ بالشفعة]
(المسألة 28):
إذا باع الشريك في العين حصته المشاعة منها على المشتري بثمن معلوم
وحصل القبول من المشتري وتم العقد بينهما، ثبت لشريكه الثاني في العين حق
الشفعة في المبيع، سواء وقعت معاملة البيع بينهما بعقد لفظي أم بمعاطاة، ولا
يتوقف ثبوت حق الشفعة للشريك على انقضاء مدة الخيار ولا على أمر آخر.
(المسألة 29):
شفعة الشفيع حق يختص به وحده، والأخذ بها أمر يتعلق به خاصة دون
غيره، وقد دلت على ذلك ظواهر الأدلة، ولا تتوقف صحة الشفعة والأخذ بها على
قبول المشتري بالشفعة أو قبول الشريك الذي باع الحصة، فالأخذ بالشفعة من
الانشاءات ومن الايقاعات لا من العقود.
ويحصل الأخذ بالشفعة من الشفيع بأي لفظ يكون دالا في متفاهم أهل
العرف واللسان على أخذه الحصة المبيعة بالثمن الذي جرت به المعاملة بين
الشريك بائع الحصة ومشتريها، ويحصل أيضا بأي فعل من الأفعال يكون له ظهور
عرفي في ذلك.
فمن الألفاظ الدالة على ذلك أن يقول الشفيع: أخذت لنفسي الحصة التي
باعها شريكي زيد، على المشتري عمرو بألف دينار، وتملكها بالشفعة بالثمن
19

المعين بينهما، أو يقول تملكت الحصة المبيعة بالثمن المعلوم.
أو يقول: أخذ ت الحصة لنفسي شفعة بالثمن الذي اشتراها به فلان، ومن
الأفعال الدالة عليه أن يضع الشفيع يده على العين بقصد تملك الحصة المبيعة منها
ويدفع الثمن للمشتري.
(المسألة 30):
لا يصح للشفيع أن يبعض في شفعته، فيتملك بعض الحصة التي باعها
شريكه بالمقدار الذي ينوب ذلك البعض من الثمن ويدع البعض الآخر، فيقول مثلا
: أخذت نصف الحصة المبيعة، وتملكته بنصف الثمن، ولا يذكر النصف الآخر، أو
يقول مع ذلك: وتركت النصف الآخر من الحصة للمشتري، بل يلزمه إما أن يتملك
جميع الحصة المبيعة بجميع ثمنها أو يدعها جميعا لمن اشتراها.
(المسألة 31):
الشفعة التي تثبت للشفيع شرعا هي أن يأخذ المبيع بالمقدار الذي جرت
المعاملة عليه بين المتعاقدين من الثمن، فلا يدفع للمشتري أكثر من ذلك ولا أقل
منه، وإن كانت القيمة المتعارفة في السوق للحصة المبيعة أكثر من ذلك أو أقل، وإذا
تراضى الشفيع مع المشتري بينهما بأقل من الثمن أو بأكثر منه، فالأحوط أن يوقعا
المعاملة بينهما بالمصالحة لا بعنوان الأخذ بالشفعة.
ولا يتعين على الشفيع أن يدفع للمشتري عين الثمن الذي وقعت عليه
المعاملة وسلمه المشتري إلى بائع الحصة، وإن تمكن الشفيع من ذلك، فيكفيه في
الأخذ بالشفعة أن يدفع إلى المشتري مثل ذلك الثمن إذا كان مثليا.
وإذا كان الشريك صاحب الحصة قد باع حصته المشاعة من العين على
20

المشتري بثمن من القيميات ودفعه المشتري إليه، فالظاهر سقوط الشفعة وعدم
ثبوتها للشريك الثاني، ومثال ذلك أن يبيع الشريك حصته من الدار أو الأرض
المشتركة على المشتري بجواهر معينة، أو بحيوان، أو بمتاع معلوم، أو بغير ذلك
من القيميات، فلا شفعة للشريك الآخر في مثل هذه الفروض.
(المسألة 32):
لا يجب على الشفيع إذا أخذ لنفسه بالشفعة أن يدفع للمشتري ما دفعه من
أجرة أو جعالة للدلال أو الوكيل الذي توسط له أو ناب عنه في شراء الحصة، أو
زاده للبايع من إضافة فوق الثمن أو حباه به من هدية أو كسوة فلا يجب على الشفيع
دفع ذلك، ولا يحق له أن يسقط من الثمن ما قد يحطه البايع عن المشتري من مقدار
الثمن عند التسليم بعد العقد، أو يحتسبه عليه حقا من الحقوق الشرعية وشبه ذلك
فلا يحق له أن ينقص ذلك من الثمن عند أخذه بالشفعة.
ولا يمنع من جميع ذلك إذا حصل التراضي عليه بين الشفيع والمشتري
وأجرياه بقصد المصالحة بينهما لا بعنوان الأخذ بالشفعة، ويمكن له أن يأخذ
بالشفعة بالثمن المعين دون زيادة ولا نقيصة، ثم ينقص منه بعد ذلك أو يزيد له ما
يريد مع رضى الطرفين به.
(المسألة 33):
لا يصح للشريك أن يأخذ الحصة من المشتري بالشفعة فيها لا لنفسه، بل
ليملك الحصة غيره من أب له أو ولد أو غيرهما، وإذا فعل كذلك كانت شفعته
باطلة، وإذا أراد ذلك أمكن له أن يأخذ بالشفعة لنفسه بالثمن المعين على الوجه
الصحيح، فإذا ملك الحصة بالشفعة جاز له أن يملكها بعد ذلك لمن يشاء بعوض أو
21

بغير عوض، ولم يدخل المعاملة الثانية بالمعاملة الأولى.
(المسألة 34):
لا يثمر الأخذ بالشفعة ثمرته، ولا يتملك به الشفيع الحصة المبيعة حتى
يحضر الثمن للمشتري، فلا يكفي في حصول المقصود أن يقول الشفيع بقصد
الانشاء: أخذت بحقي من الشفعة وتملكت الحصة، أو يضع يده على العين
المشتركة بينه وبين صاحبه بقصد تملك الحصة المبيعة منها، ولا يؤثر هذا الانشاء
اللفظي أو الفعلي تملكه للحصة شرعا حتى يحضر الثمن كما قلنا.
وفي حكم احضار الثمن للمشتري أن يرضى المشتري نفسه بتأخير الثمن
فإذا أنشأ الشريك شفعته باللفظ أو بالفعل الدالين على المقصود، ورضي المشتري
منه بتأخير الثمن تمت الشفعة، وملك الحصة وبقي الثمن دينا.
وقد بينا في المسألة الثامنة عشرة أن الشفيع إذا أخذ بالشفعة، وطلب فرصة
يحضر فيها الثمن وهو في البلد نفسه أنظر ثلاثة أيام، فإذا أحضر المال فيها نفذت
شفعته، وكان ذلك بمنزلة احضار المال في وقت أخذه بالشفعة، وإذا كان ماله في
بلد آخر غير بلد البيع انتظر به مدة يتمكن فيها عادة من السفر إلى ذلك البلد
والرجوع منه ويزاد عليها ثلاثة أيام، فإذا أحضر المال في هذه المدة صحت شفعته
كذلك، ويتفرع على ما ذكرناه أن الشفيع إذا أخذ بالشفعة وعجز عن احضار المال
للمشتري، أو هرب أو ماطل أو تأخر عن احضاره من غير عذر كانت شفعته باطلة
ولم يملك الحصة بمجرد انشائه وبقيت ملكا للمشتري.
(المسألة 35):
إذا علم الشريك بثبوت حق الشفعة له في تملك الحصة التي باعها شريكه
22

وأراد الأخذ بحقه، وجب عليه أن يبادر إلى الأخذ بشفعته.
والمبادرة اللازمة عليه في ذلك هي أن لا يتساهل أو يماطل أو يتأخر عن
الطلب بحقه من غير سبب يدعوه إلى التأخر أو التسويف، أو عذر شرعي أو عقلي
أو عادي يبعث عليه، فإذا هو ماطل أو تساهل أو تأخر عن الطلب بحقه من غير
سبب يعذر فيه سقطت شفعته، وسنذكر بعض الأمثلة للأعذار المقبولة للتأخير.
(المسألة 36):
من الأعذار المقبولة التي قد تدعو الشريك إلى تأخير أخذه بالشفعة ولا
يسقط معها حقه بسبب التأخير وعدم المبادرة، أن يجهل إن شريكه في العين
المملوكة لها قد باع حصته من العين ولم يعلم ببيعه إلا بعد مدة، أو يجهل أن بيع
شريكه لحصته المشاعة من العين يوجب له حق الشفعة فيها، أو يجهل بأن الشفعة
مما تجب المبادرة فيه ولا يجوز فيه التأخير، ثم علم بالحكم بعد مدة.
ومن الأعذار: أن يتوهم الشفيع إن الثمن كان كثيرا يغبن في بذله ثم استبان
له بعد فترة إن الثمن قليل لا يغبن فيه إذا دفعه للحصة المبيعة، أو يتوهم أنه يعجز
عن دفع الثمن إلى المشتري لأنه من الذهب مثلا وهو لا يجده أو لأنه لا يتمكن من
تحويل المبلغ من بلده إلى المشتري ثم تبين له بعد فترة من الزمن خطأ توهمه
ومن الأعذار أن يظن الشفيع إن مشتري الحصة هو زيد وهو لا يقدر على أخذ
الحصة منه، ثم علم أن المشتري هو عمرو، ومنها: أن يبلغه أن شريكه قد وهب
الحصة لزيد هبة، أو صالحه عليها بعوض، ولذلك فلا يكون له حق الشفعة في
الحصة، ثم علم أن الشريك قد باعها على زيد فيثبت له حق الشفعة فيها.
ومن الأعذار أن يكون الشفيع محبوسا بغير حق أو محبوسا بحق يعجز عن
23

أدائه، ثم يخرج من سجنه بعد مدة، ولا تنحصر الأعذار والأسباب الموجبة
للتأخير في ذلك.
(المسألة 37):
إذا علم الشريك بثبوت حق الشفعة له في الحصة التي باعها شريكه وجبت
عليه المبادرة إلى الأخذ بحقه ولزمه الشروع في مقدمات ذلك، والمقدار اللازم
عليه من المبادرة أن يجري في شروعه في المقدمات وفي أخذه بالحق على الوجه
المتعارف له ولأمثاله في ذلك، ولا تجب عليه المسارعة فيه بأكثر مما يعتاد له، فإذا
علم ليلا بثبوت الحق له جاز له أن ينتظر مجئ الصبح، وأن يتأخر عن أول الصبح إلى
الوقت الذي يخرج فيه أمثاله من الناس لهذه الغاية، وإذا علم بثبوت الحق له وهو
في أثناء عبادة واجبة أو مندوبة من صلاة أو زيارة أو حج أو غيرها لم يجب عليه
قطع عبادته والخروج إلى الأخذ بحقه، وجاز له أن يتم عبادته على الوجه الذي
جرت عليه عادته من اسراع وابطاء، ثم يتوجه بعدها إلى حيث يريد.
وإذا علم بالحق وهو في أول وقت الصلاة جاز له أن يأتي بطهارته وصلاته
حتى يتمها، بل ويجوز له أن يأتي بنوافلها ومستحباتها إذا كان من عادته الاتيان
بها، ويجوز له أن ينتظر الجماعة ويصلي معها إذا كان ذلك من عادته، ولا يجب
عليه الاسراع في المشي أكثر مما يتعارف له عند خروجه إلى مقصده، وإذا كان
بعيدا عن الموضع الذي يأخذ فيه بالشفعة واحتاج إلى من يصحبه في الطريق جاز
له انتظاره حتى يخرج معه، وإذا كان له ما يمنعه في الحال من حر أو برد أو مطر
جاز له الصبر حتى يزول المانع، وإذا علم بثبوت الحق له وهو في أثناء عمل يلزمه
بسبب إجارة أو نحوها، صبر حتى ينجز العمل ويتمه على الوجه المطلوب، وعلى
24

وجه الاجمال يجوز له الاتيان بأي عمل يتعارف لمثله، إذا لم يكن الاتيان بذلك
العمل مما يصدق معه المماطلة في نظر أهل العرف.
(المسألة 38):
إذا علم الشريك بثبوت حق الشفعة له في الحصة المبيعة وهو في غير البلد
الذي يأخذ فيه بالشفعة، وكان في وسعه أن يبادر في الأمر، فيرسل من قبله وكيلا
مفوضا يأخذ له بحقه ويدفع الثمن عنه، فلا يكون منه تأخر ولا مماطلة في أخذه
بالشفعة، ولا في دفع الثمن للمشتري، أو أمكن له أن يتصل بالبلد وبالمشتري أو
وكيله بمخاطبة هاتفية ونحوها فينشئ بمكالمته معه أخذه بالشفعة، ويحول الثمن
إليه أو إلى وكيله، فلا يكون منه تأخير ولا مماطلة لزمه ذلك فإذا هو أهمل ولم
يبادر مع تمكنه من ذلك وتيسره له صدقت المماطلة عرفا، وبطلت بذلك شفعته.
وكذلك إذا بلغه الخبر ليلا، أو كان مريضا أو مسجونا لا يمكنه القيام بالأمر
بنفسه، وأمكنه الأخذ بالحق في وقته، بالتوكيل، أو بالمكالمة الهاتفية وتحويل
الثمن ونحو ذلك من وسائل الاتصال في المخاطبات واجراء المعاملات مما هو
متمكن منه وميسور له، فلا يجوز له التأخير والمماطلة، وإذا أهمل وماطل بطلت
شفعته.
(المسألة 39):
إذا كان الشفيع غائبا عن الموضع الذي يأخذ فيه بالشفعة في سفر أو غيره
ولم يمكنه الحضور بنفسه ولا بالتوكيل ولا الأخذ بحقه بمخاطبة هاتفية وشبهها
كان معذورا في تأخير الأخذ بالحق، ولم تسقط بذلك شفعته وإن طالت المدة إلى
أن يزول العذر.
25

(المسألة 40):
الشفعة كما قلنا أكثر من مرة حق يثبت للشريك إذا تمت له القيود
والشروط التي تقدم بيانها، وإذا أسقطه صاحبه باختياره وبعد أن يثبت له شرعا
يسقط اعتباره، ولا يصح لصاحبه الأخذ به بعد ذلك، فإذا شفع ودفع الثمن
للمشتري لم يملك الحصة المبيعة، إلا إذا ملكها له المشتري برضاه بتمليك جديد
ويجوز التعويض عن حق الشفعة إذا ثبت لصاحبه شرعا، ويصح أن يكون
التعويض عنه بالمال وبغير المال، ومثال ذلك أن يكون للشريك حق الشفعة في دار
أو أرض، فيصالحه المشتري عن حقه هذا بحق تحجير قد ثبت للمشتري في أرض
أخرى، فيسقط بهذه المصالحة حق الشريك من الشفعة في الدار، وينقل إليه حق
التحجير في الأرض التي حجرها المشتري عوضا عن شفعته.
ويجوز للمشتري أن يعوضه عن حقه هذا بمنفعة خاصة يملكها في دار أو
دكان أو عين أخرى، وأن يعوضه عنه بدين له عليه أو على شخص غيره، أو بغير
ذلك من الأموال.
(المسألة 41):
يصح للمشتري أن يصالح الشريك عن حق الشفعة الذي ثبت له في الحصة
التي اشتراها من الشريك الآخر، ويدفع له مبلغا من المال عوضا عن حقه، وإذا تم
الصلح بينهما كذلك سقط حق الشريك من الشفعة بنفسه، وإن لم ينشئ صاحبه
اسقاطه بلفظ أو بغيره، ووجب على المشتري أن يدفع له المبلغ المعين من المال
بدلا عن حقه، ويصح أن يوقع الصلح معه عن الحق الذي ثبت له في الحصة
بالتراضي بينهما بغير عوض، وقد ذكرنا هذا الحكم في المسألة السادسة عشرة من
26

كتاب الصلح.
(المسألة 42):
إذا كان للشريك حق الشفعة في الحصة التي باعها شريكه وصالحه المشتري
بعوض من المال، على أن يسقط حقه الثابت له من الشفعة وقبل الشريك منه هذه
المصالحة، وجب عليه أن يسقط شفعته ولا يأخذ بها، فإن هو أسقط حقه، ووفى
بعقد الصلح الجاري بينه وبين المشتري، استحق عليه العوض المعين، وإن لم يف
بعقد الصلح فلم يسقط حقه من الشفعة أثم، لعدم وفائه بالعقد، ولم يستحق
العوض المعين فيه، ولم يسقط حقه منه الشفعة بمجرد وقوع العقد بينهما، فإذا أخذ
بالشفعة ودفع الثمن للمشتري صحت شفعته وملك الحصة بذلك وإن كان آثما
بعدم اسقاطه للحق كما قلنا.
(المسألة 43):
إذا ثبتت الشفعة للرجل فصالحه مشتري الحصة بعوض معلوم من المال
على أن لا يأخذ بشفعته في الحصة، جرى في ذلك نظير ما بيناه في المسألتين
المتقدمتين، فإن كان المقصود من عدم أخذه بالشفعة الذي وقعت عليه المصالحة
بينه وبين المشتري: أن يكون حق الشريك من الشفعة ساقطا ومن أجل سقوط
الحق فلا يحل للشريك أن يأخذ بالشفعة، سقط بهذه المصالحة حقه وإن لم ينشئ
اسقاطه بلفظ أو بغيره، فإذا هو لم يف بالعقد، وأخذ بالشفعة لم تصح شفعته، فإنها
قد سقطت بعقد الصلح، ولم يملك الحصة المبيعة، واستحق على المشتري
العوض المعلوم من المال الذي وقع عليه عقد الصلح.
وإن كان المراد أن لا يأخذ الشريك بالشفعة وإن كانت ثابتة له ولم يسقط
27

استحقاقه لها، فالشفعة لا تزال باقية بحالها ولم تسقط، فإذا هو أخذ بالشفعة بعد
وقوع الصلح نفذت شفعته، وملك الحصة المبيعة، ولزمه أداء الثمن المعين لها
وإن كان آثما بما فعل لعدم وفائه بعقد الصلح، ولم يستحق العوض الذي جرى عليه
عقد المصالحة.
(المسألة 44):
لا يسقط حق الشفعة إذا أسقطه الشريك قبل أن يثبت له شرعا، وقد ذكرنا أكثر من
مرة أن حق الشفعة إنما يثبت للشريك إذا باع شريكه الثاني حصته من العين
المشتركة بينهما، ونتيجة لهذا الشرط فإذا أسقط الشريك حقه من الشفعة قبل انشاء
البيع، ثم وقع بيع الحصة بعد ذلك لم يسقط حق الشريك من الشفعة، وجاز له أن
يأخذها ويتملك الحصة بثمنها على الأقوى.
ولا تسقط شفعة الشفيع إذا شهد بأن شريكه قد باع الحصة على زيد
بحضوره، وأنه أشهده على وقوع البيع، فيصح له أن يأخذ بالشفعة بعد شهادته
هذه، وإن كانت الشهادة في مجلس الحاكم الشرعي، ولا يسقط حقة من الشفعة إذا
وقع البيع وهو حاضر أو علم به بعد وقوعه فقال للمشتري بارك الله لك في ما
اشتريت أو في صفقتك، فيجوز له أن يأخذ بالشفعة بعد ذلك، إلا إذا دلت القرينة
على أن مراده من شهادته بالبيع في المثال الأول ومن دعائه للمشتري بالبركة في
الفرض الثاني اسقاط حق شفعته بعد البيع فيسقط بذلك حقه.
(المسألة 45):
إذا عرض الشريك حصته من العين على شريكه فيها وهو يريد بيع الحصة
فأبدى الشريك عدم رغبته في شرائها فباعها مالكها من غيره، أشكل الحكم بثبوت
28

حق الشفعة له فيها بعد ذلك، والأحوط له ترك الشفعة، وخصوصا إذا أذن له في
البيع إذنا مطلقا، ولم يذكر مقدارا معينا للثمن ولا مشتريا خاصا، وكذلك إذا عرض
المشتري عليه الأمر قبل أن يشتري الحصة من شريكه، فأبدى عدم الرغبة في
شرائها فلا يترك الاحتياط في عدم الشفعة، ومثله ما إذا استأذنه شريكه صاحب
الحصة في بيعها بثمن معين أو على مشتر معين فلم يرغب في شراء الحصة وأذن له
في بيعها، فلا يترك الاحتياط في هذه الفروض بترك الشفعة بعد وقوع البيع.
وإذا استأذنه الشريك في بيع الحصة بثمن معين فلم يرغب، ثم باعها بأقل
من ذلك الثمن أو استأذنه في البيع على مشتر معين، فلم يرغب ثم باع الحصة على
مشتر آخر، فالظاهر ثبوت الشفعة له في كلتا الصورتين، وكذلك إذا عرض المشتري
عليه الأمر وذكر له ثمنا فأذن له في الشراء، ثم اشترى الحصة من صاحبها بأقل من
ذلك الثمن فيجوز له أن يأخذ بالشفعة.
(المسألة 46):
لا يشترط في ثبوت حق الشفعة للشريك أن يكون عالما بمقدار ثمن الحصة
حين أخذه بالشفعة، فإذا علم أن شريكه في العين قد باع حصته منها، فقال: أخذت
بالشفعة فيها، سواء كان ثمنها قليلا أم كثيرا، أو قال: تملكت حصته التي باعها
بثمنها الذي اشتراها به المشتري بالغا ما بلغ، صحت شفعته، وإن كان جاهلا
بمقدار الثمن حين أخذه بالشفعة، فإذا علم بمقداره بعد ذلك أو دلت عليه الحجة
الشرعية دفعه إلى المشتري ولم يضر ذلك بشفعته.
(المسألة 47):
إذا باع الشريك حصته المشاعة من العين على غير شريكه، ثبت لشريكه حق
29

الشفعة في الحصة، فإذا تقايل المتبايعان بعد أن وقع عقد البيع بينهما فرد الشريك
البائع الثمن على المشتري، ورد المشتري الحصة المبيعة على بائعها، لم يسقط
بتقايلهما حق الشريك الشفيع من الشفعة التي ثبتت له في البيع، فإذا أخذ الشفيع
بالشفعة بطلت إقالة المتبايعين من أصلها.
ويتفرع على بطلان الإقالة من أصلها: أن ترجع الحصة المبيعة إلى ملك
المشتري، فإذا كانت الحصة قد تجدد لها نماء بعد شراء المشتري لها وقبل أخذ
الشفيع بالشفعة فالنماء المتجدد لها كله للمشتري، وأن يرجع الثمن إلى ملك
البائع فإذا كان قد حصل له نماء في تلك الفترة فهو ملك للبائع، وتكون الحصة بعد
الشفعة ملكا للشفيع، ويلزمه أن يدفع ثمنها إلى المشتري.
(المسألة 48):
إذا ثبت حق الشفعة للشريك، فباع حصته الأولى التي يملكها من العين قبل
أن يأخذ بالشفعة في الحصة الأخرى التي باعها شريكه، زالت شركته في أصل
العين وسقط بذلك حقه من الشفعة في الحصة الأخرى، فلا يجوز له الأخذ بها
وخصوصا إذا كان بيعه لنصيبه الخاص من العين بعد أن علم بثبوت الشفعة له في
نصيب صاحبه.
(المسألة 49):
الشفعة حق خاص يثبت للشريك إذا توفرت له القيود والشروط التي تقدم
منا تفصيلها، وهي حق لا يقبل النقل الاختياري من الشريك الشفيع إلى غيره
بصلح أو بمعاوضة أخرى، وقد سبق منا في المسألة الحادية والأربعين: أن
المشتري إذا صالح الشريك صاحب الحق عن شفعته أفاد هذا الصلح سقوط الحق
30

فلا يجوز لصاحبه أن يأخذ بالشفعة بعد الصلح، وليس معنى ذلك أن هذا الحق قد
انتقل من صاحبه إلى المشتري بالمصالحة، وسنذكر في بعض المسائل الآتية إن
حق الشفعة ينتقل بعد موت الشريك صاحب الحق إلى وارثه، وهو غير النقل
الاختياري بالمعاوضة عليه.
(المسألة 50):
إذا باع الشريك حصته على المشتري بثمن مؤجل، وثبت لشريكه حق
الشفعة فيها، جاز لشريكه أن يأخذ بالشفعة ويتملك الحصة المبيعة عاجلا ويؤخر
دفع الثمن، إلى أن يحضر الأجل المسمى، ويجوز له أن يعجل دفع الثمن أيضا، إذا
رضي المشتري بتعجيله.
(المسألة 51):
الأجل المسمى الذي يجوز للشفيع أن يؤخر دفع الثمن إلى وقت حلوله هو
ما ضرب بين الشريك البائع والمشتري من حين وقوع البيع بينهما إلى وقت
حلوله، لا مقداره من حين أخذ الشفيع بالشفعة على الأحوط، إن لم يكن هذا هو
الأقوى، فإذا كان أجل دفع الثمن إلى مدة سنة كان أول السنة من حين وقوع البيع لا
من حين أخذ الشفيع بالشفعة.
(المسألة 52):
إذا اشترى المشتري الحصة المشاعة من الشريك الذي باعه حصته من العين
ملكها بالشراء، وصح له أن يتصرف فيها بما يريد وكيفما يريد، ولا يمنعه من
التصرف أن الشريك الآخر المالك للحصة الثانية قد ثبت له حق الشفعة في الحصة
المبيعة عليه، ولا يمنع تصرف المشتري الذي ذكرناه في الحصة التي اشتراها من
31

شفعة الشفيع، ولا يوجب سقوط حقه الذي ثبت له في الحصة، فيجوز له الأخذ
بالشفعة وتملك الحصة بالثمن.
(المسألة 53):
إذا باع المشتري الحصة التي اشتراها من الشريك على مشتر آخر قبل أن
يأخذ الشفيع بشفعته، تخير الشفيع بين أن يشفع في البيع على المشتري الأول
وأن يشفع في البيع على المشتري الثاني، فإذا هو شفع في البيع الثاني ملك الحصة
بالشفعة بثمنها الثاني، وصح بذلك البيع الذي قبله على المشتري الأول بالثمن
الذي اشترى به الحصة من بائعها، وإذا شفع الشفيع في البيع الأول ملك الحصة
بثمنها الأول، وكان البيع الثاني فضوليا، فيجوز للشفيع بعد أن يملك الحصة أن
يجيزه، فإذا أجاره بعد الشفعة كان البيع الثاني له لا للمشتري، وكان الثمن الثاني له
ويجوز له أن يترك البيع الثاني ولا يجيزه فيكون باطلا كما هو الحكم في البيع
الفضولي.
ومثال ذلك أن يبيع الشريك حصته المشاعة من العين على زيد بمائة دينار
ثم يبيعها من اشتراها وهو زيد على عمرو بمائة وعشرة دنانير، فإذا شفع الشفيع في
البيع الأول ملك الحصة من زيد بالشفعة ولزمه أن يدفع لزيد ثمنها الذي اشتراها به
وهو مائة دينار، وكان البيع الثاني وهو بيع الحصة على عمرو فضوليا، فإن أجازه
الشفيع بعد أن شفع وملك الحصة صح بيعها على عمرو وملك عمرو الحصة بمائة
وعشرة دنانير وكان هذا الثمن للشفيع، وإذا ترك الشفيع البيع الثاني ولم يجزه كان
باطلا وبقيت الحصة المبيعة في ملكه بثمنها الأول.
وإذا شفع الشفيع في البيع الثاني ملك الحصة من عمرو ووجب عليه أن
32

يدفع له ثمنها الذي اشتراها به، وهو مائة وعشرة دنانير وصح بذلك البيع الأول
وهو بيع الشريك على زيد بمائة دينار.
(المسألة 54):
إذا زادت البيوع التي وقعت على الحصة المشاعة على بيعين قبل أن يشفع
الشفيع في بيعها كما إذا تأخر عن الأخذ بالشفعة لبعض الأعذار المقبولة ثم شفع
في الحصة بعد ذلك جرى في هذا الفرض نظير الحكم السابق الذي بينها في
المسألة المتقدمة.
فإذا شفع الشفيع في البيع الأول الذي وقع على الحصة من الشريك نفسه
ملك الشفيع الحصة من المشتري الأول الذي اشتراها من الشريك بثمنها المعين في
ذلك البيع، وكانت البيوع اللاحقة بعده كلها فضولية، فإذا أجاز الشفيع بعد أن ملك
الحصة واحدا معينا منها صح ذلك البيع الذي أجازه، وكان للشفيع بالثمن المعين
في عقد ذلك البيع وبطل الباقي، وإذا لم يجز منها شيئا بطل الجميع، وبقيت
الحصة ملكا له.
وإذا شفع الشفيع في البيع الأخير من تلك البيوع ملك الحصة من المشتري
الأخير بالثمن المعين في ذلك البيع، وصح ما وقع على الحصة قبله من البيوع
جميعا.
وإذا شفع في البيع المتوسط ملك الحصة في ذلك العقد، وصح ما
وقع قبله من البيوع وبطل ما بعده، وإذا أجاز الشفيع بعد الشفعة بيعا معينا من
البيوع اللاحقة للشفعة صح ذلك البيع بإجازته وكان البيع المجاز له بثمنه.
(المسألة 55):
33

إذا وقف المشتري الحصة التي اشتراها من الشريك أو وهبها إلى أحد هبة
لازمة أو غير لازمة أو صالح أحدا عليها فملكه إياها بالصلح، أو نقلها إلى غيره
بناقل شرعي آخر غير البيع مما لا تثبت فيه شفعة، كما إذا جعل الحصة صداقا
لزوجة أو عوضا لخلع أو مباراة أو غير ذلك ثم علم الشفيع بثبوت حق الشفعة له
في الحصة بالبيع الأول على المشتري الأول، جاز للشفيع أن يأخذ بشفعته فإذا
ملك الحصة بالشفعة من المشتري بطلت التصرفات المذكورة التي أجراها
المشتري على الحصة، ولزمه أن يدفع للمشتري الثمن الذي اشترى به الحصة.
وإذا هو أسقط حقه من الشفعة أو تركها ولم يأخذ بها نفذت تلك التصرفات
التي أجراها المشتري على الحصة.
(المسألة 56):
إذا تلفت عين المبيع كلها قبل أن يأخذ الشفيع فيها بشفعته ولم يبق من العين
شئ، سقطت شفعة الشفيع بتلفها، ولا ضمان على المشتري لحق الشفيع، سواء
كان تلف العين بآفة سماوية، أم بفعل المشتري نفسه، أم بفعل غيره.
وإذا تلفت العين بعد أن أخذ الشفيع فيها بالشفعة وتملك الحصة، وكان
تلفها بفعل المشتري كان المشتري ضامنا للحصة، وكذلك إذا كان التلف بغير فعل
المشتري ولكنه قد تسامح وماطل في دفع الحصة المبيعة للشفيع حتى تلفت
فيكون لها ضامنا، ولا ضمان عليه إذا تلفت العين بغير فعله ولم يماطل في اقباضها
للشفيع.
(المسألة 57):
إذا تلفت بعض العين المبيعة وبقي بعضها قبل أن يأخذ الشفيع بالشفعة فيها
34

لم يسقط بذلك حقه من الشفعة، فيجوز له أن يأخذ بالشفعة في الباقي من المبيع
بجميع الثمن الذي جرى عليه البيع، ويجوز له تركها وعدم الأخذ بها.
ومثال ذلك، أن تنهدم الدار المبيعة وتبقى العرصة وبعض البناء والأنقاض
منها، أو يطرأ عليها بعض العيوب والخلل في الأبنية والسقوف، فيتخير الشفيع بين
أن يأخذ بحقه من الشفعة، فيتملك العرصة والبناء الباقي والأنقاض الموجودة من
الدار، ويدفع للمشتري جميع الثمن الذي جرى عليه عقد البيع، وأن يترك حقه فلا
يشفع في المبيع ولا يدفع الثمن، وإذا هو اختار الشفعة وأخذ الباقي من الحصة
المبيعة فلا ضمان على المشتري لما تلف من العين، وإن كان تلف التالف منها بفعل
المشتري نفسه.
وإذا تلف بعض الحصة المبيعة بعد أن أخذ الشفيع بحقه من الشفعة وملك
الحصة، وكان تلف التالف منها بفعل المشتري، أو كان قد تسامح أو ماطل في
تسليم الحصة للشفيع بعد أخذه بالشفعة حتى تلف بعضها، كان المشتري
ضامنا لما تلف منها، وكذلك الحكم إذا حدث فيها عيب، فيجري فيها التفصيل
الذي ذكرناه، فيكون المشتري ضامنا لأرش العيب الحادث فيها في الصورة الثانية
ولا يضمن في الأولى.
(المسألة 58):
إذا ثبت حق الشفعة للشريك، ثم مات قبل أن يأخذ بالشفعة انتقل حق
الشفعة من بعده إلى وارثه على الأقوى، ويورث هذا الحق بعد موت صاحبه على
نهج إرث المال، فيسقط على ورثته حسب السهام المقدرة لهم من التركة في
الكتاب الكريم والسنة المطهرة، فإذا خلف من بعده بنين وبنات فللذكر مثل حظ
35

الأنثيين من الحق، وإذا كان الميت صاحب الحق رجلا وخلف من بعده ولدا
وزوجة، ورثت الزوجة الثمن من الحق وأخذ الولد سبعة أثمانه، وإذا كانت امرأة
وتركت بعدها زوجا وولدا أو بنتا، ورث الزوج الربع من الحق، وكان للولد أو
البنت ثلاثة أرباعه، وهكذا على حسب طبقاتهم ومراتبهم ودرجاتهم
واستحقاقهم من التركة كما فصل في كتاب الميراث.
(المسألة 59):
إذا تعدد ورثة الميت صاحب الحق فليس لبعض الورثة أن يأخذ بالشفعة
الموروثة لهم وإن كانوا كثيرين، إلا إذا وافقهم الباقي من الورثة على الأخذ بها وإن
كان شخصا واحدا وقليل النصيب في الميراث.
وإذا عفا بعض الورثة عن نصيبه في الميراث من الحصة المبيعة التي تعلقت
بها الشفعة، وكان عفوه عن نصيبه قبل أن يأخذ الورثة بالشفعة، أو عفا بعضهم عن
نصيبه من الشفعة نفسها، أو أسقط حقه باختياره، أشكل الحكم في الباقين.
وإذا أخذ جميع الورثة بحقهم فشفعوا في الحصة المبيعة، ثم عفا بعضهم
عن نصيبه الذي يرثه من الحصة سقط نصيب ذلك البعض خاصة، ولم تسقط سهام
الباقين من الحصة بعد أن تملكوها بالشفعة.
(المسألة 60):
يثبت حق الشفعة للشريك على الأقوى، وإن كان بيع الحصة على المشتري
مما فيه خيار الفسخ، أو الرد لبائع الحصة أو لمشتريها أو لكل منهما، ولا يمنع
وجود الخيار في بيع الحصة من شفعة الشفيع فيها، ولا تمنع الشفعة من أن يأخذ
صاحب الخيار بخياره إذا ثبت موجب الشفعة وموجب الخيار.
36

فإذا كان الشريك بائع الحصة قد اشترط في بيعها على المشتري أن يكون له
رد العين المبيعة إذا هو رد الثمن عليه في مدة معلومة، ثم رد الثمن في الوقت
المعين، كان له أن يسترجع العين المبيعة نفسها، وإذا أخذ الشفيع بشفعته قبل ذلك
أو بعده لزم الشفيع أن يدفع الثمن للمشتري، واسترد منه مثل الحصة المبيعة إذا
كانت مثلية وقيمتها إذا كانت قيمية بدلا عن العين نفسها.
وإذا أخذ صاحب الخيار في الخيارات الأخرى بحقه ففسخ البيع لخياره
وأخذ الشفيع بشفعته في الحصة المبيعة قدم السابق منهما في الأخذ فيأخذ العين
نفسها، سواء كان السابق في الأخذ هو الشفيع أم صاحب الخيار، ويسترد الثاني
المتأخر منهما في أخذه بحقه مثل العين إذا كانت مثلية، وقيمتها إذا كانت قيمية
بدلا عن العين ذاتها.
(المسألة 61):
إذا كانت عين مملوكة مشتركة على وجه الإشاعة بين شريكين أحدهما
حاضر والثاني غائب، ولنفرض العين المذكورة دارا أو بستانا أو شيئا آخر مما تقع
فيه الشركة وتثبت فيه الشفعة، وكانت الحصة المشاعة التي يملكها الشريك الغائب
من العين بيد شخص ثالث يتصرف فيها، وهو يدعي الوكالة عليها من مالكها
الغائب، ولا معارض له في دعواه الوكالة، فالظاهر نفوذ تصرفه الذي يجريه على
الحصة، فإذا باع هذا الوكيل الحصة على شخص، جاز لذلك الشخص أن يشتريها
منه اعتمادا على يده، وأن يصدقه في دعوى الوكالة عليها من مالكها، وإذا اشتراها
المشتري من هذا الوكيل نفذت تصرفات المشتري في الحصة المبيعة عليه كيف ما
يريد، ولا ريب في شئ من ذلك ولا خلاف، ما لم يعلم كذب مدعي الوكالة، أو
37

تقوم على كذبه بينة أو حجة شرعية أخرى.
فإذا علم الشريك الحاضر ببيع حصة شريكه من العين على هذا الوجه الذي
بيناه، فهل يثبت له حق الشفعة في الحصة تعويلا على يد ذلك المدعي للوكالة
واعتمادا على صحة بيعه ودعواه الوكالة بحسب الظاهر؟ الأقرب ثبوت حق
الشفعة له ظاهرا.
فإذا أخذ بالشفعة وتملك الحصة، ثم حضر الشريك الغائب وأقر بصدق
وكالة المدعي وصحة بيعه نفذت شفعة الشفيع وترتبت آثارها، وإذا كذب دعوى
المدعي وأنكر وكالته إياه كان القول قوله مع يمينه، فإذا أحلف انتفى بيع الحصة
ولم يثبت حق الشفعة للشريك، واسترجع منه الحصة واسترد معها جميع نمائها
ومنافعها في مدة استيلائه عليها، فإذا أخذها المالك من الشفيع، رجع الشفيع بها
على مدعي الوكالة، وكذلك الحكم في النماء والمنافع التي كانت للحصة عند
المشتري قبل أن يأخذها الشفيع منه، فإذا استرجعها المالك من المشتري رجع
المشتري بها على مدعي الوكالة.
38

[كتاب الجعالة]
39

[كتاب الجعالة]
وهو يشتمل على ثلاثة فصول:
[الفصل الأول]
[في الجعالة وشروط صحتها]
(المسألة الأولى):
الجعالة في اللغة ما يعطيه الانسان لغيره من مال وشبهه مكافاة له على أمر
صدر عنه، والغالب أن يكون الشئ الذي فعله الشخص المدفوع إليه مما يحتاج
إليه الدافع أو هو مما يرغب في فعله، فيعطيه المال جزاءا له على فعله، وتقال كلمة
الجعالة أيضا على ما يجعله الانسان لغيره على الشئ سواء دفعه إليه بعد الفعل، أم
وعده بدفعه إليه ليكون حافزا له على العمل، فيدفعه إليه بعد أن يقوم به.
والجعالة عند الفقهاء والمتشرعين هي أن يلتزم الانسان لغيره بدفع عوض
له على عمل محلل يقوم به بصيغة تدل على هذا الالتزام منه، وعرفت أيضا بغير
ذلك، والأمر في التعريف سهل بعد وضوح المقصود من المعاملة والتعريفات التي
ذكروها (قدس الله أنفسهم) ترجع إلى معنى واحد.
(المسألة الثانية):
الجعالة هي الالتزام المذكور الذي ينشئه الجاعل بالصيغة، أو هي انشاء ذلك
الالتزام، وعلى أي حال فهي ايقاع من الايقاعات، فيكفي فيها الايجاب من الجاعل
41

وحده، وليست عقدا من العقود، فلا تفتقر مع الايجاب إلى قبول من العامل
المجعول له.
ويكفي في الايجاب الذي تتحقق به، أي لفظ يكون دالا في متفاهم أهل
اللسان على الالتزام للشخص المجعول له بالعوض إذا هو قام بالعمل سواء كانت
دلالة اللفظ على ذلك بنفسه، أم بالقرينة الحافة بالكلام.
ويصح أن يكون اللفظ الذي ينشئ الانسان به التزامه عاما يعم أي شخص
يأتي بالعمل المقصود من الناس، فيقول الرجل مثلا: من أبلغني عن سلامة ولدي
عبد الله في بلد كذا فله علي عشرون دينارا، أو من أوصل رسالتي إليه فله علي كذا
دينارا، أو يقول: من دلني على سيارتي المسروقة، أو على قريبي فلان المفقود
دفعت إليه خمسين دينارا، ويجوز أن يوجه اللفظ خاصا إلى شخص معين فيقول
لكاتب: إن خططت لي هذا الكتاب دفعت لك مبلغ كذا من المال، أو يقول لخياط:
إن خطت لي ثوبا فلك عندي عشرة دنانير.
ويصح أن ينشئ جعالته بالكتابة، فيكتب ويعلن في أمكنة عامة أو في
صحف مقروءة: من رد لفلان ناقته الضالة منه فله عند فلان كذا دينارا، أو من وجد
ساعة مفقودة صفتها كذا، أو من وجد مستندا رسميا يحتوي على كذا وأوصله إلى
فلان فله على فلان كذا، فتصح منه الجعالة بهذا الاعلان وتترتب عليه آثارها
وأحكامها.
(المسألة الثالثة):
يصح أن تقع الجعالة على أي عمل يكون محللا في شريعة الاسلام
ومقصودا عند العقلاء من الناس ولا يصح ايقاعها على عمل محرم في الاسلام أو
42

يؤدي إلى غاية محرمة فيه، أو يستلزم أمرا محرما، ولا تصح الجعالة على أعمال
يعد فعلها عبثا لا تتعلق به أغراض العقلاء المتزنين في أعمالهم وتفكيرهم من
الناس، أو التي يعدون بذل المال فيها سفاهة يتنزهون عنها، كارتياد المواضع
الخطرة، وتعمد الوصول إلى الأماكن المخيفة، والتعرض للوحوش الكاسرة أو
الحيوانات والحشرات القاتلة أو السامة، وكالتسلق على الجبال والأبنية المرتفعة
الشاهقة، والنزول في المنحدرات المهاوي السحيقة، ورفع الأحمال والأشياء
الثقيلة التي يعجز المتعارفون من أقوياء الناس عن رفعها، وأمثال هذه من
المخاوف والمخاطر.
وإذا تعلقت بهذه الأمور أغراض عقلائية، أو أصبحت من الأمور المعتادة
المكتسبة بالتمرن والرياضة والمزاولة، بحيث خرجت بذلك عن كونها لغوا
وسفها وخطرا، جاز فعلها وصحت الجعالة عليها.
(المسألة الرابعة):
يصح ايقاع الجعالة على الاتيان بالأعمال الواجبة في الاسلام غير العبادية
كدفن الأموات، ومعالجة الطبيب للمرضى، ويصح ايقاعها على الواجبات التي
يتوقف عليها تنظيم المجتمع، كتعليم علم الطب والصيدلة والزراعة وتعلمها
وقد ذكرنا نظير هذا في المسألة المائتين والثالثة عشرة من كتاب الإجارة.
وتصح الجعالة على الأعمال المستحبة غير العبادية، كوضع الجريدتين
للميت والباسه الحبرة، وكتعليم العلوم الأدبية، وتعليم القرآن في غير المقدار
الواجب منه، وتعليم علم التفسير، وعلم الحديث وعلم الرجال وشرح الحديث
والأحوط ترك الجعالة على المستحبات العبادية.
43

(المسألة الخامسة):
تشترك الجعالة مع إجارة الأجير على العمل في عدة من شروطها، وتشبهها
في بعض أحكامها، وكلتا المعاملتين تحتويان على جعل عوض للعامل على
الاتيان بعمل معين، وتفترقان في عدة فوارق، فالإجارة عقد من العقود لا يتم إلا
بايجاب وقبول يقعان بين المستأجر والأجير، والجعالة كما ذكرنا آنفا ايقاع ينشئه
الجاعل ولا يحتاج إلى قبول من العامل.
وإذا تم عقد الإجارة بين المتعاقدين ملك المستأجر العمل المعين من الأجير
فيجب على الأجير القيام به، وملك الأجير العوض المعلوم من المستأجر، وقد
ملكا ذلك بنفس العقد، على ما فصلناه في كتاب الإجارة، وتخالفها الجعالة في
ذلك فإن الايقاع فيها إذا تم لم يملك الجاعل من العامل عملا، ولم يملك العامل من
الجاعل عوضا بالايقاع ولا بعده، فإذا قام العامل بالعمل المقصود بعد انشاء
الجعالة استحق العوض المعين على الجاعل ولزم الجاعل دفعه إليه، وهذا هو أثرها.
وسنذكر في المسائل الآتية إن شاء الله تعالى بعض المشابهات بينهما
وبعض الفروق.
(المسألة السادسة):
يشترط في صحة الجعالة أن يكون الملتزم الجاعل بالغا عاقلا قادرا على
الوفاء بما يلتزم به من العوض للمجعول له، وأن يكون مختارا في فعله، قاصدا
لانشاء المعنى الذي يلتزم به، رشيدا غير محجور عليه في تصرفه، وهذه الأمور
بذاتها هي الشروط المعتبرة في المستأجر، وقد فصلنا القول فيها في كتاب الإجارة
وفي غيره من كتب المعاملات، فليرجع إليها من يطلب المزيد من التوضيح.
44

ويشترط في العامل أن يكون ممن يمكن له أن يأتي بالعمل المقصود، فلا
يكون عاجزا عن القيام بفعله، ولا يكون ممنوعا من الاتيان به شرعا، ولا يعتبر فيه
غير ذلك من الشروط التي ذكرناها في الجاعل، ولذلك فيصح ايقاع الجعالة من
الجاعل للمجعول له وإن كان صبيا أو مجنونا أو غيرهما ممن لم تتوفر فيه الشروط
المتقدم ذكرها، إذا كان ممن يستطيع أن يأتي بالعمل المقصود على الوجه
المطلوب، وإذا هو أتى بالعمل على ما يرام استحق العوض المعين على الجاعل
وهذا أحد الفوارق بين عامل الجعالة والعامل في الإجارة.
(المسألة السابعة):
إذا كان الجاعل قد اشترط في ايقاعه للجعالة أن يأتي بالعمل
المقصود بنفسه على وجه المباشرة، فلا بد وأن يكون العامل المجعول له
قادرا على الفعل بنفسه وغير ممنوع من مباشرة ذلك الفعل في شريعة الاسلام
ونتيجة لهذا الشرط، فإذا جعل الجاعل للعامل عوضا معلوما على كنس المسجد أو
المشهد مثلا لم تصح الجعالة إذا كان العامل نفسه جنبا، أو غير مسلم، أو كانت
امرأة حائضا، لأنه ممنوع من دخول المسجد والمشهد في هذه الحالات، فلا
يكون قادرا على الاتيان بالعمل المطلوب بنحو المباشرة كما اشترط الجاعل، وإذا
هو خالف المنع فدخل المسجد أو المشهد وكنسه بنحو المباشرة، لم يستحق
العوض المجعول.
وإذا لم يشترط الجاعل على العامل أن يتولى العمل بنحو المباشرة كفى في
استحقاقه للعوض أن يستنيب غيره في الاتيان بالعمل، فإذا استناب العامل
المجعول له أحدا ورد العبد الآبق أو الدابة الضالة بالنيابة عن العامل استحق
45

العوض المجعول، وإذا استناب العامل الجنب أو الحائض أحدا سواه فكنس
المسجد أو المشهد بالنيابة عنه استحق العامل العوض على الفعل كذلك لأن
الجاعل لم يشترط عليه المباشرة.
(المسألة الثامنة):
يعتبر في الجعالة أن يكون العمل الذي تكون عليه المعاملة والعوض
المجعول فيها معلومين في الجملة، ولكن اعتبار العلم بهما في الجعالة ليس على
الوجه المعتبر في العلم بالعوضين في البيع والإجارة ونحوهما بحيث لا يدخلها
غرر، أو تكون فيها جهالة كما فصلناه في مباحث تلك المعاملات.
والمعتبر في الجعالة من العلم بالعمل المقصود أن يعلم بمقدار يمكن
للعامل أن يتوجه نحوه، ويتصدى للاتيان به ولا يكون مسلوب القدرة عليه، ولا
يضر في الجعالة الجهل به إذا لم يبلغ هذه الدرجة، فتصح الجعالة إذا قال الجاعل
من وجد لي سيارتي المسروقة مني دفعت له مائة دينار مثلا، وإن لم يدر العامل في
أي بلد يجد السيارة، أو أي موضع، وكم يكون بينه وبينها من المسافة، وكم يحتاج
من المدة في طلبها وما يلاقي من المصاعب في البحث عنها والعثور عليها.
وكذلك إذا قال: من طلب قريبي زيدا المفقود مني دفعت له كذا دينارا، أو
قال: من طلب زيدا المفقود أو عبدي الآبق على نحو الترديد بينهما فله على
كذا من المال، فتصح الجعالة ويتوجه العامل في طلب الشخص المردد بين
الرجلين، سواء كان مقدار العوض الذي جعله لذلك متحدا أم مختلفا.
ولا تصح الجعالة إذا كان العمل مجهولا مطلقا، كما إذا قال الجاعل: من
وجد شيئا قد ضاع مني فله عندي كذا ولم يعين الشئ الضائع منه ليمكن للعامل
46

التوجه في طلبه، وكذا إذا قال: من رد لي حيوانا قد ضل مني ولم يبين أن الحيوان
الذي يطلبه من الأنعام أو الدواب أو الوحوش أو غيرها.
(المسألة التاسعة):
يعتبر في الجعالة أن يكون العوض المجعول للعامل معلوما في الجملة
ليكون حافزا للعامل على القيام بالعمل، وتحصيل الغرض المقصود للجاعل
ولذلك فلا بد من تعيين جنس العوض ونوعه ووصفه إذا كان لا يعلم إلا بالوصف
ولا بد من تبيين مقدار كيله أو وزنه أو عدده إذا كان مما يكال أو مما يوزن أو يعد
ولا تصح الجعالة إذا التزم الجاعل للعامل بعوض غير معلوم المقدار فقال: من رد
ضالتي فله عندي شئ أو دفعت له ما في يدي.
ولا يضر فيها الجهل بالعوض إذا كان الجهل لا يؤدي إلى التنازع والخصام
فيقول مثلا: من رد لي البقرة أو الناقة المسروقة من داري فله نصفها، أو فله نصف
قيمتها في السوق، أو قال: من ردها لي دفعت له هذا الثوب أو هذه الصبرة من
الطعام، وهذه الأحكام من الفروق بين الجعالة وإجارة الأجير.
(المسألة العاشرة):
إذا بطلت الجعالة لفقد بعض الشروط، وأتي العامل بالعمل المقصود لمن أمره
بالعمل والتزم له بالعوض، استحق عليه أجرة المثل لعمله بدلا عن العوض
المسمى له في الجعالة.
(المسألة 11):
إذا أتى العامل بالعمل المقصود قبل أن يوقع الجاعل صيغة الجعالة ويلزم
نفسه بالعوض، لم يستحق العامل على فعله عوضا ولا أجرة مثل، وكذلك إذا أتى
47

العامل بعمله بقصد التبرع به، فلا يستحق عليه عوضا ولا أجرة مثل، وإن كان
الجاعل قد سبق فجعل على نفسه عوضا لمن أتى له بالعمل المقصود، فلا تعم
جعالته ذلك العامل لأنه متبرع بعمله.
(المسألة 12):
إذا جعل الجاعل العوض لشخص معين إذا قام له بالعمل المقصود، فقال
مثلا: إذا رد زيد علي عبدي الآبق، أو بقرتي المسروقة مني فله عندي عشرة دنانير
فأتى بذلك العمل شخص آخر غير زيد المجعول له، لم يستحق هذا العامل
العوض، لأنه لم يؤمر بالفعل، ولم يلتزم له بالعوض، ولا الشخص المجعول له، لأنه
لم يفعل شيئا.
وتستثنى من ذلك صورة واحدة، وهي ما إذا كان الجاعل قد جعل العوض
للشخص المعين وهو زيد في المثال الذي ذكرناه متى حصل منه العمل المقصود
سواء قام بالعمل بنفسه أم أتى به غيره بالنيابة عنه في العمل، فإذا استناب زيد غيره
فأتى بالعمل بالنيابة عنه، أو جاء بالعمل غيره بقصد التبرع عنه، استحق زيد
العوض المسمى الذي جعله له الجاعل.
(المسألة 13):
يصح أن يوقع الجعالة شخص فيجعل العوض من ماله عن عمل يكون لغيره
ومثال ذلك أن يقول الشخص: من طلب سيارة زيد المسروقة منه وردها إليه فله
عندي عشرون دينارا، أو يقول لأحد معين: إذا طلبت سيارة زيد المسروقة
ورددتها إليه دفعت لك من مالي كذا دينارا، فإذا طلب العامل السيارة المسروقة
وردها إلى زيد استحق العوض المعين على الجاعل الملتزم لا على زيد مالك
48

السيارة.
(المسألة 14):
يمكن أن ينشئ الجاعل جعالات متعددة بايقاع واحد، كما إذا كان العمل
المقصود للجاعل كليا يمكن صدور أفراد متعددة منه من أشخاص متعددين
فيترتب على كل جعالة أثرها ويجري عليها حكمها ومن أمثلة ذلك أن تكون لزيد
عدة بنات غير متزوجات، فيقول الجاعل: من تزوج إحدى بنات زيد فله عندي
نصف صداقها، أو يقول: من تزوج إحداهن دفعت إليه مبلغ كذا من المال فتصح
الجعالات، فأي شخص يتزوج من البنات المذكورات يستحق العوض الذي التزم به
القائل.
ومن أمثلة ذلك أن يقول: إذا تزوج على بنت عمه جعفر وتزوج عبد الله بنت
عمه إبراهيم فلكل متزوج منهما عندي مائة دينار، فإذا تزوج الشخصان كما قال
استحق كل واحد منهما المبلغ المعين من القائل، وإذا تزوج أحدهما فقط استحق
المتزوج دون الآخر.
وكذلك أن يقول: إذا تزاور زيد وعمرو فدخل كل منهما بيت الآخر دفعت
للزائر منهما صاحبه عشرين دينارا، فإذا هما تبادلا الزيارة بينهما استحق كل واحد
منهما العوض المسمى، وإذا دخل أحدهما خاصة على صاحبه استحق الزائر
منهما المبلغ دون الآخر.
(المسألة 15):
إذا قال الرجل: من كتب لي هذا الكتاب دفعت إليه عشرين دينارا مثلا
فاشترك كاتبان أو أكثر فكتبوا له نسخة واحدة من الكتاب استحقوا المبلغ الذي
49

عينه، واقتسموه بينهم، فأخذ كل واحد منهم من العوض بمقدار عمله، فإذا كانوا
اثنين وقد عملا فيه بالسواء أخذ كل واحد منهما نصف المبلغ، وإذا كانوا ثلاثة
أخذ كل فرد منهم الثلث، وهكذا، وإذا تفاوتوا في العمل اقتسموا العوض المسمى
بالنسبة.
وإذا كتب كل كاتب منهم نسخة تامة من الكتاب استحق كل واحد منهم
عوضا تاما على الجاعل، وتراجع المسألة العشرون الآتية في حكم أحدهم إذا
أتى بالعمل بعد انتهاء أمد الجعالة عرفا، وحصول الغرض المقصود منها.
50

[الفصل الثاني]
[في بعض أحكام الجعالة]
(المسألة 16):
يجوز للجاعل أن يفسخ جعالته التي أنشأها وألزم نفسه بدفع العوض
للعامل فيها سواء بدأ العامل بالعمل المقصود، أم لم يتلبس بشئ منه ولم يشرع
بشئ من مقدماته، فإذا فسخ الجاعل جعالته قبل أن يبدأ العامل بالعمل وقبل أن
يشرع في مقدماته، لم يستحق العامل على الجاعل شيئا من العوض المسمى في
الجعالة ولا من أجرة المثل.
وإذا فسخ الجاعل جعالته بعدما بدأ العامل بمقدمات العمل المقصود
للجاعل، فشرع في طلب الشئ المفقود، أو العبد الآبق أو الدابة الضالة ليردها إلى
صاحبها ولم يجدها بعد، فإذا فسخ الجاعل ونقض التزامه في هذا الحال لم
يستحق العامل عليه شيئا من العوض المسمى لبطلان الجعالة بفسخها، ولكنه
يستحق منه أجرة المثل لما قام به من الطلب وأتى به من المقدمات.
وإذا فسخ الجاعل جعالته بعدما بدأ العامل في العمل نفسه، فأخذ في
خياطة الثوب الذي جعل عليه العوض أو في نسج الكساء أو في كتابة الكتاب، لم
يستحق العامل على الجاعل شيئا من العوض المسمى كما تقدم في نظيره
واستحق عليه أجرة المثل للمقدار الذي أتى به وأنجزه من العمل.
51

(المسألة 17):
يجوز للعامل في الجعالة أن يترك العمل فيها للجاعل قبل أن يبدأ به
وبمقدماته، وبعدما يتلبس به ويشرع، فيرفع يده عما قام به من العمل ولا يتمه
وإذا هو ترك العمل كذلك لم يستحق على الجاعل شيئا من العوض المسمى في
الجعالة ولا أجرة المثل، وإن كان الأحوط استحبابا للجاعل أن يصالحه بشئ من
المال إذا كان قد أوجد له بعض العمل المقصود، وأحوط من ذلك أن يتراضى
الطرفان ويتصالحا في جميع الفروض المذكورة في هذه المسألة والمسألة السابقة
عليها.
(المسألة 18):
إذا أوقع الجاعل جعالته وألزم نفسه بمقتضاها، بأن يؤدي للعامل العوض
المسمى الذي ذكره في الجعالة إذا هو أتى له بالعمل المقصود، ثم أتى العامل بذلك
العمل وفقا لما طلب، استحق العامل عليه أن يدفع إليه العوض، سواء علم العامل
بالجعالة أم لم يعلم بها ولم يطلع عليها.
فإذا قال الجاعل: من تزوج فاطمة بنت زيد دفعت له نصف صداقها، ثم
تزوجها خالد، استحق خالد بزواجها العوض المعين من الجاعل، وإن كان لا يعلم
بجعالته قبل التزوج بها، وإذا قال الجاعل: من كتب لي هذا الكتاب فله على مائة
دينار، فكتب خالد له الكتاب استحق عليه الجعل، وإن لم يدر بايقاع الجاعل قبل
أن يتم الكتاب، وإذا قال: من رد لي ضالتي فله عندي عشرون دينارا فردها عليه
العامل استحق العوض وإن لم يبلغه نبأ الجعالة، وهكذا، نعم يشترط في استحقاقه
للجعل أن لا يكون متبرعا بعمله، فإذا قصد التبرع به لم يستحق عليه شيئا.
52

وقد اشترط بعض الأكابر من العلماء في استحقاق العامل للعوض المسمى
في الجعالة أن يكون اتيانه بالعمل لأجل تحصيل العوض، ومن أجل اشتراطه لذلك
اعتبر فيه أن يكون عالما بايقاع الجعالة ليقصد تحصيل العوض بعمله
واطلاقات الأدلة والنصوص تدفع هذا القول وتنفي هذا الشرط، فإذا أتى العامل
بالعمل ووافق غرض الجاعل استحق العوض المسمى إذا لم يكن متبرعا بفعله.
(المسألة 19):
تختلف الجعالة باختلاف الملاحظات التي يلاحظها الجاعل للعمل
المقصود الذي التزم بدفع العوض عنه، وهي تختلف كذلك باختلاف الأعمال التي
يطلبها من العامل في وفائها بالغرض المطلوب، فبعض الأعمال يكون وفاؤها
بالغرض باتمام العمل نفسه، فإذا قال الجاعل للرجل: إذا تزوجت بفاطمة دفعت
إليك نصف صداقها، أو قال للطبيب: إذا عالجت زيدا فأبرأته من مرضه دفعت إليك
مبلغ كذا، يكون المدار على اتمام العمل نفسه، فإذا أتمه العامل فتزوج بفاطمة في
المثال الأول وأبرأ المريض من مرضه في المثال الثاني استحق العوض.
وإذا قال للكاتب: إن كتبت لي هذا الكتاب فلك عندي عشرون دينارا، أو قال
للخياط: إذا خطت لي هذا الثوب فلك على عشرة دنانير، اتبع ظهور كلمة الجعالة
فإن علم أو ظهر من الصيغة ولو بسبب القرينة الحافة بالقول إن الأمر المجعول عليه
هو أن يتم العامل العمل ويسلمه كان المدار عليه، فإذا أتم العمل وسلمه لصاحبه
استحق العوض، وإن لم يعلم ولم يظهر منها اعتبار التسليم كان المدار على اتمام
العمل وحده، فإذا أتم العمل استحق العوض وإن لم يسلمه، ولعل الظاهر أن العمل
حين يكون متعلقا بعين مملوكة يكون دالا على اعتبار التسليم للعين بعد اتمام
53

العمل فيها، كالجعالة على خياطة الثوب، وعلى كتابة الكتاب، ونسج الكساء،
فيكون المدار على تسليم العين بعد اتمام العمل.
وكذلك إذا قال: من رد على سيارتي المفقودة أو عبدي الآبق فله علي كذا من
المال، فالمتبع فيها ظهور كلمة الجاعل، فإن علم أو ظهر من الصيغة أنه يريد من
الرد ايصال المفقود إلى البلد، أو إلى موضع معين اكتفى بذلك، فإذا أوصل العمل
المفقود إلى الموضع استحق العوض، وإن فقد أو سرق بعد ذلك، وإن دلت القرينة
على اعتبار تسليمه إلى صاحبه كان المدار عليه، ولعل الظاهر في الأمثلة التي
ذكرناها هو ذلك فلا بد فيها من التسليم.
وإذا قال من دلني على المفقود أو المسروق أو الآبق، فالظاهر أن المراد
مجرد الدلالة عليه واخباره بموضعه، فيستحق العامل العوض بذلك.
(المسألة 20):
إذا أوقع الانسان صيغة الجعالة، وقام العامل بالعمل المطلوب، وحصل به
على الغرض المقصود للجاعل على الوجه الذي تقدم بيانه، استحق العامل العوض
من الجاعل، وسقطت بذلك الجعالة فإذا قام عامل آخر بالعمل بعد ذلك لم يستحق
على الجاعل عوضا لسقوط الجعالة.
وكذلك إذا عين الجاعل لجعالته وقتا محدودا، فإذا انتهى الوقت سقطت
الجعالة، ولا يستحق العامل في عمله بعد ذلك عوضا.
ويستثنى من ذلك: ما إذ أنشأ الجاعل جعالات متعددة بايقاع واحد، كما
سبق بيانه في المسألة الرابعة عشرة، فإذا أتى بعض العمال بالعمل المقصود في
بعض هذه الجعالات المتعددة، فسقط ذلك البعض لحصول الغرض المقصود فيه،
54

لم تسقط بذلك بقية الأفراد الأخرى من الجعالة، فيجوز لعامل آخر أن يعمل فيها
إذا كان وقتها باقيا، فيحصل الغرض ويستحق به العوض.
(المسألة 21):
إذا أوقع الرجل الجعالة لعامل خاص، فشاركه غيره في العمل حتى أتماه
معا، استحق العامل الخاص الذي عينه الجاعل من العوض المسمى بمقدار عمله
وسقط منه ما يقابل عمل الآخر، فإن كان الشخص الذي شاركه في العمل واحدا
وكان عملهما متساويا، استحق العامل المعين نصف العوض، وإن كانا اثنين استحق
هو الثلث، وهكذا وإن تفاوتوا في عملهم استحق العامل المعين من العوض بنسبة
عمله ولم يستحق شركاؤه الآخرون على عملهم شيئا في جميع الصور، لا من
العوض المسمى، ولا أجرة المثل، وهذا إذا كان الجاعل قد اشترط على العامل أن
يتولى العمل بنفسه بنحو المباشرة.
وإذا كان قد اكتفى منه بأن يحصل العمل بواسطته ولو بالتسبيب أو
الاستنابة منه أو التبرع له وكان العمال الآخرون قد شاركوه بقصد المعونة له أو
النيابة عنه، استحق العامل جميع العوض المسمى له في الجعالة.
(المسألة 22):
إذا أنشئت الجعالة على أن يقوم العامل بجميع العمل ويتمه إلى آخره، وكان
في رفع العامل يده عن العمل قبل اكماله ضرر على الجاعل، لم يجز للعامل أن يترك
العمل في أثنائه، ويجب عليه أن يتمه إذا كان قد شرع فيه، ويجوز له تركه قبل أن
يبدأ به.
ومن أمثلة ذلك: أن ينشئ الجاعل الجعالة للطبيب أو الجراح على أن
55

يجري له عملية جراحية في عينه، أو في بعض أجهزته الأخرى، أو في أحد
أعضائه، فلا يجوز للطبيب أن يترك العمل بعد أن يبتدئ به، لما في ذلك من الضرر
الكبير على المريض، وإذا هو ترك العمل بعد أن ابتدأ به لم يستحق عوضا
ولا أجرة مثل لما أتى به من أبعاض العمل ومقدماته، فإن الجعالة كما فرضنا
إنما وقعت على أن يتم العمل إلى نهايته، وإذا كان رجوع العامل أو الطبيب أو
الجراح في الأثناء سببا لتلف شئ، أو حدوث عيب، أو نقص في عضو من أعضاء
المريض أو خلل أو تعطيل في جهاز من أجهزته، كان العامل ضامنا له.
(المسألة 23):
إذا قال الجاعل: من رد على مالي المفقود دفعت إليه كذا من المال، فرد
شخص إليه عين ماله، فإنما يستحق هذا الراد على الجاعل العوض، إذا كان في رد
ذلك المال إلى صاحبه كلفة ومؤنة يعد الرد بسببهما عملا في نظر أهل العرف، كما
في رد الدابة الضالة والعبد الآبق والسيارة المفقودة ونحوها، وإذا كان رد
ذلك المال إلى صاحبه لا يحتوي على كلفة، ولا يفتقر إلى مؤنة وجهد، ولم يعد
في نظر أهل العرف عملا، فلا يستحق الراد عليه عوضا، كما إذا وجد في المكان
أو في الطريق محفظة نقوده، فأخذها وردها إلى صاحبها من غير طلب ولا تعب أو بذل جهد.
وإذا اتفق أن المال المذكور بيد غاصب وسمع بالجعالة على رده من مالك
المال، فرده إلى الجاعل لم يستحق على رده إليه عوضا، وإن كان رده إليه
يستوجب كلفة ومؤنة، ويعد من أجل ذلك عملا في نظر أهل العرف، لأن رد المال
المغصوب إلى مالكه واجب على الغاصب، ويجب عليه أن يتحمل الكلفة والمؤنة
56

في رده إليه، مهما بلغت.
(المسألة 24):
إذا قال الرجل: من دلني على مالي الذي أضعته فله عندي كذا، وكان المال
الضائع بيد شخص، فدله ذلك الشخص على ماله استحق عليه العوض المسمى إذا
كانت الدلالة عليه تحتوي على كلفة أو تحتاج إلى مؤنة، كما قلنا في المسألة
السابقة، فيستحق العوض على الجاعل إذا لم تكن يده على المال يد غاصبة، وإن
كانت دلالة صاحب المال على ماله واجبة على من بيده المال، وذلك لأنها من
الواجبات لم يعتبر الشارع فيها أن تقع من المكلف بها بغير عوض من أحد
كالعبادات، وكرد الغاصب المال المغصوب إلى صاحبه.
(المسألة 25):
إذا قال الرجل: من خاط لي هذا الثوب دفعت له دينارا، ثم قال بعد ذلك: من
خاط لي هذا الثوب دفعت له دينارين، وهو يعني الثوب الأول نفسه، فإن دلت
القرينة على أن جعالته الثانية عدول عن الجعالة الأولى وفسخ لها، كان العمل على
الثانية سواء كان العوض المجعول فيها أكثر من العوض الذي ذكره في الأولى كما
في المثال المتقدم أم أقل منه.
وإذا لم تدل القرينة على شئ أشكل الحكم في الفرض، فلعل الجاعل عدل
من الأولى إلى الثانية كما تقدم، ولعله نسي جعالته الأولى فأوقع الثانية، ولعله
أضاف إلى الجعل الأول جعلا ثانيا، ولا يترك الاحتياط بالرجوع إلى المصالحة بين
الجاعل والعامل، إذا أتى بالعمل بعد الجعالتين.
(المسألة 26):
57

إذا جعل الرجل ثلاث جعالات لثلاثة أشخاص مختلفين على عمل معين
واحد، فقال: إن أرجع لي ضالتي زيد دفعت له دينارا واحدا، وإن أرجعها لي عمرو
دفعت له دينارين، وإن أرجعها لي خالد دفعت له ثلاثة دنانير، ثم رد الضالة عليه
أحد هؤلاء الأشخاص، استحق عليه الجعل الخاص الذي عينه له، وإذا اشترك
الثلاثة جميعا في العمل فردوا عليه ضالته استحق الأول منهم وهو زيد ثلث
العوض الذي جعله له وهو الدينار، واستحق الثاني وهو عمرو ثلث عوضه
المجعول له وهو الديناران، واستحق الثالث وهو خالد ثلث عوضه المجعول
له وهو الثلاثة دنانير، وهكذا إذا زادوا في العدد فكانوا أربعة فلكل واحد منهم الربع
من العوض الخاص المعين له، أو كانوا خمسة فللواحد منهم خمس جعله، وهذا
إذا كانوا متساوين في عملهم.
وإذا تفاوتوا في العمل استحق كل واحد منهم بنسبة عمله إلى مجموع أعمالهم
جميعا، ويأخذ تلك النسبة من جعله المعين له، ومن أمثلة المسألة أن تحدث
مخاصمة في أمر بين إخوة ثلاثة، ويريد الجاعل أن يوقع الصلح بينهم ورفع
الشحناء فيقول: إن سبق زيد وهو الأخ الصغير منهم إلى مصالحة أخويه فله على
خمسة دنانير، وإن سبق عبد الله وهو الأوسط فله على عشرة دنانير، وإن سبق
أحمد وهو الكبير إلى مصالحة أخويه فله على خمسة عشر دينارا، فيجري
فيهم الحكم المتقدم، فأيهم سبق إلى المصالحة استحق العوض الخاص الذي قرره
الجاعل له، وإذا سبقوا جميعا استحق كل واحد منهم ثلث الجعل المحدد له من
الجاعل.
58

(المسألة 27):
إذا قال الرجل: من رد لي سيارتي المفقودة من كربلاء فله عندي مائة دينار
واتفق للعامل أن وجد السيارة في موضع دون تلك المسافة، فردها من ذلك
الموضع، فقد يعلم أو يظهر من القرائن الموجودة: أن مراد الجاعل أن ترد السيارة
المسروقة إليه من أي مكان اتفق وجودها فيه، وقد جعل العوض لمن ردها إليه من
أي مكان أو مسافة كانت، وإنما ذكر كربلاء أو بغداد مثلا لأنه يعتقد أو يظن أن
السيارة توجد في ذلك البلد، ولا ينبغي الريب أن العامل في هذه الصورة يستحق
على الجاعل جميع العوض الذي سماه، ولا ينقص منه شئ بسبب نقص المسافة.
وقد يعلم أو يظهر من القرائن: إن الجاعل قد جعل العوض المعين لمن رد
السيارة من المسافة المذكورة في الجعالة، وإن لأجزاء المسافة قسطا من العوض
وإذا قصرت المسافة نقص العوض، فإذا رد العامل السيارة المسروقة من بعض
المسافة فإنما يستحق من العوض المسمى بمقدار عمله وسفره في الطلب والرد
ولا يستحق الباقي، فإذا ردها إليه من ربع المسافة دفع إليه ربع الجعل خاصة، وإذا
ردها من ثلث المسافة دفع إليه الثلث.
وقد يعلم أو يظهر من القرائن أن الجعالة مقيدة لمن رد السيارة من كربلاء
ولا تشمل من ردها من غير البلد المذكور، فإذا رد العامل السيارة من بعض المسافة
لم يستحق من العوض المسمى شيئا، وثبتت له أجرة المثل لما أتى به من العمل
وإن لم يعلم ولم يظهر من القرائن شئ من ذلك، ودار الأمر في أن العامل استحق
الأقل أو الأكثر دفع الجاعل إليه الأقل، والأحوط الرجوع إلى المصالحة بينهما
59

(المسألة 28):
إذا أتى العامل بالعمل وطالب المالك بالعوض عن عمله، وقال له: إنك
جعلت لي عوضا إذا أنا آتيت لك بهذا الفعل، وأنكر المالك الجعالة، فالقول قول
المالك مع يمينه لأنه منكر.
وكذلك إذا قال العامل له: إنك أمرتني بأن أعمل لك وقد فعلت كما أمرتني
فأنا أستحق عليك أجرة المثل لفعلي، وأنكر المالك إنه أمره بشئ، فإذا حلف
المالك على نفي ما يقوله العامل لم يستحق العامل عليه شيئا في الصورتين.
(المسألة 29):
إذا ضلت من الرجل دابتان، فرد العامل عليه إحداهما، وطالبه بالعوض وقال
له: إنك جعلت لي جعلا إذا أنا رددت إليك هذه الدابة، وأنكر المالك قوله، وقال: إني
لم أجعل عوضا على رد هذه الدابة، وإنما جعلت عوضا على رد الدابة الأخرى
فالقول قول المالك مع يمينه، فإذا حلف على نفي ما يدعيه العامل لم يستحق منه
شيئا.
وكذلك إذا أنكر دعوى العامل وقال: إني لم أجعل عوضا على رد هذه الدابة
وحدها، وقد جعلت عوضا لمن رد الدابتين الضالتين معا، فيقدم قول المالك مع
يمينه، فإذا حلف لم يستحق العامل عليه العوض الذي يدعيه، والأحوط للمالك
في هذه الصورة بعد يمينه ورد دعوى العامل أن يصالحه بقسط من العوض
فإنه قد رد إحدى الدابتين، وهو بعض المجموع وقد اعترف الجعالة عليه.
(المسألة 30):
إذا اتفق المالك الذي أنشأ الجعالة والعامل الذي أتى بالعمل على وقوع
60

الجعالة على الاتيان بالعمل المعين، ثم اختلفا في مقدار العوض المجعول فيها
فادعى أحدهما مقدارا معينا، وأنكر الآخر ذلك، فادعى أن المقدار الذي ذكره
الأول يزيد على العوض المجعول، فالقول قول من ينكر الزيادة مع يمينه، ومنكر
الزيادة في الغالب هو المالك الجاعل، فإذا حلف المنكر على نفي الزيادة لم
يستحقها العامل، وكان له المقدار الأقل لاتفاق الطرفين على صدور الجعالة، وعلى
أن العامل قد استحق هذا المقدار بعمله.
وإذا وقع الاختلاف بينهما في مضمون أصل الجعالة فقال المالك: إنها إنما
وقعت على المقدار الخاص الذي يدعيه هو، ولم تقع على المقدار الذي يدعيه
العامل، وقال العامل: إن الجعالة صدرت على ما يدعيه هو ولم تصدر بينهما
جعالة على المقدار الذي يزعمه الجاعل، كان ذلك من التداعي، فكل واحد منهما
مدع ومنكر، والحكم في مثل ذلك هو التحالف من الجانبين، فإذا حلف كل واحد
منهما على نفي ما يقوله الآخر سقطت الدعويان معا واستحق العامل على عمله
الذي أتى به أجرة المثل.
وإذا اتفق أن ما يدعيه العامل في أصل دعواه أقل من أجرة المثل التي حكم
بها شرعا، لم يجز له أن يأخذ الزيادة من أجرة المثل على ما يدعيه، فإنه يعترف بأنه
لا يستحقها، وإذا أتفق أن ما يدعيه الجاعل في أصل دعواه أكثر من أجرة المثل
وجب عليه أن يوصل هذه الزيادة إلى العامل، فإنه قد اعترف بأن هذه الزيادة للعامل
وقد استحقها بعمله.
(المسألة 31):
إذا رجعت الدابة الضالة مثلا إلى حظيرة المالك الجاعل أو اصطبله، فقال
61

العامل: إني قد طلبت الدابة وأنا الذي رددتها إليك، فأنا أستحق الجعل المعين
وأنكر المالك ذلك، وقال له: إنك لم تسع، ولم تطلب الدابة الضالة، وقد رجعت الدابة
بنفسها، أو قال له: إن الدابة قد وقعت في يدك من غير طلب ولا كلفة فلا تستحق
على ردها شيئا، فالقول قول المالك مع يمينه، فإذا حلف لم يستحق العامل شيئا.
(المسألة 32):
إذا أنشئت الجعالة على عوض معين وأتى العامل بالعمل، ثم اختلف المالك
والعامل بينهما، فقال أحدهما: إن الجعالة قد وقعت فاسدة وادعى الآخر صحتها
فالقول قول من يدعي الصحة فيها، ومثال ذلك: أن يأتي العامل بالعمل، ثم يدعي
فساد الجعالة ليأخذ على عمله أجرة المثل، وهي أكثر من العوض المسمى له في
الجعالة، أو يدعي المالك فساد الجعالة لتكون للعامل أجرة المثل على عمله وهي
أقل من العوض المسمى، فالقول قول من يدعي الصحة منهما.
62

[الفصل الثالث]
[في التأمين]
(المسألة 33):
التأمين اتفاق خاص يقع بين شخص أو أشخاص معينين من جهة، وشركة أو
مؤسسة معينة كذلك من جهة أخرى، تلتزم الشركة أو المؤسسة المذكورة بموجب
هذا الاتفاق، وتتعهد بأن تعوض ذلك الشخص، أو الأشخاص المعينين عن خسارة
يحتمل وقوعها لذلك الشخص أو الأشخاص، الذين اتفقت معهم من تلف أو
عطب، أو حدوث نقص أو عيب، أو غير ذلك مما يعد خسارة في نفس ذلك
الشخص أو الأشخاص أو أبدانهم أو في نفوس آخرين من متعلقيهم، أو في بعض ما
يملكه الشخص أو الأشخاص من منزل أو عقار أو أثاث أو معامل أو وسائل نقل
حسب ما يتفق عليه الجانبان، وحسب ما تحدده بوليصة التأمين، وتعينه الوثيقة
من أنواع الخسارة وأسبابها.
فإذا حدثت للجانب المتفق معه تلك الخسارة المحددة، فالشركة أو
المؤسسة ملتزمة ومتعهدة بدفع العوض عن الخسارة للجانب المتفق معه إذا كان
موجودا، ولورثته إذا كان مفقودا.
وفي مقابل التزام الشركة أو المؤسسة له بذلك أن يلتزم الجانب الآخر
للمؤسسة أو الشركة بمبلغ معلوم من المال يدفعه إليها مرة واحدة، أو أقساطا على
مقادير ومواعيد يعينها الطرفان، ويوقعان عليها في الوثيقة التي تكتب بينهما.
63

وقد كان هذا الاتفاق في بداءة أمره معاملة قانونية خاصة، ثم شاعت
واعتيدت وتعارفت بين الناس وأهل المعرفة منهم، حتى أصبحت معاملة عرفية
متعارفة بين الناس خاصتهم وعامتهم، ثم كانت معاملة شرعية فإذا جرى الطرفان
في اتفاقهما والتزامها والقيود في المعاملة بينهما، على الموازين الصحيحة
في الشريعة، تناولتها الأدلة والعمومات، من الكتاب والسنة وصحت ونفذت، وقد
ذكرنا التأمين وبعض أحكامه في مبحث التأمين من رسالتنا في المسائل
المستحدثة، فلتراجع.
(المسألة 34):
إذا حدد طلب التأمين والشركة أو المؤسسة المتعهدة به موضوع التأمين
الذي يقصدان ايقاعه بينهما، وعينا الشروط والأقساط والمواعيد لدفعها، أمكن
لهما أن يجريا المعاملة بينهما بصورة هبة معوضة، فيقول طالب التأمين للوكيل
المفوض من الشركة المتعهدة: وهبت الشركة مبلغ كذا من مالي أدفعه لها أقساطا
محدودة في المواعيد المعينة ما بيننا، واشترطت على الشركة أن تقوم بدفع
العوض عن الخسارة أو الخسارات التي قد تحدث لي، والتي قد عيناها ما بيننا في
وثيقة الاتفاق، فيقول وكيل الشركة: قبلت الهبة منك بالوكالة عن الشركة على الشرط
المذكور.
(المسألة 35):
يصح للمتعاملين في التأمين أن يجريا المعاملة بينهما بصورة المصالحة
بعوض، فيقول طالب التأمين لوكيل الشركة أو المؤسسة المفوض منها، بعد ضبط
الشروط والقيود في المعاملة وتعيين الأقساط والمواعيد في دفع المال: صالحتك
64

بحسب وكالتك عن الشركة بمبلغ كذا من مالي، أدفعه للشركة أقساطا في المواعيد
التي اتفقنا عليها، على أن تعوضني الشركة عن الخسارة التي قد تحدث لي حسب
ما حددناه بيننا في الوثيقة، فيقول الوكيل: قبلت المصالحة عن الشركة على الشرط
المذكور.
ويصح أن يبتدئ الوكيل في المعاملة فيقول لطالب التأمين: صالحتك بأن
تتعهد لك الشركة بتعويضك عن الخسارة المعينة إذا حدثت لك، على أن تدفع أنت
للشركة المبلغ المعلوم ما بيننا من مالك، في أقساطه ومواعيده المعينة في الوثيقة
فيقول طالب التأمين: قبلت المصالحة منك على الشرط المذكور.
(المسألة 36):
يصح أن تجري معاملة التأمين بين الجانبين بصورة عقد مستقل عن العقود
والمعاملات الأخرى، وليس تابعا لشئ منها، ويشترط في صحة هذا العقد أن
تجتمع فيه جميع الشروط العامة التي يشترطها الشارع في صحة العقود
والمعاملات الشرعية الأخرى، فلا بد فيه من الايجاب والقبول التأمين الدالين على
المعنى المراد، ويشترط فيه أن يكون كل من الموجب والقابل فيه بالغا عاقلا
رشيدا، غير محجور عليه في تصرفه لسفه أو غيره من موجبات الحجر، وأن يكون
مختارا في فعله غير مكره عليه، وقاصدا لما يقوله وينشئه، فلا يكون سكران، ولا
هازلا، ولا غاضبا غضبا يخرجه عن القصد.
فيقول وكيل الشركة المفوض من قبلها في التصرف لطالب التأمين: أمنت
نفسك مثلا أو أمنت دارك وتعهدت لك بالوكالة عن الشركة بأن تعوضك عن
الأضرار أو الخسارات المعينة في الوثيقة إذا حدثت لك، على أن تؤدي أنت
65

للشركة مبلغا من مالك قدره كذا، تدفعه على الأقساط المعينة
في أوقاتها المعلومة، وفقا للشروط والتحديدات في وثيقة التأمين، فيقول طالب
التأمين: قبلت التأمين لنفسي أو لداري مثلا على الشروط المقررة والحدود
المبينة.
ويجوز أن يكون الايجاب من طالب التأمين فيقول للوكيل: أمنت عند
الشركة نفسي أو أمنت عندها داري مثلا بأن تعوضني الشركة عن الخسارة، أو
الضرر الذي قد يحدث لي في ذلك على أن أدفع للشركة المبلغ المعلوم ما بيننا في
أقساطه ومواعيده، فيقول الوكيل: قبلت ذلك بوكالتي عن الشركة على النهج
المعلوم.
(المسألة 37):
لا يتعين في عقد التأمين أن يقع الايجاب والقبول فيه بلفظ معين، فيكفي في
صحة العقد أن ينشأ الايجاب والقبول فيه بأي لفظ يكون دالا على المعنى
المذكور، وإن كان بغير اللغة العربية إذا أدى اللفظ المعنى المراد في عرف أهل تلك
اللغة، وكان الموجب والقابل عارفين بتلك اللغة.
ويكفي أن يقع الايجاب والقبول بالكتابة، إذا قصد بها انشاء المعنى وقصد
بها ايقاع العقد من كل من الموجب والقابل، ويصح أن يكون الايجاب بالكتابة
والقبول بالتلفظ وبالعكس.
(المسألة 38):
إذا تم عقد التأمين على الوجه المطلوب بين الموجب والقابل وجب على
كل واحد منهما الوفاء بما يقتضيه العقد من لوازم وواجبات وآثار، فهو من العقود
66

اللازمة ولا يجوز لأحد المتعاقدين فسخه والرجوع عنه، إلا إذا تقايل الطرفان
واتفقا باختيارهما معا على فسخه كما في جميع العقود، وإلا إذا كان أحد الجانبين
قد اشترط على صاحبه الخيار لنفسه وقبل صاحبه الشرط منه، فيصح الفسخ
للمشترط، ولا يصح للآخر، أو كان أحدهما قد شرط على الآخر في ضمن العقد
شرطا سائغا، وتخلف ذلك الشرط فلم يف له الجانب الآخر بشرطه، فيثبت له خيار
تخلف الشرط، ومن ذلك ما إذا خالف أحد الطرفين ما التزم به لصاحبه في العقد
فيثبت لصاحبه خيار تخلف الشرط الضمني، وهو ما جرى عليه العقد بينهما، فإن
الشرط الضمني كالشرط الصريح في ذلك.
ومن موجبات الخيار في هذا العقد ما إذا كان أحد المتعاقدين مغبونا في
المعاملة غبنا لا يتسامح العقلاء بمثله فيثبت حق الفسخ للمغبون.
وكذلك الحكم إذا أنشئت المعاملة بين المتعاقدين بصور الهبة المعوضة، أو
بصورة الصلح بعوض، فيكون العقد لازما، ولا يجوز فسخه إلا في الصور المذكورة.
(المسألة 39):
يمكن أن تجري معاملة التأمين بين الطرفين بصورة الجعالة، إذا تحققت في
المعاملة مقومات الجعالة، ومنها: أن يقوم العامل للجاعل ببعض الأعمال التي
تتعلق بالتأمين الواقع بينهما، ليكون العوض الذي يلتزم به الجاعل في مقابلة ذلك
العمل الذي يأتي به العامل.
فإذا كان التأمين على الحياة أو على الصحة، اشترط الجاعل على الشركة
المؤمنة أن تضع له مثلا منهاجا للأكل والشرب، أو تصف له وصفات من
العلاجات النافعة ضد الأمراض والعوارض التي يجدها.
67

وإذا كان التأمين على حفظ مال جعلت له حراسا ومراقبين ضد السرقة
والحوادث التي قد تعرض للمالك.
وإذا كان التأمين على أجهزة آلية أو معامل أو وسائل نقل عينت له عمالا
تكشف على الآلات المؤمنة في بعض الفترات من الزمان، وتصلح منها ما يحتاج
إلى الاصلاح، وهكذا، فيكون قيام الشركة بمثل هذه الأعمال جزءا من منهاج
التأمين، ويكون اشتراط ذلك بعضا مما تنشأ عليه المعاملة.
فإذا أراد الطرفان إجراء المعاملة على هذا الوجه قال طالب التأمين لوكيل
الشركة: إذا تعهدت الشركة لي بالتعويض عما يصيبني من الأضرار والخسارات
في نفسي مثلا أو في صحتي أو في مالي وقامت بوضع المناهج والأعمال التي
اشترطتها عليها، فلها عندي كذا مبلغا من المال ادفعه لها أقساطا، في المواعيد
الخاصة المقررة بيننا.
(المسألة 40):
إذا وقعت الجعالة بين طالب التأمين والشركة المتعهدة له وفق ما أوضحناه
من الشروط صحت الجعالة وترتبت عليها آثارها وأحكامها، وقد سبق منا أن
الجعالة من الايقاعات الجائزة، فيجوز لكل من الطرفين فسخها وترك الالتزام بها.
68

[كتاب العارية]
69

[كتاب العارية]
والبحث في هذا الكتاب يقع في ثلاثة فصول:
[الفصل الأول]
[في العارية وما يشترط في صحتها]
(المسألة الأولى):
العارية هي أن يسلط الانسان أحدا غيره على عين يملكها، أو هو يملك
منفعتها خاصة لينتفع ذلك الغير بتلك العين الذي سلطه عليها مجانا من غير عوض
أو هي عقد بين الطرفين يثمر التسليط المذكور، ولا ريب في أن العارية من الأمور
الواضحة في معناها عند أهل العرف المعلومة في مصاديقها، ووضوح أمرها في
ذلك يغني عن إطالة القول فيها.
وعلى أي حال فليس من العارية أن يأذن الرجل لمن يدخل منزله مثلا من
الضيوف والأصدقاء والأقارب، بأن ينتفع هذا الداخل بالأعيان الموجودة في الدار
فيجلس على الفرش أو على الأرائك ويستند إلى الجدران أو المساند وينام على
الفرش أو يلتحف بالملاحف ونحو ذلك، بل وليس من العارية عرفا أن يقدم
صاحب الدار لبعض ضيوفه أو أصدقائه القادمين إليه بعض الفرش الخاصة
والمتكئات ونحوها بقصد التكريم، أو لينام عليها في وقت حاجته إلى النوم
71

والراحة، وأكثر من ذلك وضوحا ما يقدمه إلى الضيف أو الصديق أو القريب من
المآكل والمشارب، فلا يعد ذلك من العارية للانتفاع به في أنظار أهل العرف. وإنما
هو إباحة له بغير عوض.
نعم، قد يحتاج الضيف أو الصديق في دار الرجل إلى ابدال بعض الملابس
أو الأحذية ونحو ذلك، فإذا دفع صاحب الدار إليه ذلك لينتفع به كان من العارية
عرفا وإن دفعه إليه بقصد التكريم.
(المسألة الثانية):
العارية عقد من العقود بين المعير صاحب المال والمستعير، فلا بد فيها من
الايجاب والقبول كسائر العقود، ويكفي في الايجاب أن ينشأ بأي لفظ يدل على
المعنى الذي بيناه دلالة ظاهرة يفهمها أهل اللسان، ومن أمثلة ذلك: أن يقول
المالك لصاحبه: أعرتك داري هذه لتسكنها أيام إقامتك في البلد، أو يقول له:
أحمل إلى بيتك هذه المبردة أو هذه الثلاجة لتنتفع بها في أيام الصيف من هذا العام
أو يقول له: خذ هذا الكتاب لتقرأه أو هذا الثوب لتلبسه، أو يقول له: انتفع بهذه الأمة
لتقوم بخدمتك أيام إقامتك هنا.
ويكفي في القبول كذلك أي لفظ يكون دالا على الرضا بأخذ العين المعارة
والانتفاع بمنافعها، فيقول المستعير للموجب بعد ايجابه: قبلت أو رضيت، أو
يقول له: أشكر لك هذا التفضل، ويكفي فيه أن بأخذ العين المعارة بقصد انشاء
الرضا بالعارية، ويصح انشاء الايجاب والقبول كليهما بالمعاطاة من الجانبين
فيدفع المالك إلى صاحبه الثوب أو الكتاب أو المتاع بقصد انشاء العارية، ويأخذه
القابل منه، ويستعمله في حوائجه بقصد القبول وانشاء الرضا بها.
72

