الكتاب: الينابيع الفقهية
المؤلف: علي أصغر مرواريد
الجزء: ٣١
الوفاة: معاصر
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤١٣ - ١٩٩٣ م
المطبعة:
الناشر: مؤسسة فقه الشيعة - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات: أشرف على جمع أصولها الخطية وترتيبها حسب التسلسل الزمني وعلى تحقيقها وإخراجها وعمل قواميسها علي أصغر مرواريد

الينابيع الفقهية
الجهاد
السبق والرماية
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
تعريف الكتاب 1

الطبعة الأولى
1413 ه‍ - 1993 م
مؤسسة فقه الشيعة
بيروت - لبنان
حارة حريك - شارع دكاش - بناية كليوباترا
ص. ب 209 / 25 - تلفون: 836763 - فاكس 04625848 - 357
تعريف الكتاب 2

سلسلة الينابيع الفقهية
- 2 -
الجهاد
السبق والرماية
أشرف على جميع أصولها الخطية وترتيبها حسب التسلسل
الزمني وعلى تحقيقها وإخراجها وعمل قواميسها
علي أصغر مرواريد
تعريف الكتاب 3

الفهرست الإجمالي للمتون
الإشراف - الخلافة - نزهة الناظر - إرشاد الأذهان - الرسالة الفخرية - البيان -
النفلية -
الموجز الحاوي - الإقتصاد - المبسوط - تبصرة المتعلمين - تلخيص المرام
الدروس الشرعية
الألفية - المحرر - مسائل ابن طي
تعريف الكتاب 4

التعريف
سلسلة الينابيع الفقهية
موسوعة فقهية متكاملة جمعت بين دفتيها أهم المتون الفقهية
الأصلية بتحقيق رائع وتنقيح أكاديمي، ومن أحدث المناهج
العلمية لفن التحقيق.
تعني الموسوعة بالتقسيم الموضوعي للأبواب الفقه الإسلامي -
كافة أبوابه - وبذلك تهئ للباحث والمحقق والأستاذ أسهل
الطرق لاستنباط ما يحتاجه، واستخلاص ما يبتغيه، بعيدا
عن عناء الاستقصاء والبحث.
تميزت هذه الدورة الكبرى باعتمادها الأصول الخطية
الأصلية لكل المتون الفقهية بمثابة الأصول الأساسية لتحقيق
النصوص التي بقيت لفترة ليست بالقصيرة أسيرة الطبعات السقيمة.
بالإضافة إلى احتوائها النصوص التي تطبع لأول مرة، موزعة
حسب الأبواب الفقهية.
تفيد المتخصصين بدراسة الفقه المقارن واختلاف الفتاوى
على مدى عشرة قرون.
تعريف الكتاب 5

إهداء وشكر...
إلى...
كل انسان يؤمن بأن الشريعة السمحاء أساس جميع القوانين في العالم...
والى...
الذين يهتمون بشؤون المجمعات البشرية وشيعون إلى اصطلاحها عن طريق
القسم الإسلامية.
والى...
كل الذين يعشقون الفقه الإسلامي باعتبار أفضل السبل وأنجح القوانين
المستمدة من أصول القرآن للوصل إلى الكمال الإنسان من الجوانب
المادية والروحية...
أقدم هذا الجهد المتواضع...
ولا يسعني - في غمرة سعادتي وسروري وأنا أرى سلسلة الينابيع
الفقهية هذه قد عانقت النور - إلا أن أتقدم بجزيل شكري وعظيم
امتناني لكل الذين ساهموا من قريب أو بعيد بإيجاز هذا العمل الجليل
من العلماء والفضلاء الذين قدموا لنا مساعدتهم ومشورتهم الخالصة،
ومن الأخوة العاملين والمحققين معنا... داعيا الله لهم جميعا التوفيق
والسداد وأن يجزل لهم الثواب وحسن العاقبة...
إنه سميع مجيب. علي أصغر مرواريد
تعريف الكتاب 6

بسم الله الرحمن الرحيم
تعريف الكتاب 8

الاقتصاد
الهادي إلى الرشاد
تأليف شيخ الطائفة
أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (قدس سره)
385 - 460 ه‍. ق
1

كتاب الجهاد
جهاد الكفار فرض في شرع الإسلام، وهو فرض على الكفاية إذا قام من في
قيامه كفاية سقط عن الباقين.
ولوجوبه شروط: أولها وجود إمام عادل أو من نصبه إمام عادل للجهاد،
ويكون من وجب عليه ذكرا بالغا كامل العقل صحيح الجسم حرا، ولا يجوز أن
يكون شيخا ليس به نهضة ولا له قدرة للجهاد.
ومتى اختل شرط من ذلك سقط فرضه، إلا ما كان على وجه دفع العدو
عن النفس أو الإسلام.
والمرابطة مستحبة، وحدها ثلاثة أيام إلى أربعين يوما، فإذا زاد على ذلك
كان جهادا، وتصير المرابطة واجبة بالنذر.
فصل
فيمن يجاهد من الكفار
كل من خالف الإسلام وأنكر الشهادتين وجب جهاده وقتاله، وهم
ينقسمون قسمين:
أحدهما لا يرجع عنهم إلا أن يسلموا أو يقبلوا الجزية ويلتزموا شرائط الذمة،
وهم اليهود والنصارى والمجوس، وإذا قبلوا الجزية وضعها الإمام على حسب ما
3

يراه مصلحة في الحال، ويراه أيضا في حالهم من الغنى والفقر، وليس لها حد
محدود لا تجوز الزيادة عليه ولا النقصان منه.
وهو مخير بين أن يضعها على رؤوسهم أو على أرضيهم، فإن وضعها على
رؤوسهم لم يتعرض لأرضيهم، وإن وضعها على أرضيهم لم يتعرض لرؤوسهم إلا
أن يقع الشرط، أن يضع بعضها على أرضهم وبعضها على رؤوسهم.
ومتى وضعها على أرضهم فأسلموا سقطت عنهم الجزية وكانوا مثل
المسلمين لزمهم العشر أو نصف العشر وتكون أملاكا في أيديهم، ومن وجبت
عليه الجزية فأسلم سقطت عنه.
ولا تؤخذ الجزية من الصبيان والمجانين والبله والنساء وتؤخذ من الباقين.
وشرائط الذمة قبول الجزية، وترك التظاهر بأكل لحم الخنزير وشرب
الخمر والزنى ونكاح المحرمات، ومتى خالفوا شيئا من ذلك فقد خرجوا من
الذمة.
ومن عدا الثلاث فرق يجب قتالهم إلى أن يسلموا أو يقتلوا وتسبى ذراريهم
وتؤخذ أموالهم، ولا تؤخذ منهم الجزية بحال.
ولا يبدأ الكفار بالقتال حتى يدعو إلى الإسلام من التوحيد والعدل وإظهار
الشهادتين والقيام بأركان الشريعة، فإن أبوا ذلك كله أو بعضه وجب قتالهم.
وينبغي أن يكون الداعي الإمام أو من يأمره الإمام.
ويجوز قتال الكفار بسائر أنواع القتال إلا إلقاء السم في بلادهم فإن ذلك
مكروه لأن فيه هلاك من لا يجوز قتله من الصبيان والنساء والمجانين.
ومن أسلم في دار الحرب كان إسلامه حقنا لدمه وجميع ماله الذي يمكن
نقله إلى دار الإسلام، فأما ما لا يمكن نقله إلى دار الإسلام من العقارات والأرضين
فهو فئ للمسلمين، ويحكم على أولاده الصغار بالإسلام ولا يسترقون، فأما
البالغون فلهم حكم نفوسهم.
4