(المسألة الثالثة):
يشترط في صحة العارية أن يكون المعير بالغا، فلا تصح إعارة الصبي غير
البالغ وإن كان مميزا وأذن له وليه على الأحوط، وإن كان الأقرب صحة إعارته في
هذا الفرض، فإذا أذن له وليه بأن يعير صاحبه أو قريبه بعض أمواله المعينة، مع
وجود المصلحة له بذلك، صحت إعارته إذا كان مميزا، وأولى من ذلك بالصحة أن
ينشئ عقد العارية لمال غيره إذا كان مميزا، وأذن له مالك المال بإعارة ماله، وأذن
له وليه الشرعي بأن ينشئ له صيغة العارية.
ويشترط في صحتها أن يكون المعير عاقلا، فلا تصح إعارة المجنون لماله
ولا لمال غيره وإن كان مميزا، ويشترط في صحتها أن يكون المعير مختارا، فلا
تصح إعارته إذا كان مكرها، وأن يكون قاصدا، فلا تصح من الهازل والسكران
والغاضب إذا فقد القصد، وأن يكون غير محجور عليه، فلا تصح من السفيه ولا
المفلس، وتصح إعارة السفيه إذا أنشأها بإذن وليه، وإعارة المفلس إذا أذن له
الغرماء بإعارة بعض ما تتعلق به حقوقهم.
(المسألة الرابعة):
لا يشترط في صحة العارية أن يكون المعير ملكا للعين والمنفعة كليهما
ويكفي في صحتها أن يكون مالكا للمنفعة وحدها، بحيث يكون نافذ التصرف فيها
فيمكن له أن يتبرع بها لغيره، وأن يسلط غيره على العين ليستوفي المنفعة، ومثال
ذلك: أن يكون قد استأجر العين من مالكها ليستوفي منفعتها استيفاءا مطلقا لنفسه
أو لغيره إذا شاء ومن أمثلة ذلك: أن يكون المالك قد أوصي له قبل موته بمنفعة
العين، وأطلق له في الوصية أن يستوفي المنفعة الموصى بها كيفما يشاء ولو
73

بالتبرع بها لغيره، فيصح له في أمثال هذه الفروض أن يعير العين لغيره ليستوفي
منفعتها المملوكة له وإن لم يملك العين ذات المنفعة.
ولا تصلح العارية إذا كان المعير غاصبا للعين، أو كان غاصبا للمنفعة، وإن
كان مالكا شرعيا للعين نفسها، ومثال ذلك: أن يؤجر المالك داره من غيره، ثم
يغصب المنفعة من المستأجر، ويستولي عليها ظالما.
ولا يصح للمستأجر أن يعير العين المستأجرة لغيره، إذا كان المالك
المؤجر قد اشترط عليه في ضمن العقد أن يستوفي منفعة العين بنفسه ولا يتبرع بها
لغيره، ومثله الحكم في المنفعة الموصى لها للرجل إذا كان المالك الميت قد
اشترط في الوصية على الموصى له بالمنفعة أن يستوفيها بنفسه ولا يتبرع بها لغيره
فلا يجوز له أن يعيرها إلى أحد سواه.
(المسألة الخامسة):
يصح لولي الصبي أن يستعير له عارية من أحد إذا كان الصبي قابلا للانتفاع
بها، وقادرا على حفظ العين المعارة، وصونها من التلف والعيب، أو كان الولي
نفسه أو وكيله هو الذي يقوم بذلك، فيستعير للصبي ثوبا ليلبسه وأدوات منزلية
وأثاثا لينتفع به، ومبردة أو مدفئة لتقيه الحر أو البرد، بل ويستعير له كتابا للقراءة إذا
كان ممن ينتفع بمثل ذلك.
ويجوز لولي المجنون أن يستعير له ما يمكنه الانتفاع به من الأشياء والمراد
في الفرضين أن تكون العارية للصبي وللمجنون نفسهما لا للولي المستعير ويصرف
المنفعة عليهما، وعلى أي حال فلا ينبغي الريب في صحة الجميع مع المحافظة
على مال الغير.
74

ولا يصح للصبي أن يستعير لنفسه إلا إذا كان مميزا وأذن له وليه بذلك، مع
وجود المصلحة له بها، ولا تصح استعارة المجنون لنفسه وإن أذن له وليه
بالاستعارة، لأنه مسلوب العبارة فلا يترب على قوله أثر.
(المسألة السادسة):
يشترط في صحة العارية أن يكون الشخص المستعير أهلا للتسلط على
العين المستعارة والانتفاع بها في نظر أهل العرف، وفي حكم الاسلام، فلا تصح
العارية إذا كان آخذها ليس أهلا لذلك، كالعامي القليل المعرفة يستعير بعض الكتب
الدقيقة في العلوم والفلسفات، أو يستعير بعض الأجهزة العلمية التي لا يمكنه
استعمالها والإفادة منها.
ومن أمثلة هذه المسألة أن يستعير الكافر مصحفا أو عبدا مملوكا مسلما فلا
تصح هذه العارية لأن الكافر ليس أهلا للتسلط على المصحف، ولا على المملوك
المسلم والانتفاع بهما في حكم الاسلام، ومن أمثلتها أن يستعير المحرم بالحج أو
بالعمرة صيدا بريا من أحد، فلا تصح استعارته فإن المحرم لا يجوز له التصرف ولا
الانتفاع بصيد البر في حكم الشريعة ما دام محرما، سواء كان من أعاره الصيد
محرما أم محلا.
(المسألة السابعة):
يعتبر في صحة العارية أن يكون الشخص الذي يجري معه عقد العارية
معينا، فلا تصح إذا أجريت لشخص مردد بين اثنين أو أكثر، فيقول مالك العين لزيد
وعمرو: أعرت داري لأحدكما، أو يقول: أعرت هذه العين لأحد هذين
الشخصين، أو لأحد هؤلاء الرجال، فلا تصح عاريته، سواء قبلوا جميعا منه العقد
75

أم قبله بعضهم أم لم يقبله أحد منهم، وإذا قبل العقد أحدهم فدفع المالك له العين
بعد قبوله جاز له أن ينتفع بها، وكان ذلك من الإباحة له بغير عوض، ولم يكن من
العارية المصطلحة، لبطلان العقد الذي أنشأه.
(المسألة الثامنة):
تصح إعارة عين واحدة لأكثر من مستعير واحد، ومثال ذلك: أن يقول مالك
العين لزيد وعمرو: أعرتكما هذا الكتاب شهرا، أو يقول: أعرت داري المعلومة
لزيد وإخوانه يسكنون فيها سنة تامة، أو يقول، أعرت هذه العين لهؤلاء الطلاب
العشرة لينتفعوا بها.
فإذا كانت العين المعارة مما يمكن أن يشترك المستعيرون في الانتفاع بها
كالدار إذا كانت صالحة لسكني الجميع وكالمبردة والمدفئة إذا أمكن لهم أن
ينتفعوا بها جميعا في وقت واحد، اشتركوا فيها إذا شاؤوا، وإذا لم يمكن الاشتراك
في الانتفاع بالعين تناوبوا في الانتفاع بها، أو اقترعوا عليه، أو تراضوا في ما بينهم
على الانتفاع كما يشاؤون.
(المسألة التاسعة):
يشترط في صحة العارية أن تكون العين التي يراد إعارتها مما يمكن
للمستعير أن ينتفع بها مع بقاء عينها، كالأراضي والمساكن والعقارات والأثاث
والأمتعة والآلات والأواني والأدوات والثياب والأجهزة والكتب والحلي
ووسائل النقل والحيوان، وأمثال ذلك مما يندرج في الكبرى التي ذكرناها، وأن
يكون الانتفاع الذي يمكن حصوله منها والذي تقع المعاملة بين الطرفين بقصده
انتفاعا محللا في الاسلام.
76

فلا تصح إعارة العين إذا كانت مما لا يمكن الانتفاع إلا باتلاف عينها
كالطعومات والمشروبات، وكالصابون مثلا وكالحطب والنفط والغاز مما لا ينتفع
به إلا باشعاله وحرقه ووقده ولا تصح إعارة العين إذا كانت المنفعة التي يمكن
استيفاؤها منها غير محللة في الاسلام، ومن أمثلة ذلك: آلات اللهو وآلات الحرام
وقد فصلنا ذكر ذلك في المسألة الحادية عشرة من كتاب التجارة، ومن أمثلته أيضا:
أواني الذهب والفضة على ما هو الأحوط من المنع لزوما عن الانتفاع بها مطلقا وقد
ذكرنا هذا في المسألة الرابعة عشرة من الكتاب المذكور.
(المسألة العاشرة):
تجوز إعارة الفحول من الحيوان: الإبل والبقر والغنم وغيرها من أنواع
الحيوان وأصنافه للانتفاع بها في ضراب الإناث منه، وتجوز إعارة الكلاب
للانتفاع بها في الصيد والحراسة في المنزل أو في البستان أو مع الغنم، وتجوز
إعارة الهرة لقتل الفأر ونحوه.
وتجوز إعارة الشاة والمعزاة والبقرة والناقة لينتفع المستعير بلبنها
وصوفها ووبرها، وتجوز إعارة البئر للاستقاء من مائها، بل وتجوز إعارة النخلة
والشجرة للانتفاع بثمرها، وإن كانت هذه المنافع أعيانا، وكان الانتفاع بها باذهاب
عينها فإن العين المستعارة باقية وإن ذهبت المنفعة.
(المسألة 11):
تصح إعارة العبد المملوك أو الجارية المملوكة لينتفع بها المستعير في
خدمة وحراسة ونحوهما، ولا تصح إعارة الجارية للانتفاع بها في استمتاع فإن
الاستمتاع بالأمة لا يجوز للرجل في الاسلام إلا بالزواج بها أو بتملكها ملك يمين
77

بأحد الأسباب الشرعية المملكة لها، أو بتحليل المالك إياها، وليس منه أن يعيرها
المالك له، أو يؤجرها لهذه الغاية، ولا فرق في الاستمتاع بالأمة بين الوطي وغيره
في الحكم المذكور.
وإذا أعار الأمة مالكها للخدمة جاز للمستعير استخدامها كما قلنا، ولم يجز
له أن ينظر إلى المواضع المحرمة عليه من جسدها، ولا أن يلمسها أو تلمس شيئا
من جسده.
وكذلك الحكم في الأعيان المملوكة الأخرى، فإذا كانت للعين منفعة أو
منافع محللة في الاسلام، ومنفعة أو منافع أخرى محرمة فيه، فيجوز للمالك إعارة
العين لينتفع بها المستعير بالمنفعة المحللة وتنفذ هذه العارية وتترتب عليها
آثارها، ولا يجوز له أن يعيرها لأحد للانتفاعات المحرمة.
وإذا هو أعارها لينتفع بها المستعير بجميع منافعها، أو أعارها على
نحو الاطلاق، صحت العارية للانتفاع بما يحل من المنافع، وبطلت في ما
يحرم.
(المسألة 12):
لا يشترط في صحة العارية أن تكون العين معينة في وقت انشاء صيغة
العارية، فإذا طلب الرجل من المالك إحدى دوابه ليسافر عليها إلى مقصده، فقال له
بقصد الانشاء: أدخل الإصطبل وخذ منه أي دابة تختارها لسفرك، فأخذ واحدة
منها بقصد الاستعارة، صحت العارية لتلك الدابة، وكذلك إذا قال المالك ابتداء
للرجل: أعرتك إحدى السيارتين لتسافر فيها، فأخذ إحداهما بقصد القبول، أو قال
له: أعرتك أحد هذه الثياب لتلبسه، أو خذ أحد هذه الملاحف لتلتحف به في أيام
78

البرد، فقال المستعير: قبلت، صحت العارية، ويجوز للمالك أن يعين له بعد انشاء
الصيغة منها ما يشاء، بل يجوز للمستعير أن يختار منها ما يشاء إذا كان إذن المالك
عاما لذلك.
(المسألة 13):
إذا كانت العين التي يريد مالكها أن يعيرها للرجل ذات منفعة واحدة بحسب
العادة المتعارفة بين الناس، كالبساط والطنفسة والسجادة، فإن منفعتها المتعارفة
بين الناس واحدة وهي الافتراش لها، وكالثوب فإن منفعته المعروفة هي اللبس
وحده، وكالكساء والملحف فمنفعتهما هي الالتحاف خاصة، فإذا كانت منفعة
العين واحدة كذلك، كفى في صحة العارية أن يقول مالك العين للمستعير: أعرتك
هذه العين لتنتفع بها، ولم يجب عليه أن يعين له جهة الانتفاع، فإن اطلاق العارية
في هذه الموارد ينصرف إلى تلك المنفعة الواحدة المتعارفة، ولذلك فيجب على
المستعير أن يقتصر على تلك الجهة الواحدة المتعارفة ولا يتعداها، فلا يلتحف
بالخيمة مثلا، أو يستظل بالبساط أو الطنفسة، أو يتقي بهما من المطر.
وإذا أراد استعارة العين لوجه من الانتفاع بها غير ما هو المتعارف بين الناس
فلا بد من التعرض لذكر المنفعة التي يريدها، ومثال ذلك أن يعير المالك البساط أو
الطنفسة أو السجادة أو الكساء للرجل لينتفع بالعين، والمستعير يريد من الانتفاع
أن يرهنها عند أحد على دين لذلك الشخص عليه، أو ليرسله نموذجا إلى نساج
لينسج له على طرازه، أو إلى خياط ليخيط له على شكله، فعليه أن يذكر المنفعة
الخاصة التي يقصدها، فإن الانتفاعات المذكورة نادرة لا يحمل اللفظ عليها إلا مع
القرينة الدالة على الإذن فيها.
79

(المسألة 14):
إذا كانت العين التي تراد إعارتها ذات منافع عديدة، كالدار مثلا فإنه يمكن
لمن يستعيرها أن ينتفع بها مسكنا له ولعياله، ويمكن له أن يتخذها مقرا خاصا
لنزول ضيوفه الوافدين إليه، وأن يجعلها مخزنا لبضائعه أو معرضا لها، وأن يصيرها
معملا أو موضعا لاستراحة عمال، وكالأرض الفارغة، فإن المستعير يستطيع أن
ينتفع بها مزرعة لخضروات أو حبوب، أو مغرسا لنخيل أو شجره أو ينتفع بها في
بناء، وكالدابة يمكن له أن يستخدمها في ركوب وفي حمل أمتعة وفي حراسة
أرض وفي السقاية من بئر أو نهر، فإذا كانت العين متعددة المنافع، فقد يريد المعير
والمستعير إعارة العين لاستيفاء منفعة مخصوصة منها، أو لمنافع معينة من جملة
منافعها، وفي هذه الصورة لا بد لهما من تعيين المنفعة أو المنافع المقصودة
وذكرها في عقد العارية، فيقول المالك للمستعير: أعرتك الدار لتسكنها مثلا، أو
أعرتك الأرض لتزرعها، أو أعرتك الدابة لتركبها في تنقلاتك، أو لتسقي الزرع
عليها، وإذا عينت للعين منفعة أو منافع خاصة لم يجز للمستعير أن يتعدى ما عين
له، وينتفع بسواها.
وقد يقصد المالك أن ينتفع المستعير بجميع الانتفاعات المتعارفة من
العين، وفي هذه الصورة يجوز للمالك أن يذكر الانتفاعات كلها على وجه العموم
والشمول لها جميعا، فيقول للمستعير: أعرتك هذه العين لتنتفع بها بأي منفعة
تحتاج إليها، أو تريدها من المنافع المحللة المتعارفة جميعا.
ويصح له أن ينشئ صيغة العارية مطلقة غير مقيدة: فيقول للمستعير:
80

أعرتك هذه العين، أو يقول له: أعرتك العين لتنتفع بها، وفي كلا الفرضين يباح
للمستعير أن ينتفع بالعين في أو وجه يحصل له من وجوه المنافع المتعارفة لها.
(المسألة 15):
من المنافع التي قد تحصل من العين المستعارة ما يكون خفيا غير متعارف
ولا معتاد بين الناس، وهو من أجل هذا الخفاء فيه لا يندرج في العموم الذي يذكره
مالك العين عند إباحة جميع منافعها للمستعير، إلا إذا كان العام صريحا تام
الصراحة في شموله لذلك الفرد، ولا يشمله اطلاق الصيغة حين يأتي بها مطلقة غير
مقيدة، أو يشك في شمول العموم أو الاطلاق له من أجل خفائه، ولذلك فلا يجوز
للمستعير أن ينتفع بمثل هذه المنفعة الخفية من العين، اعتمادا على العموم أو
الاطلاق الذي يذكره مالك العين، وإن كانت من جملة منافع العين بلا ريب.
ومن هذه المنافع الخفية: دفن الميت في الأرض المستعارة ومواراته فيها
فإنه من بعض منافعها كالزرع فيها والغرس والبناء، ولا يشمله الاطلاق والعموم
كما ذكرناه ومن المنافع الخفية: أن يرهن المستعير العين التي استعارها عند أحد
على دين له في ذمته، فإذا أراد المالك أن يبيح للمستعير مثل هذه الانتفاعات الخفية
من العين فلا بد له من ذكره، والنص عليه بالخصوص، ولا يكتفي بالعموم أو
الاطلاق.
81

[الفصل الثاني]
[في بعض أحكام العارية]
(المسألة 16):
العارية عقد يتقوم بالإذن من مالك العين في أول حدوث العقد، وفي
استمراره وبقائه بين الطرفين، ولذلك فإذا زال إذن المالك للمستعير بالتصرف
والانتفاع بالعين زالت العارية وانفسخ عقدها، وثمرة هذا العقد كما ذكرنا في
أول الكتاب هي أن يتسلط المستعير على العين المستعارة، وأن يباح له الانتفاع
بمنافعها التي حددها له المالك.
والمعنى الواضح لذلك: أن العارية عقد جائز من جهة مالك العين، فيجوز له
أن يرجع عن إذنه للمستعير في أي وقت يشاء، فيزول بذلك العقد ما بينهما، وأن
العارية جائزة من جهة المستعير أيضا، فيباح له أن يدع العين المستعارة، ويترك
الانتفاع بها في أي وقت يشاء فيرتفع العقد بذلك.
وهذا إذا لم يحدث في العين وهي في يد المستعير ما يمنع المالك من
الرجوع عن إذنه، كما في بعض الفروض الآتي ذكرها، فإذا حدث مثل ذلك المانع
لم يجز للمالك أن يرجع عن أذنه للمستعير، ويكون عقد العارية باقيا ما دام ذلك
المانع موجودا، وليس معنى ذلك أن العارية أصبحت لازمة بسبب عروض هذا
82

المانع بعد أن كانت جائزة قبل وجوده، بل هي لا تزال على حكمها من الجواز
وعدم اللزوم، فإذا اتفق زوال المانع كان للمالك الرجوع فيها.
(المسألة 17):
يجوز لمالك الأرض أن يعير أرضه لأحد ليدفن فيها ميتا، وقد أشرنا إلى هذا
الفرض في المسألة الخامسة عشرة، فإذا هو أعار الأرض لهذه الغاية، ودفن
المستعير فيها ميتا في الاسلام تعلق للميت حق شرعي بموضع دفنه من الأرض
حرم نبشه واخراجه من الأرض على الأحوط، إن لم يمكن تحريم ذلك هو الأقوى
ولذلك فيكون الأحوط لزوما لمالك الأرض إذا أعارها لهذه الغاية أن لا يرجع في
إذنه وإعارته للأرض بعد مواراة الميت المسلم فيها، نعم، يجوز له الرجوع عن إذنه
قبل أن يدفن الميت، وإن حفر القبر في الأرض، ويجوز له الرجوع كذلك إذا نبش
أحد قبر الميت بعد دفنه في الأرض، وأخرجه منه، فلا يجوز دفنه فيها ثانيا إلا بإذن
من المالك.
وإذا أعار المالك الأرض لهذه الغاية وحفر القبر فيها ووضع الميت في
القبر، فهل يجوز للمالك أن يرجع عن إذنه ويفسخ العارية ويمنع الدفن قبل أن
يوارى الميت في القبر؟. فيه اشكال.
(المسألة 18):
يصح للمالك أن يعير أرضه الفارغة لأحد ليغرس المستعير لنفسه في
الأرض شجرا أو نخيلا ينتفع بها، أو ليبني له بناءا يسكنه، ولا ريب في جواز رجوع
المالك في عاريته للأرض قبل أن يغرس المستعير فيها غرسا أو يبني فيها شيئا
وإذا رجع المالك بها قبل الغرس أو البناء يجوز للمستعير أن ينتفع بها بعد رجوعه.
83

والظاهر جواز رجوع المالك في العارية أيضا بعد أن يغرس المستعير في
الأرض غرسه، أو يبني فيها بناءه، وإذا رجع المالك بعارية الأرض في هذه الصورة
وفسخها، فهل يجوز له أن يلزم المستعير بأن يقلع ما غرسه في الأرض ويزيل ما
بناه فيها، من غير أرش يلزم المالك لذلك؟ أو يحق له أن يلزم المستعير بإزالة
غرسه وبنائه من الأرض، وعليه أن يدفع المستعير أرش ما يزيله من ذلك؟. أو لا
يحق له أن يلزمه بشئ من ذلك، وخصوصا إذا بذل المستعير له أجرة المثل
لأرضه، ليبقى الغرس والبناء فيها؟. يشكل الحكم بشئ من ذلك، ولا يترك
الاحتياط بالتراضي والمصالحة بينهما.
وكذلك الحال إذا أعار المالك أرضه للزراعة فزرع المستعير فيها، ثم رجع
المالك بعاريته قبل أن يدرك الزرع ويبلغ أوانه، فيجري فيها الاشكال والاحتياط
الذي ذكرناه.
(المسألة 19):
إذا أعار مالك الأرض أرضه لينتفع بها المستعير بالغرس والبناء، فزرع فيها
نخيلا أو شجرا أو بنى فيها بناءا، فالشجر والنخيل والبناء الذي أحدثه في الأرض
ملك له، فيجوز له أن يبيعه على صاحب الأرض فيكون الجميع ملكا له، ويجوز
لمالك الأرض أن يبيع أرضه على المستعير، فيصبح الجميع ملكا له، ويجوز
للمستعير أن يبيع ما غرسه وما بناه في الأرض على شخص ثالث، إذا أذن له مالك
الأرض بذلك، فإذا أذن له المالك فباع الغرس والبناء على غيره كان المشتري
بمنزلة المستعير وقام مقامه، فإذا رجع المالك بإذنه وفسخ العارية جرت الأحكام
التي ذكرناها للمستعير على المشتري، وقد بيناها في المسألة السابعة فلتلاحظ.
84

(المسألة 20):
قد يستعير الرجل عينا أو أعيانا متعددة من مالكها ليجعلها المستعير رهنا
عند أحد على دين لذلك الشخص في ذمته، وقد ذكرنا هذا في المسألة الثالثة عشرة
والمسألة الخامسة عشرة، ولا ريب في صحة العارية لذلك، وفي صحة الرهن بعد
أن أذن له المالك بهذا الانتفاع.
ويجوز لمالك العين أن يطالب المستعير بأن يفك رهانة العين عند انتهاء
مدة الدين الذي عليه وحلول وقت وفائه، وذهب بعض الفقهاء إلى جواز مطالبته
بفك رهانة العين قبل حلول وقت الدين، وعلى أي حال فلا يبطل رهن العين
المستعارة بانتهاء المدة، ولا بمطالبة مالك العين بفك رهانتها.
(المسألة 21):
إذا حل وقت دين الدائن الذي يملكه في ذمة المستعير، ولم يفك المستعير
رهانة العين ولم يف بالدين، جاز بيع العين المرهونة ووفاء الدين بثمنها، وإذا
بيعت العين كذلك كان المستعير ضامنا لمالك العين، فإذا اختلف ثمنها الذي بيعت
به عن قيمة مثلها في السوق كان المستعير ضامنا لمالك العين أكثر الأمرين منهما.
(المسألة 22):
يجوز لمالك العين المستعارة أن يوقع عاريته مطلقة غير محدودة الوقت
فيقول للمستعير: أعرتك هذه الدار لتسكن فيها، أو أعرتك هذا البستان لتأكل ثمره
فإذا أنشأ الصيغة مطلقة كذلك جاز للمستعير أن ينتفع بالعين مطلقا، فيسكن الدار
ويأكل ثمر البستان حتى يموت المالك أو يرجع عن إذنه في الانتفاع ويفسخ
العارية، ويجوز للمالك أن يجعل عاريته مقيدة في مدة معينة، فيقول للمستعير:
85

أعرتك هذه العين تنتفع بها شهرا أو سنة كاملة، وإذا قيد المالك عاريته كذلك فلا
يباح للمستعير أن ينتفع بالعين بعد انقضاء المدة، لارتفاع الإذن وانفساخ العارية.
(المسألة 23):
العارية كما قلنا أكثر من مرة معاملة تتقوم في حدوثها وفي بقائها بإذن
المالك المستعير في التصرف في العين، وتسليطه عليها وعلى الانتفاع بمنفعتها
ومن النتائج الواضحة لذلك: أن تبطل العارية وينفسخ عقدها بموت مالك العين
فلا يحل للمستعير بعد موت المالك أن يتسلط على العين المستعارة وينتفع بها
وإن كان المالك قد أطلق العارية ولم يجعل لها أمدا ووقتا محددا أو جعل لها مدة
طويلة بل وحتى إذا أجاز له بالقول الصريح في الصيغة أن ينتفع بالعين بعد موته
فقال له: أعرتك هذه الدار لتسكن فيها حتى إذا مت قبلك، إلا أن يرجع ذلك إلى
الوصية له بسكنى الدار والانتفاع بها بعد الموت، فإذا علم بذلك، أو دلت القرائن
الحافة على إرادته صحت الوصية ولزم العمل بها وكان ذلك من الوصية بالمنفعة له
لا من العارية بعد الموت.
وتبطل العارية كذلك إذا زالت سلطنة المالك عن العين، ومثال ذلك: أن
يبيع المالك العين التي أعارها أو ينقلها إلى ملك مالك آخر بهبة أو صلح أو غيرهما
من العقود أو الايقاعات المملكة، أو يزول سلطانه على العين بعروض جنون
ونحوه، فتبطل العارية بذلك.
وتبطل العارية بموت الشخص المستعير، فلا تنتقل إلى وارثه من بعده، ولا
يجوز للوارث الانتفاع بها إلا إذا أذن له مالك العين.
(المسألة 24):
86

إذا حدد مالك العين للمستعير نوعا خاصا من أنواع المنفعة أو صنفا من
أصنافها، أو وجها من وجوهها، أو قيد انتفاعه بقيد من الزمان أو المكان أو غيرهما
وجب على المستعير أن يتقيد بذلك الحد أو القيد ويلتزم به ولا يتعداه، فإذا قال له
مثلا: أعرتك الدار لتسكن فيها أنت وزوجتك فاطمة، لم يجز له أن يسكن فيها
زوجته الثانية، وإذا أعاره السيارة ليسافر بها إلى كربلاء لم يجز له أن يسافر بها إلى
الحلة، أو إلى بلد آخر، وإن كان ما انتفع به أدنى مسافة وأقل ضررا، وإذا أعاره
السيارة ليسافر بها نهارا لم يجز له السفر بها ليلا، وبالعكس.
ويجب على المستعير أن يقتصر في انتفاعه بالعين المستعارة على ما جرت
به العادة المتعارفة بين الناس لمثل تلك العين، فلا يحمل على الحيوان المستعار
أكثر مما يعتاد حمله لمثله، ولا يحمل في السيارة غير ما يصلح لحمولته من
الأشياء ولا أكثر منه، ولا يسكن في المنزل أكثر مما يعتاد للسكنى فيه ولا غير ما
يصلح له.
(المسألة 25):
إذا تعدى المستعير ما حدده له مالك العين من الانتفاع وما ذكره في المعاملة
من قيود كان غاصبا آثما في تصرفه، وضامنا لما استوفى، فإذا هو استوفى منفعة
أخرى غير ما عين له مالك العين ضمن له أجرة المثل للمنفعة التي استوفاها، وإذا
زاد في الحمل أو في المسافة أو في كيفية الاستيفاء للمنفعة عن المقدار المتعارف
منها وجب عليه أن يدفع لمالك العين أجرة المثل لتلك الزيادة التي زادها.
(المسألة 26):
إذا أعار المالك أحدا أرضه للغرس أو للبناء أو للزرع فيها، جاز للمستعير
87

أن يدخل الأرض ليتصرف ويعمل وينتفع بالأرض حسب ما أباح له المالك، وجاز
أن يدخل الأرض معه من يحتاج المستعير إلى مساعدته في عمله من الحراث
والعملة وأشباههم، فإن أذن المالك يشمل هؤلاء عرفا ويشمل الاجراء الذين
يحتاج إليهم عادة في جميع حاصل الزرع والغرس ونقله وأمثال هؤلاء، إلا أن
يكون مالك الأرض قد اشترط عليه غير ذلك فيتبع شرطه.
(المسألة 27):
إذا قبض المستعير العين المستعارة بإذن مالكها لينتفع بها أصبحت أمانة من
المالك بيده، فإذا اتفق أن تلفت العين أو سرقت أو نقصت أو حدث فيها عيب، من
غير تعد من المستعير في الاستيلاء عليها ولا في الانتفاع بها، ولا تفريط في
المحافظة عليها ورعايتها، فلا ضمان عليه لشئ مما حدث، إلا إذا كان المالك قد
شرط عليه في عقد العارية أن يكون ضامنا عند التلف أو النقص أو التعيب في
العين، أو كان المستعير قد اشترط ذلك على نفسه، فإذا شرط ذلك أحدهما في
ضمن العقد وجرى عليه الايجاب والقبول كان المستعير ضامنا لما يحدث في
العين، وإن لم يحصل منه تعد ولا تفريط.
(المسألة 28):
إذا كانت العين التي استعارها الرجل من مالكها ذهبا أو فضة ثم تلفت أو
سرقت أو نقصت أو حدث فيها عيب، فالمستعير لها ضامن لما حدث فيها من
ذلك، سواء شرط عليه الضمان في عقد العارية أم لم يشترط عليه ذلك.
ويستثنى من هذا الحكم ما إذا شرط في العقد أن لا يكون المستعير ضامنا
لما يحدث من ذلك فيتبع الشرط، ولا فرق في الأحكام المذكورة في هذه المسألة
88

بين أن تكون العين المستعارة من الذهب أو الفضة المسكوكين وغير المسكوكين.
(المسألة 29):
إذا أخذ المستعير العين من مالكها وانتفع بها حسب ما أباح له المالك، وكان
استخدامه للعين وانتفاعه بها بالمقدار المتعارف المأذون فيه من غير تعد ولا
تفريط، واتفق أن حدث في العين نقص أو عيب بسبب هذا الانتفاع المأذون فيه، فلا
ضمان على المستعير لما حدث في العين من النقص أو العيب، ومثال ذلك: أن
يعير خالد عليا دابته أو سيارته ليحمل فيها بعض الأمتعة والأثاث، فإذا حمل
المستعير فيها ما يعتاد حمله ولم يزد على ذلك فأصاب الدابة أو السيارة بسبب
ذلك نقص أو عيب فلا ضمان عليه بذلك، بل ولا ضمان عليه إذا تلفت بسبب ذلك
من غير تعد منه ولا تفريط.
(المسألة 30):
إذا أصاب العين المستعارة نقص أو عيب غير مضمون على المستعير كما
في الفرض المذكور في المسألة السابقة، ثم تلفت بعد ذلك في يد المستعير على
وجه مضمون، كما إذا تعدى المستعير على العين أو فرط في حفظها بعد أن حدث
فيها العيب في المثال المتقدم، وتلفت العين في يده بعد ذلك، كان ضامنا للمالك
قيمة العين يوم تلفت وهي ناقصة أو معيبة، ولا يضمن التفاوت بين قيمتها تامة
وناقصة، أو التفاوت بين قيمتها صحيحة ومعيبة.
(المسألة 31):
المستعير إنما هو منتفع بالعين المستعارة وليس مالكا لمنفعتها، ولذلك
فلا يصح له أن يعير عين التي بيده لشخص آخر، أو يؤجرها عليه، إلا إذا أذن له مالك
89

العين بأن يعيرها لأحد أو يؤجرها عليه، وإذا أذن له المالك بإعارة العين أو بإجارتها
على غيره أصبح وكيلا عن المالك في اجراء العارية أو الإجارة مع الشخص الآخر
فإذا هو أوقع العقد معه صحت عاريته أو إجارته للشخص بالوكالة عن مالك العين
وكانت المعاملة للمالك لا للمستعير نفسه، وكانت هذه المعاملة الثانية التي أجراها
بالوكالة فاسخة لعارية المستعير نفسه من المالك، فلا يجوز له الانتفاع بالعين
بعدها، ويستثنى من ذلك ما إذا أوقع العارية الثانية على نحو التشريك في الانتفاع
بالعين بينه وبين المستعير الثاني، وكان ايقاعه لهذه العارية الثانية بإذن المالك
وبالوكالة عنه، فيجوز لكل منهما الانتفاع بها.
(المسألة 32):
إذا كانت العارية موقتة، بمدة معينة، وانقضت المدة المحدودة لها أو فسخ
المالك عقد العارية أو فسخه المستعير، لم يجز للمستعير أن يتسلط بعد ذلك على
العين، ولم يحل له أن ينتفع بشئ من منافعها، ووجب عليه أن يرد العين إلى
مالكها، أو إلى وكيله المفوض في قبضها، أو إلى ولي أمره إذا كان المالك قاصرا أو
محجورا عليه، ولا يبرأ المستعير من عهدة العين بغير ذلك، فلا يكفيه لبراءة ذمته أن
يفرغ الدار المستعارة، ويخرج منها ما لم يتسلمها المالك أو من ينوب عنه، ولا
يكفيه أن يدخل السيارة التي استعارها إلى الموضع الذي أخذها منه، والذي أعده
مالكها لحفظها، أو يرد الدابة إلى الإصطبل ويربطها فيه، فإذا تلفت العين أو سرقت
أو حدث فيها عيب أو نقص قبل أن يسلمها إلى مالكها أو إلى نائبه كان المستعير
ضامنا لها ولما يحدث فيها.
90

[الفصل الثالث]
[في أحكام أخرى للعارية]
(المسألة 33):
يجوز للرجلين أن يعير كل واحد منهما صاحبه بعض الأعيان التي يملكها
لينتفع صاحبه بالعين مطلقا أو في مدة معلومة على أن تكون لكل واحدة من
المعاملتين بينهما عارية مستقلة بنفسها فلا تكون إحدى العينين عوضا عن
الأخرى، ولا شرطا في إعارتها، ومثال ذلك أن يعير زيد عمرا داره التي يملكها في
النجف ليسكنها عمرو ثم يعير عمرو زيدا داره في الكوفة ليسكنها زيد، وتكون كل
واحدة من العاريتين كما قلنا معاملة بانفرادها، ولا معاوضة بينهما ولا مشارطة.
وإذا أراد المالكان أن تكون إحدى العينين عوضا عن العين الأخرى
أو تكون إحدى العاريتين شرطا في عارية الثانية، فلا يترك الاحتياط في أن تجري
المعاملة ما بينهما بصورة الصلح بعوض، فيصالح زيد عمرا عن سكنى داره في
الكوفة بسكنى دار زيد في النجف، أو تكون المعاوضة والاشتراط بين
المصالحتين، لا أن يكون التعويض في العارية أو بين العاريتين، فإن في صحة ذلك
اشكالا، بل منعا على القول المشهور.
(المسألة 34):
إذا كانت في يد الرجل عين قد غصبها من مالكها، فأعارها أحدا لينتفع بها
91

وكان المستعير يعلم بأنها مغصوبة وليست مملوكة للمعير لم يجز له أخذ العين
ولا الانتفاع بشئ من منافعها، فإذا هو تسلط على العين ووضع يده عليها كان
غاصبا آثما وضامنا للعين ولمنافعها.
ويجوز للمالك الحقيقي للعين أن يستردها إذا كانت موجودة، وأن يأخذ
بدلها إذا كانت تالفة، فيأخذ مثلها إذا كانت مثلية، وقيمتها إذا كانت قيمية، ويتخير
شرعا بين أن يرجع في ذلك على الغاصب الأول وهو المعير فيأخذه منه، وأن
يرجع فيه على الغاصب الثاني وهو المستعير، ويجوز له أيضا أن يأخذ قيمة جميع
المنافع التي استوفيت من العين في أيام غصبها منه، وجميع منافعها التي فاتت
عليه، وإن لم يستوفها أحد، ويتخير في أن يغرم ذلك أي الغاصبين شاء.
فإذا أخذ المالك الشرعي هذه الغرامات من الغاصب الثاني المستعير، وكان
تلف العين وهي في يده، لم يرجع المستعير على الغاصب الأول الذي أعاره بقيمة
العين التالفة ولا بأجرة المنافع التي استوفاها المستعير بسبب العارية، ولا بأجرة
المنافع التي فاتت على المالك في حال تسلط المستعير على العين، وإن لم يستوف
هذه المنافع.
نعم، يحق للمستعير أن يرجع الغاصب الذي أعاره بما غرمه المستعير
للمالك من أجرة المنافع التي استوفاها الغاصب المعير من العين قبل
العارية، وأجرة
المنافع الأخرى التي فاتت على مالك العين في ذلك الوقت وإن لم يستوفها أحد
فإذا كان المالك قد رجع بهذه الغرامات على المستعير وأخذها منه جاز للمستعير
أن يأخذها من الغاصب المعير.
92

وإذا رجع المالك الشرعي بالغرامات كلها على الغاصب الأول المعير، جاز
لهذا أن يرجع على المستعير بما غرمه للمالك من قيمة العين إذا كان تلفها في يد
المستعير، وأن يرجع عليه أيضا بأجرة المنافع التي استوفاها المستعير من العين
في أيام استعارته لها، بل وأجرة المنافع التي فاتت ولم يستوفها أحد في تلك
الأيام، فإن هذه المنافع قد تلفت في يده فيكون ضمانها عليه.
ولا يرجع الغاصب المعير على المستعير بقيمة العين إذا كان تلفها في يد
الغاصب المعير نفسه ولا بقيمة المنافع التي استوفاها هو قبل العارية أو بعدها، ولا
بقيمة المنافع التي فاتت ولم يستوفها أحد في تلك الأيام.
(المسألة 35):
إذا أعار الغاصب العين المغصوبة أحدا، وكان المستعير لا يعلم بأن العين
مغصوبة من مالكها الشرعي لم يأثم المستعير بتسلطه على العين وانتفاعه
بمنافعها، وجاز لمالك العين أن يرجع بقيمة عينه المغصوبة إذا تلفت، وبمنافعها
المستوفاة والفائتة منه غير المستوفاة كما فصلناه في المسألة المتقدمة وفي كتاب
الغصب، ويتخير في ما يستحقه من ذلك، بين أن يرجع فيه على الغاصب الذي أعار
العين، وأن يرجع فيه على المستعير، وإن لم يكن غاصبا بوضع يده على العين ولا
آثما لجهله، فإذا أخذ ذلك من الغاصب المعير، لم يرجع الغاصب على المستعير
بشئ مما غرمه للمالك، وإن كان تلف العين في يده، وإذا رجع به على المستعير
وأخذه منه، جاز له أن يرجع بما غرمه على الغاصب الذي أعاره العين، ويأخذه
منه لأنه قد غره.
(المسألة 36):
93

إذا علم المستعير بأن العين التي أعارها له المعير مغصوبة من مالكها
الحقيقي وجب عليه أن يرد العين إلى مالكها المغصوبة منه، إذا كانت العين لا تزال
باقية في يده، وإن كان جاهلا بالغصب في وقت العارية، ولم يعلم به إلا بعد انقضاء
المدة، ولا يجوز له أن يردها إلى الغاصب الذي أعاره إياها، ولا تبرأ ذمته من عهدة
العين إذا دفعها إليه.
(المسألة 37):
إذا أنشئت العارية بين مالك العين والمستعير على الوجه المطلوب، وقبض
المستعير العين كانت العين أمانة بيده، وقد ذكرنا هذا من قبل، فإذا طلب المالك من
المستعير أن يرد إليه عينه المستعارة فأنكرها المستعير، أو أنكر العارية كان خائنا
وبطلت أمانته، فإذا تلفت العين بعد ذلك في يده، أو سرقت، أو طرأ عليها نقص أو
عيب كان ضامنا لما حدث، ولم يترتب عليه حكم الأمين.
(المسألة 38):
إذا استعار الرجل دابة أو سيارة ليسافر بها إلى موضع معين، فتجاوز ذلك
الموضع في سفره بها كان متعديا، فيلزمه ضمان العين المستعارة إذا تلفت أو عابت
بذلك ويلزمه دفع أجرة المثل لمالكها لما زاد من المسافة على الموضع المعين، ولا
يزول عنه هذا الضمان إذا رجع بالدابة أو السيارة إلى الموضع المعين المأذون فيه
ولا تلزمه أجرة المثل للسفر بها إلى الموضع المعين المأذون فيه قبل التعدي.
(المسألة 39):
إذا طلب مالك العين من المستعير أن يرد إليه العين، فادعى المستعير أن
العين قد تلفت أو سرقت صدق قوله مع يمينه، ولم يثبت عليه ضمان، لأنه أمين
94

ما لم تثبت خيانته أو تعديه أو تفريطه في الأمانة ببينة شرعية، كذلك إذا تلفت العين
في يده فادعى مالك العين أنه قد فرط في حفظ أمانته، أو أنه تعدى ما حدد له في
عقد العارية، وأنه ضامن لتلف العين بسبب تعديه أو تفريطه وأنكر المستعير ما
ادعاه المالك، فالقول قول المستعير مع اليمين.
(المسألة 40):
إذا انقضت مدة العارية أو فسخ مالك العين عقدها أو فسخها المستعير
فطلب المالك منه أن يرد إليه العين، وادعى المستعير أنه قد ردها إليه، وأنكر المالك
الرد قدم قول المالك مع يمينه لأنه منكر، فإذا حلف ألزم الحاكم المستعير بردها
إلى مالكها، فإذا تعذر وجودها ألزمه برد مثلها إذا كانت مثلية، وقيمتها إذا كانت
قيمية.
(المسألة 41):
إذا شرط مالك العين على المستعير في ضمن العقد أن يكون ضامنا للعين، أو
شرط المستعير ذلك على نفسه صح الشرط، قد ذكرنا هذا في المسألة السابعة
والعشرين، واتبع في الضمان عموم الشرط وخصوصه.
فقد يشترط عليه أن يكون ضامنا للعين متى تلفت أو سرقت أو حدث فيها
نقص أو عيب، فيحكم بضمان المستعير إذا حدث على العين شئ من ذلك وإن
لم يتعد ولم يفرط في الأمانة وقد يشترط عليه الضمان إذا تلفت العين كلها، ولا
يشترط الضمان عليه إذا نقصت أو حدث فيها عيب، فيثبت الضمان عليه عند تلف
الجميع خاصة، حسب ما اشترط، ولا يضمن إذا طرأ عليها نقص أو عيب، وقد
أشرنا إلى هذا في بعض المسائل المتقدمة
95

[كتاب الوديعة]
97

[كتاب الوديعة]
وتفصيل القول في هذا الكتاب يكون في أربعة فصول:
[الفصل الأول]
[في الوديعة وما يعتبر فيها]
(المسألة الأولى):
الوديعة هي أن يأتمن الانسان أحدا على شئ ليحفظه له، والغالب
المعروف بين الناس في استعمال هذه الكلمة: أن يراد بها عند اطلاقها الائتمان
على الأموال لحفظها، وقد تستعمل في الائتمان على أمور أخرى تكون عزيزة
على الانسان ليطمئن على حفظها وسلامتها، فيستودع الرجل من يثق به وبقدرته
وكفاءته عرضه وأولاده الصغار الذين يخشى عليهم عادية الدهر، ويستودعه كتبه
ونفائسه والأمور الأخرى التي تعز عليه، ويحذر من طروء الحوادث عليها
ويأتمن ذلك الثقة عليها ليتولى له حفظها.
وكثيرا ما تطلق كلمة الوديعة على المال أو الشئ المستودع عند الأمين
فيقول له هذا المال وديعتي عندك، أو يقول له: طفلي أو كتابي هذا وديعة بيدك
تحفظه لي حتى أرجع من غيبتي، وهذا كله في المجال اللغوي للكلمة.
وتختص الوديعة المبحوث عنها في هذا الكتاب عند الفقهاء بوديعة المال
98

وحتى إذا عم البحث في الكتاب لبعض الأشياء الخاصة، كما إذا ائتمن الرجل غيره
على أثر يختص به من مؤلف له أو مخترع يعتز به اعتزازا معنويا، أو على عقد نفيس
له ميزة معنوية عند بعض الخاصة أو ما يشبه هذه الأمور، فالمقصود في البحث عنه
عند الفقهاء هو الجهة المالية التي تكون للشئ الذي استودعه إياه، من حيث
وجوب الحفظ، ووجوب أدائه عند الطلب، ومن حيث الضمان عند حدوث ما
يوجب الضمان، وتكون المميزات المعنوية التي يتصف بها ذلك الأثر المستودع
موجبة لزيادة قيمته المالية عند الراغبين فيه.
(المسألة الثانية):
الوديعة كما قلنا: هي أن يأتمن الانسان شخصا غيره على مال ليحفظه له، أو
هي عقد يقع بين صاحب المال والأمين تكون فائدته الائتمان المذكور على المال
ولذلك فلا بد فيه من الايجاب والقبول، ويكفي في ايجاب عقد الوديعة كل لفظ
يكون دالا على الائتمان أو الاستيداع، فيقول صاحب المال للشخص الذي يأتمنه:
أودعتك هذا المال أو هذا الشئ لتحفظه عندك، أو يقول له: ائتمنتك عليه لتحفظه
لي أو يقول: استودعتك المال أو استودعته عندك، أو استودعته لديك، أو يقول له:
هذا المال وديعة عندك أو: وديعة لديك أو يقول: احفظ لي هذا الشئ، أو ما أدى
هذا المعنى من الألفاظ، وكان ظاهر الدلالة عليه، ولو بمعونة القرينة الموجودة من
حال أو مقال، ويكفي في القبول أيضا أي قول يدل على الرضا بالائتمان، فيقول
المؤتمن: قبلت الوديعة أو الأمانة منك، أو رضيت بها.
ويصح أن يقع عقد الوديعة بغير اللغة العربية من اللغات الأخرى للعارفين
بها، ويصح أن ينشأ عقدها بالأفعال الدالة على المقصود، فيدفع المالك ماله إلى
99

الشخص بقصد انشاء الوديعة عنده، ويتسلم المؤتمن المال المدفوع إليه بقصد
انشاء الرضا بها، ويجوز أن ينشأ الايجاب بالقول ويقع القبول بالفعل، فيقول
صاحب المال في ايجابه: أودعتك هذا الشئ لتحفظه، ويأخذ المؤتمن الشئ
منه ويضعه في صندوقه بقصد القبول، ويصح أن يقدم القبول على الايجاب فيقول
الأمين لصاحب المال: ادفع لي هذا المال أحفظه لك ويقول المالك بعده: أودعتك
المال.
ويكفي أيضا في صحة الوديعة وترتب أحكامها أن يحصل الايجاب
والقبول في عقدها بالكتابة الدالة عليهما، وبالإشارة المفهمة للمعنى المراد عند
أهل العرف.
(المسألة الثالثة):
الوديعة عقد من العقود كما قلنا فلا بد فيها من القبول من الشخص المؤتمن
أو من وكيله، ولا تتحقق الوديعة بدونه، فإذا وضع المالك ماله قريبا من
الرجل، أو على طاولته أو على بساطه مثلا بقصد استيداع المال عنده، أو قال له: هذا
وديعة عندك، ولم يقبل الرجل منه الايجاب، لم يتم عقد الوديعة فلا تلزم الرجل
أحكامها، فلا يجب عليه حفظ المال، ولا ضمان عليه إذا تلف ما لم يضع يده عليه
سواء مكث في مكانه عند المال، أم ذهب عنه وتركه في موضعه، ولم يقبل العقد
ولم يقبض المال، وسواء بقي مالك المال في الموضع بعد أن وضع المال أم تركه
وانصرف لحاله، وأولى من هذا الفرض بعدم تحقق الوديعة ما إذا ترك المالك ماله
قريبا من الرجل أو على طاولته ولم يقصد بذلك استيداع المال عند الشخص.
ولا يكفي سكوت الشخص في تحقق قبول الوديعة من المالك، فإذا قال
100

المالك للرجل: أودعتك هذا المال، أو دفع إليه بقصد استيداعه عنده فسكت
الرجل ولم يقل شيئا، ولم يصدر منه قبض أو فعل يدل على القبول، فلا يكون
سكوته قبولا للعقد، إلا أن يقترن ذلك بقرينة تدل على الرضا بالوديعة.
(المسألة الرابعة):
إذا كان الرجل عاجزا عن حفظ الوديعة وغير قادر على القيام بأمرها
فالأحوط لزوما له أن لا يقبل الوديعة من صاحبها، وإن كان واثقا من نفسه بأنه لا
يتعدى على الأمانة ولا يرتكب خيانة، وإذا كان مالك الوديعة يعلم بحال الرجل من
الضعف والعجز عن حفظها وأصر مع علمه بذلك على ايداع الوديعة عنده، وأن
يحفظها له بمقدار ما يمكنه من الحفظ، جاز له أن يقبلها منه على هذا الشرط
فيجب عليه القيام بحفظ الوديعة ورعايتها بمقدار ما يستطيعه من ذلك.
(المسألة الخامسة):
يشترط في صحة الوديعة أن يكون صاحب المال المودع له بالغا، فلا تصح
وديعة الطفل لماله عند غيره، وإن كان الطفل مميزا، وهذا إذا تولى ايداع ماله بنفسه
بغير إذن وليه، فلا يجوز لذلك الغير أن يقبض منه وديعته، وإذا هو قبضها ووضع
يده عليها كان ضامنا لها ولما يحدث فيها من نقص أو عيب أو تلف، ولا تبرأ ذمته
من ذلك إذا هو رد الوديعة إلى الطفل نفسه، فيلزمه أن يردها إلى وليه الشرعي.
ولا يبعد القول بصحة الوديعة من الصبي إذا كان مميزا عارفا بكيفية انشاء
المعاملة والمعنى المراد من الصيغة، وتولى ايداع بعض أمواله عند أحد وكان
فعله لذلك بإذن وليه الشرعي المطلع على ذلك كله، فأنشأ الوديعة ودفع المال
للشخص الذي ائتمنه على وفق ما يرام، فيصح لهذا المستودع قبض الوديعة منه
101

ولا يكون بقبضه لها ضامنا، وتترتب عليه أحكام الودعي شرعا، ويصح منه إذا كان
مميزا عارفا، على الوصف الذي ذكرناه أن يتولى انشاء الوديعة لمال غيره أيضا، إذا
أذن له مالك المال ووكله في ذلك، وأذن له وليه الشرعي باجراء المعاملة على النهج
الصحيح، فيصح للمؤتمن أن يقبض الوديعة، وإن كان الصبي هو الذي دفعها إليه
بالوكالة أيضا، وتجري عليها أحكام الوديعة.
(المسألة السادسة):
يشترط في صحة الوديعة أن يكون الشخص الذي يستأمن على الوديعة
بالغا، فلا يصح الاستيداع عند طفل لم يبلغ الحلم، ولا يثبت على الطفل ضمان
بقبضه مال الوديعة إذا كان غير مميز، ولا باتلافه إذا أتلفه، فإن صاحب المال هو
الذي عرض ماله لذلك باختياره، ولا ضمان على الصبي بقبض المال إذا كان مميزا
وكان قبضه للوديعة بإذن وليه، فإنه في هذه الصورة ودعي أمين، فإذا تلف المال في
يده من غير تعد ولا تفريط منه في الأمانة، فلا ضمان عليه، وسيأتي في بعض
المسائل المقبلة إن شاء الله تعالى إن هذا هو الحكم الثابت في كل مستودع أمين.
ويشكل الحكم عليه بالضمان أو بعدمه في هذه الصورة إذا تعدى أو فرط في
الوديعة، أو أهملها وتلفت المال في يده بعد التعدي أو التفريط، ويشكل الحكم
عليه أيضا بالضمان أو بعدمه إذا كان مميزا وقبض مال الوديعة بغير إذن من وليه ثم
تلف المال في يده.
وإذا قبض الصبي مال الوديعة وكان مميزا فأتلف المال بفعله عامدا، فلا
ينبغي الريب في الحكم عليه بضمان المال، سواء كان قبضه لمال الوديعة بإذن من
وليه الشرعي أم كان بغير إذن منه.
102

(المسألة السابعة):
يشترط في صحة الوديعة أن يكون المودع والمستودع عاقلين، فلا تصح إذا
كان أحد الطرفين مجنونا، أو كان معا مجنونين غير عاقلين، ويجري فيهما من
حيث الضمان وعدمه نظير ما قدمنا بيانه في الصبي المميز وغير المميز في
المسألتين المتقدمتين.
(المسألة الثامنة):
لا تصح وديعة الطفل ولا المجنون، ولا يجوز للشخص الذي يودع أحدهما
عنده المال أن يأخذه منه، وإذا أخذ المال من يد الطفل أو المجنون كان له ضامنا
وقد ذكرنا هذا الحكم قريبا.
وتستثنى من ذلك صورة واحدة، وهي أن يخاف هذا الشخص على مال
الطفل أو المجنون إذا بقي في يده ولم يأخذه منه، أن يتلف فيجوز له أن يأخذ
المال من يده ويحفظه له ويكون أخذه له من باب الحسبة لا من باب الوديعة.
وكذلك الحكم إذا وجد الانسان مالا للطفل أو للمجنون في يده أو في غير يده
وخاف على المال إن هو تركه ولم يأخذه أن يتلف أو يسرق، فيجوز له أن يأخذ
المال ويحفظه له من باب الحسبة ويكون المال أمانة شرعية بيده، ويجب عليه أن
يبادر بما يستطيع فيوصل المال إلى الولي الشرعي للطفل أو المجنون صاحب
المال، فإن لم يمكنه ايصال المال أعلم الولي بأن المال عنده، فإذا فعل ذلك فلا
ضمان عليه إذا تلف المال في يده، وإذا فرط أو تعدى أو أهمل كان ضامنا.
(المسألة التاسعة):
يمكن لصاحب المال أن يبعث مبلغا من ماله أو شيئا آخر من مملوكاته بيد
103

صبي غير بالغ، أو بيد مجنون إلى ثقة يستأمنه ليبقى المبلغ أو الشئ الآخر وديعة
عنده يحفظه له، وهذا إذا كان المالك يثق بأن الصبي والمجنون اللذين أرسلهما
يوصلان المال ويبلغان القول، فإذا أخذ المؤتمن منهما المال واطمأن بصدقهما
في الرسالة صحت الوديعة بين المودع والمستودع، ولم يضر بصحتها أن الرسول
الواسطة طفل أو مجنون.
(المسألة العاشرة):
يشترط في صحة عقد الوديعة أن يكون المودع الموجب والمستودع القابل
قاصدين لانشاء العقد بينهما، فلا يصح إذا كان المودع هازلا أو هازئا في ايجابه
للعقد أو سكرانا أو غاضبا غضبا يخرج به عن قصد المعنى، أو كان المستودع غير
قاصد للقبول كذلك.
ويشترط في صحته أن يكونا مختارين في فعلهما، فلا تصح وديعة المودع
إذا كان مكرها في ايجابه للعقد غير مختار فيه، أو كان المستودع غير مختار في
قبوله، فإذا قبض الوديعة مكرها على قبولها لم يضمنها، ولم تترتب على الوديعة
آثارها.
(المسألة 11):
إذا أكره المستودع فقبل الوديعة وقبضها مكرها على قبولها وقبضها، ثم زال
الاكراه عنه، وأجاز الوديعة الأولى باختياره بعد زوال الاكراه، صحت الوديعة
بإجازته وترتب عليها أثرها ولم يفتقر إلى تجديدها.
وإذا جدد المودع صيغة الوديعة بعد أن أرتفع الاكراه عن المستودع فقبل
الوديعة الثانية مختارا، صحت الثانية بتمامية العقد، ولم يقدح بصحتها كون
104

المؤتمن مكرها غير مختار في أول الأمر.
(المسألة 12):
الوديعة أحد العقود التي تتقوم بالإذن في حدوثها وفي بقائها واستمرارها
ومن أجل ذلك فهي من العقود الجائزة غير اللازمة، فيصح لمالك المال أن يسترد
وديعته من الودعي الذي استأمنه في أي وقت يشاء ويفسخ عقد الوديعة بذلك
ويجوز للمستودع المؤتمن أن يرد الوديعة إلى صاحبها متى أراد كذلك ويفسخ
العقد، وإذا استرجع صاحب المال وديعته فليس للمستودع أن يمتنع من ردها إليه
وإذا رد المستودع الوديعة فليس للمودع صاحب المال أن يمتنع من قبولها.
وإذا فسخ المستودع المؤتمن عقد الوديعة انفسخت بينهما وإن كان
صاحب المال لا يعلم بفسخ المؤتمن لها، وتزول بذلك الأمانة المالكية التي كانت
للمستودع على المال بسبب العقد، ويبقى المال أمانة شرعية في يده.
ويجب على المستودع بعد أن يفسخ العقد كما ذكرنا أن يرد المال إلى
مالكه، أو إلى وكيله المفوض في القبض عنه، فإن هو لم يقدر على الرد وجب عليه
أن يعلم المالك أو وكيله بأنه قد فسخ العقد، وأن المال باق عنده، فإن هو لم يفعل
ذلك من غير عذر مقبول كان مفرطا في أمانته الشرعية وضامنا لها إذا تلفت في يده
أو سرقت أو حدث فيها عيب أو نقص.
(المسألة 13):
إذا قبل المستودع الوديعة من مالكها أو من وكيله المفوض، وقبضها منه
وجب عليه أن يقوم بحفظها بما جرت به العادة المتعارفة بين الناس في حفظ مثل
تلك الوديعة، فإذا كانت من النقود المسكوكة أو العملة الورقية أو من الحلي
105

ونحوها، خزنها في ما تحفظ فيه النقود والحلي عادة من خزانة أو صندوق
مضمون أو شبه ذلك، وإذا كانت من الثياب وشبهها حفظها في الصندوق أو
المخزن الذي يعد بين الناس لحفظ مثلها، وإذا كانت من الدواب أو الحيوان جعلها
في الموضع الذي يعد لأمثالها من اصطبل أو حظيرة أو مراح مأمون، وهكذا
فيحفظ كل نوع أو صنف من الودائع في الموضع الحصين الذي يناسبه، ولا ريب
في أن ذلك يختلف باختلاف الأقطار والبلاد والأزمنة والمواضع، بل وباختلاف
منازل الرجال المستودعين في مجتمعاتهم، وفي الجهات الطارئة أو الثابتة التي
تتصف بها الأماكن والبلاد من حيث الأمن والخوف وغير ذلك.
وعلى وجه الاجمال فيجب على المستودع حفظ الوديعة في موضع يكون
به حافظا لأمانته وغير مضيع لها أو متسامح فيها.
(المسألة 14):
إذا عين المالك الوديعة للمستودع موضعا خاصا واشترط عليه في العقد أن
يحفظ فيه وديعته، فقال له مثلا: أودعتك هذا المال على أن تحفظه لي في حجرة
زوجتك عالية وفي خزانتها الخاصة، أو على أن تجعله في الصندوق الحديدي في
منزلك، تعين على المستودع إذا قبل بالشرط أن يقتصر في حفظ الوديعة على ذلك
الموضع ولا يتعداه إلى غيره، وإن كان الموضع الآخر الذي ينقله إليه أشد حرزا
منه، وإذا نقل وديعته إلى غيره كان متعديا وضامنا لها.
وإذا علم من قول المالك أو من القرائن الموجودة أو ظهر منها إن مالك
الوديعة إنما يريد حفظ ماله وإنما ذكر الموضع المعين من باب المثال ولا يريد
التقييد والخصوصية في ذلك الموضع جاز له أن ينقل الوديعة إلى مكان آخر
106

يساوي الموضع الذي ذكره أو يكون أشد منه حرزا.
(المسألة 15):
إذا عين صاحب المال موضعا خاصا لحفظ وديعته فيه كما فرضنا في
المسألة المتقدمة وخاف المستودع على الوديعة أن تتلف أو تسرق أو تحرق أو
تعيب إن هي بقيت في الموضع الذي عينه مالك الوديعة، لبعض الجهات التي
تخفي على المالك أو التي تجددت بعد الاستيداع جاز له نقل الوديعة من الموضع
المعين، ولا يكون بنقلها ضامنا لها، بل الظاهر جواز نقلها من ذلك الموضع في هذه
الصورة وإن نهاه المالك عن نقلها منه، فقال له: لا تنقل الوديعة من هذا الموضع
وإن تلفت.
(المسألة 16):
يجب على المستودع أن يتعاهد الوديعة ما دامت عنده بما يصونها عن
التلف والعيب، أو تتوقف عليه صيانتها وسلامتها من ذلك، فإذا كانت الوديعة ثوبا
أو شبهه من الصوف أو من الإبريسم فعليه أن ينشره كما هو معروف عند أهل
الخبرة في بعض أيام الصيف في الشمس والهواء الطلق ليسلم من التآكل أو من
تولد بعض الدود فيه، وعليه أن يقي الدابة من الحر والبرد الشديدين ومن المطر
والثلج ونحو ذلك، وأن يتعاهد الدابة والحيوان بمقدار ما يحتاج إلى من العلف
والسقي، وأن يصون الكتاب من الرطوبة المفسدة ومن الحشرات المتلفة كالأرضة
وشبهها، وأن يحفظ الحبوب عن الرطوبات والمياه التي توجب تعفنها وفسادها
وهكذا، فإذا هو ترك الملاحظة والرعاية بمثل هذه الأشياء فتلفت الوديعة أو عابت
كان ضامنا لما حدث فيها.
107

(المسألة 17):
لا يجوز للمستودع أن يتصرف في الوديعة تصرفا لم يأذن له فيه مالك
الوديعة، ولا يتوقف عليه حفظها، فيكون بتصرفه فيها خائنا ومتعديا، ومثال ذلك:
أن يأكل بعض الوديعة أو يلبس الثوب أو يسافر في السيارة أو يركب على الدابة أو
يفترش الفراش أو يشتري بالنقود، أو يقترضها وإن كان عازما على أن يدفع العوض
للمالك، فلا يحل له شئ من ذلك إذا لم يأذن له به صاحب المال أو يتوقف عليه
حفظه، وإذا فعله كان خائنا لأمانته وآثما في تصرفه وضامنا للوديعة، وسيأتي
لذلك مزيد بيان وايضاح في الفصل الثاني إن شاء الله تعالى.
(المسألة 18):
من التصرف المحرم على المستودع الموجب للحكم عليه بالضمان أن
يدفع المالك إليه الوديعة وهي في كيس مختوم، فيفتح المستودع الكيس من دون
ضرورة تدعوه إلى فتحه، ومن التصرف المحرم كذلك أن يدفع المالك إليه المبلغ
عملة ورقية ذات خمسة دنانير مثلا فيبدلها بعملة ذات عشرة دنانير أو خمسة
وعشرين دينارا أو بالعكس، إلا إذا أذن له المالك بذلك، أو كان المستودع لا يتمكن
من حفظ المال إلا بذلك، وتلاحظ المسألة الرابعة والسبعون، ومن التصرف
المحرم أن يدفع المستودع المبلغ الذي أودعه صاحبه عنده إلى المصرف، ويأخذ
بدله حوالة من المصرف بالمبلغ باسم المستودع، أو باسم مالك المال نفسه يدفعها
له المصرف عند المطالبة، أو يفتح له حسابا خاصا يسدده له مرة واحدة أو أقساطا
كما يريد، فلا يحل للمستودع هذا التصرف، ويكون به متعديا وضامنا، إلا إذا أجاز
المالك له ذلك، أو استدعته ضرورة لا بد منها.
108

(المسألة 19):
الوديعة أمانة من مالك المال بيد المستودع، ولذلك فلا يثبت عليه حكم
شرعي بالضمان إذا تلفت عنده أو سرقت أو حدث فيها عيب أو نقص، إذا
هو لم يتعد ولم يفرط في الوديعة وفي حفظها، وقام بأمرها وبرعايتها على الوجه
المطلوب منه شرعا، ويأتي تفصيل هذا المجمل في الفصل الثاني إن شاء الله تعالى.
(المسألة 20):
لا يثبت على المستودع ضمان إذا قهره ظالم فأخذ الوديعة من يده مقسورا
بغير اختيار منه، أو توعده الظالم بضرر يخشى من وقوعه عليه إذا امتنع، فدفعها إليه
مكرها، ويثبت ضمان العين وضمان منافعها في كلتا الصورتين على الظالم الذي
قهره أو أكرهه.
وإذا كان المستودع هو السبب في تسلط الظالم على الوديعة، ووضع يده
عليها فالضمان على المستودع، ومثال ذلك: أن ينبئ المستودع الظالم بأمر
الوديعة، ويصفها له ويحرضه عليه قبضها، بل وكذلك إذا عرف الظالم بخبرها
وبأن مالكها قد استودعها عنده ليحفظها له، فكان بذلك موجها، لنظر الغاصب
إليها، ومن أمثلة ذلك: أن يكون المستودع قد جعل الوديعة في موضع يلفت نظر
الغاصب إليها، أو هو مظنة لذلك، فالتفت إليها وغصبها، فيكون الضمان في هذه
الفروض على المستودع نفسه، لأنه سبب الاتلاف.
وإذا اتفق في الصورة الأخيرة أن الظالم لم يلتفت إلى الوديعة ولم يغصبها
ولكنها تلفت بسبب آخر فالضمان على المستودع أيضا، لأنه قد فرط في أمانته
فوضعها في ذلك الموضع غير المأمون.
109

(المسألة 21):
إذا علم الظالم بوجود الوديعة وعزم على غصبها، واستطاع المستودع أن
يدفعه عنها ببعض الوسائل المباحة المقدورة له، كالاستعانة على ذلك ببعض
الوجهاء وذوي السلطة وجب عليه الدفع عنها مهما أمكن.
وإذا سأله الظالم عن وجودها عنده جاز له انكارها، وإن كان كاذبا في
انكاره، وجاز له أن يحلف على ما يقول إذا توقف الدفع عنها على الانكار
والحلف، بل يكون واجبا عليه.
وإذا كان المستودع ممن يعرف التورية ويمكنه استعمالها وجب عليه
استعمال التورية للتخلص من الكذب والقسم عليه على الأحوط لزوما...
وإذا اعترف المستودع للظالم بوجود الوديعة عنده فغصبها منه، كان
المستودع ضامنا لها لأنه سبب اتلافها، وإذا اتفق أن الظالم لم يغصبها كان
المستودع مفرطا خائنا لأمانته بسبب اقراره بها للظالم، فيكون ضامنا لها إذا تلفت
عنده بسبب آخر، وكذلك الحكم إذا أمكن له الدفع عنها بالانكار والحلف عليه
فلم ينكر أو أنكر ولم يحلف، فإذا غصبها الظالم فهو السبب في الغصب، وإذا لم
يغصبها فهو مفرط فيها لعدم دفعه عنها، ويكون ضامنا لها إذا تلفت في كلتا الحالتين.
(المسألة 22):
ليس من الوسائل الصحيحة التي يمكن أن تتخذ في هذا السبيل أن يخلص
المستودع هذه الوديعة من يد الظالم بدلالته على مال لمؤمن آخر، أو بالسعاية عليه
في ما يضره، وإن كان ذلك الرجل الذي سعى به أو دل الظالم على ماله عدوا مباينا
للمستودع.
110

وليس من الوسائل الصحيحة أن يجامل الظالم فيدفع إليه بعض الهدايا
المحرمة في الاسلام، أو يعينه في بعض المحرمات التي تنكرها شريعة الاسلام
أو يسايره ويمالئه في ارتكاب بعض المناهي والمنكرات فيها، ويتخذ ذلك ذريعة
لتخليص ودائع بعض المؤمنين، أو المدافعة عن بعض حقوقهم، وتحريم جميع
ذلك من الأمور بينة الوضوح، وإنما تذكر للتحذير والتنبيه، وتراجع المسألة الثالثة
والأربعون من كتاب التجارة من هذه الرسالة.
(المسألة 23):
إذا لم يمكن للمستودع أن يدفع الغاصب عن الوديعة الموجودة لديه إلا
بنزاع وخصام وضرب، واستلزم ذلك أن يضرب المستودع أو يجرحه أو يناله
بسبب ذلك هتك أو شتم أو كلام بذي، لا يناسب شرفه ومقامه ومنزلته الاجتماعية
بين الناس، لم يجب عليه أن يتحمل ذلك في سبيل دفاعه عن الوديعة.
وعلى وجه الاجمال لا يجب عليه الدفاع عنها، إذا استلزم ذلك وقوع ضرر عليه لا
يتحمل عادة لمثله، أو خسارة مالية تضر بحاله أو استلزم له الوقوع في عسر أو
حرج.
(المسألة 24):
إذا توقف دفع الظالم عن غصب الوديعة على أن يتبرع المستودع فيدفع له
مبلغا من ماله لم يجب ذلك على المستودع، فإذا هو لم يدفع للظالم شيئا من ماله
وغصب الظالم الوديعة فلا ضمان على المستودع بسبب ذلك.
وإذا أمكن له أن يخبر مالك الوديعة فيأخذ منه المبلغ لمصانعة الظالم ودفعه
عن الوديعة، أو يستأذنه أو يستأذن وكيله المفوض في أن يدفع المبلغ من ماله
111

للظالم بالنيابة عن المالك، ثم يرجع عليه بما دفع، وجب عليه أن يفعل ذلك، وإذا
لم يتمكن من استئذان المالك أو وكيله استأذن من الحاكم الشرعي، وإذا فرط في
الأمر مع امكانه ولم يفعل شيئا من ذلك كان ضامنا.
وإذا لم تتيسر له مراجعة المالك ولا وكيله ولا الحاكم الشرعي في أن يفعل
ذلك بإذن من أحدهم دفع المستودع المبلغ من ماله عن مالك الوديعة من باب
الحسبة، وإذا دفع المبلغ من مالك كما بينا وقصد الرجوع به على المالك، ولم
يقصد التبرع بالمال، جاز له الرجوع عليه، وإذا لم يفعل ما فصلنا ذكره كان ضامنا
للوديعة.
(المسألة 25):
إذا استطاع المستودع أن يفتدي الوديعة من الظالم ببعضها فيدفع له نصفها
مثلا أو ثلثها أو ربعها، ويصرف بذلك نظره عن البقية منها فلا يغصبها وجب عليه
أن يفعل ذلك فيحفظ الباقي منها، وكذلك إذا أمكن له أن يدفع بعض الوديعة لغير
الظالم، فيصرف هذا الرجل الذي صانعه نظر الظالم عن غصبها، فيجب عليه أن
يدفع البعض إلى ذلك الشخص، فإذا فرط المستودع في الأمر ولم يدفع شيئا منها
ضمن الباقي إذا غصبه الظالم في الصورتين، لأنه هو السبب في غصبه واتلافه
ويضمنه كذلك إذا اتفق أن الظالم لم يغصب الباقي ثم تلف في يد المستودع لأنه قد
فرط في حفظه، فكان بتفريطه خائنا يلزمه الضمان.
ونظير هذا الفرض في لحكم أن تكون عند الرجل وديعتان لمالك واحد
وأراد الظالم غصب الوديعتين كلتيهما، وأمكن للمستودع أن يدفع له إحدى
الوديعتين فلا يغصب الثانية، فإذا فرط المستودع ولم يدفعها إليه كان ضامنا على
112

النحو الذي تقدم بيانه.
(المسألة 26):
إذا استودع المالك عند الرجل دابة أو حيوانا وجب على المستودع أن
يتعاهد الدابة أو الحيوان بالماء والعلف عند حاجتهما إلى القوت والشرب، ولا
يلزمه أن يتولى ذلك بنفسه، فيكفيه أن يعهد بذلك إلى بعض أولاده أو عياله أو
غلمانه، إذا كان هذا البعض الذي يعهد إليه بذلك مأمونا على الحيوان، لا يفرط ولا
يتعدى في حفظه، فلا يركب الدابة أو يعنتها أو يحملها، أو كان لا يسقيها أو لا
يعلفها ما يكفي، ويجوز له أن يخرجها من الإصطبل والمراح المعد لها للسقي
والعلف في خارجه، إذا كان من المعتاد ذلك، وكان الطريق مأمونا ولا يخرج به عن
المعتاد.
(المسألة 27):
إذا أنفق المستودع على الحيوان حسب ما يتعارف له في قوته من العلف
والماء أو في غير ذلك مما قد يحتاج إليه عادة، جاز له أن يرجع على مالك الحيوان
بما أنفقه عليه إذا هو لم يقصد التبرع به، وعليه أن يستأذن في الانفاق عليه من مالك
الحيوان، أو من وكيله المفوض أو من ولي أمره إذا كان قاصرا أو محجورا عليه، فإذا
تعذر عليه الاستئذان كذلك أنفق هو على الحيوان من ماله من باب الحسبة ورجع
بالنفقة على المالك إذا لم يقصد التبرع، وقد ذكرنا هذا في أول المسألة.
(المسألة 28):
الوديعة عقد يتقوم بالإذن في ابتداء حدوثه وفي بقائه، ونتيجة لتقومه بالإذن
فيبطل العقد إذا مات المالك المودع أو مات الأمين المستودع، وإذا جن أحدهما
113

فخرج بذلك عن أن يكون أهلا للإذن والقصد، فإذا مات المالك المودع بطلت
الوديعة كما قلنا وأصبح المال أمانة شرعية بيد المستودع، بعد أن كان عنده أمانة
مالكية، وسيأتي بيان الفرق بينهما في الفصل الأخير من هذا الكتاب، فيجب على
المستودع أن يبادر برد المال إلى وارث المالك الذي أودع المال، أو إلى وكيل
الوارث وإلى وليه إذا كان قاصرا، وإذا لم يقدر على رد المال إليه بالفعل لبعض
الجهات المانعة من الرد، وجب عليه أن يعلمه بأن الوديعة موجودة عنده، وأنه
مستعد لردها متى أمكن له الرد، وإن هو لم يفعل كذلك مع تمكنه من فعله وعدم
العذر كان مفرطا ضامنا.
وإذا لم يعلم المستودع بعد موت مالك الوديعة بوجود وارث له، أو كان
الوارث غير منحصر في علمه بشخص معين أو أشخاص معينين، جاز له التأخير
حتى يفحص عن ذلك ويعلم به، ويجب عليه أن لا يتسامح في أمر الأمانة فيتأخر
من غير فحص أو يطيل المدة من غير ضرورة تقتضي ذلك.
وإذا جن مالك الوديعة وعلم المستودع بجنونه، وجب عليه أن يبادر في رد
الأمانة الشرعية إلى وليه الشرعي، فإذا لم يستطع الرد إليه أن يعلم الولي بالوديعة
وأنه مستعد لردها، وإن هو لم يعلم بالولي الشرعي له على التعيين جاز له أن يتأخر
بمقدار ما يفحص عنه، ويعلم به كما سبق في نظيره.
(المسألة 29):
إذا مات المستودع وبطلت الوديعة بموته كما سبق ذكره أصبحت الوديعة
أمانة شرعية بيد الوصي من بعده، إذا كان قد أوصى إلى أحد بالوديعة قبل موته
وكانت أمانة شرعية بيد وارث المستودع إذا لم يكن قد أوصى بها، وإذا لم يكن قد
114

أوصى وكان وارثه قاصرا كانت الوديعة أمانة شرعية بيد الولي الشرعي على
الوارث القاصر.
ويجب على من يصبح أمينا على الوديعة من أحد هؤلاء بعد موت
المستودع أن يرد الأمانة إلى مالكها الذي أودعها، أو إلى وكيله المفوض منه، وإن
لم يتمكن من المبادرة إلى الرد وجب عليه أن يعلم المالك أو وكيله بأن الوديعة قد
انتقلت أمانة في يده، وأنه يقوم بردها إليه متى أمكنه الرد.
وإذا جن المستودع وجب على وليه الشرعي أن يقوم بالفعل، فيرد الأمانة
إلى صاحبها أو يعلمه بها على الوجه الذي سبق ذكره.
(المسألة 30):
إذا مات مالك الوديعة وخلف بعد موته ورثة متعددين، فإن كان الميت
المودع قد أوصى إلى أحد قبل موته وعهد إليه أن يقبض الوديعة ويصرفها حسب
وصية معينة له فيها، أو يقسمها على الورثة بحسب ما يستحقونه من السهام في
الميراث، تعين على المستودع أن يدفع الوديعة إلى الوصي ليعمل بها كما أوصى
مالكها، وإن لم يوص الميت بأمرها إلى أحد، وجب على المستودع أن يسلم
الوديعة إلى ورثة الميت جميعا أو إلى أحد يتولى القبض عنهم جميعا من وكيل
مفوض منهم إذا كانوا راشدين، أو ولي شرعي إذا كانوا قاصرين، أو إلى فرد من
الورثة أو من غيرهم يرتضون على اختياره فيفوضون إليه الأمر في قبض الوديعة
وتقسيمها بينهم على المنهاج الشرعي في المواريث.
ويجوز للمستودع أن يوكل أحدا يعتمد عليه في دفع المال إليهم على الوجه
المطلوب، ولا يجوز له أن يسلم الوديعة إلى بعض ورثة مالكها بغير إذن من الباقين
115

وإذا دفعها إلى بعضهم كما ذكرناه كان ضامنا لحصص من لم يدفع إليه سهامه منهم.
(المسألة 31):
إذا طلب صاحب المال وديعته من المستودع وجب على المستودع أن يبادر
إلى ردها إليه في أول وقت يمكن له فيه الرد، والمراد أن يبادر إلى ردها مبادرة
عرفية، فلا يجب عليه أن يقطع الصلاة الواجبة ولا المستحبة ليرد الوديعة إذا كان
قد شرع في الصلاة، ولا يجب عليه الاسراع في المشي أكثر مما يتعارف لمثله.
ولا ينافي المبادرة العرفية أن يتم أكله للطعام إذا طلب المالك منه وديعته وهو على
المائدة مثلا، ولا ينافي المبادرة أن يقدم الصلاة إذا طلبها منه وهو في أول وقتها، أو
يبدأ بأكل الطعام إذا كان في وقت حضوره، ولا ينافيها كذلك أن يؤخر دفع الوديعة
إليه حتى يشهد على الدفع والقبض، أو حتى يكتب له ورقة يعترف المالك فيها
بقبض المال، أو حتى يسجل القبض في سجله الخاص، إذا لم يستلزم ذلك التأخير
الكثير، وخصوصا إذا كان المالك المودع قد أشهد عليه في وقت الايداع، أو كتب
عليه ورقة اعترف فيها بالوديعة ووقع عليها، أو سجلها في سجل يثبتها، وخصوصا
إذا كان في الأمر مظنة للنزاع والانكار ولو من الورثة بعد الموت، فلا يجوز
للمستودع تأخير الرد أكثر من ذلك، ولا يجب عليه الاسراع أزيد منه.
(المسألة 32):
يتحقق رد الوديعة إلى صاحبها بأن يرفع المستودع يده عن الوديعة ويخلي
ما بين المالك وبينها ويرفع جميع الموانع من قبله عن استيلاء المالك عليها، ولا
يجب على المستودع نقل الوديعة إلى المالك، فإذا كانت محفوظة في محل، أو
مخزونة في حرز ورفع المستودع الحواجز والموانع عنها وعن استلام المالك
116

إياها، وقال له مثلا: استلم وديعتك، فقد رد الأمانة إلى أهلها، وبرئت ذمته من
التكليف الشرعي بوجوب ردها، ولا شئ عليه بعد ذلك إذا أهمل المالك، أو تأخر
في قبضها ووضع يده عليها.
(المسألة 33):
يجب على المستودع رد الوديعة إلى مالكها إذا طلبها منه، أو انفسخ عقد
الوديعة بينهما بسبب آخر، سواء كان مالك الوديعة مسلما أم كافرا محترم المال
وبرا أم فاجرا، ولا فرق في المالك المسلم بين أن يكون من الشيعة وغيرهم من أي
فرق المسلمين كان، ولا فرق في الكافر بين أصناف الكفار، إذا كان ممن يحترم ماله
في الاسلام.
والأحوط لزوما رد الوديعة إلى صاحبها، وإن كان كافرا غير محترم المال
فإذا أودع عند المؤمن وديعة وجب عليه حفظها وردها إليه إذا طلبها منه، وفي
الحديث عن أمير المؤمنين (ع) قال: (أدوا الأمانة ولو إلى قاتل ولد الأنبياء)، وعن
الإمام أبي عبد الله (ع): (أدوا الأمانة إلى أهلها وإن كانوا مجوسا)، وعنه (ع) أنه قال
: (أدوا الأمانة إلى من ائتمنك وأراد منك النصيحة ولو إلى قاتل الحسين (ع)) وعن الإمام زين العابدين (ع
): (عليكم بأداء الأمانة، فوالذي بعث محمدا بالحق نبيا
لو أن قاتل أبي الحسين بن علي (ع) ائتمنني على السيف الذي قتله به لأديته إليه).
(المسألة 34):
إذا استودع الغاصب أو السارق المال الذي غصبه أو سرقه من صاحبه عند
أحد، وعلم الودعي بأن الوديعة مغصوبة من مالكها الشرعي أو مسروقة منه، لم
يجز له بردها إلى الغاصب أو السارق مع التمكن من الامتناع عليه، وكان المال بيده
117

أمانة شرعية يجب عليه حفظها لمالكها الحقيقي، فإن هو عرفه رد المال إليه
وإذا لم يتمكن من المبادرة إلى رد المال إلى مالكة أعلمه بأن المال قد وقع في يده
وأنه سيرده إليه متى قدر على رده، وإن لم يعرف مالك المال وجب عليه التعريف
به إلى سنة، فإذا انقضت المدة ولم يعرف مالك المال تصدق بالمال عنه وإذا وجد
المالك بعد الصدقة بالمال أخبره بأنه أخذ المال وعرف به سنة ثم تصدق به كما
أمره الله، وخيره بين أن يقبل الصدقة لنفسه، فيكون له أجرها عند الله، وأن لا يقبل
الصدقة فيغرم له المال ويكون أجر الصدقة للودعي المتصدق،
(المسألة 35):
إذا جرى عقد الوديعة بين مالك المال وصاحبه، واستلم المستودع المال
منه، ثم خاف المستودع على الوديعة أن تتلف بيده أو تسرق أو تعطب، بحيث كان
الخوف عليها موجبا للشك منه في قدرته على حفظ الوديعة، أو للاعتقاد بعدم
قدرته على ذلك، فالأحوط له لزوما وجوب رد الوديعة إلى المالك أو إلى وكيله، فإذا
تعذر عليه الرد عليهما دفعها إلى الحاكم الشرعي، وعرفه بالأمر، وإذا لم يقدر على
ايصالها إليه أو كان الحاكم الشرعي غير قادر على حفظها بنفسه أو بالتوكيل، دفعها
المستودع إلى ثقة مأمون يقدر على حفظها وايصالها إلى مالكها.
(المسألة 36):
إذا كانت للوديعة مدة محددة بين مالك الوديعة والمستودع، وانقضت مدة
الاستيداع وجب على المستودع أن يرد الوديعة إلى مالكها، أو إلى وكيله المفوض
عنه في قبضها أو إلى وليه إذا كان قاصرا أو محجورا عليه، فإذا تعذر عليه ايصالها
118

وجب على أن يعلمه بها، وبانتهاء المدة المعينة في العقد، وأنه مستعد لردها متى
أمكن له الرد، وإن لم يقدر على شئ من ذلك أوصل الوديعة إلى الحاكم الشرعي
وعرفه بأمرها، فإذا امتنع عليه ذلك، وضعها أمانة شرعية عند ثقة أمين ليحفظها
لصاحبها من باب الحسبة، وإذا وجدت الثقة والأمانة في المستودع نفسه بقيت في
يده من باب الحسبة كذلك حتى يؤديها إلى أهلها.
(المسألة 37):
إذا خاف المستودع على نفسه من الموت لظهور أماراته عليه، من كبر سن أو
ترادف أمراض وما أشبه ذلك، وخشي على الوديعة التي أودعها صاحبه عنده أن
تتلف بعد موته، أو تؤكل، أو تغصب من وارث أو من غيرة، ولم يأمن عليها إذا
بقيت، وجب عليه أن يودها في حياته إلى مالكها، وأن يبادر إلى ردها على النهج
الذي ذكرناه في ما تقدم.
وإذا كان الوارث أو القيم على شؤون المستودع من بعده إذا مات يعلم
بالوديعة وبصاحبها، وبموضعها، وكان ثقة أمينا يعتمد عليه ولا تضيع عنده
الوديعة، لم يجب على المستودع رد الوديعة في حياته على صاحبها اعتمادا على
ذلك، وإذا هو احتاط للوديعة فذكرها في وصيته وأشهد عليها فهو أولى وأفضل.
وإذا كان الوارث الذي يتركه من بعده لا يعلم بالوديعة، أو لا يعرف صاحبها
أو كانت بيد المستودع عدة من الودائع فيلتبس على الوارث من بعده أمرها، وجب
على المستودع أن يذكرها مفصلة في وصيته وأن يظهر له أمر كل وديعة من الودائع
الموجودة عنده، ويذكر له وصفها، والعلامات المميزة لها، واسم صاحبها
وأوصافه المشخصة له وموضع حفظ الوديعة وإذا علم المستودع بأن الوصية
119

بها لا تتم إلا بالاشهاد عليها، ولو للحذر من وقوع تنازع وتخاصم الورثة من بين من
يثبت منهم، ومن ينفي وجب عليه الاشهاد والاحتياط.
(المسألة 38):
لا يمنع المستودع من أن يخرج في سفر مباح غير واجب وغير ضروري له
ويترك الوديعة في بلده إذا كانت محفوظة في حرزها الذي وضعها فيه، أو في متجره
أو في موضع آخر عند أهله أو غيرهم، وهو يعلم أو يطمئن بأنها ستبقى محفوظة
مأمونة في موضعها، دون تعدا وتفريط فيها من أحد، وأولى من ذلك بالجواز وعدم
المنع إذا كان السفر الذي يعزم عليه واجبا شرعيا، كالسفر للحج أو للعمرة الواجبين
عليه، أو كان ضروريا لا بد له منه كالسفر لعلاج نفسه، أو من يضطر إلى علاجه، أو
لبعض الضرورات الأخرى، وكانت الوديعة على حالها من الحفظ والأمن في
موقعها.
(المسألة 39):
إذا أراد المستودع سفرا، وكان لا يقدر على حفظ الوديعة الموجودة عنده
إذا هو غاب في سفر عنها وتركها في بلده، أو كان لا يطمئن على أن الوديعة ستبقى
في حال غيبته عنها محفوظة في موضعها، وجب عليه أن يرد الوديعة إلى
مالكها، أو إلى وكيله أو إلى ولي أمره إذا كان المالك قاصرا أو محجورا عليه، ولا
يجوز له أن يصحبها معه في سفره، وإن علم بأنه قادر على حفظها في أثناء سفره
بها إلا إذا أذن له المالك بأن يصحبها معه إذا سافر، وليس له أن يودعها في حال
غيبته عند مستودع آخر، إلا إذا أذن له المالك بايداعها، وسنتعرض لذكر هذا في
الفصل الثاني إن شاء الله تعالى، وإذا هو لم يقدر على رد الوديعة إلى مالكها أو إلى
120

من يقوم مقامه، وتوقف حفظها على حضوره في البلد وتعين عليه البقاء وترك السفر
مع الامكان.
(المسألة 40):
إذا وجب على المستودع أن يسافر لحج أو عمرة أو غيرهما، أو اضطر إلى
السفر لعلاج نفسه أو غيره من بعض الأمراض أو لضرورة أخرى لا بد له منها، ولم
يقدر على حفظ الوديعة في حال غيبته في السفر عنها، وتعذر عليه أن يردها قبل
سفره إلى مالكها، أو إلى من يقوم مقامه في قبضها، فإن أمكن له أن يوصل الوديعة
إلى الحاكم الشرعي ليحفظها لصاحبها وجب عليه ايصالها إليه، وإن تعذر عليه
ذلك وجب عليه أن يودعها عند أمين عادل، ويعرفه أمرها ويعرفه باسم مالكها
ونسبه، ويذكر له أوصافه ومشخصاته ليردها إليه متى وجده، وإذا لم يجد عادلا
يودعها عنده في بلده أودعها عند عادل في بلد آخر.
(المسألة 41):
إذا أراد المستودع السفر وترك الوديعة في البلد وفي موضعها عند أهله، كما
فرضنا في المسألة الثامنة والثلاثين، وكان سفره الذي عزم عليه من الأسفار الكثيرة
الخطر، وجب عليه أن يجري أحكام من ظهرت له أمارات الموت، وقد ذكرنا هذه
الأحكام في المسألة السابعة والثلاثين، فعليه أن يلاحظ هذه المسألة لتطبيق
أحكامها.
(المسألة 42):
إذا وجب السفر شرعا على المستودع، أو قضت به ضرورة لا بد له منها
ووجد نفسه غير قادر على حفظ الوديعة في موضعها في حال غيبته في السفر عنها
121

ولم يقدر على رد الوديعة إلى مالكها أو إلى من ينوب عنه في قبضها، ولم يتمكن
من ايصالها إلى حاكم شرعي ولا ايداعها عند أحد العدول من المؤمنين في البلد أو
في غيره، جاز له أن يصحبها معه في سفره، ووجب عليه أن يحافظ عليها مهما
أمكنته المحافظة.
وكذلك الحكم إذا اضطرته الحوادث إلى السفر من أجل الوديعة نفسها
ومثال هذا أن تحدث في بلد المستودع عاديات من السلب والنهب أو الحريق أو
غير ذلك، ويصبح البلد غير آمن، ولا مستقر الأوضاع، فلا يستطيع ابقاء الوديعة
فيه، ولم يقدر على ردها إلى أهلها، ولا ايصالها إلى مأمن مما ذكرناه في ما تقدم
فيجوز له في هذا الحال أن يسافر بها ويصحبها معه، ويجب عليه الحفاظ عليها
ما أمكن.
(المسألة 43):
إذا سافر المستودع وأخرج الوديعة معه مضطرا في الصورتين اللتين تقدم ذكرهما
فاتفق له في السفر عروض أمر غير محتسب، فتلفت الوديعة بسبب ذلك الأمر أو
سرقت أو حدث فيها نقص فلا ضمان عليه بذلك.
122