فصل
في ذكر قسمة الغنيمة والفئ وكيفيتها وحكم الأسرى
كلما يؤخذ في دار الحرب يخرج منه الخمس فيكون لأربابه، والباقي على
ضربين: ما يمكن نقله إلى دار الإسلام فهو للقائم خاصة، وما لا يمكن نقله فهو
لجميع المسلمين.
والذراري والسبايا للمقاتلة أيضا خاصة، ويلحق بالذراري من لم ينبت، ومن
أنبت أو علم بلوغه ألحق بالرجال، والأربعة أخماس بين المقاتلة وكل من حضر
القتال، قاتل أو لم يقاتل.
ويقسم للصبيان معهم، ومن يولد في تلك الحال قبل القسمة ومن لحق بهم
معينا لهم قسم لهم، فإن لحقوهم بعد القسمة فلا شئ لهم، وليس للأعراب
والعبيد شئ من الغنيمة.
وتقسيم الغنيمة بين المقاتلة بالسوية لا يفضل بعضهم على بعض للشرف أو
العلم أو الزهد إلا الفارس على الراجل، فإن للفارس سهمين وللراجل سهما، فإن
كان معه أفراس جماعة فلم يسهم إلا لفرسين فقط، وما يغنم منهم في المراكب
قسم أيضا مثل ذلك للفارس سهمان وللراجل سهم.
والأسارى على ضربين:
أحدهما يؤخذون والحرب قائمة، فهؤلاء الإمام مخير فيهم بين أن يضرب
رقابهم أو يقطع أيديهم وأرجلهم ويتركهم حتى ينزفوا.
والقسم الثاني يؤخذون بعد تقضي القتال، فالإمام مخير فيهم بين أن يمن
عليهم فيطلقهم أو يفاديهم إما بمال أو نفس أو يستعبدهم.
ومن أسلم من الفريقين كان حكمهم حكم المسلمين، غير أن من استرق منهم
لا يصير حرا.
5

فصل
في أحكام أهل البغي
الباغي هو كل من خرج على إمام عادل وشق عصاه، فإن على الإمام أن
يقاتلهم.
ويجب على كل من يستنهضه الإمام أن ينهض معه ويعاونه على قتالهم، ولا
يجوز لغير الإمام قتالهم بغير إذنه، فإذا قوتلوا لا يرجع عنهم إلا أن يفيئوا إلى الحق
أو يقتلوا، ولا يقبل منهم عوض ولا جزية.
والبغاة على ضربين:
أحدهما: من لهم رئيس يرجعون إليه، فهؤلاء يجوز أن يجهز على جراحاتهم
ويتبع مدبرهم ويقتل أسيرهم.
والآخر: لا يكون لهم فيه رئيس، فهؤلاء لا يجهز على جريحهم ولا يقتل
أسيرهم.
ولا يجوز سبي ذراري الفريقين، ويغنم من أموالهم ما حواه العسكر، وما لم
يحوه فلا يتعرض له بحال.
والمحارب كل من أظهر السلاح وأخاف الناس، سواء كانوا في بر أو بحر
أو سفر أو حضر، فهؤلاء يجب قتالهم على وجه الدفع عن النفس والمال، فإن
أدى إلى قتلهم لم يكن على القاتل شئ.
واللص محارب، وتفصيل ذلك بيناه في النهاية والمبسوط لا نطول بذكره
هاهنا.
6

الخلاف تأليف شيخ الطائفة
أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (قدس سره)
385 - 460 ه‍. ق
7

كتاب السير
مسألة 1: الجهاد فرض على الكفاية، وبه قال جميع الفقهاء، وقال سعيد
بن المسيب: هو فرض على الأعيان.
دليلنا: إجماع الفرقة وأيضا الأصل براءة الذمة، وأيضا قوله تعالى: لا
يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله
بأموالهم وأنفسهم... الآية إلى قوله: وكلا وعد الله الحسنى، ففاضل بين
المجاهدين والقاعدين، فدل على أن الجميع جائز وإن كان الجهاد أفضل.
وروي عن النبي أنه قال: من جهز غازيا فقد غزا، ومن خلف غازيا في أهله
فقد غزا، فلو كان فرضا على الأعيان لكان القاعد يستحق العقاب دون الثواب.
مسألة 2: روى أصحابنا أنه يجوز أن يغزو الإنسان عن غيره ويأخذ عليه
أجرة، وخالف جميع الفقهاء في ذلك.
دليلنا: إجماع الفرقة.
مسألة 3: إذا غزت طائفة بغير إذن الإمام فغنموا مالا فالإمام مخير إن شاء
أخذه منهم، وإن شاء تركه عليهم.
وبه قال الأوزاعي والحسن البصري، وقال الشافعي: يخمس عليهم، وقال
9

أبو حنيفة: لا يخمس.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم.
مسألة 4: إذا غنم المسلمون خيلا للمشركين ومواشيهم ثم أدركهم
المشركون، وخافوا أخذها منهم لم يجز عقرها وقتلها، وبه قال الشافعي، وقال
أبو حنيفة: يجوز.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه
نهى عن ذبح الحيوان لغير مأكله، ونهى عن قتل الحيوان صبرا.
مسألة 5: الشيوخ الذين لا رأي لهم ولا قتال فيهم كالرهبان وأصحاب
الصوامع إذا وقعوا في الأسر حل قتلهم، وللشافعي فيه قولان: أحدهما يجوز مثل
ما قلناه، وهو الأصح، والثاني لا يجوز قتلهم، وبه قال أبو حنيفة، وذهب إليه قوم
من أصحابنا.
دليلنا: على الأول: قوله تعالى: اقتلوا المشركين، ولم يفصل، وأيضا قوله
تعالى: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله... الآية إلى قوله: حتى يعطوا الجزية عن يد
وهم صاغرون، ولم يفصل، وروى سمرة أن النبي صلى الله عليه وآله قال: اقتلوا
شيوخ المشركين، واستبقوا شرخهم، يعني الغلمان المراهقين، وأما القول الآخر
فقد روي ذلك في بعض أخبارنا.
مسألة 6: من لم تبلغه الدعوة من الكفار لا يجوز قتله قبل عرض الدعوة
عليه، فإن قتله فلا ضمان عليه، وبه قال أبو حنيفة، وقال الشافعي: عليه ضمان
ديته.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم وأيضا الأصل براءة الذمة من الضمان،
وإيجابه يحتاج إلى دليل.
10