[الفصل الثاني]
[في ما يوجب ضمان الوديعة]
(المسألة 44):
الوديعة كما قلنا في المسألة التاسعة عشرة أمانة من المالك في يد
المستودع، ومن أجل أمانته عليها فلا يكون ضامنا إذا تلفت في يده أو سرقت أو
غصبت بالقهر عليه أو عطب شئ منها، إذا كان قائما بما تقتضيه واجبات الأمانة
ولم يتعد ولم يفرط فيها، وإن هو تعدى بعض الحدود على ما سيأتي بيانه من معنى
التعدي أو فرط كذلك حكم عليه بالضمان، وينحصر السبب الموجب لضمان
المستودع للوديعة بالتعدي والتفريط.
(المسألة 45):
إذا تعدى المستودع الحدود التي تلزم مراعاتها للوديعة، والتي يعد خائنا
لها في أنظار أهل العرف إذا تعداها، وخالف الأحكام الشرعية المبينة للوديعة، أو
فرط في حفظها كما أمر الله بالحفظ، خرج بذلك عن كونه أمينا، وأصبحت يده عليها
يدا خائنة، ولذلك فيصبح محكوما عليه بضمان أي تلف أو عطب أو سرقة أو نقص
أو عيب يحدث على الوديعة، سواء كان حدوث ذلك الأمر عليها بسبب تعديه أو
تفريطه أم بسبب آخر حصل بعدهما.
123

ولا تبرأ ذمته من هذا الحكم إلا برد الوديعة إذا كانت موجودة، أو رد مثلها أو
قيمتها إذا كانت تالفة، أو دفع أرش النقصان والعيب إذا كانت ناقصة أو معيبة لا تبرأ
ذمته إلا برد ذلك إلى مالك الوديعة، أو إلى من يقوم مقامه، أو بابراء، المالك ذمته من
الضمان بعد أن تشتغل ذمته بالمال، وهذا هو المراد من قولنا في المسألة السابقة:
إذا تعدى المستودع أو فرط ضمن.
(المسألة 46):
يتعدد الحكم إذا تعدد الأمر الحادث الذي يتعلق به الضمان، ومثال ذلك أن
يحدث في الوديعة عيب بعد أن يفرط المستودع في أمرها أو يتعدى، فيلزمه أن يدفع
لمالك الوديعة أرش ذلك العيب الذي حدث فيها، ثم يحدث فيها بعد ذلك عيب
آخر فيلزمه أن يدفع للمالك أرش العيب الجديد مضافا إلى أرش العيب الأول
وإذا تلفت الوديعة كلها بعد ذلك لزم المستودع أن يدفع للمالك قيمة الوديعة وهي
معيبة بالعيب الأول والثاني، ولا يسقط أحد الأحكام بالآخر، ولا يتداخل بعضها
في بعض.
(المسألة 47):
التفريط في الوديعة هو أن يهمل المستودع المحافظة عليها ولو من بعض
الجهات اللازمة عليه للحفظ، أو يفعل ما يعد إضاعة لها، أو استهلاكا في نظر أهل
العرف، ومثال ذلك: أن يجعل الوديعة في موضع بارز دون حرز يقيها ولا مراقبة ولا
حفيظ، أو يحافظ عليها بأقل مما جرت به العادة المتعارفة بين العقلاء في حفظ
تلك الوديعة، ووقايتها من التلف أو السرقة أو العيب.
وقد ذكرنا في مسألة سابقة وجوب سقي الدابة أو الحيوان المستودع وعلفه
124

بمقدار ما تحتمه حاجة الحيوان إلى ذلك في سلامته وبقائه صحيحا دون مرض
فإذا ترك الودعي ذلك أو قصر فيه من غير عذر أو سبب موجب فقد فرط وضيع
وذكرنا في ما تقدم أيضا وجوب اخفاء الوديعة عن الظالم الذي يخشى منه غصب
الوديعة ونهبها أو سرقتها، فلا يجوز للمستودع أن يعرف الظالم بأمر الوديعة، أو
يلفت نظره إليها، أو يجعلها في موضع يجلب نظره إليها أو نظر بعض السعاة الذين
يتزلفون إلى الظالمين، وتكون في ذلك الموضع مظنة للغصب أو للسرقة، فإذا فعل
كذلك فقد فرط وضيع، وتراجع المسألة العشرون وما بعدها.
(المسألة 48):
من التفريط بالوديعة إذا كانت من الثياب أو الأقمشة أو المنسوجات
الأخرى أو الحبوب أو الفرش أو الكتب ونحوها أن يجعلها في موضع تسري إليها
فيه الرطوبات من الأرض، أو من المطر، أو من بعض المجاري أو من الندا فتعفنها
أو تتلفها أو تعيبها أو تلونها أو تصل إليها الحشرات أو الدواب المبيدة أو الآكلة أو
المفسدة فتأكلها أو تفسدها، وإذا فعل كذلك فقد فرط وضمن، وقد ذكرنا في
المسائل السابقة أحكام السفر عن الوديعة وأحكام السفر بها، وبينا فيها ما يجوز
منه وما لا يجوز، وما يعد تفريطا في الوديعة وما لا يعد، فليلاحظ ذلك فذكره
هنالك يغني عن الإعادة هنا.
(المسألة 49):
التعدي على الوديعة هو أن يتصرف الودعي فيها تصرفا لم يأذن به مالكها
ولم يبحه له الشارع، مثال ذلك أن يلبس الثوب الذي استودعه المالك إياه، أو
يفترش الفراش، أو يركب السيارة أو الدابة، أو يستعمل جهاز التبريد أو التدفئة من
125

غير إذن من المالك ولا إباحة من الشارع.
(المسألة 50):
قد تدل القرينة على إذن المالك ببعض التصرفات في الوديعة، فلا يكون مثل
هذا التصرف تعديا من الودعي عليها، ومثال ذلك أن يأتي المالك بمبلغ من المال
فيودعه عند الرجل، فإذا أخذ الرجل المبلغ من يده وعده ليضبط حسابه، ثم وضعه
في كيس خاص وأدخله في الخزانة أو نقله إلى الموضع الذي أعده لحفظه في
البيت أو في المتجر لم يكن هذا التصرف منه تعديا، وإذا أتاه بالسيارة وأودعه
إياها فركب الودعي فيها وأدخلها المكان الذي هياه لحفظها لم يكن من التعدي و
هكذا.
وقد يتوقف حفظ الثوب المستودع عند الانسان من تأكله أو من تولد بعض
الحشرات فيها على لبسه في بعض الأيام أو على اخراجه ونشره في الشمس أو
الهواء الطلق، ويتوقف حفظ الفراش على استعماله كذلك فيجب على الودعي أن
يفعل ذلك لحفظ الوديعة ولا يكون هذا الاستعمال والتصرف من التعدي على
الوديعة.
(المسألة 51):
من التعدي على الوديعة الموجب لضمانها أن يخلط المستودع مال الوديعة
بماله، بحيث لا يتميز أحد المالين عن الآخر سواء خلطها بما هو أجود منها أم
بمساو لها في الجودة والرداءة أم بما هو أردأ، وكذلك إذا خلطها بجنس آخر من
ماله، كما إذا خلط الحنطة بالشعير أو الأرز أو خلط الماش بالعدس أو بغيره من
الحبوب، فإنه قد تصرف في الوديعة تصرفا لا إذن فيه فيكون آثما، وضامنا
126

وهذا إذا لم يقصد بالخلط تملك الوديعة وانكارها، وإنما قصد خلط ماله بها وهي
في ملك صاحبها، وأوضح من ذلك في صدق التعدي المحرم أن يقصد بالمزج
غصب الوديعة والاستيلاء عليها، وكذلك إذا خلطها بمال لشخص آخر فيضمن
المالين معا لمالكيهما إذا كانا وديعتين عنده.
(المسألة 52):
إذا استودع صاحب المال عند الرجل مبلغين من المال، وعلم
أو دلت القرينة على أنهما وديعتان تستقل إحداهما على الأخرى، فلا
يجوز للمستودع أن يخلط إحدى الوديعتين بالثانية وإذا خلطهما بغير إذن
مالكهما كان متعديا وضامنا لكلتا الوديعتين، بل وكذلك إذا احتمل أنهما
وديعتان مستقلتان، احتمالا يعتد به ما بين العقلاء، فيكون متعديا وضامنا إذا
خلطهما.
وإذا علم أو دلت القرينة على أن المالين الذين دفعهما له المالك وديعة
واحدة، وخلطهما المستودع ليحفظهما أمانة واحدة في موضع، أو لأنه أيسر له في
الحفظ وأمكن، فلا ضمان عليه بما فعل.
وإذا كان المبلغان في كيسين مختومين أو معقودين، ففك الختم أو العقدة
بغير إذن المالك وخلط المالين معا كان متعديا ولزمه ضمانهما وإن قصد بذلك
حفظهما، وأولى من ذلك بالحكم عليه بالضمان ما إذا خلط الوديعة بمال آخر
للمودع ليس بوديعة.
(المسألة 53):
من التفريط بالوديعة أن يوكل المستودع أمر حفظ الوديعة والقيام عليها إلى
127

غيره، أو يستودعها عند شخص آخر وإن كان الشخص ثقة مأمونا إلا إذا أذن
المالك له بايداعها عند غيره، أو دعت إلى ذلك ضرورة تحتمه عليه، وقد سبق في
المسألة الأربعين وجوب ايداع الوديعة عند بعض العدول من باب الحسبة في
الفرض المذكور في تلك المسألة ويراجع ما بيناه في المسألة السادسة
والثلاثين.
وإذا أذن له المالك بايداع الوديعة وعين له شخصا خاصا لم يجز له ايداعها
عند غيره إلا إذا اتفق له مثل الضرورة المتقدم ذكرها.
(المسألة 54):
إذا أنكر الودعي أن المالك قد استودعه المال، فإن كان انكاره للوديعة بقصد
غصبها والاستيلاء، عليها كان خائنا فإذا أثبتها المالك عليه بالبينة الشرعية أو
اعترف هو بها بعد انكاره لها، ثم اتفق أن عطبت الوديعة في يده أو سرقت أو عابت
كان ضامنا لما حدث فيها، وإن كان انكاره لها لنسيان وشبه من الأعذار لم تزل
الوديعة أمانة بيده، فإذا تذكرها بعد نسيانه لها واعترف بها، ثم تلفت أو عابت وهي
في يده فلا ضمان عليه.
وكذلك إذا كان جحوده لها لاخفاء أمرها والحفاظ عليها من أن يغصبها
غاصب أو يسرقها سارق فلا يكون جحودها تعديا أو تفريطا، ولا يثبت عليه بسبب
ذلك ضمان بتلف أو غيره، وقد ذكرنا هذا في بعض المسائل السابقة.
(المسألة 55):
إذا جحد المستودع الوديعة من غير عذر مقبول، أو طلبها منه مالكها أو
وكيله فامتنع عن ردها إليه مع التمكن من الرد كان خائنا وضامنا، ولا يرتفع الضمان
128

عنه بالاقرار بها بعد جحوده لها، أو امتناعه من ردها، ولا بالتوبة عن ذلك
والاستغفار إذا تاب عن خيانته واستغفر، فإذا تلف المال أو سرق أو غصب أو
حدث فيه عيب أو نقص كان عليه ضمان بدل ما تلف أو أخذ وأرش ما طرأ
(المسألة 56):
من التعدي الصريح أن يستودع المالك عند الرجل طعاما فيأكل بعضه أو
يطعمه غيره، وأن يستودعه مالا فيستقرض شيئا منه أو يقرضه أحدا غيره، أو يبيعه
على أحد، أو يهبه إياه أو يدخله في مضاربة ونحوها من المعاملات، سواء قصد
المعاملة بالمال لنفسه أم لمالك المال.
ومن التعدي أن يستودعه حبوبا وشبهها فيطبخها أو يطبخ بعضها، وإن لم
يأكل المطبوخ ولم يطعمه غيره، ومن التعدي أن يؤجر العين التي أودعها المالك
عنده أو يعيرها لأحد لينتفع بها، أو ينتفع المستودع بها بما يعد تصرفا في مال الغير
بغير إذنه.
(المسألة 57):
إذا دفع المالك إلى الرجل مالا ليكون عنده وديعة، فأخذ الرجل المال منه
بقصد التغلب والاستيلاء عليه كان بذلك غاصبا عاديا على مال الغير، وحكم عليه
بالإثم والضمان بمجرد قصده ونيته لذلك ولم يتوقف على أن يتصرف في الوديعة
تصرفا عدوانيا، وليس الحكم في ذلك كالتصرفات الأخرى وكذلك إذا قبض المال
من مالكه بنية الوديعة في أول الأمر، ثم تحولت نيته بعد القبض فقصد الغصب
والتغلب عليها فيكون غاصبا بمجرد نيته، ولا يتوقف تحققه على أن يتصرف في
المال تصرفا عدوانيا، ولا يرتفع الحكم بالضمان عنه إذا رجع عن قصده وتاب منه
129

واستغفر.
(المسألة 58):
إذا قصد المستودع في نفسه أن يتصرف في الوديعة التي دفعها له مالكها
فيركب السيارة مثلا في سفرة معينة، أو يسكن الدار أو يقترض المال، ثم عدل عن
نيته الأولى ولم يتصرف في الوديعة، لم يخرج بمجرد نيته الأولى عن الأمانة ولم
تثبت له الخيانة ويكون ضامنا للوديعة إذا حدث فيها أمر، وليس الحكم في هذه
التصرفات كنية الغصب، وقد ذكرنا هذا في المسألة السابقة.
(المسألة 59):
إذا وضع المالك ماله في محفظة مختومة أو صندوق مغلق أو نحوهما من
الغلافات التي تدل عادة على وحدة المال، وسلمه كذلك إلى المستودع وديعة
عنده، فلا ريب في دلالة ذلك على كون المال وديعة واحدة، فإذا فتح المستودع
الغلاف أو الصندوق من غير ضرورة ولا إذن من المالك في فتحه كان ضامنا لجميع
ما في الغلاف أو الصندوق بسبب تعديه أو تفريطه، سواء أخذ بعض المال أم لم
يأخذ منه شيئا.
وإذا دفع له مبلغين من المال على أنهما وديعتان مستقلتان، فهما وديعتان
كذلك، فإذا فرط المستودع في أحداهما أو تعدى عليها كان ضامنا لها بالخصوص
ولم يضمن الأخرى التي لم يتعد عليها ولم يفرط، سواء جعل المالك كل واحدة
من وديعتيه في حرز مستقل أم لا.
وإذا دفع له كيسين مختومين أو محفظتين مختومتين على أنهما وديعة
واحدة، ففرط المستودع في أحدهما أو تعدى عليه، فأخذ بعضه مثلا فلا ريب في
130

ضمان جميع ما في ذلك الكيس أو المحفظة التي فرط فيها، وهل يكون ضامنا لما
في الكيس الآخر أو المحفظة الثانية من حيث إن المالك قد جعلهما عنده وديعة
واحدة، أو لا يضمنه كما يرى ذلك جماعة من الأصحاب؟ والأحوط لهما الرجوع
إلى المصالحة.
وكذلك إذا دفع المالك للرجل مبلغا من المال على أنه وديعة، واحدة ولم
يجعله في كيس أو حرز، فإذا تصرف المستودع في بعض ذلك المال نصفه أو ربعه
مثلا، فهل يختص الضمان بالبعض الخاص الذي تصرف فيه أو يعم الجميع؟
فيجري فيه القولان المذكوران والاحتياط بالمصالحة بين الطرفين كما في الفرض
السابق.
(المسألة 60):
يجوز للمستودع أن يعتمد على بعض أهله أو على خادمه أو عامله في
ادخال الوديعة إلى الموضع الذي يعينه هو لحفظها ووقايتها، إذا كان ذلك بنظره
وملاحظته وكان الاعتماد على مثلهم في هذه الأمور من العادات المتعارفة بين
الناس في البلد، وبين الأمناء الذين لا يتسامحون في شؤون ودائعهم والحفاظ عليها.
(المسألة 61):
إذا فرط المستودع في الوديعة أو تعدى الحد المأذون به من المالك أو من
الشارع في تصرفه بها على ما فصلناه في المسائل المتقدمة خرجت يده بذلك عن
كونها يد أمانة وحكم عليه بالضمان، وقد تكرر منا ذكر هذا، ويسقط الحكم
بالضمان عنه بامتثال الحكم فيرد الوديعة نفسها إلى أهلها إذا كانت موجودة، ويرد
مثلها أو قيمتها إذا كانت تالفة، ويردها ويرد معها أرش النقصان أو العيب إذا كان
131

ناقصة أو معيبة، ويسقط الحكم عنه أيضا إذا اشتغلت ذمته ببدل الوديعة وهو المثل
أو القيمة، أو بالأرش وهو التفاوت ما بين قيمتها صحيحة ومعيبة، ثم أبرأ المالك
ذمته من ذلك بعد اشتغالها بالمال.
(المسألة 62):
إذا فرط المستودع في الوديعة أو تعدى الحد المأذون فيه من التصرف فيها
حكم عليه بالضمان إذا هي تلفت أو عابت في يده كما تكرر ذكره، فإذا فسخ مالك
المال عقد الوديعة بينه وبين المستودع قبل أن تتلف الوديعة أو تعيب، بطلت
الوديعة وزال الحكم المذكور بزوالها، فإذا اتفقا على الاستئمان مرة ثانية ودفع
المالك إلى المستودع تلك الوديعة، وجدد معه العقد صحت الوديعة، وترتبت
أحكامها، فلا يكون المستودع ضامنا إلا بتعد أو تفريط جديد.
(المسألة 63):
يشكل القول بسقوط الحكم بالضمان عن المستودع إذا أبرأ المالك ذمته من
الضمان بعد أن فرط أو تعدى على الوديعة، وقبل أن تتلف الوديعة بيده أو تعيب
وتشتغل ذمته فعلا بالبدل أو بالأرش.
132

[الفصل الثالث]
[في بعض أحكام الوديعة]
(المسألة 64):
إذا ادعى المالك على الرجل أنه قد استودعه وديعة من ماله، وأنكر الرجل
أن المالك استودعه شيئا، فالقول قول منكر الوديعة مع يمينه، إلا أن يقيم المالك
بينة لاثبات ما يدعيه.
وإذا اعترف المستودع بأن صاحب المال قد دفع إليه وديعة، وادعى أن الوديعة
قد تلفت في يده بعد أن قبضها منه، صدق في قوله لأنه أمين وعليه اليمين للمالك
إلا أن يقيم المالك بينة على وجود الوديعة وعدم تلفها، وإذا اعترف بالوديعة من
صاحب المال كما في الفرض السابق، وادعى أنه قد رد الوديعة إليه صدق في قوله
أيضا مع اليمين.
وكذلك الحكم إذا اتفق المالك والمستودع على أن المالك قد أودعه المال
واتفقا أيضا على أن الوديعة قد تلفت عند المستودع، ثم ادعى المالك أن
المستودع قد تعدى أو قد فرط، وتلفت الوديعة بعد تعديه أو تفريطه فيكون ضامنا
لها، وأنكر المستودع ما يدعيه المالك عليه، فالقول قول المستودع مع يمينه، إلا أن
يقيم المالك بينة شرعية مطلقة تثبت صحة ما يدعيه من أن التلف بعد التفريط.
(المسألة 65):
133

إذا انقضت المدة المعينة للوديعة، أو فسخ عقد الوديعة من المالك أو
المستودع، فدفع المستودع الوديعة إلى شخص ثالث، وادعى أن مالك الوديعة قد
أذن له في دفعها إلى ذلك الشخص، وأنكر المالك أنه أذن له في الدفع إليه، قدم قول
المالك المنكر، وعليه اليمين للمستودع على عدم الإذن له، إلا أن يقيم المستودع
بينة على حصول الإذن من المالك.
وإذا اعترف المالك للمستودع بأنه أذن له في الوديعة إلى ذلك الرجل وأنكر
أن المستودع سلم الوديعة إلى ذلك الوكيل الذي أذن له بالدفع إليه، فالقول قول
المستودع في الرد إليه مع اليمين، وقد ذكرنا هذا الحكم في المسألة المتقدمة، إذ لا
فرق بين الرد إلى المالك والرد إلى وكيله.
(المسألة 66):
إذا اختلف مالك المال والمستودع أولا في أصل الوديعة، فادعى المالك أنه
قد استودعه المال، وأنكر المستودع وقوع وديعة بينهما، وأقام المالك بينة تثبت
ما يدعيه على المستودع وأنه قد دفع إليه الوديعة، وبعد أن أقام المالك البينة
المذكورة صدقها المستودع في أن المالك قد استودعه المال، وادعى أن الوديعة
التي دفعها المالك إليه قد تلفت قبل الدعوى بينهما وقبل انكاره إياها، فلا تسمع
منه دعواه في هذا الفرض للتناقض بين قوله السابق وقوله الأخير، وإذا هو أقام بينة
على تلف الوديعة، لم تقبل بينته لأنه قد كذبها بانكاره السابق، ولذلك فيلزمه
الحاكم الشرعي برد الوديعة نفسها إلى مالكها.
وإذا هو صدق بينة المالك في وقوع الوديعة بينهما وادعى أن الوديعة
المدفوعة إليه قد تلفت بعد إقامة الدعوى وانكاره الأول سمعت منه دعوى التلف
134

إذا أقام عليها بينة تثبت التلف، فلا يلزمه الحاكم الشرعي برد الوديعة نفسها، وعليه
أن يدفع للمالك مثل الوديعة إذا كانت مثلية، وقيمتها إذا كانت قيمية، ويثبت عليه
هذا الضمان لأنه قد فرط في الوديعة بانكاره للسابق، ولا يسقط عنه الضمان
باعترافه أخيرا.
وإذا لم تكن له بينة على تلف الوديعة لم يسمع الحاكم منه دعوى التلف و
ألزمه برد الوديعة نفسها.
وإذا أبدى له عذرا عن إنكاره الأول للوديعة وكان عذره عن ذلك مما يقبله
العقلاء سمعت دعواه في كلا الفرضين المذكورين.
(المسألة 67):
إذا فرط المستودع في الوديعة أو تعدى عليها ثم تلفت في يده فكان بذلك
ضامنا لمثلها أو لقيمتها، ثم اختلف المالك والمستودع في مقدار المثل الواجب
عليه أو مقدار القيمة، قدم قول من ينكر الزيادة منهما وهو المستودع في الحالات
المتعارفة بين غالب الناس وعليه اليمين لنفي الزيادة التي يدعيها الآخر.
(المسألة 68):
إذا حلف المستودع في الصورة المتقدمة وأدى اليمين الشرعية لنفي الزيادة
في المثل أو القيمة التي يدعيها المالك، حكم ظاهرا بنفي الزيادة، ولم يجز للمالك
أن يأخذها منه بعد اليمين، وإذا علم المستودع أن قيمة الوديعة أو مثلها بمقدار
ما يدعيه المالك وليست أقل من ذلك، لم تبرأ ذمته من الزائد ولم يسقط عنه وجوب
أدائه للمالك باليمين الذي أداه أمام الحاكم، فيجب عليه أن يوصله إليه مهما أمكن.
(المسألة 69):
135

يجوز للأب والجد أبي الأب أن يستودعا مال الصبي أو الصبية عند ثقة أمين
ليحفظه له إذا لم تكن في ايداع ماله مفسدة تعود على الطفل أو على ماله، ويجوز
لولي اليتيم غير الأب والجد للأب أن يستودع ماله كذلك إذا كانت في ايداع المال
مصلحة تعود لليتيم أو لماله، وكذلك الحكم في الولي على المجنون والسفيه.
(المسألة 70):
إذا أذن مالك الوديعة للمستودع بأن يودعها عند ثقة أمين متى شاء، أو أذن له
بذلك عند طروء بعض الحالات من سفر ونحوه، جاز له أن يستودعها حسب ما أذن
له صاحب المال، ولا يجوز له أن يتجاوز ما عين له من الحالات، وإذا عين له
أشخاصا فلا يحق له أن يتعدى عنهم إلى غيرهم، وإن كانوا أوثق في نفسه وآمن.
ونتيجة لما ذكرناه، فيجوز أن تترامى الوديعة بين عدة أشخاص من الأمناء
مع إذن المالك لهم على الوجه الذي ذكرناه، ولا يجوز الايداع إذا لم يأذن به مالك
المال.
(المسألة 71):
تصح الوديعة وتجري عليها أحكامها في الأعيان غير المنقولة كالدور
والعقارات والأراضي، كما تصح في الأعيان المنقولة، ولا ريب في أن حفظ كل
شئ بحسبه وبما جرت به العادة المتعارفة في الحفاظ عليه ووقايته والابقاء عليه
صحيحا سليما من العيوب، وبعيدا عن المتلفات والمهلكات، وعن استيلاء
الظالمين واعتداء المعتدين، فإذا أودعه المالك دارا أو عقارا، فلا بد للمستودع من
المرور به والدخول إليه وتفقد شؤونه وعمارته للمحافظة عليه، وعلى بقائه من
الطوارئ والعوارض التي قد تجد لأمثاله، وهكذا، فإذا تركه ولم يتعهده بما تجري
136

به العادة من الرعاية والمراقبة كان مفرطا ضامنا، وإذا استأمن المالك الرجل على
الدار أو العقار أو الأرض أو البستان، وخوله أن يؤجر الدار أو العقار، وأن يستثمر
البستان ويقبض المنافع والثمار ويحفظها له، كانت المعاملة وكالة في الايجار
والاستثمار، وكان ابقاء المال الحاصل من ذلك عنده وديعة، وإذا استأمنه عليها
وأباح له أن ينتفع بمنافعها جميعا أو ببعضها، ويحفظ له الباقي كانت المعاملة عارية
والباقي من المال في يده وديعة، فلا بد من الفحص والتأكد من المقصد عند اجراء
المعاملة لكي لا تشتبه الأمور وتلتبس الأحكام بين أقسام الاستئمان.
(المسألة 72):
إذا نمت الوديعة نماء أو أنتجت نتاجا وهي عند المستودع فالنماء والنتاج
الحاصل منها مملوك لمالك الوديعة، ومثال ذلك، أن تلد الدابة وأنثى الحيوان
المودعة عند الرجل أو تثمر الشجرة أو تنتج لبنا أو سمنا أو بيضا، فإن أمكن رد
النماء والنتاج الحاصل من الوديعة إلى المالك أو إلى وكيله وجب على المستودع
ذلك، وإن لم يمكن بقي النماء والنتاج أمانة شرعية في يده ليوصله إلى المالك أو
إلى من يقوم مقامه، وإذا كان المالك قد أذن له في أن يبقي النتاج والنماء وديعة
عنده أبقاه كذلك، وسيأتي بيان الفرق بين الأمانة المالكية والأمانة الشرعية في
الفصل الرابع إن شاء الله تعالى.
(المسألة 73):
إذا أباح المالك للمستودع أن يتصرف في لبن الحيوان المستودع عنده وفي
السمن الناتج منه جاز له ذلك ولم يجب عليه ابقاؤه أمانة في يده، وكذلك إذا أباح له
أخذ الصوف والوبر من الحيوان، فيجوز له أن يجزه ويأخذه، ولا يكون ذلك بعد
137

الإذن من التعدي على الوديعة.
فيجوز للمالك والمستودع أن يصطلحا بينهما فيجعل النماء الحاصل من
الحيوان عوضا عما ينفقه المستودع على الحيوان من علف وسقي ونفقة غيرهما.
(المسألة 74):
الغالب المتعارف عليه بين الناس في عامة الودائع من الأموال، كالأثاث
والمتاع والثياب والفرش والأدوات والكتب والحيوان، أن يكون الملحوظ لمالك
الوديعة هو حفظ هذه الودايع بذواتها وأعيانها، بل وكذلك في الأموال الأخرى
كالحبوب والغلات والمخضرات وسائر الأموال غير النقود والعملات
ولذلك فلا يجوز للمستودع أن يتصرف في عين الوديعة أو يبدلها بغيرها بوجه من
الوجوه وأن يحفظ ماليتها، حتى في المنتوجات التي تخرجها المعامل والشركات
الحديثة متشابهة في جميع الصفات والمقادير والخصائص والأحجام، فلا يجوز
للمستودع أن يتصرف في الوديعة منها ويبدلها بفرد آخر يماثلها تمام المماثلة وإذا
تصرف في العين كذلك من غير إذن من المالك كان متعديا ضامنا وقد ذكرنا لذلك
أمثلة موضحة في التعدي والتفريط.
وكذلك الحكم في الوديعة من العملات والنقود على الظاهر، فلا يجوز
للمستودع أن يتصرف في الوديعة منها ويبدلها بغيرها وإن حافظ على ماليتها بنقد
آخر يعادلها من الأوراق أو المسكوكات، إلا أن يعلم أو تدل القرائن على أن
المقصود للمالك من استيداعها هو حفظ ماليتها وأن تغيرت أعيانها، وهذا هو
المعلوم من الودائع الدارجة في المصارف والبنوك، فإن القرينة العامة دالة على أن
المراد فيها ذلك.
138

ولهذا فيجوز للمستودع عنده مع وجود هذه القرينة أن يتصرف في العين
المودعة ويحتفظ للمالك بما يعادلها في المالية من العملة نفسها عند الحاجة
والطلب.
(المسألة 75):
إذا دفع صاحب المال إلى المصرف أو إلى البنك أو إلى أي مؤسسة صحيحة
أخرى: مبلغا من ماله ليبقى المبلغ المذكور وديعة له عند المؤسسة تحفظ له
ماليتها، كما قلنا في المسألة المتقدمة، وتدفعها له عند الطلب، أو بعد مضي مدة
معينة، حسب الشرط المتفق عليه بين المالك والمؤسسة، جاز للمؤسسة أن
تتصرف في عين الوديعة كيف ما شاءت، على أن تفي له بدفع مقدار ذلك المبلغ
المودع عندها من ماله في الوقت المتفق عليه بينهما.
(المسألة 76):
إذا دفع المصرف أو البنك أو المؤسسة لصاحب الوديعة فائدة معينة شهرية
أو سنوية للمبلغ الذي أودعه عندها جاز للمالك أن يأخذ تلك الفائدة من
المؤسسة، ولا يكون ذلك من الربا المحرم أخذه في الاسلام، فإن المفروض أن
المالك إنما دفع المبلغ وديعة تحفظ له المؤسسة ماليتها ولم يدفعه قرضا للمؤسسة
فتكون الفائدة من ربا القرض وليست هي من الربا في المعاملة فلا يحرم على
صاحب الوديعة أخذها، نعم إذا دفع صاحب المال المبلغ للمؤسسة على أن يكون
قرضا لهم لم يجز له أن يأخذ الفائدة عليه لأنه من ربا القرض ولا ريب في أن العقود
تتبع القصود.
139

(المسألة 77):
إذا أتلف المستودع عين الوديعة بفعله، أو تعدى أو فرط فيها ثم تلفت بعد
ذلك في يده وإن لم يكن التلف بفعله وجب عليه أن يدفع للمالك مثلها إذا كانت
مثلية وقيمتها إذا كانت قيمية بدلا عنها.
وإذا كانت الوديعة القيمية التالفة مما توجد له أمثال تتحد معه في المقدار
والصفات والمالية والنفع كالمنتوجات التي تخرجها المعامل والشركات
الحديثة، فالظاهر وجوب دفع هذا المثل للمالك بدلا عن العين التالفة، على أن
يكون البدل والوديعة من إنتاج شركة واحدة ومعمل واحد.
وإذا اختلف المثل الموجود عن الوديعة التالفة في القيمة من حيث الجدة
والقدم والاستعمال وعدمه، ولم يجود ما يماثلها في هذه الجهة لم يجب على
المستودع دفع ذلك المثل إذا كان أكثر قيمة منها، ولم يكفه إذا كان أقل قيمة منها
ودفع القيمة بدلا عن العين التالفة.
140

[الفصل الرابع]
[في الأمانة الشرعية]
(المسألة 78):
إذا وضع الانسان يده على مال لغيره وهو يعلم أن ذلك المال لغيره فقد
يكون وضع يده عليه بإذن من صاحب المال، فيسمى ذلك في عرف المتشرعة
والفقهاء أمانة مالكية، وقد يكون وضع يده على المال بإذن من الشارع، وحكمه
فيه بجواز ذلك أو بوجوبه عليه، ويسمى ذلك عندهم أمانة شرعية، وقد يضع يده
على المال بغير إذن من المالك ولا من الشارع فتكون يده على المال يدا عادية غير
أمينة، وقد فصلنا أحكام اليد العادية في كتاب الغصب من الجزء السادس من هذه
الرسالة وقد يضع الانسان يده على مال غيره وهو يجهل أن المال مملوك لغيره، أو
هو يعتقد مخطئا إنه المالك الشرعي لذلك المال، ومن أمثلة هذا الفرض: الشئ
المبيع الذي يقبضه من بائعه عليه بالبيع الفاسد، والعين التي يقبضها من صاحبها
بإجارة فاسدة، ونحو ذلك من الأشياء التي يأخذها من مالكها بإحدى المعاملات ثم
يظهر له أن المعاملة التي جرت بينهما معاملة فاسدة.
ولكلا الفرضين المذكورين أنحاء متعددة تختلف أحكامها، ولا ريب في
أنها جميعا ليست من أقسام الأمانة، وقد يلحق بعضها بالغصب في الأحكام، وإن لم
141

يكن الانسان واضع اليد فيه غاصبا ولا آثما بسبب جهله، وقد ذكرنا أحكام المال
المقبوض بالعقد الفاسد في كتاب الغصب فلتلاحظ.
(المسألة 79):
الأمانة المالكية هي ما يكون الاستئمان على المال والإذن بوضع اليد عليه
من المالك نفسه، أو من وكيله المفوض، أو من ولي أمره إذا كان قاصرا أو محجورا
عليه بسبب يوجب الحجر، فإذا أذن للانسان في قبض المال ووضع المؤتمن يده
على المال بإذنه أصبح المال أمانة من المالك بيده، وهو على أقسام كثيرة يشترك
جميعها في ترتب أحكام الأمانة عليه، ما لم يفرط الأمين في أمانته، أو يتعد في
تصرفه بها كما سبق تفصيله.
فالوديعة المقبوضة من المالك أو من يقوم مقامه أمانة مالكية بيد المستودع
والمال الذي يدفعه المالك إلى الوكيل ليبيعه له أو يؤجره أو يجري إحدى
المعاملات فيه، أو ليتصرف فيه تصرفا خارجيا من تعمير وترميم وشبه ذلك أمانة
مالكية بيد الوكيل، لأن المالك قد أذن له في ذلك، والعين التي أعارها الشخص لغيره
لينتفع بها، أمانة مالكية بيد المستعير لأن المالك أذن له في القبض واستأمنه على
العين والعين التي سلمها مالكها للمستأجر منه ليستوفي منها منفعتها في مدة
الإجارة أمانة مالكية بيد المستأجر لأنه قبضها بإذن المالك، واستأمنه عليها في
المدة المذكورة، والعين التي دفعها صاحبها للأجير ليؤدي فيها العمل الذي أجر
نفسه للقيام به لمستأجره، والمال الذي دفعه المالك لعامل المضاربة ليتجر به،
والأشياء التي يشتريها عامل المضاربة للمالك ويقبضها بالنيابة به للاتجار، والعين
التي يدفعها الراهن للمرتهن لتكون وثيقة له على دينه حتى يؤديه، وهكذا في
142

الموارد الكثيرة من المعاملات المختلفة والتي يستأمن مالك العين فيها عامله أو
شريكه أو وكيله على المال، فالمال في جميع هذه الموارد أمانة مالكية، ولا خلاف
في جميع ذلك.
(المسألة 80):
الأمانة الشرعية كما قلنا في أول هذا الفصل هي ما يقع من أموال الناس
الآخرين في يد الانسان، وهو يعلم أنها من أموال الآخرين، ويكون وقوعها في يده
بسبب غير عدواني، ويكون من غير إذن من مالك المال، ولا من يقوم مقامه في
صحة التصرف في ماله. والأمانة الشرعية تكون على عدة أنحاء.
فقد يكون السبب في وقوع المال في يد الانسان رخصة شرعية له في أن
يستولي على العين، وقد يحدث ذلك بسبب قهري لا خيرة لأحد من الناس فيه وقد
يحدث بسبب مالك المال نفسه، أو وكيله من غير علم لهما ولا اختيار وقد يكون
بسبب فاعل مختار لا يعلم به على وجه التحديد، وهكذا.
فاللقطة التي يجدها الانسان في موضع يصح الالتقاط فيه، أمانة شرعية في يد
الملتقط، لأن الشارع أباح له أن يأخذ اللقطة في مثل هذا الموضع ليعرف بها
ويجري أحكامها، والحيوان الضال الذي يراه الرجل أمانة شرعية في يد من
وجده، للرخصة الشرعية له في وضع اليد عليه وتطبيق أحكامه، ومال الغير الذي
يأخذه الشخص من غاصبه أو سارقه أمانة شرعية في يد ذلك الشخص الآخذ، لأن
الشارع قد أوجب عليه مع القدرة أن يأخذ من الظالم ويحفظه لصاحبه من باب
الحسبة الشرعية، والمال الذي يأخذه الرجل من الصبي أو المجنون إذا خاف على
مالهما التلف إذا بقي في يدهما أمانة شرعية في يد ذلك الرجل، لأن الشارع قد أذن
143

له أن يأخذ المال منهما من باب الحسبة ويحفظه لمالكه أو يرده للولي الشرعي
والمال أو الحيوان الذي يعرف الانسان مالكه ويجده في معرض الهلاك والتلف
يجب عليه أخذه مع القدرة من باب الحسبة ليقيه من التلف فيكون أمانة في يده
حتى يرده إلى إلى مالكه، والمال الذي يلقيه الطير في ملكه أو يأتي به ماء المد أو
السيل إليه، أو يلقيه الريح العاصف في منزله أو في أرضه فيكون تحت يده وسلطنته
وهو لا يعلم يكون أمانة شرعية بيده، لأن الشارع قد أذن له في قبض ذلك المال
ليرده إلى مالكه، والمال الذي قبضه من البايع أو من المشتري أو من المستأجر
غلطا منه زائدا على حقه، أمانة شرعية في يده كذلك ليرده إلى صاحبه، والمال
الذي يجده في الثوب الذي اشتراه أو في الصندوق الذي ابتاعه والمالك الذي باعه
لا يعلم بوجود المال فيه، أمانة شرعية في يده حتى يردها إلى المالك. وهكذا في
الموارد الكثيرة المختلفة التي تشبه ما تقدم ذكره وتشاركه في الحكم.
(المسألة 81):
الحسبيات هي أمور الخير والاحسان التي تكثرت الأدلة الشرعية من
الكتاب الكريم والسنة المطهرة في الحث عليها والترغيب فيها وتضافرت على
الأمر بها والاستباق لها والمسارعة إلى فعلها، كحفظ مال اليتيم، وإغاثة الملهوف
وإعانة الضعيف، ونصر المظلوم، ودفع الظلم عنه، وكشف كربة المضطر، وحفظ
مال الغائب، وسائر موارد الاحسان إلى الناس الذين يستحقون الاحسان، وإلى
المؤمنين منهم على الخصوص وتسديد خلتهم، مما يكون امتثالا لقوله سبحانه:
(فاستبقوا الخيرات)، ولقوله تعالى: (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها
كعرض السماء والأرض)، وقول الرسول صلى الله عليه وآله (الله في عون العبد ما كان العبد في
144

عون أخيه)، ولا ريب في أن موارد التي تقدم ذكرها في المسألة السابقة تنطبق
عليها وتكون امتثالا لها.
(المسألة 82):
الظاهر أن التصدي لما تقدم بيانه من الأمور الحسبية لا يختص بالحاكم
الشرعي، ولا يتوقف على إذنه، فيجوز للعدل من المؤمنين أن يتصدى له إذا كان
عارفا في تطبيقه على موارده تطبيقا صحيحا، ولا يجوز له أن يتصدى له إذا كان
جاهلا بذلك، أو كان شاكا في معرفته، ولا بد له من الرجوع إلى فتوى من يقلده من
الفقهاء.
نعم، لا بد من مراجعة العادل في الولاية على اليتيم ونحوه، وفي أشباه
ذلك من الولايات ومن الأمور التي تتوقف على المعرفة التامة بالأحكام والنظر
الصحيح فيها على الأحوط إن لم يكن ذلك هو الأقوى فيها.
(المسألة 83):
إذا كانت العين أمانة من المالك بيد الشخص، وقد قبضها بأذنه وكانت أمانته
منه مؤقتة بمدة معينة، ثم انقضت المدة المحدودة لها، أو كانت الأمانة قد وقعت
في ضمن عقد من العقود كالإجارة والصلح والوكالة والرهن والعارية ونحوها، ثم
فسخ العقد أو بطل بعروض أحد المبطلات، ولم ترد الأمانة إلى أهلها لعذر من
الأعذار الصحيحة، بقيت العين أمانة بيد الأمين.
فالوديعة بعد أن تنقضي مدتها أو ينفسخ عقدها أو يبطل بأحد المبطلات
إذا لم ترد إلى مالكها لعذر مقبول، تبقى أمانة بيد المستودع حتى يردها إلى أهلها
والعين المستأجرة إذا انقضت مدة الإجارة أو بطلت بسبب من الأسباب، تبقى
145

أمانة بيد المستأجر حتى يردها إلى صاحبها، والعين المرهونة بعد أن تفك رهانتها
تبقى أمانة بيد المرتهن كذلك، والمال الذي بيد الوكيل بعد أن تنقضي مدة الوكالة
أو يبطل عقدها أو يعزل الوكيل، يبقى أمانة بيد الوكيل حتى يرده، ومال المضاربة
بعد أن ينفسخ عقدها أو تنقضي مدتها أمانة بيد العامل حتى يرده إلى المالك
وهكذا. فإن كان بقاء المال في يد الأمين في الفروض التي ذكرناها برضا المالك
وإذنه، أو كان فسخ العقد أو بطلانه في أثناء المدة، فالأمانة مالكية، وإن كان بقاء
المال عند الأمين لعجزه عن ايصال المال إلى مالكه أو إلى من يقوم مقامه أو ينوب
عنه فالأمانة شرعية.
(المسألة 84):
الأمانة الشرعية كالأمانة المالكية في الآثار والأحكام، فيجب على الأمين
حفظها وصيانتها بما جرت به العادة في حفظ الأمانة بين الناس، ويجب عليه ردها
إلى مالكها أو إلى من يقوم مقامه في أول وقت يقدر على ردها فيه.
ويتحقق رد الأمانة بأن يرفع الأمين يده عنها، ويخلي بين مالكها وبينها
ويرفع الموانع له عن قبضها إذا شاء ومتى شاء، كما فصلناه في رد الوديعة في
المسألة الثانية والثلاثين.
ولا ضمان على الأمين إذا تلفت الأمانة الشرعية في يده أو سرقت أو عابت إلا
إذا تعدى عليها أو فرط في حفظها كما في الأمانة المالكية سواء بسواء.
146

[كتاب احياء الموات]
[وما يتبع ذلك من المشتركات العامة]
147

[كتاب احياء الموات وما يتبعه]
وتفصيل القول في هذا الكتاب يقع في تسعة فصول:
[الفصل الأول]
[في الأرضين الميتة وأحكامها]
(المسألة الأولى):
الموات من الأرض هي ما قابل الأرض المحياة، ويراد بها الأرض البائرة
التي لا تنتج بالفعل منفعة يقصدها الناس العقلاء من أمثالها، كالمفاوز المقفرة من
السكان الذين يتولون عمارتها واحياءها، وكالبراري التي انقطع عنها الماء أو رسب
في أغوارها، فلا تنبت شيئا، أو هي تنبت الأشواك والحشائش التي لا تنفع الانسان
لحياته الخاصة، وإن كانت قد تنفع دوابه ومواشيه، وكالجزر والمستنقعات التي
استولى عليها الماء الملح أو الماء العذب فأصبحت بسبب غلبته عليها غير صالحة
للتعمير، وكالأراضي التي غلبت عليها الرمال أو الأملاح والأسباخ أو الحجارة
الخشنة فتركت وأهملت، وكالأهوار التي أصبحت آجاما ومنبتا للقصب والبردي
والنبات غير المجدي، وكالغابات التي التفت بها الأشجار والأدواح الضخمة
وعادت مأوى للحيوانات المتوحشة والسباع والضاريات، وكالجبال التي لم
يملك الانسان عمارتها لارتفاعها، والأودية التي لم يستطع احياءها لأنها بطون
ومجاري للسيول، وكالأراضي التي ترك الانسان عمارتها لصعوبة العيش فيها أو
149

لبعدها عن مواضع ألفه أو موارد رزقه، وهكذا مما يعسر عده من موانع التعمير
والاحياء.
(المسألة الثانية):
تنقسم الأرض الموات إلى قسمين، فهي إما ميتة بالأصل وإما ميتة بالعارض
ويراد بالميتة بالأصل الأراضي التي لم تجر عليها يد انسان من قبل، ولم تنلها
بالتملك والعمارة من قديم العصور والأزمان، وتلحق بها في الحكم الأراضي التي
لم يعلم حالها في ما سبق: هل أحياها الانسان في تاريخه الماضي أم لم يحيها؟
ويدخل في هذا القسم أكثر الأراضي الخربة الموجودة على سطح هذه الكرة من
مفاوز وصحارى وبوادي ووديان وجبال وجزر وشواطي خالية من التعمير.
ويراد بالأراضي الميتة بالعارض: ما علم أنها كانت عامرة وقد أحياها
الانسان في بعض عصوره، ثم أهملها فالت إلى الاندثار والخراب بعد الحياة
والعمران، وتدخل في هذا القسم: الأراضي الدارسة والقرى الطامسة التي بقيت
منها الآثار والرسوم والأطلال، أو التي لم يبق منها رسم ولا طلل، وتنقسم الأرض
الميتة بالعارض إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أراضي تركها أهلها الذين عمروها ثم بادوا وانقرضوا، وبقي
ذكرهم للعبرة والتاريخ أو لم يبق منهم حتى الذكر.
القسم الثاني: أراضي تركها أهلها وملاكها ولم يبيدوا ولم ينقرضوا ولكن
جهل أمرهم ولم تعرف أشخاصهم ولا أسماؤهم، فهي مجهولة المالكين.
القسم الثالث: أراضي تركها مالكها فخربت واندرست آثار الحياة فيها بعد أن
تركها المالك أو قبل أن يتركها، ومالكها أو وارثه معلوم غير مجهول.
150

(المسألة الثالثة):
لا ريب في أن الأرض الموات بالأصل من الأنفال، وحكم الأنفال أنها
تختص بالرسول صلى الله عليه وآله في حياته، وتختص بالأئمة المعصومين (ع) أولياء الأمور
من بعده، إماما بعد أمام، وقد أذن المعصومون (ع) للشيعة باحيائها وتملكها في
زمان غيبة الإمام المهدي خاتمهم (ع) وقد ذكرنا هذا في مبحث الأنفال من كتاب
الخمس في هذه الرسالة.
بل الظاهر حصول الإذن العام من ولي الأمر (ع) للناس جميعهم باحياء
الأرض الموات وتملكها كما ورد في النصوص الدالة على جواز شراء الأرض من
اليهود والنصارى، وإن الرسول صلى الله عليه وآله لما فتح خيبر خارج أهلها وأبقى الأرض في
أيديهم يحيونها ويعمرونها ويؤدون إليه خراجها، وإن كل من أحياء أرضا مواتا
ملكها، وهي شاملة للمسلم والكافر.
ويلحق بالأرض الموات بالأصل في هذا الحكم: القسم الأول من الأرض
الميتة بالعارض، وهي الأراضي والقرى التي اندرست وباد أهلها وملاكها
القدامى، ولم يبق لهم إلا الذكر، أو لم يبق منهم حتى الذكر، فيجوز للناس احياؤها
ومن أحيا شيئا منها ملكه بالاحياء، ولا يتوقف جواز ذلك إلى الإذن من الحاكم
الشرعي.
(المسألة الرابعة):
إذا كانت الأرض من القسم الثاني من الأراضي الميتة بالعارض، فماتت بعد
أن كانت عامرة محياة، وبعد أن تركها أصحابها وهي عامرة، أو هم تركوها بعد أن
خربت واندرست ولم يبدأ أهلها ولم ينقرضوا، بل جهل أمرهم فلم يعرفوا على
151

التعيين.
فإن علم أنهم قد أعرضوا عن أرضهم اعراضا تاما جاز للناس الآخرين
احياؤها وتملكها، وإن لم يعلم باعراضهم عن الأرض أشكل الحكم فيها
والأحوط لمن يريد احياء شئ من هذه الأرض أن يفحص عن وجود مالكها، فإذا
حصل له اليأس من معرفته رجع في أمر الأرض إلى الحاكم الشرعي ليجري معه في
التصرف فيها معاملة مجهول المالك:
فيجوز للحاكم الشرعي بولايته عن المالك المجهول أن يبيع الأرض على
الشخص المذكور بثمن معين، فإذا قبض الحاكم منه الثمن قسمه هو أو وكيله على
الفقراء، ويجوز له أن يؤجره الأرض مدة معلومة بأجرة معينة، أو يقدر للأرض
أجرة مثلها في المدة المعلومة بدلا عن انتفاع الرجل بالأرض، ويصرف الأجرة
على الفقراء.
(المسألة الخامسة):
إذا كانت الأرض من القسم الثالث من الأراضي الميتة بالعارض، وهي التي
أحييت أولا ثم ماتت بعد الحياة والعمران، وأهملها صاحبها قبل موتها أو بعده
وكان مالك الأرض معلوما غير مجهول، فإن علم بأن مالك الأرض قد أعرض عنها
اعراضا تاما، جاز لغيره من الناس أن يتصرف في الأرض فيحييها بعد الموت
ويتملكها، وإن لم يعرض المالك عن تملك الأرض وإن كانت ميتة، فهو يريدها
مرعى أو مراحا لماشيته مثلا، أو يبتغي الانتفاع بما فيها من كلأ أو بردي أو قصب
أو أسل أو شجر أو نخيل يابس، أو يطلب إجارتها أرضا فارغة لبعض الراغبين
فيها، فلا يجوز لأحد أن يتصرف فيها أو يحييها، وكذلك إذا كان المالك يريد التفرغ
152

من أعماله ومشاغله ليعمرها ويحييها أو هو ينتظر الفرصة المواتية لذلك، بل
وكذلك الحكم مع الشك في ما يقصده المالك من ابقائها ميتة لا منفعة لها، فلا
يجوز لأحد احياؤها والتصرف فيها.
(المسألة السادسة):
إذا ماتت الأرض وخربت وهي في يد مالكها وكانت حية عامرة في يده
كما فرضنا في المسألة المتقدمة، وأهملها صاحبها وعلم عدم انتفاعه بها وإنه لا
يريد تعميرها، فإن كانت من قبل وضع يده عليها أرضا ميتة وقد ملكها هو
بالاحياء، عادت بعد موتها من الأنفال كما كانت من قبل، وجاز لغيره من الناس أن
يحييها ويتملكها، وإذا أحياها غيره وملكها فليس للمالك الأول أن يطالب
المحيي بشئ، وإن كان المالك الأول قد ملكها بالإرث أو الابتياع من أحد أو
بمعاملة مملكة أخرى لم يجز لأحد من الناس أن يحييها أو يتصرف فيها إلا بإذنه
وقد ذكر هذا في مبحث الأنفال من كتاب الخمس في هذه الرسالة.
(المسألة السابعة):
يجوز للرجل أن يحيي موضعا واحدا أو أكثر من القرية أو البلدة الخربة التي
درست عمارتها وانقرض سكانها الذين عمروها، وأصبحت من الأنفال، فيجوز له
أن يعمر منها منزلا دارسا فيجدد بناءه، ويتخذه دارا يسكنها أو عقارا ينتفع به، أو
يجري له الماء فيجعله بستانا أو مزرعة، أو ما شاء من أقسام الأرضين المعمورة
ويملكه بالاحياء.
ويجوز له أن يحوز ما في المنزل وما في القرية من مواد وأنقاض للأبنية
القديمة فيها كالحجارة والمدر والآجر والأخشاب والحديد وغيرها، وإذا
153

حازها بقصد التملك ملكها وصح له التصرف فيها كما يشاء.
(المسألة الثامنة):
إذا ماتت أرض موقوفة واندرست آثار العمارة والحياة فيها، وعلم من
القرائن أو من الشياع والاستفاضة بين أهل البلد إن الأرض موقوفة على قوم سابقين
من الأجيال وقد بادوا ودرس ذكرهم، أو أنها وقف على قبيلة من الماضين أو على
جماعة لا يعرف منها في الوقت الحاضر سوى الاسم على ألسن بعض الناس أو في
بعض السجلات القديمة ولا وجود لهم في الخارج، أصبحت الأرض المذكورة من
الأنفال، فيجوز للناس احياؤها وتملكها.
وكذلك حكم الأرض التي يعلم على وجه الاجمال أنها موقوفة ولم يعرف
إنها وقف عام أو خاص، وإنها وقف على جهة أو على عنوان أو على أشخاص
وعلى أي الجهات أو العناوين أو الأشخاص، فإذا ماتت الأرض المذكورة وخربت
فهي من الأنفال وجاز للناس احياؤها وتملكها.
(المسألة التاسعة):
إذا ماتت الأرض الموقوفة كما قلنا في الفرض المتقدم، وعلم أن الأرض قد
وقفت على بعض الجهات ولم تعرف الجهة الموقوف عليها على نحو التعيين، فهل
وقفت الأرض على مسجد أو على مشهد أو على مدرسة أو على غير ذلك من
جهات الخير، أشكل الحكم في أن يحيي هذه الأرض أحد من الناس ويتملكها
وقد نقل جماعة من العلماء أن القول بجواز احيائها هو المشهور بين الفقهاء.
والأحوط لمن يريد احياء هذه الأرض أن يستأذن من الحاكم الشرعي في
احيائها، وإذا عرف المتولي على الوقف استأذن الحاكم والمتولي معا، فإذا هو
154

أحيى الأرض المذكورة بإذنهما صرف جميع ما حصل من منافعها في وجوه البر
ولم يتملك منه شيئا، واستأذن الحاكم الشرعي والمتولي في الصرف كما
استأذنهما في الاحياء.
ويجري نظير القول الذي ذكرناه أيضا في الأرض الميتة إذا علم بأن واقف
الأرض قد وقفها على أشخاص ولم تعرف أعيانهم ومشخصاتهم، وعلم أنهم
موجودون بالفعل غير معدومين، فمن أراد احياء هذه الأرض فالأحوط له أن
يستأذن الحاكم الشرعي باحيائها ومن المتولي على الأرض إذا كان موجودا أو
معروفا فإذا أحياها صرف جميع منافعها التي تحصل منها بعد الاحياء في وجوه
البر ولا يتملك الأرض بهذا الاحياء ولا من المنافع شيئا، وعليه أن يكون الصرف
في وجوه البر بإذن الحاكم الشرعي والمتولي أيضا.
(المسألة العاشرة):
يجوز لمن يريد احياء الأرض في كلتا الصورتين اللتين ذكرناهما أن يراجع
الحاكم الشرعي ويراجع متولي الوقف معه إذا كان موجودا، فيستأجر منهما
الأرض مدة معينة بأجرة مثل الأرض في تلك المدة، ثم يحيي الأرض لنفسه إذا
شاء، ولا يملك الأرض نفسها بهذا الاحياء، بل يأكل منافعها ونماءها في مدة
الإجارة، وتصرف أجرة المثل التي تلزمه في وجوه البر، وعليه أن يستأذن من
الحاكم الشرعي ومن المتولي إذا كان موجودا في صرفها، بل ولا يترك الاحتياط في
أن يكون صرف الأجرة في وجوه البر من المتولي نفسه.
(المسألة 11):
إذا شمل الأرض المذكورة في كلتا الصورتين اللتين ذكرناهما بعد موت
155

الأرض وخرابها أحد الموارد التي يصح فيها بيع الوقف، أمكن للشخص أن يشتري
الأرض من الحاكم الشرعي ثم يحييها بعد الشراء لنفسه ويملكها بهذا الاحياء، وإذا
قبض الحاكم الشرعي من المشتري ثمن الأرض اشترى به أرضا وجعلها وقفا
عوضا عن الوقف المبيع، وصرف منافع الوقف الجديد في وجوه البر، وإذا لم
يمكن ذلك صرف الثمن نفسه في وجوه البر، وقد عددنا المواضع التي يجوز فيها
بيع الوقف في المسألة المائة والثلاثين وما بعدها من كتاب التجارة، وفي المسألة
المائة والثلاثة والثلاثين وما بعدها من كتاب الوقف في هذه الرسالة.
(المسألة 12):
إذا اندثرت عمارة الأرض وخربت بعد عمارتها وكانت وقفا على جهة
معلومة أو كانت وقفا على جماعة معينين معروفين، جاز لمن يريد احياء الأرض
أن يستأجرها مدة معلومة بأجرة مثل الأرض في تلك المدة، ثم يتولى احياءها
وتعميرها في مدة الإجارة، ويأكل منافعها وما يحصل منها في المدة، وتصرف
أجرة المثل التي دفعها بدلا عن استئجاره للأرض في الجهة الموقوف عليها أو
الجماعة الموقوف عليهم، فإذا كان الوقف على جهة معينة وجب أن تكون إجارة
الأرض والتصرف فيها من المتولي على الوقف إذا كان موجودا، ولزم أن يتولى
بنفسه صرف أجرة المثل على الجهة الموقوف عليها، أو يكون الصرف فيها بإذنه
وإذا لم يكن للوقف متول يقوم بالأمر وجب أن يكون كل من إجارة الأرض وصرف
أجرة المثل في الجهة الموقوفة عليها بإذن الحاكم الشرعي.
وإذا كان وقف الأرض على أشخاص معلومين وكان الوقف خاصا، وجب
أن تكون إجارة الأرض والتصرف فيها وصرف أجرة المثل على الأشخاص
156

الموقوف عليهم بمراجعة متولي الوقف إذا كان موجودا، وبمراجعة كل من الحاكم
الشرعي والأشخاص الموقوف عليهم على الأحوط إذا كان متولي الوقف مفقودا.
وإذا كان وقف الأرض المذكورة على الأشخاص عاما، وجب أن تكون
إجارة الأرض والتصرف فيها وصرف أجرة المثل على الموقوف عليهم بتولي
الحاكم الشرعي أو وكيله.
وإذا انطبق على الأرض المذكورة بعد خرابها بعض ما يسوغ مع بيع الوقف
أمكن للرجل أن يرجع إلى الحاكم الشرعي فيشتريها منه ثم يحييها لنفسه بعد
شرائها، والأحوط أن يكون البيع من الحاكم الشرعي والمتولي للوقف إذا كان
موجودا، ويتوليان معا على الأحوط كذلك شراء أرض أخرى بثمن الوقف المبيع،
ووقفها عوضا عن المبيع، وإذا لم يمكن ذلك صرفا ثمن الوقف على الجهة أو
الأشخاص الموقوف عليهم.
(المسألة 13):
لا فرق في الأحكام التي بيناها أو التي يأتي بيانها للأرض الموات وأقسامها
بين أن تكون الأرض في بلاد الاسلام أو في بلاد الكفر، فإذا كانت مواتا بالأصل فهي
من الأنفال، وتختص بإمام المسلمين (ع) وإن كانت في بلاد المشركين أو الكفار
غير المشركين، وتحت نفوذهم وفي سيطرتهم، فإذا أحياها مسلم أو كافر ملكها
باحيائه إياها، وإذا كانت مواتا بالعارض جرت أقسامها وأحكامها أيضا حسب ما
فصلناه، وحتى إذا فتح المسلمون بلاد الكفر بالقتال فالأرض الموات منها في حال
الفتح من الأنفال، فتجري فيها أحكام الأنفال، سواء كانت ميتة بالأصل أم ميتة
بالعارض.
157

وأما الأرض العامرة من بلاد الكفر في حال فتح المسلمين لها فهي ملك
للمسلمين عامة، ولا تختص بأحد منهم ولا من غيرهم، وإذا ماتت بالعارض بعد
الفتح لم يتغير حكمها، ولم تصبح بموتها من الأنفال، فلا يملكها من يحييها وهي
لا تزال ملكا لعموم المسلمين.
(المسألة 14):
يشترط في صحة احياء موات الأرض وفي تملكها بالاحياء أن لا تكون
حريما لملك أحد مسلم أو غير مسلم إذا كان ممن تحترم حقوقه وملكيته في
الاسلام، فلا يصح لأحد احياء الأرض الميتة إذا كانت مرفقا أو حريما لملك مالك
محترم، ولا يحل لغير ذلك الشخص الذي استحق الأرض بتبع ملكه العامر، وإذا
أحياها غيره لم يملكها، وإذا وضع يده عليها بغير إذن صاحب الحق كان غاصبا
لحق غيره آثما بفعله، وسنوضح إن شاء الله تعالى معنى الحريم وحدود مقاديره
في الفصل الثاني.
والظاهر أن المراد بالمرفق هنا ما يتوقف عليه بعض الانتفاعات بالملك من
الأرض الموات المتصلة به فهو بعض أفراد حريم الملك.
(المسألة 15):
يشترط في صحة احياء الأرض الموات أن لا تكون محجرة لغير الانسان
الذي يريد احياءها، إذا كان المحجر مسلما أو ممن يحترم الاسلام حقوقه من غير
المسلمين كالذمي والمعاهد، والتحجير كما سيأتي ايضاحه في الفصل الثالث لا
يكون سببا لملك الأرض المحجرة، ولكنه يوجب ثبوت حق فيها لمن حجرها،
ويكون أولى بها من الناس الآخرين، فإذا وضع غير المحجر يده على الأرض بعد
158

تحجيرها من غير إذن المحجر كان غاصبا آثما، وإذا أحياها كذلك لم يصح احياؤه،
ولم تثبت ملكيته لها على الأحوط، بل لا يخلو ذلك من قوة، وإذا أراد احياءها جاز
لمن حجرها أن يمنعه.
(المسألة 16):
اشتهر بين جماعة من الفقهاء (قدس الله أنفسهم) أنه يشترط في صحة احياء
الأرض الميتة أن لا تكون الأرض المقصودة من الأراضي التي جعلت في دين
الاسلام مشعرا من مشاعر العبادة للمسلمين مثل أرض عرفات والمزدلفة ومنى
فلا يصح احياء الأرض من هذه الأودية إذا كانت ميتة.
هكذا أفادوا، وفي صحة هذا الاشتراط اشكال، بل الظاهر منع ذلك، فإن
عظمة شأن هذه المواقع في دين الاسلام وجعلها فيه حقا مقدسا لله سبحانه وحقا
ثابتا معظما لعموم المسلمين، لأداء مناسكهم في ممر الأزمان والعصور قد أبعد
هذه الأمكنة أشد البعد وأعلى مقامها أعظم العلو والارتفاع عن اعتبارها أرضا
مواتا أو مباحة كسائر الأرضين فتحجر أو تحاز ويملكها الأفراد أو تجري عليها
الاعتبارات المتعارفة في المعاملات بين الناس!.
(المسألة 17):
يشترط في صحة احياء الأرض الميتة أن لا يكون إمام المسلمين (ع) قد
أقطع تلك الأرض من قبل لأحد من الناس، فإن الإمام إذا أقطع الأرض لأحد
اختصت به وإن لم يحجرها ولم يحييها، ولا يحق لأحد من الناس غيره أن يحيي
تلك الأرض أو يضع يده عليها، ولا ينبغي الريب في صحة هذا الشرط إذا تحقق
159

الاقطاع منه (ع)، وقد ذكرت في التاريخ وفي كتب السيرة النبوية قطائع من
الرسول (ص) لبعض الصحابة، ولكن هذا الشرط لا أثر له في عصر غيبة المعصوم
(ع) لعدم وجود القطائع فيه.
(المسألة 18):
إذا أحيى الانسان أرضا ميتة على الوجه التام من الاحياء، ملك الأرض
باحيائه إياها، ولا يشترط في حصول الملك له أن يكون المحيي قاصدا لتملك
الأرض على الأقوى، ويكفي في حصوله أن يقصد احياء الأرض للانتفاع بها.
فإذا مر الانسان في الفلاة مثلا بأرض كثيرة الماء نقية الهواء ورغب في البقاء
في تلك الأرض شهرا أو أكثر، فأحيي بقعة من تلك الأرض لينتفع بها في مدة بقائه
وزرع في البقعة بعض ما يعجل نموه ونتاجه من المخضرات والنبات، وغرس
بعض الشجر والأزهار، ملك البقعة التي أحياها، فإذا انقضت أيام إقامته في المكان
وأعرض عن المزرعة وتركها وسافر عنها زال ملكه بالاعراض، وجاز للناس
الآخرين حيازتها وتملكها من بعده، وكذلك إذا بنى له في الأرض منزلا ليسكنه
مدة بقائه فيها، فإنه يملك المنزل باحيائه، وإذا أعرض عنه وتركه وسافر زال
ملكه، ومثله إذا حفر بئرا أو أجرى نهرا لينتفع به، فيملك ما أحياه، وإذا تركه
وسافر وأعرض عنه أعراضا تاما أصبح مباحا.
ولا يبعد القول بعدم حصول الملك لما أحياه إذا قصد باحيائه عدم التملك
له، ومثال ذلك: أن يحيي المنزل في الموضع المذكور ويحفر البئر وهو يقصد
عدم تملكها لنفسه، بل لينتفع بها العابرون والمسافرون من الحجاج والزوار.
160

(المسألة 19):
إذا سبق أحد المسلمين إلى أرض موات مباحة فوضع يده واستولى عليها
لينتفع بما فيها من كلأ ونبات أو ماء أو حطب أو قصب أو ما يشبه ذلك كان ذلك
المسلم أولى بتلك الأرض من غيره ما دامت يده على الأرض وإن لم يحجرها، فلا
يجوز لأحد أن يحييها ويتملكها، ما دامت في يد المسلم السابق إليها، وإذا أحياها
الثاني بالقهر على صاحب اليد كان غاصبا لحقه، ولم يملك الأرض باحيائه لها
ولذلك فيشترط في صحة احياء الأرض الميتة وفي حصول الملك باحيائها: أن لا
يكون احياء المحيي لها مسبوقا بيد المسلم قد استولى قبله على الأرض، أو مسبوقا
بيد ذمي أو معاهد للمسلمين ممن تحترم يده وتصرفه في الاسلام.
161

[الفصل الثاني]
[في حريم الأملاك المحياة]
(المسألة 20):
إذا أحيي الانسان أرضا مواتا فجعل الأرض باحيائه لها دارا يملكها أو عقارا
أو مزرعة أو بستانا أو شيئا آخر مما يتملك وينتفع به، تبع ذلك الملك مقدار من
الأرض الموات مما يتوقف عليه حصول الانتفاع التام للمالك بالملك الذي أحياه
من الأرض، ويسمى هذا المقدار التابع للملك من الأرض الموات حريما له.
والحريم الذي ذكرناه لا يكون بتبعيته له ملكا لمالك الأرض المحياة، ولكنه
حق شرعي يثبت له في الأرض ليحصل به الانتفاع بما يملكه، وهو يختلف في
مقداره باختلاف الملك المتبوع، حسب ما يحصل به الانتفاع بالملك في نظر أهل
العرف، وما أمضاه الشارع من ذلك، وسنذكره إن شاء الله تعالى في ما يأتي من
الفروض.
(المسألة 21):
إذا بنى الرجل له دارا في الأرض الموات فأحيى موضع الدار منها وملكها
بالاحياء، تبع الدار من الأرض الموات المتصلة بها مقدار ما يسلك به في الدخول
إلى الدار والخروج منها للرجل المالك ولعياله وأولاده الساكنين معه فيها
ولدوابه وأنعامه وزواره المترددين إليه وأضيافه، ولأحماله وأثقاله، ولسيارته
وأموره المتعارفة له، ويكون المسلك المذكور في الجانب الذي يشرع من باب
162

الدار، ويكون بمقدار يفي بحاجة كل أولئك في المرور دون عسر أو ضيق.
وإذا كان للدار بابان أحدهما لعياله ونسائه، والثاني لضيوفه وزواره من
الرجال، تبع الدار مسلكان يفيان بالحاجة، ولا يلزم أن يكون طريقه إلى الدار
مستقيما، إلا إذا اقتضت الضرورة ذلك أو العادة المتعارفة في البلد فيتبع ما تقتضي.
ويتبع الدار بعد احيائها وتملكها موضع من الأرض الميتة تلقى فيه قمامتها
وأوساخها وترابها، وموضع أو أكثر يجري فيه ماؤها من المطر وغيره، وتلقى فيه
ثلوجها إذا اقتضت ذلك عادة البلاد.
وهذه المواضع التي تتبع الدار بعد احيائها من الأرض الميتة المتصلة بها هي
حريمها الذي يتوقف على وجوده انتفاع المالك بداره، فتكون من مرافق الدار
عرفا، ومن حقوق مالك الدار شرعا، فلا يصح لأحد من الناس احياء هذا الحريم
بدون إذن مالك الدار، وإذا استولى عليه بغير إذنه كان غاصبا، ولم يملك ما أحياه
منه.
(المسألة 22):
إذا بنى الرجل في الأرض الموات حائطا ليجعله سورا لبستانه مثلا، أو
لحظيرة مواشيه، أو لغرض آخر، تبع الحائط على الأحوط من الأرض مقدار ما
يرمى فيه ترابه ومدره وحجارته وطينه وحصه وأدواته، إذا استهدم أو نقضه مالكه
وأراد ترميمه وإعادة بنائه، فلا يحيي غيره هذا المقدار من الأرض إلا بإذن مالك
الحائط على الأحوط كما قلنا.
(المسألة 23):
إذا حفر نهر في الأرض الموات ليسقي مزرعة أو نخيلا أو قرية أو غير ذلك
163

فحريم النهر من الأرض مقدار ما يلقى فيه طينه وترابه على الحافتين إذا احتاج إلى
التنقية، وطريقان على حافتي النهر يسلكهما من يريد اصلاحه إذا احتاج إلى
الاصلاح سواء كان النهر عاما أم خاصا، بمالك واحد أم بجماعة، ولا ريب في أن
مقدار حريم النهر يختلف باختلاف النهر نفسه في كبره وصغره، وفي سعة الأرض
والدور والنخيل والمزارع التي تستقي منه وقلتها، وفي قلة العاملين فيه لاصلاحه
وكثرتهم.
(المسألة 24):
إذا شق انسان له نهرا في الأرض الميتة ليسقي منه مزرعته أو أرضه أو داره أو
حفره جماعة مخصوصون لينتفعوا به في سقي مزارعهم ودورهم وملكوه
بالاحياء، فحريم النهر من الأرض الموات حق للرجل الذي حفر النهر وملكه أو
الجماعة الذين أخرجوه وملكوه، فلا يجوز لأحد سواهم احياء حريم النهر إلا
بإذنهم.
وإذا كان النهر عاما ينتفع به جماعة غير محصورين في العدد، وكان النهر
غير مملوك لأحد منهم بعينه، أو لجماعة معينين، فالحريم حق عام للجماعة الذين
ينتفعون به جميعا نظير ما يأتي بيانه في حريم القرية، إلا إذا كان الذي حفر النهر
واحدا بعينه أو جماعة معينون، وبعد أن شقوا النهر لأنفسهم وملكوه أباحوا
الانتفاع والتصرف فيه للجميع، فيكون حريم النهر من الأرض الميتة حقا لمن
استخرج النهر خاصة، دون غيره، إلا إذا أسقط حقه من الحريم، أو جعل النهر نفسه
مباحا للجميع.
164

(المسألة 25):
إذا استخرج الانسان له بئرا في الأرض الميتة يستقي من مائها لمزرعته أو
لماشيته أو لغيرهما، وملك البئر بالاحياء، تبع البئر مما حولها من الأرض الميتة
مقدار ما يقف فيه النازح لاستقاء الماء منها، واحدا أو أكثر، وما يضع فيه عدته
وحباله قبل الاستقاء وبعده، والموضع الذي يصب النازح فيه الماء إذا أخرجه من
البئر، والموضع الذي يجتمع فيه الماء لتشرب منه الماشية أو ليجري منه إلى
المزرعة والموضع الذي يلقي فيه طين البئر ورملها وحجارتها إذا احتاجت إلى
التنقية أو الاصلاح.
ولا يبعد أن يتبع البئر أيضا الموضع الذي تكون فيه الماشية حول الحوض
حين الشرب وقبله لانتظار النوبة إذا كانت الماشية كثيرة، وإذا كان الاستقاء من البئر
بالدولاب تبع البئر موضع نصب الدولاب في البئر، وموضعه قبل ذلك وبعده،
حين ما يحضر لينصب في موضعه أو حين ما يخرج منه للاصلاح أو الابدال، و
موضع دور البهيمة حول الدولاب لتديره بحركتها، وموضع تردد البهيمة في ذهابها
ورجوعها إذا كان الاستقاء بها لا بالدولاب، وموضع المكائن والأجهزة التي
تخرج الماء من البئر وتجريه في مجاريه إذا كان الاستقاء بها، وإذا حجر الانسان
هذه المواضع من الأرض الميتة واستعملها بقصد الاحياء ملكها مع البئر.
(المسألة 26):
للبئر السابقة في وجودها حريم آخر بالإضافة إلى البئر التي تحفر بعدها إذا
كانتا متقاربتين في المكان، وحريم البئر الأولى أن تبعد البئر الثانية المتأخرة عنها
في الوجود بمقدار لا تؤثر في ماء الأولى ضعفا في قوة الدفع أو قلة في كمية الماء
165

وقد حدد ذلك في الحكم الشرعي بأن تبعد الثانية في مكانها الذي تحفر فيه عن
الأولى أربعين ذراعا، إذا كانت الأولى بئر عطن وإن تبعد عنها ستين ذراعا إذا كانت
بئر ناضح، وبئر العطن هي ما يستقي منها للإبل والغنم، وبئر الناضح ما يستقى منها
لمزرعة أو بستان أو نحوهما.
فيجب على صاحب البئر اللاحقة أن يبعدها عن مكان الأولى بالمقدار
المذكور، والظاهر أن التحديد بالمقدار المعين إنما هو بحسب ما يقتضيه الغالب
في مياه الآبار المتعارفة، وإن المدار فيه على التأثير وعدمه، فإذا علم أن البئر الثانية
لا تؤثر على ماء الأولى قلة ولا ضعفا وإن استخرجت الثانية بالقرب من الأولى جاز
الحفر بقربها ولم يجب ابعادها، وإذا علم بأن المقدار المذكور من البعد لا يكفي
في إزالة الأثر وجب أن تبعد الثانية عن الأولى بأكثر من ذلك حتى لا تؤثر في مائها
شيئا.
(المسألة 27):
لا يختص الحكم بوجوب بعد البئر اللاحقة عن البئر السابقة عليها في
الوجود بالآبار التي يحييها الانسان في الأرض الموات، بل يجري حتى في الآبار
التي يحدثها أصحابها في أراضيهم المملوكة لهم، فإذا كانت لأحد الرجلين بئر في
أرضه المملوكة أو في داره، وأراد الرجل الآخر أن يحفر له بئرا في أرض يملكها
بجوار الأول، أو في أرض موات تقع بجواره، لزمه أن يبعدها عن بئر الأول إذا كانت
تضر بمائها، وكذلك البئر الموقوفة أو المسبلة في وجه من وجوه الخير، فإذا
أراد شخص آخر أن يحدث له بئرا في ملكه أو في أرض موات وهي في جوار
البئر الموقوفة أو المسبلة، فعلى الثاني أن يبعد بئره عنها إذا كانت توجب
166

تأثيرا على مائها.
(المسألة 28):
إذا فجر انسان لنفسه عينا نابعة بالماء في الأرض الموات ملك العين
بتفجيرها واحيائها، وتبع العين من الأرض الموات من حولها مقدار ما يتوقف عليه
حصول الانتفاع بالعين المحياة، فيكون ذلك المقدار حريما للعين، وحقا يختص
به مالك العين على نهج ما سيق ذكره في نظائره، فإذا احتاج في انتفاعه بحسب
العادة المتبعة عند أهل العرف إلى حوض يجتمع فيه الماء وإلى مجرى يجري فيه
كان موضع الحوض وموضع المجرى حريما للعين وتبعها أيضا موضع تلقي فيه
رواسب العين وطينها ورملها إذا احتاجت إلى الاصلاح أو التنقية، ولا يجوز لغير
مالك العين احياء هذه المواضع من الأرض الميتة بدون إذن مالك العين لأنها حق
يختص به، وإذا أحياها صاحب العين ملكها.
وللعين المحياة أيضا حريم آخر كالحريم الثاني للبئر، فإذا أراد رجل آخر
أن يستنبط له عينا في الأرض الموات بعد ذلك وجب عليه أن يبعدها عن العين
السابقة خمسمائة ذراع إذا كانت الأرض صلبة وأن يبعدها عنها ألف ذراع إذا كانت
الأرض رخوة.
والظاهر هنا أيضا أن التحديد بالمقدار غالبي كما قلنا في حريم البئر وأن
المدار على تأثير العين اللاحقة في العين السابقة وعدم تأثيرها، فإذا علم أن العين
الثانية لن تؤثر على جريان ماء الأولى ولن تقلله وإن قربت منها لم يجب ابعادها
وإذا علم أنها تحتاج إلى بعد أكثر مما ذكر وجب ابعادها أكثر منه.
167

(المسألة 29):
إذا شق الانسان له قناة في أرض موات وأجرى فيها الماء من عين، أو من آبار
موجودة في الأرض، أو كان هو قد استنبطها وأحياها وأجرى الماء في القناة إلى
مزرعته أو إلى ضيعته، تبع القناة من الأرض الموات في جانبيها نظير ما سبق
تحديده في حريم النهر، وكان هذا المقدار حريما للقناة، فلا يجوز لغير مالك
القناة احياؤه إلا برضاه.
وللقناة أيضا حريم آخر من كلا جانبيها وهو كحريم العين الذي سبق ذكره
في المسألة الماضية، فإذا أراد أحد أن يحفر له قناة في إحدى الناحيتين وجب عليه
أن يبعد قناته عن قناة الأول خمسمائة ذراع إذا كانت الأرض صلبة، وألف ذراع إذا
كانت الأرض رخوة، والتحديد بذلك غالبي كما قلنا في حريم العين وحريم البئر
فالواجب أن تبعد القناة الثانية عن الأولى بمقدار لا تضر معه فيها ولا تقلل ماءها.
وكذلك الحكم في النهر، فإذا شق الانسان نهرا وأجرى فيه الماء وأراد
انسان آخر يشق له نهرا في إحدى ناحيتي نهر الأول فعليه أن يبتعد عنه بمقدار
لا يكون معه مضرا بالأول.
(المسألة 30):
لا يختص الحريم الذي بيناه للعين أو القناة أو النهر بما يخرجه الانسان منها
في الأرض الموات، فيجري أيضا في ما يخرجه في ملكه، فإذا استنبط الرجل له
عينا، أو شق له قناة، أو نهرا في أرض يملكها، وأراد غيره أن يخرج لنفسه مثل ذلك
في ملكه، أو في أرض موات، وجب على الثاني أن يبتعد عن الأول بمقدار لا يضر
معه به وبمائه، وكذلك في الموقوف والمسبل، وقد تقدم ذكر مثل ذلك في البئر
168

وتراجع المسألة السابعة والعشرون.
(المسألة 31):
الحريم الثاني الذي ذكرناه للبئر أو للعين أو للقناة أو للنهر إنما هو حق
شرعي، أثره أن تبتعد البئر أو العين أو النهر أو القناة اللاحقة عن نظائرها إذا سبقتها
في الوجود، وكان وجود اللاحقة في ما دون المقدار المذكور يضر بالسابقة، فيقلل
الماء فيها أو يضعف قوة دفعه ولا يمنع هذا الحريم غير المالك من أحياء الأرض
الموات في هذه المسافة المقدرة، فيجوز لغيره احياء الموات منها فيجعله مزرعة أو
بستانا أو دارا أو عقارا له، بعد أن يترك للنهر أو للعين أو للبئر أو للقناة حريمها
الأول التابع لها فقد ذكرنا أنه حق لمالكها.
(المسألة 32):
إذا أحيي الرجل له مزرعة في أرض موات على الوجه الذي يأتي بيانه في
احياء المزرعة من الفصل الرابع، ملك الموضع الذي أحياه، وتبع المزرعة من
الأرض الموات التي تتصل بها مقدار ما يتوقف عليه حصول الانتفاع التام للمالك
بمزرعته، فإن المزرعة حسب ما يعتاد بين الناس والزراع منهم تحتاج إلى موضع
من الأرض تجمع فيه الأسمدة إذا كان الزرع مما يحتاج إلى التسميد وإلى موضع
يجعله الزارع بيدرا يداس فيه الزرع بعد حصاده وتصفى فيه الحبوب، وإلى موضع
يجمع فيه الخضر والحاصلات والثمار من الزراعة حتى توضع في صناديقها أو
في أكياسها أو تشد حزما وباقات وتصنف أنواعها وأصنافها وتعد للحمل
والنقل، وإلى موضع يكون حظيرة للحيوان والدواب التي يحتاج إليها في
المزرعة وإلى طريق للدخول إلى المزرعة والخروج منها والتردد في أطرافها
169

والوصول إلى مرافقها للزارع ولمساعديه وعملائه الذين يصلون إلى مزرعته إذا
كانت واسعة، وقد يحتاج بحسب العادة المتعارفة إلى أكثر من مسلك واحد
فيكون جميع ذلك وما أشبهه حريما للمزرعة يتبعها من الأرض الموات ويصبح
حقا خاصا لمالكها، فلا يجوز لغيره وضع اليد عليها أو على شئ منها إلا بإذنه
وإذا أحياها مالك المزرعة ملكها.
وقد يتخذ الانسان في المزرعة أو في البستان الذي يحييه بركة من الماء
لتربية الأسماك فيها، أو موضعا لانتاج الدواجن وتربيتها فيملكه بالاحياء، وتتبعه
من الأرض الموات المتصلة به مواضع يتوقف عليها الانتفاع بالملك فتكون حريما
له على نهج ما سبق في نظائره.
وقد يتوسع أمرها فيحتاج إلى طريق لدخول سيارته وأدوات نقله إلى
المزرعة وخروجها منها، ودخول سيارات آخرين يتعاملون معه وخروجها
وترددها، فيكون ذلك حقا من حقوقه الخاصة به وإذا أحياه ملكه، ويجري نظير ما
ذكر في البستان والضيعة إذا أحياهما من الأرض الموات فيتبعهما من الحريم ما
يتوقف عليه حصول الانتفاع التام بهما.
(المسألة 33):
إذا أحييت قرية في أرض موات ملك كل واحد من أهل القرية منزله الذي
أحياه منها، وتبع المنزل حريمه الخاص به، والذي لا يتم الانتفاع بالمنزل إلا به
وقد ذكرنا حريم الدار في المسألة الحادية والعشرون، ويتبع القرية من الأرض
الموات المتصلة بها طرق القرية للدخول إليها والخروج منها، والوصول إلى
منازلها وإلى مرافقها العامة، ويتبعها كذلك موارد أهل القرية من الماء ومشارعهم
170

إذا كانت منفصلة عن البيوت، ومسيل مياه القرية من المطر وغيره إذا لم تكفها
المجاري الخاصة بالبيوت، والموضع الذي يجتمع فيه أهل القرية متى احتاجوا
إلى الاجتماع ولم تكف لذلك مجالسهم الخاصة.
ويتبع القرية موضع لدفن الموتى منهم إذا لم توجد مقبرة مسبلة أو موقوفة
تكفي لأهل القرية، وموضع تجمع فيه كناسة القرية وقماماتها وتلقي فيه فضلاتها
وأسمدتها، ومراع للماشية وأمكنة للاحتطاب، إذا احتاج سكان القرية إلى مواضع
خاصة لذلك ولم تكفهم الحيازة من المباح، وما شاكل ذلك مما يحتاج إليه سكان
القرى وتتوقف عليهم مصالحهم.
والمدار في ذلك أن يحتاجوا إليه حاجة ماسة بحيث يقعون في عسر وضيق
إذا منعهم منه أحد أو زاحمهم فيه مزاحم، فيكون ذلك حريما للقرية وحقا عاما
لأهلها ولا يختص بواحد منهم، ولا يجوز لغيرهم احياؤه أو الاستيلاء عليه، بل ولا
يجوز لبعض أهل القرية احياء شئ منه إلا برضى الجميع.
ولا ريب في أن حريم القرية ومرافقها تختلف باختلاف القرية في كبرها
وصغرها وفي كثرة سكانها وقلتهم، وفي سعة اتصالاتهم بالقرى والبلاد الأخرى
وضيقها، وكثرة الواردين والمترددين إليها من أهل المصالح فيها وغيرهم، وكثرة
المواشي والأنعام والدواب وقلتها.
(المسألة 34):
قد يتداخل حريم الدار الخاص مع حريم القرية، فيكون مسلك الدخول إلى
الدار والخروج منها هو بذاته طريقا من الطرق العامة في القرية، أو يكون موضع
القاء القمامة والأوساخ من الدار هو موضع القائها في القرية، ويكون الموضع الذي
171

تجري فيه مياه المطر ونحوه من الدار في طريق من طرق القرية وهكذا، فيدخل
حريم الدار في حريم القرية ويكون حقا عاما لسكان القرية جميعا، ولا يختص به
صاحب الدار، وإنما يختص به إذا كان منفردا عن حريم القرية وإن كانت الدار
متصلة بالقرية.
(المسألة 35):
لا ريب في أن حاجة الناس إلى الطريق والشارع قد اختلفت مع اختلاف
الزمان ومع تنوع وسائل النقل والحمل فيه، واضطرار سكان القرى والبلاد
وسكان الأرياف إلى اتخاذ هذه الوسائل المتنوعة لحاجاتهم وتنقلهم وحمل
أثقالهم في الذهاب والرجوع، ولذلك فيكون من الحقوق اللازمة في القرية والبلد
بل وفي المزرعة والضيعة أن يتسع الطريق والشارع بمقدار ما يفي بالحاجة العامة
ويرفع العسر والضيق في المرور، وعن المارين والعابرين من الأفراد والجماعات
الراكبين والراجلين ويكون ذلك حريما للقرية وحدا للطريق وحقا عاما للسكان.
(المسألة 36):
إذا غرس الرجل نخلة أو نخلتين مثلا في أرض ميتة ملك ما غرسه وملك
موضع غرسه من الأرض، وتبع النخلة من الأرض الميتة مدى جرائد النخلة من
جميع جوانبها ويكون هذا المقدار حريما للنخلة المغروسة وحقا خاصا لمالكها
فلا يجوز لغيره من الناس أن يحيي هذا الحريم أو يتصرف فيه إلا برضى صاحبه
وإذا أحياه صاحب الحق ملكه، وكذلك الحكم إذا غرس شجرة في الأرض الميتة
فيملك الشجرة، ويملك موضع غرسها من الأرض ويتبع الشجرة من الأرض
مقدار ما تمتد إليه أغصانها، ويكون ذلك حقا له خاصة وإذا أحياه ملكه بالاحياء.
172

(المسألة 37):
إذا أحيي الانسان أرضا ميتة فجعلها دارا أو بستانا أو مزرعة أو غير ذلك
ملك ما أحياه من الأرض وتبعه من الحريم ما فصلنا ذكره في المسائل المتقدمة
فيكون ذلك حريما لملكه وحقا من حقوقه، وبقي ما زاد على ذلك من الأرض
الميتة مباحا للجميع، وليس لمالك الأرض المحياة حق اختصاص به سبب جواره
واحيائه لبعض الأرض، ولا يحق له أن يمنع أحدا عن احيائه أو تحجيره، وكذلك
الحكم في الأرض الميتة التي تكون في جوار قرية أو طائفة من الناس، فلا يكون
لأهل القرية أو لتلك الطائفة حق في الأرض المذكورة بسبب مجاورتها لهم، وليس
لهم أن يمنعوا من سواهم عن السبق إلى احيائها إلا إذا سبقوا إلى الأرض فحجروها
أو كانت حريما خاصا لأملاكهم أو ثبت لهم غير ذلك من موجبات الاختصاص
شرعا.
(المسألة 38):
الحريم الذي يتبع الملك الذي يحييه الانسان من الأرض الموات كما قلنا
أكثر من مرة إنما هو حق شرعي يثبت لذلك الانسان وليس ملكا له، فحريم الدار
وحريم الحائط وحريم المزرعة والضيعة والقرية والنخلة المغروسة، والحريم
الأول للبئر وللعين والقناة والنهر، حقوق شرعية تثبت لصاحب الحق تتعلق
بالمقدار المعين من الأرض الميتة فلا يجوز للناس الآخرين غصبها منه ووضع اليد
عليها باحياء أو تصرف آخر، ويجوز لصاحب الحق منعهم منه، من غير فرق بين
الأفراد المذكورة من الحريم على الأظهر والأحوط.
ولا يثبت هذا الحكم في الحريم الثاني للبئر والعين والقناة والنهر فإن هذا
173

الحريم إنما هو حد شرعي لابعاد البئر اللاحقة عن البئر السابقة عليها في الحفر إذا
كانت تضر بمائها، وكذلك الحريم الثاني للعين والقناة والنهر، وقد سبق منا بيان
هذا، فيجوز للآخرين احياء هذا الحريم وتحجيره والتصرف فيه، ولا يجوز لمالك
البئر والعين والقناة والنهر منعهم منه.
(المسألة 39):
لا يثبت الحريم بين الأملاك المتجاورة، فإذا بنى الرجل له دارا في أرضه
المملوكة له، فليس له حق الاستطراق إلى داره في الدخول والخروج منها في أرض
جاره، ولا حق له في اجراء مياه داره أو القاء كناستها وقمامتها في ملك جاره، أو
أن يجعل في ملك جاره شيئا من مرافق داره، إلا إذا أذن له الجار بما يريد، وإذا أذن
له بشئ منه فإنما هي رخصته يجوز له الرجوع بها متى أراد، وكذلك إذا بنى
الرجل حائطا أو شق له نهرا أو حفر بئرا في حدود أرضه المملوكة له، فلا يثبت لها
حريم في ملك صاحبه كالحريم الذي يكون لها إذا أنشئت في الأرض الموات.
نعم، إذا سبق أحد المتجاورين فحفر له بئرا في أرضه أو استنبط عينا نابعة أو
شق قناة أو نهرا، ثم أراد جاره أن يخرج مثل ذلك في ملكه وكانت بئره أو عينه أو
قناته أو نهره الذي يريد اخراجه يضر بما فعله الأول وجب على الثاني أن يبتعد عنه
بمقدار يرتفع به الضرر وليس ذلك حريما أو حقا للجار في ملك الجار، بل لعدم
جواز الاضرار به وقد ذكرنا هذا في المسألة السابعة والعشرين والمسألة الثلاثين.
(المسألة 40):
يجوز لكل واحد من الشخصين المتجاورين في الملك أن يتصرف في ملكه
الخاص به كيف ما يريد، ولا يحق لأحد من الناس أن يمنعه من التصرف في ملكه
174