مسألة 7: إذا قتل مسلم أسيرا مشركا لا ضمان عليه، وبه قال جميع
الفقهاء، وقال الأوزاعي: عليه الضمان والدية.
دليلنا: إن الأصل براءة الذمة، وشغلها يحتاج إلى دليل.
مسألة 8: يصح أمان العبد لآحاد المشركين سواء أذن له سيده في القتال
أو لم يأذن، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: إن أذن له في القتال صح أمانه،
وإن لم يأذن لم يصح.
دليلنا: قوله عليه السلام: المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم،
فأدناهم عبيدهم.
مسألة 9: من فعل ما يجب عليه به الحد في أرض العدو من المسلمين
وجب عليه الحد، إلا أنه لا يقام عليه في أرض العدو بل يؤخر إلى أن يرجع إلى
دار الإسلام.
وقال الشافعي: يجب الحد وإقامته سواء كان هناك إمام أو لم يكن.
وقال أبو حنيفة: إن كان هناك إمام وجب وأقيم، وإن لم يكن هاهنا إمام لم
يقم، وأصحابه يقولون: إنها تجب لكنها لا تقام، وهذا مثل ما قلناه، وحكي عن
أبي حنيفة أنه قال: من قتل عمدا مسلما لا قود عليه، والمشهور هو الأول.
دليلنا: على وجوب الحد: قوله تعالى: الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد
منهما مائة جلدة، ولم يفصل، وقوله تعالى: والسارق والسارقة، وإنما أخرناها
لإجماع الفرقة على ذلك.
مسألة 10: لا يملك المشركون أموال المسلمين بالقهر والغلبة وإن حازوها
إلى دار الحرب، بل هي باقية على ملك المسلمين، فإن غنم المسلمون ذلك
ووجده صاحبه أخذه بغير ثمن إذا كان قبل القسمة، وإن كان بعد القسمة أخذه
11

ودفع الإمام قيمته إلى من وقع في سهمه من بيت المال لئلا ينتقض القسمة.
وإن أسلم الكافر عليه فهو أحق به، يعني صاحبه، وبه قال الشافعي، وفي
الصحابة أبو بكر وسعد بن أبي وقاص، وفي الفقهاء ربيعة، وقد روى أصحابنا أنه
يأخذه بعد القسمة بالقيمة، وبه قال مالك والأوزاعي، وقال أبو حنيفة وأصحابه:
كلما يصح تملكه بالعقود فإن المشركين يملكونه بالقهر والإحازة إلى دار الحرب
إلا أن صاحبه إن وجده قبل القسمة أخذه بغير شئ، وإن وجده بعد القسمة أخذه
بالقيمة، وإن أسلم الكافر عليه فهو أحق به.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضا روى عمران بن حصين أن قوما من
المشركين أسروا امرأة أنصارية، وناقة... وذكر الخبر إلى أن قال: فلما أن كان
ذات ليلة انفلتت المرأة عن قبابها فجاءت إلى الإبل، فكلما مست بعيرا رغا إلى أن
مست تلك الناقة فلم ترع، فجلست على عجزها وصاحت بها، وانطلقت
فطلبوها من ليلتها فلم يدركوها، فنذرت إن نجاها الله عليها أن تنحرها، فلما
قدمت المدينة عرفوا الناقة وأنها ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله، فقالت: قد
نذرت إن نجاني الله عليها أن أنحرها، فأخبروا النبي صلى الله عليه وآله بذلك،
فقال: بئس ما جزيتها لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا وفاء للنذر فيما لا يملكه ابن
آدم، فأخذوا الناقة منها.
فأما ما رواه أصحابنا أنه يأخذ ماله بعد القسمة بالقيمة، فقد روى ذلك ابن
عباس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله عن رجل شرد له بعير وأبق له
عبد فأخذها المشركون ثم هر عليهما فقال: إن وجدهما قبل القسمة فهما له بغير
شئ، وإن وجدهما بعد القسمة فهما له بالقيمة.
مسألة 11: إذا دخل حربي إلى دار الإسلام بأمان ومعه مال انعقد أمانه على
نفسه وماله بلا خلاف، فإذا رجع إلى دار الحرب وخلف ماله في دار الإسلام ثم
مات في دار الحرب صار ماله فيئا.
12

وللشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه، والثاني يكون لورثته في دار
الحرب.
دليلنا: إن مال أهل الحرب الأصل فيه أنه فئ فإذا عرض عارض في حال
الأمان منعنا منه، فإذا زال العارض عاد إلى الأصل من كونه فيئا، ومن منع منه
فعليه الدلالة.
مسألة 12: إذا أسلم الحربي أحرز ماله ودمه وصغار أولاده، وسواء في
ذلك ماله الذي في دار الحرب أو في دار الإسلام.
وقال مالك: يحرز ما له الذي في دار الإسلام إذا أسلم في دار الإسلام مما
هو في يده وما ليس في يده، وبه قال الشافعي، إلا أن أصحابنا قالوا: يحرز ماله
الذي يمكن نقله إلى دار الإسلام وأما ماله في دار الحرب فهو غنيمة، وبنى هذا على
أن أهل الحرب لا ملك لهم، فإذا أسلموا تجدد لهم الملك بالقهر والغلبة على ماله
في دار الإسلام والذي في دار الحرب لا يملكه.
وقال أبو حنيفة: إذا أسلم أحرز ماله في يده المشاهدة، وما في يد ذمي، فأما
ما لا يد عليه فإنه لا يحرزه، فإن ظهر المسلمون على الدار غنموه، وهكذا ما لا
ينقل، ولا يحول مثل العقار والأراضي لا يحرزها بإسلامه لأن اليد لا تثبت عليها
على أصلهم، وعند أبي حنيفة أن أملاك أهل الحرب ضعيفة فلا يملكون بإسلامهم
إلا ما تثبت عليه اليد.
ويقول أيضا: الحربي إذا تزوج حربية فأحبلها ثم أسلم قبل أن تضع، فالولد
مسلم ويجوز استرقاق الأم والولد وإن انفصل الولد لم يجز استرقاقه، وعند
الشافعي: لا يجوز استرقاقه بحال وهو الذي يقتضيه مذهبنا.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضا قوله صلى الله عليه وآله: أمرت أن
أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا
بحقها، فأضاف الأموال إليهم، وحقيقة ذلك تقضي ملكا، ثم قال: عصموا مني
13

دماءهم وأموالهم، ولم يفصل بين ما كان في دار الحرب وغيره.
وروي أن النبي صلى الله عليه وآله لما حاصر بني قريظة فأسلم ابنا رجل
فأحرز إسلامهما دماءهما وأموالهما وصغار أولادهما، وهذا نص، والدليل على
مالك قوله تعالى: وأورثكم أرضهم وديارهم، وحقيقة الإضافة تقتضي الملك.
مسألة 13: مكة فتحت عنوة بالسيف، وبه قال الأوزاعي وأبو حنيفة
وأصحابه، ومالك، وقال الشافعي: إنها فتحت صلحا، وبه قال مجاهد.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وروي أن النبي صلى الله عليه وآله لما
دخل مكة استند إلى الكعبة ثم قال: من ألقى سلاحه فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو
آمن، فآمنهم بعد أن ظفر بهم، ولو كان دخل صلحا لم يحتج إلى ذلك.
وأيضا قوله تعالى: إنا فتحنا لك فتحا مبينا، وإنما أراد فتح مكة، والفتح لا
يسمى إلا ما أخذ بالسيف، وقال تعالى: إذا جاء نصر الله والفتح، يعني فتح مكة،
قال تعالى: وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن
أظفركم عليهم، وهذا صريح في الفتح.
ومن قرأ السير والأخبار وكيفية دخول النبي مكة علم أن الأمر على ما قلناه،
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: كل بلدة فتحت بالسيف إلا المدينة
فإنها فتحت بالقرآن، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه دخل مكة وعلى رأسه
المغفر، وقتل خالد بن الوليد أقواما من أهل مكة، وهذا علامة القتال.
مسألة 14: إذا وطئ بعض الغانمين الجارية من المغنم لم يلزم الحد، وبه
قال جميع الفقهاء، وقال الأوزاعي وأبو ثور: عليه الحد، وروي ذلك عن مالك.
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة، وأيضا إجماع الفرقة، وأيضا قول النبي صلى
الله عليه وآله: ادرأوا الحدود بالشبهات، وهاهنا شبهة.
14

مسألة 15: إذا وطئ المسلم جارية من المغنم فحبلت لحق به النسب
وقومت عليه الجارية والولد، ويلزم بما يفضل عن نصيبه، وقال الشافعي: يلحق به
نسبه ولا يملكه، وهل تقوم الجارية عليه؟ فيه طريقان:
منهم من قال: على قولين، وقال أبو إسحاق: تقوم عليه قولا واحدا، فأما الولد
فإن وضعت الولد بعد أن قومت الجارية عليه لا يقوم عليه الولد لأنها وضعت في
ملكه، وإن وضعت قبل أن تقوم عليه قوم عليه الولد، وقال أبو حنيفة: لا يلحق به
ويسترق.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضا فقد بينا أنه لا يجب عليه حد، وأنه
ليس بزان، وولد الشبهة يلحق به.
مسألة 16: إذا دخل مسلم دار الحرب بأمان فسرق منهم شيئا أو استقرض
من حربي مالا وعاد إلينا فدخل صاحب المال بأمان كان له عليه رده، وبه قال
الشافعي، وقال أبو حنيفة: لا يلزمه رده.
دليلنا: قوله تعالى: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وهذا دخل
بأمان، ولأن استحلال مال الغير يحتاج إلى دليل، وليس في الشرع ما يدل على
جواز ذلك.
مسألة 17: إذا سبي الزوجان الحربيان فاسترقا أو أحدهما انفسخ النكاح
بينهما، وبه قال الشافعي ومالك والليث بن سعد والثوري وأبو ثور، وقال
الأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه: لا ينفسخ.
دليلنا: قوله تعالى: والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم، فحرم
الزوجات من النساء واستثنى من ذلك ملك اليمين، وروي أن هذه الآية نزلت
على سبب، روى أبو سعيد الخدري قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله سرية
قبل أوطاس فغنموا النساء فتأثم أناس من وطئهن لأجل أزواجهن، فنزلت:
15

والمحصنات من النساء إلا ما ملكت إيمانكم... الآية نزلت في شأن المزوجات إذا
شبين وملكن، فأما إذا سبيت وحدها من زوجها فلا خلاف أن العقد ينفسخ.
مسألة 18: إذا سبيت المرأة مع ولدها الصغير لم يجز التفريق بينهما بالبيع
ما لم يبلغ الصبي سبع سنين، فإذا بلغ ذلك كان جائزا.
وقال الشافعي: لا يفرق بينهما حتى يبلغ الولد في أصح القولين، وهكذا
كل أمة لها ولد مملوك، وفيه قول آخر: أنه إذا بلغ حد المتحير وهو السبع أو
الثمان جاز التفريق كما قلناه.
وقال مالك: إذا ثغر الصبي، وهو أن تسقط أسنانه وتنبت جاز التفريق،
وقال الليث بن سعد: إذا بلغ حدا يأكل بنفسه ويلبس بنفسه جاز التفريق، وقال
أبو حنيفة: لا يجوز التفريق بينهما ما لم يبلغ، وقال أحمد: لا يجوز التفريق أبدا.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم.
مسألة 19: إذا فرق بين الصغير وبين أمة لم يبطل البيع، وقال الشافعي:
يبطل.
دليلنا: قوله تعالى: وأحل الله البيع، وأيضا الأصل جوازه وصحته،
وإبطاله يحتاج إلى دليل.
ولو قلنا إنه يبطل البيع، كان قويا فإن أخبارنا تدل على ذلك، ولأنه إذا
ثبت أنه منهي عنه والنهي يدل على فساد المنهي عنه كان قويا، وأيضا روي عن
علي عليه السلام أنه فرق بين جارية وولدها، فنهاه رسول الله صلى الله
عليه وآله عن ذلك، فرد البيع.
مسألة 20: يجوز التفريق بين الأبوين، وكل قريب ما عدا الوالدين
والمولودين، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: كل ذي رحم محرم بالنسب لا
16

يجوز التفريق بينه وبين الولد.
دليلنا: أن الأصل جواز ذلك، والمنع يحتاج إلى دليل.
مسألة 21: إذا سبي الصبي مع أبويه أو أحدهما تبعهما في الكفر، وبه قال
جميع الفقهاء، وقال الأوزاعي: يتبع السابي في الإسلام. وقال مالك: إذا سبي
مع أمة لا يتبعها ويتبع السابي، وإن سبي معهما أو مع الأب يتبعه.
دليلنا: قوله صلى الله عليه وآله: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه
وينصرانه ويمجسانه، ولم يفصل بين المسبي وغيره.
دليلنا: أن الأصل كونه تابعا لأبويه ولكل واحد منهما، ونقله عن ذلك إلى
السابي يحتاج إلى دليل.
مسألة 22: يجوز بيع أولاد الكفار في الموضع الذي يحكم بكفرهم من
الكفار والمسلمين، وبه قال الشافعي، وقال أبو يوسف وأحمد: لا يجوز البيع من
كافر، وقال أبو حنيفة: أكره ذلك.
دليلنا: قوله تعالى: وأحل الله البيع، ولم يفصل، وأيضا النبي صلى الله
عليه وآله لما سبي بني قريظة جزأ السبي ثلاثة أجزاء: فبعث بثلثيه إلى الحجاز،
وثلثه إلى الشام والشام كانت دار كفر في ذلك الوقت، وإنما بعث بهم للبيع.
مسألة 23: كل أرض فتحت عنوة بالسيف فهي للمسلمين كافة لا يجوز
قسمتها بين الغانمين، وإنما يقسم بينهم ما سوى العقارات والأرضين من الأموال،
وبه قال مالك والأوزاعي إلا أنهما قالا: تصير وقفا على المسلمين بالفتح، وقال
الشافعي: يجب قسمتها بين الغانمين كما تقسم غير الأرضين، وقال أبو حنيفة:
الإمام مخير إن شاء قسم، وإن شاء ترك أهلها فيها وضرب عليهم الجزية، وإن
شاء أجلاهم وجاء بقوم آخرين من أهل الذمة فأسكنهم إياها، وضرب عليهم
17