إلا إذا كان الشخص محجورا عن التصرف في ماله فيجوز للولي الشرعي عليه منعه
بل ويجوز لغير الولي منعه أيضا من باب الحسبة مع وجود الشرائط.
ولا يجوز للمالك أن يتصرف في ملكه تصرفا يوجب الضرر على جاره
ومثال ذلك: أن يقطع الرجل نخلة من بستانه وهو يعلم أن النخلة إذا قطعها فستقع
على حائط جاره فتهدمه أو على بعض مملوكاته فتحطمها، وأن يفعل في بيته فعلا
يسبب تصدع منزل جاره وخلل بنائه، أو يبنى كنيفا بالقرب من بئر جاره يوجب تعفن
ماء البئر وفساده، أو يحتفر بالوعة تسري الرطوبة منها إلى جدران جاره فتتلفها.
ومن ذلك: أن يحفر بئرا بالقرب من بئر جاره فتسحب ماءها أو تنقصه، أو
يستخرج عينا تضعف جريان عينه، أو يشق قناة تضر بماء قناته وقد ذكرنا هذا في
مسائل تقدمت.
والظاهر أنه ليس من الضرر المانع من التصرف أن يرفع الرجل بناء بيته على
بيت جاره فيمنعه بسبب ذلك من تسلط الشمس والهواء على منزله والاستفادة
الصحية من ذلك، ولا يبعد أن يكون من الاضرار المانع إذا كان الجار قد أعد
الموضع من ملكه لجمع التمر فيه وتشميسه فأعلى الجار الآخر بناءه على الموضع
ومنع تسلط الشمس عليه وأوجب ذلك تلف التمر والضرر بالمال وخصوصا إذا
كان الجار صاحب البناء يعلم بوقوع هذا الضرر من قبل ذلك.
(المسألة 41):
لا يجوز لكل واحد من المتجاورين في الملك أن يتصرف في ملكه تصرفا
يوجب وقوع الضرر على جاره، ويراد به الضرر الذي يعتد به العقلاء، والذي لا
يتعارف حدوث مثله بين الجيران، فلا يمنع منه إذا كان مما يتعارف حصول مثله
175

بينهم، ومثال ذلك: أن يتخذ الجار في بيته مخبزا وإن استوجب أذية الجار
بالدخان، أو يتخذ في ملكه محلا لدباغة الجلود وإن استلزم أذاه بالروائح، ونحو
ذلك، ويأثم إذا هو فعل شيئا من ذلك بقصد ايذاء الجار.
(المسألة 42):
إذا تصرف المالك في ملكه تصرفا يستلزم ضرر جاره ضررا يمنع منه
العقلاء ويحرمه الشارع، وجب عليه أن يترك ذلك التصرف ويرفع استمرار الضرر
عن جاره، فإذا أوجب تصرفه في بيته تصدع حائط جاره أو خلل بنائه، ضمن له
ذلك فيجب عليه أن يتدارك الخلل والتصدع بالاصلاح إذا حفر بئرا بالقرب من
بئر جاره فانقطع بذلك ماءها أو نقص لزمه أن يطم البئر التي حفرها وهكذا.
(المسألة 43):
إذا تردد أمر المالك بين أن يتصرف في ملكه فيقع الضرر على جاره بسبب
هذا التصرف، وأن يترك التصرف فيقع الضرر على المالك نفسه بالترك، أشكل
الحكم، ولا يترك الاحتياط إما بأن يتحمل المالك الضرر ويترك التصرف أو يرجع
الطرفان إلى المصالحة بينهما.
(المسألة 44):
إذا سبق أحد المالكين المتجاورين فحفر له بالوعة في ملكه أو بنى كنيفا، ثم
حفر الثاني من بعده بئرا في ملكه بالقرب من بالوعة جاره أو كنيفه فأوجب ذلك
فساد ماء بئر الثاني وتغيره فلا إثم ولا ضمان على مالك البالوعة أو الكنيف، ولا
يجب عليه رفعهما ليزيل الضرر عن صاحب البئر.
وكذلك إذا سبق أحدهما فاحتفر في أرضه بئرا ثم حفر الثاني في أرضه بئرا
176

من بعده فلم يخرج الماء في البئر الثانية بسبب قرب البئر السابقة منها أو خرج الماء
فيها ضعيفا فلا شئ على السابق ولا يجب عليه طم بئره ليزيل الضرر عن صاحبه
فإن الضرر على اللاحق قد حصل بسبب تصرفه بنفسه في ملكه لا بسبب تصرف
الأول في كلتا الصورتين.
(المسألة 45):
تكاثرت الأحاديث الواردة عن الرسول صلى الله عليه وآله وعن خلفائه الأئمة
المعصومين (ع) الدالة على حرمة ايذاء الجار، وعلى وجوب كف الأذى عنه
وتنوعت في الدلالة على ذلك، ففي بعضها (إن الرسول الله صلى الله عليه وآله أمر عليا وسلمان
وأبا ذر، يقول راوي الحديث ونسيت آخر وأظنه المقداد أن ينادوا في المسجد
بأعلى أصواتهم: إنه لا ايمان لمن لم يأمن جاره بوائقة، فنادوا بذلك ثلاثا)، وعن
أبي حمزة قال: (سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: (المؤمن من أمن جاره بوائقة، قلت
ما بوائقة قال (ع) ظلمه وغشمه)، وفي حديث المناهي عن الرسول صلى الله عليه وآله: (من
أذى جاره حرم الله عليه الجنة ومأواه جهنم وبئس المصير، ومن ضيع حق جاره
فليس منا، وما زال جبرئيل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)، وفي الخبر
عن الإمام جعفر بن محمد عن أبيه (عليهما السلام)، قال: (قرأت في كتاب علي (ع): إن رسول الله صلى الله عليه وآله كتب بين المهاجرين والأنصار ومن لحق بهم من أهل
يثرب إن الجار كالنفس غير مضار ولا إثم، وحرمة الجار على الجار كحرمة أمة)!
ولهذه النصوص وغيرها فيحرم على الجار ايذاء جاره، ويجب عليه كف
أذاه عنه، سواء حصل الأذى بتصرف الانسان في ملكه تصرفا يضر بجاره ويؤذيه أم
بسبب آخر، فيكون بايذائه إياه عاصيا آثما.
177

(المسألة 46):
وقد استفاضت الأخبار عنهم (صلوات الله عليهم) في الحث على حسن
الجوار والتأكيد على حفظ حقوق الجيران، فعن الرسول صلى الله عليه وآله أنه قال
(حسن الجوار يعمر الديار وينسئ في الأعمار)، وعن الإمام أبي عبد الله (ع)
: (حسن الجوار يزيد في الرزق)، وفي خبر أبي أسامة زيد الشحام قال: قال لي أبو
عبد الله (ع): (اقرأ على من ترى أنه يطيعني منهم ويأخذ بقولي السلام، وأوصيكم
بتقوى الله (عز وجل) والورع في دينكم والاجتهاد لله وصدق الحديث وأداء
الأمانة وطول السجود وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد صلى الله عليه وآله)، وعنه (ع) في
حديث آخر: (أما يستحيي الرجل منكم أن يعرف جاره حقه ولا يعرف حق
جاره)، وعن العبد الصالح (ع): (ليس حسن الجوار كف الأذى، ولكن حسن
الجوار صبرك على الأذى)، وقد تكرر في أحاديثهم (ع): (إن الصبر على أذى
الجار وعلى أذى المؤذين من الناس مما يوجب الأجر الكريم عند الله، وأنه
سبحانه يمتحن العبد المؤمن بالجار المؤذي أو بالقرين المؤذي من أهل بيته أو
أرحامه أو بالرفيق المؤذي في سفره أو حضره ليؤجره بذلك إذا صبر) وورد عنهم
(ع): (من كف أذاه عن جاره أقاله الله عثرته يوم القيامة).
ولعل المراد بذلك أن يكظم الرجل غيظه مع ايذاء جاره له، ويصبر نفسه
على تحمل الأذى منه، ويكف نفسه عن مجازاته بالأذى مع قدرته على ذلك
ابتغاء لمرضاة الله سبحانه فيستحق بذلك أن يقيله الله عثرته في يوم الجزاء.
وقد ذكرنا في آخر كتاب الصلح في الجزء الرابع من هذه الرسالة مسائل
تتعلق بأملاك المتجاورين فليرجع إليها.
178

[الفصل الثالث]
[في تحجير الأرض الميتة والحمى منها]
(المسألة 47):
إذا سبق انسان إلى قطعة من أرض ميتة ولا يد لأحد من الناس فحجر تلك
القطعة كما سيأتي بيانه كان أولى من غيره في احيائها والتصرف بها، فلا يحق لغيره
أن يضع يده عليها أو يحييها إلا بإذن من حجرها، وإذا أحياها الغير بدون رضاه لم
يملكها، ولذلك فقد اشترطنا في صحة احياء الأرض الموات وفي حصول الملك
به: أن لا تكون الأرض قد حجرها أحد ممن تحترم حقوقه في الاسلام، إلا إذا
كان المحجر قد أسقط حقه من الأولوية بالأرض، وأباحها لذلك المحيي أو أباحها
لكل من يرغب في احيائها، أو عرض له ما يوجب سقوط حقه.
(المسألة 48):
تحجير الأرض هو أن يحدث الشخص فيها ما يدل على اختصاصه بها ومنع
الآخرين منها لغرض يقصده العقلاء، وسيأتي توضيح المقصود من هذا القيد في
بعض المسائل الآتية.
ومن أمثلة التحجير: أن يبني الرجل حول الأرض المقصودة له سورا كبيرا
أو صغيرا يحيط بها، أو يسد حولها سدا من الطين أو غيره، أو يحيطها بحجارة أو
يبني من حولها مروزا، أو يحفر أساسا أو يغرز خشبا أو جريدا أو قصبا، أو يحيطها
179

بسرك أو قضبان من الحديد ونحو ذلك. ولا يكفي أن يخط حول الأرض خطة.
والظاهر أنه يكفي في تحقق التحجير أن يبسط المحجر جميع الأرض و
يقتلع الأشواك والطفيليات منها، وإذا فجر في الأرض عينا نابعة ملك العين، و
اختص بحريمها من الأرض من جميع جوانب العين، وإذا شق للعين قناة أو أجرى
منها نهرا ملك القناة والنهر، واستحق ما يتبعهما من الحريم، وكذلك إذا استخرج
فيها بئرا فيملك البئر ويستحق حريمها من الأرض وقد سبق ذكر جميع هذا
مفصلا.
وهل يعد اخراج العين أو البئر أو شق القناة أو النهر في الأرض تحجيرا لها
وإن لم يسقها بعد بالماء كما يراه بعض الأعلام فيه اشكال، وإذا هو بسط الأرض
من حول ما أخرجه فيها وسقاها من الماء كان ذلك تحجيرا للأرض وشروعا في
احيائها بلا ريب.
(المسألة 49):
إذا عمد الرجل إلى أرض قد غمرها الماء وأصبحت من الأهوار منبتا للبردي
والقصب أو أجمة تلتف فيها الأشجار غير المثمرة، فجفف الماء وأظهر الأرض
كان ذلك تحجيرا لها وكان ذلك الرجل أولى بها من سواه، وكذلك إذا قلع ما فيها
من نبات وطفيليات كان ذلك تحجيرا وإن لم يجف الماء بعد، وإذا اقتلع الشجر
والنبات من جذوره وجفف الماء فقد حجر الأرض وبدأ في عمارتها واحيائها.
(المسألة 50):
لا يتقيد تحجير الأرض على الأقرب بأن يكون التحجير لإرادة احياء
الأرض وتعميرها كما يظهر من بعض الأكابر، فإن التحجير قد يحصل لغرض آخر
180

من الأغراض المطلوبة عند العقلاء المتعارفة في ما بينهم، كما أشرنا إلى هذا في
المسألة الثامنة والأربعين، فقد يحجر الانسان أرضا ميتة فيسورها لتكون مقبرة
مسبلة لأهل البلد، وقد يحجرها ليبقيها أرضا خالية ويتخذها مراحا لماشيته
وأنعامه، وقد يحجرها ليبقيها كذلك ويتخذها موضعا يجمع فيه حاصلاته من
التمور أو الحبوب أو غيرها، ويعدها فيه للحمل والنقل، وقد يحجرها فيجعلها
موضعا بارزا يجتمع فيه أهل بلده أو طائفته في مناسبهاتهم الدينية فيكون مصلى
لهم في العيد مثلا، أو عند الاستسقاء، أو في مناسباتهم العرفية أو الوطنية التي لا بد
لهم منها، أو لغير ذلك من الغايات والأغراض المهمة، ولا مانع من ذلك على
الظاهر خصوصا مع توفر الأراضي الموات لكل من يريد احياء أرض وتملكها
بحيث لا يزاحم حقوق الآخرين في ذلك.
وقد يريد الفقهاء القائلون بتقييد التحجير بإرادة الأرض ما يشمل مثل
ذلك مما يحتاج إليه الناس عادة، وإن كانت الأرض لا تزال فارغة من غير التحجير.
(المسألة 51):
يعتبر في التحجير أن تكون العلامات التي يجعلها الرجل في الأرض دالة
على اختصاصه بالأرض، ودالة على تحديد القطعة التي يريدها من جميع جهاتها
فعليه أن يحجرها من جوانبها الأربعة إذا كانت القطعة في وسط الأرض الموات
ويكفيه تحديدها من ثلاث جهات إذا كانت الجهة الرابعة تنتهي إلى موضع
مملوك أو محجر لأحد من الناس، أو تنتهي إلى شط أو بحر مثلا، ويكفيه
التحديد من جهتين إذا كانت من الجهتين الباقيتين تنتهي إلى بعض المذكورات فإذا
أراد الرجل تحجير بعض الشاطئ وكان البعض الذي يريد تحجيره ينتهي من
181

جهة اليابسة إلى أرض مملوكة أو محجرة لأحد كفاه أن يحجره من جهتين، وأما
من ناحية الشط أو البحر فإنما يفتقر إلى تحجيره إذا أبقى من الشاطئ فضلة
لا يريد الاختصاص بها، أو افتقر إلى السد ليمنع الماء عن أرضه ويبدأ باحيائها
أو الانتفاع بها.
(المسألة 52):
تحجير الانسان للأرض الميتة يوجب كونه أحق بالقطعة المحجرة من
غيره، ولا يكون مالكا لها إلا بالاحياء، ولذلك فلا يصح له بيع الأرض التي حجرها
ولا وقفها إلا بعد احيائها وتملكها.
والحق الذي يثبت للرجل بتحجير الأرض قابل للانتقال منه إلى غيره، فإذا
مات قبل أن يحيي الأرض انتقل حقه فيها إلى وارثه من بعده، وهو أيضا قابل لأن
ينقله المحجر في حياته باختياره إلى الغير فيصح له أن ينقله إليه بالمصالحة بعوض
وبغير عوض، ويصح له أن يجعل حق التحجير بعد أن يثبت له شرعا في الأرض
ثمنا لشئ يشتريه فيملك الشئ الذي اشتراه وينتقل حق التحجير إلى البائع
ويصح أن يجعله عوضا في مصالحة تقع بينه وبين غيره، وأن يجعله عوضا عن
شئ يستأجره من مالكه، وأن يكون مهرا في عقد النكاح، وعوضا في الخلع
والمباراة، ويجوز له أن ينقله إلى غيره بالهبة، وقد ذكرنا هذا في كتاب الهبة وإن كان
ذلك خلاف القول المشهور، فإذا نقل الرجل حق التحجير الذي ثبت له في الأرض
إلى غيره بأحد الأسباب التي ذكرناه أصبح الحق لذلك الغير، فيكون أولى
بالأرض المحجرة من غيره، ولا يملك الأرض إلا باحيائها وتسقط بالنقل أولوية
المحجر الأول.
182

(المسألة 53):
لا يشترط في صحة تحجير الأرض الميتة أن يتولى الشخص المحجر
تحجير الأرض بنفسه فيصح له أن يوكل فيه انسانا غيره وأن يستأجره ليحجر له
الأرض على الوجه الذي يحدده في عقد الوكالة أو الإجارة بينهما، فإذا حجرها
الوكيل أو الأجير وفقا لما يريده الأصيل صح عملهما وثبت الحق للأصيل المنوب
عنه فكان أولى بالأرض من غيره، ولا حق فيها للوكيل والأجير.
(المسألة 54):
إذا تبرع أحد عن زيد مثلا فحجر له أرضا مواتا متبرعا له بعمله من غير
استنابة ولا توكيل من زيد نفسه، وقبل زيد منه تبرعه أشكل الحكم بصحة التحجير
لزيد، وكذلك إذا حجر الأرض بالنيابة عنه على نحو الفضولية في النيابة وأجاز
الأصيل نيابته وتحجيره ففي صحة ذلك اشكال، ولا يترك الاحتياط بالمصالحة
والمراضاة بينهما في كلتا الصورتين.
(المسألة 55):
إذا حجر الانسان أرضا مواتا بقصد أن يحييها ويتملكها بعد التحجير، ثم
بدا له بعد ما حجرها بهذا القصد أن يستعمل الأرض في وجهة أخرى من الغايات
المتعارفة، فيتخذها مراحا لماشيته أو يسبلها مقبرة لدفن الموتى من أهل قريته أو
يجعلها لغير ذلك من وجوه الانتفاع بها جاز له ذلك، ونظيره في الحكم ما إذا حجر
الأرض لبعض الغايات والوجوه المذكورة ثم بدا له أن يعمر الأرض ويحييها
فيجوز له ذلك ولا يتعين عليه أن ينتفع بالأرض في الجهة الأولى التي قصدها عند
183

التحجير، ولا يسقط حقه من الأولوية بالأرض بسبب عدوله عن الغاية الأولى إلى
الغاية الثانية.
(المسألة 56):
إنما يثبت للانسان حق الأولوية بالأرض الموات بتحجيرها، ويكون له منع
غيره من التسلط عليها إذا كان قادرا على اعمار الأرض، وتوجيهها في الوجهة
المقصودة له، المتعارفة بين العقلاء من تحجير الأرض فإذا حجر الأرض وهو
عاجز عن احيائها أصلا، فلا يستطيع أن يقوم بعمارتها بنفسه ولا بالتوكيل أو
الاستئجار لغيره، ولا يجد الأسباب التي تمكنه من الاحياء، ولا يقدر أن يوجه
الأرض وجهة أخرى من الغايات الصحيحة، فلا أثر لتحجيره، ولا تكون له أولوية
على غيره في الأرض المحجرة.
وكذلك إذا حجر أرضا مواتا تزيد على مقدار ما يمكنه تعميره واحياؤه
منها وما يمكنه استعماله والانتفاع به من الوجوه الصحيحة غير الاحياء، فيثبت له
حق التحجير في المقدار الذي يستطيع استعماله منها، وينتفي حقه في الزائد الذي
يعجز عنه.
ويتفرع على ذلك أنه لا يصح للرجل أن يحجر أرضا يعجز عن استعمالها
كما ذكرنا، ثم ينقل حقه من الأرض إلى غيره بمصالحة أو هبة أو بإحدى
المعاملات التي يصح نقل حق التحجير بها، فإن حق التحجير لا يثبت له في الفرض
المذكور حتى يصح له نقله إلى غيره بعوض أو بغير عوض.
(المسألة 57):
يجوز لمن حجر أرضا مواتا وثبت له حق التحجير فيها على الوجه الصحيح
184

أن يسقط حقه من الأرض باختياره، ويجوز له أن يعرض عنه كما يعرض عن سائر
مملوكاته وأمواله، فإذا هو أسقط الحق باختياره أو أعرض عنه زال حقه بذلك
وعادت الأرض مباحة لأي أحد يريد احيائها من الناس، وإن كانت آثار التحجير لا
تزال موجودة من الأرض، وكذلك إذا زالت آثار التحجير منها، ودل ذهابها على أن
محجرها قد أعرض عن حقه فيها، ومثال ذلك: أن تنمحي آثار التحجير، وتبقى
الأرض مهملة غير محجرة مدة من الزمان وصاحب الحق يراها ولا يلتفت إليها
وهو قادر على احيائها أو إعادة تحجيرها على أدنى التقادير.
(المسألة 58):
إذا تعمد أحد من الناس فأزال آثار التحجير من الأرض لم يزل حق التحجير
ثابتا لصاحبه وهو المحجر الأول، وكذلك إذا زالت الآثار بعاصف من الريح
أو مطر شديد أو شبه ذلك فلا يزول بذلك حق صاحب الحق وخصوصا مع قصر
المدة، وإذا انمحت آثار التحجير من الأرض لطول المدة أشكل الحكم بزوال حق
التحجير بعد ذلك.
(المسألة 59):
إذا حجر الانسان لنفسه أرضا ليحييها وتملكها، لزمه بعد التحجير أن
يشرع بعمارة الأرض أو يبدأ بمقدمات ذلك إذا كان تعميرها يتوقف على مقدمات
ولا يجوز له أن يهمل الأرض ويترك احيائها، وإذا أهمل المحجر الأرض التي
حجرها ومضت على ذلك مدة فالأحوط لغيره إذا أراد وضع اليد عليها واحياءها
أن يرفع الأمر إلى الحاكم الشرعي إذا كان موجودا ومبسوط اليد، فيلزم من حجر
الأرض إما أن يختار تعمير الأرض واحياءها فلا تبقى معطلة، وإما أن يرفع يده عن
185

الأرض لمن شاء من الناس.
وإذا أظهر المحجر لنفسه عذرا مقبولا، فادعى أنه يريد التفرغ لتعمير
الأرض من بعض أعماله ومشاغله مثلا، أو أنه ينتظر قدوم عمال يعتمد عليهم، أو
يطلب الحصول على آلات صالحة يعمر بها الأرض، أمهله الحاكم مدة يزول فيها
عذره، فإذا انقضت المدة ولم يبدأ بتعمير الأرض بطل حقه من تحجير الأرض جاز
لغيره أن يقوم بعمارتها.
(المسألة 60):
إذا طالت مدة اهمال المحجر للأرض بعد تحجيرها فلم يعمرها ولم يوجد
الحاكم الشرعي ليخيره بين تعمير الأرض ورفع اليد عنها أو كان الحاكم غير قادر
على ذلك، فالأحوط أن يراعي للمحجر حق تحجيره للأرض إلى مدة ثلاث سنين
فإذا انقضت المدة سقط حقه وجاز لغيره احياء الأرض، وكذلك الحكم إذا حجر
الأرض لبعض الغايات الأخرى التي يصح التحجير لها، فإذا هو أهمل ولم
يستعملها في الوجهة المقصودة جرت فيها الفروض التي ذكرناها في هذه المسألة
وسابقتها وانطبقت عليها الأحكام التي بيناها.
(المسألة 61):
الحمى من الأرض حق مخصوص يتولى جعله وتعيينه ولي الأمر في
الاسلام، وهو الرسول صلى الله عليه وآله والإمام المعصوم من أوصيائه (ع) لأنهما أولى
بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا حمى موضعا معينا من الأرض أو قطعة أو أكثر منها
فجعلها لجهة من مصالح المسلمين العامة أو الخاصة أو لما شاء من الأمور كما
تقتضيه ولايته التامة العامة، لم يجز لأحد من الناس أن يتسلط على ذلك الحمى
186

ويتصرف فيه بتحجير أو احياء أو انتفاع في غير الجهة التي عينها ولي الأمر (ع).
وقد ذكر في كتب التاريخ وفي كتب السيرة النبوية إن الرسول صلى الله عليه وآله قد
حمى النقيع، وهو موضع في المدينة، فجعله مرعى لإبل الصدقة والجزية، ولخيل
المجاهدين، لم بذكر أنه صلى الله عليه وآله حمى لنفسه موضعا أو قطعة من الأرض، ولم يذكر
كذلك أن الوصي المعصوم (ع) قد حمى من بعده أرضا لمثل ذلك، وقد تقدم ذكر
اقطاع الرسول والإمام عليهما السلام لبعض المسلمين والاقطاع غير الحمى.
(المسألة 62):
لا يجوز لغير الرسول والإمام المعصوم (عليهما السلام) أن يحمي موضعا
أو قطعة من الأرض، وإذا حماه غيرهما لم تترتب عليه أحكامه.
وإذا أحيي الرجل ضيعة فملكها بالاحياء أو ملكها بغير الاحياء من الأسباب
الشرعية للتملك، وأراد أن يعين موضعا من ملكه فيجعله مرعى خاصا لماشيته
وأنعامه، أو لمواشي أرحامه أو أهل قريته، جاز له ذلك، واختص الموضع بالجهة
الخاصة التي عينها مالك الأرض، وهو أمر آخر غير الحمى من الأرض الموات
الذي يختص بجعله ولي المسلمين (ع).
187

[الفصل الرابع]
[في ما يحصل به احياء الأرض الميتة]
(المسألة 63):
تختلف كيفية احياء الأرض الموات باختلاف الوجهة التي يبتغيها الانسان
من احيائها والغرض الذي يطلبه من عمارتها، فإن الانسان قد يعمر الأرض
ليجعلها دارا يسكنها أو يؤجرها، وقد يعمرها لتكون ضيعة له أو بستانا أو مزرعة
ينتفع من ثمرها وحاصلها، وقد يحييها فيفجر فيها عينا جارية، أو يحفر فيها بئرا
نابعة، أو يشق في الأرض قناة أو نهرا، ويجري فيهما الماء من العين أو البئر ويسقى
مزرعته أو ضيعته أو قريته، ولا ريب في أن عمارة كل واحد من هذه الأشياء
واحياءه يختلف عن غيره والمرجع في جميع ذلك إلى العرف الموجود بين الناس
في صدق تعمير الجهة التي يريدها الانسان واحيائها.
(المسألة 64):
يتوقف احياء الأرض قبل الشروع فيه على رفع الموانع التي تكون في
الأرض عن قبول الاحياء والتعمير، فقد تكون الأرض منبتا للأشواك والحسك
والسلم وما يشبه ذلك من النباتات الخشنة، فلا يمكن احياء الأرض حتى يزال
منها جميع ذلك، وتصبح نقية منها ومن جذورها وقد يكون وجه الأرض قد
استولى عليه السبخ أو الرمل الناعم أو الحصى الخشق فلا تكون قابلة للتعمير إلا
بعد تنقيتها من ذلك، وقد تكون مما كثرت فيها التلول والهضاب والأودية، فلا
188

تمكن عمارتها إلا بعد تسوية الأرض وبسطها وإزاحة ما فيها من العقبات المانعة
وقد تكون الأرض قد استأجمت لغلبة الماء والأشجار والنباتات الغريبة عليها
ولا بد قبل الشروع في الاحياء من تجفيف الماء عنها، وقلع ما فيها من النبات
والشجر الذي يمنع من ذلك وتسوية الأرض، وطم الحفر وإزالة الجذور.
(المسألة 65):
إذا عمر الانسان حجرة في الأرض الميتة فبنى جدرانها الأربعة ووضع
عليها سقفها على الأحوط فيه وأصبحت بذلك صالحة للسكنى، فقد أحيي موضع
الحجرة من الأرض وملكه بالاحياء وإن لم ينصب لها بابا، وكذلك إذا بنى في
الأرض بيتا من قصب أو من خشب أو حديد أو غيره وسقف البيت، وأصبح البيت
قابلا للسكنى فيه فقد أحيي الموضع وملكه، وإذا أدار حول الحجرة التي بناها
والساحة حائطا يسورهما من جوانبهما فقد عمر الدار وعمر ساحتها وأحياها
وملك الأرض والدار بذلك وإن لم ينصب للحجرة أو للدار بابا.
وإذا بنى جدارا حول القطعة التي يختارها من الأرض فسور القطعة بالجدار
من جميع جهاتها ثم بنى فيها قواطع تامة لحجرة واحدة أو أكثر وأتم ذلك بحيث
عدت حجرا في نظر أهل العرف، فقد عمر بذلك الدار وساحتها وملك الجميع
وإن لم يسقف الحجر ولم ينصب أبوابها.
ومثل ذلك: ما إذا بنى الحائط والبيوت من القصب أو من الخشب شبهها
فيتم بذلك تعمير المنزل واحياؤه ويتملكه المحيي وإن لم تسقف البيوت ولم
تنصب الأبواب.
189

(المسألة 66):
لا يكفي في تعمير الدار واحيائها أن يبني الجدران المحيطة بها ما لم يبن
معها القواطع التي تكون فيها ولو لحجرة واحدة كما ذكرنا في المسألة المتقدمة فلا
تحيى الدار إلا بذلك كله ولا تملك، ويكفي بناء الجدران المحيطة بالأرض إذا
أراد تعمير حظيرة للحيوان، فيتم له بذلك احياؤها ويتحقق له ملكها، وإذا هو
أحياها بذلك حظيرة وملكها، ثم بدا له أن يجعلها دارا أو مزرعة أو شيئا آخر، جاز
له أن يفعل فيها ما يشاء، ولا يزول ملكه للأرض بعد الاحياء والتملك وإن تغير
قصده الأول إلى القصد الثاني.
(المسألة 67):
الظاهر أنه يكفي في تعمير القطعة من الأرض الميتة ليجعلها الرجل موضعا
لجمع التمر وتشميسه وتنقيته وكبسه، أو موضعا لجمع الحبوب أو الثمار
والمخضرات واعدادها فيه للحمل والنقل، أن تزال الموانع التي تكون في الأرض
من حشائش وأشواك وحجارة وتطم الحفر، وتبسط الأرض ويتم اعدادها
وتهيئتها للمقصد الذي يريده المحيي، ولا يتوقف على بناء أو سقف إلا إذا احتاج
إلى ذلك ليحفظ الثمار من مطر وشبهه أو يحفظها من سراق وغيرهم.
وإذا عمر الأرض كذلك بهذا القصد فقد أحياها وملكها، وإذا بدا له بعد
التملك أن يجعل الأرض دارا أو عقارا أو مزرعة جاز له أن يفعل فيها ما يشاء ولم
يزل ملكه عنها بتغير قصده السابق كما قلنا في نظيره المتقدم.
(المسألة 68):
يكفي في تعمير القطعة من الأرض الموات لتكون إصطبلا للخيل والدواب
190

أن يبني الرجل فيها جدارا يحيط بثلاث جهات منها، ويبني فيها بعض المعالف
والأحوط أن يسقف ولو بعضه، فإذا فعل ذلك فقد عمر ما في هذه الحدود من
الأرض في نظر أهل العرف وإذا بنى الجدار في الجهة الرابعة فقد أحيي جميع ما
بين الجدران من الأرض وملكه من غير اشكال، والظاهر عدم الحاجة إلى السقف
في تحقق الاحياء في هذه الصورة.
(المسألة 69):
إذا أراد الانسان أن يحيي الأرض الموات ويتخذها دكاكين ينتفع بالتكسب
والاتجار فيها، أو بإجارتها على الناس، كفاه أن يبني في الأرض جدارا مستطيلا
بقدر حاجته منها ويبني على الجدار قواطع تامة للدكاكين تحدد مقاديرها
ومواضع الأبواب منها، فإذا فعل ذلك فقد عمر الأرض والدكاكين وأحياها
وملكها بذلك، وإن لم يضع على الدكاكين سقفا ولم ينصب لها أبوابا.
وتتبع الدكاكين من الأرض الموات مما يلي مواضع الأبواب مقدار الطريق
إلى الدكاكين في السلوك والدخول والخروج، ومرور الأثقال والبضائع وأدوات
النقل والحمل، ومرور العابرين والمترددين إليها بما يفي بالحاجة المتعارفة في
البلد، فيكون ذلك حريما للدكاكين والأرض المملوكة وحقا لمالكها، ولا يجوز
لغيره من الناس أن يتسلط أو يتصرف في هذا الحق، وإذا عمره مالك الدكاكين
طريقا إليها كان ملكا له.
(المسألة 70):
إذا أحيي الرجل له دارا أو دكاكين من الأرض الميتة على الوجه الذي
أوضحناه استحق من الأرض المميتة طريقا يسلكه إلى داره أو دكاكينه مما يلي
191

الأبواب، وإذا عمر غيره من هذه الأرض الميتة دارا أو دكاكين تقابل عمارة الأول
في البناء والأبواب اشتركا في الطريق بينهما، ولا يجوز للثاني أن يزاحم الأول في
مقدار حريم ملكه، فيبني فيه وقد تقدم ذكر هذا.
وإذا أسس الرجل عمارة داره أو دكاكينه متصلة في أرض مملوكة لغيره لم
يجز له أن يتخذ له طريقا في ملك جاره إلا بإذنه، وقد تقدم تفصيل هذا في الفصل
الثاني.
(المسألة 71):
قد يحتاج الانسان بحسب العادة الجارية والمتعارفة في العصور الحديثة
إلى حديقة خاصة تلحق بداره ولا يتم الانتفاع بالدار في هذه الأزمان إلا بها، فيكون
مقدار الحديقة من الأرض الميتة المتصلة بالدار حريما يتبع الدار بعد تعميرها
وتملكها، ويكون حقا من حقوق مالك الدار، والمرجع في تحديد مقدار ذلك إلى
العرف الموجود بين أهل البلد، ولا يجوز لأحد مزاحمته فيه، كما هو الحكم الثابت
في نظائره، وإذا سوره مالك الدار كما تسور الحدائق الخاصة ووصله بعمارة داره
فقد أحياه وملكه وإن لم يغرس أو يزرع فيه شيئا.
(المسألة 72):
تتوقف عمارة الأرض الموات ليجعلها الانسان مزرعة، على أن ينقي الأرض
من الموانع والطفيليات التي تميت الزرع، أو تضعف نموه، أو تقلل نتاجه
وتتوقف أيضا على تسوية الأرض وبسطها ليستقيم زرعها ويعم، ويسهل سقيها
عند الحاجة، وهذا مما تشترك فيه أنواع المزارع وأصنافها.
وتستثنى من ذلك السهول والتلال القابلة بنفسها للزرع والتي تكتفي في
192

سقيها بماء المطر والطل، فلا تحتاج إلى تسوية وبسط.
والظاهر أن تعمير الأرض الميتة لتكون مزرعة من أي أنواع المزارع
وأصنافها يحصل باعداد الأرض اعدادا كاملا وتمهيدها للزراعة التي يقصدها
ذلك الشخص، وتهيئة وسائل سقيها من تفجير عين أو حفر بئر أو شق نهر
ومجاري وسواقي، واعداد دلاء أو ناعور أو مكينة، بحيث يصدق على الأرض في
نظر أهل العرف أنها مزرعة.
ولا يعتبر في تعمير الأرض لذلك أن تحرث بالفعل أو تزرع أو تسقى
بالماء، فإن جميع ذلك مما يتوقف عليه حصول الانتفاع بالمزرعة بعد احيائها
وبعد صدق اسم المزرعة، فإذا أعد الانسان أرضا كما ذكرنا وحفر لها سواقيها
وهيأ الوسائل لسقيها فقد عمر المزرعة وأحياها وملكها وإن لم ينتفع بها إلا بعد
الحرث والزرع والسقي والنمو بل والأثمار والانتاج.
(المسألة 73):
إذا كانت الأرض الميتة بذاتها صالحة للزراعة بالفعل بحيث لا تحتاج إلى
عمل واعداد وتهيئة لذلك، وكانت تكتفي في سقيها بماء السماء بحيث لا تحتاج
إلى شق سواقي واحضار وسائل، احتاجت إلى تحجير يفصل القطعة التي يريدها
الرجل ويرغب في احيائها عن بقية الأرض من جميع جوانبها بسور صغير أو كبير
يفصل ما بينهما، أو بنصب مروز، أو جمع تراب في حدود القطعة المطلوبة، فتعين
مزرعته عن سائر الأرض، لئلا تشتبه الحدود وتلتبس الحقوق، ويحصل التعمير
بحرث الأرض وزرعها بالفعل، ويكثر وجود هذا الفرض في الأراضي المهيأة
بنفسها لزراعة الحنطة والشعير، والتي تكتفي في السقي والارتواء بماء المطر
193

ونحوه أو بامتصاص المزروعات فيها من مياه الأرض لقرب منابع العيون وتوفر
الماء.
(المسألة 74):
تختص مزارع الأرز في بلاد العراق وما أشبهها بأن المزرعة تكون قريبة من
الأنهار الكبيرة التي تزيد في مواسم الزيادة ويختلط ماؤها برواسب الطين مثل
دجلة والفرات وروافدهما وفروعهما، وتكون أرض المزرعة منخفضة في العادة
عن مستوى الماء في النهر أو أن الزارع نفسه يعد الأرض كذلك، ويفتح لها ساقية
من النهر حتى يمتلئ قاع المزرعة بالماء المختلط بالطين، فإذا رسب الطين في
أرض المزرعة وصفا فوقه الماء فتح له منافذ على مجاري قد أعدها لينحدر إليها
الماء الصافي الفاضل عن الحاجة وتكون الزراعة في الطين الراسب في قاع
المزرعة والماء المختلط بالطين فوقه، وهذه أمور يعرفها الزارع من أهل هذا
الصنف، ويدأبون في العمل عليها.
وتعمير مثل هذه المزرعة أن يعدها الزارع بعمله فيها لتكون صالحة لما يريد
ومهيأة للانتفاع بها حين الزراعة وبذلك يكون قد أحياها وملكها.
(المسألة 75):
إذا أراد الانسان أن يعمر الأرض الميتة ليجعلها ضيعة له أو بستانا لزمه أن
يعد الأرض لذلك ويمهدها ويهيئ، وسائل السقي على النحو الذي ذكرناه في
المسألة الثانية والسبعين، وأن يغرسها بعد الاعداد والتمهيد نخيلا أو شجرا أو
كليهما، ولا يتوقف صدق تعمير الضيعة أو البستان في نظر أهل العرف على أن
يسور الأرض بجدار وشبهه، ولا على سقي الغرس إذا كان له من رطوبة الأرض أو
194

من ماء السماء ما يكفيه لاستعداده للنمو.
(المسألة 76):
يتحقق اعمار العين في الأرض بأن يحفر الأرض حتى ينبع ماء العين سواء
نبع قليلا أم كثيرا، وكذلك تعمير البئر، وإذا حفر الأرض ولم ينبع الماء في العين أو
البئر لم يتحقق احياؤهما ولم يملكهما، ويكون الحفر تحجيرا للأرض التي حفرها
فيثبت للحافر حق الأولوية بها من غيره.
ويتحقق تعمير القناة بشقها في الأرض واخراج العين أو البئر التي يجري
ماء القناة منها، وكذلك الحكم إذا كانت القناة قديمة دارسة، فلا تعمر إلا باصلاح
شق القناة واخراج العين أو البئر حتى يجري الماء في القناة منهما، ويتحقق اعمار
النهر بحفره في الأرض إلى أن يصل إلى الشط أو النهر الكبير الذي يجري فيه الماء
المباح وتستقي منه الأنهر المتفرعة، ولا يعتبر في حصول تعميره أن يجري الماء
فيه بالفعل، فإذا حفر الانسان النهر إلى ما يقرب من الشط وأبقى بينهما فاصلا
صغيرا يزيله من احتاج إلى اجراء الماء في النهر فقد أحيى النهر وملكه.
195

[الفصل الخامس]
[في المشتركات بين الناس]
ويراد بالمشتركات الطرق العامة والمساجد والمدارس والرباطات
والمياه والمعادن، ولا تنحصر المشتركات بين الناس في حكم الشريعة بالأشياء
المذكورة، ولكن هذه المعدودات أمور اعتاد الفقهاء (قدس الله أسرارهم) أن
يبحثوا عنها في هذا الكتاب تبعا لاحياء الموات
(المسألة 77):
الطريق النافذ من طرق البلد أو القرية حق عام يشترك فيه الناس كافة، ولا
يختص به أصحاب الدور والمنازل التي تشرع أبوابها في ذلك الطريق دون غيرهم.
والطريق النافذ هو الذي يتصل من آخره بطريق عام من طرق البلد أو بأكثر
أو يتصل بساحة من ساحاته العامة، ولذلك فيكون من الممكن لعامة الناس أن
يستطرقوا فيه، ويعبروا لحاجاتهم ومقاصدهم في الذهاب والإياب، وفي المرور
من موضع إلى موضع، ويسمى كذلك بالشارع العام والطريق العام، ويقابله
الطريق غير النافذ، وهو الذي تقطعه من آخره دار مملوكة أو ما يشبهها، ولذلك فلا
يمكن العبور منه والنفوذ إلى غيره من الطرق أو الساحات في البلد، ويسمى أيضا
الطريق الخاص، والدريبة، والسكة المقطوعة، وسنتعرض لبيان بعض أحكامها
في ما يأتي من المسائل إن شاء الله تعالى.
196

(المسألة 78):
الشارع العام في البلد أو في القرية حق شرعي عام يشترك في إباحة الانتفاع
به الناس كافة، ولا يختص جواز الانتفاع بالمرور والاستطراق فيه، وإن كان هذا هو
الفائدة المهمة الملحوظة عند جعل الطريق للناس، بل يجوز الانتفاع به في
الجهات الكثيرة الأخرى التي تتعلق بالمرور، فيجوز للمار فيه أن يقف في الطريق
وأن يجلس مع أصحابه وغيرهم للاستراحة أو للمكالمة في بعض الأمور، ويصح
له الوقوف أو الجلوس فيه لانتظار أحد، أو لانتظار وسيلة نقل، ويجوز له وضع
بعض الأمتعة أو بعض الأثقال والأحمال في الطريق لينقلها إلى داره، أو إلى موضع
آخر، وأمثال ذلك من الانتفاعات المتعارفة بالطريق، وإن زاحم بعض المارة فيها.
بل، ويجوز للرجل أن ينتفع بالطريق العام في جهات لا تتعلق بالاستطراق
والمرور إذا هو لم يزاحم المارين ولم يضر بالمرور، فيجوز له أن يتخذ من بعض
جوانبه مجلسا يجتمع فيه مع أصدقائه، ويجوز له النوم فيه واحضار الطعام لبعض
أصحابه، وأداء الصلاة، وما يشبه ذلك من الانتفاعات، ويجوز له أن يجلس في
الشارع أو يقف للبيع والشراء والمعاملة، وأن يضع فيه بعض الأمتعة والأثاث أو
الفاكهة أو المأكولات الأخرى والمشروبات لبيعها، ويتخذه موضعها لكسبه
وحرفته في التعيش، إذا هو لم يضايق المارة ولم يضر بالمرور، ولا يحق لغيره أن
يمنعه أو يزعجه عن الموضع إذا سبق إليه.
(المسألة 79):
إذا جلس الرجل في الطريق العام للاستراحة فيه، أو للتنزه أو للتحدث مع
بعض أصحابه أو للانتظار، ثم قام من موضعه بعد انتهاء غرضه من الجلوس، فلا
197

حق له في الموضع، فإذا جلس غيره في المكان لم يجز للأول منعه أو ازعاجه من
الموضع.
وإذا جلس أو وقف في موضع من الشارع العام ووضع فيه متاعه ورحله
للبيع والشراء والتكسب، ثم قام من موضعه ورفع منه رحله ومتاعه زال بذلك حقه
من المكان، فإذا جلس في المكان غيره لم يجز للأول أن يمنعه أو يزعجه عن
الانتفاع بالمكان.
وإذا ترك الأموال مكانه من الشارع وأبقى فيه بساطا أو فراشا أو نحو ذلك
ليعود إلى المكان بعد قيامه منه، أشكل الحكم بزوال حقه من الموضع وعدم زواله
والأحوط الرجوع إلى المصالحة، وأشد من ذلك اشكالا ما إذا قام الرجل الأول من
المكان وأبقى المتاع في موضعه ليعود إلى بيعه، بل الحكم ببقاء حقه في المكان في
هذه الصورة لا يخلو من وجه، والاحتياط سبيل السلامة.
وإذا ذهب من موضعه في الشارع وأبقى متاعه في مكانه كما قلنا واستناب
أحدا ليتولى البيع والشراء في المتاع والمكان بالنيابة عنه ما دام غائبا عن متاعه لم
يزل حقه، فلا تجوز لغيره من الناس مزاحمته أو مزاحمة نائبة أو ازعاجهما عن
المكان، وليس من الاستنابة التي ذكرنا حكمها أن يخلف الرجل الأول بعد قيامه
من الموضع رجلا غيره ليبيع ويشتري لنفسه أو في غير متاع الأول، فلا يحق له
ذلك.
(المسألة 80):
إذا جلس الرجل في الطريق العام للبيع والشراء والمعاملة كان موضع
جلوسه أو وقوفه حقا له، ويتبعه من المكان الموضع الذي يجعل فيه رحله ويضع
198

فيه متاعه، والموضع الذي يقف أو يجلس فيه الأشخاص المتعاملون معه، بل
والمقدار الذي يتمكن الآخرون من رؤية متاعه والوصول إليه، فلا تجوز للغير
مزاحمته في هذه المواضع أو منعه منها، ولا تثبت له هذه الحقوق، ولا تصح هذه الأحكام إذا زاحمت المارة أو أضرت بالمرور.
(المسألة 81):
يجوز لمن يجلس في الشارع ليبيع ويشتري أو ليعامل أن ينصب على
موضعه ظلا يقيه ويقي متاعه من الشمس والبرد والمطر ونحوها إذا كان ذلك لا
يضر بالمارة ولا يزاحم المرور.
(المسألة 82):
إذا جلس الشخص في الشارع فباع واشترى وعامل في موضع معين منه لم
يثبت له الحق في ذلك الموضع في الأيام الأخرى، إذا هو لم يسبق إليه، فإذا سبقه
غيره إلى ذلك الموضع في اليوم الثاني مثلا لم يجز للأول منعه وازعاجه منه
وكذلك إذا تكرر منه الجلوس في الموضع والبيع والشراء فيه، فلا يثبت له الحق
بسبب تكرره أو ملازمته له، وإنما يثبت الحق لمن سبق إلى المكان.
(المسألة 83):
الشارع حق تشترك في الانتفاع به عامة الناس، ولذلك فلا يجوز لأحد أن
يختص به بتحجير ونحوه أو يتملكه بالاحياء، أو يبني فيه دكانا أو مخزنا لحوائجه
أو حائطا لبعض أغراضه أو يستخرج فيه عينا أو بئرا، ولا يجوز له أن يبني فيه دكة
يعرض عليها متاعه للبيع.
ولا يمنع من أن يزرع في الشارع شجرا ونحوه لينتفع الناس بالاستظلال
199

بفيئه، إذا كان الشارع متسعا وكان الغرس لا يمنع الاستطراق ولا يضر بالمارة، كما
في الشوارع الحديثة، ويجوز كذلك أن يحفر الرجل في أرض الشارع بالوعة
تجتمع فيها مياه الأمطار وشبهها إذا هو أحكم أسس البالوعة وبناءها وسقفها، ولم
تضر بالاستطراق، بل ينبغي فعل ذلك وما أشبهه فإنه من المصالح التي تقتضيها
نزاهة الطريق وصيانته عن الأقذار والأوساخ، ويجوز حفر مجرى في أرض
الشارع لتجري فيه فضلات المياه وتخرج إلى موضع آخر لصيانة الطريق كذلك.
(المسألة 84):
الظاهر أنه يجوز للرجل أن يحفر في أرض الشارع بالوعة خاصة لمنزله أو
سردابا ينتفع به في أيام الحر في داره إلى جنب الشارع، وهذا إذا هو أحكم أسس
البالوعة والسرداب وبناءهما وسقفهما فلم يضر وجودهما بالشارع وبمنافعه
العامة.
ويجوز له أن يخرج لمنزله روشنا أو جناحا على الشارع العام، وأن يفتح
لداره بابا فيه، وينصب له ميزابا، أو يفتح له مجرى تجري منه مياه المطر
والغسالات فيه، إذا لم يضر ذلك بالمارة ولا بالمرور.
(المسألة 85):
من الأسباب المعروفة التي بها يكون الموضع من الأرض شارعا عاما
للناس، وتجري عليه الأحكام المتقدم ذكرها: أن يكثر استطراق الناس في موضع
من الأرض الميتة حتى يصبح الموضع جادة معروفة المعالم، مسلوكة للأفراد
والجماعات والقوافل، يترددون فيها من موضع إلى موضع ومن بلد إلى بلد، ومن
هذا القسم الطرق والجواد التي يسلكها الناس وقطارات الإبل والدواب في
200

البراري والمفازات إلى الأماكن القريبة والبعيدة، ثم يتطور أمرها مع مرور الزمان
وتتسع الجواد وتسهل وتعبد.
ومن الأسباب التي يكون بها الموضع شارعا أن يملك الانسان أرضا
مستطيلة بالاحياء أو بغيره، فيجعلها وقفا على أن تكون شارعا مسبلا تسلكه عامة
الناس، فإذا وقفه على ذلك وسلكه بعض الناس أصبح شارعا عاما موقوفا، ولم
يجز لواقفه الرجوع فيه كسائر الأوقاف الثابتة شرعا إلا إذا طرأ ما يزيل الوقف أو
يسوغ البيع وليس لورثته تغيير ذلك بعد موته.
ومن الأسباب لجعل الشارع العام أن يتفق جماعة من الناس فيعمروا أرضا
مواتا، ويجعلوها قرية أو بلدا ليسكنوها أو يؤجروها مثلا، ويحيوا فيها طريقا عاما
تشرع إليه أبواب المنازل من الجانبين أو يحيوا فيها أكثر من شارع واحد إذا كانت
القرية واسعة كبيرة، فإذا سكن الناس القرية أو البلد أصبحت الطرق والشوارع
المذكورة حقا عاما لهم وجرت عليها الأحكام المتقدمة، ولذلك إذا قام رجل
واحد مقتدر بمثل ذلك فأحيى القرية وعمر الطرق فيها، وأباح للناس القرية أو
أجر عليهم منازلهم فسكنها الناس وسلكوا الشوارع.
(المسألة 86):
إذا قسمت الدولة أرضا ميتة قطعا لتكون دورا ومنازل يسكنها المواطنون
وعينت موضعا أو أكثر من الأرض لتكون شوارع في المحلة، فإذا سلك الناس في
الموضع المعين وكثر التردد والاستطراق فيه أصبح الموضع شارعا عاما، وترتبت
عليه أحكامه.
201

(المسألة 87):
الحد الشرعي للطريق العام إذا اتفق وجوده في الأرض الموات أن لا ينقص
عرضه عن خمسة أذرع بذراع اليد المتعارفة، وهي المتوسطة في طولها من أذرع
الناس، فإذا كانت الجادة العامة في الأرض الميتة فلا يجوز للناس احياء الأرض من
جانبي الجادة حتى يصبح عرضها أقل من خمسة أذرع متعارفة، وإذا سبق أحد
فأحيي الأرض إلى حد الجادة، هي أقل من المقدار المذكور، وجب على من يريد
احياء الأرض من الجانب الثاني أن يترك للطريق منها ما يبلغ به الحد الشرعي، ولا
يتعدى ذلك فيضيق الطريق عن الحد.
وإذا كان مقدار خمسة أذرع لا يكفي لحاجة الناس العابرين والمترددين في
الطريق لاستطراقهم ومرورهم، وجب أن يكون عرض الطريق سبعة أذرع متعارفة
وإذا لم يكف ذلك لسد الحاجة وجب أن تكون سعة الطريق بمقدار يفي بها، ولا
ينقص عن ذلك، ولا ريب في أن الحاجة في الطريق تختلف باختلاف الأزمنة
وبكثرة الوسائل وتنوعها، وبكثرة الناس وتزاحمهم على استعمالها، وقد ذكرنا
هذا في بعض المسائل السابقة.
(المسألة 88):
حريم الطريق العام هو ما ذكرناه في المسألة الماضية، وهو أن يكون عرضه
خمسة أذرع من اليد المتعارفة المتوسطة في طولها، أو ما يفي بحاجة الناس في
استطراقهم، ومرورهم إذا كان المقدار المذكور لا يفي بذلك، وما يرتفع به التزاحم
بين الناس والتصادم في وسائل المرور والحمل والنقل عند الحاجة إلى ذلك.
وإنما يثبت للطريق العام هذا الحريم إذا كان ما يجاوره من الجانبين أو من
202

أحدهما أرضا ميتة ولا حريم له إذا وقع ما بين أراض مملوكة، إلا إذا رضي المالك
المجاور أو أعرض عن ملكه بأحد أسباب الاعراض.
فإذا وجدت قطعة أرض ميتة مستطيلة ما بين الأراضي المملوكة وكان
عرض القطعة الميتة لا يزيد على ثلاثة أذرع أو أربعة ثم استطرق الناس تلك الأرض
وكثر ترددهم فيها، وأصبحت جادة مسلوكة، فلا يجب على أصحاب الأملاك
المجاورة لها أن يتمموا عرض الجادة من أملاكهم، وإن كانت ضيقة لا تكفي
للمرور، وكذلك إذا سبل الرجل جادة في ملكه فسلكها الناس واستطرقوها وكانت
ضيقة في عرضها ولا تكفي للمرور، فلا يجب على المالك توسعة الجادة من بقية
ملكه وإذا كانت الجادة المسبلة في جوار مالك آخر لم يجب عليه توسعتها من
ملكه. إلا إذا رضي أحدهما فوسع الجادة باختياره أو أعرض عن ملكه لبعض
الموجبات.
(المسألة 89):
إذا غلب الماء على الشارع العام الذي يستطرقه الناس، فأصبحت أرضه
بسبب غلبة المياه عليها أجمة ينبت فيها القصب والأشجار الشائكة، ولم يمكن
للناس بعد ذلك سلوك الشارع والمرور فيه، زال موضوعه بذلك وارتفعت
أحكامه وأصبح أرضا ميتة، فيجوز للناس احياؤه وتملكه كسائر الأرض الموات.
وكذلك إذا انقطعت المارة والمترددون عن الطريق لانتقال الناس إلى قرى
تبعد عنه، أو لوجود طريق آخر أقرب منه وأيسر لهم، أو لوجود ما يمنع الناس من
سلوكه والمرور فيه فأصبح بسبب ذلك مهجورا لا يسلكه أحد، فإنه يكون بذلك
أرضا مواتا، فيجوز لكل أحد من الناس احياؤه وتملكه.
203

(المسألة 90):
إذا كان عرض الطريق العام أكثر من المقدار الذي تلزم به الضرورة والحاجة
المتعارفة في البلد للمرور وكثرة المارة في ذلك الطريق، وكان الطريق موقوفا
مسبلا لمرور الناس فيه، فلا يجوز لأحد أن يتصرف في المقدار الزائد منه عن
الحاجة، وكذلك إذا لم يكن موقوفا مسبلا وكان عرضه بمقدار تستلزمه الضرورة
التي لا بد منها في البلد فلا يجوز لأحد احياء شئ منه ولا التصرف فيه وإن كان
عرضه الموجود يزيد عن خمسة أذرع أو سبعة أذرع وهما الحد الشرعي للطريق
كما تقدم.
(المسألة 91):
إذا كان الطريق العام في أصله أرضا ميتة وقد سلكه الناس واستطرقوه حتى
أصبح شارعا عاما لهم، وكان واسعا يزيد عرضه عن الحد الشرعي الذي ذكرناه
ويزيد أيضا عن مقدار الحاجة التي لا بد منها في القرية أو في البلد عرفا، فالظاهر أنه
يجوز للناس التصرف في المقدار الزائد عن الحاجة المذكورة فيصح احياؤه
وتملكه لمن سبق إليه.
(المسألة 92):
إذا كان الشارع في أصله مملوكا لمالك معين وقد أباحه المالك للناس
إباحة عامة على أن يكون شارعا عاما يسلكونه لحاجاتهم وضروراتهم، ولم يوقفه
ولم يسبله، فإذا زاد عرض ذلك الشارع عن المقدار اللازم عرفا، أشكل الحكم
بجواز التصرف في الزائد والأحوط المنع في هذه الصورة.
204

(المسألة 93):
القسم الثاني من الطريق الذي يوجد في القرية أو في البلد: الطريق غير
النافذ، وهو الذي ينقطع من آخره بدار مملوكة لأحد من الناس أو موقوفة أو ما يشبه
ذلك، فالدور أو العقارات أو الأملاك الخاصة وما يشبهها تكون محيطة بالطريق من
كلا جانبيه ومن آخره، ومن أجل هذه الإحاطة به فلا يمكن للناس الاستطراق
والمرور به إلى طرق البلد أو ساحاتها، ويسمى أيضا الطريق الخاص، والدريبة
والسكة المرفوعة، والسكة المقطوعة، وقد ذكرنا هذا في المسألة السابعة
والسبعين.
وقد ذهب جماعة من أجلة الفقهاء، (قدس الله أنفسهم) إلى أن الطريق غير
النافذ يكون مملوكا لأصحاب الدور الذين تكون لدورهم أبواب مفتوحة في ذلك
الطريق، وأنهم يشتركون جميعا في تملكة من أوله إلى آخره، وتجري عليه أحكام
الأموال المشتركة بينهم، ولذلك فلا يجوز لأحد أصحاب الدور المذكورة أن
يتصرف في هذا الطريق المشترك فيحفر في أرضه بالوعة أو سردابا، أو يخرج لداره
في الطريق جناحا أو روشنا أو يبني فيه ساباطا إلا بإذن الآخرين من أصحاب الدور
كلهم، قالوا: ولا يشترك في ملكية هذا الطريق من يكون حائط داره إلى الطريق
وليس له باب مفتوح فيه، ولم أقف لهذا القول على دليل يمكن الاعتماد عليه، إلا إذا
كان أصحاب الدور قد ملكوا الدريبة باحياء أو شراء أو بسبب آخر من الأسباب
الشرعية المملكة.
والظاهر أن الدريبة إنما هي حق يختص به أصحاب الدور المذكورة وليست
مملوكة لهم كما يرى أولئك الفقهاء، ولا حق في الدريبة للرجل الذي يملك دارا
205

يكون حائطها إلى الدريبة وليس له فيها باب مفتوح.
(المسألة 94):
الدريبة حق يختص به أرباب الدور المملوكة لهم والتي تكون لهم أبواب
مفتوحة في الدريبة، واشتراكهم فيها على النحو الآتي.
فيشترك جميع أصحاب الدور المذكورة في الحق من أول الدريبة إلى أول باب
مفتوح فيها وآخر حائط الدار ذات ذلك الباب، وبذلك ينتهي حق صاحب تلك
الدار، فلا حق له في باقي الدريبة، ثم يشترك أصحاب الدور الباقية إلى باب الدار
الثانية وآخر حائطها، وينتهي بذلك حق صاحب هذه الدار ويكون الباقي من
الدريبة للباقي من أصحاب الدور، وهكذا في الثالث وما بعده على النهج المذكور
ويختص صاحب الباب الأخير ببقية الدريبة إلى آخرها.
والتفصيل الذي ذكرناه إنما هو من حيث التصرف في الدريبة وفي أرضها
فإذا أراد صاحب الدار الأولى أن يحفر بالوعة أو سردابا في أرض الدريبة، أو يضع
ميزابا أو يفتح بابا جديدا لداره: أو يخرج لها جناحا في الدريبة فلا بد له من أن
يستأذن جميع أصحاب الدور، وإذا أراد ذلك صاحب الدار الثانية لم يستأذن الأول
وعليه أن يستأذن الباقي، وهكذا.
(المسألة 95):
يجوز لكل واحد من أصحاب الدور ذوات الأبواب في الدريبة أن يستطرق
فيها إلى داره هو وكل فرد من عياله وأولاده وخدمه وضيوفه وأصحابه ومن يريد
زيارته من الناس سواء قلوا أم كثروا، وأن يجلسوا في الدريبة، وأن يضع فيها
الأحمال والأثقال والحيوان التي يحتاج لادخالها إلى الدار واخراجها منها عادة
206

ولا يفتقر في شئ من ذلك إلى الاستئذان من شركائه في الدريبة، وإن كان فيهم
الغائبون واليتامى والقاصرون، ولا تجب المساواة بينهم في هذه الأمور.
ويجوز لصاحب الدار في الدريبة أن يوصد بابه الأول ويفتح بابا غيره، وإذا
سد بعض أصحاب الدور بابه في الدريبة ولم يفتح له بابا آخر فيها سقط حقه الثابت
له في الطريق، ولم يحتج إلى ناقل شرعي كما يلزم القائلين بالملكية.
(المسألة 96):
إذا كان بعض الدور له حائط إلى الدريبة وليس له باب مفتوح فيها فلا حق
لمالك تلك الدار في الدريبة كما ذكرنا في ما تقدم، ولا يجوز له أن يفتح لداره بابا
فيها إلا بإذن أصحاب الحق فيها، ولا يكفي الاستئذان من بعضهم، ويجوز له أن
يفتح لداره شباكا أو روشنا للتهوية أو الاستضاءة ولا يثبت له بذلك حق في الدريبة
وإذا استأذن من أرباب الدور ففتح له بابا في الدريبة بإذنهم كان شريكا لهم في الحق
وخصوصا مع طول الدريبة وكثرة الدور فيها.
(المسألة 97):
يصح لأصحاب الحق في الدريبة أن يتسالموا عليها في ما بينهم فيحيي كل
فرد منهم حصته من الدريبة ويتملكها ويلحقها بداره ويفتحوا لهم أبوابا من جهات
أخرى ويقتسموا الدريبة بينهم أملاكا ويجوز لبعضهم أن يسقط حقه للآخر، وأن
يصالحه عنه بعوض أو بغير عوض فيتملك حصته.
207

[الفصل السادس]
[في المساجد والمشاهد]
(المسألة 98):
المسجد هو الموضع الذي يقفه مالكه ليكون مسجدا، وقد فصلنا في مبحث
مكان المصلي من كتاب الصلاة وفي كتاب الوقف من هذه الرسالة كثيرا من
أحكامه، وبوقف الموضع كذلك تثبت مسجديته في الاسلام، ويكون موضعا عاما
معدا لصلاة المصلين وعبادة المتعبدين من دعاء وتلاوة قرآن، وتدريس علوم
دينية، ووعظ وارشاد وافتاء، والمسلمون في الانتفاع بمساجدهم في ذلك
مشتركون متساوون في الحق، وقد جرت سيرتهم على هذا منذ عصر النبوة
وعصور الأئمة الطاهرين (ع) ولا ريب لأحد في شئ من ذلك.
(المسألة 99):
إذا سبق أحد إلى مكان من المسجد ليتعبد فيه بقراءة دعاء أو بتلاوة قرآن، أو
لدرس أو لتدريس، أو لوعظ أو لاستماع موعظة أو نحو ذلك فهو أحق بالمكان الذي
سبق إليه من غيره، فلا يجوز لأحد أن يمنعه من الجلوس فيه أو يزعجه من البقاء فيه،
سواء اتحد غرض الرجلين من الجلوس في المكان أم اختلف، كما إذا سبق الأول
إلى الموضع ليقرأ الدعاء وأراد الثاني الجلوس فيه ليتلو القرآن، أو للموعظة أو
للتدريس، وسواء شرع السابق في عمله الذي قصده فأخذ في القراءة أو التدريس
208

أم كان قريبا من الشروع فيه، لأنه ينتظر المدرس أو الواعظ مثلا، فلا يجوز للآخر
منعه أو ازعاجه من مقامه إلا إذا كان وقت الانتظار طويلا بحيث يعد إضاعة لحقوق
الآخرين عرفا فلا يجوز ذلك.
(المسألة 100):
الظاهر أن الصلاة في المسجد أولى من التعبدات الأخرى فيه، فإذا سبق أحد
إلى الموضع في المسجد ليقرأ الدعاء أو ليتلو القرآن أو ليعظ أو ليدرس، وحضر
من يريد الصلاة في المكان فهو أولى من الأول السابق، سواء أراد الصلاة فرادا أم
جماعة، بل وإن أراد الصلاة نافلة، فعلى السابق أن يدع المكان له عند الانحصار به
وإذا طلبه منه.
ولا أولوية لمن يريد الصلاة جماعة في المسجد ممن يريد الصلاة فيه
منفردا، فإذا سبق الرجل إلى المكان من المسجد ليصلي فيه منفردا ثم حضر من
يريد الصلاة جماعة لم يجز للثاني منع الأول أو إقامته من موضعه، ولم يجب على
الأول أن يترك المكان لصاحبه إذا طلب المكان منه، نعم ينبغي له أن لا يكون مانعا
للخير عن أخيه المؤمن إذا كان لا يدرك صلاة الجماعة إلا في ذلك المكان، وأمكن
له نفسه أن يؤدي صلاته منفردا في غير ذلك الموضع من المسجد.
(المسألة 101):
لا يبعد وجود الفرق في من يجلس للدعاء في المسجد بين من يكون جلوسه
للتعقيب بعد أداء الصلاة في المسجد، ومن يجلس فيه لمطلق التعبد بالدعاء، فإذا
حضر من يريد الصلاة في المكان فلا يجب على الجالس وهو يعقب بالدعاء بعد
الصلاة أن يترك له مكانه، ولا يكون مريد الصلاة أولى منه بالمكان، فإنه قد سبق إلى
209

الصلاة والدعاء، وإذا كان الجالس قد سبق إلى المسجد للدعاء فيه ولم يؤد الصلاة
فيه قبل الدعاء وجب عليه أن يترك المكان لمن يريد الصلاة.
(المسألة 102):
إذا سبق الرجل إلى الموضع من المسجد لبعض التعبدات فيه، ثم فارق
الموضع وأعرض عنه سقط حقه من الأولوية بالمكان، فإذا سبق إليه غيره بعد قيامه
منه كان الثاني أولى به من الأول فليس له أن يمنعه من الجلوس فيه أو ازعاجه من
المكان، وإن كان الأول لا يزال في المسجد، ولم يخرج منه، كما إذا انتقل من
موضع صلاته في المسجد إلى موضع آخر فيه ليستمع دعاء أو موعظة أو درسا
فيسقط حقه من المكان الأول وإن أبقى فيه بساطا أو سجادة وفي عزمه أن يعود
إليها بعد مدة.
(المسألة 103):
إذا قام الرجل من موضعه في المسجد وهو يريد العودة إليه عن قريب وأبقى
في مكانه سجادة أو بساطا أو علامة أخرى، فالظاهر بقاء حقه في المكان وعدم
سقوط حقه من الأولوية به بمجرد قيامه، وإذا قام من الموضع وهو يريد العودة إليه
كذلك ولم يبق فيه شيئا يدل على ذلك أشكل الحكم بسقوط حقه أو عدم سقوطه
والأحوط للآخرين مراعاة حقه، وخصوصا إذا كان قيامه من موضعه لبعض الأمور
اللازمة من تجديد وضوء أو قضاء حاجة أو احضار كتاب ونحوها.
(المسألة 104):
إذا وضع الانسان له رحلا في مكان من المسجد قبل أن يجلس فيه فبسط له
بساطا أو فرش فيه سجادة، فالظاهر ثبوت حق الأولوية له في المكان بمجرد ذلك
210

وإن لم يجلس فيه بعد، فلا يجوز لأحد أن يرفع رحله من المكان أو يجلس في
موضعه، ويشكل الحكم بثبوت الحق له بوضع الرحل إذا طالت المدة الفاصلة بين
وضع الرحل في المكان وجلوس صاحب الرحل فيه بحيث يعد تضييعا لحقوق
الآخرين، فالحكم بجواز رفع غيره للرحل من المكان مشكل، والحكم بعدم
ضمان الرحل إذا تلف أو عاب بعد رفعه أشد اشكالا.
وإذا دلت القرائن على أن المراد من وضع الرحل في الموضع من المسجد أن
صاحب الرحل يجلس في الموضع في وقت معين، فالظاهر ثبوت الحق وعدم
بطلانه قبل حلول الوقت، ومثال ذلك أن يضع الرجل رحله صباحا أو ضحى فيبسط
بساطه أو سجادته في المسجد ليصلي في الموضع صلاة الظهر جماعة في أول
وقتها أو ليدرك صلاة الجمعة مع الإمام فلا تفوته، فلا يسقط حقه بطول المدة
الفاصلة إذا هو حضر في الوقت المعين.
(المسألة 105):
لا ينبغي الريب في أن إقامة المآتم ومجالس الذكرى لمصائب المعصومين
من أهل بيت النبوة (ع)، وقراءة سيرتهم وتعداد فضائلهم والتعريف بمقاماتهم
وعلو منازلهم من العبادات الجليلة التي يتقرب إلى الله سبحانه بها، وبالاجتماع
فيها، والاستماع إلى ما يلقى فيها من الحقائق والمعارف، فإذا أقيمت هذه المحافل
والذكريات في المساجد كان الحضور فيها والجلوس في محافلها والاستماع إلى
الذاكرين فيها من أبر العبادات وأجلها، وإذا سبق السابق إلى المسجد والجلوس
فيه لهذه الغاية ثبتت له الأولوية بالمجلس والموضع الذي جلس فيه على غيره من
الواردين من بعده، وجرت له الأحكام التي ذكرناها في المسائل المتقدمة.
211

(المسألة 106):
إذا أقيمت محافل ذكريات المعصومين (ع) في الحسينيات العامة الموقوفة
المتعارفة عند الشيعة كان لها مثل هذا الحكم، فهي مشتركة بين الحاضرين على
السواء وإذا سبق أحد منهم إلى مكان في الحسينية أو المأتم فجلس فيه كان أولى
بالمكان من غيره، فلا يجوز لأحد أن يمنعه من الجلوس أو يزعجه ويقيمه من
مكانه حتى ينتهي غرضه أو يقوم من موضعه باختياره ويسقط حقه منه.
(المسألة 107):
المشاهد المشرفة كالمساجد في جميع الأحكام التي ذكرناها فالمشهد حق
عام كالمسجد، يشترك فيه جميعا لمسلمين على السواء، سواء كانوا من أهل البلد
المجاورين للمشهد أم كانوا من الزوار الوافدين إليه من بلاد أخرى قريبة أو بعيدة
فلا يكون الزائر الوافد أولى بالمشهد لزيارته ووفادته وغربته، ولا يكون القريب
المجاور له في البلد أولى به لقربه وجواره، بل هما في الحق على حد سواء.
وإذا سبق أحد من الناس الوافدين أو المجاورين إلى موضع معين من
المشهد فجلس فيه للتعبد والصلاة أو الزيارة أو الدعاء أو قراءة القرآن أو لغيرها من
العبادات والقربات كان أولى بالمكان من غيره، فلا يجوز أن يمنع أو يزعج حتى
يستتم غايته من التعبد، أو يترك مكانه باختياره أو يسقط حقه، وإذا منعه أحدا أو
أخذ موضعه بغير رضاه كان غاصبا آثما.
(المسألة 108):
لا يثبت للشخص حق الأولوية بالمكان في المسجد أو المشهد إذا سبق إليه
وجلس فيه للتنزه أو للاستراحة أو لغاية أخرى غير العبادات والقربات كالاطلاع
212

على بعض النفائس والآثار الموجودة في المشهد أو المسجد، أو للتحدث مع
بعض الناس، أو لرؤية بعض الناس وبعض المظاهر.
(المسألة 109):
إذا جلس الرجل في المسجد أو المشهد لبعض العبادات فأعيى واستمر في
جلوسه في موضعه ليستريح برهة ثم يعود للتعبد مرة أخرى، لم يسقط حقه الذي
ثبت له أولا من الأولوية، فلا يجوز لغيره منعه وازعاجه ما دام جالسا لهذه الغاية
وكذلك إذا صرفه بعض الناس عن عمله بحديث طويل وهو يرتقب انتهاء صاحبه
من حديثه ليعود إلى عمله أو إلى غيره فلا يسقط حقه بذلك.
213

[الفصل السابع]
[في المدارس والربط]
(المسألة 110):
المدارس دور أو عمارات خاصة تعد ليسكن فيها طلاب العلم، حسب ما
يطلقه واقف المدرسة، أو يعينه من صنف أو يذكر للساكنين فيها من قيود وشروط
والربط منازل مخصوصة كذلك يقفها الواقف ليسكنها الفقراء، أو لينزل فيها
المسافرون والغرباء، من حجاج وزوار ومعتمرين وغيرهم، وهي كالمدارس تتبع
وقف الواقف وما يذكره في صيغته من عموم وخصوص واطلاق وتقييد، وكلاهما
من المشتركات العامة بين أفراد العنوان أو الصنف الموقوف عليه من الناس.
(المسألة 111):
إذا وقف الواقف مدرسته على أن يسكنها طلاب العلوم الدينية، ولم يقيدها
بقيد ولم يشترط فيها شرطا كانت المدرسة عامة يشترك في استحقاق السكنى فيها
جميع طلاب العلوم المذكورة، ولم يختص الحق فيها بعرب أو فرس أو هنود أو
غيرهم من الأصناف التي تشتغل بطلب تلك العلوم، ولم تختص بطلب علم معين
منها، ولم تختص بطبقة معينة من طلبة العلوم، أو من محصليهم أو أرباب الفضيلة
منهم، فيجوز لكل فرد ممن يصدق عليه العنوان العام الموقوف عليه أن يسكن في
المدرسة، ولا يجوز للأفراد الآخرين منعه من السكنى ولا اخراجه من المدرسة
214

إذا هو سكنها وإن طالت مدة بقائه فيها، حتى يعرض هو عن السكنى فيها ويخرج منها
باختياره، وإذا وقف الواقف المدرسة على أن يسكنها طلاب علوم الدين من العرب
خاصة مثلا، أو من العجم خاصة، أو من أهل بلد معين أو أهل قطر خاص منهم
أو وقفها على أن يسكنها طلاب علم الفقه خاصة أو طلاب علم الحديث أو علم
التفسير، اختص حق السكنى فيها بأهل ذلك الصنف الموقوف عليه، واشترك بين
أفراده، ولم يجز لغيرهم سكنى المدرسة ممن لا يشمله الصنف الذي عينه الواقف
أو الطائفة التي ذكرها.
(المسألة 112):
إذا وقف الواقف مدرسة ليسكن فيها طلاب العلم مطلقا أو من طائفة خاصة
أو من صنف معين، فالمراد السكنى المتعارفة بين الناس، فتكون الحجرة من
المدرسة موضع إقامته وبقائه عرفا، ولا ينافي ذلك أن يخرج من المدرسة في بعض
الأوقات لقضاء بعض الحاجات، أو لشراء بعض الضرورات، أو للدراسة أو
التدريس في أمكنة أخرى، أو للقاء بعض الاخوان، ولا يضر بسكناه في المدرسة أن
يبيت بعض الليالي في غيرها، إلا إذا اشترط الواقف على الطالب أن يكون مبيته في
المدرسة، كل ليلة أو في ليالي التحصيل، فيجيب عليه أن يتبع الشرط.
ولا يضر بالسكنى أن يسافر في بعض الأيام لزيارة أو حج أو عمرة، أو لغير
ذلك، وإن طال سفره مدة لا تنافي سكناه في المدرسة، وإذا طالت مدة سفره حتى
خرج عن كونه ساكنا في المدرسة في نظر أهل العرف بطل حقه، وإذا شرط الواقف
على الطالب أن لا يتجاوز سفره مدة معينة وجب عليه أن يتبع الشرط.
215

(المسألة 113):
قد يشترط الواقف أن يكون الطالب الساكن في المدرسة غير متزوج، أو غير
معيل، فإذا سكن الطالب فيها مدة وهو غير متزوج أو غير معيل وفقا للشرط، ثم
تزوج أو أصبح معيلا وجب عليه أن يخرج من المدرسة، وكذلك إذا شرط الواقف أن
يكون الساكن فيها مشغولا بالفعل بالدراسة أو بالتدريس، فإذا سكن فيها مدة مع
وجود الشرط ثم عرض له مرض أو ضعف أو كبر سن يمنعه من الاشتغال بالفعل
وجب عليه أن يترك السكنى في المدرسة لفقد الشرط، وهكذا الحكم في كل
وصف أو فعل يشترط الواقف أن يكون الطالب الساكن في المدرسة متصفا به كصفة
العدالة مثلا، أو الالتزام بأداء الصلاة في أول وقتها أو بصلاة الجماعة أو بصلاة الليل
فلا يجوز للطالب أن يسكن المدرسة إذا كان فاقدا لذلك الشرط، وإذا كان متصفا
بالشرط فسكن المدرسة ثم فقد الشرط لبعض الطوارئ المانعة، وجب عليه أن
يترك السكنى فيها لزوال الشرط.
(المسألة 114):
إذا سبق أحد طلبة العلم إلى غرفة في المدرسة الموقوفة فسكنها، فليس له أن
يمنع غيره من أن يشترك معه في سكنى الغرفة إذا كانت الغرفة تتسع لسكني أكثر من
طالب واحد فيها، إلا إذا كان الواقف قد اشترط أن لا يسكن الغرفة الواحدة في
المدرسة أكثر من طالب واحد فيتبع الشرط.
(المسألة 115):
إذا سكن طالب العلم في إحدى غرف المدرسة الموقوفة ثبت له حق
الأولوية في الغرفة التي سكنها، فلا يجوز لأحد منعه من البقاء فيها ولا يجوز
216

اخراجه منها ما دام مستحقا للسكنى، وإن طالت مدة إقامته فيها، وإذا كان الواقف
قد اشترط أن لا تزيد إقامة الطالب فيها على مدة معينة وجب اتباع الشرط، فلا
يجوز للطالب البقاء أكثر من المدة المشروطة في صيغة الوقف، ويبطل حقه من
السكنى في المدرسة إذا ترك السكنى فيها وطالت مدة تركه للسكنى أكثر مما
يتعارف مع وجود من يحتاج إلى السكنى فيها من الطلاب الموقوف عليهم.
(المسألة 116):
الربط وهي جمع رباط، ويراد به المسكن أو الخان الذي يقفه مالكه لتسكن
فيه الفقراء المحتاجون، أو يقفه ليكون منزلا للمسافرين من زوار أو حجاج أو
غيرهم من عابري السبيل وحكم الرباط هو حكم المدرسة الموقوفة في كل ما بيناه
لها من اللوازم والآثار، فيتبع فيه ما أطلقه الواقف في صيغة وقفه إذا كان مطلقا، وما
ذكره فيها من قيد أو شرط إذا كان مقيدا أو مشروطا، فإذا قال المالك وقفت هذا
المنزل أو هذا الخان ليسكنه الفقراء من الناس، ولم يقيد وقفه بطائفة خاصة منهم
ولا بصنف معين من أصنافهم، كان المنزل أو الخان الموقوف رباطا عاما يشترك في
استحقاق السكنى فيه جميع الفقراء الموقوف عليهم، فإذا تقدم أحد منهم إلى
السكنى في موضع منه أو غرفة من غرفه كان هذا السابق أولى بالموضع أو الغرفة من
غيره، ولم يجز منعه أو اخراجه منه، وإذا اشترط الواقف أن تكون لكل فقير غرفة
يستقل بسكناها ولا يشاركه فيها غيره، لزم ذلك. وإذا وقف المنزل أو الخان ليسكنه
الفقراء من أهل البلد أو من الغرباء أو من طائفة خاصة وجب أن يتبع ما ذكره في قوله
من اطلاق أو تقييد، ويشترك في استحقاق السكنى في المنزل جميع أفراد الطائفة
التي ذكرها، أو الصنف الذي عينه، دون غيرهم من الطوائف أو الأصناف، على نهج
217

ما ذكرناه في وقف المدرسة، ويجب اتباع كل شرط يشترطه الواقف.
وكذلك الحكم في الربط التي يقفها صاحبها لنزول المسافرين، فتجري فيها
التفاصيل والأحكام المذكورة.
(المسألة 117):
إنما يستحق المسافر النزول في الرباط الموقوف على المسافرين والبقاء فيه
ما دام مسافرا، فإذا طال مكثه في البلد أو في المنزل حتى خرج بسبب طول مدته عن
كونه مسافرا في نظر أهل العرف وجب عليه الخروج من المنزل الموقوف ولم تجز
له مزاحمة المسافرين الآخرين، ولا يسقط حقه من السكنى والنزول في المنزل
بالإقامة الشرعية التي توجب عليه اتمام الصلاة، أو الزيادة عليها، إذا لم يخرج بها
عن كونه مسافرا.
(المسألة 118):
لا يستحق النزول في المنزل الموقوف على المسافرين أو الغرباء من كان
بلده قريبا لا يصدق عليه اسم المسافر، أو اسم الغريب، لقرب بلده من ذلك المكان،
وليس المدار في هذا الحكم على وجود المسافة الشرعية التي توجب توجب
القصر في الصلاة والافطار للصائم، بل المدار على صدق اسم السفر عرفا
إلا إذا كان وقف الواقف عاما يشمل ذلك فيكون هو المتبع.
(المسألة 119):
إذا وقف الواقف الرباط ليسكن فيه الفقراء مطلقا، أو الفقراء من طائفة خاصة
أو من صنف معين ولم يقيده بقيد آخر، ولم يشترط فيه شرطا، جاز للفقير الذي
يستحق السكنى أن يسكن في الحجرة، ويسكن معه عائلته وأولاده، وجاز له أن
218

يسكن معهم في أكثر من حجرة مع حاجته إلى ذلك، ولا يجوز لأحد منعه أو
مزاحمته في ذلك إذا سبق إليه، ويتبع ذلك من ساحة الرباط ومرافقه ما يتوقف عليه
انتفاع الفقير بحقه، كموضع الطبخ، وموضع غسل الثياب والأواني، وموضع النوم
في ليالي الصيف وما يشبه ذلك.
219

[الفصل الثامن]
[في المياه والكلاء]
(المسألة 120):
يراد بالمياه هنا المياه التي حكم الشارع فيها بالإباحة الأصلية، كمياه البحار
ومياه الشطوط العامة والأنهار الكبيرة، كشط العرب ودجلة والفرات والنيل
وروافدها وفروعها، ومياه العيون التي تتفجر بأنفسها في الجبال وفي الأرض
الموات، ومياه السيول التي تنحدر من ذوبان الثلوج، أو تجتمع في الأودية والوهاد
من نزول الأمطار ونحو ذلك، فالناس في هذه المياه شركاء متساوون في الحقوق
وإذا حاز أحد الناس منها شيئا ملكه بالحيازة، وسواء حازه بآنية أم بدالية أم بناعور
أم بنهر أو قناة شقهما أم بحوض أم بمكينة أم بوسيلة غيرهما من وسائل الري
الحديثة.
ومن المياه المباحة أيضا: الأنهار الصغيرة التي تتكون بأنفسها في الأرض الموات
من سرعة جريان الماء المباح المندفع بقوة من الأنهار الكبيرة، أو العيون الجارية أو
المياه المنحدرة من أعالي الجبال فتشق لها مجاري في الأرض، ولم يحيها أحد
ولم يتملكها مالك، فيكون ماؤها من المشتركات العامة بين الناس.
(المسألة 121):
إذا حفر رجل له عينا في أرض ميتة أو في جبل فأحيى العين وأجرى ماءها
220

كانت العين والماء الجاري منها ملكا خاصا له، ولم يجز لغيره أن يتصرف في العين
أو في الماء إلا بإذن من المالك، وكذلك إذا حفر في الأرض الميتة بئرا فأحياها
وأجرى ماءها، وإذا شق في الأرض الميتة قناة أو حفر نهرا فأحياهما وأجرى الماء
فيهما من العين أو البئر اللتين أحياهما فالعين والبئر والقناة والنهر جميعا أملاك
خاصة له بالاحياء، والماء ملك له بالحيازة، ولا حق لغيره، وقد سبق ذكر جميع
هذا مفصلا.
(المسألة 122):
إذا حفر الانسان نهرا أو شق له قناة في أرض مملوكة له بالشراء أو بغيره، أو
أحيى النهر أو القناة في أرض موات كما تقدم ذكره، ثم أجرى في نهره أو قناته الماء
من بعض الشطوط العامة التي مر ذكرها أو من بعض العيون أو الآبار النابعة المباحة
لجميع الناس، ملك ما يدخل في النهر أو القناة من الماء بالحيازة وكان الجميع
ملكا له، وإن كان الماء صباحا للجميع في أصله، فلا يجوز لأحد التصرف فيه إلا
بإذنه.
(المسألة 123):
إذا كان نهر مملوكا لشخصين، أو لأشخاص متعددين، على نحو الاشتراك فيه
في ما بينهم، ومثال ذلك أن يتفقوا فيشقوا النهر في أرض يملكونها جميعا على نحو
الاشتراك، أو يشتركوا في احياء النهر في أرض ميتة، فيكون النهر في الصورتين
مملوكا لهم جميعا، على السواء أو على تفاوت ما بينهم في الحصص منه، وسيأتي
بيان الميزان في ذلك.
فإذا ملكوا النهر كذلك ثم أجروا فيه الماء من الشطوط العامة المباحة
221

للجميع، أو من العيون أو الآبار المباحة كان الماء الجاري في النهر مملوكا للشركاء
فيه جميعا، وملك كل فرد منهم من الماء الجاري فيه بمقدار حصته التي يملكها من
النهر نفسه، فإذا كان النهر مملوكا لشخصين بالمناصفة ما بينهما فالماء الجاري في
النهر مملوك بينهما بالمناصفة أيضا، وإذا كان الشركاء في النهر ثلاثة والنهر بينهم
بالمساواة فالماء بينهم مملوك بالمثالثة، وهكذا.
وإذا تفاوتوا في مقادير الحصص فكان أحدهم يملك نصف النهر مثلا فله
نصف ما يجري فيه من الماء، وكان الثاني يملك ثلث النهر فله ثلث الماء، ويكون
للشريك الثالث سدس النهر ويملك سدس الماء فقط.
وإذا اختلف الشركاء في مقادير حصصهم كما ذكرنا في الصورة الأخيرة، فلا
يجوز لأحدهم أن يتصرف في أكثر من حصته من الماء، فإذا احتاج في سقي مزرعته
أو بستانه أو ضيعته إلى أكثر من حصته من الماء وجب عليه أن يستأذن شريكيه في
أخذ الزائد، أو يدفع إليهما عوض ما يأخذه من نصيبهما في سقاية ضيعته ومزرعته
من الماء.
(المسألة 124):
إذا كان الشركاء في النهر قد ملكوه باحيائه من الأرض الموات، فإنما يحصل
التفاوت بينهم في مقادير الحصص منه إذا هم اختلفوا في العمل فيه، فكان مقدار
عمل أحدهم في تعميره واحيائه أكثر من صاحبه أو أقل منه، فإذا هم تساووا في
العمل تساووا في الحصص التي يملكونها من النهر، وإذا كان عمل أحدهم في
احيائه ضعف الثاني كان للأول ضعف حصة الثاني من النهر نفسه، وهكذا، و
كذلك إذا هم اقتسموه بحسب النفقة، فإذا تساووا في مقدار ما انفقوا في تعمير النهر
222

تساوت حصصهم منه، وإذا أنفق أحدهم نصف نفقة الثاني أو ثلثها أو ربعها ملك
من الحصة في النهر بتلك النسبة، ومثله ما إذا عمل بعضهم وأنفق بعضهم، ويرجع
في تعيين المقادير من العمل أو من النفقة أو من النفقة والعمل إلى أهل الخبرة.
(المسألة 125):
إذا كان الماء الجاري في النهر مشتركا بين مالكين أو أكثر كما ذكرنا في
المسائل السابقة جرى فيه حكم الأموال المملوكة المشتركة، فلا يجوز لأحد
الشركاء أن يتصرف في الماء ولا في بعضه إلا بإذن جميع شركائه فيه، ولا يكفي أن
يستأذن من بعضهم، فإذا أباح كل شريك منهم لكل واحد من شركائه أن يتصرف في
الماء المملوك لهم بما يريد فلا ريب في الجواز، وقد يتسالمون جميعا فيقتسمون
الماء بينهم بالتناوب، فيخصصون لكل واحد منهم يوما معينا أو أياما معينة، أو
ساعة من النهار أو ساعات منه معلومة، يتصرف فيها ذلك الشريك بجميع الماء
كيف ما يشاء، وبأي مقدار يريد، ثم تكون النوبة بعده للشريك الآخر حتى يتم
الدور عليهم جميعا، ولا ضير عليهم في ذلك.
(المسألة 126):
إذا وقع النزاع والتشاجر بين الشركاء في النهر والماء ولم يصطلحوا ولم
يرضوا بالمناوبة، فلا بد من تقسيم الماء بينهم بالأجزاء، فيسد النهر من آخره بصخر
أو حديد أو غيرهما، فلا يخرج الماء المملوك من النهر، وتوضع للماء في السد
أنابيب متساوية في الحجم والسعة ليخرج الماء منها بمقدار واحد، وتعين بذلك
الحصص المملوكة منه وتشخص مقاديرها في القسمة.
فإذا كان النهر والماء مشتركين بين مالكين بالمناصفة بينهما، وضعا في السد
223

أنبوبين متساويين في الحجم، وكان لكل واحد من الشريكين أنبوب منهما فيجري
ماء أنبوبه في ساقية يختص بها، ويتصرف بمائها حيث ما يشاء، وإذا كان الماء
مشتركا بين ثلاثة أشخاص بالتساوي جعلوا في السدة ثلاثة أنابيب متساوية في
السعة، واختص كل شريك بواحد من الأنابيب وصنعوا كما تقدم، وهكذا إذا كان
الشركاء أكثر من ثلاثة وكانوا متساوين في الحصص، فيجعل في السد بعدد الشركاء
أنابيب متساوية ويكون لكل واحد منهم أنبوب يختص بمائه.
وإذا كان الشركاء مختلفين في مقادير حصصهم التي يملكونها من الماء
بسبب اختلاف مقادير حصصهم من النهر المملوك وضعوا في السدة أنابيب
متساوية الحجم بمقدار أقلهم حصة وبعدد مجموع حصصهم فإذا كان الشركاء
ثلاثة كما ذكرنا في المثال المتقدم وكان أحدهم يملك النصف من الماء، والثاني
يملك الثلث منه، والثالث يملك الباقي وهو السدس، جعلوا في سدة النهر ستة
أنابيب متساوية السعة والحجم، فكان لمالك النصف ثلاثة أنابيب منها، يتصرف
بالماء الذي تخرجه هذه الأنابيب من النهر كيف ما يشاء، وكان لمالك الثلث
أنبوبان يفعل بمائهما بما يريد، ولصاحب السدس أنبوب واحد يصرف ماءه في
ساقية خاصة إذا شاء فيسقي به مزرعته أو أرضه أو يتصرف فيه بوجه آخر.
(المسألة 127):
ويتطور الزمان وتتطور الوسائل الحديثة معه لتقسيم الماء بالوزن والكيل
وتجعل له الموازين الدقيقة لضبط المقادير والأعداد وتحديد ما يراد منه من الحصة أو
الحصص، فيكون الرجوع إليها أيسر وأسهل، والاعتماد عليها في التقسيم وتعيين
مقادير الحقوق أكثر ضبطا وأوفر دقة، وأحرى في براءة الذمم بين الشركاء.
224