الجزية.
وأصل هذا الخلاف سواد العراق التي فتحت في أيام عمر، فعند الشافعي،
إنه قسمها بين المقاتلة ثم استطاب أنفسهم واشتراها، وعند مالك، إنه وقفها، وعند
أبي حنيفة، إنه أقر أهلها فيها وضرب عليهم الجزية وهو الخراج.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وقد مضت في كتاب الزكاة.
مسألة 24: إذا صالح الإمام قوما من المشركين على أن يفتحوا الأرض
ويقرهم فيها ويضرب على أرضهم خراجا بدلا عن الجزية كان ذلك جائزا على
حسب ما يعلمه من المصلحة ويكون جزية، وإذا أسلموا أو باعوا الأرض من مسلم
سقط. وبه قال الشافعي إلا أنه قيد ذلك بأن قال: إذا علم أن ذلك يفي بما يختص
كل بالغ دينارا في كل سنة، وقال أبو حنيفة: لا يسقط ذلك بالإسلام.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم.
مسألة 25: إذا خلى المشركون أسيرا على مال يوجهه إليهم وأنه إن لم يقدر
على المال يرجع إليهم، فإن قدر على المال لم يلزمه إنفاذه، وإن لم يقدر عليه لم
يلزمه الرجوع، بل لا يجوز له ذلك.
وبه قال الشافعي من الفقهاء، وقال أبو هريرة والنخعي والحسن البصري
والثوري والزهري والأوزاعي: عليه إنفاذ المال إن قدر، وإن لم يقدر لا يلزمه
الرجوع، وقال الأوزاعي: إن لم يقدر على المال يلزمه الرجوع، وحكي ذلك عن
بعض أصحاب الشافعي.
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة وإيجاب المال والرجوع يحتاج إلى دليل، و
أما الرجوع إليهم وإعطاء المال إياهم فظاهر للفساد لأنه إذا كان بينهم يلزمه
الخروج، فكيف يجب عليه الرجوع؟ وفي إعطاء المال إياهم تقوية للكفار
وذلك باطل.
18

كتاب الجزية
مسألة 1: لا يجوز أخذ الجزية من عباد الأوثان سواء كانوا من العجم أو من
العرب.
وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: تؤخذ من العجم ولا تؤخذ من العرب،
وقال مالك: تؤخذ من جميع الكفار إلا مشركي قريش.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضا قوله تعالى: اقتلوا المشركين حيث
وجدتموهم، وقال تعالى: فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب، ولم يستثن،
وقال تعالى: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم
الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن
يد وهم صاغرون، فخص أهل الكتاب الجزية دون غيرهم، وأيضا قوله صلى الله عليه وآله: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله.
مسألة 2: يجوز أخذ الجزية من أهل الكتاب من العرب، وبه قال جميع
الفقهاء، وقال أبو يوسف: لا يجوز.
دليلنا: قوله تعالى: من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم
صاغرون، ولم يفرق، وأيضا بعث رسول الله صلى الله عليه وآله خالد بن الوليد
إلى دومة الجندل فأغار عليها وأخذ أكيدر دومة فأتى به النبي صلى الله عليه وآله
19

فصالحه على الجزية.
وقال الشافعي: أكيدر بن حسان رجل من كندة أو غسان وكلاهما عرب.
وأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله الجزية من أهل نجران وفيهم عرب.
مسألة 3: المجوس كان لهم كتاب ثم رفع عنهم، وهو أصح قولي
الشافعي، وله قول آخر: أنه لم يكن لهم كتاب، وبه قال أبو حنيفة.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، ورووا عن علي عليه السلام أنه
قال: كان لهم كتاب أحرقوه ونبي قتلوه، فثبت أنهم أهل الكتاب.
مسألة 4: الصابئة لا يؤخذ منهم الجزية ولا يقرون على دينهم، وبه قال
أبو سعيد الإصطخري، وقال باقي الفقهاء: أنه يؤخذ منهم الجزية.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضا قوله تعالى: اقتلوا المشركين حيث
وجدتموهم، وقال: فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب، ولم يأمر بأخذ الجزية
منهم، وأيضا قوله تعالى: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله... إلى قوله: من الذين أوتوا
الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فشرط في أخذ الجزية أن
يكونوا من أهل الكتاب، وهؤلاء ليسوا بأهل الكتاب.
مسألة 5: الصغار المذكور في آية الجزية هو التزام الجزية على ما يحكم به
الإمام من غير أن تكون مقدرة، والتزام أحكامنا عليهم.
وقال الشافعي: هو التزام أحكامنا عليهم. ومن الناس من قال: هو وجوب
جري أحكامنا عليهم، ومنهم من قال: الصغار أن يؤخذ الجزية منه قائما والمسلم
جالس.
دليلنا: إجماع الفرقة على أن الصغار هو أن لا يقدر الجزية فيوطن نفسه
عليها، بل تكون بحسب ما يراه الإمام مما يكون معه صاغرا، وأيضا قوله تعالى:
20

حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فجعل الصغار شرطا لرفع السيف،
فمن قال: إنه لا ترفع حتى تجري أحكامنا وحتى يعطوا الجزية، خالف الظاهر.
مسألة 6: المجنون المطبق لا خلاف أنه لا جزية عليه، وإن كان ممن يجن
أحيانا ويفيق أحيانا حكم بحكم الأغلب.
وبه قال أبو حنيفة، وقال الشافعي: يسقط حكم المجنون ولا تلفق أيامه،
وقال أكثر أصحابه: تلفق أيامه، فإذا بلغت الأيام حولا وجبت الجزية.
دليلنا: قوله تعالى: حتى يعطوا الجزية، ولم يستثن ولم يشرط التلفيق،
وإنما أخرجنا المطبق، ومن غلب على أكثر أيامه الجنون بدليل.
مسألة 7: الشيوخ الهرمى، وأصحاب الصوامع والرهبان يؤخذ منهم
الجزية، وللشافعي فيه قولان، بناء على القولين، إذا وقعوا في الأسر هل يجوز قتلهم
أم لا؟ وفي أصحابنا من قال: لا تؤخذ منهم الجزية.
دليلنا: على الأول: قوله تعالى: حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون،
ولم يفصل.
مسألة 8: يجوز لأهل الذمة أن يلبسوا العمائم والرداء، وبه قال الشافعي،
وقال أبو حنيفة وأحمد: ليس لهم ذلك.
دليلنا: المنع من ذلك يحتاج إلى دليل، وأيضا إذا لبسوا القباء وتميزوا
من المسلمين فلا وجه للمنع من ذلك.
مسألة 9: ليس للجزية حد محدود، بل ذلك موكول إلى اجتهاد الإمام
يأخذ منهم بحسب ما يراه أصلح، وما يحتمل أحوالهم مما يكونون به صاغرين،
وبه قال الثوري.
21

وقال الشافعي: إذا بذل الكافر دينارا في الجزية قبل منه موسرا كان أو
معسرا أو متوسطا.
وقال مالك: أقل الجزية أربعة دنانير على أهل الذهب وثمانية وأربعون
درهما على أهل الورق في جميع من ذكرناه.
وقال أبو حنيفة: جزية المقل اثنا عشر درهما، والمتوسط أربعة وعشرون
درهما، والغني ثمانية وأربعون درهما.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، ولأن تقدير ذلك بحد يحتاج إلى دليل
شرعي، وليس في الشرع ما يدل عليه، والآية إنما أوجبت الجزية التي تكون
بإعطائها صاغرا، وذلك يختلف الحال فيه.
مسألة 10: من لا كسب له ولا مال لا يجب عليه الجزية، وبه قال أبو حنيفة،
وللشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه، والآخر وهو أصحهما إنما تجب عليه.
دليلنا: إجماع الفرقة وأيضا الأصل براءة الذمة، وأيضا قوله تعالى: لا
يكلف الله نفسا إلا وسعها، وأيضا قوله تعالى: لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها، وإذا
لم يكن له قدرة على المال ولا الكسب فلا يجوز أن يجب عليه الجزية.
مسألة 11: إذا وجبت الجزية على الذمي بحول الحول ثم مات أو أسلم، قال
الشافعي: لم تسقط، وقال أبو حنيفة: تسقط، وقال أصحابنا: إن أسلم سقطت، ولم
يذكروا الموت.
والذي يقتضيه المذهب: إنه إذا مات لا تسقط عنه، لأن الحق واجب عليه
يؤخذ من تركته، وبه قال مالك.
وأما الدليل على أنها تسقط بالإسلام قوله تعالى: حتى يعطوا الجزية عن يد
وهم صاغرون، فشرط في إعطائها الصغار، وهذا لا يمكن مع الإسلام فيجب أن
تسقط، وأيضا قوله صلى الله عليه وآله: الإسلام يجب ما قبله، يفيد سقوطها لأن
22

عمومه يقتضي ذلك، وروي عنه عليه السلام أنه قال: لا جزية على مسلم، وذلك
على عمومه في الإعطاء والوجوب.
مسألة 12: إذا صالحنا المشركين على أن تكون الأرض لهم بجزية
التزموها، وضربوها على أرضهم، فيجوز للمسلم أن يشتريها ويصح الشراء وتصير
أرضا عشرية، وبه قال الشافعي، وقال مالك: الشراء باطل.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضا فإن هذه الأرضين أملاك لهم،
وإنما تؤخذ منهم الجزية فيجب أن يصح شراؤها كسائر الأملاك.
مسألة 13: إذا دخل حربي إلينا بأمان فقال له الإمام: أخرج إلى دار
الحرب فإن أقمت عندنا صيرت نفسك عندنا ذميا، فأقام سنة ثم قال: أقمت
الحاجة، قبل منه، ولم يكن له إذا أقام سنة أخذ الجزية منه بل يرده إلى مأمنه، وبه
قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: إذا أقام سنة صار ذميا.
دليلنا: إن عقد الذمة لا يكون إلا بالإيجاب والقبول، وهذا ما وجد،
والحكم بالذمة عليه يحتاج إلى شرع والأصل براءة الذمة.
مسألة 14: لا يجوز أن يمكن أحد من أهل الذمة أن يدخل الحرم بحال لا
مجتازا ولا لحاجة، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: يجوز أن يدخله عابر سبيل
أو محتاجا إلى أن ينقل المسيرة إليه.
دليلنا: قوله تعالى: إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد
عامهم هذا، وإنما أراد به الحرم كله بلا خلاف.
مسألة 15: إذا دخل حربي دار الإسلام أو أهل الذمة دخلوا الحجاز من غير
شرط لما يؤخذ منهم، فإنه لا يؤخذ منهم شئ، وهو ظاهر مذهب الشافعي، وفي
23

أصحابه من قال: يؤخذ من الذمي إذا دخل بلد الحجاز سوى الحرم نصف
العشر، وفي الحربي إذا دخل دار الإسلام العشر.
وقال أبو حنيفة: يؤخذ منهم ما يأخذون هم من المسلمين إذا دخلوا دار
الحرب، فإن عشروهم عشرناهم، وإن أخذوا منهم نصف العشر، فمثل ذلك،
وإن عفوا عنهم عفونا عنهم.
دليلنا: إن الأصل براءة الذمة، وتقدير ما يؤخذ منهم يحتاج إلى شرع أو
شرط وليس هاهنا واحد منهما.
مسألة 16: إذا هادن الإمام المشركين مدة على أن من جاء منهم رده إليهم،
ويكف الحرب فيما بينهم ثم جاءت امرأة مسلمة مهاجرة منهم إلى بلد الإسلام لم
يجز ردها بلا خلاف، إلا أنه إن جاء زوجها وطالب بمهرها الصحيح الذي
أقبضها إياه كان على الإمام أن يرده إليه من سهم المصالح.
وللشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه وهو أضعفهما عندهم، والثاني
وهو الصحيح عندهم أنه لا يرد عليه شيئا، وهو اختيار الشافعي والمزني، وبه قال
أبو حنيفة.
دليلنا: قوله تعالى: وآتوهم ما أنفقوا، وهذا قد أنفق.
مسألة 17: يجوز للإمام أن يصالح قوما على أن يضرب الجزية على
أرضهم بحسب ما يراه، وإذا أسلموا سقط ذلك عنهم، وصارت الأرض عشرية،
وبه قال الشافعي إلا أنه قيد ذلك أنه يضع عليها بأقل ما يكون من الجزية
فصاعدا.
وقال أبو حنيفة: لا يجوز الاقتصار على هذا حتى ينضم إليه ضرب الجزية على
الرؤوس، ومتى أسلموا لا تسقط عنهم بل تكون الأرض خراجية على ما وضع
عليها.
24

دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم.
مسألة 18: إذا صالحهم على أن يأخذ منهم العشر أو السدس أو الربع
مطلقا، وإن لم يشرط عليهم أنه متى نقص مقدار الجزية حمله كان ذلك جائزا،
وقال الشافعي: لا يجوز ذلك لأنه مجهول.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم على أن ذلك إلى الإمام بحسب ما يراه
ولم يقيدوا.
مسألة 19: إذا انتقل الذمي من دينه إلى دين يقر أهله عليه مثل يهودي يصير
نصرانيا أو نصراني صار يهوديا أو مجوسيا أقر عليه، وبه قال أبو حنيفة، وللشافعي
فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه، والثاني وهو الأصح عندهم أنه لا يقر لقوله صلى
الله عليه وآله: من بدل دينه فاقتلوه، ولقوله تعالى: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن
يقبل منه.
دليلنا: هو أن الكفر كالملة الواحدة بدلالة أنه يرث بعضهم من بعض، وإن
اختلفوا، وعليه إجماع الفرقة.
مسألة 20: إذا هادن الإمام قوما فدخل إلينا منهم قوم فسرقوا وجب عليهم
القتل، وللشافعي فيه قولان.
دليلنا: قوله تعالى: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما، ولم يفصل.
مسألة 21: إذا زنى المهادن أو شرب الخمر ظاهرا أقيم عليه الحد، وقال
جميع الفقهاء: لا شئ عليه.
دليلنا: قوله تعالى: الزانية والزاني... إلى قوله: من المؤمنين، ولم يفصل،
وقوله صلى الله عليه وآله: من شرب الخمر فاجلدوه، ولم يفصل.
25