(المسألة 128):
يجوز للشركاء في ماء النهر أن يقتسموا الماء بينهم بالمهاياة والمناوبة كما
ذكرنا في المسألة المائة والخامسة والعشرين، فإذا كانت حصصهم في الماء
متساوية قسموه بينهم بالساعات إذا شاؤوا أو بالأيام المتساوية، فيكون جميع ماء
النهر لأحدهم خمسة أيام مثلا يتصرف فيه كما يريد، ثم تنتقل النوبة بعده إلى
الشريك الثاني فيتصرف في جميع ماء النهر خمسة أيام أيضا كما يريد، ثم تكون
للثالث، وهكذا حتى يتم الدور بينهم جميعا على السواء، ثم يستأنف عليهم من
جديد.
وإذا كانت حصص الشركاء في ماء النهر مختلفة في مقاديرها كما في المثال
الذي تقدم ذكره قسموا الماء بينهم بالمناوبة كذلك حسب ما يقتضيه اختلاف
حصصهم، فيكون جميع ماء النهر لشريك الأول الذي يملك النصف ثلاثة أيام
يتصرف فيه، ثم يكون بعده للشريك الثاني الذي يملك الثلث فيتصرف في جميع
ماء النهر مدة يومين، ثم تنتقل النوبة للثالث وهو الذي يملك السدس فيتصرف في
جميع ماء النهر يوما واحدا.
(المسألة 129):
القسمة بالمناوبة والمهاباة بين الشركاء متقومة بالتراضي والمسالمة ما
بينهم، ولذلك فلا تكون قسمة اجبار ولا تكون لازمة، ومعنى ذلك أن الشريك لا
يجبر عليها إذا امتنع عن قبولها من شريكه، ويجوز للشركاء فسخ هذه القسمة بعد
النوبة الأولى أو الثانية، ومتى ما أرادوا. ويجوز للشركاء أن يقتسموا الماء بينهم
بالأجزاء على النهج الذي أوضحناه في المسألة المائة والسادسة والعشرون وما
225

بعدها، والقسمة بالأجزاء كذلك قسمة اجبار، فإذا طلبها بعض الشركاء وجبت على
شركائه الآخرين إجابته، وإذا امتنع بعضهم عن قبولها أجبر الممتنع، وإذا وقعت
القسمة بينهم على الوجه المذكور كانت لازمة لا يجوز لأحد منهم فسخها.
(المسألة 130):
إذا اقتسم الشركاء الماء المشترك بينهم بالمهاياة جاز لكل واحد من الشركاء
أن يفسخ القسمة متى أراد، فإذا أراد أحد الشركاء فسخ القسمة، بعد أن استوفى نوبته
من القسمة وقبل أن يستوفي شركاؤه الآخرون نصيبهم منها جاز له ذلك، وإذا فسخ
القسمة ضمن لشركائه حصصهم من الماء الذي استوفاه في نوبته، فإن أمكن العلم
بمقدار ما يستحقونه من الحصص في نوبته ضمنه، ووجب أن يدفع لكل واحد
منهم مثل حصته التي استوفاها، وإذا تعذر العلم بذلك ضمنه لهم بالقيمة، ويرجع
إلى الصلح في ذلك.
(المسألة 131):
المياه المباحة الأصلية كما قلنا في أول هذا الفصل مشتركة بين جميع الناس
على السواء، ولا فرق بين المسلمين وغيرهم في ذلك، فإذا اتفق وجود جماعة من
أصحاب الأملاك والمزارع على بعض هذه الموارد المباحة ليسقوا أملاكهم و
مزارعهم منه كان لهم الحق في ذلك، فإذا كان المورد الذي اجتمعوا حوله
وافيا بحاجة الجميع في أي وقت أرادوا، ومثال ذلك: أن تكون أملاكهم ومزارعهم
حول نهر من الأنهار الكبيرة التي تكفيهم لذلك متى شاؤوا، فالنتيجة واضحة لا
ريب فيها، فيصح لكل فرد منهم أن يستوفي حقه من الماء تاما متى أراد، فإن
المفروض أنه باستيفاء حقه لا يمنع ولا يزاحم حقوق الآخرين ولا يضعف
226

حصصهم من الماء.
(المسألة 132):
لا يحق لأحد من الناس في الصورة المتقدمة أن يشق له نهرا كبيرا في أرض
يملكها أو في أرض ميتة فيتملك به ذلك الماء المباح كله، أو يستولي به على أكثره
بحيث لا يكون الباقي من الماء وافيا بحاجة الآخرين. ولا يمنع الرجل من أن يشق
لنفسه نهرا يملك فيه بعض الماء إذا كان لا يمنع حقوق الباقين ولا حق بعضهم ولا
يوجب له قلة في الماء.
(المسألة 133):
إذا كان الماء المباح الذي اجتمع عليه أصحاب الأملاك والمزارع لا يكفي
لسقاية أملاكهم ومزارعهم دفعة واحدة، ومثال ذلك: أن تكون الأملاك والمزارع
المذكورة حول غدير في البادية يجتمع فيه ماء المطر: أو واد من أوديتها ينحدر إليه
ماء السيل، أو حول عين نابعة في الأرض الميتة، فإذا قسم أصحاب الأملاك الماء
الموجود عليهم، لم يف بحاجتهم مجتمعين، ووقع النزاع والتخاصم بينهم في من
يتقدم أو يتأخر منهم في السقاية.
فإن علم من هو الأسبق في احياء ملكه أو مزرعته قبل الآخرين من أصحابه
قدم الأسبق، فيسقي من ذلك الماء قبل غيره، ثم يقدم السابق في الاحياء من بعد
الأول، وهكذا حتى تتم سقايتهم أو ينتهي الماء الموجود.
وإذا لم يعلم السابق من اللاحق في احياء لملكه، قدم الأعلى في السقاية من
الماء، والمراد بالأعلى من يكون ملكه أو مزرعته أقرب إلى أول الماء المباح
الموجود، فيسقي ملكه أولا فإن كان نخلا حبس له الماء في أرضه إلى أن يبلغ في
227

ارتفاعه إلى الكعب، والكعب هو المفصل بين الساق والقدم، وإن كان شجرا
حبس له الماء حتى يبلغ إلى القدم، وإن كان زرعا حبس الماء لسقايته حتى يبلغ إلى
الشراك، فإذا استوفى من هو أقرب إلى أول الماء حقه من السقاية بذلك، أرسل الماء
من بعده إلى من يليه فسقي كما تقدم، ثم أرسل الماء إلى من بعده، وهكذا حتى تتم
السقاية للجميع أو ينتهي الماء الموجود كله.
(المسألة 134):
إذا وجد جماعة من الناس على ماء مباح، فشق كل واحد منهم له نهرا في
ملكه الخاص به، أو في أرض ميتة، أمكن لهم أن يجروا الماء في أنهارهم التي شقوها
من ذلك الماء المباح الذي اجتمعوا عليه، ويملك كل واحد منهم الماء الذي أجراه
في نهره وقد تقدم بيان هذا.
فإن كان الماء المباح الموجود لديهم يكفي لحاجتهم جميعا لكثرته فيما لا
الأنهار كلها في زمان واحد، ولا يمنع بعضهم بعضا ولا ينقص حقه، اشتركوا في
الحق على السواء وفعلوا بالماء ما أرادوا.
وإن كان الماء المباح الموجود لديهم لا يفي بحاجتهم جميعا في وقت
واحد، ووقع التخاصم بينهم في من يتقدم أو يتأخر في الاستحقاق، جرى فيه نظير
الحكم الذي ذكرناه في سقاية الأملاك، فيقدم منهم من علم أنه أسبق في احياء نهره
من غيره فيجري الماء في نهره قبل الآخرين، ثم يكون الحق للسابق في الاحياء من
بعد الأول: وهكذا.
وإن لم يعلم السابق منهم قدم في الحق من يكون نهره الذي أحياه أقرب إلى
أول الماء المباح، فيجري الماء في نهره، ثم يكون الحق من بعده لمن يليه، وهكذا
228

على الترتيب كما تقدم.
(المسألة 135):
إذا كان النهر المملوك مشتركا بين جماعة متعددين، واحتاج إلى تنقية من
رواسب الرمل والطين المجتمعة فيه، أو من النباتات التي تخرج في قاعه، وتعيق
جريان الماء فيه، أو احتاج إلى مزيد من الحفر أو التوسعة، أو إلى اصلاح بعض
الخروق والخلل فيه أو في جوانبه، فللمسألة صور لا بد من ملاحظتها لتطبيق
أحكامها.
(الصورة الأولى): أن يكون الشركاء في النهر كلهم كاملين رشيدين ويتفقوا
في ما بينهم على أن يقوموا بما يحتاج إليه النهر من اصلاح وتنقية، فإذا أرادوا القيام
بالأمر في هذه الصورة فعليهم أن يقتسموا العمل في النهر أو يقتسموا النفقة عليه
بنسبة ما يملكه كل فرد منهم من الحصة في النهر، فعلى مالك نصف النهر أن يقوم
بنصف العمل فيه، أو يقوم بدفع نصف نفقاته، فيستأجر بها من يقوم بالعمل، وعلى
مالك ثلث النهر أو ربعه أو ثمنه أو عشره مثلا أن يقوم بنسبة حصته المذكورة من
النهر فيتولى مقدارها من العمل، أو يدفع مقدارها من النفقة.
وكذلك الحكم إذا ألزمتهم الدولة بأن يقوموا بتنقية النهر واصلاحه، فعليهم
أن يتولوا القيام بالأمر بنسبة ما يملكه الفرد منهم من الحصة في النهر، فيعمل في
اصلاحه بنفسه أو يدفع من النفقة بذلك المقدار وهذه هي الصورة الثانية. بل
وكذلك إذا ألزم الحاكم الشرعي بذلك، كما إذا كان النهر مشتركا بين ملاك قاصرين
وكانت مصلحتهم تحتم تعمير النهر واصلاحه، فيجب على الأولياء الشرعيين
للقاصرين أن يقوموا بما تقتضيه المصلحة، فيدفعوا نفقة العمل والاصلاح من أموال
229

القاصرين أنفسهم، فإذا لم يفعل الأولياء ذلك ألزمهم الحاكم الشرعي به، واقتسموه
بحسب الحصص كما تقدم، وهذه هي الصورة الثالثة.
(المسألة 136):
الصورة الرابعة أن يختلف الشركاء في النهر في ما بينهم، وهم جميعا كاملون
رشيدون، فيعزم بعضهم على أن يقوم باصلاح النهر المشترك وتنقيته، ويترك
بعضهم فلا يقوم بشئ، ولا يجبر الممتنعون من الشركاء على الاشتراك في العمل
أو في النفقة، وإذا قامت الجماعة الأولى باصلاح النهر أو بالانفاق عليه أو بشئ
منهما، فلا يحق لهؤلاء أن يطالبوا شركاءهم الممتنعين بمقدار نصيبهم من المؤونة
إلا إذا كان الممتنعون قد طلبوا من شركائهم العمل في النهر وتعهدوا لهم ببذل ما
ينوبهم من النفقة، فيجوز لهم المطالبة بها بعد هذا الطلب وهذا التعهد
(المسألة 137):
(الصورة الخامسة) أن يكون النهر مشتركا بين فريقين من الملاك، فبعض
الشركاء فيه قاصرون غير رشيدين، ولذلك فلا يصح التصرف في حصصهم إلا من
أوليائهم الشرعين، وبعض الشركاء في النهر كاملون يصح لهم التصرف، ولكنهم
يعجزون عن القيام باصلاح النهر إلا بمعونة شركائهم القاصرين لضعفهم في المال
أو لسبب آخر.
فإذا كانت للشركاء القاصرين مصلحة تقتضي اصلاح النهر المشترك وجب
على أوليائهم الشرعيين أن يبذلوا حصص القاصرين من مؤونة اصلاح النهر ليتمكن
شركاؤهم من القيام بالعمل ويتم الاصلاح المطلوب، والحصص التي يبذلها
الأولياء من أموال القاصرين أنفسهم، وإذا لم تكن للقاصرين مصلحة في اصلاح
230

النهر لم يجب على الأولياء البذل.
(المسألة 138):
إذا أذن مالك النهر لغيره أن يغرس لنفسه على حافة النهر نخيلا أو شجرا
فغرس الشخص المأذون له ذلك، فلا يجوز لمالك النهر بعد ثبات الغرس أن يحول
النهر إلى موضع لا يصل منه الماء إلى النخيل أو الشجر المغروس بإذنه، وكذلك
الحكم إذا أذن له فنصب رحى في مجرى النهر لطحن الحبوب، فليس لمالك النهر
أن يحوله فلا ينتفع المأذون له برحاه، ويجوز له تحويل النهر إذا أذن له صاحب
الغرس وصاحب الرحى بتحويله.
(المسألة 139):
النبات يتبع الأرض التي تنبته في الحكم، فإذا كانت الأرض مملوكة لأحد من
الناس كان النبات الذي تخرجه مملوكا لصاحب الأرض، سواء كان مما تخرجه
الأرض بنفسها أم خرج فيها بزرع زارع أو غرس غارس، وسواء كان مما يأكله
الناس أو الأنعام أم كان مما لا يؤكل، فلا يجوز لأحد أن يتصرف فيه إلا بإذن مالك
الأرض، وإذا وضع يده عليه أو تصرف فيه بغير رضا مالكه كان غاصبا آثما في فعله.
وإذا كانت الأرض مواتا غير مملوكة لمالك كان النبات الذي تخرجه بحكمها، فهو
من المباحات الأصلية فتشترك فيه الناس عامة، وإذا سبق إليه أحد من الناس فحازه
لنفسه ملكه بالحيازة، وكان مختصا به، إلا أن يحدث ما يوجب الاشتراك في
الملكية، ولا تختص هذه الأحكام بالكلأ وما تأكله الأنعام والدواب والحيوان
بل تشمل العقاقير والأدوية والزهور وما يأكله الانسان من النباتات، وما ينتفع به
في مأكولاته ومشروباته من التوابل والأبزرة والمطيبات والمشهيات، وما ينتفع به
231

في غير ذلك كالحطب والخشب والقصب والبردي وغيرها.
(المسألة 140):
ذكرنا في المسألة التاسعة عشرة إن المسلم إذا سبق إلى قطعة من الأرض
الميتة فوضع يده واستولى عليها لينتفع بما فيها من كلأ ونبات أو ماء عذب أو
حطب أو قصب أو نحو ذلك من المباحاث العامة الموجودة في الأرض كان هذا
السابق أولى بتلك القطعة التي استولى عليها وبمنافعها ما دامت يده مستولية
عليها، وإن لم يحي الأرض ولم يحجرها، فلا يجوز لأحد غيره من الناس أن يضع
يده على تلك الأرض، ولا على كلائها ونباتها ومنافعها إلا بإذنه، وكذلك إذا سبق
إلى الأرض الميتة كافر ذمي أو معاهد ممن تكون يده محترمة في شريعة الاسلام
لذمته أو معاهدته.
232

[الفصل التاسع]
[في المعادن]
(المسألة 141):
المعادن بقاع مخصوصة من الأرض تكون أجزاء الأرض فيها ذات
خصوصيات مرغوبة عند أفراد الانسان، وهو يطلبها لتلك الخصوصيات ولكثرة
إفادته منها، وقد يكون بعض تلك البقاع للخصوصيات الموجودة فيها سببا
لتحويل المياه والأبخرة وشبهها إذا اجتمعت فيها إلى مواد ذات قيمة، بل وإلى ذات
ثروة كبيرة يتنافس عليها الناس، كالنفط والكبريت، والقار والملح والزيبق
والزرنيخ. وكالذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص، وكالزمرد
والزبرجد والفيروزج والعقيق والياقوت، وأمثال ذلك من المعادن النفيسة وغير
النفيسة، والمألوفة وغير مألوفة بين الناس، وقد تعرضنا لذكر المعادن والأحجار
الكريمة في كتاب الخمس من هذه الرسالة وفي مبحث ما لا يصح السجود عليه من
كتاب الصلاة.
(المسألة 142):
يقول جماعة من الفقهاء (قدس الله أرواحهم): تنقسم المعادن إلى نوعين
النوع الأول المعادن الظاهرة على وجه الأرض، كالملح والكحل والقار والمومياء
وهذا النوع كسائر المباحات الأصلية يملك بالأخذ والحيازة، فإذا أخذ الانسان
233

منه شيئا ملك ما أخذه وبقي الباقي الذي لم يأخذه من المعدن مشتركا بين عموم
الناس، والنوع الثاني المعادن الباطنة في الأرض، وهذا النوع إنما يملك بالتعمير
والاحياء.
والظاهر أن هؤلاء الأجلة (تغمدهم الله برضوانه) يريدون من النوع الأول:
المعادن التي تكون جاهزة بنفسها، فيمكن للرجل أن ينتفع بها بالفعل، سواء كانت
ظاهرة على وجه الأرض أم كانت بحكم الظاهرة، وهي التي يستولي عليها الانسان بعد
حفر يسير في الأرض، كمعادن الجص والنورة والموميا والكبريت والفيروزج
والمرمر التي تستخرج ويستولي عليها بعد إزالة الرمل والتراب من وجه الأرض.
والحكم في هذه المعادن الجاهزة بنفسها كما أفاده هؤلاء الأجلة (رضي الله
عنهم) فهي مما يملكه الانسان بالحيازة، فإذا أخذ منهما شيئا كثيرا أو قليلا ملكه
سواء أخذه من ظاهر الأرض أم استولى عليه بعد الحفر كما قلنا ولا ينافي ذلك أن
بعض هذا النوع يحتاج إلى الاحراق كالجص والنورة، وبعضه يحتاج إلى نشره
بالمناشير وإلى تسوية وجوهه بالآلات كالمرمر، فإن هذا المقدار من العمل لا
يخرجها عن حكم المباحات العامة، ولا تكون بسببه من النوع الثاني الذي لا
يملك إلا بالاحياء، ويبقى الباقي الذي لم يأخذه الرجل من المعدن مباحا لغيره من
الناس، بل وله متى شاء.
(المسألة 143):
النوع الثاني: المعادن التي لا تكون جاهزة بالفعل ليستفيد الانسان منها
فوائدها المطلوبة متى أخذها، بل تفتقر حتى تبلغ هذه الغاية إلى اجراء أعمال
وتعمير واحياء كمعدن العقيق والياقوت والزبرجد ونحوها من الأحجار الكريمة
234

فهي تتوقف على حك وتصفية حتى تصبح جواهر نافعة، وكمعدن الزيت والنفط
فإنه يحتاج إلى حفر آبار واستخراج وتصفية بآلات وأجهزة معقدة متنوعة حتى
تنتج أنواع من الزيت المطلوبة، وكمعادن الذهب والفضة والنحاس والحديد و
والرصاص فإنها تفتقر إلى أعمال كثير من الوسائل في العمارة والاحياء. والحكم في
هذا النوع من المعادين إنها لا تكون مملوكة للانسان إلا بالتعمير والاحياء، ولا فرق
فيها بين أن تكون ظاهرة على وجه الأرض وأن تكون مستورة في باطنها أو في
أعماقها فتحتاج إلى تنقيب وحفر آبار واعداد أجهزة ووسائل معقدة.
وإذا حفر الانسان البئر ولم يحيى المعدن بالفعل لم يملكه، وكان حفره
للبئر وتعيين الموضع تحجيرا يثبت به للحافر حق الأولوية من غيره، وقد سبق
نظير هذا الحكم في من حفر له بئرا في أرض ميتة ولم ينبع ماؤها، أو حفر له فيها
عينا ولم يخرج ماؤها فلا يكون ذلك احياء للبئر أو العين، ولا يملكها بذلك
ويكون حفرهما تحجيرا للموضع من الأرض الميتة تثبت للمحجر به الأولوية.
(المسألة 144):
إذا سبق انسان إلى أحد المعادن التي لا تملك إلا بالاحياء وشرع في
مقدمات احيائه ثم تركه وأهمله، خيره الولي العام للمسلمين بين أن يتم احياء
المعدن، وأن يرفع يده عنه لمن يريد احياءه من الناس وأجبره على أن يختار أحد
الأمرين، وإذا اعتذر عن تعطيل العمل بعذر مقبول عند العقلاء أمهله ولي
المسلمين مدة يزول فيها عذره فإذا انقضت المدة ألزمه بأن يختار أحد الأمرين
ويتولى الحاكم الشرعي في عصر غيبة الإمام (ع) وسبق نظير هذا الحكم في
المسألة التاسعة والخمسين.
235

(المسألة 145):
إذا أحيى انسان قطعة من الأرض الموات فوجد في الأرض المحياة: بعض
المعادن ملك الأرض بالاحياء وملك المعدن الذي وجده فيها بتبع الأرض، سواء
وجد المعدن ظاهرا على وجه الأرض أم عثر عليه في باطنها، ومثال ذلك: أن يشق
له في الأرض نهرا أو يحفر بئرا فيجد المعدن في أثناء حفره، فيملكه لأنه جزء من
أرضه، ومن توابعها وإذا كان المعدن في الأعماق البعيدة عن وجه الأرض بحيث لا
يعد عرفا من أجزاء الأرض ولا من توابعها لم يملكه الرجل مع الأرض باحيائها
ومن أمثلة ذلك: آبار النفط وشبهه مما يحتاج في استخراجه إلى حفر كثير في
الأعماق فلا يملك مثل هذا المعدن باحياء الأرض، وإنما يملك باحياء المعدن
نفسه على الوجه الذي تقدم بيانه.
(المسألة 146):
يجوز للانسان أن يستأجر أجيرا لاستخراج المعدن من موضعه في الأرض
بأجرة معلومة بينهما، ويجوز له أن يستأجره لاحياء المعدن إذا كان محتاجا إلى
الاحياء، وكان العمل المستأجر عليه معلوما بين المتعاقدين، والأحوط أن يكون
مقدرا في المدة، ولا تصح الإجارة إذا كان بدل الإجارة مجهولا، ومثال ذلك: أن
يستأجر العامل يستخرج المعدن بربع ما يخرجه منه أو بثلثه، ويمكن للمتعاقدين
إذا فقد بعض شروط الصحة في الإجارة أو شكا في تحقق شرط منها أن يوقعا
المعاملة بينهما على وجه الصلح.
(المسألة 147):
لا يجوز للانسان أن يضع يده على مقاطعة كبيرة لا يستطيع احياءها بنفسه
236

من الأرض الموات ثم يقسم المقاطعة بين أفراد متعددين من عشيرته أو غيرهم
ليحيى كل فرد منهم حصته ويكون الرجل الأول هو صاحب الحق والاستيلاء على
الأرض كلها، فإذا أخذ كل فرد من العشيرة حصته من الأرض وأحياها ملكها هذا
الفرد المحيي ولا حق للأول في شئ منها.
وأولى من هذا الفرض بالمنع وعدم الجواز أن يضع الأول يده على مقدار
كبير من المياه المباحة أو المعادن المشتركة ويصنع فيها كما تقدم ذكره من التقسيم
على أفراد العشيرة.
(المسألة 148):
إذا أحيى رجل أرضا ميتة ملك الأرض بالاحياء، وإذا وجد في الأرض بعض
الآثار القديمة التي يعتبرها الناس ذات قيمة تاريخية أو مالية فهي ملك لمحيي الأرض
ويملكها بتبع الأرض المحياة، وكذلك إذا اشترى أرضا أو انتقلت إليه بأحد الأسباب
الموجبة لتملكها شرعا، فإذا عثر فيها على بعض الآثار للأمم السابقة فهي ملك له
لأنها من أجزاء أرضه.
(المسألة 149):
إذا وقف الرجل شارعا عاما من أرضه المملوكة وسبله للناس وعين للشارع
أرصفة لمرور المشاة فيها وجب اتباع ما عينه الواقف، فلا يجوز
المرور والاستطراق في الأرصفة لركبان الدواب ووسائط النقل، ولا يجوز وقوف
السيارات أو الدواب أو وسائط النقل الأخرى فيها، وخصوصا إذا أوجب ذلك منعا
أو مزاحمة لمرور المشاة الموقوف عليهم.
237

[كتاب المزارعة والمساقاة]
239

[كتاب المزارعة والمساقاة]
وتفصيل البحث في هذا الكتاب يكون في ستة فصول:
[الفصل الأول]
[في المزارعة وشروطها]
(المسألة الأولى):
الزراعة أحد الأعمال التي تأكد استحبابها في شريعة الاسلام، وقد تعددت
النصوص الواردة عن الرسول " ص " وعن الأئمة من أهل بيته الطاهرين " ع " الدالة
على ذلك، وتنوعت في الحث والتأكيد عليه، ففي الحديث عن يزيد بن هارون
الواسطي قال: (سألت جعفر بن محمد " ع " عن الفلاحين، فقال: هم الزارعون كنوز الله
في أرضه، وما في الأعمال شئ أحب إلى الله من الزراعة، وما بعث الله نبيا إلا
زارعا، إلا إدريس " ع " فإن كان خياطا) وفي رواية أخرى عنه، قال سمعت
أبا عبد الله " ع " يقول: (الزارعون كنوز الأنام يزرعون طيبا أخرجه الله (عز وجل) وهم يوم القيامة أحسن الناس مقاما، وأقربهم منزلة يدعون المباركين)، وعن
سيابة عنه " ع " قال: سأله رجل، فقال له: جعلت فداك، أسمع قوما يقولون: أن
الزراعة مكروهة، فقال له: (ازرعوا واغرسوا فلا والله ما عمل الناس أحل ولا أطيب
منه) وعنه " ع " (أن الله عز وجل اختار لأنبيائه الحرث والزرع كيلا يكرهوا شيئا من
قطر السماء)، وبمضمونها روايات عديدة أخرى.
240

(المسألة الثانية):
المزارعة معاملة تكون ما بين مالك الأرض وشخص آخر يتفقان بينهما على
أن يقوم الشخص بزرع الأرض لمالكها بحصة من نتاج الزراعة، ولا ريب في شرعية
هذه المعاملة إذا توفرت فيها شروط الصحة وسيأتي بيانها مفصلا.
ويسميها بعض اللغويين وعلماء الحديث مخابرة، بملاحظة أن كل واحد
من المتعاقدين في المعاملة يستحق خبرة من نتاج الزرع والخبرة هي النصيب
المعين، أو بملاحظة أن الخبير اسم يطلق في اللغة على الأكار نفسه.
وقد روى الصدوق في كتابه معاني الأخبار (أن النبي " ص " نهى عن
المخابرة)، وهذا الخبر محمول على صورة وجود تنازع وتشاجر في المعاملة بين
المتعاقدين، فلا نهي ولا كراهة في المزارعة إذا لم تؤد إلى ذلك.
(المسألة الثالثة):
المزارعة معاملة معلومة تجري بين عامة الناس، وهي عقد من العقود يجري
بين الطرفين المتعاملين، ولذلك فهي لا تتم ولا تنفذ إلا بايجاب وقبول بينهما
ويجوز فيها أن يكون الايجاب من مالك الأرض ويكون القبول من الزارع، ويمكن
أن يقع الايجاب من الزارع، ويقع القبول من صاحب الأرض، ويصح أن يقع
الايجاب من أحدهما بأي لفظ يكون دالا على انشاء عقد المزارعة بينهما بحصة
معينة من حاصل الزراعة، فيجوز للموجب منهما أن ينشئ، العقد بصيغة الفعل
الماضي، وبصيغة الفعل المضارع، وبصيغة فعل الأمر، وبالجملة الإسمية فيقول
مالك الأرض للزارع: سلمت إليك أرضي المعلومة لتزرعها حنطة مثلا ويكون لي
النصف أو الثلث من الحاصل الذي ينتج من الزرع ولك الباقي منه، أو يقول له:
241

أزارعك في أرضي على كذا، ويذكر له القيود والشروط، أو يقول له: ازرع لي هذه
الأرض بالحصة المعينة وهكذا في أي لفظ يكون دالا على ايجاد المعاملة
المقصودة بينهما دلالة ظاهرة يعتمد عليها أهل اللسان، وأن كان ظهوره بسبب
قرينة موجودة تدل على المراد، سواء وقع من مالك الأرض أم من الزارع.
ولا يتعين أن يكون انشاء العقد بلفظ عربي، فيصح أن يقع انشاؤه بأي لغة
أخرى تكون دالة عليه في عرف أهل ذلك اللسان، ويجوز أن يكون القبول كذلك
بأي لفظ يكون دالا على رضى القابل بالمعاملة وبشروطها التي اتفق عليها الطرفان
سواء وقع من الزارع أم من صاحب الأرض.
(المسألة الرابعة):
يجوز أن ينشأ عقد المزارعة بالمعاطاة الدالة على المعاملة المقصودة، فإذا
دفع المالك أرضه إلى الزارع ليزرعها له بحصة معلومة من حاصل الزراعة وقصد
بدفعه الأرض انشاء المعاملة، ثم قبض الزارع الأرض منه بقصد انشاء القبول على
الشروط المتفق عليها بينهما، صحت المعاملة ونفذت، وكانت لازمة على الأقوى
وسيأتي ذكر ذلك في موضعه، وإنما تجري المعاطاة بعد أن يعين بين الطرفين ما
يحتاج إلى تعيينه ويشترط ما اتفقا على اشتراطه، ثم ينشأ العقد بالمعاطاة مبنيا
على ذلك، فتكون القيود والشروط بذلك بحكم المذكورة في العقد.
ويجوز أن يكون العقد مؤلفا فيكون الايجاب باللفظ والقبول بالفعل
وبالعكس ويصح أن يقدم القبول على الايجاب على الوجه الذي يأتي ايضاحه
وقد سبق نظير ذلك في بعض العقود.
(المسألة الخامسة):
242

لا ريب في أن الأرض مملوكة لمالكها الشرعي، ويتبعها في ذلك نماؤها
وجميع ما يحصل منها من فائدة ومنفعة، فلا يحق للزارع أن يتصرف في الأرض
إلا بإذن مالكها، ولا يستحق من نمائها وفوائدها شيئا إلا بتمليكه، ولا ريب كذلك
في أن عمل العامل الحر ملك خاص له، ولا سلطان لأحد غيره على عمله، ولا على
شئ من نتاجه وفوائده إلا بتمليكه.
ومن أجل ذلك كانت المزارعة عقدا لا يتم إلا بايجاب وقبول من المتعاملين
ومن أجل ذلك صح أن يقع الايجاب فيها من مالك الأرض ومن الزارع، ويكون
القبول من الطرف الثاني منهما، فإذا قال مالك الأرض للزارع: سلمت إليك أرضي
المعلومة لتزرعها حنطة ويكون لك النصف أو الثلث مما تنتجه الأرض من حاصل
هذه الزراعة، ويكون لي الباقي من حاصلها، أو قال له: زارعتك على أن تزرع
أرضي حنطة ويكون حاصل زراعة الأرض بيننا على النهج المذكور، كان مالك
الأرض هو الموجب في المعاملة، ولا يتم العقد ولا ينفذ إلا بقبول الزارع بعد أن يتم
الايجاب، ويجوز أن يقدم القبول قبل الايجاب، فيقول الزارع لمالك الأرض وقبل
ايجابه: رضيت بالمزارعة التي تنشئها على الشروط التي اتفقنا عليها ما بيننا
ويصح العقد منهما على كلا الوجهين.
وإذا ابتدأ الزارع بالايجاب فقال لمالك الأرض: استلمت منك أرضك
المعلومة لأزرعها وتكون الحصص بيني وبينك بالمناصفة مثلا في نتاج الزراعة، أو
على النهج المعين الذي اتفقنا عليه فيكون الزارع هو الموجب، ولا يتم العقد
ولا ينفذ إلا بقبول المالك بعد هذا الايجاب، ويصح للمالك أن يوقع القبول سابقا
على الايجاب، فيقول للزارع قبل ايجابه رضيت بمزارعتك التي تنشئها، على
243

الوجه والقيود التي اتفقنا عليها والشروط التي ردناها.
(المسألة السادسة):
يشترط في صحة عقد المزارعة أن يكون صاحب الأرض بالغا وعاقلا
ومختارا في فعله، فلا يصح عقده إذا كان صبيا أو كان مجنونا، أو كان
مكرها أو مقسورا على الفعل، وأن يكون قاصدا لما ينشئه فلا يصح عقده إذا كان
سكران أو غاضبا غضبا يسلبه القصد لما يقول، أو كان هازئا أو هازلا غير جاد في
قوله وفعله، وأن يكون رشيدا غير محجور عليه لسفه، سواء كان سفهه موجبا
للحجر عليه في ماله خاصة أم في جميع تصرفاته، وقد ذكرنا تفصيل هذا في كتاب
الحجر، وأن يكون غير محجور عليه في ماله لفلس، وأن يكون مالكا للتصرف في
ماله من الجهات الأخرى، فلا يصح عقده إذا كان غير نافذ التصرف فيه لبعض
الموانع منه.
ومثال ذلك: ما إذا كانت منفعة الأرض مملوكة لغيره بإجارة وشبهها، أو
كانت الأرض مرهونة عند غيره على دين لذلك الغير، أو كانت قد تعلق بها حق آخر
يمنع المالك من التصرف فيها أو في منفعتها.
ويشترط في صحة العقد كذلك أن يكون الزارع جامعا للشرائط المذكورة
كلها على النحو الذي ذكرناه في صاحب الأرض، نعم، لا يضر في صحة المزارعة
أن يكون الزارع مفلسا، إذا كانت مزارعته لا تستلزم تصرفا في أمواله الموجودة لديه
والتي قد تعلق الحجر بها لحقوق الغرماء.
(المسألة السابعة):
244

يشترط في صحة عقد المزارعة أن يجعل في العقد جميع ما يحصل من
زراعة الأرض مشاعا بين المتعاقدين، فلا يصح العقد إذا جعل نماء الزراعة كله
لأحد الطرفين دون الآخر، ولا يصح إذا اشترط أن يكون لأحد المتعاقدين
مقدار معين من الحاصل يختص به، فيشترط صاحب الأرض على الزارع أو يشترط
الزارع على صاحب الأرض أن تكون له عشرة أمنان من الحنطة الحاصلة من
الزراعة يختص بها دون صاحبه، ولا يعلم بأن ما يحصل من نتاج الزرع يفضل عن
ذلك المقدار أم لا، فيبطل العقد في هذه الصورة، ويبطل أيضا إذا جعل الباقي من
الحاصل إذا اتفق وجوده خاصا بالثاني منهما، أو جعل مشتركا بين الطرفين
فيكون العقد في جميع هذه الصور، وتلاحظ المسألة الخامسة والعشرون الآتية.
ولا يصح العقد إذا اقتسما الحاصل من الزراعة بينهما بحسب الزمان
فاشترطا مثلا أن يكون ما تنتجه الزراعة في أول الوقت يختص بأحدهما، وما
تنتجه في آخر الزمان يكون للثاني، أو اقتسما النتاج بحسب الأمكنة من الأرض فما
تنتجه القطعة الأولى المعينة من الأرض يكون لأحدهما وما تنتجه القطعة الثانية
يختص بالآخر.
ولا يصح العقد إذا اقتسما الحاصل بحسب النوع الذي تنتجه الزراعة، فما
تنتجه الزراعة من الحنطة يكون مثلا يكون مملوكا لأحدهما، وما تنتجه من بقية
أنواع الحبوب أو المخضرات يكون مملوكا للثاني، فيبطل عقد المزارعة في جميع
هذه الفروض، وتصح المعاملة فيها إذا أنشئت على نحو المصالحة عليها بين
الطرفين.
(المسألة الثامنة):
245

يشترط في صحة عقد المزارعة زائدا على الشروط المتقدم ذكرها: أن تجعل
في العقد لكل واحد من المالك والزارع حصة معلومة المقدار من مجموع حاصل
الزراعة، النصف منه أو الثلث أو الربع أو الخمس أو غير ذلك من الكسور، حسب
ما يتفق عليه المتعاملان، سواء تساوت الحصتان المجعولتان لهما في المقدار أم
تفاوتتا، فيكون المجموع بينهما حصتين على المناصفة أو على المثالثة،
فلأحدهما ثلث الحاصل وللآخر ثلثاه، أو على غير ذلك، فلأحدهما ربع النتاج
وللثاني ثلاثة أرباعه، وهكذا.
ففي صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله " ع " قال: (لا تقبل الأرض بحنطة
مسماة، ولكن بالنصف والثلث والربع والخمس لا بأس به)، وقال " ع ": (لا بأس
بالمزارعة بالثلث والربع والخمس)، وفي صحيحة أبي الربيع الشامي عنه " ع "، إنه
سئل عن الرجل يزرع أرض رجل آخر، فيشترط عليه ثلثا للبذر وثلثا للبقرة فقال فقال
" ع ": (لا ينبغي أن يسمي بذرا ولا بقرا، ولكن يقول لصاحب الأرض: ازرع في
أرضك ولك منها كذا وكذا، نصف أو ثلث أو ما كان من شرط ولا يسم بذرا
ولا بقرا، فإنما يحرم الكلام)، وبمضمونها أدلة معتبرة أخرى.
فلا يصح العقد إذا لم يعين مقدار الحصة كذلك، فقال له مثلا: زارعتك على
أن تكون لك حصة من الحاصل نتفق على تقديرها في ما بعد، أو على أي مقدار
تريده أو على ما يعينه لك فلان.
(المسألة التاسعة):
إذا ذكر المتعاقدان للمزارعة بينهما مدة وجب عليهما أن يعينا للمدة أمدا
محدودا بالأشهر أو السنين، فيقول الموجب من الطرفين لصاحبه: أسلمت إليك
246

هذه الأرض لتزرعها لي مدة ثلاث سنين مثلا أو أربع، على أن يكون لي الثلث من
الحاصل الذي. تخرجه الزراعة كل سنة من هذه المدة ولك الثلثان منه، ويقول
الآخر: قبلت المزارعة في هذه المدة المعينة على الشرط الذي ذكرت.
وإذا ذكرا للمزارعة مدة ولم يجعلا لها أجلا مسمى بطل العقد بينهما
ومثال ذلك أن يقول الموجب لصاحبه: سلمت إليك الأرض لتزرعها مدة من
الزمان،
فيكون لي الثلث من ناتج الزراعة ولك الباقي منه، فيبطل العقد لعدم
التعيين، وإذا ذكر للمزارعة مدة وعيناها لزم أن يكون الأجل المعين بمقدار يحصل
فيه الزرع، ويتم ادراكه بحسب العادة المتعارفة لذلك الزرع، فلا يصح العقد إذا كان
الأجل أقل من ذلك.
ويكفي في صحة العقد أن تعين المدة فيه على وجه الاجمال، فإذا قال
المالك لصاحبه أسلمت إليك الأرض لتزرعها حنطة في هذا العام، ويكون لي
الثلث من حاصل الزرع ولك الثلثان صح العقد، وتكون المدة من أول الوقت
المتعارف لابتداء زراعة الحنطة في أثناء العام إلى حين ادراكها، وكذلك إذا عين
مبدأ الشروع في الزرع فقال له: أسلمت الأرض إليك لتزرعها حنطة من أول شهر
كذا، فيصح العقد ويحمل الآخر على الوقت الذي يتم فيه ادراك الزرع بحسب
العادة، وترتفع بذلك الجهالة.
(المسألة العاشرة):
يشترط في صحة المزارعة أن تكون الأرض التي تقع عليها المعاملة قابلة
للزراعة المقصودة، فلا يصح العقد إذا كانت الأرض غير صالحة لذلك مطلقا
ومثال ذلك: أن تكون الأرض سبخة مالحة يمكن علاجها والانبات فيها، أو يكون
247

وجهها مكسوا بالصخور والصلدة والحجارة الملساء، فلا تثبت فيها الجذور ولا
تنمو فيها البذور، أو تكون مغمورة بالمياه، فلا يستطاع تجفيفها ليقوم فيها زرع أو
يثمر فيها نبت، أو تكون قد استولت عليها الرمال الكثيفة الناعمة
وتراكمت على وجهها فلا يقدر على إزالتها، أو تكون بعيدة عن منابع الماء
وموارده، وعن مساقط الغيث والقطر فلا تمكن سقايتها، ولذلك فلا ينبت فيها
زرع ولا ينمو فيها عود.
وتصح المزارعة على الأرض إذا أمكن الزرع فيها بالعلاج والاصلاح فكان
مالك الأرض قادرا على اصلاحها وتسليمها بعد الاصلاح للزارع قابلة للزرع
والانبات، أو كان الزارع نفسه قادرا على أن يصلح الأرض حتى تصبح قابلة لذلك
ولو باستخدام الآلات والوسائل الحديثة المعدة لمثل ذلك، ولا ريب في أن ذلك
يتبع الشرط بينهما، فإذا شرط مالك الأرض على العامل أن يقوم باصلاح الأرض
وكان العامل قادرا على القيام به، أو شرطه العامل على مالك الأرض، وجب على
المشروط عليه أن يفي بالشرط، وصحت به المعاملة، وإن احتاج الاصلاح إلى مدة
طويلة، سنة أو سنتين أو أكثر، مع ذكر ذلك في العقد، وتلاحظ المسألة التاسعة
والستون.
(المسألة 11):
إذا اتفق المتزارعان بينهما على إرادة نوع خاص من الزرع في الأرض: حنطة
أو شعير أو غيرهما من أنواع المزروعات وقصداه معا في نفسيهما حين اجراء
المعاملة، تعين ذلك النوع في المعاملة الجارية بينهما، ووجب على الزارع ومالك
الأرض اتباعه والوفاء به، وكفى ذلك عن الاشتراط الصريح في العقد، ويكفي أيضا
248

عن الاشتراط الصريح في العقد أن يكون ذلك النوع الواحد من الزرع هو المتعارف
بين عامة الناس في ذلك البلد لمثل هذه الأرض ومن ذلك العامل، وهو الذي
ينصرف إليه الاطلاق بينهم، فيتعين الاتيان بذلك النوع، ويكون الانصراف إليه
كالشرط الصريح في العقد.
وإذا كانت الأرض صالحة لعدة أنواع من الزرع فيها، وعلم من القرائن
الموجودة: أن مالك الأرض وزارعها كليهما قد قصدا في نفسيهما التعميم لجميع
الأنواع التي تمكن زراعتها في الأرض، صح العقد، وكان العامل مخيرا في الزراعة
بين جميع الأنواع المقصودة لهما، فأي الأنواع منها أتى به كان وفاء بالعقد، وإذا
كانت الأرض قابلة لعدة أنواع من الزرع فيها، ولم يقصد المالك والزارع العموم
لتلك الأنواع، ولم يتفقا على إرادة نوع معين منها، ولم ينصرف الاطلاق عند
العقلاء من الناس في البلد إلى نوع مخصوص من الزرع فيها، وجب على
المتعاقدين أن يعينا النوع الذي يريدان في المعاملة بينهما من أنواع الزرع، وإذا
هما لم يعينا نوعا خاصا منها بطل العقد.
(المسألة 12):
المزارعة كما قلنا أكثر من مرة معاملة تتضمن أن يسلط المالك العامل على
أرضه ليتصرف فيها ويزرعها له، وأن يملكه حصة معينة من الحاصل الذي تخرجه
الأرض بسبب الزراعة، ولذلك فلا بد من فرض وجود أرض تتعلق بها المعاملة
المذكورة، ويتعلق بها العمل من الزارع، ويحصل منها النتاج، وبدون هذا الفرض
لا يمكن أن تتحقق المعاملة الخاصة والعقد بين الطرفين، وهو أمر في غاية
الوضوح والجلاء.
249

والأرض التي تتعلق بها المزارعة قد تكون مفروضة الوجود في الخارج
وقد تكون كلية موصوفة، يلتزم بها المالك في ذمته أن يسلمها للعامل كما وصف
ويتعاقد معه على زراعتها، وإذا كانت مفروضة الوجود في الخارج فقد تكون
متشخصة فيه متميزة بوجودها الخاص عن غيرها، وقد تكون على وجه الكلي في
المعين، فهي على ثلاث صور مختلفة.
(الصورة الأولى): أن تكون الأرض التي تتعلق بها المعاملة مفروضة الوجود
في الخارج، وأن تكون متشخصة متميزة بوجودها الخاص عن سواها، والأحوط
في هذه الصورة أن يعين في عقد المزارعة مقدار الأرض وحدودها بين المتعاقدين
فتكون معينة غير مبهمة لديهما، وبذلك يصح العقد عليها من غير ريب، وإذا أهمل
ذلك ودار أمر الأرض بين الأقل والأكثر بطل العقد على الأحوط.
وكذلك الحكم إذا كان للمالك أكثر من أرض واحدة وكانت أراضيه مختلفة
في المقادير والحدود وأراد أن يزارع العامل على واحدة منها، فالأحوط له أن
يعين الأرض التي يجري عليها المعاملة ويعين مقدارها وحدودها، وبدون ذلك
يبطل العقد على الأحوط، وخصوصا إذا كانت أراضيه مما تختلف حصة العامل
في زراعتها عند أهل العرف من البلاد.
(المسألة 13):
(الصورة الثانية): أن تكون الأرض مفروضة الوجود في الخارج وأن
تتساوى أجزاء الأرض في صلاحها للزرع والانتاج، ثم ينشأ عقد المزارعة بين
مالك الأرض وزارعها على مقدار جريب منها بحصة معلومة من حاصل زراعتها،
ولا ينبغي الريب في صحة المزارعة على هذا الوجه، ويكون من العقد على الكلي
250

في المعين من الأرض فإذا عين المتعاقدان بعد ذلك جريبا خاصا من الأرض، و
زرعه العامل على الوجه الذي أراده مالك الأرض وأنتجت الزراعة استحق كل
واحد من المتعاقدين حصته التي عينت له من حاصل ذلك الجريب.
ومن أمثلة ذلك: أن يكون للمالك أكثر من قطعة واحدة من الأرضين وكل
قطعة منها تساوي الأخرى من القطعات في المقدار، وفي صلاح أجزائها للزرع
والأثمار، فإذا زارع المالك العامل على قطعة غير معينة منها كان ذلك من المزارعة
على الكلي في المعين نظير ما تقدم، وصح العقد على الوجه الذي بيناه في نظيره.
(المسألة 14):
(الصورة الثالثة): أن ينشأ عقد المزارعة بين المتعاقدين على كلي من
الأرض موصوف بصفات معينة يكون في ذمة المالك، والظاهر صحة المعاملة في
هذه الصورة أيضا فإذا اتفق المالك مع العامل على أن يزرع له أرضا يدفعها إليه و
وصف له الأرض وصفا ترتفع به الجهالة من الطرفين، وأجريا صيغة العقد بينهما و
عينا مقدار حصة الزارع ومقدار حصة المالك من نتاج الزرع، ثم دفع المالك
للعامل أرضا تتحق فيها الأوصاف التي ذكرها له في العقد صح ذلك ولزم
المتعاقدين الوفاء به.
(المسألة 15):
لا يجب على عامل المزارعة أن يبذل البذر أو الجذور التي يقوم بزراعتها
في الأرض، ولا أن يبذل غير ذلك من المصارف والنفقات التي يتوقف عليها
الزرع، والواجب عليه إنما هو العمل في زرع الأرض وتعهده بالرعاية والسقاية
حتى يثمر الزرع وينتج، ولا يجب شئ من ذلك على مالك الأرض أيضا.
251

ولذلك فيجب على المتزارعين أن يعينا في عقد المزارعة بينهما من يقوم
ببذل ذلك من أحد الطرفين أو كليهما، وإذا هما أهملا ذلك، ولم يعينا من يقوم
بالبذل كان العقد باطلا، وإذا تعارف بين الناس وأصحاب المزارعات أن يكون
دفع ذلك على العامل خاصة، أو على مالك الأرض خاصة، أو على كليهما، و
انصرف اطلاق المعاملة إلى المتعارف من ذلك، صح وعمل على الانصراف
المذكور وكفى ذلك عن التعيين الصريح في العقد.
(المسألة 16):
لا ريب في صحة عقد المزارعة إذا وقع ما بين المالك الشرعي للأرض
والعامل الذي يتولى الزراعة على الوجوه التي تقدم تفصيلها، ولتوضيح الأحكام
قد جرينا على هذا في التعبير في المسائل السابقة من هذا الكتاب، ولا يشترط
في صحة المزارعة أن يكون المزارع مالكا لعين الأرض، ويكفي في صحة مزارعته
للعامل أن يكون مالكا لمنفعة الأرض وحدها ملكا تاما يبيح له أن يزارع غيره على
الأرض وإن لم يك مالكا لها، ومثال ذلك: أن يستأجر الأرض من مالكها فيملك
منفعتها بالإجارة مدة معلومة، أو يملك منفعة الأرض بالوصية له بالمنفعة من
مالكها قبل موته، أو بوقف المنفعة عليه من واقفها، ويكون ملكه لمنفعة الأرض
على وجه مطلق يصح له معه أن يسلط غيره على الأرض، فيزرعها ويجعل له حصة
معينة من نتاجها، ولا يصح له ذلك إذا شرط عليه مالك الأرض في عقد الإجارة
أو الوصية له أو الوقف عليه أن يتولى الانتفاع من الأرض بنفسه، ولا يسلط عليها
غيره.
(المسألة 17):
252

يجوز للقيم الذي يجعله الواقف متوليا على الوقف العام أو الوقف الخاص
أن يزارع من يشاء على الأرض الموقوفة التي تدخل تحت ولايته المجعولة له مع
اجتماع الشرائط المعتبرة، فتنفذ مزارعته وتترتب عليها أحكامها، وكذلك
المتولي العام أو الخاص المنصوب بأمر الشارع لذلك. ومثله الحكم في الوصي
الشرعي المجعول بوصية الميت، فتنفذ مزارعته في الأرض التي تشملها وصايته
المجعولة له من الميت الموصي.
وتنفذ مزارعة الولي الشرعي على الطفل أو المجنون أو السفيه إذا زارع
أحدا على الأرض التي تكون ملكا أو حقا للمولى عليه، وكانت ولايته جامعة
للشرائط المعتبرة.
(المسألة 18):
يكفي في صحة المزارعة أن يكون الرجل مالكا للانتفاع بالأرض انتفاعا
تاما، وأن لم يكن مالكا للأرض نفسها، ولا لمنفعتها على أحد الوجوه التي تقدم
ذكرها، ومثال ذلك: أن يحجر الأرض وهي موات، وقد تقدم في المسألة السابعة
والأربعين من كتاب احياء الموات أن الانسان إذا حجر أرضا مواتا لا يد لأحد عليها
كان أولى بالأرض التي حجرها من غيره، ومالكا للانتفاع بها، فلا يحق لأحد سواه
أن يتصرف في الأرض أو يحييها أو يزرعها أو يزارع عليها إلا بإذنه، ونتيجة لملكه
للانتفاع بالأرض المحجرة، فإذا زارع أحدا على الأرض صحت مزارعته وترتبت
عليها أحكامها، فإذا زرعها العامل وأنتجت زراعته ثمرا استحق العامل حصته
المعينة له من الحاصل وكان الباقي منه لمحجر الأرض.
وكذلك إذا سبق الانسان إلى أرض ميتة فوضع يده واستولى عليها لينتفع بما
253

فيها من كلأ ونبات وأشياء أخرى من المباحات العامة، فيكون أولى بتلك الأرض
من غيره، ما دامت يده موضوعة عليها وإن لم يحيها ولم يحجرها، ويكون مالكا
للانتفاع بها: ولا يجوز لغيره أن يضع يده عليها ولا على شئ من منافعها، وإذا
وضع غيره يده عليها بدون إذنه كان غاصبا، وقد ذكرنا هذا في المسألة التاسعة
عشرة وفي المسألة المائة والأربعين من كتاب احياء الموات، ويجري فيها الحكم
المتقدم، فيصح لصاحب اليد السابقة التي ذكرناها أن يزارع غيره على تلك الأرض
التي سبق إليها واستحق الانتفاع بها، فتنفذ مزارعته وتتم أحكامها كما ذكرنا في
الأرض المحجرة.
(المسألة 19):
إذا زارع الرجل المحجر غيره على الأرض التي حجرها وثبت له فيها حق
الأولوية، فزرعها له العامل وأحياها بالزراعة ملكها المحجر باحياء العامل لها
واستحق العامل حصته من حاصل الزراعة بسبب عقد المزارعة بينهما، ولم يملك
الأرض ولا نصيبا منها، وكذلك الحكم في الأرض التي سبق الانسان لها فوضع يده
عليها لينتفع بمائها وكلائها وكن أولى بها من غيره، فإذا زارع أحدا عليها كما
فرضنا في المسألة المتقدمة وزرعها له العامل ملك المزارع الأرض باحياء العامل
لها، ولم يملك العامل من الأرض شيئا، وإنما يستحق الحصة المعينة له من حاصل
الزراعة بسبب عقد المزارعة بينهما.
(المسألة 20):
إذا زارع الرجل شخصا على بعض الوجوه التي تقدم ذكرها، والتي تصح
المزارعة فيها، فقد يعلم من صريح العقد أو من القرائن الخاصة أو العامة الحافة
254

بالمعاملة والمفهمة للمعنى المراد منها: أن المقصود في المعاملة أن يقوم العامل
بزرع الأرض وتعهد الزرع حتى ينمو ويثمر، ولو بمزارعة شخص آخر، بحيث لا
يباشر العامل العمل بنفسه، ولا ينبغي الاشكال في هذا الفرض في أنه يجوز لعامل
المزارعة أن يزارع شخصا ثالثا في حصته التي يستحقها من الحاصل، فإذا كان
صاحب الأرض قد زارعه وجعل له النصف من حاصل الزراعة مثلا، جاز للعامل
في تلك الصورة أن يزارع عاملا غيره على الربع مثلا، فيكون لصاحب الأرض
نصف الحاصل دون نقيصة، وللعامل الثاني الربع، ويبقى الباقي من الحاصل وهو
الربع منه للعامل الأول، وإذا دلت القرائن على أن صاحب الأرض يشترط على
عامله في المزارعة أن يتولى العمل فيها بنفسه، لم يجز له أن يزارع غيره
وسنتعرض لبيان الحكم في المسألة على وجه أكثر ايضاحا وتفصيلا إن شاء الله
تعالى وإذا صح للعامل أن يزارع غيره في حصته من الحاصل لم يجز له أن يسلم
إليه الأرض إلا بإذن صاحبها.
(المسألة 21):
يجوز للانسان أن يستعير أرضا من مالكها ليزرعها وينتفع بزراعتها، وإذا
أذن له مالك الأرض في أن يزارع غيره على الأرض المستعارة بحصة معينة جاز
للمستعير ذلك، فإذا زارع عليها أحدا نفذت مزارعته، وترتبت عليها أحكامها
ولا بد وأن يكون إذن مالك الأرض له بذلك صريحا، كما اشترطنا ذلك في إعارة
العين ليرهنها المستعير على دين في ذمته، وإعارة الأرض ليدفن المستعير ميته
فيها، ولا يكفي أن يأذن له بأن يزرع الأرض، أو بأن ينتفع بها حتى يحصل العلم
بالإذن له بالمزارعة عليها.
255

(المسألة 22):
أرض الخراج هي الأرض العامرة التي يأخذها المسلمون من أيدي الكفار
بالقوة والغلبة عليهم، وهي ملك عام لجميع المسلمين، تنفق فوائدها ومنافعها في
مصالحهم وشؤونهم العامة، ولا يختص مالكها بأفراد المسلمين وآحادهم.
نعم إذا تقبل انسان قطعة من الأرض الخراجية من سلطان المسلمين، أو من
الولي الشرعي على أمورهم، ثبت لذلك الشخص حق الاختصاص بتلك القطعة
التي تقبلها، ووجب عليه أن يؤدي خراجها، والخراج هو الضريبة الخاصة التي
يجعلها السلطان أو ولي الأمر على تلك القطعة لتنفق في الشؤون العامة للمسلمين
وجاز لذلك الشخص الذي تقبل الأرض أن ينتفع بها، وملك ما يفضل عن الخراج
من حاصلها وفوائدها، ويصح له أيضا أن يزارع أحدا على تلك الأرض، فيزرعها له
بحصة يعينها له من حاصل الزراعة، ويصح بذلك عقد المزارعة بينهما بعد أن ثبت
له حق الاختصاص بالأرض، ويجوز له أيضا أن يشترط على العامل في عقد
المزارعة أن يكون الخراج مما يؤديه للسلطان كله على كليهما، فتكون حصة العامل
وحصة المزارع مما يفضل من حاصل الزراعة بعد دفع الخراج منه.
(المسألة 23):
إذا أذن مالك الأرض لرجل معين في أن يزرع له أرضه، ولم يجر معه عقد
المزارعة، واشترط عليه في إذنه له بزراعة الأرض أن يكون للمالك النصف أو الربع
مثلا من حاصل الزرع، جاز للرجل أن يزرع الأرض كما أذن له مالكها، وإذا فعل
استحق المالك الحصة المعينة التي اشترطها عليه في إذنه وكان الباقي للرجل، ولا
يكون ذلك من المزارعة المصطلحة المبحوث عنها في هذا الكتاب، ولذلك فيجوز
256

لمالك الأرض أن يرجع عن إذنه متى شاء، ويجوز للعامل أن يترك الزرع إذا أراد.
وكذلك الحكم إذا أذن مالك الأرض إذنا عاما لكل من يريد زراعة الأرض
واشترط عليه في إذنه أن تكون الحصة المذكورة من حاصل الزرع لمالك الأرض
والباقي منه للعامل، فيجوز لأي شخص أراد: أن يستجيب لإذن المالك بالزرع على
الشرط المعين، ولا يكون ذلك من عقد المزارعة، وإنما هو ايقاع للإذن من المالك
واستجابة له من العامل.
ونظير ذلك أن ينشئ المالك المعاملة بصورة الجعالة، فيقول: من زرع هذه الأرض
أو هذه القطعة المعينة منها، فله النصف من حاصل الزرع ولي الباقي، فإذا استجاب
له عامل وزرع الأرض استحق الحصة، وكان الباقي من الحاصل للمالك وكان ذلك
ايقاعا، ولم يكن من المزارعة المصطلحة بين الفقهاء، وتلاحظ المسألة الثلاثون
الآتية.
(المسألة 24):
لا تصح المزارعة بين الرجلين على أرض ميتة لم يسبق أحدهما بتحجيرها
فيكون أولى بها من غيره بسبب تحجيرها، ولم يسبق أحدهما بوضع يده عليها
لينتفع بما فيها من مباحات أصلية فيكون له حق السبق إليها، ولذلك فلا يكون أحد
الرجلين أولى بالأرض الميتة من صاحبه، فيكون هو صاحب الحق فيها.
ويجوز للرجلين أن يشتركا في العمل في زرع تلك الأرض، فإذا هما اشتركا
في العمل وأثمرت زراعتهما استحق كل واحد من حاصل الزرع بمقدار عمله فيها
وملك من الأرض نفسها بذلك المقدار أيضا، لأنهما قد اشتركا في احيائها
بالزراعة، ولا يكون ذلك من المزارعة التي يبحث الفقهاء عنها في هذا الكتاب.
257

ويجوز للرجلين أن يشتركا في البذور والحبوب التي تزرع في الأرض
المقصودة لهما، وفي المصارف والنفقات التي تنفق على الزرع، والعمل فيه
فيستحق كل رجل منهما من النتاج بمقدار ما بذل من النفقة، ويمكن لهما أن يتفقا
بينهما فيكون البذل والانفاق من أحد الرجلين، والعمل من الآخر، فيؤجر العامل
منهما نفسه لصاحبه بالنصف من الحاصل مثلا، أو بالثلث منه، أو بغير ذلك حسب
ما يتراضيان، وعلى أي حال فلا تكون المعاملة الجارية بينهما من المزارعة
المصطلحة التي يبحث عنها الفقهاء في كتاب المزارعة.
(المسألة 25):
يصح لأحد المتعاملين في المزارعة أن يشترط في العقد على صاحبه لنفسه
مقدارا معينا من المال يخرج من حاصل الزرع، فيختص هو بهذا المقدار دون
صاحبه، ثم يقسم الباقي من الحاصل بينهما، فيأخذ كل واحد منهما حصته المعينة
من الباقي، ومثال ذلك: أن يشترط صاحب الأرض لنفسه عشرة أمنان من الحنطة
تخرج مما يحصل لهما من زراعة الحنطة في الأرض فيختص مالك الأرض بها
ويقسم الباقي من حصيلة الزراعة بينه وبين العامل على المناصفة مثلا، فإذا قبل
العامل بالمعاملة وبالشرط صح ولزم العمل به، وكذلك إذا اشترط العامل ذلك
لنفسه على صاحب الأرض، فيصح وينفذ مع القبول، إنما يتم ذلك وينفذ إذا علم
أن ما يحصل من زراعة الأرض يزيد على المقدار المعين الذي يشترطه المشترط
لنفسه، وتلاحظ المسألة السابعة.
ويصح لصاحب الأرض أن يستثني مقدار ما يأخذه السلطان على الأرض
من الخراج أو الضريبة فيشترط على العامل خروج ذلك من حاصل الزراعة، ثم
258

يقسم الباقي بينهما، ويصح لباذل البذر أن يستثني قيمة البذور والنفقات
والمصارف التي ينفقها على الزرع، أو على تعمير الأرض أو السقاية، فيشترط
اخراج ذلك من مجموع ما يحصل من الزرع، وتكون القسمة على الحصتين بعد
ذلك، فيصح ذلك كله على الأقوى، إذا علم بأن ما يحصل من نتاج الزراعة يزيد على
المقدار الذي استثناه، وتبطل المعاملة إذا علم بأن الحاصل لا يفي بذلك، أو لا يزيد
عليه، وتبطل كذلك إذا شك في أن الحاصل يزيد على المقدار المستثنى أم لا يزيد
عليه.
259

[الفصل الثاني]
[في أحكام عقد المزارعة]
(المسألة 26):
المزراعة أحد العقود اللازمة، فإذا تم الايجاب والقبول بين المتزارعين على
أحد الوجوه التي فصلناها وقلنا بصحتها، لم يجز لواحد منهما فسخ العقد وعدم
الوفاء به، إلا إذا اتفق الطرفان، فأقال كل منهما صاحبه، كما في غيره من العقود، وقد
ذكرنا الإقالة وبينا أحكامها في آخر كتاب التجارة من هذه الرسالة.
ويصح فسخ المزارعة إذا كان أحد المتعاقدين فيها قد اشترط لنفسه الحق
في أن يفسخ العقد في وقت معين، أو شرط ذلك كلاهما، فيجوز لصاحب الشرط أن
يفسخ العقد في الوقت الذي عينه للأخذ بالخيار، ويصح فسخ المزارعة كذلك إذا
كان أحد المتعاملين قد اشترط لنفسه على صاحبه شرطا، وجرى عليه الايجاب
والقبول بينهما، ثم تخلف الشرط ولم يف به صاحبه، فيثبت له خيار تخلف
الشرط، ويجوز فسخها أيضا في الموارد التي يثبت للفاسخ فيها خيار الفسخ بأحد
الأسباب التي توجب له ذلك الحق، كالغبن وشبهه من الخيارات التي تجري في
جميع المعاملات ولا تختص بالبيع.
ولا فرق في الحكم بلزوم المزارعة بين ما ينشأ منها بالايجاب والقبول
اللفظيين، وما ينشأ بالمعاطاة، فيكون لازما على الأقوى، وتجري فيه الاستثناءات
260

المتقدمة.
(المسألة 27):
تبطل المزارعة إذا طرأ الخراب على الأرض التي جرت عليها المعاملة بعد
ما كانت قابلة للزرع فأصبحت غير صالحة، ومثال ذلك: أن يستولي عليها السبخ
الشديد، أو تتراكم عليها الرمال، أو تطغى عليها المياه حتى تعود أجمة لا يمكن
زرعها ولا علاجها ولا اصلاحها، أو تغور المياه الموجودة فيها ولم تمكن سقايتها
ولم يكفها ماء الغيث، فيبطل عقد المزارعة بطروء ذلك على الأرض، وتلاحظ
المسألة العاشرة.
(المسألة 28):
لا يبطل عقد المزارعة بموت أحد المتعاملين فيها، فإذا كان العقد جامعا
للشرائط المعتبرة في صحته ومات أحدهما قام ورثة الميت مقامه، فيجب عليهم
الوفاء بالعقد الذي أوقعه مورثهم، ولم يجز للآخر الموجود من المتعاملين أن يفسخ العقد.
فإذا مات من المتعاقدين صاحب الأرض وجب على وارثه تسليم الأرض
للزارع، وتمكينه من التصرف فيها حتى يتم عمله، ولزمه الوفاء بكل شرط قد
اشترط في ضمن العقد للزارع، وأن يلتزم بالأحكام التي يستتبعها عقد المزارعة
وإذا كان الميت هو العامل وجب على وارثه من بعده أن يقوم بالعمل لصاحب
الأرض حسب ما يقتضيه العقد وأن يرتب آثاره وأحكامه كلها، وتلاحظ المسألة
الآتية.
261

(المسألة 29):
إذا كان صاحب الأرض قد اشترط على العامل في ضمن عقد المزارعة
بينهما أن يتولى العامل الزرع في الأرض والعمل في ذلك بنفسه، فقد يكون هذا
الاشتراط منه على وجه التقييد لموضوع المزارعة ووحدة المطلوب فيه، والمعنى
الصريح لذلك: أن المزارعة التي جرى عليها العقد بينهما إنما تعلقت بعمل العامل
بنفسه، وبمنفعته الخاصة التي يقوم بها على سبيل المباشرة، فإذا مات العامل في
هذه الصورة بطلت المزارعة بموته دون ريب، وذلك لأن وارث العامل لا يستطيع
أن يقوم مقام مورثه العامل في ذلك فيأتي بموضوع المزارعة حسب ما قيده به
المالك.
وقد يكون ذلك الاشتراط من صاحب الأرض على سبيل تعدد المطلوب في
المعاملة، والمعنى المراد من ذلك أن المزارعة التي جرى عليها العقد قد تعلقت
بأن يأتي العامل بالعمل على أي وجه اتفق، سواء أتى بالعمل بنفسه أم أتى به غيره
بالنيابة عنه، وهذا هو المطلوب الأول، وأن صاحب الأرض يشترط على العامل في
ضمن العقد أمرا زائدا على ذلك، وهو أن يتولى القيام بالعمل بنفسه، وهذا هو
المطلوب الثاني في العقد، فإذا مات العامل في هذه الصورة لم تبطل المعاملة
بموته، فإن الوارث من بعده يستطيع أن يأتي بالعمل بالنيابة عن مورثه، وهو الذي
تعلقت به المزارعة، ويثبت لصاحب الأرض خيار فسخ المعاملة إذا قام الوارث
بالعمل بعد موت العامل لتخلف الشرط، فإن ما يأتي الوارث به غير ما شرطه
صاحب الأرض على مورثه.
262

(المسألة 30):
إذا أذن صاحب الأرض لشخص في أن يزرع أرضه، واشترط عليه أن يكون
حاصل الزرع بينهما بالمناصفة أو المثالثة أو غيرهما من الحصص المشاعة، جاز
للشخص المأذون أن يزرع الأرض على الشرط المعين، وقد ذكرنا هذا الحكم في
المسألة الثالثة والعشرين، وأوضحنا فيها أن ذلك لا يكون من المزارعة المبحوث
عنها، ويتفرع على ذلك: أنه يجوز لصاحب الأرض أن يرجع عن إذنه للعامل
بالزرع متى شاء، ويجوز للعامل المأذون أن يترك العمل متى أراد، فإذا رجع مالك
الأرض عن إذنه قبل أن يزرع العامل الأرض، أو قبل أن ينمو الزرع فيها، بطلت
المعاملة، وإذا رجع عن إذنه بعد أن زرع العامل الأرض، وبعد أن ظهر بعض
الحاصل من الزرع لزم العمل على وفق الشرط في ما ظهر من النتاج، وبطل الإذن
في ما لم يظهر منه، وكذلك الحكم إذا نشئت المعاملة بصورة الجعالة، كما سبق منا
ذكره في تلك المسألة، فيجري فيها هذا التفصيل أيضا.
(المسألة 31):
إذا أذن مالك الأرض للرجل في أن يزرع أرضه واشترط عليه أن تكون
لمالك الأرض حصة معلومة من حاصل زرع الرجل فيها كما فرضنا في المسألة
المتقدمة فزرع الزارع الأرض بعد إذن مالكها، وكان الزارع هو الذي يملك البذر
أشكل الحكم في هذه الصورة في أن يرجع مالك الأرض عن إذنه فيقتلع الزرع قبل
أن يظهر النتاج فيه، ولا ينبغي أن تترك مراعاة الاحتياط بين الجانبين في هذه
الصورة.
263

(المسألة 32):
إذا اشترط صاحب الأرض على العامل أن تكون المزارعة بينهما في مدة
معينة، لزم العمل بموجب الشرط، فلا يحق للعامل أن يزرع الأرض قبل حلول
الوقت المعين، ولا يجوز له أن يترك الزرع بعد حلول الوقت، ويجب أن يكون
الأجل بمقدار يحصل فيه الزرع بحسب العادة ويبلغ أوان انتاجه، وتتم فيه
حصيلته، ولا يصح العقد إذا كان الأجل قصيرا لا يتسع لذلك، وقد ذكرنا هذا في
المسألة التاسعة.
وإذا عين المتعاقدان للزرع مدة معلومة تتسع للزرع بحسب العادة
المتعارفة، ثم اتفق أن انقضت المدة، ولم يدرك الزرع فيها لبعض الطوارئ المانعة ولم تتم حصيلته، جاز لصاحب الأرض بعد القضاء المدة أن يأمر العامل باقتلاع
الزرع من أرضه مجانا، وإذا قلعه العامل بأمره لم يستحق العامل على صاحب
الأرض أرشا للزرع الذي يقلعه، وجاز لصاحب الأرض أن يرضى ببقائه، ثابتا في
الأرض ولا يستحق على ابقائه في الأرض أجرة لأرضه، وإذا رضي العامل بابقاء
الزرع فيها مع الأجرة جاز لصاحب الأرض مطالبته بها وأخذها منه، وهذا كله مع
وجود الضرر بالفعل على صاحب الأرض إذا بقي الزرع في أرضه، ووجود الضرر
كذلك على العامل إذا قلع زرعه، فيتخير صاحب الأرض كما ذكرناه لسلطنته على
أرضه، وإذا وجد الضرر على أحد الطرفين خاصة دون الآخر كان الحكم لمن
يصيبه الضرر.
(المسألة 33):
إذا لزم الضرر على العامل في الحكم عليه بإزالة زرعه من أرض المالك في
264

الصورة المتقدمة، ولم يوجد أي ضرر على صاحب الأرض بابقاء زرع العامل فيها
حتى يدرك لم تصح لصاحب الأرض إزالة الزرع عنها، فإذا بقي الزرع فيها استحق
صاحب الأرض أجرة المثل لأرضه على الكامل للمدة التي يبقى الزرع فيها
(المسألة 34):
إذا تم العقد بين المتزارعين على الوجه الصحيح، ودفع المالك أرضه إلى
العامل ليزرعها، ثم ترك العامل زراعة الأرض مختارا عامدا في تركه حتى انقضت
مدة المزارعة بينهما، وجب على العامل أن يدفع للمالك أجرة المثل لأرضه بسبب
تفريطه في الأمانة، بل يجب عليه أن يدفع له أرش الأرض إذا نقصت منفعة الأرض
بسبب اهمالها وترك زرعها وسقيها طول تلك المدة، وكان هذا النقص بعد تفريطه
في الأمانة.
وإذا ترك العامل زراعة الأرض في المدة بغير تفريط منه، فلا يترك الاحتياط
بالرجوع إلى المصالحة والتراضي بينه وبين مالك الأرض.
(المسألة 35):
إذا ترك العامل زراعة الأرض حتى انقضت مدة المزارعة وكان تركه للزراعة
بسبب وجود عذر عام له ولغيره أوجب عدم قدرته على الزراعة طول تلك المدة
فالظاهر بطلان عقد المزارعة، لعدم امكان انتفاعه بالأرض، وقد ذكرنا في المسألة
العاشرة أن امكان انتفاع العامل بالأرض شرط في صحة المزارعة.
ومن الأعذار التي لا يمكن معها الانتفاع بالأرض أن تنزل على المنطقة كلها
أو على الأرض نفسها ثلوج شديدة تمنع من زراعتها، أو تصبح المنطقة أو الأرض
مأوى لسباع ضارية من الوحوش أو لحشرات فاتكة فلا يمكن دخولها، أو يمنع
265

ظالم مستبد من الوصول إلى المنطقة أو إلى الأرض، فلا يتمكن العامل من زراعتها
بسبب ذلك فتبطل المزارعة عليها.
(المسألة 36):
المزارعة كما أوضحنا في المسائل المتقدمة معاملة تقع بين المتعاقدين
فيها، على أن يزرع الزارع منهما لصاحب الأرض أرضه المعينة، وتكون لكل
واحد من الشخصين حصة معلومة مشاعة يستحقها من الحاصل الذي تنتجه
الزراعة في الأرض، وهذا هو القدر الثابت من أدلة هذه المعاملة، ولا يملك العامل
بسبب عقد المزارعة شيئا من منفعة الأرض.
نعم، يجب على صاحب الأرض أن يدفع أرضه للعامل ليزرعها ويقوم
بالعمل الخاص الذي وجب عليه بالعقد بينهما ومن الواضح أن ذلك لا يتم إلا
بتسليم الأرض للعامل وتمكينه من التصرف فيها، فتسليم الأرض له شرط تقتضيه
المعاملة، وإذا لم تسلم له الأرض كان له فسخ العقد لفوات الشرط، وسيأتي لهذا
مزيد من الايضاح والتبيين في بعض المسائل الآتية إن شاء الله تعالى.
فإذا تم عقد المزارعة بين الرجلين على الوجه المطلوب شرعا، ثم غصبت
الأرض من صاحبها قبل أن يسلمها لعامل المزارعة ولم يكن استردادها من
الغاصب، جاز للعامل أن يفسخ عقد المزارعة لفوات الشرط، فإذا هو فسخ العقد
بطلت المعاملة، ولم تترتب له ولا عليه أحكامها، وإذا هو أبقى العقد ولم يفسخه
لفوات الشرط انفسخت المعاملة بنفسها، لأن العامل لا يستطيع الانتفاع بالأرض
بسبب غصبها كما هو المفروض، فلا فرق في النتيجة بين فسخه وعدم فسخه.
وكذلك الحكم إذا غصب الغاصب الأرض بعد أن سلمها مالكها للعامل
266

فتنفسخ المعاملة بنفسها لعدم امكان الانتفاع بها، ولا يثبت للعامل خيار الفسخ في
هذه الصورة.
(المسألة 37):
يلزم غاصب الأرض ضمان جميع منفعة الأرض في جميع مدة الغصب
لمالكها الشرعي سواء غصبها من يد المالك نفسه أم من يد عامل المزارعة، وسواء
استوفى الغاصب من هذه المنفعة شيئا أم لم يستوف منها شيئا، ولا يضمن لعامل
المزارعة حصته من المنفعة، وإن كان غصبه للأرض من يده، فقد ذكرنا في المسألة
المتقدمة: أن العامل لا يملك شيئا من منفعة الأرض بعقد المزارعة، ولا يضمن
الغاصب لمالك الأرض حصته من عمل العامل، ولا يضمن للعامل حصته من عمل
نفسه في الأرض من حيث إنه قد فوته عليه بسبب غصبه للأرض.
(المسألة 38):
إذا عين مالك الأرض لعامل المزارعة في ضمن العقد الواقع بينهما أن يزرع
في الأرض نوعا خاصا من المزروعات، كالحنطة أو الشعير أو الأرز أو غيرها من
الحبوب أو المخضرات، وجب على العامل أن يقتصر على زراعة ذلك النوع
الخاص في الأرض ولم يجز له أن يتعدى عنه إلى ما سواه من الأنواع الأخرى، وإن
كان أيسر له في الزرع أو أكثر فائدة له من غيره.
(المسألة 39):
إذا عين مالك الأرض لعامل المزارعة أن يزرع في أرضه نوعا خاصا من
المزروعات، فقد يكون هذا التعيين منه بنحو التقييد للمزارعة ووحدة المطلوب
فيها، ويكون المستفاد من صريح قول المالك، أو من القرائن الموجودة الدالة على
267

مراده، أن المزارعة التي أجراها مع العامل قد تعلقت بأن يزرع العامل في الأرض
ذلك النوع الخاص من المزروعات دون غيره، وإن هذا هو مقصده ولا غرض له في
سواه، ونتيجة لهذا التقييد فإذا ترك العامل زراعة ذلك النوع المعين فقد ترك
موضوع المعاملة، ولم يأت بشئ من المقصود فيها، وإن زرع في الأرض غيره من
الأنواع.
وقد يكون تعيين المالك للنوع الخاص من الزرع بنحو الاشتراط في
المعاملة، وعلى سبيل تعدد المطلوب فيها، ويكون المستفاد من صريح قول
المالك أو من القرائن الدالة على مراده: أن المقصود الأول من المزارعة هو أن يزرع
العامل الأرض، وينتفع الطرفان بزراعتها بأي نوع حصل من أنواع المزروعات وإن
له مطلوبا آخر لبعض الأغراض المهمة وهو أن يكون الزرع فيها من الحنطة أو من
الشعير مثلا، فيشترط ذلك على العامل في ضمن العقد، ونتيجة هذا الاشتراط فإذا
ترك العامل زراعة ذلك النوع المعين لم تبطل المعاملة بتركه، ويثبت لمالك الأرض
خيار الفسخ لتخلف الشرط الذي شرطه على العامل.
(المسألة 40):
إذا ترك العامل زراعة النوع الخاص الذي عينه مالك الأرض في العقد، وكان
تعيينه لذلك النوع بنحو التقييد للمعاملة ووحدة المطلوب فيها حسب ما
أوضحناه في المسألة المتقدمة، بطلت المزارعة بينهما لفوات الموضوع الخاص
الذي تعلقت به، ولزم العامل أن يؤدي للمالك أجرة المثل لأرضه عن المنفعة التي
فوتها عليه لما ترك الزراعة المعينة للأرض، سواء زرع في الأرض نوعا آخر غير
النوع المخصوص الذي أراده المالك أم لم يزرع فيها شيئا، وإذا أوجب تصرف
268

العامل في الأرض على الوجه المذكور نقصا فيها وجب عليه أن يدفع للمالك أرش
ذلك النقص، مع أجرة المثل التي تقدم بيانها، فيلزمه الأمران معا في هذه الصورة.
(المسألة 41):
إذا ترك العامل زراعة الأرض بالنوع الخاص الذي عينه له المالك، وزرع
غيره من أنواع المزروعات، وكان تعيين المالك لذلك النوع بنحو الاشتراط وتعدد
المطلوب حسب ما أوضحناه في المسألة التاسعة والثلاثين، تخير مالك الأرض
بين أن يفسخ المزارعة الواقعة بينهما وأن يمضيها، فإذا هو اختار الأول ففسخ
المعاملة بطلت، واستحق المالك على العامل أن يدفع له أجرة المثل لأرضه عن
المنفعة التي فوتها العامل عليه، وإذا اختار الثاني فأمضى المعاملة حسب ما فعل
الزارع صحت المعاملة كذلك، واستحق كل من المالك والعامل حصته التي
جعلت له في العقد من حاصل تلك الزراعة.
ولا فرق في جريان الحكم المذكور بين أن ينكشف الأمر لمالك الأرض بعد
تمام الزراعة وبلوغ الحاصل، وأن ينكشف له قبل ذلك، فيثبت له الخيار على
الوجه الذي بيناه.
(المسألة 42):
إذا زرع العامل في الأرض نوعا من المزروعات غير النوع الخاص الذي
عينه مالك الأرض، على نحو التقييد للمعاملة أو على نحو الاشتراط فيها، فنما ما
زرعه العامل وأنتج، فإن كان البذر الذي زرعه العامل في الأرض مملوكا للعامل
نفسه، فلا ينبغي الاشكال في أن جميع ما يحصل من ذلك الزرع وما ينتج يكون
ملكا للعامل تبعا لملكه للبذر، ولا يستحق مالك الأرض منه شيئا، وإنما يستحق
269

على العامل أجرة المثل لأرضه، وقد ذكرنا هذا في ما تقدم.
وإذا كان البذر مملوكا لصاحب الأرض وقد تصرف فيه العامل فزرعه في
الأرض بغير إذنه فإن المفروض أن المالك قد عين غير ذلك النوع في زراعة
الأرض، فيتخير المالك بين أن يطالب العامل بعوض بذره فيأخذ منه مثله إذا كان
البذر مثليا وقيمته إذا كان قيميا، فإذا دفع العامل إليه عوض البذر كان البذر والزرع
وما يحصل منه كله مملوكا للعامل ولم يستحق المالك منه شيئا بعد دفع البدل إليه
ولا يستحق العامل أن يطالب المالك بأجرة على عمله، ويستحق المالك على
العامل أجرة المثل لأرضه.
ويجوز لمالك الأرض والبذر أن يغضي عن تصرف العامل في بذره فلا
يطالبه بالعوض فيكون الزرع وجميع ما يحصل منه مملوكا له تبعا لملكه للبذر
ولا يستحق العامل أن يطالبه بأجرة على عمله كما تقدم.
(المسألة 43):
إذا شرط مالك الأرض على العامل أن يزرع فيها نوعا خاصا من المزروعات
على نحو تعدد المطلوب وقد أوضحنا المراد منه، ثم تعدى العامل فزرع في
الأرض نوعا آخر غير ما شرطه المالك، وكان البذر مملوكا للعامل، فإذ لم يعلم
مالك الأرض بأن العامل قد تعدى وخالف الشرط حتى بلغ الزرع الذي زرعه
العامل أوانه وأدرك، جرى فيه نظير الحكم المتقدم، فيتخير مالك الأرض بين أن
يفسخ المعاملة وأن يرضى بها ويمضيها، فإذا اختار الشق الأول ففسخ المعاملة
استحق على العامل أجرة المثل تامة لأرضه عن المنفعة التي فوتها العامل عليه
بمخالفته للشرط، وأخذ العامل جميع حاصل ما زرعه، وإذا اختار الشق الثاني
270

فأمضى المعاملة ولم يفسخها صحت المعاملة واستحق كل من المالك والعامل
حصته المعينة له من حاصل الزرع الموجود.
وإذا علم مالك الأرض بأن العامل قد خالف الشرط قبل أن يبلغ ما زرعه
العامل أوانه جاز للمالك أن يفسخ المعاملة، فإذا فسخها بطلت واستحق المالك
على العامل أجرة المثل لأرضه عن المنفعة الفائتة، وجاز له أن يلزم العامل باقتلاع
ما زرعه في الأرض وأمكن له أن يرضى ببقاء ما زرعه العامل في الأرض حتى يدرك
ويأخذ منه أجرة المثل لتلك المدة، ويجوز له مع رضاه أن يبقي الزرع في الأرض
مجانا بغير أجرة.
(المسألة 44):
إذا زارع المالك العامل على أرض ليس لها ماء يكفي لسقاية الزرع فيها
وكان العامل قادرا على أن يستخرج لها ما يكفيها من الماء بحفر نهر أو ساقية أو
اخراج بئر أو تفجير عين، فإن كان العامل يعلم بوصف الأرض حين اجراء المعاملة
بينه وبين المالك عليها، صحت المزارعة ولزمت فلا يجوز للعامل فسخها، وإن
كان يجهل وصف الأرض في حال اجراء المزارعة ثبت له حق الخيار فيها، فإن شاء
أمضى المعاملة ووجب عليه أن يستخرج الماء، ويزرع الأرض لأنه قادر على ذلك
كما فرضنا، وإن شاء فسخ المعاملة فبطلت ولم يلزمه شئ، وإذا كان غير قادر على
اخراج الماء في الأرض كانت المعاملة باطلة لعدم امكان الانتفاع بالأرض.
وكذلك الحكم إذا زارع المالك العامل على أرض قد استولت عليها المياه أو
الأملاح والأسباخ بالفعل، وكان العامل قادرا على أن يعالج الأرض، فيجفف المياه
وينقيها من السبخ والأملاح، فتصح المعاملة وتلزم إذا كان العامل عالما بوصف
271

الأرض حين اجراء المعاملة، ويثبت له خيار الفسخ إذا كان جاهلا، وتبطل المعاملة
من أصلها إذا كان غير قادر على اصلاحها، سواء كان عالما بوصف الأرض أم كان
جاهلا به.
وتبطل المزارعة كذلك إذا طرأ بعض العوارض على الأرض في الأثناء
فانقطع عنها الماء، ولم تمكن سقايتها، أو استولت عليها المياه أو الأسباخ أو
الرمال الكثيفة الناعمة، ولم تمكن إزالتها وأصبحت غير قابلة للانتفاع بزراعتها
وتلاحظ المسألة العاشرة.
(المسألة 45):
إذا زارع المالك عاملا في أرض، وكانت الأرض في حين عقد المزارعة
بينهما صالحة للانتفاع بها، وزرعها العامل بعد العقد وهي صالحة كذلك، ثم
طرأ عليها بعض العوارض المفسدة قبل أن يظهر الزرع فيها أو قبل أن يدرك، فانقطع
عنها الماء مثلا، ولم يمكن تحصيله لسقايتها بعد ذلك، أو استولت عليها المياه
الكثيرة ولم يمكن تجفيفها، وأصبحت غير قابلة للانتفاع بها في بقية مدة
المزارعة، بطلت المعاملة لفقد الشرط المعتبر في صحتها، وقد سبق ذكره في
المسألة العاشرة وكان الزرع الموجود مملوكا لمالك البذر.
فإذا كان البذر مملوكا للعامل فالزرع الموجود وجميع ما يحصل منه من الثمر
والنتاج يكون مملوكا للعامل تبعا لأصله وهو البذر، واستحق مالك الأرض عليه
أجرة المثل لأرضه مدة بقاء الزرع فيها من أول زرعه فيها إلى حين ادراكه واستيفاء
العامل له، وإذا كان البذر مملوكا لصاحب الأرض كان الزرع وجميع نتاجه مملوكا له
تبعا لأصله وهو البذر، واستحق العامل عليه أجرة المثل لعمله في الزرع.
272

(المسألة 46):
تصح المزارعة الواقعة بين الطرفين المتعاقدين إذا كانت الأرض خاصة من
أحدهما، وكان البذر والعوامل والعمل كلها من الثاني، وتصح المزارعة أيضا إذا
كانت الأرض والبذر من أحد الطرفين، وكانت العوامل والعمل من الطرف الآخر
وتصح المعاملة كذلك إذا كانت الأرض والبذر والعوامل من أحد الطرفين وكان
العمل وحده من الطرف الثاني، وتصح أيضا إذا كانت الأرض والعمل من أحدهما
وكان البذر والعوامل من صاحبه.
وتصح المزارعة إذا كانت الأرض مشتركة بين المتزارعين كليهما، وكانت
الأمور الثلاثة الباقية كلها على أحدهما خاصة دون صاحبه، وتصح المزارعة إذا
اشترك الطرفان في جميع الأمور الأربعة أو في بعضها دون بعض حسب ما يتفقان
عليه، ويجب عليهما تعيين الأمر الذي يشترك الطرفان فيه من هذه الأمور، والأمر
الذي يختص به أحدهما، ومن يختص به من الطرفين، ومقدار الحصة من الأمر
المشترك، فيجب عليهما تعيين ذلك في جميع الفروض المتصورة، ولا تصح
المعاملة إذا ترك التعيين فيها.
ويستثنى من ذلك: ما إذا كان الاشتراك في الأمر أو الاختصاص بأحد الطرفين
من العادات المتعارفة بين أهل البلد، والسيرة التي جرت عليها المعاملات الدارجة
بينهم، بحيث ينصرف إليه العقد لديهم عند الاطلاق، ويصبح الانصراف قرينة
عامة على إرادة ذلك الفرض في المعاملة، فلا يجب التعيين في هذا الفرض.
(المسألة 47):
لا يعتبر في الشخص الذي يلزمه دفع البذر من المتعاقدين أن يكون مالكا
273

لعين البذر، فيكفي فيه أن يكون مالكا لقيمته، ولو بالاقتراض والاستدانة له عند
الحاجة، فإذا اشترط في عقد المزارعة على مالك الأرض أن يدفع البذر كله، أو
يدفع نصفه مثلا، أو اشترط ذلك على العامل، كفاه في الوفاء بالشرط أن يدفع القيمة
ويشتري بها ما لزمه من البذر ليزرع في الأرض عند الحاجة، سواء كان هو الذي
يتولى زرعه فيها، أم كان الذي يتولى الزرع غيره.
والمراد بالعوامل الحيوانات والدواب أو الآلات والمكائن والأجهزة
الحديثة أو القديمة التي تستخدم في حراثة الأرض، أو في تنقيتها وتسميدها، أو
في سقاية الزرع ومكافحة الحشرات والطفيليات المضارة قبل الزرع وبعده، وفي
حصاد المزروعات وجمعها وتصفيتها، سواء كانت العوامل المذكورة مملوكة
بأعيانها أم بمنافعها باستئجار ونحوه.
والمراد بالعمل زرع البذور في الأرض والقيام بما يتطلبه ذلك عادة من
حراثة الأرض وتمهيدها واصلاحها قبل نثر البذور ووضع الجذور وبعده
والسعي الذي يتوقف عليه نمو الزرع وتعهده وسقيه كل ما احتاج إلى السقاية
ومكافحة ما يضره، وشبه ذلك من الأعمال المتعارفة للمزارعين، حتى يدرك الزرع
ويبلغ أوانه ويتم نتاجه.
ولا يعتبر في هذه الأعمال أن يتولاها العامل بنفسه بنحو المباشرة، فيكفي
فيها أن ينوب عن العامل فيها غيره من أجير أو نائب أو متبرع، وقد جرى على هذا
بناء العقلاء من الناس وسيرة أهل العرف في عامة البلاد، فهم يكتفون في هذه
الأعمال التي تقبل النيابة بعمل النائب والأجير والمتبرع، إذا أتوا بالعمل على
الوجه الصحيح الذي يحصل به المقصود وجرى عليه بناء المتشرعة والفقهاء
274

(قدس الله أرواحهم)، إلا إذا دلت قرينة خاصة أو عامة بين المتعاقدين على اشتراط
أن يتولى العامل العمل بنحو المباشرة بنفسه فيلزمه الوفاء بالشرط عند ذلك، ولكن
الاحتياط عند الشك مما لا ينبغي تركه.
(المسألة 48):
يصح في المزارعة أن تقع على أرض واحدة مشتركة بين مالكين أو أكثر على
وجه الإشاعة بينهم، فيوكل الشركاء في الأرض واحدا منهم على انشاء عقد
المزارعة بينهم وبين عامل واحد، ويتولى ذلك الشريك الذي وكلوه ايجاب
المعاملة بالأصالة عن نفسه وبالوكالة عن شركائه في الأرض، أو يوكلوا أجنبيا عنهم
في اجراء المعاملة، ويتولى العامل أو وكيله قبول هذه المزارعة منهم، أو ينشئ
العامل ايجاب المعاملة ويتولى الشريك الذي وكلوه قبولها، ويذكر الموجب
والقابل في ضمن العقد ما يتفقون عليه من قيود وشروط على نهج ما سلف بيانه في
مالك الأرض إذا كان واحدا.
ويصح في المزارعة أن يكون العامل فيها أكثر من شخص واحد، فيوكلوا
بعضهم أو غيرهم وتجري المعاملة بينهم وبين مالك الأرض على نهج ما سبق في
مالك الأرض إذا كان متعددا، وتصح المعاملة أيضا إذا كان مالك الأرض متعددا
وكان العامل فيها متعددا، ويجري العقد بين الطرفين كما سبق.
ويمكن لهم في جميع هذه الصور والفروض أن يشترط بعضهم على بعض
في ضمن العقد أن تكون العوامل والبذور والعمل على نحو الاشتراك بين
جميعهم، أو على نحو الاشتراك بين بعضهم، أو تكون على بعضهم خاصة دون
الآخرين، فيصح العقد في كل في هذه الفروض مع الاشتراط والتعيين في ضمن
275