مسألة 22: أهل الذمة إذا فعلوا ما يجب به الحد مما يحرم في شرعهم مثل
الزنى واللواط والسرقة والقتل والقطع أقيم عليهم الحد بلا خلاف، لأنهم عقدوا
الذمة بشرط أن تجري عليهم أحكامنا، وإن فعلوا ما يستحلونه مثل شرب الخمر
وأكل لحم الخنزير ونكاح المحرمات فلا يجوز أن يتعرض لهم ما لم يظهروه بلا
خلاف، فإن أظهروه وأعلنوه كان للإمام أن يقيم عليهم الحدود.
وقال جميع الفقهاء: ليس له أن يقيم الحدود التامة، بل يعزرهم على ذلك
لأنهم يستحلون ذلك ويعتقدون إباحته.
دليلنا: الآيات الموجبات لإقامة الحدود، وهي على عمومها وإنما خصصنا
حال الاستتار بدليل الإجماع، وأيضا عليه إجماع الفرقة.
26

كتاب الفئ وقسمة الغنائم
مسألة 1: كل ما يؤخذ بالسيف قهرا من المشركين يسمى غنيمة بلا
خلاف، وعندنا أن ما يستفيده الإنسان من أرباح التجارات والمكاسب والصنائع
يدخل أيضا فيه، وخالف جميع الفقهاء في ذلك.
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا قوله تعالى: واعلموا أنما غنمتم من شئ فإن لله
خمسه، عام في جميع ذلك فمن خصصه فعليه الدلالة.
مسألة 2: الفئ كان لرسول الله صلى الله عليه وآله خاصة، وهو لمن قام
مقامه من الأئمة عليه السلام، وبه قال علي عليه السلام وابن عباس
وعمر، ولم نعرف لهم مخالفا.
وقال الشافعي: كان الفئ يقسم على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله على
خمسة وعشرين سهما، أربعة أخماسه للنبي صلى الله عليه وآله وهو عشرون سهما،
وله أيضا خمس ما بقي، يكون إحدى وعشرين سهما للنبي صلى الله عليه وآله،
ويبقى أربعة أسهم بين ذوي القربى واليتامى والمساكين وأبناء السبيل.
وقال أبو حنيفة: الفئ كله وخمس الغنيمة يقسم على ثلاثة لأنه كان يقسم
على خمس فلما مات النبي صلى الله عليه وآله رجع سهم النبي صلى الله عليه وآله
وسهم ذوي القربى إلى أصل السهمان، فيقسم الفئ على ثلاثة.
27

وعندنا كان يستحق النبي صلى الله عليه وآله الفئ إلا الخمس، وعند
الشافعي أربعة أخماس الفئ وخمس ما بقي من الفئ.
دليلنا: إجماع الفرقة، وروى سفيان بن عيينة عن الزهري عن مالك بن
أوس بن الحدثان قال: اختصم علي والعباس إلى عمر بن الخطاب في أموال بني
النضير، فقال عمر: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف
عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وآله خاصة دون
المسلمين، وكان يعطي منها لعياله نفقة سنة، ويجعل ما يفضل في الكراع
والسلاح عدة للمسلمين، فوليها رسول الله صلى الله عليه وآله ثم وليها أبو بكر كما وليها
رسول الله صلى الله عليه وآله، ثم وليتها أنا كما وليها أبو بكر ثم
سألتماني أن أوليكماها فوليتكماها على ما وليها النبي صلى الله عليه وآله، ووليها
أبو بكر ووليتها أنا، ثم جئتماني تختصمان فإن كنتما عجزتما عنها فادفعاها إلي
لأكفيكماها، فصرح عمر بأنها كانت للنبي صلى الله عليه وآله خاصة ولم ينكر
عليه أحد، فدل على ما قلناه.
مسألة 3: حكم الفئ بعد النبي صلى الله عليه وآله حكمه في أيامه في أنه
خاص بمن قام مقامه، وللشافعي فيه قولان في أربعة أخماسه وخمس الخمس:
أحدهما يكون في المقاتلين، والقول الثاني يكون في المصالح، ويبدأ
بالأهم فالأهم، وأهم الأمور الغزاة المرابطون، وخمس خمس الغنيمة في مصالح
المسلمين قولا واحدا.
دليلنا: ما قدمناه من إجماع الفرقة، وروى أبو بكر أن النبي صلى الله عليه
وآله قال: ما أطعم الله تعالى نبيا طعمة إلا جعلها للذي يلي بعده.
في أن مال النبي (صلى الله عليه وآله) ينتقل إلى ورثته كسائر الناس
مسألة 4: ما كان للنبي صلى الله عليه وآله ينتقل إلى ورثته وهو موروث،
28

وخالف جميع الفقهاء في ذلك.
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا قوله تعالى: وورث سليمان داود، وقوله في
قصة زكريا: يرثني ويرث من آل يعقوب، وأيضا قوله تعالى: يوصيكم الله في
أولادكم، عام إلا ما خصه الدليل، وكذلك قوله تعالى: للرجال نصيب مما
ترك الولدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون، وكل
ذلك على عمومه، وتخصيصه يحتاج إلى دليل، وهذه المسألة مستوفاة في
تلخيص الشافي.
مسألة 5: كان للنبي صلى الله عليه وآله من خمس الغنيمة سهم الله وسهم
رسوله صلى الله عليه وآله وسهم ذي القربى ثلاثة من ستة، وقال الفقهاء: كان له
سهم من خمسة.
دليلنا: إجماع الفرقة.
مسألة 6: ما كان للنبي من الصفايا قبل القسمة فهو لمن قام مقامه، وقال
جميع الفقهاء: إن ذلك يبطل بموته.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم.
مسألة 7: ما يؤخذ من الجزية والصلح والخراج وميراث من لا وارث له
ومال المرتد لا يخمس، بل هو لجهاته المستحقة لها، وبه قال عامة الفقهاء،
وللشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه، والثاني ذكره في الجديد أنه يخمس،
وهو الصحيح عندهم.
دليلنا: أنه لا دليل في الشرع يدل على أنه يخمس فوجب نفيه ويصرف إلى
جهاته.
29