العقد، وحصول الرضا والقبول به من الجميع، ومن الواضح جدا أن العقد في
جميع هذه الصور المفروضة يتألف من ايجاب واحد وقبول واحد وأن كان
الشركاء في الأرض وفي العمل الذين يتعلق بهم العقد متعددين.
(المسألة 49):
يشكل الحكم بصحة عقد المزارعة إذا أجري العقد بين أكثر من طرفين
ومثال ذلك أن يتعاقد ثلاثة أشخاص على اجراء المزارعة في ما بينهم، فتكون
الأرض من أحدهم ويكون العمل في الأرض من الثاني، وتكون العوامل والبذور
من الثالث، وتكون لكل واحد من الأشخاص الثلاثة حصة معلومة من نتاج الزرع،
أو يتعاقد أربعة رجال فتكون الأرض من الأول والعمل من الثاني والعوامل من
الثالث والبذور من الرابع، أو يتعاقد أكثر من ذلك على أن يكون العمل أو العوامل أو
البذر بين شخصين أو أكثر، فتكثر أطراف المعاملة، ويجعل لكل طرف من حصة
معينة من نتاج الزرع بالمساواة بينهم، أو بالتفاضل حسب ما يتفقون عليه ويعينونه
في العقد، فيشكل وقوع المزارعة المصطلحة بين الفقهاء في مثل هذه الفروض.
وتصح المعاملة إذا أجريت بينهم على وجه المصالحة، وتصح أيضا
وتلزم على الأقوى إذا أنشئت بينهم على أنها إحدى المعاملات المستقلة في أنظار
العقلاء وأهل العرف، وتدل على صحة هذه المعاملة العمومات الدالة على وجوب
الوفاء بالعقود، ووجوب الوفاء بالشروط، وأن بعدت في صورتها عن المزارعة
الخاصة المعروفة بين الفقهاء.
(المسألة 50):
إذا تم عقد المزارعة بين مالك الأرض وعمال المزارعة على الوجه الصحيح
276

الجامع للشرائط، أصبح العامل صاحب حق في الأرض المذكورة، وإن لم يملك
شيئا من الأرض ولا من منفعتها، ومن أجل ثبوت هذا الحق وجب على المالك دفع
الأرض إليه ليعمل فيها عمل المزارعة، وجاز له التصرف فيها بما تقتضيه المعاملة
بينهما، وإذا مات مالك الأرض لم يسقط حق العامل، فلا يجوز لورثة المالك منعه
من التصرف فيها، وإذا مات العامل انتقل الحق إلى ورثته فيجب عليهم القيام
بوظيفة مورثهم في الأرض، وقد سبق منا ذكر جميع هذا مفصلا.
ومن نتائج ثبوت هذا الحق للعامل في الأرض أنه يصح للعامل أن يزارع على
الأرض شخصا آخر فيكون هذا الشخص الثاني عاملا للزارع الأول، ويجب عليه أن
يقوم بكل عمل يلزم الأول القيام به إذا كان هو المتصدي للعمل ولم يزارع غيره
ويجب على الثاني أن يفي بكل ما يشترطه عليه الأول مما لا ينافي مزارعته مع
مالك الأرض.
ولا بد في هذه المزارعة الثانية أن تكون حصة مالك الأرض من الحاصل
محفوظة، فلا ينقص منها شئ، فإذا كان المالك قد زارع العامل الأول على أن
يكون لكل واحد منهما نصف الحاصل من الزرع، أمكن للعامل الأول أن يزارع
الشخص الثاني، على النصف كذلك فتكون حصة مالك الأرض هي النصف ويكون
النصف الثاني للعامل الثاني ولا يستحق الأول منه شيئا، ويمكن له أن يزارعه على
النصف من حصته خاصة، فيكون نصف الحاصل لمالك الأرض ولا ينقص منه
شئ، ويقسم النصف الثاني بين العامل الأول والثاني على التنصيف فيكون لكل
واحد منهما ربع الحاصل، ويصح له أن يزارعه على الثلث أو الربع من حصته
حسب ما يعينه له منها.
277

ولا يعتبر في صحة مزارعة العامل الأول للثاني أن يستأذن مالك الأرض
فيها، بل ويجوز له أن يسلم إليه الأرض إذا كان أمينا وإن لم يأذن له المالك وإن كان
الأحوط له الاستئذان في ذلك.
ولا فرق في صحة هذه المزارعة على الأقرب بين أن يكون البذر من مالك
الأرض وأن يكون من العامل.
(المسألة 51):
إذا كان مالك الأرض قد اشترط على العامل في ضمن العقد أن يتولى العمل
في الأرض بنفسه وجب عليه ذلك وأن صح له أن يزارع عليها شخصا آخر كما
تقدم، فتصح المزارعة الثانية ويجب على العامل الأول أن يتولى العمل في الأرض
بنفسه بالنيابة عن العامل الثاني، ويستحق العامل الثاني بذلك حصته المعينة له من
الحاصل.
(المسألة 52):
ذكر بعض أكابر الفقهاء (قدس الله أنفسهم): أنه يجوز لعامل المزارعة أن
يشارك غيره في حصته من حاصل الزراعة، ولعل مراد هذا القائل أن يزارع العامل
شخصا غيره في حصته، فإذا وفى هذا المزارع الثاني بمزارعته معه استحق نصيبه
من الحصة فكان مشاركا له فيها، ويعود إلى ما ذكرناه في المسألة الخمسين.
ويشكل ذلك أو يمتنع إذا كان المراد أن يبيع العامل بعض حصته على الغير
على وجه الإشاعة بعوض معلوم، فإن العامل لا يملك حصته قبل الزرع وظهور
الحاصل منه فكيف يجوز له بيعها أو بيع شئ منها؟ وإنما يجوز بيع الثمرة قبل
ظهورها إذا باعها المالك مع الضميمة، أو باعها لأكثر من سنة واحدة، وقد ذكر
278

الفقهاء هذا الحكم في فصل بيع الثمار من كتاب البيع.
(المسألة 53):
إذا جرى عقد المزارعة بين المتزارعين بحسب ظاهر الأمر، واستلم العامل
الأرض من صاحبها ليزرعها له، ثم تبين للجانبين فساد المزارعة الجارية بينهما من
أصلها لفقد بعض شروط الصحة فيها، فإن كان تبين بطلان المعاملة قبل أن يبدأ
العامل بزراعة الأرض، أو يشرع بشئ من مقدماتها القريبة أو البعيدة: استرد
المالك أرضه، ودفع العامل يده عنها، ولا شئ لأحدهما على الآخر.
وكذلك الحكم إذا كان العامل قد استلم الأرض من صاحبها، وبدأ في
المقدمات البعيدة التي لا تعد شروعا في العمل لمالك الأرض في نظر أهل العرف
ومن أمثلة ذلك: أن يشتري العامل بعض الأدوات التي يحتاج إليها عند حراثة
الأرض وتمهيدها للزرع، أو يشتري الحيوانات والحبال والدلاء التي يستخدمها
عند سقي الزرع، ولم يستخدم شيئا منها بالفعل، فإذا تبين فساد المزارعة أخذ
المالك أرضه وكانت للعامل أدواته ودوابه وآلاته التي اشتراها، ولا شئ للمالك
والعامل غيرها.
وإذا كان العامل قد بدأ في المقدمات القريبة التي تعد عند أهل العرف
شروعا في العمل لمالك الأرض وامتثالا لأمره بالمزارعة، كما إذا أخذ في حراثة
الأرض وتمهيدها للزراعة، أو شق النهر الذي تحتاج إليه، أو حفر البئر أو نصب
الناعور والدولاب في الأرض أو أعد المكينة لجذب الماء من العين أو البئر، أو هيأ
جهاز الكهرباء لتحريك الماكنة، فإذا ظهر بعد ذلك بطلان المزراعة استرد المالك
أرضه من العامل، ووجب عليه أن يدفع للعامل أجرة المثل لما قام به من العمل
279

وكانت الأعيان من الأدوات والأجهزة والماكنة لصاحبها التي اشتراها ودفع
قيمتها.
وأولى من ذلك بالحكم المذكور ما إذا عمل العامل في الأرض عملا ترتفع
به قيمتها في أنظار العقلاء وأهل العرف، كما إذا حرث الأرض وبسطها ومهدها
لتزرع فزادت قيمتها بذلك، وكما إذا شق فيها نهرا، أو فجر فيها عينا، أو حفر فيها
بئرا فارتفعت قيمتها، فيجب على المالك أن يدفع إليه أجرة المثل لذلك العمل
بطريق أولى من الصورة المتقدمة.
(المسألة 54):
إذا تبين بطلان عقد المزارعة بعد أن أخذ العامل الأرض من صاحبها وبدأ
بالعمل فزرع الأرض ونثر الحب والبذر فيها، كان جميع الزرع وما ينتج منه
مملوكا لصاحب البذر، فإن النماء يتبع أصله في الملك، وهذا الفرض يقع على
صور متعددة ولكل صورة أحكامها: (الصورة الأولى): أن يكون البذر مملوكا
لعامل المزارعة، والحكم فيها أن يكون الزرع والنتاج مملوكا للعامل، ولا يملك
صاحب الأرض منه شيئا، ولا يجب على مالك الأرض أن يبقي ما زرعه العامل في
أرضه إلى أن يبلغ ويدرك أوانه، وإن بذل العامل له أجرة المثل لأرضه في تلك
المدة، فلا يجبر على ذلك، ويستحق مالك الأرض على العامل أجرة أرضه للمدة
السالفة، ويجوز له أن يأمر العامل بإزالة ما زرعه في الأرض، وإذا قلعه العامل بعد
أن أمره بالقلع، فلا يستحق على المالك أرشا لزرعه، ويجوز لمالك الأرض
أن يبقى زرع العامل فيها بأجرة المثل أو مجانا إذا رضي العامل مالك الزرع بذلك
ولا يحق لمالك الأرض أن يلزم العامل بابقاء زرعه في الأرض ودفع الأجرة عنه إذا
280

هو لم يختر ذلك.
وإذا اختار العامل فأبقى زرعه في الأرض فعليه أن يدفع لمالكها أجرة أرضه
كما قلنا، ويدفع له أجرة العوامل المستخدمة في الزرع والسقي إذا كانت مملوكة
لصاحب الأرض.
(المسألة 55):
(الصورة الثانية): أن يكون البذر مملوكا لصاحب الأرض، والحكم فيها أن
يكون الزرع ونماؤه وما يحصل منه مملوكا لصاحب الأرض والبذر تبعا لأصله
ويجب عليه أن يدفع للمعامل أجرة المثل عن جميع عمله الذي قام به في زرع
الأرض وتنمية الزرع، وأن يدفع له أجرة العوامل التي استخدمها في الزرع
والسقي إذا كان مالكا لها أو لمنفعتها.
(المسألة 56):
(الصورة الثالثة): أن يكون البذر مملوكا لكل من صاحب الأرض وعامل
المزارعة على سبيل الاشتراك بينهما، والحكم فيها أن كل واحد من المتعاملين
المذكورين يملك من حاصل الزرع بنسبة ما يملكه من البذر، فإذا كان مملوكا لهما
بالمناصفة فلكل واحد منهما نصف الزرع والنماء وإذا كان لأحدهما ثلث البذر
فقط، فله الثلث من الزرع والنماء وللآخر الثلثان، وهكذا.
ويجب على العامل أن يدفع لمالك الأرض من أجرة المثل لأرضه من أجرة
المثل لعوامله التي يملكها أو يملك منفعتها وكان قد استخدمها في الزرع، ومن
النفقات والمصارف الأخرى التي أنفقها المالك فيه بنسبة ما يملكه العامل من
الحصة في الزرع، فإذا كان يملك منه النصف لأنه يملك نصف البذر كما ذكرنا
281

وجب عليه أن يدفع لمالك الأرض نصف أجرة المثل لأرضه وعوامله، ومن
مجموع نفقاته على الزرع، وإذا كان العامل يملك من الحاصل الثلث وجب عليه أن
يدفع لمالك الأرض ثلث جميع ما عددناه، وإذا كان يملك الثلثين وجب عليه أن
يدفع له الثلثين من ذلك.
ويجب على صاحب الأرض أن يدفع للعامل من أجرة المثل لعمله في الزرع
ومتعلقاته ومن أجرة المثل للعوامل التي يملكها العامل، أو يملك منفعتها وكان قد
استخدمها في الزرع، ومن النفقات الأخرى التي أنفقها فيه، بنسبة حصة مالك
الأرض من الزرع والنماء فإذا كان يملك منه النصف على الوجه الذي بيناه وجب
عليه أن يدفع للعامل نصف ذلك، وهكذا إذا كانت حصته من الزرع أقل من النصف
أو أكثر، فيجب عليه أن يدفع للعامل بنسبة حصته.
(المسألة 57):
إذا وقعت المزارعة بين أكثر من متعاقدين وكان انشاؤها بين الأطراف باعتبار
أنها معاملة خاصة مستقلة بنفسها عن المعاملات الأخرى، وعن المزارعة
المصطلحة بين الفقهاء، وقد ذكرنا هذا في المسألة التاسعة والأربعين، فاشترط في
المعاملة أن تكون الأرض من الطرف الأول وأن يكون العمل على الطرف الثاني
وأن يكون البذر من الثالث، واستلم العامل الأرض من مالكها، وزرعها ثم تبين لهم
بطلان المعاملة، فيكون جميع الزرع والنما، لمالك البذر، وهو الطرف الثالث في
المثال الذي ذكرناه، ويجري فيها الحكم المتقدم، فلا يجب على مالك الأرض
ابقاء الزرع إلى أن يبلغ أوان حاصله، ويجوز له أن يأمر مالك الزرع بإزالته من
الأرض، ولا أرش له إذا قلعه، ويجوز لمالك الأرض أن يبقي الزرع في الأرض
282

مجانا أو بأجرة المثل إذا رضي مالك الزرع بذلك، وإذا اختار مالك الزرع فأبقى
الزرع في الأرض لزمه أن يدفع لمالك الأرض أجرة أرضه مدة بقاء الزرع فيها
ويجب على مالك الزرع أن يدفع للعامل أجرة عمله في الزرع، وأن يدفع لصاحب
العوامل أجرة عوامله.
(المسألة 58):
قد اتضح مما ذكرناه في مسائل الفصل الأول وما بعدها من هذا الكتاب أن
القدر المعلوم ثبوته في عقد المزارعة: هو أن يلتزم صاحب الأرض للعامل بأن يبذل
له أرضه المعلومة ليزرعها له، وأن يلتزم العامل لصاحب الأرض بأن يقوم له بالعمل
المطلوب فيزرع الأرض ويتعهد الزرع بما يربيه وينميه حتى يظهر ويستكمل نموه
ويثمر ويبلغ أوان حاصله، ويلتزم الجانبان بأن تكون لكل واحد منهما في قبال
ذلك حصة معلومة المقدار مشاعة من الحاصل الذي ينتجه الزرع.
ثم أن الثابت المعروف في مرتكزات أهل العرف والعقلاء، الخبراء
بالمعاملة من الناس أن يكون الزرع في جميع مراحل نموه من حين ظهوره في
الأرض إلى آخر ادراكه وبلوغ غايته مشتركا بين الطرفين على نسبة الحصتين اللتين
عينهما الطرفان لهما من الحاصل، ومن متفرعات ذلك ونتائجه أن يكون الفصيل
والورق والتبن وغير ذلك من نواتج الزرع مشتركة بين الطرفين على نسبة
حصتيهما المعينتين وعلى هذا الأمر الثابت في أذهان أهل العرف وفي مرتكزاتهم
تتنزل الأدلة الشرعية والاطلاقات الواردة في أحاديث المعصومين " ع " في عقد
المزارعة ويثبت بها الحكم المذكور.
ويصح للمتعاقدين أن يشترطا ذلك في ضمن العقد بينهما اشتراطا صريحا
283

فيقول مالك الأرض للعامل في ايجابه للعقد: أسلمت إليك هذه الأرض لتزرعها
حنطة أو شعيرا، على أن يكون جميع ما يحصل من ثمر الزراعة بيني وبينك
بالمناصفة مثلا، وعلى شرط أن يكون الاشتراك ما بيننا في الزرع في جميع مراحله
من أول ظهور الزرع في الأرض إلى نهاية اداراكه وبلوغ حاصله، ويقبل العامل
المزارعة منه على الشرط المذكور، وتكون نتيجة هذا الاشتراط كما تقدم اشتراك
الطرفين حتى في ورق الزرع الذي يؤخذ منه وفي فصيله وتبنه، وفي
أغصانه اليابسة أو الطرية التي تؤخذ منه لتزرع في موضع آخر من الأرض أو في
أرض أخرى.
وإذا اشترطا أن يقع الاشتراك بينهما من أول الزرع لا من حين ظهوره في
الأرض، اشتركا حتى في البذر بعد نثره في الأرض، وفي جذوره التي تتكون قبل
ظهور الزرع.
(المسألة 59):
إذا اشترط المتعاقدان أن يكون الاشتراك ما بينهما في الزرع عند بلوغه إلى
مرحلة معينة من النمو، ثبت لهما ما شرطاه، فلا يكون بينهما اشتراك في الزرع قبل
أن يصل إلى تلك المرحلة، ومثال ذلك أن يقول الموجب منهما لصاحبه: زارعتك
على هذه الأرض ليكون حاصل الزراعة فيها ما بيننا بالمناصفة، وعلى شرط أن
يكون الاشتراك ما بيننا بعد ظهور الثمر في الزرع أو بعد انعقاد الحب فيه، أو بعد
صدق اسم الغلة عليه، فيسمى حنطة أو شعيرا أو عنبا، فلا يقع الاشتراك إلا بعد
حصول الشرط وبلوغ الزرع إلى المرحلة التي عينها المشترط، ويكون الزرع في
مراحله السابقة عليها مملوكا لمالك البذر ولا حق لصاحبه فيه، ولما بيناه في هذه
284

المسألة وسابقتها فروع سنتعرض لذكرها إن شاء الله تعالى في المسائل الآتية.
(المسألة 60):
إذا وقعت المزارعة بين الشخصين جامعة لما يعتبر فيها من شرائط الصحة
وزرع العامل الأرض ثم بدا للطرفين أن يتقايلا ويفسخا عقد المزارعة الواقع
بينهما بعد أن ظهر الزرع في الأرض، أو بعد ما ظهر الثمر، أو انعقد الحب في الزرع
فالظاهر أن يكون فسخ المعاملة إذا حصل بينهما فسخا لها في حين وقوعه وليس
فسخا لها من أصل وقوع العقد، وأن كان ذلك هو مقتضى القاعدة في التقايل إذا
حصل بين الطرفين، وذلك لأن المرتكز في أذهان عامة العقلاء وأهل العرف في
فسخ المزارعة أن يكون ذلك على نحو تعدد المطلوب، وهو نظير الفسخ عند
تبعض الصفقة.
ويتفرع على حصول الفسخ بينهما في حين وقوع الفسخ كما ذكرنا لا من
أصل العقد: أن يكون الزرع الموجود مملوكا لصاحبه حين ما وقع الفسخ بينهما
وليس مملوكا لصاحب البذر، ويتفرع على ذلك أيضا: أن لا يثبت لصاحب الأرض
حق في أن يأخذ من العامل أجرة لأرضه للمدة الماضية قبل الفسخ، ولا يثبت
للعامل حق في أن يأخذ من صاحب الأرض أجرة لعمله في تلك المدة.
وإذا فسخا عقد المزارعة كما ذكرنا، فيجوز لهما أن يتراضيا بينهما على أن
تبقى حصة العامل من الزرع في الأرض إلى أن يبلغ أوانه ويتم نتاجه مع تسليم
العامل أجرة المثل لمالك الأرض مدة بقاء الزرع فيها أو بغير أجرة، ويجوز لهما أن
يتراضيا على أن تقطع حصة العامل من الزرع قصيلا.
ويجوز لصاحب الأرض أن يطالب العامل بقسمة الزرع الموجود عند
285

الفسخ، فيبقي مالك الأرض حصته من الزرع بعد القسمة في الأرض، ويأمر العامل
بقطع حصته من الزرع وإزالتها من الأرض ولا يستحق العامل عليه بذلك أرشا
وليس للعامل أن يبقي حصته من الزرع في الأرض إذا كان صاحب الأرض لا يرضى
ببقائها فيها وإن دفع له أجرة المثل.
وكذلك الحكم إذا شرط أحد المتعاقدين أن يكون له خيار فسخ المزارعة في
وقت معين، ففسخها في ذلك الوقت المعين، أو ثبت له خيار الفسخ لتخلف بعض
الشروط التي شرطها على صاحبه، فإذا فسخ المعاملة وكان فسخه في أثناء المدة
المعينة لعقد المزارعة بينهما جرت الأحكام واللوازم التي بيناها في هذه المسألة.
(المسألة 61):
إذا غصب أحد أرضا من مالكها الشرعي، وسلم الغاصب الأرض إلى عامل
ليزرعها له مدة معلومة بحصة معينة من حاصل الزراعة فيها، جاز لمالك الأرض أن
يسترجع أرضه المغصوبة من الغاصب أو من العامل، ويصح له الرجوع بها على
أيهما شاء.
ويتخير مالك الأرض بين أن يجيز عقد المزارعة الذي أنشأه الغاصب مع
العامل، وأن يرد ذلك العقد، فإن هو أجاز العقد صح وأصبحت المزارعة بين مالك
الأرض والعامل على حسب ما عين في عقدها من قيود وشروط، ولا تفتقر
صحة المزارعة بعد إجازة المالك الشرعي إلى قبول جديد من العامل.
وتثبت للعامل حصته الخاصة التي ذكرت له في العقد ما بينه وبين الغاصب
من حاصل الزراعة، وتكون لمالك الأرض الحصة الأخرى منه، سواء وقعت إجازة
المالك للعقد قبل شروع العامل بالعمل أم وقعت بعده، وإذا أبى المالك الشرعي
286

فرد عقد المزارعة ولم يجزه على أرضه بطلت المعاملة من أصلها، وإذا كان عامل
المزارعة قد زرع الأرض بعد عقد المزارعة عليها وقبل أن يرده المالك، وقد ظهر
الزرع في الأرض وكان البذر من العامل، فالزرع الموجود يكون مملوكا للعامل تبعا
للبذر، ويلزم العامل أن يدفع لمالك الأرض أجرة المثل لمنفعة أرضه في المدة
الماضية.
ويجوز لمالك الأرض بعد رده للمزارعة أن يأمر العامل بإزالة زرعه
وجذوره من الأرض، ولا أرش للعامل إذا أزالها، ويجوز للمالك أن يرضى ببقاء
الزرع في أرضه حتى يدرك، ويبلغ أوانه ويأخذ منه أجرة المثل في المدة الآتية.
وإذا أخذ مالك الأرض من العامل أجرة المثل لما مضى من المدة أو لما يأتي
من مدة بقاء الزرع في الأرض جاز للعامل أن يرجع بما خسره على الغاصب إذا كان
قد غره.
(المسألة 62):
إذا أنشئت المزارعة بين مالك الأرض وعامل المزارعة ثم تبين بعد اجراء
العقد، أو بعد زرع العامل الأرض: أن العامل الذي جرت معه المعاملة عبد مملوك
وأن مولاه لم يأذن له في المزارعة، كان الأمر في تصحيح هذه المعاملة بيد المولى
المالك للعبد، فإن هو أجاز مزارعته صحت، وألزم العبد بالعمل في زراعة الأرض
والقيام بما تحتاج إليه من سقي وغيره، وكانت الحصة المعينة له من حاصل الزرع
لمولاه، والحصة الثانية من الحاصل لمالك الأرض: وإن فسخ المولى المالك للعبد
المعاملة بطلت من أصلها، وكان الزرع الموجود الذي زرعه العبد تابعا للبذر، فإن
كان مالك البذر هو مالك الأرض، كان الزرع مملوكا له لأنه نماء بذره، ولزم صاحب
287

الأرض أن يدفع لمولى العبد أجرة المثل لعمل مملوكه، وإن كان البذر للعبد فهو
ملك لمولى العبد ويكون هو المالك للزرع أيضا، ويجوز لمالك الأرض أن يأمره
بقلع الزرع وإزالته من الأرض، ولا أرش لصاحب الزرع بذلك، ويجوز لمالك
الأرض أن يبقي الزرع في أرضه حتى يبلغ أوانه مجانا أو مع أجرة المثل لأرضه في
تلك المدة، إذا رضي مولى العبد بدفعها ولا يجبر على ذلك.
وكذلك الحكم إذا غصب العبد غاصب من مولاه الشرعي، وزارعه صاحب
الأرض بأمر الغاصب، ولم يستأذن مولاه، فيكون الأمر في صحة المزراعة لمولاه
ويجري فيه وفي زرعه البيان الذي قدمناه.
(المسألة 63): إذا حكم الشارع ببطلان المزارعة بين المتعاقدين من أصلها، أو حكم
ببطلانها في أثناء المدة بعد أن كانت صحيحة في أول الأمر لطرو، بعض العوارض
التي أوجبت الحكم بفسادها كذلك وقد تكرر منا أكثر من مرة، أن الزرع الموجود
في الأرض بعد بطلان المعاملة بكون تابعا للبذر في الملك فمالك الزرع الموجود
في الأرض هو مالك البذر.
فإذا علم أن البذر الذي زرع في الأرض كان مغصوبا من مالكه كان الزرع
الموجود في الأرض مملوكا للمالك الأصلي الذي غصب البذر منه، فالزرع والنتاج
كله له، ولا يستحق عليه مالك الأرض أجرة لأرضه، ولا يستحق عليه عامل
المزارعة أجرة لعمله، بل تكون الأجرة على من جاء بالبذر ليزرع في الأرض فإن
كان الذي جاء بالبذر للزراعة هو العامل لزمه أن يدفع أجرة الأرض لصاحبها، وأن
كان الذي جاء به للزراعة هو صاحب الأرض لزمه أن يدفع للعامل أجرة عمله
288

ويجوز لمالك الأرض أن يأمر المالك المذكور للزرع بإزالة زرعه عن أرضه وأن لم
يبلغ الزرع أوان قطعه، ولا أرش لمالك الزرع بسبب ذلك.
(المسألة 64):
إذا تمت المزارعة بين الطرفين المتعاقدين، ثم علم بعد ذلك أن العوامل التي
استخدمت في زراعة الأرض وفي حرثها وسقايتها كانت مغصوبة من مالكها
الأصلي لم تبطل المزارعة بذلك، سواء كان الذي غصبها أو استخدمها هو مالك
الأرض، أم كان هو العامل، ويجب عليه أن يدفع لمالكها الشرعي أجرة المثل
لمنفعتها في مدة استخدامها، وكذلك الحكم في سائر المصارف التي أنفقها المالك
على أرضه أو أنفقها العامل على زرعه، ثم علم بعد ذلك أنها كانت مغصوبة من
مالكها، فلا يضر ذلك بصحة المعاملة الجارية بين المتعاقدين، ويلزم على منفقها
أن يدفع لمالكها الأصلي مثلها إذا كانت مثلية، وقيمتها إذا كانت قيمية.
(المسألة 65):
قد سبق منا أن الأقوى حصول الاشتراك ما بين مالك الأرض والعامل في
الزرع عند ظهوره في الأرض وتبينه على وجهها، وإن لم يسم قصيلا أو يخرج له
شطئا، وقبل أن يظهر له ثمر أو ينعقد له حب، وقد ذكرنا هذا في المسألة الثامنة
والخمسين، وكذلك إذا اشترط المتزارعان في ضمن العقد أن تحصل الشركة فيه
بينهما عند ظهور الزرع في الأرض.
ومن نتائج ذلك: أن يملك كل واحد من الطرفين حصته المقدرة له من
حاصل الزراعة منذ ذلك الوقت، وفي جميع مراحل نمو الزرع المتعاقبة، فإذا ظهر
ثمر الزرع، وصدق عليه اسم الغلة حنطة أو شعيرا أو غيرهما من الغلات التي تجب
289

فيها الزكاة، وبلغت حصة مالك الأرض أو الزارع مقدار النصاب وجبت عليه الزكاة
في حصته، وإذا لم تبلغ مقدار النصاب فلا زكاة عليه.
وإذا اشترط المتعاقدان أن يكون الاشتراك بينهما في ما بعد ذلك من
المراحل كانت الزكاة على من يملك الزرع قبل ذلك وفي المرحلة التي يتعلق فيها
وجوب الزكاة في الغلة وهو مالك البذر، فإذا بلغ مجموع الحاصل مقدار النصاب
وجبت عليه زكاة الحاصل كله ولا زكاة على الآخر لأنه لم يملك الحصة في وقت
تعلق وجوب الزكاة بها.
(المسألة 66):
إذا تم عقد المزارعة بين مالك الأرض والعامل واستلم العامل الأرض من
مالكها فأهملها ولم يزرعها حتى انقضت المدة المعينة للمزارعة وكانت الأرض
بيد العامل ولم يكن له عذر في ترك الزرع واهمال الأرض لزمه أن يدفع لصاحب
الأرض أجرة المثل لمنفعتها الفائتة في تلك المدة، وقد سبق ذكر هذا في المسألة
الرابعة والثلاثين وما بعدها، ولا ضمان عليه إذا لم يكن مفرطا في ترك الزرع، وقد
ذكرنا في المسألتين بعض الأعذار الموجبة لعدم التفريط، ولا ضمان على العامل
بذلك إذا كانت الأرض في يد مالكها، وكان مالكها يعلم بأن العامل قد ترك زراعتها
ولا يترك الاحتياط بالرجوع إلى المصالحة بين الطرفين إذا كانت الأرض في يد
مالكها، وكان المالك لا يعلم بأن العامل قد ترك زراعتها.
(المسألة 67):
إذا أجريت المزارعة بين المتعاقدين على أرض معلومة معينة الحدود وكان
الأرض بمجموعها صالحة للزرع والانتفاع بها في جميع المدة، ثم اتفق أن طرأ
290

الخراب والبوار على بعض من الأرض فاستولت عليه المياه، أو الأسباخ، ولم
يمكن علاجه، ولم يعد صالحا للانتفاع به بوجه من الوجوه، وبقي بعضها الآخر
صالحا للزرع والانتفاع به بالفعل بطلت المزارعة في القسم البائر من الأرض، و
تخير كل من مالك الأرض وعامل المزارعة في القسم الثاني الذي يمكن الانتفاع به
من الأرض بين أن يفسخ المعاملة فيه للتبعض الطارئ عليها وأن يمضيها، فإذا
اتفق الطرفان فأمضيا العقد في ذلك القسم من الأرض صحت المزارعة فيه وترتبت
آثارها، فيجب على العامل زرعه ويستحق كل من الطرفين حصته من حاصل
الزراعة فيه، وإذا فسخا المعاملة فيه معا أو فسخ أحدهما بطلت المعاملة.
(المسألة 68):
إذا ذكر المتعاقدان للمزارعة الواقعة بينهما مدة وجب عليهما أن يعينا للمدة
أمدا وأجلا مسمى، ويجب أن يكون الأجل بمقدار يتسع لزراعة الأرض فيه وبلوغ
الزرع غايته ونتاجه بحسب العادة المتعارفة لذلك الزرع من الزمان، وقد ذكرنا هذا
في المسألة التاسعة وفي مسائل غيرها.
وإذا عين المتزارعان للمعاملة أجلا يتسع لمعاملتهما بحسب العادة ثم اتفق
أن انقضت المدة المضروبة ولم يدرك الزرع فيها أوانه ولم يبلغ غايته لبعض
الطوارئ المانعة، فلا حق للعامل في أن يبقي زرعه في الأرض إذا لم يرض مالك
الأرض بابقاء الزرع فيها وإن بذل له أجرة الأرض لذلك، ويجوز للطرفين أن
يتراضيا على ابقاء الزرع فيها مجانا أو مع الأجرة، ويجوز لمالك الأرض أن يأمر
العامل بإزالة ما زرعه من الأرض ولا أرش للعامل في ذلك.
291

(المسألة 69):
إذا زارع المالك عاملا على أرض معينة، ثم علم العامل بعد انشاء المعاملة
أن الأرض التي زارعه المالك عليها ليس لها ماء يسقيها بالفعل، وكان العامل قادرا
على تحصيل الماء للأرض بحفر بئر أو استخراج عين أو غير ذلك ولم يكن العامل
يعلم بذلك حين اجراء العقد، صحت المعاملة ولم تبطل بذلك، ويثبت للعامل فيها
خيار الفسخ، فإن شاء فسخ المعاملة وأبطلها، وإن شاء أمضاها ولزمه أن يقوم
بتحصيل الماء وزراعة الأرض وسقاية الزرع.
وكذلك الحكم إذا أجريت المزارعة بين المتعاقدين، ثم علم الزارع بعد
العقد أن الأرض المعينة غير قابلة للانتفاع بها إلا بعلاج وكان قادرا على القيام
بعلاجها واصلاحها، فتصح المعاملة ويثبت للعامل خيار الفسخ فيها كما تقدم
وتلاحظ المسألة العاشرة.
292

[الفصل الثالث]
[في آثار تتبع عقد المزارعة]
(المسألة 70):
إذا ظهر ثمر الزرع الذي زرعه العامل وبلغ أوان حاصله جاز لكل من مالك
الأرض وعامل المزارعة أن يخرص الثمر الموجود في الزرع على صاحبه خرصا
يتفق الطرفان على قبوله، وأن يحدد لصاحبه مقدار حصته المجعولة له من المقدار
الذي عينه بالخرص لجميع الحاصل، فإذا خرص مالك الأرض مجموع حاصل
الزرع الموجود فيها بمائة من من الحنطة مثلا وكانت حصة العامل المجعولة له
في عقد المزارعة هي نصف الحاصل، كان مقدار حصته من الثمر المخروص
خمسين منا من الحنطة وللمالك الباقي منها، بشرط أن يحصل الرضا والقبول
بذلك من العامل، فيصح ذلك ويلزم الطرفين الوفاء به سواء زاد الحاصل على مقدار
الخرص أم ساواه أم نقص عنه، ولا يصح لأحدهما رد ذلك أو فسخه بعد جريان
معاملة الخرص المذكورة والقبول بها من كليهما.
والخرص المذكور معاملة خاصة مستقلة بنفسها وبأدلتها الشرعية الواردة
فيها عن سائر المعاملات، وأثر هذه المعاملة اخراج المال المشترك بين المالك
293

والعامل من الإشاعة المطلقة، وتحديد حصة كل واحد منهما عن حصة الآخر
على وجه الاجمال، وهي ليست من البيع ولا من الصلح بعوض أو بغير عوض.
(المسألة 71):
يشترط في صحة معاملة الخرص التي ذكرناها: أن يكون خرص الثمرة بعد
أن تبلغ ويتم ادراكها كما ذكرنا في المسألة المتقدمة فلا تصح إذا وقع الخرص قبل
أن يبلغ الثمر هذا المبلغ، وأن ظهر في الزرع أو بدأ أول ادراكه ولم يتم، ويعتبر في
صحتها: أن تكون الحصة المعينة لكل من الطرفين من حاصل الزرع نفسه، فلا تصح
المعاملة إذا جعلت الحصة بذلك المقدار في الذمة من جنس الحاصل، وأولى من
ذلك بعدم الصحة ما إذا جعلت بذلك المقدار من غير جنسه.
ويكفي في انشاء المعاملة أن يقول الموجب من الطرفين: رضيت بالخرص
المعين لثمر هذه الزراعة لي وعلي، وتقبلت نصف المقدار الذي حدده الخرص
في حصتي المعينة لي من حاصل الزرع وجعلت الباقي من الحاصل لك، فإذا قبل
الجانب الآخر ذلك ورضي به صحت المعاملة، ووجب على الطرفين الوفاء بها
فإذا زاد الحاصل على مقدار الخرص لم يستحق الطرف الذي تقبل حصته من
الخرص من هذه الزيادة شيئا، كان الزائد من الحاصل كله لصاحبه، وإذا نقص
الحاصل عن مقدار الخرص، أخذ الأول حصته من مقدار الخرص كاملة دون نقص
وكان الباقي الناقص للثاني.
ويكفي في صحة المعاملة أن تنشأ، بأي لفظ غير ذلك، إذا كان دالا على هذا
المضمون في عرف أهل اللسان، وإن كانت دلالته بالقرينة المفهمة أو بلغة غير
عربية، ويصح أن تنشأ بالفعل إذا كان دالا على المعنى المراد.
294

ولا فرق في صحة معاملة الخرص المذكورة بين أن يكون الخارص لحاصل
الزرع أحد الطرفين المتعاقدين وأن يكون شخصا ثالثا غيرهما، إذا كان من أهل
الخبرة والوثوق وتم بخرصه غرض المتعاملين، وحصل به الرضا والقبول منهما.
(المسألة 72):
إذا تلف جميع حاصل الزرع أو تلف بعضه بحيث كان الباقي من الحاصل
أقل من المقدار المخروص، وكان تلف التالف منه بعد الخرص وتقبيل الحصة منه
دخل النقص على الجانبين، ولم يختص بواحد منهما على الأقوى، سواء كان
التلف بآفة سماوية أم أرضية، وسواء كان التلف بفعل الانسان، أم بسبب آخر من
حيوان أو غيره.
ويشكل الحكم إذا تلف بعض الحاصل وكان المقدار الباقي منه يساوي
مقدار الخرص، أو يزيد عليه، ولا يترك الاحتياط في هذه الصورة بالرجوع إلى
المصالحة والتراضي بين الطرفين.
(المسألة 73):
لا تختص معاملة الخرص التي ذكرناها بالمزارعة وتقبيل الحصة منها، بل
تجري أيضا في المساقاة، وسيأتي بيانه (إن شاء الله تعالى)، وتجري في ثمر
النخيل والشجر إذا كان مشتركا على وجه الإشاعة التامة بين مالكين بسبب إرث أو
شراء، أو غيرهما من أسباب الملك والاشتراك فيه، وتجري في كل ثمر أو زرع
مشترك بين مالكين لأحد الأسباب الموجبة للتملك والاشتراك فيه، فيجوز لهما أو
لأحدهما أن يخرص الثمر عند بلوغه وتحقق ادراكه، فإذا رضي الجانبان بالخرص
ورضيا بأن تكون حصة أحدهما من المقدار المخروص، وللآخر الباقي سواء زاد
295

الحاصل عنه أم نقص، صحت المعاملة ولزمت وترتبت آثارها.
(المسألة 74):
يجوز لمالك الأرض أن يصالح عامل المزارعة عن حصته المقدرة له من
حاصل الزرع بمقدار معين في ذمته من جنس الحاصل أو من غير جنسه، فإذا كانت
الزراعة المشترطة بين المتعاقدين من الحنطة مثلا وكانت حصة العامل هي
النصف من حاصلها، جاز لمالك الأرض أن يصالح العامل عن حصته المذكورة
بعشرين منا من الحنطة، تبقى في ذمة المالك، أو بعشرين منا من الأرز أو الماش أو
العدس تبقى في ذمته كذلك، ويجوز له أن يصالحه عنها بعين في الخارج مملوكة
له، من جنس الحاصل أو من غير جنسه، فتكون عوضا للعامل عن حصته.
ويجوز للعامل أن يصالح مالك الأرض عن حصته المعينة له من الحاصل
كذلك، في كلا الفرضين وإنما يصح الصلح في جميع ما ذكر من الفروض إذا ظهر
حاصل الزرع سواء تم ادراكه أم لم يتم.
ولا تضر بصحة هذا الصلح بينهما جهالة الطرفين بمقدار الحصة المصالح
عليها فإن مثل هذه الجهالة مغتفرة في عقد الصلح والأحوط استحبابا لهما تقدير
ذلك يخرص متعارف عند أهل الخبرة، ولا يضر بصحة الصلح وجوه التفاوت بين
العوضين، وذلك لأن حصة المزارع والعامل من الزرع قبل الحصاد والتصفية
ليست من المكيل ولا الموزون، فلا تكون المعاوضة عليها من التفاوت بين
العوضين من الربا المحرم في الاسلام.
وإذا أراد أحد المتزارعين أن يصالح صاحبه عن حصته قبل ظهور الحاصل
فلا بد له من ضم ضميمة إلى الحصة، ولا يصح الصلح عليها بغير ذلك.
296

(المسألة 75):
إذا انقضت المدة المضروبة للمزارعة بين العامل ومالك الأرض، ووقعت
القسمة لحاصل الزرع المشترك بينهما، وأخذ كل شخص منهما حصته المعينة له
من الحاصل، وبقيت في الأرض بعد ذلك أصول الزرع وجذوره، فأنبتت في السنة
الثانية نباتا وأخرجت زرعا، فالنبات والزرع الذي يحصل منها يكون مشتركا
بينهما، وقد ذكرنا في المسألة الثامنة والخمسين، أن مقتضى عقد المزارعة عند
اطلاقه أن يحصل الاشتراك بين مالك الأرض وعامل المزارعة من حين ظهور الزرع
في الأرض، وفي جميع مراحل نموه وأدواره، ولا يختص بالحاصل عند ظهوره
في الزرع أو عند انعقاد الحب أو صدق الاسم، وكذلك إذا اشترط المتعاملان في
ضمن العقد أن يقع الاشتراك بينهما في الزرع في تلك المرحلة أو قبلها.
ومن نتائج ذلك: أن تكون أصول الزرع وجذوره الباقية في الأرض بعد
الجذاذ مشتركة بينهما كما ذكرنا، ويتبعها نماؤها الذي يحصل منها فيكون مشتركا
بينهما، إلا إذا أعرض المتعاقدان عن هذه الأصول الباقية، فيكون النبات الحادث
منها لمن سبق إليه فتملكه بالحيازة.
(المسألة 76):
إذا بقي في الأرض بعض الحبوب من حاصل الزراعة الماضية، فأنبت في
السنة اللاحقة زرعا وأخرج نماء، فإذا كان الحب الذي بقي في الأرض من الحاصل
المشترك بين المتزارعين قبل قسمته بينهما، فالزرع والنماء الذي يخرج منه يكون
مشتركا بينهما أيضا تبعا لأصله، ويكون لكل واحد من الشريكين من هذا النماء
الجديد بمقدار حصة ذلك الشريك من الأصل، فإذا كان الأصل مشتركا بينهما
297

بالمناصفة، فالنماء، الحادث منه مشترك بينهما بالمناصفة كذلك، وإذا كان
لأحدهما الثلث منه أو الربع أو غيرهما، فله من النماء الجديد بتلك النسبة.
وإذا كان الحب الباقي في الأرض مختصا بأحد الشريكين، كما إذا سقط من
حصة العامل بعد القسمة أو من حصة مالك الأرض كذلك اختص مالكه بالنماء
الحادث منه، ولم يستحق الآخر منه شيئا، ولا يستحق مالك الأرض على العامل
أجرة لأرضه إذا كان النماء الحادث ملكا للعامل خاصة، أو كان مملوكا له
ولصاحب الأرض على نحو الاشتراك، ثم بقي النماء في الأرض حتى أدرك وبلغ
أوانه.
(المسألة 77):
إذا قصر عامل المزارعة في القيام المطلوب منه على الزراعة في تمهيد
الأرض مثلا أو تسميدها، أو في السقي الكافي لحاجتها وحاجة الزرع، أو في
مكافحة الحشرات والطفيليات والطوارئ، المؤثرة عادة، فقل بسبب تقصيره
حاصل الزرع، فإن كان التقصير منه قبل أن يظهر الزرع في الأرض لم يضمن العامل
لمالك الأرض بسبب هذا التقصير شيئا، وثبت لمالك الأرض بذلك خيار فسخ
المعاملة الجارية بينه وبين العامل، فإن شاء فسخ المزارعة، وإن شاء أمضاها ولم
يفسخها فإذا اختار مالك الأرض ففسخ المزارعة وكان البذر مملوكا للفاسخ
صاحب الأرض كان الحاصل الذي يخرج من الزرع مملوكا له تبعا للبذر، ولزمه أن
يدفع للعامل أجرة المثل لعمله، وإذا تلف شئ من البذر بسبب تقصير العامل كان
العامل ضامنا لما تلف منه فيجب عليه أن يدفع لمالكه مثله إذا كان مثليا وقيمته
إذا كان قيميا.
298

وإذا كان البذر مملوكا للعامل كان الحاصل مملوكا له بتبع البذر، ولزمه أن
يدفع لمالك الأرض أجرة المثل لأرضه.
وإذا اختار مالك الأرض فأبقى المعاملة بينه وبين العامل ولم يفسخها بسبب
تقصير العامل صحت المزارعة وكانت لكل واحد من الطرفين حصته المعينة له في
العقد قلت أو كثرت.
وإن كان التقصير الذي ذكرناه من العامل بعد ظهور الزرع في الأرض، تخير
مالك الأرض، فيجوز له أن يفسخ المعاملة وتترتب على فسخه جميع النتائج
والآثار التي قدمنا ذكرها في الفرض السابق، ويجوز له أن يمضي المعاملة فتكون
لكل واحد من الطرفين حصته المعينة له في عقد المزارعة قلت أو كثرت، ويضمن
العامل لصاحب الأرض مقدار التفاوت في حاصل الزرع بسبب تقصيره، ويعرف
ذلك بالرجوع إلى أهله الخبرة، وإذا لم يعلم فالاحتياط بالرجوع إلى المصالحة.
(المسألة 78):
إذا ادعى مالك الأرض على عامل المزارعة فيها أنه لم يف له ببعض الشروط
التي شرطها عليه في عقد المزارعة، وجحد العامل ما يدعيه المالك عليه من عدم
الوفاء، فالقول قول العامل، ولا يمين عليه لأنه مؤتمن، إلا أن يقيم المالك على صحة
دعواه على العامل بينة مقبولة يثبت بها عدم وفائه، وكذلك الحكم إذا ادعى مالك
الأرض أن العامل قد قصر في عمله في المزارعة فأضر بالزرع بسبب تقصيره في
العمل، وأنكر العامل وقوع تقصير منه، أو ادعى المالك عليه أنه فرط في حفظ الثمر
بعد ظهوره في الزرع فتلف جميع الحاصل أو تلف بعضه، وأنكر العامل وقوع أي
تفريط أو تقصير منه، فالقول في جميع هذه الفروض قول العامل ولا يطالب بيمين
299

على إنكاره لأنه مؤتمن.
(المسألة 79):
إذا ادعى مالك الأرض إنه قد اشترط على العامل شرطا في ضمن العقد
وأنكر العامل وقوع ذلك الشرط بينهما، أو ادعى العامل إنه قد اشترط على المالك
شيئا وأنكر المالك ذلك، فالقول قول المنكر منهما مع يمينه في كلتا الصورتين، إلا
إذا أثبت المدعي منهما صحة قوله ببينة مقبولة، فيؤخذ بها وإذا انعكس الفرض
فادعى أحد المتزارعين أن صاحبه قد اشترط عليه شرطا معينا في ضمن عقد
المزارعة، وأنكر صاحبه وجود ذلك الشرط منه، ألزم الأول منهما بأن يفي بالشرط
الذي ذكره أخذا له باقراره، فلا يأخذ حصته المعينة له من الحاصل حتى يفي
بالشرط، ويعامل الثاني أيضا بمقتضى قوله، ولذلك فليس له أن يطالب صاحبه
المقر بالشرط الذي ذكره بعد انكاره إياه ويلزمه أن يوصل إلى صاحبه حصته من
الحاصل وأن لم يف بالشرط أخذا له بقوله، ويمكن لهما أن يتخلصا من هذا
الاشكال بالرجوع إلى التسالم والمصالحة بينهما.
(المسألة 80):
إذا ادعى أحد المتزارعين أن صاحبه قد غبنه بالمزارعة الجارية بينهما، لزمه
أن يثبت وجود الغبن عليه في المعاملة بأحد المثبتات الشرعية، فإذا أثبت ذلك جاز
له فسخ المزارعة للغبن، ولا يكون له حق الخيار إلا بعد أثبت وجود سببه وهو
واضح وإنما يذكر للتنبيه.
(المسألة 81):
إذا تنازع المتزارعان في مقدار المدة التي عيناها لمزارعتهما، فقال أحدهما
300

هي سنة واحدة وقال الآخر بل هي سنتان، أو قال الأول: قد جعلنا المزارعة بيننا إلى
ثلاث سنين، وقال الثاني، بل جعلناها إلى أربع سنين، قدم قول من ينكر الزيادة في
المدة منهما مع يمينه، وتستثنى من ذلك صورة واحدة، وهي ما إذا ادعى
أحد المتعاقدين مدة قصيرة لا تكفي بحسب العادة لزرع الأرض وبلوغ الحاصل
فيها لقصرها، وادعى الثاني مدة تتسع لذلك بحسب العادة فيقدم قول الثاني لأن
قوله يستلزم صحة المعاملة الواقعة بينهما، وقول الأول يستلزم فسادها بسبب
قصر المدة، وقد بينا في المسألة التاسعة أن المدة التي تشترط للمزارعة إذا كانت
قصيرة لا تكفي بحسب العادة المتعارفة لمزارعة الأرض وادراك حاصل الزرع
فيها كان العقد الواقع عليها باطلا.
(المسألة 82):
إذا تنازع المتزارعان في مقدار الحصة المعينة لأحدهما من حاصل الزرع،
فقال أحد الطرفين لصاحبه، قد جعلنا لك الثلث خاصة من حاصل الزارعة، وقال
الثاني: بل حصتي النصف من الحاصل، فالقول قول من يدعي قلة الحصة، وينكر
الزيادة فيها من الطرفين مع يمينه، وهو في غالب الفروض المتعارفة من يملك البذر
كله
فهو يدعي القلة في حصة صاحبه ليكون الزائد من نصيبه، وقد يختلف ذلك، وقد
يكون البذر ملكا للجانبين، معا بالتساوي أو مع التفاوت، وعلى أي حال فالقول قول
من ينكر الزيادة مع يمينه في جميع الصور التي يقع فيها التنازع بين الطرفين في مقدار
الحصة.
(المسألة 83):
301

يجوز لمن تقبل قطعة من الأرض الخراجية من السلطان، أو من ولي أمر
المسلمين، وكانت القطعة بيده يؤدي خراجها وينتفع بها، أن يدفع تلك الأرض إلى
شخص آخر ليزرعها ذلك الشخص، وينتفع بها لنفسه، فيؤدي من حاصل زراعة
الأرض ما عليها من الخراج زاد أم نقص ويأخذ ما بقي من الحاصل لنفسه، ولا
ينتفع الأول الذي تقبلها من السلطان منها بشئ، سوى أنه قد تخلص بذلك من
الخراج، وقد دل بعض النصوص على جواز ذلك إذا كان دفع الأرض من الأول إلى
الثاني برضاه ويجوز لمن تقبل الأرض الخراجية كذلك أن يزارع عليها عاملا
ليزرعها ويعمل فيها ويدفع خراج الأرض من حاصل الزارعة فيها، ثم يكون الباقي
من الحاصل لكل من المتقبل والعامل فيقتسمانه بينهما بالمناصفة أو بما سوى ذلك
من الحصص بحسب ما يشترطان ويتراضيان، فيكون الخراج على كليهما.
ويجوز لمتقبل الأرض من السلطان أو ولي الأمر أن يشترط على العامل الذي
يزارعه أن يكون جميع الخراج على العامل خاصة، فيدفعه من حصته من الحاصل
بعد القسمة ولا يكون على المتقبل شئ من الخراج، فيصح جميع ما ذكرناه من
الفروض مع الاشتراط والرضى به من الطرفين، وتلاحظ المسألة الثانية والعشرون.
ويجوز لمتقبل الأرض أن يدفعها إلى شخص غيره ليزرعها وينتفع بها
ويشترط على ذلك الغير أن يدفع جميع الخراج من حاصل زراعته في الأرض
وأن يدفع للمتقبل مع ذلك مبلغا معينا مائة دينار مثلا أو أقل أو أكثر، ثم يأخذ الزارع
لنفسه ما بقي من الحاصل وقد دلت النصوص إلى صحة جميع ذلك مع الاشتراط
في العقد والرضى به من الجانبين.
(المسألة 84):
302

يصح أن يقع عقد المزارعة بين المسلم والكافر سواء كان الكافر هو صاحب
الأرض أم كان هو العامل في المزارعة، وتجري في المعاملة بينهم جميع الأحكام
وتترتب جميع الآثار التي بيناها للمزارعة ويلزم الوفاء بعقدها والقيام بواجباتها
وشروطها على كل من المسلم والكافر من غير فرق بينهما.
(المسألة 85):
يجوز للقيم الذي جعله الواقف متوليا على الأرض الموقوفة، أو الذي نصبه
الحاكم الشرعي متوليا عليها، أن يزارع عاملا على الأرض الموقوفة الداخلة تحت
ولايته، إذا اقتضت مصلحة الوقف، أو مصلحة الموقوف عليهم: أن يزارع أحدا على
الأرض، وقد توفرت في المتولي شروط الولاية، وصحة التصرف، سواء كان وقف
الأرض عاما أم خاصا، وسواء كان وقفها على جهة، أم على أشخاص، أم على غير
ذلك، وتنفذ المزارعة الواقعة من المتولي عليها، ويلزم الطرفين الوفاء بها
وبأحكامها.
وإذا عين المتولي للمزارعة مدة تقتضي المصلحة تعيينها، لزم العمل
بالمعاملة في تلك المدة ولا تبطل بموت المتولي الذي أوقع المزارعة إذا مات في
أثناء المدة.
وإذا كانت الأرض موقوفة على بطون متلاحقة من الموقوف عليهم، وزارع
المتولي أحدا على الأرض المذكورة لمصلحة البطون وعين للمزارعة مدة، لزم
الوفاء بالعقد في جميع المدة، ولا يبطل العقد بموت المتولي، ولا بموت أهل البطن
الأول أو الثاني أو الثالث من الموقوف عليهم، ما دامت المدة المشترطة باقية.
(المسألة 86):
303

إذا زارع أهل البطن المتقدم عاملا على الأرض الموقوفة عليهم، وعلى من
بعدهم من البطون لم تنفذ بالمزارعة التي أنشأها هؤلاء على من يأتي بعدهم من
البطون المتأخرة، فإذا مات أهل البطن الذين أوقعوا المزارعة، بطلت مزارعتهم بعد
موتهم، إلا إذا أجازها أهل البطن اللاحق لهم، فتصح المزارعة بإجازتهم، كما يصح
العقد الفضولي إذا أجازه الأصيل في سائر المعاملات.
(المسألة 87):
يصح أن تقع المصالحة بين عاملين مستقلين في مزارعتين مختلفتين
يختص كل عامل منهما بأرض خاصة به، وبحصة معلومة معينة له من حاصل
زراعته في أرضه، فيوقعا عقد الصلح ما بينهما على الحصتين، فيجعل الأول منهما
حصة المعينة له من حاصل زراعته عوضا للعامل الثاني عن حصته المعينة له من
زراعته، فإذا تم عقد الصلح بينهما، وحصل الايجاب والقبول منهما انتقلت حصة
كل واحد منهما من زراعته إلى ملك الآخر، وحصلت المعاوضة بين الحصتين.
ومن أمثلة ذلك أن يزارع مالك الأرض سعيدا وهو العامل الأول على قطعة
معلومة من أرضه ويعين له حصة معلومة من حاصل زرعه لتلك القطعة، ثم يزارع
عبد الله وهو العامل الثاني على قطعة أخرى من الأرض بحصة معينة كذلك من
حاصل زرعه لهذه القطعة، فيختص كل واحد من العاملين بقطعته التي حددها له
مالك الأرض، وبحصته التي عينها له من الحاصل، ثم يصالح سعيد عبد الله عن
حصته من زراعة القطعة الثانية بالحصة التي يملكها سعيد من زراعته للقطعة
الأولى، فتصبح بسبب الصلح الواقع بينهما حصة عبد الله من زراعته ملكا لسعيد
فيقتسم حاصلها مع مالك الأرض بنسبة هذه الحصة التي ملكها بالصلح، وتصبح
304

حصة سعيد من زراعته ملكا لعبد الله فيقتسم حاصلها مع المالك بهذه النسبة.
(المسألة 88):
إذا زارع مالك الأرض عاملين ولنفرضهما زيدا وعمرا على أن يزرعا له
أرضه المعلومة وعين للعاملين حصة معلومة من حاصل زراعتهما للأرض تكون
لهما معا: النصف من الحاصل أو الثلث أو الربع مثلا، وللمالك الحصة الأخرى منه
وتم العقد بينهم على ذلك، جاز لزيد وعمرو (عاملي المزارعة) أن يقتسما
الأرض التي دفعها المالك إليهما قطعتين ويختص زيد بزراعة إحدى القطعتين
وتكون له الحصة العينة في عقد المزارعة من حاصلها وللمالك الحصة الأخرى
ويختص عمرو بزراعة القطعة الثانية ويقتسم حاصلها مع المالك - كما تقدم -
(المسألة 89):
يجوز لصاحب الأرض إذا كانت أرضه بوارا لا ينتفع بها بالفعل إلا بعد علاج
وتعمير واصلاح يستمر سنة كاملة أو سنتين مثلا: أن يزارع على أرضه عاملا
ويجعل للمزارعة مدة طويلة: خمس سنين مثلا أو أكثره ويشترط على العامل في
ضمن العقد أن يقوم بعلاج الأرض واصلاح خرابها سنة أو سنتين حتى تعمر
وتكون صالحة للانتاج، ويشترط على نفسه في العقد أن يكون جميع حاصل
الأرض في فترة العلاج والتعمير مملوكا للعامل خاصة ولا يشاركه المالك فيه، ثم
تزرعها العامل بعد تلك الفترة، فيكون الحاصل الناتج منها مشتركا بين المالك
والعامل بمقدار ما يعينان لهما من الحصة، فإذا وقعت المعاملة بينهما كذلك، وتم
الايجاب والقبول عليه، صحت المزراعة، ولزم الوفاء بها على الطرفين، سواء كانت
الأرض مملوكة لصاحبها أم كانت من أرض الوقف العام أو الخاص البائرة، فيجري
305

متولي الوقف عقد المزارعة عليها كذلك.
(المسألة 90):
ورد في الخبر عن مسمع عن الإمام أبي عبد الله (ع) قال: (لما أهبط آدم إلى الأرض
احتاج إلى الطعام والشراب فشكا ذلك إلى جبرئيل (ع) فقال له جبرئيل: يا آدم كن
حراثا، قال فعلمني دعاء، قال: قل: (اللهم اكفني مؤنة الدنيا وكل هول دون الجنة
والبسني العافية حتى تهنئني المعيشة)، وعن شعيب العقرقوفي عنه (ع) قال: إذا
بذرت فقل: (اللهم قد بذرت وأنت الزارع فاجعله حبا متراكما)، وعن ابن بكير
قال: قال أبو عبد الله (ع): إذا أردت أن تزرع زرعا فخذ قبضة من البذر واستقبل
القبلة وقل: (أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون) ثلاث مرات، ثم
تقول: بل الله الزارع، ثلاث مرات، ثم قل: (اللهم اجعله حبا مباركا وارزقنا فيه
السلامة) ثم انثر القبضة التي في يدك في القراح)، وورد عنه (ع): (إذا غرست غرسا
أو نبتا فاقرأ على كل عود أو حبة: " سبحان الباعث الوارث " فإنه لا يكاد يخطئ إن
شاء الله تعالى)، وعن أحدهما (ع) قال: تقول إذا غرست أو زرعت: (ومثل كلمة
طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها)
306

[الفصل الرابع]
[في المساقاة وشروطها]
(المسألة 91):
المساقاة معاملة خاصة تقع بين الرجل وشخص آخر على أن يسقي
الشخص الثاني للرجل الأول أصولا ثابتة من نخيل أو شجر مدة معينة، ويتعهد تلك
الأصول في تلك المدة بما تحتاج إليه عادة من الرعاية والعمل في نموها
وأثمارها حتى تنتج، وعلى أن تكون للشخص الساقي حصة مشاعة معينة بين
المتعاملين من حاصل الثمر الذي تنتجه تلك الأصول، ولا ريب في مشروعية هذه
المعاملة، وصحتها إذا توفرت فيها الشروط الآتي ذكرها.
(المسألة 92):
المساقاة عقد من العقود المعروفة والمتعارفة بين الناس عامة في غالب
البلاد، وإن كانت في بعض البلاد أكثر شيوعا وتعارفا بين عامة الناس في بعض
الفترات من الزمان، لاحتياج السقي فيها إلى مزاولة أعمال وأتعاب لا يحتاج إلى
مثلها في بلاد أخرى وفي أزمنة أخرى، ولا بد في صحة هذه المعاملة من الايجاب
والقبول لأنها كما ذكرنا عقد من العقود.
307

ويكفي في صحة الايجاب والقبول فيها أن يقعا بأي لفظ يكون ظاهر الدلالة
عند أهل اللسان على المضمون الذي يريده المتعاقدان، سواء كانت دلالته بنفسه أم
بقرينة موجودة تحف بالمعاملة، وسواء أنشأ المتعاملان الايجاب القبول بينهما
بصيغة الفعل الماضي أم بالفعل المضارع أم بفعل الأمر، أم بالجملة الإسمية، أم
بغير اللغة العربية من اللغات الحية التي يحسنها الطرفان إذا هما قصدا إنشاء المعنى
المقصود بها، فإذا قال مالك الأصول لعامل المساقاة: سلمت إليك هذه الأصول
المغروسة أو أدفع لك هذه المغروسات لتسقيها وتتعهد أمرها بالرعاية والاصلاح
والعمل فيها حتى تثمر، ولك النصف من حاصل ثمرها، أو الثلث، أو غيرهما من
الحصص المشاعة إذا اتفقا عليها، أو قال له: اسق هذه الأصول المغروسة وتعهدها
بالعمل فيها وفي اصلاحها حتى تنتج وتثمر ولك نصف حاصلها، وقال العامل:
قبلت المساقاة منك بالحصة التي عينتها لي من الحاصل صحت المعاملة.
وكذلك إذا كان الايجاب من عامل المساقاة فقال لمالك الأصول: تسلمت
منك هذه المغروسات لأسقيها وأعمل لك فيها حتى تثمر، ولي النصف من حاصل
ثمرها وقال المالك رضيت بذلك، ومثله ما إذا أنشأ أحدهما الايجاب بلغة غير
عربية وقبل صاحبه منه الايجاب فتصح المعاملة وتنفذ، ويمكن أن ينشأ الايجاب
باللفظ والقبول بالفعل الدال على الالتزام والرضا بما أنشأه الموجب، ويصح
بعكس ذلك فينشئ للموجب العقد بالفعل الدال على انشاء المعنى المقصود
ويكون القبول باللفظ، ويكفي أن يكون انشاء المعاملة بالمعاطاة من الجانبين، بعد
أن يعينا قبلها ما يحتاجان إلى تعيينه، ويذكرا ما يحتاجان إلى ذكره من الشروط، ثم
تجري المعاملة بالمعاطاة مبينة على ذلك، وقد ذكرنا نظير هذا في عقد المزارعة.
308

(المسألة 93):
يشترط في صحة المساقاة أن يكون كل من صاحب الأصول المغروسة
وعامل المساقاة بالغا وأن يكون عاقلا، فلا تصح المعاملة إذا كان الطرفان فيها
صبيين غير بالغين، أو مجنونين غير عاقلين، أو كان أحدهما كذلك، ويشترط في
صحتها أن يكون كل من الطرفين قاصدا في إنشائه للمعنى المراد في العقد
فلا تصح إذا كانا هازلين أو هازئين في قولهما أو فاقدين للقصد لسكر أو غضب
شديد أو كان أحدهما كذلك، ويشترط في صحتها أن يكون كل من المتعاقدين فيها
مختارا غير مكره اكراها يسلب منه الاختيار، وأن لا يكونا محجورين لسفه يوجب
عليهما الحجر في المال أو الحجر في مطلق التصرف أو يكون أحدهما كذلك، وأن
لا يكون مالك الأصول محجورا عليه لفلس من المال، ولا يشترط ذلك في العامل
فتصح مساقاته إذا كان مفلسا، وتلاحظ الايضاحات التي بيناها لهذه الشروط العامة
في عقد المزارعة وفي المعاملات الأخرى التي سبق منا ذكرها في هذه الرسالة
وفي كتاب الحجر منها.
(المسألة 94):
يشترط في صحة المساقاة بين الشخصين أن تكون الأصول التي يتفقان على
سقايتها مملوكة لصاحبها بأعيانها ومنفعتها أو مملوكة له منفعتها خاصة، أو يكون
نافذ التصرف في الأصول أو في منفعتها بوكالة أو ولاية، أو بتولية مجعولة له من
شخص نافذ التصرف فيها.
فلا تصح مساقاة الرجل إذا كان مالكا لأعيان الأصول المغروسة خاصة
وكانت منفعة الأصول مملوكة لغيره بإجارة أو صلح أو هبة أو معاملة شرعية أخرى
309

تنقل المنفعة عن ملكه إلى غيره، فإنه لا يقدر في هذه الصورة أن يجعل حصة من
منفعة الأصول لعامل المساقاة.
وتصح مساقاة الرجل على الأصول إذا كان مالكا لمنفعتها خاصة بإجارة
وشبها، فإذا ساقى عاملا عليها وفى له العامل بالعقد استحق الحصة المجعولة له من
حاصلها، وتصح المساقاة من الرجل إذا كان نافذ التصرف في الأصول أو في
المنفعة كما ذكرنا وإن لم يكن مالكا لأعيانها، ومثال ذلك: أن يكون وكيلا عن
المالك أو وليا عليه كالأب أو الجد أبي الأب على مال الطفل، وكالولي الشرعي
على مال اليتيم أو المجنون أو السفيه، وكالمتولي المجعول على أرض الوقف
والوصي على الثلث والأرض الموصى بها، ولا تصح المساقاة إذا انتفى جميع ذلك.
(المسألة 95):
يشترط في صحة المساقاة أن تكون الأصول التي تجري المعاملة على
سقايتها معينة في الخارج، فلا تصح المساقاة إذا كانت الأصول مرددة بين أفراد
متعددة منها من غير تعيين للأصول المرادة، وأن تكون معلومة عند المالك
والعامل، فلا تصح المعاملة على سقي الأصول إذا كانت مجهولة عندهما أو عند
أحدهما.
(المسألة 96):
يشترط في صحة المساقاة أن تكون الأصول التي تجري المعاملة على
سقيها مغروسة في الأرض، فلا تصح المعاملة على فسيل نخيل أو ودي شجر أو
قضبان وأعواد لم تغرس بعد في الأرض، قالوا: ولا تصح المساقاة على أصول غير
ثابتة وإن كانت مزروعة ذات جذور نابتة في الأرض، كالبطيخ والخيار والباذنجان
310

والقطن والفلفل وما يشبه ذلك من المزروعات، وكأنهم (قدس الله أرواحهم)
يريدون من الأصول الثابتة التي تقطع المساقاة عليها ما يسمى نخلا أو شجرا في
نظر أهل العرف، وسنتعرض في ما يأتي لحكم هذه المزروعات الأخرى إن شاء
الله تعالى، وتلاحظ المسألة المائة والسادسة، والمسألة المائة والتاسعة وما بعدها.
(المسألة 97):
لا ينبغي الريب في أن سقي أصول النخيل والشجر لا يمكن ضبطه عادة في
زمان معين وأجل محدد منه حتى يلزم ذكره في عقد المساقاة ويجب تحديد أمده
بين المتعاملين، وإنما يدور ذلك مدار الحاجة إليه في وقته وفي مقداره، فإن من
السقي ما يحتاج إليه في تثبيت الأصل بعد ما يغرس في الأرض، وفي نموه بعد
ذلك وفي تتابع نموه حتى يشتد الأصل ويقوى، ومن السقي ما يحتاج إليه
لا ثمار الأصول في مواقيت أثمارها وفي تربية الثمر وتقويته في مواعيد ايناعه، وفي
انضاجه في وقت نضوجه، وكل ذلك يدور مدار الحاجة إليه في الوقت وفي المقدار
كما قلنا، وهي أمور تتبع العادة العامة المتبعة بين الناس والتعارف الجاري عند أهل
المعرفة والخبرة منهم ولهذا الذي بيناه فيكفي في صحة المساقاة أن يعتمد
المتعاقدان على هذه العادة الجارية بين عامة الناس وعلى تعارف أهل الخبرة منهم
في تعيين أوقات السقي ومواعيد الحاجة إليه ومقاديره، ولا يفتقران إلى تعيين مدة
له أو مقدار.
وكذلك الأعمال الأخرى التي يلزم على عامل المساقاة أو على مالك
الأصول أن يقوم بها في معاملة المساقاة، مثل تنقية مجاري الماء وكري النهر وشقه
311

إذا لم يكن مشقوقا في الأرض، وحفر البئر إذا لم تكن محفورة، وتلقيح ما يحتاج
إلى التلقيح من الثمر، وتجريد النخيل والشجر من السحف والأغصان اليابسة
ومثل حراثة الأرض وتسميدها إذا احتاج نمو الأصول أو نماؤها إلى ذلك، وإزالة ما
في الأرض من نبات أو حشائش تضر بالأصول أو بالثمار، واصلاح مواضع جمع
التمر وتصفيته وتشميسه، واعداده للقسمة أو للنقل والبيع وما يشبه ذلك، فإن
مواقيت هذه الأعمال ومقاديرها تدور مدار تحقق الحاجة إليها، والرجوع فيها إلى
العادة العامة، وإلى نظر أهل الخبرة من الناس يغني عن تعيين مدة أو مقدار لها
وسنتعرض إن شاء الله تعالى لذكر هذه الأعمال، وما يجب على العامل منها، وما
يجب على المالك في بعض المسائل الآتية.
ونتيجة لما تقدم ذكره فيكفي في صحة المساقاة أن يعين المتعاملان في
العقد بينهما مبدأ الشروع في سقي الأصول، وأن تجعل النهاية إلى أوان بلوغ الثمر
فإن بلوغ الثمر أمر تحدده العادة، ويكفي في تعيينه الرجوع إلى أهل الخبرة فيتعين
الأمد بذلك وتصح المعاملة، وهذا إذا كانت المساقاة الجارية بين الطرفين لعام
واحد.
(المسألة 98):
قد يتعلق غرض خاص لمالك الأصول أو لعامل المساقاة في أن يكون مبدأ
الشروع في المساقاة بينهما في وقت مخصوص، وأن تكون نهاية العمل فيها في
وقت مخصوص كذلك ويجب في مثل هذه الفروض على المتساقيين أن يعينا
المدة المقصودة للطرفين في بدايتها ونهايتها، فإذا لم تعين المدة بطلت المساقاة
312

فإن المفروض أنهما لم يقصدا ما هو المتعارف بين الناس.
ويجب أن تكون هذه المدة التي تعين للمساقاة كافية لأن يظهر فيها ثمر الأصول
ويبلغ أوانه بحسب العادة ولا تصح المساقاة إذا كانت المدة قصيرة لا تكفي لذلك
وقد سبق نظير هذا في عقد المزارعة.
(المسألة 99):
يصح أن تعقد المساقاة بين الشخصين على سقي الأصول المعلومة وأخذ
الحصة المعينة من ثمرها سنين متعددة، خمس سنين أو عشر سنين أو أقل من ذلك
أو أكثر، ويجب تحديد عدد السنين التي تراد المعاملة عليها بينهما، بحيث تكون
المدة مضبوطة لا تقبل الزيادة والنقصان، فيقول مالك الأصول للعامل مثلا: سلمت
إليك هذه الأصول لتسقيها وتعمل فيها عمل المساقاة وتأخذ الربع من حاصل
ثمرها مدة عشر سنين من هذا الوقت، أو يقول له: عاملتك على هذه الأصول لتسقيها
وتتعهد أمرها من هذا الوقت إلى نهاية بلوغ الثمر فيها من السنة العاشرة، ولك الربع
من حاصل ثمرها في كل عام من جميع هذه المدة، فإذا قبل العامل المساقاة على
القيود المعينة في المدة المذكورة صحت المعاملة، ولزم على الطرفين الوفاء بها
ما دامت المدة باقية.
(المسألة 100):
يظهر جليا من اطلاق بعض النصوص المعتبرة: أنه يجوز لصاحب الأصول
أن يدفع أصوله وشجره إلى العامل ليسقيها ويعمل فيها ما تحتاج إليه من أعمال
المساقاة ويأخذ الحصة المعينة له من حاصل ثمرها في كل سنة ما دامت الأصول
باقية في يد العامل من غير أن يعين لبقاء الأصول في يده مدة محدودة من الأشهر أو
313

السنين، وهذا أيضا هو الغالب والمتعارف بين العقلاء عامة في مختلف الأقطار
والبلاد، فإن المألوف والمعروف في ما بينهم جميعا أن أرباب البساتين والنخيل
يعاملون الفلاحين عليها من غير تحديد لمدة المعاملة، فهم يدفعون نخيلهم
وأشجارهم وبساتينهم وضيعاتهم إلى الأكارين والفلاحين ليسقوها ويعملوا فيها
ويأخذوا الحصص المعينة لهم من حاصل ثمرها في كل عام، وإذا أخذها العامل
منهم بقيت الأصول في يده يسقيها ويعمل فيها عمل المساقاة ويأخذ حصته
المحددة له ما دامت في يده، من غير أن يعين المالك أو العامل لذلك مدة وأجلا.
والذي يظهر من مجموع ذلك ومن الاطلاقات الواردة في هذا المجال: أن
المساقاة التي تكون بين المتعاملين في هذه الموارد تجري بينهما على نحو
الانحلال في عقد المساقاة ففي كل عام معاملة مستقلة، يلتزم المالك وعامل
المساقاة بأحكامها ولوازمها إذا هما بقيا على جريان المعاملة بينهما، فإذا بدا لهما
أو لأحدهما في ذلك فترك المساقاة بينه وبين صاحبه باختياره لم يلزمه القيام
بلوازمها وآثارها فليست المساقاة الجارية بين الطرفين مساقاة واحدة مستمرة
على الدوام ليجب الوفاء بها على الدوام كذلك.
(المسألة 101):
يشترط في صحة المساقاة التي تجري بين المتعاملين أن يكون السقي
والعمل الذي يقوم به عامل المساقاة مما يجدي نفعا في تقويم الأصول المساقى
عليها، أو في قوة نموها أو في كثرة الثمر أو في تحسينه، وقد سبقت الإشارة منا إلى
ذلك في المسألة السابعة والتسعين.
ونتيجة لهذا الشرط فتصح المساقاة إذا شرع العامل بالعمل في الأرض
314

وبسقي الأصول بعد غرس الأصول وقبل ظهور الثمر فيها واستمر بالعمل
والسقي إلى أن أدرك الثمر أوان بلوغه، وتصح المساقاة إذا ابتدأ به بعد أن ظهر
الثمر في الأصول وقبل أن يبلغ واستمر به إلى النهاية، ويشكل الحكم بصحة
المساقاة إذا شرع العامل في السقي بعد أن بلغ الثمر مبلغه، ولم يبق من الأعمال
التي يحتاج إليها غير جذاد التمر وقطف الثمر وتصفيته وتشميسه وحفظه ونحو
ذلك
ولا يترك الاحتياط في هذه الصورة بالرجوع إلى المصالحة والتراضي بين الطرفين.
(المسألة 102):
يشترط في صحة المساقاة أن تجعل في العقد لعامل المساقاة حصة معينة
من حاصل ثمر الأصول، والمراد بذلك أن تجعل له من مجموع الحاصل حصة
مقدرة بكسر معلوم: النصف منه أو الثلث أو غيرهما من الكسور المعلومة، فلا
تصح المساقاة إذا جعل له مقدار خاص مائة من من الثمر مثلا ليكون ذلك المقدار
نصيبه في المساقاة ويكون للمالك باقي الثمر، ويشترط في صحتها أن تكون
الحصة المعينة للعامل مشاعة في جميع الثمر ويكون جميع الحاصل مشتركا على
نحو الإشاعة بين الطرفين، فلا تصح المساقاة إذا عينت للعامل فيها ثمرة أشجار أو
نخيل معلومة فكانت ثمار تلك الأشجار أو النخيل حصته في المساقاة وللمالك
بقية الحاصل، ولا تصح المساقاة إذا جعل فيها جميع ما يحصل من ثمر، الأصول
ملكا للمالك أو للعامل خاصة، وإن شرط عليه في العقد أن يدفع لصاحبه مبلغا
معينا من المال، من جنس الحاصل أو من غيره.
(المسألة 103):
315

يجوز أن تجري معاملة المساقاة بين الرجلين على الوجه الصحيح الذي
ذكرناه فيكون حاصل الثمر مشتركا بين الطرفين، وتكون للعامل منهما حصته
المعينة له المشاعة من الحاصل، ويشترط مالك الأصول أو عامل المساقاة في
ضمن العقد أن يختص بأشجار أو نخيل معلومة من الأصول المساقى عليها فيكون
ثمرها له خاصة، ويكون الاشتراك بين الجانبين والحصة لصاحبه في بقية الثمر
فتصح المعاملة وينفذ الشرط إذا قبل به الطرفان.
ويجوز لأحدهما أن يشترط لنفسه في ضمن العقد أن يكون له مقدار معلوم
من المال من جنس الحاصل أو من غير جنسه يختص بهذا المقدار دون صاحبه
ويكون الاشتراك بينه وبين صاحبه في الباقي بعد اخراج ذلك المقدار، ويقسم
عليهما بحسب الحصة المعينة، فتصح المعاملة كذلك، وينفذ الشرط إذا قبل به
الطرفان وهذا إذا علم أن الثمر أكثر من المقدار الذي عينه المشترط منهما لنفسه
بحيث تبقى بعد إخراجه بقية يشترك فيها الطرفان ويقتسم بينهما بحسب الحصة
المعينة في العقد.
(المسألة 104):
سبقت الإشارة منا في المسألة السابعة والتسعين إلى أعمال كثيرة يحتاج
إليها في اصلاح النخيل والأشجار والبساتين لتنمية الأصول المغروسة في الأرض
وتقوية نموها، وزيادة ثمرها وتحسينه وصيانته من الآفات المضرات، وحفظه
من السراق ومؤثرات البيئة من حر وبرد ومطر ورطوبة وغير ذلك، حتى يستكمل
الغاية المطلوبة من المساقاة، غير سقي الأصول بالماء وتعهدها بالري الكامل حتى
تثمر وتنتج.
316

فمن الأعمال ما بعد من شؤون السقي ومقدماته، مثل حفر البئر في الأرض
أو استنباط العين فيها أو اخراج البئر الارتوازي، وشق النهر أو القناة واعداد
السواقي والمجاري للماء، ومثل جعل الناعور والدولاب واعداد الحبال والدلاء
والدواب، أو نصب المكائن التي تجذب الماء، ومثل بناء الحياض والمخازن التي
يجتمع فيها الماء ثم يقسم على أبعاض الأرض وأطرافها ليعم الأصول التي يجب
سقيها.
ومن الأعمال ما يعد من توابع السقي ومتمماته مثل تنقية السواقي التي
توصل الماء إلى الأصول، أو تخرج الفضلات والأملاح عنها بعد السقي، ومثل
كري النهر وتعمير البئر والعين إذا احتاجا إلى الاصلاح والتعمير.
ومنها ما يكون لغير ذلك مثل تسوير الضيعة والبستان، وحراثة الأرض
وتمهيدها لتثبت فيها الجذور والغراس، وتسميدها وإزالة الحشائش والنبات
الغريب الذي يضر بالأرض أو بالأصول، ومكافحة الآفات والطوارئ التي تقلل
الثمر أو تتلفه أو تضعفه، ومثل اعداد مواضع التشميس للثمر الذي يحتاج إلى
التشميس، والتصفية والتنقية من الحشف أو الثمار المتغيرة أو المتعفنة أو المعيبة
وتهيئة أماكن الحفظ للثمار من السرقة ومن طوارئ الحر والبر والمطر
وغيرها حتى تتم قسمتها أو نقلها وبيعها.
ولا بد من النظر والملاحظة في هذه الأعمال التي ذكرناها، فإن ثبت في
بعضها اعتياد عام بين العقلاء وأهل العرف من البلد، أو تعارف يوجب الانصراف
في العقد، ويعين بموجبه أن ذلك العمل مما يلزم على المالك خاصة أن يقوم به أو
مما يلزم على العامل خاصة وجب اتباع هذا الانصراف في عقد المساقاة وكان
317

قرينة عامة على إرادته ولزومه، وإن لم يثبت الانصراف المذكور وجب على
المتعاملين أن يعينا في ضمن العقد بينهما ما على المالك من هذه الأعمال وما على
العامل، وإذا لم يعينا شيئا بطلت المساقاة.
(المسألة 105):
تصح المساقاة بين المالك والعامل على أشجار لا تنتج ثمرا إذا كانت
الأشجار مما ينتفع بورقه انتفاعا يعتد به بين الناس، وينتج حاصلا يرغب فيه
العقلاء كشجر الحناء، وكالتوت الذكر يطلب ورقه ليأكله دود القز، وكشجر الورد
ينتفع بورده فيصعد منه ماء الورد ويستخرج منه عطر الورد، ويطلب لغير ذلك من
الغايات، وكبعض الأشجار التي يستحضر من ورقها أو من زهرها أو من حبها بعض
الأدوية النافعة في علم الصيدلة لعلاج بعض الأمراض، فإذا شاعت وتعارف
استعمالها لذلك، حتى أصبح نتاجا لها وحاصلا متعارفا بين أهل البلاد صحت
المساقاة على تلك الأشجار لتلك الغايات.
ولا تصح المساقاة على أشجار لا ثمر لها ولا ينتفع منها بورق ولا ورد ولا
غيره، كشجر الخلاف والصفصاف والأثل وما يشبهها.
(المسألة 106):
يشكل الحكم بجريان عقد المساقاة المصطلحة بين الفقهاء (قدس الله
أنفسهم) على سقي أصول غير ثابتة في نظر أهل العرف وإن كان مزروعة نابتة
الجذور في الأرض كالبطيخ والخيار واليقطين والباذنجان والفلفل والقطن وما
يشبه ذلك، وإن كان القول بجريان المساقاة فيها لا يخلو من قرب، والأحوط
للمتعاقدين إذا أرادا اجراء المعاملة في مثل هذه المزروعات أن ينشئاها على أنها
318

معاملة مستقلة غير المساقاة والمعاملات الأخرى، فتشملها العمومات على
الأصح ويجب الوفاء بها.
(المسألة 107):
يجوز انشاء عقد المساقاة على أشجار أو نخيل غير محتاجة إلى سقي من
العامل أصلا لأنها تكتفي من الري بماء السماء، أو بمص جذورها مما ينز من مياه
الأرض أو من الأنهار القريبة أو بارتفاع مد الماء إذا كانت في بلاد يتعاقب فيها المد
والجزر، ولكنها تحتاج إلى تعهد بأعمال أخرى من أعمال المساقاة تزيد في نمو
الأصول أو في ثمرها أو غير ذلك مما تحتاج إليه الأصول عادة، فإذا أوقع المالك
مع العامل عليها عقد المساقاة لذلك صح العقد، ووجب على العامل أن يقوم
بالأعمال التي تحتاج إليها حسب ما يشترطه المالك عليه أو حسب ما تلزم به
العادة المتبعة في البلد، فإذا قام بذلك استحق الحصة المعينة له من الحاصل وأن لم
يسق الأصول بالماء حتى مرة واحدة وتراجع المسألة المائة والثانية والعشرون.
(المسألة 108):
لا يعتبر في صحة المساقاة أن تكون الأصول المساقى عليها مما تثمر
بالفعل، فإذا غرس المالك في أرضه فسيل نخيل أو ودي شجر، وثبتت جذورها في
الأرض صح له أن يعامل أحدا على سقيها والعمل فيها حتى تنمو وتثمر، ويجب
في هذا الفرض أن يجعل للمساقاة عليها مدة معلومة تكون فيها الأصول مثمرة
بالفعل، فيعين للمساقاة على فسيل النخل مدة ست سنين أو أكثر ويعين للمساقاة
على ودي الشجر مدة تكفي لذلك، ولا تصح المساقاة إذا لم تعين لها مدة، أو كانت
المدة التي عينها قليلة لا تكفي لذلك، وإذا عين لها مدة كافية صحت المساقاة، وإن
319

اتفق أن الأصول لم تثمر في تلك المدة إلا مرة واحدة، والظاهر عدم الصحة إذا اتفق
أنها لم تثمر في المدة حتى مرة واحدة.
(المسألة 109):
لا تصح المساقاة على فسيل نخيل أو ودي شجر لم يغرس بعد في الأرض
وإن عينت للمعاملة عليه مدة طويلة تكفي عادة لغرس الفسيل والودي ولنموه
وأثماره، إذا أوقع المعاملة عليها كانت باطلة.
وإذا دفع مالك النخيل أو البستان نخيله أو شجره الثابتة الموجودة بالفعل
إلى عامل ليسقيها له ويعمل فيها بحصة معلومة من حاصل ثمرها صحت المساقاة
على الأصول المعلومة الثابتة بالفعل، فإذا كان للنخيل والشجر المدفوع إليه فسيل
أو ودي لم يغرس بعد لم تشمله مساقاة أصوله، وإذا غرسه العامل أو المالك حتى
ثبت في الأرض أمكن للمتعاقدين أن يجريا على هذا الغراس مساقاة أخرى
تختص به، وأمكن لهما أن يتقايلا فيفسخا معا ملتهما الأولى، وينشئا مساقاة
جديدة تشمل الجميع.
وإذا كانت المساقاة الأولى التي أنشئت بينهما كانت على سقي الأصول
الثابتة في البستان، ولم يقيدها بالموجودة منها بالفعل شملت المساقاة الأولى هذه
الأصول الجديدة بالتبع بعد غرسها وثباتها فيجب على العامل سقيها ويستحق
الحصة من حاصلها مع بقية حاصل البستان.
(المسألة 110):
يصح للمالك والعامل أن ينشئا ما بينهما في الفسيل والودي الموجود غير
المغروس معاملة مستقلة عن سائر العقود والمعاملات، يلتزم العامل فيها للمالك
320

بأن يغرس له الفسيل والودي في أرضه ويسقيه حتى يثبت ويؤتي ثمره، وتكون
للعامل حصة معلومة من حاصل ثمره، ويتم على الايجاب والقبول من
المتعاقدين، فتصح هذه المعاملة ويلزمهما الوفاء بها، ولا تكون من المساقاة
المصطلحة بين الفقهاء.
(المسألة 111):
إذا كانت الأرض أو البستان الذي يملكه الرجل يحتوي على أنواع عديدة
من الأصول المغروسة، ففيه النخيل وفيه الكرم وشجر الرمان والتفاح وبعض
الفواكه الأخرى، جاز لمالك البستان أو الأرض أن يساقي العامل على سقي جميع
ما فيه من النخيل والأشجار المختلفة ويجعل له في عقد المساقاة حصة معينة
واحدة من حاصل جميع ما ينتجه البستان من مختلف أنواع الأصول والشجر فيه،
فيقول للعامل: سلمت إليك هذا البستان لتسقي ما فيه من النخيل والأشجار
المختلفة وتقوم فيه بعمل المساقاة الذي يحتاج إليه عادة، ولك الربع مثلا من
جميع ما تنتجه النخيل والشجر من التمر والثمار المختلفة، فإذا قبل العامل ايجابه
صحت المساقاة ولزم الطرفين الوفاء بها.
ولا يشترط في هذه الصورة أن يعلم العامل ولا المالك بمقدار كل نوع من
الأنواع الموجودة في البستان على الانفراد، ولا يشترط فيها أن يعلم بعدد ما في
البستان من النخيل والشجر الذي تجري المعاملة واستحقاق الحصة من نتاجه، بل
يكفي في الصحة أن يكون الجميع مشاهدا معلوما على وجه الاجمال لكل من
الجانبين.
(المسألة 112):
321

ويصح لمالك البستان الذي ذكرناه في المسألة الماضية أن ينشئ العقد مع
عامل المساقاة على سقي جميع أصوله وتعهدها بالأعمال التي تحتاج إليها في
مثل هذه المساقاة وتعين له حصصا مختلفة باختلاف الأنواع الموجودة في
البستان، فيقول له: اسق نخيل هذا البستان، وأشجاره الموجودة فيه وتعهد أمرها
بما تحتاج إليه من الأعمال والرعاية، ولك الربع من ثمر النخيل، والثلث من
حاصل العنب، والنصف من الرمان وبقية الفواكه الموجودة في البستان، فتصح
المعاملة على ذلك إذا قبلها العامل، والظاهر أنه يشترط في صحة المساقاة في هذه
الصورة أن يعلم الطرفان بمقدار كل نوع من الأنواع الموجودة في البستان على
انفراده ولا يكفي أن يعلم بمقدار الجميع.
(المسألة 113):
يجوز لمالك الأصول أن يساقي العامل على أحد وجهين معلومين ليختار
العامل أي الوجهين أراده، ويجعل له حصة معينة من الحاصل إذا اختار أحد
الوجهين، ويجعل له حصة معينة غيرها أقل من الأولى أو أكثر إذا هو اختار الوجه
الثاني، فيقول للعامل: عاملتك على أن تسقي هذه الأصول وتعمل في سقايتها
ورعايتها بما تحتاج إليه من الأعمال المطلوبة عادة في المساقاة، فإن سقيتها
بالناضح أو بالمكينة فلك النصف تاما مما تنتجه الأصول من الحاصل والثمر، وإن
سقيتها سيحا فلك الثلث فقط من الحاصل، فإذا قبل العامل منه ذلك صح العقد
وتخير بين الوجهين المذكورين فإذا سقى الأصول على الوجه الأول استحق
النصف من الحاصل، وإذا سقاها على الوجه الثاني استحق الثلث منه، ويكون ذلك
من الأمر على وجه التخيير، فيلتزم عامل المساقاة للمالك بأن يأتي له بأحد
322

الفردين، ويلتزم مالك الأصول للعامل بالحصة التي عينها له على الفرد الذي
يختاره منهما، ولا يكون ذلك من العقد على أمر مردد فيكون باطلا كما يراه بعض
الأكابر، وقد سبق نظير هذا في كتاب الإجارة.
(المسألة 114):
يصح أن يكون مالك الأصول في عقد المساقاة واحدا ويكون العامل
متعددا، فيقول المالك للعاملين: اسقيا لي هذه الأصول واعملا فيها بما يصلحها
ويثمرها ويصلح ثمرها على ما جرت به العادة بين عمال المساقاة، ولكما الربع
مثلا من جميع ما يحصل من ثمرها، ولي ثلاثة أرباعه فإذا قبل العاملان منه ايجابه
صح العقد ولزم الجميع الوفاء به، سواء اتفق العاملان بينهما على أن يقتسما
الحصة التي عينها المالك لهما وهي الربع بالتساوي فيكون لكل واحد منهما نصف
الحصة وهو ثمن الحاصل، أم اتفقا على أن يقتسما الحصة، بينهما بالتفاوت
وسواء علم المالك بمقدار ما يأخذه كل واحد منهما من حصة العامل أم لم يعلم
فتصح المساقاة ويلزم الوفاء بها بعد أن علم الجميع بمقدار حصة العاملين معا
وبمقدار حصة المالك من مجموع الحاصل، وكذلك إذا جعل للعاملين الثلث أو
النصف أو غير ذلك من الحصص وله الباقي فيتبع ما عين في العقد.
(المسألة 115):
إذا ساقى مالك الأصول على نخيله وشجره عاملين كما فرضتا في المسألة
السابقة واتفق المالك مع العاملين على أن يختص أحدهما ببعض أعمال المساقاة
فيأتي به مستقلا عن صاحبه وينفرد العامل الثاني بالأعمال الأخرى منها أو يشترك
فيه مع الأول، وجب أن يذكر ذلك في ضمن العقد، وإذا عينه كذلك وجب اتباعه
323

حسب ما عين واشترط، وإذا ذكر الأعمال ولم يشترط عليهما الانفراد أو الاشتراك
فيها جاز للعاملين أن يقتسما العمل بينهما حسب ما يريدان، سواء علم المالك
بذلك أم لم يعلم.
(المسألة 116):
يمكن أن يتعدد المالك للأصول ويتحد العامل في المساقاة، ومثال ذلك أن
تكون النخيل والشجر في الضيعة أو البستان مملوكة لشريكين أو أكثر، فيساقون
على أصولهم المشتركة بينهم عاملا واحدا، فيقول له أحد الشركاء فيها بالأصالة
عن نفسه وبالوكالة عن شركائه أو يقول له الوكيل عنهم: اسق هذه الأصول الثابتة
وقم بأعمال المساقاة فيها وفي الأرض، ولك الربع مثلا من جميع ما تنتجه
الأصول من الثمر، فإذا قبل العامل ايجابه صحت المعاملة وتثبت له الحصة المعينة
سواء تساوى الشركاء في مقدار ما يملكونه من الأصول أم تفاوتوا فيه، ولا يشترط
في صحة المساقاة في هذه الصورة أن يعلم العامل بمقدار ما لكل واحد من الشركاء
في الأصول.
ويجوز أن تختلف الحصة التي تجعل للعامل باختلاف الشركاء فيقول
الشريك للعامل: اسق هذه الأصول المشتركة بيني وبين زيد وقم بأعمال المساقاة
فيها، ولك الثلث من حاصل الثمر مما أملكه أنا من هذه الأصول، ولك الربع فقط
من حاصل الثمر في حصة زيد منها، فإذا قبل العامل منه الايجاب صحت المعاملة
ونفذت، ويشترط في صحة المعاملة في هذه الصورة أن يكون العامل عالما بمقدار
ما يملكه كل واحد من الشريكين في الأصول، فإن المفروض أن حصة العامل من
الثمر تختلف باختلاف مقدار حصتي المالكين من الأصول وهذا واضح.
324

(المسألة 117):
يصح أن يتعدد مالك الأصول المساقى عليها بأن تكون مشتركة بين مالكين
أو أكثر، وأن يتعدد عامل المساقاة كذلك، فيساقي الشريكان في الأصول عاملين أو
أكثر فيقول أحد المالكين على النهج الذي قدمنا ذكره للعاملين: اسقيا هذه الأصول
المشتركة ما بيننا وتعهدا أمرها بالأعمال التي تحتاج إليها المساقاة عادة، ولكما
الربع أو الثلث من حاصل الأصول وثمرها، فتصح المساقاة وتلزم، إذا قبل العاملان
إيجاب الموجب وتجري فيها الفروض والأحكام التي فصلناها في المسائل
المتقدمة قريبا.
(المسألة 118):
يشترط في صحة المساقاة أن تكون الأصول المساقى عليها قابلة للأثمار
والانتاج، فلا تصح المساقاة عليها إذا كانت غير قابلة لذلك لطول بقاء أو جفاف
عروق أو يبس أغصان، أو لغير ذلك من موانع الانتاج، سواء كانت غير قابلة له من
أول الأمر ومن حين اجراء العقد، أم عرض ذلك لها في أثناء مدة المساقاة
فأصبحت غير صالحة، وهذا إذا لم يمكن علاجها واصلاحها حتى ينتفع بها، فإذا
أمكن ذلك صحت المساقاة عليها، واتبع الشرط بين المتعاقدين في لزوم العلاج
والاصلاح على المالك أو العامل.
325

[الفصل الخامس]
[في أحكام عقد المساقاة]
(المسألة 119):
المساقاة عقد من العقود اللازمة فلا يبطل ولا ينفسخ إذا تم انشاؤه
واجتمعت شروط الصحة فيه، إلا إذا اتفق المتعاقدان، فأقال أحدهما صاحبه، أو
ثبت لواحد منهما أو لكليهما خيار الشرط، فيجوز لمن ثبت له الخيار أن يأخذ
بحقه، فيفسخ العقد في الوقت الذي شرط لنفسه فيه الخيار، أو عند حصول الشئ
الذي اشترط لنفسه الخيار عند حصوله، أو كان له خيار الفسخ شرعا لتخلف شرط
قد اشترطه في ضمن العقد على صاحبه، أو لوجود غبن عليه في المعاملة الجارية
بينهما، أو لسبب آخر من موجبا الخيار شرعا حسب ما فصلناه في مبحث
الخيارات من كتاب التجارة، وتبطل أيضا عند طروء مانع عام يوجب عدم القدرة،
وقد تقدم ذكر هذه الموجبات للبطلان أو الفسخ في أكثر العقود اللازمة التي
ذكرناه في هذه الرسالة، فليرجع إليها من يريد المزيد من التوضيح.
(المسألة 120):
326

إذا جرى عقد المساقاة بين مالك الأصول وعامل المساقاة على الوجه التام
وجب عليهما الوفاء بالعقد حسب ما حصل عليه الاتفاق بينهما، ولزم على العامل
أن يقوم بالعمل من سقي للأصول وغيره، ولا يتحتم عليه أن يتولى القيام بالأعمال
اللازمة في المعاملة بنفسه، فيصح له أن يستأجر أجيرا ليسقي الأصول لبعض
الأعمال اللازمة الأخرى من تلقيح ثمرة وجذاذ تمر وقطف فاكهة ونحو ذلك، بل
ويجوز له أن يستأجر من يقوم بجميع أعمال المساقاة وإذا استأجر من يقوم له
ببعض الأعمال أو بجميعها، فالأجرة عليه لا على مالك الأصول، وهو واضح.
وإذا اشترط المالك على العامل أن يتولى بعض الأعمال المعينة بنفسه بنحو
المباشرة، أو اشترط عليه أن يتولى جميع أعمال المساقاة كذلك، وجب على
العامل أن يفي بما شرط عليه، ولم يجز له أن يستأجر غيره أو يستنيبه للعمل الذي
شرط عليه المباشرة فيه.
(المسألة 121):
إذا تبرع رجل عن عامل المساقاة فقام بسقي النخيل والشجر وأتى بأعمال
المساقاة اللازمة على العامل، وقصد بفعله التبرع للعامل بفعل ما وجب عليه، كفى
ذلك في وفاء العامل بالعقد واستحق بفعل المتبرع الحصة التي عينها له المالك من
الثمر، إلا إذا كان المالك قد اشترط على العامل أن يتولى السقاية والعمل بنفسه، فلا
يكفيه تبرع ذلك الشخص مع هذا الشرط.
وكذلك إذا أتى ذلك الشخص الثالث بعمل المساقاة لنفسه ولم يقصد بفعله
التبرع عن العامل، فلا يستحق العامل الحصة بذلك، ولا يستحقها الشخص الثالث
وكذا إذا قام الشخص الثالث بالعمل وقصد به التبرع لمالك الأصول بسقي نخيله
327

وشجره والعمل فيها لبعض الغايات والأغراض الخاصة، فلا يستحق العامل
الحصة المعينة له في عقد المساقاة ولا يستحقها ذلك الشخص الثالث المتبرع.
(المسألة 122):
إذا دفع المالك نخيله وشجره إلى العامل ليسقيها بالماء حتى تثمر، وعين له
بذلك حصة خاصة من حاصل ثمرها، ولم يذكر في العقد أي عمل آخر غير السقي
من أعمال المساقاة ولم توجد قرينة خاصة ولا عامة على إرادة شئ من هذه
الأعمال، ثم اتفق أن استغنت الأصول عن سقاية العامل مطلقا، فقد اكتفت عنها
بماء المطر الغزير، أو بجريان بعض العيون الدافقة أو بماء المد، فلم يسقها العامل
أبدا حتى أثمرت، لم يستحق العامل الحصة التي عينت له من حاصلها، فإنه لم يسق
الأصول، ولم يأت بشئ من عمل المساقاة كما فرضناه، وإن هو أتى بشئ من
الأعمال فهو متبرع به ولا يستحق عليه حصة بمقتضى عقد المساقاة، وتلاحظ
المسألة المائة والسابعة.
(المسألة 123):
إذا وقع الاتفاق بين الشخصين على المساقاة وجرى العقد بينهما على
الوجه الجامع لشرائط الصحة ثبت العقد ولزم الوفاء به، ولم يبطل بموت أحد
المتعاقدين، بل يقوم وارث الميت منهما مقام مورثه في تطبيق الأحكام على النهج
الذي يأتي تفصيله.
فإذا مات مالك الأصول وبقي العامل وجب على ورثة المالك الميت أن
يمكنوا العامل من الأصول المساقى عليها ليقوم بعمل المساقاة فيها من سقاية
ورعاية ولا يجوز لهم منعه من ذلك فإذا قام بالعمل وأثمرت الأصول استحق
328

العامل حصته المعينة له من حاصل الثمر، فإذا طلب منهم قسمة الحاصل قاسموه
ودفعوا له حصته
وإذا مات عامل المساقاة وبقي مالك الأصول قام وارث العامل الميت مقام
مورثه، فإذا اختار أن يقوم بعمل المساقاة بنفسه بعد موت مورثه جاز له ذلك وأتم
مالك الأصول معه معاملة المساقاة، وإذا اختار وارث العامل أن يستأجر شخصا
غيره ليقوم بالعمل جاز له ذلك، ولم يجبره مالك الأصول على أن يعمل فيها بنفسه
فإذا استأجر أجيرا وقام الأجير بالعمل حتى أتمه صح ذلك ولزمته الأجرة في ماله
واستحق الحصة المعينة في عقد المساقاة لمورثه.
وإذا امتنع وارث العامل بعد موت مورثه فلم يعمل بنفسه ولم يستأجر
أجيرا ليعمل عنه، قام الحاكم الشرعي بما يلزم فاستأجر من تركة العامل الميت
أجيرا يقوم بالعمل في الأصول المساقى عليها حتى يبلغ الثمر، فإذا أتم الأجير
عمله تولى الحاكم قسمة الحاصل بين مالك الأصول ووارث العامل ودفع لكل
واحد منهما حصته.
(المسألة 124):
إذا مات عامل المساقاة وكان مالك الأصول قد اشترط على العامل في
ضمن العقد الجاري بينهما أن يتولى عمل المساقاة بنفسه، فإن كان اشتراطه لذلك
بنحو التقييد للمساقاة ووحدة المطلوب فيها بطلت المساقاة بموت العامل، فإن
وارث العامل لا يقدر على تأدية عمل المساقاة بنفسه ولا باستئجار غيره بسبب
القيد المذكور.
وإن كان اشتراطه لذلك بنحو تعدد المطلوب تخير مالك الأصول بعد موت
329

العامل بين أن يفسخ المعاملة لتخلف شرطه فإذا فسخها بطلت وارتفعت لوازمها
وأحكامها، وأن يسقط حقه من الشرط المذكور ويرضى من وارث العامل بأن
يتولى عمل المساقاة بنفسه أو يستأجر أجيرا يقوم به، وليس للمالك أن يجبر
الوارث على أحدهما، بل يكون مخيرا بينهما.
(المسألة 125):
إذا شرط المتعاملان في عقد المساقاة أن تكون جميع الأعمال فيها على
مالك الأصول من سقي وغيره ولا شئ منها على العامل فلا ريب في بطلان هذه
المعاملة من أصلها، فإن العامل في هذا الفرض لا يقوم بأي عمل حتى يستحق عليه
حصته من الثمر وإذا قام بشئ منها فهو متبرع بفعله لا يستحق عليه عوضا.
(المسألة 126):
إذا شرط المتعاقدان في المساقاة بينهما أن يقوم العامل ببعض الأعمال
المعينة وكانت الأعمال التي اشترطت عليه مما توجب الزيادة في مقدار الثمر أو
مما توجب صلاح الثمرة وتحسينها، وأن يكون باقي الأعمال كلها على مالك
الأصول، فالظاهر صحة المعاملة ونفوذها فيجب على كل واحد من المتعاقدين أن
يفي بما شرط عليه، وإذا قام العامل بما شرط عليه من الأعمال استحق حصته
المعينة له من الحاصل.
(المسألة 127):
إذا شرط المتعاقدان في المعاملة الجارية بينهما على العامل أعمالا خاصة
وكانت الأعمال المشترطة عليه لا توجب زيادة في مقدار الثمر ولا صلاحا أو
حسنا فيه، مثل جذاذ الثمر وقطف التمر وجمعه وحفظه من السراق حتى تتم
330

قسمته ونقله، وأن تكون بقية الأعمال كلها على مالك الأصول، حتى الأعمال التي
تزيد في الثمر وفي صلاحه وفي نمو الأصول وثباتها، أشكل الحكم بصحة
المساقاة في هذه الصورة، ولا يترك الاحتياط بالرجوع فيها إلى المصالحة
والتراضي بين الطرفين، وكذلك إذا وقعت المساقاة بين الطرفين بعد أن أدرك الثمر
في الأصول وتم بلوغه، ولم يبق من الأعمال للعامل إلا مثل جذاذ التمر وقطف
الثمار وجمع الحاصل وحفظه فلا يترك الاحتياط الذي ذكرناه في الفرض السابق.
(المسألة 128):
إذا شرط مالك الأصول على عامل المساقاة في ضمن العقد أن يأتي ببعض
الأعمال المعينة، وكان شرطه عليه بنحو تعدد المطلوب في المعاملة وليس على
نحو التقييد فيها، ثم ترك العامل ذلك العمل الذي شرطه المالك عليه، جاز للمالك
اجبار العامل على الاتيان به إذا كان وقت العمل لا يزال باقيا ولم يفت، فإن لم
يستطع اجباره على فعله، أو كان العمل قد فات وقته، جاز للمالك أن يفسخ عقد
المساقاة لتخلف الشرط الذي أخذه على العامل، ولا يحق للمالك أن يترك فسخ
المعاملة ويطالب العامل بأجرة ذلك العمل الذي تركه، سواء كان العمل الذي
اشترطه المالك مما يتعلق بالمساقاة، كما إذا اشترط عليه أن ينظف السواقي التي
يجري فيها الماء إلى الأصول، أو يكافح بعض الآفات التي تضر بالثمر، أم كان
العمل زائدا لا يتعلق بالمساقاة نفسها، كما إذا شرط عليه أن يخيط له ثوبا أو يصوم
عن أبيه أياما، وسنتعرض لحكم المساقاة إذا خالف العامل فترك بعض قيودها
والأعمال المعتبرة فيها.
331

(المسألة 129):
إذا اشترط العامل في ضمن عقد المساقاة أن يكون جميع ما يحصل من ثمر
الأصول للعامل نفسه ولا يكون منه لمالك الأصول شئ كانت المعاملة باطلة وكان
جميع الثمر والنتاج لمالك الأصول، لأنه نماء ما يملكه فيكون تابعا له، وإذا قام
العامل بعمل المساقاة أو ببعضه استحق أجرة المثل بمقدار ما عمل.
وكذلك إذا اشترط في العقد أن يكون جميع الحاصل من الثمر لمالك
الأصول، ولا يكون لعامل المساقاة منه شئ، فتبطل المساقاة بهذا الشرط ويكون
الحاصل كله لمالك الأصول لأنه نماء ما يملكه فيكون تابعا له كما قلنا، وليس ذلك
للعمل بالشرط، والظاهر أن العامل في هذه الصورة لا يستحق شيئا على عمله، فإنه
قد دخل في المساقاة وقام بالعمل على شرط أن لا تكون له حصة فهو كالمتبرع
بعمله، ولا ينبغي ترك الاحتياط بالرجوع إلى المصالحة والتراضي بين الطرفين.
(المسألة 130):
يجوز أن يشترط في عقد المساقاة أن يكون لمالك الأصول مقدار معلوم من
الذهب أو الفضة أو غيرهما زائدا على حصته المعينة له في المعاملة من حاصل
الثمر، ويجوز أن يشترط ذلك لعامل المساقاة، فإذا اشترط مالك الأصول ذلك
لنفسه وقبل العامل بشرطه، أو شرطه العامل لنفسه وقبل به المالك صح الشرط
ووجب الوفاء به.
قالوا: ويكره أن يشترط المالك لنفسه على العامل شيئا من الذهب أو الفضة
ولم يدل على كراهة ذلك دليل سوى ما نقله بعضهم من الاجماع عليها، وعلى أي
حال فلا كراهة في أن يشترط المالك لنفسه شيئا غير الذهب والفضة، ولا كراهة في
332

أن يشترط العامل لنفسه ذهبا أو فضة أو غيرهما على مالك الأصول.
(المسألة 131):
إذا اشترط مالك الأصول لنفسه على العامل أن يكون له من الحاصل مقدار
من الذهب أو من الفضة أو من غيرهما زائدا على ما يستحقه من الحصة المعينة له
في عقد المساقاة، أو اشترط العامل لنفسه مثل هذا الشرط على مالك الأصول، ثم
اتفق أن حالت الأصول كلها في ذلك العام فلم تخرج ثمرا أصلا، بطل عقد المساقاة
الواقع بينهما من أصله، وسقط الشرط الذي شرطه المالك أو العامل، فقد ظهر أنه
شرط وقع في ضمن عقد فاسد، فلا يجب الوفاء به، وإذا اشترط أحد المتعاقدين
ذلك الشرط في ضمن العقد، ثم اتفق أن حال بعض الأصول المساقى عليها: نصفها
أو ثلثها أو ربعها مثلا فلم يثمر شيئا في ذلك العام، بطلت المساقاة بين المتعاقدين
في ذلك البعض الذي لم يثمر، وصحت ولم تبطل في البعض لآخر الذي أثمر
فيستحق كل واحد من المالك والعامل حصته المعينة له من ثمرة ذلك البعض.
والظاهر أن شرط المقدار من الذهب أو الفضة للمالك أو العامل يسقط في
هذه الصورة أيضا كما سقط في الصورة السابقة، فلا يستحق المشترط شيئا من
المقدار لا من البعض الحائل من الشجر ولا من البعض الذي أثمر، فإن المنصرف
إليه من مثل هذا الشرط أن الشارط إنما يشترطه في المعاملة الجارية في جميع
الأصول، ولا يجري في المعاملة المبعضة التي يبطل بعضها ويبقى بعضها.
وإذا كان الحائل من الأصول قليلا لا يعتنى به عند العقلاء لقلته كالشجرة
الواحدة والشجرتين، بل والثلاث والأربع من الشجر الكثير المثمر في البستان
الكبير لم تبطل به المساقاة، ولم يسقط الشرط فإن من المعتاد والمتعارف أن تحيل
333

الشجرة والشجرتان والثلاث من مجموع الشجر الكثير فلا تثمر، ولا يضر عدم
أثمارها في صحة عقد المساقاة.
(المسألة 132):
إذا شرط مالك الشجر لنفسه على عامل المساقاة أن يكون له مقدار من المال
زائدا على حصته في المعاملة، أو شرط العامل ذلك لنفسه على المالك كما فرضنا
في المسألة السابقة وظهر الثمر في الشجر تاما، ثم اتفق بعد ذلك أن تلفت الثمرة
كلها ولم يبق منها شئ، لم يبطل عقد المساقاة بتلفها بعد ظهورها، فإن العامل قد
ملك حصته من الحاصل بظهور الثمرة وسيأتي توضيح ذلك قريبا إن شاء الله تعالى
وكذلك حصة مالك الأصول من الثمرة، فقد تعينت له بالظهور، وبذلك تصح
المعاملة وتتم المعاوضة، والتلف الذي يحدث بعد ذلك يطرأ على كل من حصة
العامل وحصة المالك بعد أن ملكها صحبها الذي عينت له في العقد، ويكون تلف
كل حصة منهما من مال صاحبها، ولا سبب يوجب فساد العقد، وإذا صح العقد كما
بينا صح الشرط الواقع في ضمنه ووجب الوفاء به، ويستثنى من ذلك ما إذا كان
الشارط منهما أو صاحبه قد قيد الشرط بما إذا سلمت له الثمرة كلها ولم يتلف منها
شئ، فيجب في هذه الصورة أن يتبع الشرط حسب ما جعل وقيد في ضمن العقد
بين المتعاملين، ويسقط الشرط إذا تلفت الثمرة.
وكذلك الحكم إذا تلف البعض المعتد به من الثمرة بعد ظهورها، فلا تبطل
المعاملة ولا يسقط الشرط بتلفه، إلا إذا كان الشرط مقيدا بعدم تلف الثمرة وعدم
تلف البعض المعتد به منها، ويتبع في ثبوت التقييد المذكور تصريح المتعاقدين به
أو وجود القرينة الخاصة أو العامة التي تدل عليه.
334

(المسألة 133):
إذا أنشأ المالك عقد المساقاة بينه وبين العامل على أن يسقي له شجره
ونخيله التي دفعها إليه، ويعمل فيها عمل المساقاة، وجعل له حصة معلومة من
حاصل الثمر، وجعل له مضافا إلى ذلك حصة معينة مشاعة أو مفروزة من الأصول
المساقى عليها، فإن قصد بذلك أن الحصة التي دفعها للعامل من الأصول جز، من
العوض له في المعاملة، وأن مجموع الحصة من الحاصل والحصة التي عينها له من
الأصول يكون نصيبا له في عقد المساقاة، كانت المعاملة باطلة فلا يستحق العامل
شيئا من الأمرين، وإن جعل الحصة من الأصول للعامل بنحو الاشتراط له في ضمن
العقد، صح العقد والشرط، فتكون للعامل حصته المعينة له من الثمر بمقتضى
المساقاة، وتكون له تلك الحصة المذكورة من الأصول بمقتضى الشرط، والأحوط
للعامل أن لا يختص بنماء تلك الحصة في ذلك العام بل يكون ثمرها فيه للطرفين
بحسب الحصة المعينة لهما، ثم يختص بها وبنمائها بعد ذلك العام.
(المسألة 134):
إذا وقع عقد المساقاة بين المتعاملين، وشرع العامل في سقي الأصول أو في
غيره من أعمال المساقاة، ثم استبان للطرفين أن الشجر لا يثمر شيئا في ذلك العام
بطل عقد المساقاة بينهما على الظاهر، وقد سبق منا ذكر هذا، ولم يجب على
العامل أن يتم سقي الأصول وأعمال المساقاة الأخرى في ذلك العام
(المسألة 135):
إذا بطلت المساقاة بين المتعاقدين في أثناء المدة لبعض الطوارئ أو
الأسباب التي توجب البطلان شرعا، كان الثمر الموجود في الشجر كله مملوكا
335

لمالك الأصول لأنه نماء شجره فيكون تابعا له في الملك، وتثبت للعامل على
المالك أجرة المثل لعمله الذي قام به ومنفعته التي استوفاها المالك، ويستثنى من
ذلك ما إذا علم العامل بأن المساقاة بطلت فلا يجب عليه الوفاء بها، فأتى بالعمل
بقصد التبرع به، ويستثنى من ذلك أيضا ما إذا كان السبب في بطلان المساقاة هو
اتفاق الطرفين على أن يكون جميع ما ينتج من الشجر للمالك خاصة ولا شئ منه
للعامل، فإن العامل في هذا الفرض قد أتى بالعمل على أن لا تكون له حصة من
الحاصل، فهو بمنزلة المتبرع بعمله فلا يستحق عليه أجرة، وقد مر ذكر هذا الفرض
الأخير في المسألة المائة والتاسعة والعشرين.
(المسألة 136):
يجوز لأحد المتعاملين أن يشترط على الثاني في عقد المساقاة بينهما أن
يجري معه مساقاة أخرى على أصول أخرى، فإذا قبل صاحبه بالشرط صح العقد
الأول وصح الشرط ولزم الوفاء بهما، ومثال ذلك أن يقول مالك الأصول للعامل:
سلمت إليك بستاني هذا لتسقي أصوله وتعمل فيه عمل المساقاة، ولك النصف من
الثمر الذي يحصل من شجره ونخيله، واشترطت عليك أن تساقيني في بستاني
الثاني فتسقي أصوله تعمل فيه ولك الربع مثلا من ثماره، فإذا قبل العامل ذلك
صحت المساقاة ولزم الوفاء بالشرط المذكور فيها.
وكذلك إذا أنشأ العامل العقد فكان هو الموجب وهو المشترط، فقال
لصاحب البستان: تسلمت منك هذا البستان لأسقي لك أصوله وأعمل فيه عمل
المساقاة ولي الربع من حاصل شجره ونخيله، وأشترط عليك أن تساقيني في
بستانك الآخر على النصف من ثمره، فتصح المساقاة والشرط إذا قبل المالك بهما.
336

ومن أمثلة ذلك أيضا أن يقول الرجل للعامل: عاملتك على أن تسقي شجر
بستاني هذا ونخيله وتعمل فيه حتى يثمر الشجر والنخيل ويكون لك الثلث
مثلا من جميع حاصله، وأشترط عليك أن تساقيني في بستانك المعلوم لأسقي لك
أصوله وأعمل فيه بالربع من حاصله، فتصح المعاملة والشرط إذا وقع القبول من
الآخر، ويكون المالك في المساقاة الأولى عاملا في الثانية وبالعكس، وكذلك
إذا أنشأ العامل الايجاب واشترط على صاحبه مثل ذلك الشرط فيصحان ويلزمان
إذا حصل القبول.
ومن أمثلة ذلك أن يقول المالك للعامل: أعاملك على أن تسقي شجر
بستاني هذا ونخيله وتعمل فيه ولك النصف من تمره وتمره على أن تساقي أخي
زيدا فتسقي له شجر بستانه ونخيله وتعمل فيه ولك الثلث من حاصله، فتصح
المساقاة والشرط حسب ما ذكر إذا قبل العامل بهما.
ومثله ما إذا قال العامل لصاحب البستان: تسلمت منك شجر بستانك هذا
ونخيله لأسقيها وأعمل لك فيها حتى تثمر ولي الربع من حاصل الثمر، واشترطت
عليك أن تساقي ابن عمي بكرا في بستانك الثاني ليسقي أصوله ويعمل فيها حتى
تثمر بالربع من حاصل الثمر، فتصح المساقاة والشرط إذا قبل المالك.
(المسألة 137):
إذا جرى عقد المساقاة بين مالك الأصول وعامل المساقاة، وترك العامل
الوفاء بالعقد من أول الأمر فلم يسق ولم يعمل في البستان شيئا، أو ترك السقي
والعمل في أثناء المدة بعد أن قام بهما في أول الأمر، جاز لمالك الأصول أن يجبر
العامل على العمل بالمساقاة والوفاء بها، فإن هو لم يقدر على اجباره ولو بمراجعة
337

الحاكم الشرعي، جاز له أن يفسخ المعاملة، سواء كان قد اشترط على العامل أن
يباشر العمل بنفسه أم لم يشترط، ولا يحق له أن يقاصه من ماله عن العمل الذي
تركه أو يستأجر عند أجيرا يقوم بالعمل ثم يرجع عليه بأجرة الأجير.
(المسألة 138):
إذا تم عقد المساقاة بين المالك وعامل المساقاة على وجه جامع لشروط
الصحة، ملك العامل حصته المعينة له في العقد من حين خروج الثمر وظهوره في
النخيل والشجر، وأن لم يبد صلاحه بعد، وإذا كان انشاء المعاملة بين الطرفين بعد
أن ظهرت الثمرة في الأصول ملك العامل حصته من الثمر من حين وقوع العقد
بينهما.
فإذا مات العامل بعد أن ملك حصته من الثمر في إحدى الصورتين
المذكورتين انتقلت الحصة منه بعد موته إلى ملك وارثه كسائر أمواله، ووجب على
الوارث أن يقوم بما بقي من أعمال المساقاة التي وجبت على مورثه بالعقد، وتخير
بين أن يأتي بهذه الأعمال بنفسه وأن يستأجر من ماله أجيرا يأتي بالعمل عن مورثه
وقد ذكرنا هذا في المسألة المائة والثالثة والعشرين.
وإذا كان صاحب الأصول قد اشترط في العقد على العامل أن يتولى عمل
المساقاة بنفسه بنحو المباشرة، وكان اشتراطه لذلك على العامل بنحو التقيد في
المعاملة الجارية بينهما بطلت المساقاة بموت العامل فإن الوارث لا يقدر على
أن يفي للمالك بهذا الشرط، وقد بينا هذا في المسألة المائة والرابعة والعشرين.
والظاهر أن الحكم ببطلان المساقاة في هذه الصورة إنما يقع في حينه وبعد
تحقق سببه وهو موت العامل وتعذر حصول القيد المأخوذ في المعاملة، وليس
338

من أول الأمر، ولذلك فهو لا ينافي ملك العامل لحصته من الثمر وانتقال الحصة منه
إلى الوارث بعد موته، وتلاحظ المسألة المشار إليها في حكم ما إذا كان اشتراط
المباشرة في العمل على عامل المساقاة بنحو تعدد المطلوب.
(المسألة 139):
إذا ملك عامل المساقاة حصته المعينة له من الحاصل بظهور الثمر في
الأصول المساقى عليها كما قلنا في المسألة المتقدمة، فلا يزول ملكه لحصته إذا
فسخت المساقاة بعد ذلك لوجود بعض الأسباب الموجبة لخيار الفسخ، ولا إذا
بطلت المعاملة لطرو، بعض العوارض الموجبة للبطلان، ومثال ذلك أن يفسخ أحد
المتعاملين عقد المساقاة بسبب خيار شرط كان ثابتا له في المعاملة أو بسبب
تخلف شرط قد اشترطه في العقد على صاحبه، أو يتقايل الطرفان فيفسخا المعاملة
باتفاقهما على ذلك، فلا ينفسخ بذلك ملك العامل لحصته
وكذلك إذا طرأ للعامل عذر عام أو خاص أوجب عجزه وعدم قدرته على
اتمام عمل المساقاة بعد أن ظهرت الثمرة في الشجر وملك حصته بظهورها
فتبطل المساقاة بذلك العذر، ولا يزول ملك العامل للحصة المعينة له، ومثله ما إذا
عرض للأصول المساقى عليها عارض بعد أن ظهر بعض الثمر فيها وملك العامل
حصته منه، فأوجب ذلك العارض جفاف الأصول وعدم قابليتها لانتاج الثمر
المتأخر، ولا لانضاج الثمر الموجود وايصاله إلى حد الادراك والبلوغ، فلا تبطل
حصة العامل بل يسقي الثمر الموجود مشتركا بين المالك والعامل وإن لم يكن
بالغا.
(المسألة 140):
339

إذا امتنع العامل أن يأتي بعمل المساقاة من غير عذر جاز لمالك الأصول أن
يجبره على العمل، وقد ذكرنا هذا في المسألة المائة والسابعة والثلاثين، فإن هو لم
يقدر على اجباره جاز له أن يفسخ المساقاة، فإذا فسخها المالك وكان فسخه قبل أن
يظهر الثمر في الأصول كان الثمر الذي يظهر فيها كله مملوكا للمالك تبعا للأصول
وإذا كان العامل قد أتى ببعض العمل في أول الأمر ثم امتنع عن اتمامه استحق العامل
على المالك بعد فسخه في الصورة المذكورة أن يدفع له أجرة المثل بمقدار عمله
إذا لم يكن متبرعا به.
وإذا كان فسخ المالك للمساقاة في الصورة المذكورة بعد أن ظهرت الثمرة
في الأصول استحق العامل حصته المعينة له من الثمر، ويجوز للمالك أن يبقى
حصة العامل في الشجر إلى وقت بلوغه وادراكه إما مجانا أو مع الأجرة إذا رضي
العامل بدفعها، ويجوز له أن يأمر العامل بقطع مقدار حصته قبل أن يبلغ الثمر
ويدرك، ولا يضمن المالك له أرش وحصته إذا هي نقصت أو عابت أو تلفت بسبب
قطعها.
(المسألة 141):
إذا شرط مالك الأصول على العامل في ضمن العقد بينهما أن يتولى العمل
في المساقاة بنفسه، لم يصح للعامل أن يساقي على تلك الأصول شخصا آخر
فيقوم هذا العامل الثاني بالعمل فيها، وأن ساقاه في حصته الخاصة بأن جعل له
حصة مشاعة منها بعد أن ملكها ولم ينقص من حصة المالك شيئا.
وكذلك الحكم إذا نهاه المالك في ضمن العقد عن أن يساقي على نخيله
وشجره شخصا غيره، فإن هذا النهي يدل بالدلالة التزامية على أن المراد أن يعمل
340

العامل في المساقاة بنفسه، فلا يجوز له أن يساقي عليها عاملا غيره.
(المسألة 142):
إذا لم يشترط المالك على العامل أن يباشر العمل في المساقاة بنفسه كما في
الفرض الأول ولم ينهه عن مساقاة غيره كما في الفرض الثاني، جاز للمالك أن يأذن
للعامل الأول فيساقي على الأصول التي دفعها إليه عاملا غيره، ومرجع إذن المالك
له بالمساقاة مع عامل آخر إلى أن المالك قد وكله في أن يفسخ المساقاة السابقة التي
جرت بينهما وينشئ بعدها مساقاة ثانية بين المالك والعامل الثاني، ولا تكون في
المساقاة الثانية حصة ولا نصيب للعامل الأول، ومعنى ذلك أن المالك الموكل
والعامل الأول الوكيل قد تقايلا عن المساقاة الأولى وفسخاها برضاهما معا فسخا
اختياريا، فإذا فعل الطرفان كذلك صحت الوكالة والمقايلة، ونفذت المساقاة
الثانية بين المالك والعامل الثاني.
وإذا أذن المالك له ففسخ المساقاة الأولى وساقى عاملا ثانيا بوكالته
عن المالك جاز له أن يسلم إليه الأرض والشجر الذي بيده، ولم يحتج في التسليم
إلى إذن آخر من المالك.
(المسألة 143):
إذا تقبل انسان من السلطان أو من الولي العام للمسلمين قطعة من أرض
الخراج لينتفع بالأرض وما فيها من المغروسات، وجعل السلطان أو الولي العام
على الأرض ضريبة خراج معلومة وجب وفاؤها على ذلك الشخص المتقبل، سواء
جعل الخارج ضريبة على الأرض نفسها أم جعله على النخل والشجر المغروس
فيها، فإذا دفع الرجل الأرض التي تقبلها إلى عامل ليسقي له الأصول الثابتة فيها
341

ويعمل في الأرض والشجر عمل المساقاة بحصة معينة من الثمر الذي تنتجه الأصول
فالخراج كله على المتقبل صاحب الأصول وليس على عامل المساقاة منه شئ.
ويجوز للمتقبل أن يشترط على العامل في عقد المساقاة بينهما أن يكون
جميع الخراج على العامل، فإذا قبل العامل الشرط لزمه الوفاء به، فيؤديه من حصته
بعد القسمة أو من مال آخر، ويجوز له أن يشترط في العقد أن يكون الخراج عليهما
معا، ولا بد أن يعين مقدار ما على كل واحد منها من الخراج فإذا قبلا بذلك لزم كل
واحد منهما أن يدفع قسطه المشترط عليه.
(المسألة 144):
إذا أنشأ وكيل المالك عقد المساقاة على الأصول المعلومة بين موكله
صاحب الأصول وعامل المساقاة وقبل العامل العقد صحت المعاملة، وثبتت
آثارها ولزم الطرفين الوفاء بها، وإن كان العامل يعتقد في بادي الأمر أن الشخص
الذي أجرى العقد معه هو مالك الأصول، فإذا تبين له بعد ذلك أنه وكيل عن المالك
وليس المالك نفسه كانت مساقاته على لزومها وثباتها، ولم يقدح جهله السابق
بصحتها ولم يفتقر إلى تجديد العقد بعد استبانة الحال له.
وكذلك الحكم إذا أنشأ الولي العقد على الأصول التي يملكها اليتيم أو
المجنون أو السفيه وقبل العامل العقد وجرت المساقاة، ثم علم العامل أن منشئ
العقد ولي المالك وليس هو مالك الأصول نفسه
(المسألة 145):
إذا جرى عقد المساقاة بين شخصين على أصول معلومة، وتم الايجاب
والقبول بينهما، ثم علم أن الأصول التي جرت عليها المساقاة مغصوبة من مالكها
342

الشرعي وليست مملوكة للشخص الذي أجرى المعاملة عليها، أو ثبت ذلك بحجة
شرعية من بينة مقبولة أو غيرها، كان الأمر في المساقاة لمالكها الشرعي، فإن هو
أجاز المعاملة صحت وكانت مساقاة نافذة بين المالك نفسه والعامل، على النهج
الذي ذكره المتعاقدان في العقد، والمقدار الذي عيناه من الحصة، كما هو الحال
والحكم في المعاملات الفضولية إذا أجازها المالك الحقيقي، ولا يكون للغاصب
فيها نصيب، وإن لم يجزها المالك كانت باطلة، وكان جميع الثمر الذي تنتجه
الأصول مملوكا للمالك الشرعي الذي غصبت منه ولا حصة فيه للعامل، وكانت
للعامل أجرة المثل لعمله الذي قام به في المعاملة، ويأخذ أجرته هذه من الغاصب
فإنه هو الذي أمره بالعمل في المعاملة، وقد استوفيت منه منفعته باستدعائه فيكون
هو الضامن لأجرة عمله.
ويستثنى من ذلك ما إذا ادعى العامل أن المساقاة التي جرت بينه وبين
صاحبه الذي ساقاه صحيحة ليست باطلة وأن الأصول المساقى عليها مملوكة
لصاحبه وليست مغصوبة من أحد، فهو يعترف بأن حقه إنما هو الحصة التي عينها
له صاحبه من الثمر وأن المدعي أخذها منه ظالما، ولذلك فلا يجوز له أن يأخذ من
صاحبه أجرة المثل على عمله بمقتضى اعترافه.
(المسألة 146):
إذا جرت المساقاة بين الشخصين ثم علم، أو ثبت بحجة شرعية، أن الشجر
والنخيل المساقى عليها مغصوبة من مالكها الشرعي، وكان ثبوت الغصب بعد أن
أخذ المتساقيان جميع الحاصل الذي أنتجته الأصول واقتسماه بينهما وأخذ كل
واحد منهما حصته وتلفت الحصة بيده، فإذا ثبت الغصب بعد ذلك جاز للمالك
343

الشرعي أن يرجع على كل واحد من الغاصب والعامل بعوض ما تلف في يده من
الحصة التي أخذها من الحاصل، وإذا أخذ العوض منهما على ما بيناه لم يرجع
الغاصب على العامل بشئ مما عزم، ولم يرجع العامل على الغاصب بشئ
وذلك لأن ضمان كل واحد منهما للعوض قد استقر عليه بتلف حصته في يده، وقد
ذكرنا هذا في كتاب الغصب.
وجاز للمالك أيضا أن يرجع على الغاصب وحده فيأخذ منه عوض جميع
الثمر الذي حصل من الشجر ما تلف منه في يد الغاصب وما تلف في يد العامل
وإذا أخذه من الغاصب بمقتضى هذا الحكم جاز للغاصب أن يرجع على العامل
بمقدار عوض حصته لأن ضمانها قد استقر على العامل بتلفها في يده.
ويستثنى من ذلك ما إذا كان الغاصب يعترف بصحة المساقاة وأن العامل
يستحق الحصة من الثمر ومن أجل اعترافه بذلك فلا يجوز له أن يأخذ من العامل
شيئا في الصورة المذكورة، لأنه يعترف بأن المدعي قد ظلمه بأخذ العوض منه، فلا
يحق له أن يرجع بشئ منه على العامل.
وإذا كان عامل المساقاة ممن يصدق عليه صدقا تاما في نظر أهل العرف إنه
ممن استولى على الأصول المذكورة ووضع يده عليها وعلى جميع ثمرها، جاز
للمالك المغصوب منه أن يرجع عليه بعوض جميع الثمرة كما سبق في الحكم
برجوعه على الغاصب، وإذا أخذ من العامل جميع العوض رجع العامل على
الغاصب بعوض الحصة التي أخذها الغاصب لنفسه من الثمر وتلفت في يده
كما سبق في نظيره، إلا في الصورة المستثناة وقد مر ذكر كل ذلك.
والمدار في جواز رجوع المالك على العامل بجميع العوض على الصدق
344

التام الذي بيناه، ولا ريب في أن الموارد مختلفة في صدق ذلك على العامل وعدم
صدقه، فإذا لم يصدق عليه ذلك في نظر العقلاء، وأهل العرف أو شك في صدقه
عليه وعدم صدقه لم يجز للمالك أخذ جميع العوض منه، وجاز له أن يأخذ منه
عوض حصته خاصة كما تقدم.
(المسألة 147):
إذا ملك العامل حصته المقدرة له من الثمرة في وقت وجوب الزكاة في
الغلة، أو ملكها قبل ذلك، وكانت حصته بمقدار النصاب الشرعي الذي تجب فيه
الزكاة أو أكثر، وجبت عليه الزكاة في الحصة، ولا تجب عليه إذا نقضت الحصة عن
ذلك إلا إذا تم له النصاب أو زاد عليه من مال آخر يملكه، وكذلك الحكم في الوارث
إذا مات العامل وانتقل ملك الحصة منه إلى وارثه عند وقت وجوب الزكاة أو قبله
فتجب الزكاة عليه إذا بلغت حصته النصاب، ولا زكاة عليه إذا لم تبلغ، إلا إذا بلغت
مقدار النصاب مع مال له آخر.
وإذا ملك العامل حصته بعد وقت وجوب الزكاة في الغلة لم تجب عليه
زكاتها وإن بلغت مقدار النصاب، ووجب على مالك الأصول أن يؤدي زكاة جميع
الثمرة إذا بلغ مقدار النصاب، ويرجع إلى ما أوضحناه في كتاب الزكاة في وقت
وجوبها في الغلة، وفي مقدار النصاب الشرعي الذي تجب فيه، وإذا وجبت الزكاة
على العامل في حصته من المساقاة ثم مات قبل أن يؤديها، وجب على ورثته أن
يؤدوها بعده، وأن لم يبلغ نصيب كل وارث منهم مقدار النصاب.
345

[الفصل السادس]
[في أمور تلحق بالمساقاة]
(المسألة 148):
إذا قامت بينة شرعية عادلة أو حجة معتبرة أخرى تدل على خيانة عامل
المساقاة فإن كان ثبوت الخيانة عليه قبل أن يظهر الثمر في الأصول، وقبل أن
يملك العامل حصته منه، جاز المالك الأصول أن يستأجر من مال المالك نفسه أمينا
يراقب العامل، ويمنعه عن الخيانة للمال الذي دفعه إليه من البستان أو الشجر أو
المملوكات الأخرى الموجودة في البستان، أو الخيانة في العمل الذي وجب عليه
في المعاملة، وإذا لم يفد ذلك في منعه عن الخيانة، جاز له أن يستأجر من ماله أيضا
أمينا يضمه إلى العامل، فيرفع بذلك يده عن الاستقلال في عمله وفي ما بيده من
المال، ويحفظ المال إذا احتاج معه إلى حفظ المال.
وإذا ثبتت خيانة العامل كذلك بعد أن ظهرت الثمرة في الشجر وبعد أن
ثبتت للعامل حصته المعينة له في الثمر، فالظاهر جواز ما تقدم للمالك أيضا على
التفصيل الذي بيناه، والأحوط أن يكون ذلك بمراجعة الحاكم الشرعي.
(المسألة 149):
إذا ادعى مالك البستان والشجر إنه قد أجرى مع العامل عقد المساقاة
ولذلك فهو يلزمه بسقي الشجر والعمل في البستان والأصول المغروسة فيه عمل
المساقاة، وأنكر العامل وقوع عقد بينهما على ذلك، قدم قول المنكر وهو العامل
346

مع يمينه، إلا أن يثبت المالك صدق دعواه بإقامة بينة شرعية عليها فيقدم قوله
وكذلك الحكم إذا انعكس الأمر، فادعى العامل إنه قد أجرى العقد مع المالك على
سقي شجره ونخيله والعمل فيها، ولذلك فهو يروم من المالك أن يمكنه من القيام
بالمعاملة، وأنكر المالك حدوث العقد، فالقول قول المنكر وهو المالك مع يمينه
ما لم يثبت العامل صحة قوله بإقامة بينة.
(المسألة 150):
إذا تصادق المالك والعامل على صدور عقد مساقاة بينهما، ثم ادعى المالك
أو العامل أن العقد الذي وقع بينهما كان باطلا لا يجب الوفاء به، لأنه يفقد بعض
الشروط المعتبرة في صحة العقد، وادعى الثاني منهما أن العقد صحيح يلزم الوفاء
به، قدم قول من يدعي صحة العقد بينهما، سواء كان هو مالك الأصول أم كان هو
العامل فيها، إلا أن يثبت الثاني المدعي للبطلان صدق ما يدعيه بحجة شرعية
مقبولة.
(المسألة 151):
إذا ادعى مالك البستان إنه قد اشترط على العامل في ضمن العقد شرطا: أن
يباشر العمل في المساقاة بنفسه مثلا، أو أن يكون بعض الخراج أو النفقات الأخرى
عليه، أو غير ذلك من الشروط السائغة، وأنكر العامل وجود ذلك الشرط بينهما
قدم قول العامل المنكر للشرط مع يمينه، ومثل ذلك ما إذا انعكس الفرض، فادعى
العامل إنه قد اشترط على المالك بعض الشروط النافذة شرعا، وأنكر المالك
حدوث الشرط بينهما، فيقدم قول المنكر وهو المالك مع يمينه، إلا أن يقيم
المدعى منها بينة شرعية على صدق ما يدعيه من وجود الشرط فيثبت بها قوله.
347

(المسألة 152):
إذا ادعى عامل المساقاة أن حصته التي جعلت له في المعاملة التي جرت
بينه وبين المالك هي نصف ما يحصل من الثمر والثمار، أو قال حصتي هي
الثلث منه وأنكر مالك البستان ما يدعيه فقال له أن حصتك المعينة لك بيننا هي
ربع الحاصل لا أكثر، فالقول قول من ينكر الزيادة وهو المالك مع يمينه، إلا أن
يقيم العامل بينة تثبت ما يقول فيؤخذ بها، ونظير ذلك ما إذا ادعى المالك أو
العامل أن مدة المساقاة المحددة بينهما هي ثلاث سنين أو أربع مثلا وأنكر
صاحبه أن المدة أزيد من سنة واحدة، أو قال المدة سنتان لا أكثر، فالقول قول
من ينكر الزيادة في المدة منهما مع يمينه، إلا أن يثبت الآخر صدق قوله ببينة
شرعية.
(المسألة 153):
إذا أنتجت النخيل والشجر المساقى عليها مقدارا من الحاصل، ثم وقع
الخصام بين مالك الأصول وعامل المساقاة في مقدار ما أنتجته من ذلك، فقال
أحدهما: إنها أخرجت مقدارا معينا من الحاصل مائة من مثلا من التمر وعشرين
منا من العنب، وادعى صاحبه أن الحاصل منها أكثر من ذلك المقدار، أو قال: إنه أقل
فإن كانت الثمرة تحت يد العامل خاصة صدق قوله في ما يدعيه سواء كان يدعي
الزيادة أم النقيصة لأنه صاحب يد فيكون اخباره حجة شرعية في ما بيده وكذلك إذا
كانت الثمرة في يد المالك خاصة فيصدق قوله، لأن قوله حجة في ما بيده كما ذكرنا
وإن كانت الثمرة في يد كل من المالك والعامل على نحو الاشتراك وعدم
الاستقلال، وقد اختلطت بغيرها فالتبس الأمر في مقدارها أو تلفت بغير تفريط، أو
348

بيعت ولم يكن العلم بمقدارها، فالقول قول من ينكر الزيادة منهما مع يمينه.
(المسألة 154):
إذا أجريت معاملة المساقاة بين المتعاقدين وائتمن المالك عامل المساقاة
على ضيعته وأصوله المغروسة فيها، ثم ادعى المالك على العامل إنه سرق بعض
الثمر أو بعض الأموال أو الأدوات التي بيده، أو أنه أتلفها أو ادعى عليه قد خان في
عمله أو في بعض الجهات الأخرى، وأنكر العامل ما ادعاه المالك عليه، قدم قول
العامل في جميع ذلك لأنه منكر، ولأن المالك قد ائتمنه، إلا أن يثبت المالك صحة
ما يدعيه عليه ببينة شرعية.
وكذلك إذا تلف بعض المال في يد العامل فادعى المالك عليه إنه قد فرط
في الحفظ وأن التلف كان بسبب تفريطه أو بعد تفريطه فيكون له ضامنا، فلا تسمع
دعوى المالك بعد أن ائتمنه، إلا إذا أقام البينة على صدق الدعوى.
(المسألة 155):
إذا ادعى مالك الأصول على العامل إنه قد أتلف أو فرط أو سرق مقدارا وأقام
بينة شرعية على صحة قوله سمعت دعواه وقبلت بينته، وإن لم يعين المقدار الذي
يدعيه من المال أو من الثمر.
(المسألة 156):
إذا استعار أحد بستانا من مالكه لينتفع به وبشجره وثمره مدة معلومة سنة
أو أكثر، وكانت إعارة المالك إياه مطلقة، فلم يشترط عليه فيها أن يتولى الانتفاع
بالبستان والتصرف فيه بنفسه أو في جهة معينة، جاز للمستعير أن يساقي عاملا
على البستان وما فيه من نخيل وشجر، فيسقيه ويعمل فيه بما يحتاج إليه البستان
349

والشجر والثمر بحصة معينة من الحاصل، وللمستعير الباقي من الحاصل، ويجوز
للمستعير أن يسلم البستان والشجر إلى عامل المساقاة، بمقتضى اطلاق العارية
ولا يفتقر في ذلك إلى إذن جديد من مالك البستان.
(المسألة 157):
يصح أن تجري معاملة المساقاة بين مسلم وكافر سواء كان المسلم منهما
هو مالك البستان والأصول المساقى عليها أم كان هو عامل المساقاة، فتصح
المعاملة، وتنفذ إذا أنشئ العقد وتمت القيود والشروط وتجري أحكامها
ولوازمها، ويستحق كل من المتعاملين حصته المقدرة في العقد، وتصح أيضا مع
تعدد المالك ومع تعدد العامل ومع تعددهما معا، فيكون شريكان في البستان
وهما مسلم وكافر، ويساقيان على البستان عاملا واحدا مسلما أو كافرا، أو
يساقيان عاملين أحدهما مسلم والثاني كافر، وكذلك في باقي الصور المحتملة
فتصح المعاملة وتنفذ في جميعها إذا تحققت الشروط وجرت المعاملة على
الوجه الصحيح.
(المسألة 158):
المغارسة هي أن يدفع الانسان أرضه إلى العامل ليغرس فيها نخيلا أو شجرا
ويسقيها ويعمل في الأرض والغراس حتى يثبت وينمو، وتكون للعامل حصة
معينة المقدار من الشجر والأصول التي يغرسها في الأرض: الربع منها أو النصف
أو غيرهما من الحصص، فإذا أثمرت الأصول التي غرسها ملك من ثمرها بتلك
النسبة، فيكون له الربع أو النصف من الثمر في المثالين المتقدمين، وقد يشترط
الطرفان أن تكون للعامل حصة معينة المقدار من رقبة الأرض نفسها، ومن الأصول
350

الموجودة في الأرض قبل المغارسة عليها، بالإضافة إلى حصته من الأصول التي
غرسها، وهذا على ما هو متعارف بين الناس في المغارسات الدارجة في ما بينهم.
وقد اشتهر بين أصحابنا (قدس الله أرواحهم) القول ببطلان المغارسة
وعدم نفوذها، واشتهرت بينهم دعوى قيام الاجماع على عدم الصحة، ولعل
المقصود من ذلك أن المعاملة المذكورة لا تكون من المساقاة المصطلحة بين
العلماء، ولا تشملها الأدلة الخاصة الواردة في المساقاة، وليس مرادهم أن
المغارسة باطلة لا تصح على الاطلاق، ولا ريب في بطلان المغارسة التي ذكرناها
وإذا أجراها المتعاقدان وقصدا بها المساقاة المصطلحة.
(المسألة 159):
إذا أوقع مالك الأرض مع العامل صورة المغارسة التي بيناها وقصدا بها
معاملة المساقاة المصطلحة كانت المغارسة باطلة بلا ريب كما قلنا في المسألة
المتقدمة، وبطل كل ما يذكر في ضمنها من الشروط، فإنها شروط في ضمن عقد
فاسد، فلا يجب السقي ولا العمل في الأرض على العامل، ولا يملك حصة
من الثمر ولا من النخيل والشجر التي يغرسها، ولا من الأرض والأصول الموجودة
فيها من قبل إذا اشترط له ذلك فيها.
فإذا غرس العامل في الأرض المدفوعة إليه نخيلا أو شجرا، فالنخيل
والشجر التي غرسها تكون جميعا مملوكا لمالكها فسيلا ووديا قبل أن تغرس فإن
كانت قبل غرسها مملوكة لصاحب الأرض كما إذا اشتراها أو تملكها بسبب شرعي
آخر لتغرس في أرضه، وكما إذا أخذها فسيلا أو وديا من أصول مملوكة له في تلك
الأرض، أو في أرض له أخرى، كانت جميعا بعد غرسها باقية على ملكه، ولا حصة
351

ولا حق للعامل الغارس فيها.
وإذا كان مالك الأرض والعامل فيها يعلمان ببطلان هذه المعاملة الجارية
بينهما، وعلم العامل بأن غرسه وتصرفه في الفسيل وفي الأرض محرم عليه من
حيث إنه تصرف في مال الغير بغير إذنه، تنجز عليه التكليف بحرمته وحرم عليه
أخذ الأجرة على الغرس والعمل في الأرض، لأنه من الأجرة على العمل المحرم
فإن مالك الأرض إنما أذن له في التصرف في أرضه وفي ملكه إذا كانت المعاملة
صحيحة شرعية ولم يأذن له في التصرف إذا كانت باطلة.
وإذا علم من القرائن أو من القول الصريح بأن مالك الأرض قد أذن للعامل إذنا
مطلقا بالتصرف في الأرض، وفي الفسيل والودي المملوك له، ولم يقيد إذنه له
بالمعاملة الصحيحة استحق العامل على المالك أجرة المثل على عمله في الغرس
والأرض.
(المسألة 160):
إذا جرت المغارسة بين الرجلين على الوجه المتقدم الذي قلنا ببطلانه وكان
الفسيل والودي الذي غرسه العامل مملوكا له قبل الغرس، كما إذا اشتراه من قبل
ليغرسه أو أخذه من نخيل وشجر يملكه ثم غرسه في الأرض بقي مملوكا للعامل
خاصة ولم يملك صاحب الأرض منه شيئا.
فإذا كان مالك الأرض إنما أذن للعامل في التصرف في أرضه وغرسها إذا كان
التصرف بوجه شرعي صحيح وكانت المعاملة واقعة بينهما صحيحة شرعية ولم
يأذن له بذلك إذا كانت المعاملة باطلة، فلا يستحق مالك الأرض على العامل في هذه
الصورة أجرة لأرضه عن تصرفه فيها في المدة الماضية، ويجوز للمالك أن
352

يأمر العامل بقلع ما غرسه في الأرض من شجر ونخيل، ويجوز له أيضا أن يأذن
للعامل بابقاء ما غرسه في الأرض مجانا أو مع أجرة المثل للأرض مدة بقاء
المغروسات فيها، وهذا إذا رضي العامل بالابقاء، وليس للمالك أن يجبره عليه
بأجرة أو بغير أجرة.
وإذا أمره المالك أن يقلع ما غرسه في الأرض وجب على العامل أن يقلعه
ويطم الحفر التي تحدث في الأرض بسبب الغرس أو القلع، وإذا حدث في
المغروسات نقص أو عيب أو كسر بسبب قلع العامل إياها لم يضمن المالك له
أرش ذلك.
وإذا أمر المالك العامل أن يقلع ما غرسه في الأرض فامتنع العامل جاز
للمالك أن يقلعه بنفسه، فإذا انكسرت الشجرة أو النخلة أو عابت بسبب قلع مالك
الأرض لها ضمن للعامل أرش هذا النقص أو العيب الحادث فيها بفعله، وأرش
النقص أو العيب هو التفاوت في المقلوع منها ما بين قيمته صحيحا وقيمته
مكسورا أو معيبا ولا يضمن للعامل تفاوت ما بين قيمتها وهي ثابتة في الأرض
ومقلوعة منها.
(المسألة 161):
إذا كانت المغارسة بين الشخصين على الوجه المتقدم الذي حكم الشارع
فيه بالبطلان وعدم النفوذ، وكان الودي والفسيل الذي غرسه العامل في الأرض
بسبب هذه المعاملة على قسمين، فمنه ما هو مملوك لصاحب الأرض من قبل
غرسه، ومنه ما هو مملوك للعامل، جرى في كل واحد من القسمين ما يخصه من
الأحكام التي أوضحناها في المسائل المتقدمة من الملك والضمان والآثار
353

الأخرى، فليلاحظ ما سبق بيانه فيها لتطبيق حكم كل قسم منها في مورده
ولا موجب للتكرار.
(المسألة 162):
يمكن للمتعاملين أن يوقعا المغارسة بينهما على أنها معاملة مستقلة بنفسها
عن سائر المعاملات، وعقد من العقود المتعارفة بين العقلاء وأهل العرف والشائعة
بينهم، فتكون بذلك معاملة صحيحة ونافذة على الأقوى، تشملها العمومات
والاطلاقات الدالة على وجوب الوفاء بالعقود من الكتاب الكريم والسنة المطهرة
وذلك بأن يتفق مالك الأرض مع العامل على أن يغرس العامل له أرضه نخيلا
وشجرا معلومة، ويعمل له في الأرض وفي الغرس حتى تنمو المغروسات وتثبت
وتثمر، ويلتزم الجانبان بينهما بأن يملك مالك الفسيل والودي منهما صاحبه
نصف الفسيل والودي الذي يراد غرسه في الأرض أو ربعه مثلا على نحو الشركة
والإشاعة، فإذا كان مالك الفسيل والودي هو مالك الأرض، ملك العامل الحصة
المعينة منها وجعل ذلك عوضا له عما يقوم به من الغرس والعمل في الأرض، وإذا
كان مالكها هو العامل، ملك الحصة منها لصاحب الأرض، وجعل ذلك عوضا له عن
تصرف العامل في أرضه وانتفاعه بها.
فإذا اتفق الطرفان على ما ذكرناه واقعا للايجاب والقبول الدالين على الاتفاق
والتمليك المذكورين والالتزام بموجبهما صحت المعاملة، وشملتها الأدلة العامة
والمطلقة الدالة على صحة العقود ووجوب الوفاء بها، ويمكن لهما أن يشترطا في
ضمن هذا العقد أن يملك صاحب الأرض العامل حصة معلومة المقدار مشاعة من
رقبة الأرض، ومن الأصول الموجودة فيها قبل المغارسة، فيصح الشرط وينفذ فإنه
354

شرط سائغ وقع في ضمن عقد لازم.
(المسألة 163):
يكفي في صحة عقد المغارسة الذي ذكرناه أن يعلم الطرفان مقدار الأرض
التي تجري المعاملة عليها، ومقدار ما تحتاج إليه من المغروسات من النخيل
والشجر، ومقدار الحصة التي تجعل للعامل والمالك من الأرض ومن الأصول
بالمشاهدة الرافعة للجهالة وبتقدير المطلعين من أهل الخبرة والمعرفة فترتفع
بذلك الجهالة التي تضر بمثل هذا العقد، ويكفي الاعتماد على ما هو المتعارف
والمعتاد بين عامة أهل البلد في تعيين أنواع المغروسات من الشجر والنخيل
وأصنافها، وإذا اختلف الأمر في ذلك، ولم يثبت المتعارف شيئا، أو اختلف
المقصود بين المالك والعامل، فلا بد من تعيين النوع والصنف الذي يراد غرسه
ولا بد من تعيين كل قيد أو شرط أو أمر يكون الجهل به موجبا للتنازع بين الطرفين.
(المسألة 164):
إذا كان الفسيل والودي الذي يرام غرسه في الأرض مشتركا على سبيل
الإشاعة التامة بين مالك الأرض والعامل فيها، ومثال ذلك أن يشتري أحدهما
جميع ذلك بالأصالة عن نفسه وبالوكالة عن الآخر، على أن يكون جميع ما يشتريه
منها مشتركا مشاعا بينهما مع التساوي في الحصة، أو مع التفاوت فيها حسب ما
يتراضيان عليه فإذا تم الاشتراك فيه بين الطرفين كذلك، أمكن لهما أن يوقعا معاملة
المغارسة بينهما بصورة الإجارة على الوجه الآتي.
فيستأجر صاحب الأرض العامل ليقوم بغرس حصة صاحب الأرض من
الفسيل والودي المشترك في الأرض وسقيها والعمل فيها في مدة معلومة، ويجعل
355

للعامل عوضا عن عمله في ذلك أن يغرس العامل حصته المشتركة في الأرض
وينتفع بها في تلك المدة المعلومة، أو يضيف إلى ذلك أن شاء الطرفان أن يملك
العامل معها حصته من الأرض.
ويمكن أن يتولى العامل انشاء عقد الإجارة، فيؤخر نفسه لصاحب الأرض
ليغرس له حصته من الفسيل والودي في الأرض ويعمل فيها ويذكر المدة والعوض
والشرط حسب ما بيناه فإذا وقع الايجاب والقبول في الصورتين صحت المعاملة
وثبتت لوازمها وآثارها ولا تصح الإجارة إذا لم تعين المدة أو لم تحدد المنفعة
المستأجر عليها.
(المسألة 165):
إذا كان جميع الفسيل والودي الذي يراد غرسه في الأرض مملوكا
لصاحب الأرض أمكن له أن يجري المغارسة بينه وبين العامل على الصورة الآتية
وهي أن يملك العامل من الفسيل والودي المذكور حصة معلومة النسبة له على
سبيل الإشاعة التامة: النصف منه مثلا أو الثلث أو الربع، فيملكه ذلك بمصالحة
أو ببيع أو بغيرهما من العقود اللازمة ويجعل عوض تمليك الحصة أن يغرس
العامل حصة المالك من الفسيل والودي في الأرض ويسقيها ويعمل فيها إلى مدة
معينة، ويشترط المالك على نفسه في العقد أن يغرس العامل حصته التي ملكه
المالك إياها من الفسيل في الأرض ويبقيها فيها إلى آخر المدة المعينة
للمغارسة بغير أجرة على غرسها ولا على بقائها من العامل، أو يشترط على نفسه مع
غرس العامل حصته من الفسيل في الأرض أن يملك العامل حصة معينة من رقبة
الأرض: النصف أو الربع مثلا على وجه الإشاعة فيها.
356

وإذا كان الفسيل والودي كله مملوكا للعامل أمكن له أن يجري المغارسة
أيضا، فيملك العامل صاحب الأرض حصة معلومة النسبة كذلك من الفسيل
والودي بمصالحة أو بيع أو غيرهما كما سبق في نظيره، ويجعل عوض تمليكه
الحصة أن يغرس العامل حصته من الفسيل والودي في أرض المالك بغير أجرة
ويستوفي بذلك منفعة الأرض إلى مدة معينة، ويشترط العامل على نفسه في ضمن
العقد أن يغرس لصاحب الأرض حصته التي ملكه إياها من الفسيل والودي، و
يسقيها ويعمل فيها إلى انتهاء المدة، ويمكن له أن يجعل من العوض أن يملكه
مالك الأرض نصف رقبتها أو ربعها، فتصح المعاملة وتنتج نتيجة المغارسة إذا جرى
عليها الايجاب والقبول.
(المسألة 166):
إذا أنشئت المغارسة بين العامل ومالك الأرض على أنها معاملة مستقلة
بذاتها، وليست من المساقاة ولا من سائر المعاملات، وقد مر تفصيل بيان ذلك في
المسألة المائة والثانية والستين، ثم وقع النزاع بين المتعاقدين فادعى أحدهما أن
المعاملة تمت بينهما على الوجه المطلوب فالمغارسة صحيحة نافذة، وقال الثاني
إنها كانت فاقدة لبعض المقومات أو لبعض الشروط فهي باطلة ولا أثر لها، قدم قول
من يدعي الصحة منهما إلا أن يثبت الثاني صحة ما يقول ببينة شرعية.
وكذلك إذا أنشئت المغارسة بينهما بصورة الإجارة، أو على وجه تمليك
الحصة من الفسيل والودي، كما فصلناه في المسألتين السابقتين ثم ادعى أحد
الرجلين أن المعاملة صحيحة وقد جرت على وفق ما يرام، وادعى الثاني بطلانها
فالقول قول من يدعي الصحة.
357

وإذا وقعت المغارسة بينهما، فادعى أحد الشخصين أن المعاملة أنشئت،
بينهما وتمت على أنها من المساقاة المصطلحة فتكون باطلة على ما سبق بيانه
وقال الآخر منهما: إننا قد أجرينا المغارسة بيننا على أنها معاملة مستقلة فهي
صحيحة نافذة، أشكل الحكم بتقديم قول من يدعي الصحة، لعدم احراز العنوان
الذي وقعت عليه المعاملة، ولذلك فلا يترك الرجوع فيها إلى الاحتياط بالمصالحة
والتراضي بين المتداعيين.
358

[كتاب السبق والرماية]
359

[كتاب السبق والرماية]
وهو يحتوي على فصلين
[الفصل الأول]
[في السبق وشروطه وأحكامه]
(المسألة الأولى:)
السبق بفتح السين وسكون الباء مصدر من قولنا: سبق الرجل إلى المكان أو
إلى الغاية بمعنى تقدم على غيره في الوصول إليهما، ومنه حق السبق إلى الموضع
من المسجد، وإلى الموضع في السوق، والسبق أيضا كما يقول بعض اللغويين
مصدر ثان من قولهم سابقه مسابقة أي غالبه في أمر يريد كل واحد من الرجلين أن
يتقدم فيه على صاحبه، والمعنيان للسبق متغايران، فالسبق الأول يدل على تقدم
فعلي من الرجل السابق، وإن لم تكن بينه وبين غيره منافسة أو مغالبة، والسبق
الثاني يدل على المسابقة في الأمر بين الرجلين أو الرجال، ولا يدل على تقدم
واحد منهم بالفعل، والسبق بالمعنى الثاني أقرب إلى المعنى الاصطلاحي الذي
يبحث عنه الفقهاء في هذا الكتاب والسبق بفتح السين والباء هو العوض الذي
361

يجعل أو يبذل لمن يسبق في الحلبة مكافاة له على سبقه وفوزه، ويقال له أيضا:
الخطر بفتح الخاء والطاء، ويسمى كذلك الرهن ومنه تسمية المسابقة بالمراهنة.
(المسألة الثانية):
السبق أو المسابقة المبحوث عنها في الكتاب هي اجراء الخيل وما يشبهها
من الدواب ذوات الحافر وهي البغال والحمير، ومن ذوات الخف وهي الإبل
والفيلة في حلبة لتعرف السوابق الجياد من المركوبات، والأشد حذاقة ومعرفة
والأقدر على الفروسية والمران من راكبيها، ولتمرن الدواب على الجري والعدو
والوقوف والاندفاع حسب الإشارة والأمر والزجر، ويمرن الراكب على أنواع
الحذق والفروسية والتبصر في فنونها والتصرف كما تقتضي الحال والقدرة عليها
ويدخل في ذلك في اعداد القوة الذي أمر الله به في صريح الكتاب ومتواتر السنة.
ولا ريب في مشروعية السبق ومحبوبيته في الاسلام دين الجد والجهاد
والاجتهاد، والمسابقة بعد ذلك كله معاملة شرعية ثابتة تقع بين المتسابقين يدفع
فيها للسابق عوض مخصوص مكافأة له على سبقه وحذاقته، وليشجع على
المضي في سيرته، وليندفع غيره إلى الاقتداء به، والتحليق معه أو الارتفاع عنه في
الأشواط المقبلة والمسابقات الآتية.
(المسألة الثالثة):
المسابقة عقد شرعي مخصوص يقع على اجراء الخيل، وعلى اجراء البغال
أو الحمير ليعرف السابق من غيره بعوض يعين للسابق واحدا كان أم أكثر بحسب ما
يتفق عليه المتعاقدان أو المتعاقدون في الحلبة، ويصح أن يجري العقد لاجراء
ذوات الخف من الإبل أو الفيلة، ويجري نظيره أيضا في الرماية وسيأتي بيانه إن
362

شاء الله تعالى.
والظاهر أن العقد الشرعي الذي ذكرناه إنما يجري في المسابقة بين الدواب
إذا كانت من نوع واحد، فلا يصح في المسابقة بين الخيل والبغال مثلا أو بين البغال
والحمير، وتصح المعاملة فيها إذا أجريت على وجه آخر من المعاملات كالجعالة
والصلح وشبههما.
ولا يجري العقد الشرعي المخصوص في المسابقات في الأعمال الأخرى
وإن كانت مباحة صحيحة الغرض، بعيدة عن اللعب واللهو، بل وإن كانت من
الأمور الراجحة في الدين أو الدنيا، ويمكن أن تجري المعاملة فيها على وجه
شرعي آخر وسنتعرض لذكر ذلك في موضع يأتي من الكتاب إن شاء الله تعالى.
ولا تجوز المعاملة في الأمور التي تكون من اللهو واللعب والمقامرة، ولا
يجوز فعل هذه الأمور، وأن خلت من الأعواض عليها وبذل المال فيها، وإذا بذلت
فيها الأعواض والأموال كان تحريمها أشد والعقاب عليها أشق، وخصوصا إذا كان
دفع العوض والمال بقصد التمرين والتشجيع على مزاولة الفعل المحرم في
الاسلام، من المرديات المهلكات ومن كبائر الكبائر.
(المسألة الرابعة):
يجوز لأحد الرجلين أو الرجال المشتركين في المسابقة أن يبذل مبلغا من
ماله أو عينا معلومة من مملوكاته ويجعل ذلك عوضا في المسابقة بينه وبين
أصحابه، ليدفع لمن يسبق منهم جزاء له على سبقه، ويصح أن يكون العوض الذي
يبذله الباذل دينا له في ذمة أحد من الناس، فيقول: جعلت المبلغ الذي أملكه في
ذمة زيد عوضا لمن يسبق في هذه الحلبة، ويصح أن يجعله دينا يبقى في ذمته
363

للسابق، ويجوز أن يشترك المتسابقان كلاهما في بذل العوض، فيبذل كل واحد
منهما مبلغا من ماله، أو عينا معلومة من مملوكاته، أو دينا له على أحد، أو دينا يبقى
في ذمته، كما ذكرنا في الفرض المتقدم، ويجوز لكل فرد من المتسابقين إذا كانوا
أكثر من اثنين أن يفعل كذلك، ويجوز أن يبذل بعضهم دون الآخرين، ويصح أن
يكون العوض المجعول في المسابقة من شخص آخر لم يشترك في المسابقة،
فيبذله من ماله عينا أو دينا كما في الفروض المتقدمة، ويجوز للولي العام على
أمور المسلمين أن يدفع عوض المسابقة من بيت مال المسلمين، فإنها من
مصالحهم العامة التي يصح الانفاق فيها من بيت المال، ولا فرق بين أن تكون
المسابقة عامة أو خاصة، إذا كانت مما تدخل عرفا في الجهة التي يدعو إليها
الاسلام.
ويجوز أن تقع المسابقة والرماية بين المتسابقين والمناضلين من غير
عوض، فلا تكونان حين ذلك عقدا من العقود، ويصح أن يدفع للسابق فيهما بعض
المال بعد سبقه من غير عقد أو معاملة سابقة، ويكون ذلك نوعا من التجلة
والتكريم له على سبقه وفوزه.
(المسألة الخامسة):
العقد المخصوص في المسابقة أن يلتزم كل واحد من المتسابقين للثاني
سواء كانا شخصين أم كانا فريقين بالمسابقة بينهما وبقيودها وشروطها حسب ما
يتفقان عليه، وباستحقاق من يسبق منهما بالفعل للعوض المبذول ودفعه إليه، وأن
يعينا كل أمر يفتقر إلى التعيين في المعاملة، ويكون إهماله وعدم تعيينه موجبا
للنزاع، فإذا تم الاتفاق بينهما على جميع ذلك أجريا صيغة العقد بينهما بأي لفظ
364

يكون دالا على اتفاقهما المذكور والتزامهما بالمقصود، سواء كانت دلالته بظهور
اللفظ بنفسه أم بسبب قرينة موجودة توجب الظهور في المعنى المراد، فإذا حصل
الايجاب من أحد الجانبين والقبول من الجانب الثاني تم العقد ووجب الوفاء به
بينهما.
ولا يتعين في عقد المسابقة أن يكون الموجب فيه هو باذل العوض، بل
يتخير الجانبان في أن يكون الايجاب من أيهما أرادا، وإذا تعدد المتسابقون وكل
آحاد الفريق واحدا منهم أو من غيرهم لينشئ الايجاب بالوكالة عنهم، ووكل
أفراد الفريق الثاني أحدا منهم أو من غيرهم لينشئ القبول كذلك ويجوز انشاء العقد
بالمعاطاة.
(المسألة السادسة):
يشرط في صحة عقد المسابقة أن تجتمع في الموجب والقابل جميع
الشروط العامة التي تشترط في صحة العقود والمعاملات الشرعية، فيجب في كل
منهما أن يكون بالغا عاقلا مختارا قاصدا للمعنى المراد من غير محجور عليه حجرا
يمنعه عن التصرف، فلا يصح عقده إذا كان صبيا أو كان مجنونا، أو كان مكرها على
فعله، أو كان هازئا أو هازلا في قوله، أو سكران أو غضبان ليس له قصد، أو كان سفيها
سفها يحجره عن مطلق التصرف، ولا يجوز له أن يبذل العوض من ماله إذا كان سفهه
يحجره عن التصرف في ماله إلا إذا أذن له وليه بالبذل، ولا يجوز له البذل من أمواله
الموجودة إذا كان مفلسا إلا إذا أذن له الغرماء أصحاب الديون عليه، ويصح إذا كان
العوض المبذول منه دينا يبقى للسابق في ذمته، فإنه لا يزاحم حقوق الغرماء.
(المسألة السابعة):
365

يجب تحديد المسافة التي تقع فيها المسابقة من أول بداءتها إلى نهايتها
على الأحوط لزوما بل لا يخلو ذلك عن قوة، ويجب أيضا تعيين العوض الذي
يجري عليه العقد في جنسه ومقداره، وتبيين أنه عين مشخصة في الخارج أو دين
يثبت للسابق في الذمة، وإذا كان دينا فهل هو حال أو مؤجل، ولا بد من تعيين الدابة
التي يسابق عليها بمشاهدة يرتفع بها الغرر والجهل، أو بوصف يكون بمنزلة
المشاهدة ومنها ما إذا كانت الفرس التي يسابق عليها مشهورة الوصف معلومة
الحال عند الطرفين، فيكفي ذلك في صحة العقد، وإن لم يشاهدها غير صاحبها من
المتسابقين.
وإذا كانت المسابقة بين الطرفين لا تشتمل على عقد، لم يجب فيها تعيين
المسافة، ولا تعيين العوض وأن كان بعض الأطراف عازما من أول الأمر على أن
يدفع من ماله عوضا في المسابقة، فإذا أجريت المسابقة وعلم السابق فيها جاز
لذلك الشخص أن يدفع له أي مقدار يريد.
(المسألة الثامنة):
يشترط في صحة العقد في المسابقة أن يجعل العوض الذي يراد دفعه فيها
لمن يسبق من المشتركين في الحلبة، ويجوز أن يجعل منه نصيب لمن كان مصليا أو
ثالثا، ولا يصح العقد إذا اشترط فيه أن يكون العوض كله أو بعضه لشخص لم يشترك
في المسابقة وإن اشترك في تنظيمها، أو في بعض مقدماتها، ولا يصح العقد إذا
اشترط فيه أن يكون العوض كله أو بعضه للمسبوق المغلوب في المسابقة، ويجوز
للسابق بعد أن يتملك العوض في المسابقة ويقبضه من باذله، أن يتبرع به أو ببعضه
للمسبوق أو لشخص لم يشترك في المسابقة.
366

(المسألة التاسعة):
يشترط في صحة العقد أن يكون كل واحد من المتسابقين قادرا على
المسابقة غير عاجز عنها، فلا يصح العقد إذا علم أن الفارسين الراكبين عاجزين عن
المسابقة أو كان أحدهما عاجزا كذلك، ولا يصح العقد إذا علم أن الدابتين اللتين
يقع السباق عليهما ضعيفتان لا تقويان على المسابقة، أو علم أن إحداهما لا تطيق
ذلك، والمراد بهذا الشرط أن يكونا قادرين على المسابقة في وقت المسابقة لا في
وقت العقد، فإذا أجرى العقد وكانا قادرين عليها في ذلك الحال ثم عجزا أو عجز
أحدهما في حين المسابقة بطل العقد.
(المسألة العاشرة):
لا يمنع من اشتراك غير البالغ في المسابقة نفسها إذا كان قادرا على الركوب
والدخول في المسابقة فيصح منه ذلك، ولا يمنع المجنون من الاشتراك فيها أيضا
إذا كان قادرا عليها، وكان جنونه لا يمنعه من ذلك، ولا يخشى أن يودي به أو بدابته
إلى ما لا يحمد، فيصح اشتراكه في المسابقة نفسها، ويجب أن يكون الاشتراك
بإذن ولي الصبي وولي المجنون، ولا بد وأن يكون اجراء عقد المسابقة من
الوليين نفسهما، وقد سبق في المسألة السادسة أن العقد لا يصح إلا من البالغ
العاقل.
(المسألة 11):
ليس من المسابقة المبحوث عنها أن يرسل كل واحد من الرجلين فرسه أو
دابته من غير أن يركبها فتستبق الدابتان بينهما من غير فارس أو راكب، فلا يكون
ذلك مسابقة، ولا يصح عليه عقد ولا يحل به أخذ عوض، إلا إذا دفعه الباذل إلى
367

مالك الفرس السابق من باب التبرع له، وكذلك الحكم إذا ركب أحد المتسابقين
دابته وأرسل الآخر دابته فاستبقت مع الأول، فلا يكون ذلك من المسابقة، ولا
تجري عليها الأحكام.
(المسألة 12):
يصح أن تجري المسابقة بين شخصين، وأن يقع بينهما عقد المسابقة
وتترتب بينهما ما للعقد من أحكام وآثار، ويستحق السابق منهما العوض كله إذا
كان مبذولا للسابق، وأن أتى الثاني بعده مصليا، فلا يستحق من العوض شيئا، سواء
بذله أحدهما، أم بذله كلاهما، أم بذله شخص ثالث لم يشترك في المسابقة معهما
ولا يشترط في صحة المسابقة بينهما أن يدخل معهما شخص ثالث محلل يتسابق
معهما كما يراه جماعة، وإذا اشترط المتسابقان في العقد أن يدخل المحلل معهما
لزم الشرط ووجب الوفاء به، فإن عينا له في ضمن العقد حصة معلومة من العوض
تكون له إذا سبق تعينت له تلك الحصة، ومثال ذلك: أن يشترطا في ضمن العقد أن
يكون له ربع العوض أو ثلثه إذا هو سبق في الحلبة، فإن هو سبق أخذ تلك الحصة
خاصة، وإن لم يشترطا ذلك أخذ العوض كله، وإذا سبق مع غيره اقتسم معه العوض
بالسوية.
(المسألة 13):
المحلل كما بينا شخص ثالث يدخل مع الشخصين المتسابقين إذا هما
اشترطا في ضمن العقد وجوده في المسابقة، فيتناوله العقد للشرط المذكور
ويجري فرسه معهما في الحلبة، ولا يبذل مع المتسابقين شيئا من العوض، وقد
بينا في المسألة الماضية مقدار ما يأخذه من العوض إذا سبق.
368

(المسألة 14):
إذا تساوى المتسابقان والمحلل في وصولهم جميعا إلى الغاية ولم يسبق
منهم أحد لم يستحقوا جميعا من العوض المبذول شيئا ورجع كل مال إلى باذله
سواء كان البذل من بعضهم أم من الجميع أم من شخص لم يشترك معهم في
المسابقة.
وإذا بذل العوض أحد المتسابقين في الحلبة، ثم سبق الباذل فيها ولم
يشاركه في السبق غيره رجع إليه العوض الذي بذله، فإنه لا يستحق على نفسه شيئا
وهذا هو المراد باستحقاق العوض في هذه الصورة من الاطلاق الذي ذكرناه في
المسألة الثانية عشرة.
وكذلك إذا بذل معه صاحبه المسبوق عوضا آخر أو اشترك معهما شخص
ثالث فبذل كل واحد منهم عوضا فإذا سبق أحد الباذلين ولم يسبق معه غيره
استحق هذا السابق العوض الذي بذله الآخران ورجع إليه العوض الذي بذله هو
لأنه لا يستحق على نفسه شيئا وهذا الأمر واضح وإنما يذكر للتنبيه لئلا يلتبس
الأمر.
وتراجع المسألة السابعة عشرة في حكم ما إذا كان المتسابقون كثيرين.
(المسألة 15):
إذا بذل كل واحد من الشخصين المتسابقين من ماله عوضا لمن يسبق في
الحلبة، ثم سبق أحد الباذلين للعوض وسبق معه المحلل وتساويا هو والمحلل في
الوصول إلى الغاية وتأخر الآخر المسبوق عنهما، استحق السابقان العوض الذي
بذله المسبوق وكان بينهما بالمناصفة، وأشكل الحكم في العوض الذي بذله
369

السابق، وقد ذهب جمع من العلماء إلى أن هذا العوض يرجع إلى باذله السابق ولا
يستحق المحلل منه شيئا، وهو مشكل كما ذكرنا ولا يترك الاحتياط فيه بالرجوع
إلى المصالحة بين الباذل والمحلل.
وكذلك إذا بذل كل من المتسابقين عوضا، أو بذله أحدهما خاصة، وبذل
معهما أجنبي لم يشترك في المسابقة ثم سبق في الحلبة أحد الباذلين وسبق معه
المحلل، فيتقسم السابق الباذل والمحلل كلا من العوض الذي بذله الأجنبي
والعوض الذي بذله المسبوق بينهما بالمناصفة، ويشكل الأمر في العوض الذي
بذله السابق كما تقدم ويجري فيه الاحتياط المذكور.
ونظيرهما في الاشكال ما إذا بذل الأول العوض ولم يبذل معه غيره ثم سبق
في الحلبة وسبق معه المحلل، فذهب أصحاب ذلك القول إلى أن العوض المبذول
يرجع إلى باذله ولا يستحق المحلل منه شيئا، ولا يترك الاحتياط الذي ذكرناه
والفروض المذكورة في المسألة كلها من مأخذ واحد.
(المسألة 16):
إذا بذل شخص أجنبي عوضا من ماله في المسابقة وشرط في بذله أن يكون
عوض لزيد خاصة إذا سبق على غيره، وأن لا يدفع إلى السابق إذا كان غير زيد، أو
شرط أن يكون العوض كله لزيد وحده إذا سبق، وإن سبق معه غيره وساواه فلا
يدفع من العوض شئ للسابق الآخر، أو شرط أن يكون العوض الذي بذله كله لزيد
سواء كان غالبا أم مغلوبا، لم يصح ذلك إذا كان دفعه بنحو العوض المعلوم في العقد
الشرعي المخصوص، فيرجع إلى باذله، ويصح ذلك منه إذا كان دفعه للمال على
وجه التبرع لزيد على النحو الذي تبرع به.
370

(المسألة 17):
السابق من فرسان الحلبة هو الذي يتقدم حصانه على خيل المسابقة بالعنق
والكتد أو بأكثر من ذلك، ويراد بالكتد عظم مرتفع يقع بين عنق الحصان وظهره
ويسمى السابق أيضا بالمجلى، والثاني من فرسان الحبة هو المصلى وهو الذي
يأتي حصانه بعد السابق، ويحاذي رأسه صلوى السابق أو يتقدم عليها ولا يصل إلى
الكتد، والمراد بالصلوين من الحصان عظمان يقعان عن يمين ذنبه ويساره، ثم
يأتي الثالث من فرسان الحلبة، ثم الرابع وهكذا، ولها أسماء خاصة في اللغة
تعرف بها.
فإذا كان العوض الذي بذله مالكه في المسابقة قد اشترط فيه باذله أن يكون
للسابق اختص به الأول المجلى إذا كان واحدا، وأخذه وحده، وإذا كانت الحلبة
كثيرة العدد وسبق منهم اثنان أو ثلاثة فوصلوا إلى الغاية متساوين في السبق
اقتسموا العوض المبذول للسابق بينهم بالمساواة فإن كانا اثنين اقتسماه بالمناصفة
وإن كانوا ثلاثة فبالمثالثة، ولم يستحق الثاني المصلى من هذا العوض شيئا، وإذا كان
باذل العوض قد جعله حصصا متعددة فللسابق حصة معينة وللمصلى حصة أخرى
وللثالث حصة ثالثة، وزع العوض بينهم حسب ما عينه الباذل.
(المسألة 18):
إذا بذل الباذل من المتسابقين أو من غيرهم عوضا في المسابقة وأطلق بذل
ماله ولم يجعله حصصا على مراتب المتسابقين كما بيناه في المسألة المتقدمة
كان جميع العوض للسابق الأول سواء كان واحدا أم متعددا، ولا حق فيه للثاني
المصلى ولا لغيره وقد فصلنا ذكر هذا، وكذلك إذا بذل الجميع من أموالهم أعواضا
371

في المسابقة وأطلقوا بذلهم ولم يذكروا حصصا، فيكون الجميع نصيبا للسابق
المجلى وإن كان واحدا وكان المبلغ كثيرا، وإنما يستحق المصلى أو الثالث
أو غيرهما شيئا إذا صرح الباذل فجعل في عوضه الذي بذله حصة للمصلى أو لغيره.
ونتيجة لهذا التفصيل فإذا بذل كل واحد من الشخصين المتسابقين من ماله
عوضا وأطلقا بذلهما ثم تسابقا مع المحلل، فسبق أحدهما وصلى المحلل
وتأخر الثالث أخذ السابق جميع العوض ولم يستحق المحلل منه شيئا وإن كان
مصليا.
(المسألة 19):
إذا تم عقد المسابقة بين الشخصين أو الأشخاص وأجريت الخيل أو الدواب
وتحقق السبق من بعضهم ملك السابق العوض المبذول وإن تأخر قبضه لبعض
الموانع التي أوجبت التأخير، فإذا كان العوض عينا وحصل منها نماء أو نتاج
بعد التحقق السبق كان النماء والنتاج الحاصل منها مملوكا للسابق بتبع ملكه
للعين.
(المسألة 20):
لا يصح أن يجعل العوض في المسابقة لشخص لم يشترك في السباق، ومن
أمثلة ذلك أن يقول بعض المتفرجين في حفلة السباق للبعض الآخر منهم: أراهنك
على سبق هذه الفرس وهي فرس زيد، فإن سبقت فهي على غيرها من الخيل فعليك
أن تدفع لي عشرة دنانير مثلا وأن سبقها غيرهما فعلي أن أدفع لك مثل هذا المبلغ
فلا يصح مثل هذا الرهن ولا يحل أخذ المال بسببه، ويكون من المقامرة المحرمة
وأشد من ذلك حرمة وأنكى أن يجري مثل هذا الرهان بين المتفرجين على الألعاب
372

الرياضية وشبهها مع فرض كونها ألعابا.
(المسألة 21):
لا يحل أن يقول أحد المتسابقين في الحلبة لشخص ثالث لم يشترك: أراهنك
على فوزي في المسابقة، فإن غلبني صاحبي وفاز بالسبق علي دفع إليك عشرين
دينارا، فلا يحل لذلك الشخص أن يأخذ المبلغ من القائل إذا غلبه صاحبه ودفع
مبلغ الرهان له، ويكون ذلك من المقامرة المحرمة.
(المسألة 22):
قد تقع المسابقة بين الشخصين أو الأشخاص، وتجري فيها الخيل أو
الدواب لغير الوجه الشرعي الذي أراده الاسلام من المسابقة ودعا إليه وحث
المسلمين عليه، وشرع له أحكامه، وهو اعداد القوة لقتال الأعداء والتمرين على
الفروسية للجهاد في سبيل الله، وبسط العدل في الأرض، واعلاء كلمة الله، فتقام
المسابقة لغير ذلك من المقاصد والغايات.
فإن كان الوجه الذي تقام له هذه المسابقات مقصدا، صحيحا راجحا أو
مباحا يرغب فيه العقلاء المتزنون ولا يعدونه من اللهو واللعب، كانت كسائر
المسابقات التي تجريها العقلاء لمثل هذه الغايات الراجحة في الدين أو المطلوبة
في أمور الدنيا، وسيأتي أن شاء الله تعالى بيان الحكم فيها.
وأن أقيمت بداعي اللهو واللعب وقتل الوقت كما يقول البعض أو بداعي
تحصيل المال، وإن كان تحصيله بوسيلة غير شرعية، شملتها أدلة تحريم اللهو
واللعب، فيحرم اجراؤها وإن كانت بغير عوض، وإذا كانت مع الأعواض فهي أشد
حرمة وأمض عقوبة من الله.
373

(المسألة 23):
تحرم الأعمال التي تعد من اللعب واللهو عرفا، وتكون هذه الأعمال مع
الاجتماع لها لهذه الغاية أشد حرمة وجرما، ثم هي مع استصغار أمرها والاستهانة
بنهي الله عنها تكون أشد من ذلك تحريما ومقتا وعقوبة عند الله، فإذا تعاظم
الاستصغار لها وبلغ إلى درجة الاصرار على معصية الله والتمرن والاعتياد عليها
اشتد الأمر فيها وتعقد وتلبد وكلما ازداد الاصرار والاعتياد كبرت الجريمة
والعقوبة والمقت من الله سبحانه ثم يكون تأثيرها أشد وأعمق وجرحها أنكى
وأمض إذا هي وقعت في أدوار الشباب، وهي زهرة الحياة وأيام التفتح والبناء
النافع المجدي للشخصية المؤمنة المتكاملة، فلا بد من اليقظة، ولا بد من الوعي
ولا بد من الحذر، وخصوصا في العصور التي كثرت فيها الدعايات لهذه الأمور
وتنوعت أسباب الاغراء والفتنة بها وأساليب الدعوة إليها: (إن الشيطان لكم عدو
فاتخذوه عدوا، إنما يدعو حربه ليكونوا من أصحاب السعير).
(يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا، واتقوا الله لعلكم تفلحون).
(المسألة 24):
يجوز التنافس في الأعمال الراجحة في الحياة الدنيا، وفي الأعمال المباحة
فيها من الله (عز وجل) ولم يرد فيها منه نهي ولا تحريم، ويجوز التسابق فيها مع
العقلاء، فالتنافس والتسابق إذا كان صحيحا مستقيما في أساليبه وغاياته فهو وسيلة
كبرى من وسائل الابداع في الفكر، والارتقاء في الحياة والابتكار في الأمور
والاعتماد على النفس والذكاء والمواهب، والتحرر الذاتي عن التبيعات والنفع
الكبير الكثير للنفس وللإخوان من بني الانسان، شريطة أن لا يشغل المؤمنون
374

والمسلمون بهذا التنافس والتسابق عما هو أكبر وأعظم وأجدى لهم وأنفع، وهو
ابتغاء مرضاة الله والسعي في طلب نائلة، والتوكل الكافي عليه، وشريطة أن
لا يشغل المؤمنون والمسلمون بسبب ذلك في ما بينهم، فتتولد الفروق والإحن
والحزازات، ويبعدون الغاية وهم يرومون القرب إليها، فإن مكائد الشيطان
وأساليبه في صرف المؤمن عن رضى ربه، وعن سبيل الحق لن تعد ولن
تحصى، والتنافس والتسابق إذا لم يكن صحيحا، ولم يكن مستقيما مع المبادئ
الصحيحة السوية كان وسيلة من وسائل الشيطان للتفرق والشقاق والسقاء.
يجوز التسابق والتنافس في الأعمال التي ذكرناها إذا خلت عن المحاذير
التي يمقتها الله، ويبغض وقوعها من الانسان الذي كرمه وفضله، ومن المسلم
والمؤمن على الخصوص، ويجوز دفع العوض من الأموال للسابق فيها إذا كان دفع
المال إليه من باب الجعالة له على فعله الذي سبق فيه، ويجوز التبرع له بذلك بقصد
التشجيع والتكريم له لسبقه أو لابتكاره أو للمزية التي امتازها على أقرانه.
ولا يجري فيها العقد الشرعي المتقدم ذكره، فإنه يختص بمسابقة ذوات
الحافر أو الخف، وبالرماية للنصوص الخاصة، ومنها قول الرسول صلى الله عليه وآله: (لا سبق
إلا في حافر أو نصل أو خف).
(المسألة 25):
تصح المسابقة على الظاهر بين الشخصين في العدو على الأقدام، وفي
السباحة، وفي السفن الشراعية ونحو ذلك إذا تعلق بمثل هذه المسابقات غرض
يعده الناس العقلاء صحيحا متعارفا لهم، ولم تكن من اللعب واللهو في نظر أهل
العرف، ويجري فيها البيان الذي تقدم في المسألة الماضية.
375

(المسألة 26):
من السبق المطلوب الراجح أن يتقدم الطبيب في صناعته حتى تكون له
الأولية والتفوق الكبير على أقرانه في كشف الأمراض الخبيثة والمستعصية، وعلاج
المصابين بها من بني الانسان، وإزالة الأوباء والأخطار بذلك عن حياة كثير من
الموبوئين والمعذبين في هذه الحياة، ومن السبق المرغوب فيه أن يتقدم السابق فيه
في علوم الصيدلة فيكتشف العقاقير والأدوية الحاسمة للأدواء المتوطنة المزمنة، و
التي تزيل البؤس والتعاسة عن نفوس بائسة يائسة، وتعيد لها نضرة الحياة وبهجة
الأمل، ومن السبق المهم أن يتقدم الصانع في صنعته ويفوق أقرانه وزملاؤه فيها، و
يصبح قدوة ومثلا عاليا لهم في اتقان العمل، ودقة الصنعة
وكثرة الانتاج، ومن السبق أن يبرع الخطاط ويبدع في جمال خطه، ودقي فنه
ويحرز الأولية، والفوز بين زملائه وهكذا في كل مجال من الصناعات والعلوم
والفنون المباحة والنافعة في هذه الحياة فيمكن فيه السبق ويجوز فيها التسابق
واحراز الفوز والأولية وتجري فيها الأحكام التي تقدم في المسألة الماضية.
(المسألة 27):
الاسلام دين الجد والتكامل والارتقاء الاختياري في كل المجالات التي
يمر بها المسلم منذ نعومة أظفاره، فهو يحب للتلميذ الصغير من أبنائه منذ مراحله
الأولى أن يتقدم في تعلمه وتلقيه، ويسبق على أترابه، ويحوز الأولية في جميع
أشواطه، ويحب للشاب في مراحله المتوسطة أن يتقدم كذلك حتى يبذ أقرانه
ويكون السبق له عادة مستمرة، ويحب له في مراحله المنتهية أن يصبح السعي
والجد المتفوق على الآخرين عادة مستقرة في أعماقه، فلا يقر ولا يهدأ حتى ينال
376

الأولية في كل شوط ممكن.
والاسلام بالإضافة إلى الطلاب من أبنائه في مدارسهم الدينية، وتعلمهم
فيها، وتكاملهم وارتقائهم في مناهجها أشد رغبة لهم في أن يتقدموا ويحرزوا
الفوز والسبق في أشواطهم في العلم، وأشواطهم في العمل، وأشواطهم في الخلق
وأشواطهم في التربية، وأدب النفس، ومتممات السعادة لهم وللآخرين من
تلاميذهم، والمتبعين لارشادهم والسائرين على هديهم، والاسلام بالإضافة إلى
جميع أبنائه المتبعين لحكمه وحكمته يريد منهم التقدم والسبق في التعلم
والتعليم وفي الأدب وفي زكاة النفس وبناء الشخصية فهو يحب حبا عميقا
ويرغب رغبة ملحة للمتعلم والمعلم وللأديب وللخطيب وللمرشد وللمسترشد
في أن يسبقوا ويتقدموا ويحلقوا في مجالاتهم، حتى يصل دين الله بهم إلى الغاية
التي أرادها لهم، وهي السعادة العامة المتكاملة الحلقات والمجتمع الفاضل
المتراص البناء المنير الأجواء.
والاسلام يهيئ نفوس اتباعه وقلوبهم وطباعهم لكل ذلك بمناهجه
وتعاليمه، ويفتح أبواب المشاريع له في أنفسهم وأموالهم، فيأمرهم بالاستباق إلى
الخير والتعاون على البر والتقوى، ويعد لهم الضمانات الاجتماعية الكفيلة بذلك
وغيرها مما يطول شرحه، ويضيق هذا المجال عن بيانه، والنصوص التي تدعم كل
هذه الجهات كثيرة وفيرة.
(المسألة 28):
يجري في هذه المسابقات كلها ما ذكرناه في المسألة الرابعة والعشرين
فيجوز دفع العوض للسابق فيها بعنوان الجعالة على ما قام به من علم، ويجوز دفع
377

العوض له من باب التبرع له، مكافأة على سبقه وتميزه، ومساهمة من المتبرع في بناء
المجتمع المسلم، وخدمة للاسلام في تحقيق بعض أهدافه وغاياته ويصح أن يدفع
العوض له من باب الاستباق إلى الخير، والتعاون على البر، بل ويستحب الاعداد
لاجراء هذه المسابقات ودفع الأعواض للسابقين فيها، لما ذكرناه من الوجوه،
وللمشاركة في الضمان الاجتماعي الذي يعده دين الله العظيم لاتباعه، ولا يجري فيها
العقد الشرعي المخصوص في المسابقة، وقد بينا وجه ذلك في المسألة المشار إليها.
(المسألة 29):
يحسن انشاء هذه الرغبة في نفوس التلاميذ الصغار من المؤمنين وبعث
الشوق في قلوبهم، باجراء المسابقة بينهم في حفظ بعض السور من الكتاب الكريم
فيمرنون فيها على التلاوة الصحيحة، ويرغبون في حفظ السور منه، ويحرضون
على التسابق في ذلك، ويوعد السابق منهم بالمكافأة له على سبقه، فمن كانت
تلاوته أصح وحفظه أتم فهو السابق الأول، وله التكريم في الدرجة الأولى
والعوض التام المعين في المسابقة، ومن كان أدنى من ذلك فهو في الدرجات
اللاحقة من السبق، وله الحصة الثانية أو الثالثة من العوض، ويبتدأ معهم بالسور
الصغيرة ويكبر التمرين معهم كلما كبر سنهم، وازدادت قوة حفظهم ونشطت
ملكات ادراكهم، ثم يزادون مادة من التفسير الواضح ومعاني الكلمات المفردة في
اللغة.
ويمكن أن تكون الدربة لهم مع تقدم السن بحفظ بعض النصوص المنتخبة
من الحديث النبوي الشريف، ومن خطب نهج البلاغة وكلمات بعض المعصومين
(ع) مع إضافة بعض الشرح وبعض الايضاح، ويعد للسابق جزاؤه وللاحق
378

مكافأته على النهج المتقدم في سبقهم في حفظ القرآن.
[الفصل الثاني]
[في الرماية وما يتعلق بها]
(المسألة 30):
يراد بالرماية هنا المسابقة بين شخصين أو بين فريقين في الرمي ليعرف من
هو أدق في إصابة الغرض، وأكثر في عدد الإصابة من غيره، وتسمى أيضا
بالمناضلة، وتطلق الرماية أيضا على المناضلة بالسيوف والرماح والحراب من
ذوات النصل، وإن كان الضرب بالسيف أو بالرمح لا يسمى رميا، والرماية
كالمسابقة بين ذوات الحافر والخف ونظيرتها في الشرعية والأحكام، فالحث
والتأكيد الشرعي في النصوص وارد فيهما على السواء، وهما معا من اعداد القوة
المستطاعة لقتال من يجب قتاله وارهابه من أعداء الاسلام، ولتأديب من يجب
تأديبه من غيرهم، ويصح في الرماية أيضا أن تكون بعوض وأن تقع بغير عوض
وتطلق كلمة الرماية أيضا على العقد الشرعي المخصوص للمسابقة بين الطرفين
والعقد الشرعي المذكور يجري في كل من المسابقتين.
(المسألة 31):
يشترط في صحة المناضلة في الرمي شرعا جميع ما يشترط في مسابقة
ذوات الخف والحافر فلا بد فيها من تعيين المسافة بين موقف الرامي والغرض
الذي ترام إصابته، ولا بد من تعيين العوض الذي يجعل للسابق، ويجري عليه العقد
بين الطرفين على النحو الذي بيناه في المسألة السابعة، ولا بد من تعيين عدد الرمي
379

وتعيين عدد الإصابة وصفتها كما سيأتي، ولا بد من تماثل الصنف في آلة الرمي
فتكون آلة كل من المتناضلين من السهام، أو من الحراب أو من السيوف مثلا، فلا
تصح المناضلة إذا اختلفت آلاته، ويعتبر في صحتها أن يكون المتناضلان قادرين
عليها، فلا يصح العقد بين عاجزين ولا بين قادر وعاجز، وتلاحظ المسائل
المتعلقة بهذه الشروط من الفصل الأول.
(المسألة 32):
يجري العقد الشرعي المخصوص في الرماية كما يجري في السبق
ويتحدان في نحو انشاء العقد، وفي ما يعتبر في صحة العقد من الشروط، وفي ما
يصح من العوض فيه، ومن يبذله، ولا اختلاف بينهما في شئ من ذلك، بل
الظاهر أن العقد في كلا الموردين عقد واحد، وتفصيل ما يتعلق به في المورد الأول
يغني عن إعادته هنا فليرجع إلى الفصل الأول من يريد التطبيق هنا.
(المسألة 33):
الرشق بكسر الراء وسكون الشين هو عدد الرميات الذي يعينه المتناضلان
للنضال بينهما فيرمي كل واحد منهما ذلك العدد، والناضل أو السابق في
المناضلة هو من يكون أكثر وأدق إصابة للغرض في ذلك العدد المعين.
والغرض هو رقعة معينة يقصد الطرفان إصابتها بالرمي، وقد يجعلان
الغرض دائرة أو نصف دائرة ويجعلان في وسطها نقطة معينة تسمى في عرف
الرماة بالخاتم ويشترطان في السابق أن يصيب أي جزء اتفق من الدائرة أو
يشترطان أن يصيب النقطة المعينة في وسطها، والهدف موقع المرتفع عن وجه
الأرض من تراب أو حائط أو غيرهما يجعل عليه الغرض لتتبين رؤيته وتمكن إصابته.
380

وللسهم في عرفهم أيضا أوصاف كثيرة يعددهما علماء اللغة ويذكرون
للسهم أسماء باعتبار تلك الأوصاف فمن السهام مثلا ما يصطدم بالأرض ثم ينتقل
وهو بسرعته على وجهها حق يصل إلى الغرض، ومنها ما يصيب الهدف ولا يصل
إلى الغرض نفسه، ومنهما ما يضرب وجه الغرض فيخدشه خدشا ولا يثبت فيه
ومنها ما يخرقه وينفذ منه، وهكذا، وليس في ذكر هذه الأوصاف وتعداد أسمائها
كبير فائدة في البحث المطلوب، والمدار في صدق السبق على ما يعد إصابة
للغرض في نظر أهل العرف، فيكون هذا هو المتبع، وإذا لم يوجد بين أهل العرف
شئ يمكن التعويل عليه ليتبع في ذلك، فلا بد من التعيين والاشتراط في العقد بين
المتناضلين، وإذا أهملا ذلك ولم يعينا شيئا يكون العقد باطلا.
(المسألة 34):
تصح المسابقة في الرمي على الأقوى بآلات الرمي الحديثة، وبأسلحة
الحرب الموجودة في الأزمنة الحاضرة، ويجوز بذل العوض للسابق فيها إذا كان
دفعه إليه بعنوان الجعالة على ما قام به من عمل للاسلام، أو من التبرع له مكافأة له
على فوزه ونجاحه في بلوغ الغاية المطلوبة، أو من السبق إلى الخير والتعاون على
البر إذا كانت المسابقة لاعداد القوة للجهاد في سبيل الله، وقتال أعداء الاسلام
وارهابهم، ولا يجري فيها العقد الشرعي الخاص للمسابقة على الأحوط.
(المسألة 35):
إذا جرى عقد المسابقة في الرمي بين الطرفين وحصلت المناضلة بينهما
وعلم سبق السابق فيها ملك للسابق العوض المجعول له في العقد كما تقدم في
نظيرتها، ولا يملك العوض بنفس العقد وتلاحظ المسألة التاسعة عشرة.
381

(المسألة 36):
إذا تم عقد السبق أو الرماية، وجرت المسابقة أو المناضلة وتبين سبق
السابق، ولما أراد الباذل دفع العوض المعين إليه ظهر أن العوض المعين له مغصوب
من مالكه الشرعي، كان الأمر في العوض راجعا للمالك، فإن شاء أجاز بذل العوض
فيصح للسابق أخذه، ويكون البذل من المالك وإن شاء لم يجز البذل فيصح له أن يأخذ
عين ماله من الباذل، ويلزم الباذل أن يدفع مثل العوض أو قيمته للسابق وفاء بالعقد.
وإذا قبض السابق العوض بعد أن تبين سبقه ثم علم بالغصب بعد ذلك جاز
للمالك أن يأخذ عين ماله من يد السابق، وإذا أخذه منه وكان الباذل قد غره فدفع
العوض المغصوب إليه جاز له أن يرجع على الباذل بمثل العوض إذا كان مثليا
وبقيمته إذا كان قيميا، وإذا كان السابق عالما بغصب العوض ولم يكن مغرورا
بقبضه لم يرجع على الباذل بشئ.
(المسألة 37):
إذا بطل عقد السبق أو الرماية بسبب عروض لبعض الطوارئ، فأوجبت فساد
العقد بعد أن كان صحيحا لم يستحق السابق العوض المعين، وكذلك إذا تبين بعد
العقد والمسابقة فساد العقد من أصله، فلا يستحق السابق العوض، ولا يترك
الاحتياط بأن تدفع له أجرة المثل بمصالحة أو غيرها في الصورتين.
(المسألة 38):
إذا اختلف السابق والباذل في مقدار العوض المعين للسابق في
عقد المسابقة فقال السابق: أن العوض ستون دينارا، وقال الباذل: بل هو خمسون لا
أكثر قدم قول من ينكر الزيادة مع يمينه، إلا أن يثبت الآخر صحة دعواه ببينة شرعية.
382

[كتاب الاقرار]
383

[كتاب الاقرار]
وبيان البحث في هذا الكتاب يقع في ثلاثة فصول:
[الفصل الأول]
[في الاقرار ولوازمه وشروطه]
(المسألة الأولى):
الاقرار هو أن يخبر الرجل على وجه قاطع جازم، لا تردد له فيه ولا احتمال
بثبوت حق لشخص آخر يلزم المخبر الوفاء به لذلك الشخص الآخر، أو يخبر
كذلك بنفي حق له يلزم ذلك الشخص أن يفي به للمخبر، ومن الاقرار أيضا أن يخبر
الانسان بوجود شئ يستلزم وجوده ثبوت حق للغير يلزم على المخبر نفسه أن
يفي به، أو يستلزم ثبوت حكم يجب على المخبر امتثاله، ومن الاقرار أن يخبر بنفي
شئ يستلزم نفيه انتفاء حق للمخبر على الغير.
ومثال الفرض الأول أن يقول المخبر لرجل آخر: لك في ذمتي مائة دينار
وأن يقول مشتري الدار: إن بائع هذه الدار قد اشترط علي أن يكون له خيار فسخ
البيع إذا هو رد الثمن بعد مضي سنة من حين وقوع البيع، فهو يملك حق الخيار على
رأس السنة إذا رد الثمن، ومثال الفرض الثاني أن يقول الشخص للمدعي: لا حق لي
في الدار التي تدعي ملكها، وأن يخبر الشريك بأنه لا يستحق الشفعة على المشتري
في الحصة التي اشتراها من شريكه.
ومثال الفرض الثالث أن يقول الرجل: إن فاطمة بنت زيد زوجته نفسها
385

ومكنته من حقوق الزوجية، فإن ذلك يستلزم ثبوت حق النفقة لفاطمة على المخبر،
وثبوت حق القسمة لها في الليالي، ويستلزم أيضا حرمة زواجه بأختها حتى
يطلقها، وحرمة بنتها على إذا كان قد دخل بالأم، وحرمة الزواج بامرأة خامسة إذا
كانت فاطمة هي الرابعة من زوجاته، ومثال الفرض الأخير أن تقول المرأة المطلقة:
إن الزوج الذي طلقها لم يرجع بها حتى انقضت عدة الطلاق، فلا يجوز لها بعد
اقرارها بذلك أن تطالب الزوج بحق الانفاق عليها، وليس لها أن تمكنه من
الاستمتاع بها، أو تنظر إليه أو تلمسه بشهوة إلا بعد عقد جديد.
وقد ذكرنا في أول المسألة أن اخبار الانسان بحصول الأمر المذكور فيها أو
بنفيه إنما يكون اقرارا لذا وقع منه على نحو الجزم به، ولهذا التقييد فإذا أخبر
الانسان بحصول الأمر وهو يظن حصوله، أو على نحو الشك والتردد فيه لم يكن
اخباره اقرارا، ولم تترتب عليه آثاره.
والمتبع في تبين ذلك هو ظهور اللفظ الذي نطق به ودلالته في متفاهم أهل
اللغة واللسان، وإن لم تكن دلالة قطعية أو كانت الدلالة بسبب وجود قرينة عامة أو
خاصة من حال أو مقال، فإذا دل اللفظ كذلك على حصول الشئ، أو نفيه ودل على
أن القائل كان جازما بخبره، وليس ظانا ولا شاكا فيه، كان هذا الاخبار منه اقرارا
بالمضمون، ولا اعتبار به إذا لم يكن للفظ ظهور في المعنى المراد، وكان أهل
المحاورة يحتملون أن المراد منه شئ يخالف ذلك.
(المسألة الثانية):
يعتبر في الاقرار أن يكون المخبر عارفا باللفظ الذي نطق به، وعارفا بمعناه
الذي يدل عليه عند أهل اللغة، وبالقرينة الموجودة الموجبة لظهور اللفظ في
المعنى المراد إذا كان الاعتماد في الظهور على القرينة، فإذا نطق هذا المخبر باللفظ
386

المذكور كان مقرا بمضمونه، سواء كان اللفظ عربيا أم غير عربي، وسواء كان
المخبر من أهل تلك اللغة أم من غيرهم.
وبحكم اللفظ الإشارة المفهمة للمعنى، فإنها إن لم تكن اقرارا حقيقيا فهي
بمنزلة الاقرار، فإذا سأل سائل من بائع الدار بعد تمام العقد بينه وبين المشتري
فقال له: هل اشترطت لنفسك خيار فسخ البيع إذا أنت رددت ثمن الدار على
المشتري؟ فأشار البائع إشارة واضحة تدل على عدم الاشتراط، كانت إشارته
بمنزلة الاقرار على نفسه بنفي حق الخيار له، وإذا سئل الرجل: هل تزوجت هندا؟
فأشار بالايجاب كانت إشارته بمنزلة الاقرار على نفسه بزوجية المرأة، وإذا أشار
بالنفي، كانت إشارته بمنزلة الاقرار بعدم الزوجية، فتلزمه أحكام الاقرار في الأمثلة
المذكورة.
(المسألة الثالثة):
إذا وقع الاخبار عن المخبر على الوجه الذي أوضحناه كان اقرارا من المخبر
على نفسه بمضمون الخبر، وإن لم يكن قاصدا للاقرار على نفسه، فإذا سأله أحد
هل استدنت من زيد مائة دينار؟.
فقال نعم، كان قوله: نعم اقرارا منه بأن ذمته مشغولة لزيد بالمبلغ المذكور
وصح للسامع أن يشهد على اقراره به، وكذلك إذا قال وهو في أثناء حديثه مع
بعض الناس: يمكنك أن تنكر دين فلان عليك ولا بينة له عليك، كما أنكرت أنا دين
زيد علي فلا يستطيع اثباته، فيكون قوله هذا اقرارا يمكن لمن سمعه منه أن يشهد
عليه، وإن لم يكن قاصدا للاقرار، ومثل ذلك أن يدعي عليه المدعي ويقول له هذه
الدار أو هذه الأرض التي بيدك مملوكة لي وليست لك، فيقول له إنني قد اشتريتها
منك، فيكون اخباره بشراء الدار منه اقرارا منه بأن المدعي يملك الدار ودعوى منه
387

بأن الدار انتقلت إليه بالبيع، فيؤخذ باقراره، وعليه أن يثبت صحة ما يدعيه من البيع
بإقامة بينة ونحوها.
(المسألة الرابعة):
إذا قال المدعي للانسان الذي يدعي عليه: إن لي في ذمتك مائة دينار، أو قال
له ماذا صنعت بالمبلغ الذي أستحقه في ذمتك؟ أو قال له: إن الدين الذي أستحقه
عليك قد حضر ميعاده، فقال له الرجل: سأدفعه إليك، أو قال له: إنك ذكرتني به وقد
نسيته، أو قال له: سيدفعه لك وكيلي فلان، فقد أقر له بالحق، وبمقداره في المثال
الأول، وأقر له بالحق في المثال الثاني، وأقر له بالحق وبحضور وقته في المثال
الأخير.
ولا فرق في الاقرار بين أن تكون دلالة القول عليه بالمطابقة أو بالالتزام
والأمثلة التي ذكرناها في المسألة من القسم الثاني وقد تقدمت لذلك عدة من
الأمثلة أيضا.
وإذا أخبر الانسان بثبوت حق لغيره على نفسه، وعلق في اخباره ثبوت
الحق على وجود شئ معين فقال: إن لزيد عندي أو في ذمتي مائة دينار إذا أنا
وجدت المبلغ المذكور مسجلا في دفتري الخاص بالديون، لم يكن ذلك منه
اقرارا، فلا ينفذ ولا يثبت له أثر، ونظير ذلك أن يقول لشخص: لك في ذمتي
خمسون دينارا، إذا أنا قبضت مثل هذا المبلغ من زيد، فلا يكون اخباره اقرارا، وقد
سبق منا أن الاقرار هو الاخبار بثبوت الحق على نفسه على وجه الجزم، ولذلك
فيعتبر في الاقرار أن يكون الاخبار بثبوت الحق أو بنفيه منجزا غير معلق على وجود
شئ أو على عدمه.
(المسألة الخامسة):
388

قد تصحب اخبار المخبر قرينة خاصة تدل على ما يخالف الظاهر من لفظه
الذي تكلم به، فلا يتم ظهور اللفظ ولا دلالته على المعنى عند أهل العرف بسبب
وجود تلك القرينة، وإن كان اللفظ ظاهرا أو صريحا في معناه لو لم توجد تلك
القرينة، فلا يكون خبره خبرا ولا اقراره اقرارا بسببها.
ومثال ذلك أن يخبر بخبره وهو يضحك من ذلك القول أو يبتسم ابتسامة
هازئة أو ساخرة أو يتكلم بلهجة تدل على التهكم والانكار للخبر، أو يصحب قوله
بحركة رأس أو يد أو عين أو مط شفة تدل على شئ من ذلك، فلا يكون خبره خبرا
كما قلنا ولا اقراره اقرارا، ومثل ذلك إذا كان اخباره بالشئ بإشارة مفهمة لثبوته أو
نفيه، أو بقول: لا، أو نعم، بعد سؤال السائل عن وجود الحق أو بغير ذلك مما تقدم
ذكره فلا يثبت خبره ولا اقراره مع وجود شئ من هذه القرائن، وهو أمر معلوم لا
يرتاب فيه عاقل، وإنما يذكر للتنبيه، ولكي لا تلتبس الحقائق أو الأحكام في بعض
الموارد لغفلة ونحوها.
(المسألة السادسة):
إذا أقر الرجل على نفسه بثبوت حق لبعض الناس عليه أو بنفي حق للمخبر
على بعض الناس الآخرين، أو أقر بوجود شئ يستلزم وجوده ثبوت حق على
المخبر، أو انطباق حكم شرعي ملزم عليه، أو أقر بعدم شئ يستلزم عدمه مثل
ذلك، وكان اقراره جامعا للشرايط المعتبرة فيه لزمه الأمر الذي أقر به، ولا ريب في
هذا الحكم، بل ولا اشكال فيه بين عامة العقلاء والمشرعين، ولا الاختلاف في
نظرات المتشرعين إنما حصل لاختلافهم إزاء الشروط التي يعتبرونها في صدق
الاقرار، وفي ثبوت لوازمه على المقر عندهم.
والشروط المعتبرة شرعا في تحقق الاقرار ولوازمه متنوعة، فبعض هذه
389

الشروط يجب توفره في الأمر المقر به، وبعضها يعتبر اجتماعه في الشخص المقر
نفسه، وبعضها يلزم وجوده في الذات أو الجهة المقر لها، وسنوضح كل قسم منها
في موضعه من المسائل الآتية إن شاء الله تعالى.
(المسألة السابعة):
الحق الذي يقر به الانسان لغيره على نفسه فيلزم المقر أداؤه إليه يصح أن
يريد به واحدا معينا من الأشياء التي يمكن للانسان تملكها، فيعم ما إذا كان الشئ
عينا موجودة في الخارج، ومثال ذلك أن يقول الرجل: الدار أو الأرض التي بيدي
مملوكة لزيد، أو يقول: نصف هذه الدار أو الأرض مملوكة له.
أو كان عينا كلية تشتغل بها الذمة، ومثاله أن يقول: يملك زيد في ذمتي ألف
دينار، أو مائة من الحنطة، أو كان منفعة خاصة لعين مملوكة للمقر، ومثاله أن يقول:
فلان يملك حق السكنى في داري هذه مدة سنة، أو يقول: إنني أجرت فلانا أحد
هذه الدكاكين المعينة التي بيدي، فهو يملك الاتجار في واحد منها مدة ستة أشهر
ويصح أن يكون الدكان المستأجر واحدا في الذمة فيكون الحق المقر به منفعة كلية
في الذمة، أو كان عملا من الأعمال، ومثاله أن يقول: يملك فلان علي أن أعمل له في
مزرعته أو ضيعته مدة ستة أشهر، أو كان حقا من الحقوق التي تجوز لصاحبها
المطالبة بها، ومثال ذلك أن يقول: لزيد علي حق الشفعة في الأرض التي اشتريتها
من شريكه، أو يقول: له علي حق الخيار في الدار التي اشتريتها منه.
وكذلك الحال عندما يقر الرجل بنفي حقه عن رجل آخر، فإن الحق المنفي
يمكن أن يراد به أي واحد معين من الأشياء التي تقدم ذكرها.
وقد يكون المقر به أمرا خارجيا إذا كان الاقرار به يستتبع ثبوت حق لأحد
على المقر، أو يستتبع حكما شرعيا ملزما له، ومثال ذلك أن يقر الرجل بنسب ولد
390

فيتبع ذلك الحاق الولد بنسبه وميراثه منه بعد موته، وأن يقر بزوجية امرأة، فيتبع
ذلك ثبوت نفقتها عليه وحرمة زواجه بأختها.
ونظير ذلك ما إذا أخبر الرجل بنفي شئ خارجي، وكان نفيه يستتبع سقوط
حق للمقر على غيره أو يستتبع حكما شرعيا ملزما للمقر، وقد ذكرنا في ما مضى
أمثلة لذلك.
(المسألة الثامنة):
يشترط في صحة الاقرار وفي نفوذه على الشخص المقر أن يكون ثبوت
الأمر الذي يقر به مما يوجب دخول نقص عليه أو شئ يضر به، كما في الأمثلة
الماضية، فإن وجوب حق للغير على المقر أو تعلق حكم شرعي ملزم به وما يشبه
ذلك: من الأمور التي تكلفه وتوجب عليه الثقل أو تسبب له تضررا ماليا أو خسارة أو
تحمله كلفة ومؤنة في ماله أو بدنه أو في نفسه، أو في بعض الاعتبارات المتعلقة به،
أو تلقى عليه مسؤولية خاصة.
ولذلك فلا ينفذ الاقرار في ما يكون فيه نفع للمقر، ولا ينفذ في ما كون مضرا
بالغير، أو مثبتا للحق أو الحكم عليه، وإذا كان ثبوت الشئ المقر به مضرا بالمقر من
ناحية أو مضرا بغيره من ناحية أخرى، نفذ الاقرار وثبت أثره على المقر فيجب عليه
تحمل الضرر الذي يلم به، ولم ينفذ ولم يترتب أثره على الشخص الآخر فلا يجب
عليه تحمل شئ، إلا إذا صدق ذلك الشخص اقرار المقر وشاركه في الاعتراف بما
قال، فإذا أقر الرجل بنسب الولد إليه، واعترف بأنه ولد شرعي له
وجب على الرجل المقر أن ينفق على الولد من ماله إذا كان الولد فقيرا محتاجا،
وكان الرجل غنيا قادرا على الانفاق، ولم يجب على الولد أن ينفق على الرجل إذا
انعكس الأمر، فكان الولد غنيا متمكنا، وكان الرجل المقر هو المحتاج، واستحق
391

الولد نصيبه من الميراث إذا مات الرجل الذي أقر به قبله، ولا يرث المقر من مال
الولد شيئا إذا مات الولد قبل الرجل، إلا إذا صدق الولد إقرار الرجل بالنسب
واعترف بأبوته، فيثبت وجوب الانفاق والتوارث من الجانبين، وسيأتي تفصيل
الحكم إن شاء الله تعالى.
وإذا أقر الرجل بامرأة إنها زوجته شرعا لزمه الانفاق عليها، ولم يجب عليها
أن تمكنه من الاستمتاع بها، واستحقت هي نصيبها من الميراث إذا مات الرجل
قبلها، ولم يستحق هو شيئا من ميراثها إذا ماتت قبله، إلا إذا أقرت به زوجا
وصدقته في قوله فتثبت الحقوق والأحكام من الجانبين.
(المسألة التاسعة):
لا يشترط في صحة الاقرار بالشئ أن يكون المقر به أمرا معينا أو أمرا معلوما
فيصح الاقرار به إذا كان شيئا مبهما أو مرددا غير معين، ويصح الاقرار به إذا كان
مجهولا غير معلوم، فإذا قال الرجل لشخص آخر: لك عندي بعض الأشياء، أو لك
عندي حاجة، أو أحتفظ لك بشئ، صح الاقرار منه، ونفذ عليه شرعا، وألزم على
الأحوط بأن يبين مراده من اللفظ الذي تكلم به، وأن يرفع الابهام واللبس عنه، فإذا
هو بين المراد وكان بيانه يتطابق عند أهل العرف واللسان مع القول الذي نطق به، و
يصلح لأن يكون مدلولا له، ويصح أن يكون هذا المدلول مما يلتزم به مثل هذا
المقر لمثل ذلك الشخص، ويكون على عهدته كما هو ظاهر قوله: (لك عندي) قبل
منه تفسيره لمقصده وألزم بأدائه للمقر له، وإن كان ما ذكره قليلا، أو كان مما لا يعذ
مالا، وإذا لم يصلح ما ذكره أن يكون تفسيرا، للفظ الذي نطق به، أو لم يصح أن يكون
على عهدة مثله في منزلته ومقامه الاجتماعي لم يقبل تفسيره
ولزمه أن يتخلص من تبعة اقراره بوجه صحيح من مصالحة أو نحوها.
392

وإذا قال للمقر له: لك في ذمتي شئ، وجب أن يكون المدلول الذي يفسره
به مما يصلح أن يكون في الذمة وتشتغل به، وإذا قال: لك عندي مال، وجب أن
يكون الأمر الذي يفسره به مما يعد مالا عند أهل العرف وفي حكم الشرع، فلا يقبل
منه إذا فسره بخمر أو خنزير أو بنحوهما مما لا مالية له في حكم الاسلام، ولا يقبل
منه إذا فسره بحفنة من التراب، أو بخرقة بالية أو بحبة حنطة مما لا يعد مالا في
العرف.
(المسألة العاشرة):
إذا قال الرجل لآخر: لك في ذمتي من واحد من الحنطة أو من واحد من الأرز
مثلا على نحو التردد بين الجنسين، صح اقراره بالمن المردد ونفذ عليه وألزم المقر
على الأحوط بأن يعين ما في ذمته منهما ويزيل الابهام عنه، وإذا هو استجاب وعين
أحدهما، فقال لصاحبه: الذي تملكه في ذمتي هو من الحنطة مثلا قبل تعيينه ولزمه
أداؤه، وإذا دفعه إلى صاحبه المقر له ورضي به برئت ذمة المقر ظاهرا، وإذا تذكر
بعد أن دفع إليه الحنطة أن ما في ذمته للمقر له هو الأرز وليس هو الحنطة أعلم
صاحبه بغلطه في التعيين، واسترد منه ما دفعه إليه وأعطاه الشئ الثاني، ولا تبرأ
ذمته بدفع الأول إلا إذا تصالحا، فجعلا ما في ذمة أحدهما عوضا عما في ذمة
الآخر، أو أبرأ كل واحد منهما ذمة الثاني، وأسقط حقه عنه.
وإذا عين المقر أحد الأمرين اللذين تردد بينهما في اقراره وقال لصاحبه: إن
الشئ الذي لك في ذمتي هو من الحنطة، وأنكر المقر له ذلك، ولم يرض بتعيينه
وقال: لست أملك في ذمتك من الحنطة، سقط حقه ظاهرا بسبب انكاره لاقرار
المقر، فلا تجوز له المطالبة به، ولم يسقط حقه واقعا، ولذلك فيجب على المقر
مع الامكان أن يوصل حقه إليه، ولو بدسه في ماله في الخفاء أو يصالحه عنه.
393

وإذا طلب من المقر أن يعين الشئ الذي أقر به لصاحبه من الأمرين، فقال:
لست أعلم به على التعيين، وصدقه صاحبه في دعوى عدم العلم، فالأحوط لهما أن
يرجعا إلى المصالحة بينهما، وإذا أقيمت بينة شرعية على تعيين أحد الأمرين لزم
العمل بها، أو رجعا إلى المصالحة إذا شاءا.
(المسألة 11):
إذا كان في يد الانسان شيئان معلومان من الأعيان الخارجية ولنفرض
أحدهما دارا معينة والآخر بستانا معلوما، فقال صاحب اليد لشخص آخر: إنك
تملك أحد هذين الشيئين، إما الدار وإما البستان صح اقراره بالشئ المردد بينهما
وألزم على الأحوط بأن يعين مراده من الشئ الذي أقر به، ويزيل التردد فيه كما
سبق في نظيره، فإذا استجاب المقر وعين أحد الشيئين، وقال لصاحبه: الشئ
الذي تملكه منهما هي الدار مثلا، فإن صدقه المقر له في تعيينه، أو رضي به من غير
تصديق، صح تعيينه، ولم يرض بتعيينه، واستمر المقر على اقراره وتعيينه الأول
وأصر المقر له على جحوده للتعيين، وانكاره كان ما عينه المقر وهي الدار في
المثال الذي ذكرناه من مجهول المالك ظاهرا، فتولى الحكم الشرعي المحافظة
عليها، أو سلمها بيد ثقة يأتمنه على حفظها حتى يتبين أمرها ببينة أو غيرها
ويمكن للحاكم الشرعي أن يبقيها في يد المقر إذا كان ثقة مأمونا لا تخشى خيانته
فإذا يئس الحاكم من استيضاح الأمر، ولم يمكنه ايقاع المصالحة بين المقر والمقر
له عليها، صرفها في باب مجهول المالك.
وإذا أقر الانسان لغيره بأنه يملك أحد الشيئين، الدار أو البستان كما في المثال
المتقدم، وجهل المقر والمقر له أي الأمرين هو الذي يملكه المقر له، ولم يعلما
394

من ذلك شيئا، ولم يمكنهما التعيين ولا إقامة البينة، تخلصا من الاشكال
بالمصالحة بينهما.
(المسألة 12):
يشترط في صحة الاقرار: أن يكون المقر بالغا، فلا يصح الاقرار ولا ينفذ إذا
صدر من الصبي قبل أن يبلغ الحلم، وإن كان اقراره بإذن وليه الشرعي، وكان مميزا
رشيدا، وحتى إذا أكمل السنة العاشرة من سني عمره وكان اقراره في ما يصح منه
فعله وايقاعه، وهو الوصية بالمعروف ووجوه الخيرات والمبرات على الأحوط
في الاقرار الأخير.
ويشترط في صحته أن يكون المقر عاقلا، فلا يصح اقرار المجنون سواء كان
جنونه مطبقا أم ذا أدوار، وكان اقراره في دور جنونه، ويصح اقراره إذا وقع في دور
إفاقته.
ويشترط في صحته أن يكون المقر قاصدا للمعنى المراد في اخباره
ومختارا فيه، فلا يصح الاقرار إذا كان المقر سكران في حال اقراره أو غضبان لا
قصد له لشدة غضبه، أو كان هازلا غير جاد في خبره، أو ساهيا أو غافلا ينطق بدون
وعي كامل، أو كان مبرسما، والمبرسم هو من تصيبه بعض الحميات أو الأمراض
الحادة، فيفقد شعوره وينطق من غير قصد، ولا يصح اقراره إذا كان مكرها لا اختيار
له.
(المسألة 13):
إذا أخبر الصبي عن نفسه بأنه قد بلغ، لم يثبت بلوغه باخباره، سواء قصد
بذلك أن يرفع عن نفسه الحجر ويتسلم أمواله ويتخلص من ولاية الولي، أم أراد
بذلك الاقرار على نفسه ليثبت عليه حدا شرعيا عن ذنب قد ارتكبه ويتخلص من
395

تأنيب الضمير، وقد سبق في المسألة السابقة إن اقرار الصبي غير نافذ ما لم يثبت
بلوغه، فإذا هو ادعى البلوغ بنبات الشعر الخشن في موضع العانة من جسده،
فحص عن ذلك ليعلم بالاختيار صحة قوله، وإذا ادعى البلوغ باكمال السنة
الخامسة عشرة من عمره طلب منه إقامة البينة الشرعية على صحة دعواه، وإذا
ادعى البلوغ بالاحتلام أشكل الحكم بثبوت دعواه بمجرد قوله مع اليمين وبغير
يمين.
(المسألة 14):
يشترط في صحة الاقرار أن يكون المقر رشيدا غير محجور عليه، فلا يصح
اقراره إذا كان سفيها، فإن كان سفهه مختصا بالتصرفات المالية لم يصح اقراره إذا
كان متعلقا بالمال، ويصح منه الاقرار المتعلق بغير المال من التصرفات الأخرى
كما إذا أقر بطلاق زوجته أو بجناية على غيره توجب القصاص في بدنه، وكما إذا
أقر على نفسه بأحد الاقرارات التي توجب الحد كالزنا والقذف وشرب الخمر.
وإذا أقر السفيه المحجور عليه في المال على نفسه بالسرقة وشبهها من
الأمور التي تشتمل على الضمان المالي، وعلى غيره نفذ اقراره في غير جهة المال،
فيقام عليه الحد الشرعي إذا أقر بالسرقة، ولا يقبل اقراره في جهة المال، وهكذا إذا
أقر بخلع زوجته، فيقبل اقراره وينفذ عليه بفراق الزوجة وبينونتها منه، ولا ينفذ في
الفدية، وتراجع المسألة الحادية والأربعون من كتاب الحجر من هذه الرسالة.
وإذا كان سفه السفيه عاما يوجب الحجر عليه في جميع التصرفات المالية
وغيرها، لم يصح اقراره في الجميع، ويلاحظ ما حررناه في مبحث الحجر على
السفيه من الرسالة.
396

(المسألة 15):
يصح الاقرار إذا صدر من المفلس المحجور عليه، ولا يكون الحجر عليه مانعا من
نفوذ اقراره على نفسه، من غير فارق بين أنواع الاقرارات، فإذا هو أقر بعد تحقق
فلسه والحجر عليه في أمواله بأن لزيد عليه دينا في ذمته سابقا على تاريخ الحجر
عليه، صح منه هذا الاقرار ونفذ عليه، ونفذ على الديان الغرماء، فيكون زيد الذي
أقر له بالدين شريكا معهم في الاستحقاق، ويضرب معهم في الأموال التي تعلق بها
الحجر، ويأخذ من الأموال بنسبة مقدار دينه إلى مجموع الديون، وتثبت له فيها
حصة من الحصص وقد ذكرنا هذا في المسألة الثانية والستين من كتاب الحجر.
وإذا أقر المفلس بعد الحجر عليه فقال: إن لزيد علي دينا حادثا قد استدنته منه بعد
وقوع الحجر، صح الاقرار ونفذ عليه كذلك ولكن هذا الدائن الجديد لا يشارك
الغرماء السابقين، فلا يضرب معهم في الأموال الموجودة والتي تعلق بها الحجر
فيبقى دينه إلى ما بعد ارتفاع الحجر، وتلاحظ المسألة الثالثة والستون من كتاب
الحجر.
وإذا أقر المفلس بعد الحجر عليه ومنعه من التصرف في أمواله الموجودة، فقال: إن
هذه العين الخاصة من الأموال الموجودة التي بيدي ليست ملكا لي بل هي مملوكة
لزيد، نفذ اقراره على نفسه، ولم ينفذ على الغرماء، فإذا اتفق أن العين التي أقر بها
بقيت في يده حق استوفيت ديون الغرماء، وارتفع الحجر عنه لزمه أن يدفع العين
المذكورة لزيد الذي أقر له بملكها، وإذا لم تسدد الديون ولم تسقط حقوق الغرماء
أشكل الحكم في العين المقر بها، ولا بد فيها من مراعاة الاحتياط.
(المسألة 16):
إذا أقر العبد الملوك على نفسه بمال لغيره، فقال: إن لزيد في ذمتي مائة دينار
397

أو قال: إن هذه العين التي بيدي مملوكة لزيد، وصدقه مالكه في ما قاله، نفذ الاقرار
عليه، ولزمه الوفاء به بالفعل، ولم ينتظر به إلى ما بعد العتق، وكذلك إذا أقر على
نفسه بما يوجب عليه الحد أو التعزير الشرعي أو بجناية على غيره توجب
القصاص من المقر في نفسه، أو في بعض أعضائه، أو توجب عليه الدية في ماله
وصدقه مالكه في ما قال، فينفذ اقراره بالفعل ويؤخذ به، ولا ينتظر إلى ما بعد
العتق.
وإذا أقر لغيره بمال في ذمته أو بعين أو منفعة في يده، أو أقر بما يوجب عليه
الحد الشرعي أو التعزير، أو القصاص أو الدية، ولم يصدقه مولاه في قوله، لم ينفذ
اقراره عليه بالفعل، لأنه اقرار في حق مالكه، فإذا أعتقه مولاه أو انعتق العبد بسبب
آخر يوجب الانعتاق، نفذ عليه الاقرار بعد العتق، ولزم العمل بموجبه.
(المسألة 17):
يصح لمالك العبد أن يجعله وكيلا عنه في التجارة للمالك نفسه، وأن يجعله مطلق
الحرية في التصرف في ما يتعلق بهذه التجارة من البيع والشراء، والأخذ والرد
والبيع نقدا وفي الذمة والشراء كذلك، حسب ما تقتضيه قوانين التجارة وقواعدها
المألوفة بين الناس، فإذا وكله في التجارة على هذه الوجه، وأذن له في جميع ذلك
كان هذا العبد الوكيل نافذ الاقرار والتصرف في ما يتعلق بتجارته وبعمله فيها
سواء أقر بثبوت حق للآخرين عليه أم بنفي حق له على الآخرين، ولا يعم إذن
المالك له غير هذه التجارة، فإذا أقر بمال أو بأمر يتصل بها لم ينفذ اقراره إلا إذا
صدقه سيده، فإن هو لم يصدقه فيه لم ينفذ الاقرار بالفعل، واتبع به بعد أن يعتق أو
ينعتق بسبب يوجب ذلك.
ويصح لمالك العبد أن يأذن له في أن يتجر لنفسه لا للمولى، ويأذن له بجميع
398

التصرفات التي تتعلق بعمله ومعاملته في التجارة على نهج ما تقدم في الفرض
السابق، فيجري فيه مثل تلك الأحكام، وتنفذ اقراراته التي تتعلق بتجارته بموجب
هذا الإذن العام في كل ما له وما عليه، ولا يصح تصرفه ولا ينفذ اقراره في غيرها إلا
بإذن من مولاه، وإذا لم يأذن له المولى ولم يصدقه في الاقرار اتبع به بعد العتق.
(المسألة 18):
يشكل الحكم بالصحة في أن يسقط المولى عن عبده المملوك له وجوب
الاستئذان منه في جميع تصرفاته واقراراته التي يوقعها، أو أن يأذن له في ذلك إذنا
عاما يفعل فيه ما يشاء كما يشاء، ولا يحتاج إلى الإذن من السيد في الموارد الخاصة
التي تجد له ما دامت الحياة، بل الظاهر عدم صحة ذلك، فإن العبد مملوك لا يقدر
على شئ، وهذا حكم من أحكام العبد المملوك اللازمة له، وليس حقا من حقوق
المولى ولذلك فلا يصح بل لا يمكن للمولى أن يسقطه إلا بالعتق فإنه يرفع
الموضوع.
(المسألة 19):
يصح اقرار المريض وإن كان في مرض موته، وينفذ عليه كما ينفذ اقرار
الصحيح السليم، سواء أقر لبعض وارثيه أم لشخص لا يرثه، وسواء أقر له بدين في
ذمته أم بعين موجودة في يده.
وإذا أقر بذلك ثم مات في مرضه، ولم يكن متهما في اقراره نفذ الاقرار منه
ولزم على الوصي أو الوارث أن يدفع المال الذي أقر به ذلك الميت قبل موته من
أصل تركته، وإذا كان متهما نفذ الاقرار منه كذلك ويدفع المال إلى المقر له من ثلث
تركة الميت المقر، وإذا قصر ثلثه ولم يكف للوفاء بالمال المقر به لم ينفذ الاقرار
في المقدار الزائد من المال على الثلث، فينفذ الاقرار في البعض ويسقط في البعض.
399

والمراد بالمريض المتهم هنا هو من تدل القرائن على أنه يريد تخصيص
الشخص الذي أقر له بالمال الذي أقر به أو يريد أن يحرم الورثة الآخرين منه.
(المسألة 20):
يشترط في صحة الاقرار بالمال أن يكون المقر له ممن له قابلية تملك المال
أو الاختصاص به كالانسان مثلا، فإنه ممن ثبتت له هذه القابلية، سواء كان كبيرا أم
صغيرا، وذكرا أم أنثى، وعاقلا أم مجنونا، ولذلك فيصح الاقرار للانسان بجميع
الأقسام المذكورة، سواء كان المقر واحدا أم متعددا، ومثال ذلك أن يقول المقر:
يملك زيد في ذمتي عشرين دينارا مثلا، أو يقول: يملك زيد وعمرو في ذمتي
عشرين دينارا، أو لهما عندي هذا المبلغ، أو يقول: يملك أولاد عبد الله الثلاثة أو
الأربعة هذه الدار التي بيدي، أو هذا البستان، أو لهم عندي مبلغ مائة دينار.
ويصح أن يقر الرجل لعنوان عام ينطبق على كثير من الأفراد، فيقول: للفقراء
عندي أو في ذمتي ألف دينار، أو يقول: عندي للفقراء من بني هاشم أو للفقراء من
أهل هذا البلد مبلغ كذا من المال.
وإذا أقر الرجل بالمال لعنوان كثير الأفراد أو قليلها، فعليه أن يعين أن المال
المقر به لأفراد هذا النوع أو هذا الصنف كلهم على وجه الاستيعاب لكل فرد فرد
منهم، أو هو لهم على نحو التقسيم فيهم، ولو على بعضهم.
ويصح للرجل أن يقر بالمال لمسجد أو لمشهد أو لمدرسة أو مقبرة أو رباط
معينة أو غير معينة، فإن المال قد يكون منذورا لينفق في هذه الجهات، وقد يكون
من غلة أرض موقوفة عليها، أو من مال أوصى به الموصي لينفق فيها ولذلك، فيصح
الاقرار به، وينفذ على المقر، وعليه أن يفي بما أقر به ويقوم بأدائه حسب ما يعين
في اقراره.
400

(المسألة 21):
لا يصح الاقرار بالمال لبهيمة من البهائم أو لحيوان من الحيوانات، فإنها غير
قابلة لتملك المال أو الاختصاص به فيكون الاقرار لها بالمال باطلا، إلا في موارد
نادرة يمكن تصورها وقد لا يتفق وجودها ومثال ذلك أن يكون المال منذورا أو
موصى به لعلف خيل المجاهدين، أو لأنعام الصدقات وما أشبه ذلك، فيمكن أن
يحصل الاختصاص بها في هذه الموارد ويصح الاقرار لها.
ولا يصح الاقرار لشخص بشئ لا يثبت له تملكه في الاسلام، ومثال ذلك أن
يقر الرجل لرجل مسلم بخمر أو خنزير.
(المسألة 22):
إذا أقر الرجل على نفسه بحق من الحقوق اللازمة غير المالية كحق القصاص في
النفس، أو بإحدى الجنايات التي توجب القصاص في الطرف، أو الضمان للدية أو
الأرش، فالمقر له هو الانسان الذي يثبت له ذلك الحق، والحق نوع من الملك فلا
يثبت لغير الانسان، وإذا أقر على نفسه بما يوجب الضمان لبهيمة قد غصبها أو
أتلفها أو أحدث فيها عيبا، أو نقصا أو كسرا، فالمقر له هو مالك البهيمة.
(المسألة 23):
إذا أقر الانسان لعبد مملوك بمال يملكه العبد في ذمة المقر أو يعين في يده
فالمقر له هو العبد نفسه، والأحوط له أن يستأذن من مالك العبد في دفع المال إليه
وإذا أقر بجناية جناها على العبد فالمقر له هو مالك العبد، فلا يكفي أن يرضي العبد
أو أن يسقط العبد حقه من الجناية ما لم يرض المالك أو يسقط حقه.
(المسألة 24):
لا يعتبر في صحة الاقرار من الانسان أن يكون المقر له شخصا معينا غير
401

مردد في الاقرار، ولا أن يكون فردا معلوما غير مجهول، فإذا قال الرجل: هذه الأرض
التي بيدي مملوكة إما لزيد أو لعمرو قبل منه اقراره، ثم ألزم بأن يعين المالك
الحقيقي للأرض من الرجلين اللذين أقر لهما، فإذا عينه وقال: مالك الأرض
المذكورة هو زيد، وصدقه الشخص الآخر وهو عمرو في تعيينه أو رضي بقوله ولم
ينازع، قبل منه الاقرار والتعين، وعليه أن يدفع الأرض لزيد، وإذا أنكر عمرو
تعيين المقر، ولم يقبل به وقعت المخاصمة بين المقر وهو المدعي وبين عمرو
وهو المنكر.
وكذلك إذا قل الرجل: الدار التي بيدي لرجل من أهل هذه القرية أو لرجل
من بني هاشم، فيقبل منه الاقرار ويلزم شرعا بأن يعين الرجل المقصود من أهل
القرية أو من بني هاشم، فإذا عينه قبل تعيينه، ودفعت الدار المقر بها إليه، وإذا ألزم
بتعيين الرجل الذي يملك الدار، فقال: لست أعلم به حتى أعينه لم يلزم بذلك، وإذا
ادعى عليه أحد الطرفين أو أحد الأطراف الذين أقر لهم بأنه يعرف شخص المالك
الحقيقي للدار، وأنكر المقر معرفته على الخصوص أحلف على عدم العلم، وسقط
عند الالزام.
(المسألة 25):
إذا أقر الانسان لأحد بحق لازم من الحقوق المالية أو غيرها فقال: إن سعدا
يملك على حق الشفعة في الحصة التي اشتريتها من شريكه، أو قال إنه يملك حق
الخيار في الدار التي اشتريتها منه ولما سمع المقر له وهو سعد قوله جحد ذلك
وقال: ليس لي هذا الحق عندك، أو قال: لست أملك حقا أطالبك به، برئت ذمة
المقر من ذلك الحق الذي اعترف به.
وإذا أقر للغير بالمال أو بدين في ذمته فقال: يملك إبراهيم في ذمتي مائة دينار
402

ولما سمع المقر له أنكر أن الرجل مدين له بالمبلغ الذي ذكره، أو قال: ليس لي في
ذمة هذا الرجل شئ، أو قال: ليس لي عنده قليل ولا كثير، برئت ذمة المقر ظاهرا
من هذا الدين، فلا يحق للمقر له أن يطالب المقر بالدين بعد انكاره، ولم تبرأ ذمته
إذا كان مدينا له في الواقع، فيجب عليه أن يوصل الدين إليه ولو من حيث لا يعلم أو
يصالحه عنه.
وإذا رجع المقر له عن إنكار الدين، فقال: فحصت دفاتري فلم أجد ذكرا
للدين، ولذلك أنكرته، ثم وجدته في دفتر مخصوص، جازت له المطالبة به
وأخذه من المقر إذا دفع المال إليه، وهذا إذا كان المقر بالدين لا يزال مقرا به، وإذا
رجع عن اقراره الأول أشكل الحكم بوجوب الدفع إليه في هذه الصورة.
(المسألة 26):
إذا أقر انسان لغيره بعين موجودة في يده، فقال: إن هذا المتاع أو هذا الجهاز
أو هذه الدار التي بيدي مملوكة لإبراهيم ولما سمع المقر له بذلك أنكر قوله وقال إن
الرجل مخطئ وليست العين التي ذكرها مملوكة لي، أصبحت العين المقر بها
مجهولة المالك بحسب ظاهر الحال، فيستولي عليها الحاكم الشرعي، أو من يعتمد
عليه، لتحفظ عنده حتى يتبين أمرها ويعلم مالكها، ويجوز للحاكم ابقاؤها في يد
المقر نفسه إذا اطمأن على حفظها مع بقائها في يده، وتراجع المسألة الحادية
عشرة فقد بينا فيها بقية متعلقات المسألة وأحكامها.
وإذا رجع المقر له وهو إبراهيم عن إنكاره لتملك العين واعترف بها جرى
فيه نظير الحكم الذي ذكرناه في المسألة المتقدمة، في فرض الاقرار بالدين إذا أنكره
المقر له، ثم رجع بعد ذلك عن إنكاره، فليلاحظ ليطبق هنا.
403

(المسألة 27):
إذا أقر شخص لغيره بدين عليه، أو بمال في يده، فقال: إن سعدا يملك الدين
أو المال، وذكر في اقراره إن مقدار ذلك الدين، أو المال الذي يملكه الرجل المقر له
عنده، مردد بين أن يكون مائة دينار فقط وأن يكون مائة وخمسين دينارا، وهو لا
يدري بمقداره على التعيين، أجزأ المقر أن يدفع له أقل الأمرين، وهو المائة دينار
ولم يجب عليه دفع الزائد.
(المسألة 28):
إذا أقر الشخص لغيره، بدين مؤجل إلى أجل مسمى ثبت للمقر له ذلك الدين
إلى ذلك الأجل المعين، فلا يحق له أن يطالب المقر بالدين قبل حضور ذلك الوقت
وإذا أقر له بدين مؤجل وقال في اقراره: إن الدين الذي يملكه الرجل في ذمتي
مؤجل إما إلى شهر واحد وإما إلى شهرين، ولست أعلم بمقدار الأجل على وجه
التعيين، ثبت الدين للرجل المقر له إلى الأجل الأبعد منهما، فلا تحق له المطالبة
بالدين قبل ذلك، وكذلك إذا أقر له بدين، وتردد في أمر الدين بين أن يكون حالا في
الوقت، وأن يكون مؤجلا إلى شهر مثلا، فيؤخذ باقراره ويثبت الدين للمقر له
مؤجلا ولا تجوز له المطالبة بالدين قبل حلول الأجل الذي ذكره.
404

[الفصل الثاني]
[في بعض ما يلحق بالاقرار ويتبعه.]
(المسألة 29):
إذا أقر الرجل لأحد بأنه يملك في ذمته مبلغا معينا من النقود، وأطلق قوله
ولم يعين نقدا خاصا، فالمراد به النقد الموجود في بلد المقر، سواء كان النقد
الموجود فيه من الذهب أم من الفضة أم من غيرهما، وسواء كان خالصا في جنسه أم
مخلوطا من جنسين أو أكثر، وكذلك إذا أقر له بمبلغ من العملة الورقية، وأطلق
القول ولم يعين عملة خاصة منها، فيكون المراد من اقراره العملة الدارجة في بلد
المقر من أي فئة كانت، فإذا قال الرجل: يملك عبد الله في ذمتي مائة دينار، فالمراد
هو الدينار الموجود في بلد الرجل المقر، فإذا كان من أهل العراق مثلا كان مضمون
اقراره إنه مدين لعبد الله بمائة دينار من العملة الموجودة في العراق
ويجزيه أن يؤديها للمقر له من أي الفئات الموجودة في البلد، فله أن يفي دينه من
الفئة ذات الدينار الواحد أو الخمسة دنانير أو العشرة أو الأكثر أو الأقل، بل ويجوز له أن
يدفع الدين من الفئة ذات النصف دينار أو الربع الموجودة في البلد.
وهذا إذا كان الحق الذي أقر به أمرا كليا كالدين وثمن المبيع وما يشبه ذلك:
وإذا كان المال المقر به وديعة، فلا بد من أن يدفع العين المودعة بذاتها إذا كانت
موجودة في يده.
وإذا أقر له بالمبلغ، وكان في بلد المقر نوعان من النقد الذي أقر به، فالمراد
405

في اقراره هو النقد الغالب في المعاملات الجارية بين الناس من أهل البلد ولا
يجزيه أن يدفع الحق من النقد غير الغالب، ولا يحق للمقر له أن يطالب المقر به إلا
إذا اتفق الجانبان على الاكتفاء به، وإذا أقر له بالحق وعين في اقراره، نقدا خاصا
لزمه أن يدفع للمقر له ذلك النقد الذي عينه، وإن كان من غير الغالب أو من نقد غير
البلد.
وإذا وجد في البلد نقدان مختلفان وهما متساويان في معاملة الناس بهما
ولا غلبة لأحدهما على الثاني رجع إلى المقر نفسه في تعيين النقد الذي أراده في
اقراره.
(المسألة 30):
إذا أقر الانسان لأحد بحق، وكان الحق الذي أقر به مما يوزن أو يكال، فإن
عين في اقراره وزنا أو كيلا خاصا ثبت ما عينه، ولزم العمل به، وإن لم يكن متعارفا
في البلد، وإذا أطلق اقراره بالحق ولم يعين شيئا فالمراد الوزن والكيل الموجودان
في بلد المقر، ويجري فيه التفصيل الذي تقدم في النقد، وتلاحظ المسألة السابقة.
(المسألة 31):
إذا أقر أحد لغيره بشئ وذكر أن الشئ مودع في ظرف، ثبت اقراره
بالشئ المظروف وحده ولا يكون اخباره به اقرارا بالظرف معه، فإذا قال: عندي
لسعيد عشرة دنانير في محفظة نقود كان قوله اقرارا لسعيد بالدنانير العشرة وحدها
وليس اقرارا بالمحفظة معها، وإذا قال: له عندي عشرة أمنان من الحنطة في أكياس
كان اخباره اقرارا بأمنان الحنطة لا بالأكياس مع الحنطة، فلا يحق لسعيد أن يطالبه
بالمحفظة أو بالأكياس وما فيها، إلا أن توجد قرينة تدل على إرادة الظرف مع
المظروف، فيقول مثلا: لسعيد عندي عشرة دنانير مع محفظتها، أو عشرة أمنان من
406

الحنطة مع أكياسها فيكون اقرارا بالأمرين.
وكذلك لا حكم في العكس، فإذا أقر الشخص لغيره بالظرف لم يكن ذلك
اقرارا له بالشئ المودع فيه، ومثاله أن يقول: لسعيد عندي عشرة أكياس فيها
حنطة، أو له عندي محفظة فيها نقود، فقوله اقرار لسعيد بالظروف خاصة ولا يعد
اقرارا بالحنطة مع الأكياس أو بالنقود مع المحفظة، إلا مع وجود قرينة ظاهرة تدل
عليه فيكون اقرارا بهما، ولا اعتبار بالاحتمال.
(المسألة 32):
إذا أقر الرجل بشئ ثم أقر بعده اقرارا آخر، وعطف اقراره الثاني على الأول
بكلمة (بل) اتبع في اقراره ما يظهر عند أهل العرف واللسان من مجموع قوله في
الاخبار عن ذلك، وله عدة صور كما سيأتي:
(الصورة الأولى): أن يقر الانسان لأحد بشئ، ثم يقر لذلك الرجل أيضا
بشئ آخر يختلف عن الشئ الأول، ومثاله أن يقول: يملك عبد الله في ذمتي منا
من الحنطة، بل يملك فيها منا من الأرز، والظاهر من هذا القول في متفاهم أهل
العرف: أنه قد أقر لعبد الله بالاقرارين كليهما، فهو يملك في ذمة المقر من الحنطة
ومن الشعير فيلزمه أن يدفع للمقر له كلا المنين، ويصح لعبد الله أن يطالبه بهما
وهذا هو الأقوى إلا أن تدل قرينة قوية الظهور على أن كلمة (بل) في الاقرار الثاني
كانت للاضراب عن اقراره الأول، وأنه قد غلط في هذا القول، أو توهم فأقر اقراره
الثاني ليصحح غلطه، فيكون هذا هو الثابت.
ويجري هذا في كل مورد يقول الانسان فيه مثل هذا القول، ويكون الشئ
الثاني المقر به مختلفا عن الشئ الأول في الجنس، فإن اخباره كذلك يكون اقرارا
بالشيئين معا، ويلزمه دفعهما إلى المقر له، إلا إذا ثبت غلطه واضرابه عن الاقرار
407

الأول بوجه ظاهر عند أهل العرف.
وكذلك إذا قال الرجل مثل هذا القول وأقر مثل هذا الاقرار بشيئين معينين
في الخارج فقال مثلا: يملك سليمان هذا الدكان الذي بيدي بل هذا الدكان، أو قال:
يملك هذا المتاع بل هذا المتاع، فيجري فيه نظير الحكم المتقدم.
(المسألة 33):
(الصورة الثانية): أن يقر الرجل لغيره بمقدار من الجنس، ثم يقر لذلك
الشخص نفسه بأكثر من ذلك من المقدار من الجنس الأول، ويعطف الاقرار الثاني على
الأول بكلمة (بل) فيقول مثلا: لسليمان عندي أو في ذمتي من واحد من الحنطة بل
له عندي منان من الحنطة، أو يقول: له عندي خمسة دنانير بل عشرة دنانير
والظاهر من هذا القول إنه يقر لسليمان بالعدد الأكثر من ذلك الجنس، فهو يملك
عند المقر منين من الحنطة في المثال الأول ويملك عنده عشرة دنانير في المثال
الثاني، ولا يكون اقرارا بكلا لا العددين: الأقل والأكثر معا كما في الصورة الأولى.
وكذلك الحكم إذا قدم العدد الأكثر في الذكر على العدد الأقل فقال: له عندي
أو في ذمتي منان من الحنطة بل من واحد منها: أو قال له عندي عشرة دنانير بل
خمسة دنانير فيكون قوله اقرارا بالعدد الأكثر في المثالين ولا يكون اقرارا بثلاثة
أمنان من الحنطة أو بخمسة عشر دينارا، وأوضح من ذلك في الظهور أن يقر كذلك
في عين خارجية فيقول: له هذه الغرفة من الدار بل له الدار كلها.
(المسألة 34):
(الصورة الثالثة): أن يقر لأحد بشئ معين موجوده في الخارج يكون في يد
المقر، ثم يقر بذلك الشئ المعين نفسه لشخص آخر غير الأول فيقول مثلا: هذه
الدار التي بيدي مملوكة لزيد بل هي مملوكة لعمرو، والظاهر أن ما قاله المخبر في
408

هذه الصورة يحتوي على اقرارين لازمين له، ولذلك فيلزمه أن يدفع الدار المعينة
نفسها للشخص الذي أقر له أولا وهو زيد، وأن يدفع قيمة الدار للشخص الثاني
وهو عمرو، وإذا كانت العين التي أقر بها للرجلين من المثليات كما إذا قال: هذه
الأمنان من الحنطة مملوكة لزيد، بل هي مملوكة لعمرو، لزمة أن يدفع العين ذاتها و
هي أمنان الحنطة التي وقع عليها الاقرار لزيد المقر له أولا، وأن يدفع مثلها لعمرو
وإذا كان الشئ الذي أقر به للرجلين من الأمور الكلية، كما إذا قال: يملك زيد في
ذمتي مائة دينار، بل يملك المائة في ذمتي عمرو، لزمه أن يدفع لكل واحد من
الرجلين مائة دينار عما في ذمته فلا يكون أحدهما أصلا والثاني بدلا عنه.
(المسألة 35):
إذا أقر الرجل للشخصين اللذين ذكرهما على الوجه المتقدم في المسألة
السابقة بأحد تلك الاقرارات أو بما يماثلها، وأنكر أحد الشخصين المقر لهما قول
الرجل المقر وجحد أن يكون له حق أو ملك في العين أو الدين الذي أقر به، سقط
حق هذا المنكر، وبرئت ذمة المقر منه ظاهرا، فلا يحق لهذا الشخص أن يطالب
بالحق بعد انكاره وعلى المقر أن يدفع العين أو الدين المقر بهما للشخص الآخر.
(المسألة 36):
إذا أقر الانسان لغيره بشئ وتم اخباره به، ودل ظاهر كلامه على الاقرار
بالشئ عند أهل اللسان والعرف، ثبت اقراره شرعا ولزمته أحكامه وآثاره، فإذا
عقب على قوله المتقدم بقول آخر ينافي قوله الأول بظاهره ويبطله لم يقبل القول
الثاني ولم يؤثر على اقراره شيئا إلا أن تكون دلالة الثاني على المعنى أقوى وأتم
بحيث يزول بالثاني ظهور الكلام الأول في متفاهم أهل اللسان، وفي محاوراتهم
العرفية، ويعدونه قرينة معتبرة على أن المراد خلاف ذلك الظاهر.
409

ومن الأمثلة المعروفة للمسألة بين الفقهاء أن يقول الرجل: إن لزيد عندي
وديعة من المال، ثم يقول بعده: وقد تلفت الوديعة في يدي، فيثبت بهذا القول اقرار
الرجل لزيد بالوديعة، ولا يبطل هذا الاقرار باخبار الرجل بأن الوديعة قد تلفت، فإن
قوله له عندي وديعة نام الدلالة والظهور في أن الوديعة عنده، ولم تزل، ولو أنها
تلفت لم تكن عنده، فيؤخذ باقراره، ويلزم بدفع الوديعة لزيد أو يثبت تلفها بحجة
شرعية مقبولة.
ولو أنه قال: كانت لزيد عندي وديعة، ثم قال وقد تلفت الوديعة في يدي
صح قوله الثاني وقوله الأول، ولم يكن تناف بين القولين، وكان قوله يشتمل على
اقرار منه بالوديعة ودعوى منه بتلفها، فيثبت اقراره ويؤخذ به، وعلى
المقر والمقر له إذا أحبا أن يرجعا إلى الحاكم الشرعي ليفصل بينهما دعوى تلف
الوديعة أو يرجعا إلى المصالحة بينهما.
ومن الأمثلة المعروفة للمسألة، أن يقول الرجل: يملك فلان عندي عشرة
دنانير، ثم يقول: لا بل تسعة، فلا يقبل منه قوله الثاني بالنفي ويلزم باقراره الأول
بالعشرة، ومن أمثلة ذلك أيضا أن يقول: يملك فلان عندي مائة دينار، ثم يقول: و
هي ثمن خمر أو ثمن خنزير أو من لعب قمار، فيثبت اقراره بالمال، ويلزم بدفعه
لمن أقر له، ولا يسمع منه قوله الثاني.
(المسألة 37):
الاستثناء في اللغة العربية أحد مقومات الدلالة على المراد في الجملة التي
يقع فيها الاستثناء، ولذلك فلا يتم ظهور الجملة في المعنى المراد منها إلا به
وليس هو من تعقيب الكلام بكلام آخر ينافيه ويبطل ظهوره، كما في الأمثلة التي
ذكرناها وتعرضنا لبيان حكمها في المسألة الماضية، ومن القواعد المعروفة بين
410

أهل العربية أن الاستثناء إذا وقع من كلام مثبت يكون نفيا للمستثنى، وإذا وقع من
كلام منفي يكون اثباتا للمستثنى، وكل هذا واضح لا يشك فيه أحد من أهل اللغة
ويجري عليه حتى العامة من أهل العرف العربي الدارج، فإذا قال القائل منهم:
زارني أهل القرية إلا موسى، عرف الجميع من قوله إن أهل القرية، كلهم قد جاؤوا
إلى زيارته وإن موسى وحده لم يزره، وإذا قال: لم يدخل المسجد أحد في هذا
اليوم إلا عبد الله، فهموا من خبره أن الجميع لم يدخلوا المسجد في ذلك اليوم، وقد
دخله عبد الله وحده.
وعلى مجرى هذه الأمور الواضحة فإذا قال الرجل: يملك زيد في ذمتي مائة
دينار إلا خمسة دنانير فقد أقر في قوله هذا بأن لزيد في ذمته خمسة وتسعين دينارا
فله الحق في أن يطالب المقر بهذا المبلغ، ولا يحق له أن يطالبه بالخمسة دنانير
التي تكمل بها المائة دينار، إلا إذا ثبت استحقاقه إياها بحجة شرعية.
وإذا قال: ليس لزيد عندي حق إلا عشرة دنانير، فقد أقر لزيد بأن له عنده
عشرة دنانير، فله أن يطالبه بها ويأخذها منه، ولا يحق له أن يطالب بأكثر من العشرة
ولا بغيره من الحقوق إلا أن يثبته بوجه شرعي، وإذا قال: ليس لي في ذمة زيد سوى
مائة دينار، فقد أقر لزيد بأن المقر لا يستحق في ذمته غير المائة، فلا يجوز له أن
يطالب زيدا بأكثر منها، وهو يدعي في ضمن اقراره بأن له في ذمة زيد مائة دينار
فعليه أن يثبت صحة دعواه بها إذا أراد ذلك.
وإذا قال: لي عند زيد مائة دينار إلا عشرة دنانير، فقد ادعى أنه يستحق عند
زيد تسعين دينارا، وأقر لزيد في ضمن ادعائه عليه بأن المقر لا يستحق عنده
العشرة التي تكمل بها المائة فيؤخذ بما أقر، ويحتاج في تصحيح دعواه إلى
الاثبات.
411

(المسألة 38):
يدخل الاستثناء في الأعيان الخارجية وفي الأجزاء من الأشياء المركبة
الموجودة في الخارج كما يدخل في الأعداد من المعدودات، فإذا قال الرجل:
يملك إبراهيم هذه الدار التي بيدي إلا الحجرة التي تقع على يمين الداخل من باب
الدار، أو إلا الموضع الذي أعد لاستقبال الضيوف من الرجال
فقد أقر لإبراهيم بأنه يملك جميع الدار التي ذكرها عدا ما استثناه من أجزائها
وإذا قال: يملك إبراهيم جميع ما في هذه الدار من أثاث وأمتعة وحوائج إلا الفراش
الذي أغلقت عليه الحجرة الخارجية المعينة فقد أقر له بجميع ما تحتويه الدار من
الأعيان الموجودة فيها غير الفراش الذي ذكره، وهكذا.
ويجري في هذا الاستثناء إن نظير ما سلف في المسألة المتقدمة من الأمثلة
والصور المتعلقة بالمقر نفسه أو بالمقر له في كل من النفي والاثبات.
412

[الفصل الثالث]
[في الاقرار بالنسب أو بالميراث]
(المسألة 39):
إذا أقر الرجل بطفل صغير أو بصبي لم يبلغ الحلم، فقال: هذا الصبي ولد
شرعي لي، أو قال: إنه صحيح الولادة مني، أو قال: قد ولدته أمة مني، أو على فراشي
وكان اقراره جامعا للشرائط التي تعتبر في صحة الاقرار، ثبت النسب بين الرجل
المقر والصبي المقر به، وقد سبق منا ذكر الأمور التي يشترط وجودها في المقر
بالنسب وغيره، ويشترط في صحة الاقرار بالنسب مضافا إلى ذلك: (1): أن تكون
ولادة الصبي المقر من الانسان المقر ممكنة غير ممتنعة بحسب العادة المألوفة في
تولد الانسان من الانسان، (2): أن يكون لحوق هذا الوليد بنسب المقر صحيحا
غير ممنوع في حكم الاسلام، (3): أن لا يكون للمقر منازع في دعوى النسب
بالصبي.
فإذا توفرت هذه الشروط صح الاقرار وثبت النسب بين الرجل والصبي
بأصوله وفروعه، فيكون الرجل المقر أبا شرعيا للصبي، ويكون أبو المقر جدا
للصبي، وأم المقر جدة له، وأولاد المقر إخوة له وأخوات، وإخوان المقر أعماما
وعمات، وتكون أولاد الصبي المقر به إذا كبر وتزوج وأعقب أحفادا للمقر
وأسباطا، وهكذا في جميع الفروع، وثبتت أحكام النسب بين جميع أولئك في
النكاح وجواز النظر للمحارم، وفي الولايات والنفقات والمواريث وغيرها من
413

اللوازم والآثار التي تكون للنسب، حتى في الوقف على الذرية والأقارب، والوصية
لهم، ولا فرق في الحكم المذكور بين الطفل الصغير كما قلنا والصبي المراهق
للبلوغ، ولا بين المميز وغيره، ولا بين الصبي والصبية.
(المسألة 40):
يشترط في لحوق الصبي غير البالغ بنسب الانسان الذي أقر به كما ذكرنا في
المسألة المتقدمة أن تتوفر أمور ثلاثة عرضناها بنحو الاختصار، ولا بد من ذكرها
بوجه أكثر بسطا وتوضيحا:
الأمر الأول: أن يكون تولد الصبي من ذلك الشخص الذي أقر به ممكنا
بحسب العادة المعروفة في ولادة الانسان، فلا يصح اقرار المقر ولا يثبت به نسب
الصبي إليه إذا كانت ولادة الصبي منه مما يمتنع بحسب هذه العادة الجارية، ومثال
ذلك: أن يكون المقر في وقت انعقاد نطفة الصبي في بطن أمه غير بالغ الحلم، وإن
بلغ في وقت ولادة الطفل أو في وقت اقراره به، كما إذا تأخر زمان الاقرار عن وقت
الولادة مدة، فيكون تولده منه ممتنعا وعادة لا يمكن الحاقه به في النسب.
ومن أمثلة ذلك أن يكون المقر غائبا عن المرأة وقت انعقاد الجنين في
بطنها، أو يكون مريضا شديد المرض، أو سجينا فلا يستطيع الوصول إليها
ومقاربتها لتحمل منه، بالصبي أو يكون تاركا لمقاربة المرأة لسبب آخر.
الأمر الثاني: أن يكون الحاق الصبي بنسب الرجل المقر صحيحا في حكم
الشريعة الاسلامية، فلا يصح اقرار الرجل به ولا يثبت بالاقرار نسب الطفل إليه إذا
كان الطفل ملحقا في الشريعة بنسب شخص آخر لوطي شبهة مثلا، أو كان الحاقه
بنسب المقر ممنوعا، ومثال ذلك: إن تحرم المرأة على الرجل لرضاع، أو لعان، أو
لسبب آخر من موجبات التحريم، فلا يصح الالحاق ولا يصح الاقرار بالصبي.
414

الأمر الثالث: أن لا يكون للرجل المقر بالطفل منازع في نسبه، ومثال ذلك أن
يدعي شخص آخر نسب الطفل إليه أيضا فيقر به كما أقر به الأول، أو يدعي هذا
الشخص الآخر عدم صحة نسب الأول وكذبه في اقراره، فيكون المورد من التنازع
بين الرجلين، فلا يسمع اقرار المقر، ويلزم الرجوع إلى الحاكم الشرعي ليحل
الخصام ويفصل النزاع.
ولا يشترط في صحة الاقرار بالصبي وثبوت نسبه به أن يصدق الصبي قول
المقر وإن كان مميزا أو مراهقا ولا يشترط كذلك أن يصدقه ويعترف بأبوته بعد
البلوغ، وإذا أقر الرجل بالصبي وتمت الشروط المذكورة وثبت النسب بينهما
بموجب ذلك، ثم أنكر الصبي النسب بعد أن بلغ الحلم لم يسمع منه انكاره.
(المسألة 41):
إذا أقر الرجل بنسب ولد كبير قد بلغ الحلم أو تجاوز البلوغ، ولم يكن قد أقر
به في طفولته على الوجه المتقدم، فقال عن الولد الكبير: هذا ولد شرعي لي، أو قال:
هو صحيح النسب لي أو قال ولدت هذا أمة على فراشي، وقد اجتمعت في اقراره به
جميع الشروط التي ذكرناها لم يلحق الولد بنسب المقر حتى يصدقه الولد ويقر
بنسبه إليه ويعترف بأبوته، فإذا أقر الطرفان كذلك مع اجتماع الشرائط المتقدمة
فيهما يثبت النسب بينهما وثبتت أحكامه وآثاره لهما ولجميع أصول النسب
وفروعه على النهج الذي فصلناه في الولد الصغير.
وكذلك إذا ابتدأ الولد فأقر بنسبه للرجل، وقال: إنه أبي الشرعي وقد ولدتني
أمي على فراشه، وصدق الرجل اقراره، واعترف به على الوجه السابق بيانه
واجتمعت الشروط في الجانبين، فيثبت النسب، ويعم وتترتب اللوازم والأحكام
لهما، ولجميع أصول النسب وفروعه.
415

(المسألة 42):
إذا أقر الرجل بالولد الكبير ولم يصدقه الولد، أو أقر الولد بالنسب ولم
يصدقه الرجل، نفذ الاقرار على المقر خاصة، ولم ينفذ على الثاني الذي لم يقر
ولم ثبت النسب بينهما، ولا بين طبقات النسب الآخرين ولم تترتب أحكامه
عليهم ولزمت المقر أحكام اقراره التي تكون عليه من حرمة نكاح، ووجوب نفقة
وميراث وغيرها، ولم تترتب عليه الأحكام الأخرى التي تكون للمقر، ولا
الأحكام التي تكون على الطرف الثاني.
(المسألة 43):
إذا مات الصبي وهو مجهول النسب، ثم أقر الرجل بعد موت الصبي بأنه ولد
شرعي له، وكان اقرار الرجل به جامعا للشرائط التي بيناها آنفا نفذ اقراره بالطفل
بعد موته، كما ينفذ في حياته وثبت به نسبه إليه، وترتب الممكن من أحكام النسب
بينهما فتجب على الرجل نفقة تجهيزه ودفنه، وإذا كان للطفل ما ورث منه نصيبه
لأنه أبوه شرعا.
(المسألة 44):
لا يثبت النسب بالاقرار في غير الولد الصغير أو الكبير، إذا جرى على الوجه
الذي سبق بيانه، فإذا أقر الرجل لصبي أو شاب إنه ولد ولده أو إنه أخوه في النسب
لم يثبت بذلك نسبه له، وإنما تترتب على قوله أحكام الاقرار فيؤخذ الرجل بأحكام
هذا الاقرار ولوازمه في ما يكون على المقر من هذه الأحكام واللوازم لا في ما
يكون له، ولا في ما يكون على غير المقر، فإذا قال الرجل هذا الصبي أو هذا الشاب
ولد ولدي نفذ هذا الاقرار على الرجل، فتجب عليه بها إذا كانت أنثى، ويرثه الولد إذا
416

مات هو ولا وارث له سوى الولد.
وإذا أقر بولد الولد وكان بالغا وصدقه ولد الولد في قوله نفذ الاقرار في
حقهما معا، فيرث أحدهما من الآخر إذا مات قبله، لم يكن له وارث أقرب منه،
وتجب نفقة الفقير منهما على الآخر إذا كان قادرا ولا منفق أقرب منه، وهكذا في
بقية لوازم الاقرار، ولا يثبت به النسب ولا يقع به التوارث بين غيرهما من الأقارب.
وكذلك الحكم إذا أقر الرجل بشخص إنه أخوه أو عمه أو قريبه في النسب
فينفذ اقراره عليه خاصة، وتلزمه أحكام الاقرار التي تكون عليه لا على الآخرين
وإذا صدقه الثاني في قوله نفذت عليهما أحكام الاقرار، ولا تنفذ على غيرهما لا في
(المسألة 45):
إذا أقر الانسان بشخص إنه أخوه في النسب أو ابن أخيه أو قريبه وصدقه
الشخص المقر به، واعترف بالقرابة التي ذكرها، نفذ الاقرار عليهما كما تقدم
وورث أحدهما صاحبه إذا مات قبله، ولم يكن له وارث آخر سواه، وإذا مات
أحدهما وله وارث أخر غير المقر ففي ثبوت التوارث بينهما اشكال، ولا يترك
الاحتياط بالرجوع إلى المصالحة، وكذلك الاشكال إذا أقر الرجل بأخ أو ابن أخ أو
عم أو قريب في النسب ثم نفاه بعد الاقرار به، فلا يترك الاحتياط المذكور.
(المسألة 46):
يثبت النسب بين الشخصين المشكوك نسب أحدهما إلى الآخر بشهادة
رجلين عادلين لهما بولادة أحدهما من الآخر، أو بولادتهما من شخص ثالث بغير
واسطة أو بواسطة واحدة أو بأكثر مع وجود القرابة بينهما عرفا، سواء كان باقرار
417

الرجل بالولد على الوجه الذي تقدم بيانه في المسائل الماضية من هذا الفصل، ولا
يثبت النسب بغير ذلك، وأثر ثبوت النسب بالوجهين المذكورين أن تجري جميع
أحكام النسب بين الشخصين أحدهما مع الثاني وبين كل واحد منهما مع أقرباء
الثاني وبين أقربائهما بعضهم مع بعض ممن يتصل بهما في نسبه، فتجري جميع
أحكام النسب بين هؤلاء كافة في النكاح وجواز اللمس والنظر إلى المحارم
(المسألة 47):
إذا مات رجل وله ولدان معلومان ولا وارث له غيرهما ظاهرا، فأقر الولدان
كلاهما بولد ثالث للميت غيرهما، وقالا: هذا أخ ثالث لنا وهو شريكنا في الميراث
من أبينا، نفذ الاقرار عليهما وقسمت تركة الميت بينهم أثلاثا وأخذ كل واحد منهم
ثلثا، وإن لم يعرفه أحد من الأقرباء الآخرين. وإذا أقر به أحد الولدين المعلومين
للميت وأنكره الثاني نفذ اقرار المقر منهما على نفسه فيقسم المال نصفين ويأخذ
الولد الذي أنكر أخاه، ولم يعترف به نصف المال تاما، ويأخذ الثاني الذي أقر به
الثلث، ويدفع الباقي من المال وهو السدس إلى الثالث، وهو الذي اعترف به أحد
الأخوين وأنكره الآخر.
(المسألة 48):
إذا مات الرجل وترك بعده وارثا واحدا معلوما، فهو الذي يستحق الميراث
كله في ظاهر الأمر، فأقر هذا الوارث بوارث آخر أولى منه بميراث الميت، لزمه
الاقرار ووجب عليه أن يدفع التركة كلها للوارث الذي أقر به، ومثال ذلك أن يترك
الميت بعده أخا لا غيره، ويقر هذا الأخ الوارث ظاهرا بولد للميت أو بولد ولد
فيقول: هذا ولد أخي أو ولد ولده، وهو أولى بميراث أبيه مني، فيؤخذ باقراره
418

وعليه أن يدفع الميراث كله للوارث الذي أقر به، لأنه أولى به كما قال.
وإذا أقر الوارث الواحد بوارث آخر يساويه في الاستحقاق، وفي مقدار
النصيب، فعليه أن يقتسم تركة الميت معه بالمساواة، ومثال ذلك: أن يقر أخو الميت
في المثال السابق بأخ ثان له وللميت، فإذا كان الميت قد ترك مأة دينار اقتسمها أخوه
الأول الوارث مع الثاني الذي أقر به، فلكل واحد منهما خمسون دينارا، وإذا أقر
بأخت له وللميت اقتسم التركة معها بالمثالثة، فدفع لها ثلثا وأخذ ثلثين.
(المسألة 49):
إذا كان الوارث الوحيد ظاهرا هو عم الميت مثلا، ولما دفعت إليه تركة الميت
قال هذا زيد وهو أخو الميت فهو أدنى قرابة للميت وأولى مني بميراثه، ثم قال
هذا خالد وهو ولد الميت أو هو ولد ولده، وهو أولى بميراثه مني ومن أخيه، أخذ
العم بالاقرارين كليهما فعليه أن يدفع التركة نفسها لزيد أخي الميت بسبب اقراره
الأول، ويدفع لخالد ابن الميت مثل التركة، إذا كانت مثلية وقيمتها إذا كانت قيمية
بسبب اقراره الثاني.
وإذا كان زيد أخو الميت قد صدق العم في اقراره بالولد دفع المال إلى الولد
ولا شئ لزيد على العم بسبب اقراره الأول له.
وإذا دفعت تركة الميت لعمه في المثال الذي ذكرناه لأنه وارثه الوحيد
ظاهرا، فأقر العم بزيد أخي الميت، وقال: هو أولى مني بالإرث، ولما أخبر زيد
بذلك قال الأخ: هذا خالد ولد الميت، فهو أولى بميراث أبيه مني ومن عمه، دفع
المال إلى الولد ولا شئ على العم.
(المسألة 50):
إذا أقر الانسان لأحد بأن له في ذمته مائة دينار مثلا أخذ باقراره، ولزمه أن
419

يدفع المبلغ للشخص الذي أقر له، فإذا مات المقر قبل أن يؤدي الدين وجب على
ورثته أن يؤدوا الدين من أصل تركة الميت، وإذا مات الرجل فأقر جميع الورثة بأن
لزيد في ذمة مورثهم مبلغا معينا من المال لزمهم ذلك، ووجب عليهم أن يودوا
الدين الذي أقروا به على مورثهم من أصل تركته، فإذا بقي من التركة شئ بعد وفاء
الدين اقتسموه بينهم.
وإذا أقر بعض الورثة بالدين على الميت، وأنكره بعضهم وجب على من أقر
بالدين منهم أن يؤدي المقدار الذي يصيب حصة في الميراث من ذلك الدين، فإذا
كانت تركة الميت خمس مائة دينار وكان الوارثون خمسة أولاد ذكور فنصيب كل
واحد منهم من تركة أبيه مائة دينار، وإذا فرض أن مقادر الدين المقر به مائتا دينار
أصاب نصيب كل واحد منهم أربعون دينارا من الدين، فعلى كل واحد ممن أقر
بالدين أن يؤدي هذا المقدار، ولا يتعين عليه أن يؤدي هذا من حصته الموروثة له
ويجوز له أن يدفعه من مال آخر.
(المسألة 51):
إذا تنازع الرجلان بينهما فقال أحدهما للثاني: إنك قد أقررت لي بمبلغ مائة
دينار في ذمتك، أو بالحاجة المعينة التي في يدك وأنكر الثاني أن يكون أقر له بشئ
مما ذكر، فالقول قول المنكر، وعليه أن يحلف للمدعي على عدم الاقرار، وكذلك
إذا اختلفا في مقدار ما أقر به فقال الأول للثاني: إنك أقررت لي بمائة دينار وقال
الثاني: إنما أقررت لك بخمسين دينارا وأنكر الزيادة على ذلك، فالقول قول منكر
الزيادة مع يمينه، ما لم يثبت المدعي صحة قوله بإقامة البينة على ما يدعيه.
والحمد لله رب العالمين حمدا يرضاه لنفسه، ويفوق جميع حمد
الحامدين من عباده ومخلوقاته، والصلاة والسلام على سيد خلقه، محمد
420

والمطهرين من آله، صلاة لا حد لها ولا عد، يبلغهم بها آمالهم، ويقر بها أعينهم
ويؤمن بها خوف الخائفين ويكشف بها ضر المضطرين، ويقرن ببركتها ويمنها لنا
وللمؤمنين سعادة الدنيا والدين، ويضاعف بها لنا توفيقه ونعمته وهداه ورحمته
إلى منتهى آجالنا إنه أرحم الراحمين
421