مسألة 8: السلب لا يستحقه القاتل إلا أن يشرط الإمام، وبه قال أبو حنيفة
ومالك، وقال الشافعي: هو للقاتل وإن لم يشرط له الإمام، وبه قال الأوزاعي
والثوري وأحمد بن حنبل.
دليلنا: أنه إذا شرط استحقه بلا خلاف، وإذا لم يشرط له ليس على
استحقاقه له دليل.
مسألة 9: إذا شرط له الإمام السلب لا يحتسب عليه من الخمس ولا يخمس،
وعند أبي حنيفة يحتسب عليه من الخمس، وقال الشافعي: لا يخمس، وبه قال
سعد بن أبي وقاص، وقال ابن عباس: يخمس السلب، قليلا كان أو كثيرا، وقال
عمر: إن كان قليلا لا يخمس، وإن كان كثيرا خمس.
دليلنا: أنه ينبغي أن يكون لشرط الإمام تأثير ولو احتسب عليه من الخمس
لم يكن فيه فائدة، وكذلك لو خمس على أن ظاهر شرط الإمام يقتضي أنه له،
ومن قال: إنه يحتسب عليه أو يخمس، فعليه الدلالة.
مسألة 10: السلب يأخذه القاتل بالشرط من أصل الغنيمة لا من أصل
الخمس، وبه قال الشافعي غير أنه قال: يكون للقاتل من غير شرط، وقال مالك:
يكون له من خمس الخمس سهم النبي صلى الله عليه وآله.
دليلنا: أنا قد بينا أن سهم الله وسهم النبي صلى الله عليه وآله للإمام القائم
مقام النبي صلى الله عليه وآله فلا يصح ما قدره مالك، وأفسدنا قول الشافعي أنه
يستحق من شرط.
مسألة 11: إذا شرط له الإمام السلب إذا قتل، فإنه متى قتله استحق عليه على
أي حال قتله، وقال داود وأبو ثور: السلب للقاتل من غير مراعاة شرط، وقال
الشافعي وبقية الفقهاء: إن السلب لا يستحقه إلا بشروط ثلاثة: أحدها أن يقتله
30

مقبلا ومقاتلا والحرب قائمة ولا يقتله منهزما وقد انقضت الحرب، والثاني أن لا
يقتله وهو مثخن بالجراح، والثالث لا يكون ممن يرمي سهما من المسلمين إلى
صف المشركين فيقتله لأنه يحتاج أن يكون مغررا بنفسه.
دليلنا: أنه إذا شرط الإمام السلب فالظاهر أنه متى حصل القتل استحق
السلب، ولأن قول النبي صلى الله عليه وآله: من قتل كافرا فله سلبه، على عمومه،
ومن راعى شرطا زائدا فعليه الدلالة.
مسألة 12: إذا أخذ أسيرا كان الإمام مخيرا بين قتله أو المن عليه أو استرقاقه
أو مفاداته، فإذا فعل ذلك كان سلبه وثمنه إن استرقه وفداؤه إن فأداه من جملة
الغنيمة ولا يكون للذي أسره، وللشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه، والثاني
يكون للذي أسره.
دليلنا: قوله صلى الله عليه وآله: من قتل كافرا فله سلبه، وهذا لم يقتله وإن
من أوجب له السلب أو الثمن أو الفداء فعليه الدلالة.
مسألة 13: يجوز للإمام أن ينفل بلا خلاف، وإنما ينقل إما من الذي
يخصه من الفئ أو من جملة الغنيمة، وقال الشافعي: ينقل من خمس الخمس سهم
النبي صلى الله عليه وآله.
دليلنا: أنا قد بينا أن ذلك السهم للإمام القائم مقام النبي صلى الله عليه
وآله، فإن نفل منه كان له، وإن نفل من الغنيمة جاز، لأن النبي صلى الله عليه وآله
كان ينفل منها، وفي حديث ابن عمر: إن سهامهم بلغ اثني عشر بعيرا فنفلهم النبي
صلى الله عليه وآله بعيرا بعيرا، ولو كان من سهمه لما بلغ ذلك، لأن سهمه خمس
الخمس عندهم، فدل على أنه من أصل الغنيمة، ولا يدل حديث أبي سلمة: إن
النبي صلى الله عليه وآله جعل في البدأة الربع، وفي الرجعة الثلث، وذلك أكثر
من خمس الخمس بلا خلاف.
31

مسألة 14: يجوز للإمام أن يقول قبل لقاء العدو: من أخذ شيئا من الغنيمة
بعد الخمس فهو له، وبه قال أبو حنيفة وهو أحد قولي الشافعي، والآخر أنه لا
يجوز.
دليلنا: أن الإمام معصوم فلا يفعل ذلك إلا وهو جائز، وأفعاله حجة
كأفعال النبي صلى الله عليه وآله وروي: أن النبي صلى الله عليه وآله قال يوم
بدر: من أخذ شيئا فهو له.
مسألة 15: مال الغنيمة لا يخلو من ثلاثة أحوال: ما يمكن نقله وتحويله إلى
بلد الإسلام مثل الثياب والدراهم والدنانير والأثاث والعروض، أو يكون أحسابا
مثل النساء والولدان، أو كان مما لا يمكن نقله كالأرض والعقار والبساتين، فما
يمكن نقله يقسم بين الغانمين بالسوية، لا يفضل راجل ولا فارس على فارس،
وإنما يفضل الفارس على الراجل، وبه قال الشافعي: غير أنه لا يدفع الغنيمة إلا
من لم يحضر الوقعة.
وعندنا يجوز ذلك أن يعطي لمن يلحق بهم مددا لهم وإن لم يحضر الوقعة،
ويسهم عندنا الصبيان ومن يولد في تلك الحال، وسيجئ الخلاف فيه، وقال
أبو حنيفة: لا يجوز أن يعطي لغير الغانمين لكن يجوز أن يفضل بعض الغانمين.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم.
مسألة 16: إذا دخل قوم دار الحرب وقاتلوا بغير إذن الإمام فغنموا كان
ذلك للإمام خاصة، وخالف جميع الفقهاء ذلك.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم.
مسألة 17: الأسير على ضربين:
ضرب يؤسر قبل أن تضع الحرب أوزارها، فالإمام مخير فيه بين شيئين: إما
32

أن يقتله أو يقطع يديه ورجليه ويتركه حتى ينزف.
وأسير يؤخذ بعد أن تضع الحرب أوزارها فهو مخير بين ثلاثة أشياء: المن
والاسترقاق والمفاداة، وقال الشافعي: هو مخير بين أربعة أشياء: القتل، والمن
والمفاداة، والاسترقاق، ولم يفصل، وقال أبو حنيفة: هو مخير بين القتل
والاسترقاق دون المن والمفاداة، وقال أبو يوسف ومحمد: هو مخير بين القتل
والاسترقاق والمفاداة على الرجال دون الأموال، وأجمعوا كلهم على أن المفاداة
على الأموال لا تجوز، أعني أهل العراق.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم وقد ذكرناها في الكتاب الكبير، ويدل
على جواز المن قوله تعالى: فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما
منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها، ومن ادعى نسخ هذه الآية فعليه
الدلالة.
وروى الزهري عن جبير بن مطعم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وآله قال
في أسارى بدر: لو كان مطعم بن عدي حيا وكلمني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم،
فأخبر أنه لو كان مطعم حيا لمن عليهم لأنه كان له عنده يد، لو سأله في أمرهم
لأطلقهم، فدل على جواز المن.
وروى أبو هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله بعث سرية قبل نجد فأسروا
رجلا يقال له: ثمامة بن أثال الحنفي سيد يمامة فأتوا به وشدوه إلى سارية من
سواري المسجد فمر به النبي صلى الله عليه وآله فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال:
خير، إن قتلت ذا رحم وإن أنعمت علي شاكر، وإن أردت مالا فاسأل تعط ما شئت
فتركه ولم يقل شيئا، فمر به اليوم الثاني فقال له: مثل ذلك، فمر به اليوم الثالث،
فقال له مثل ذلك، لم يقل النبي صلى الله عليه وآله شيئا، ثم قال: أطلقوا ثمامة،
فأطلقوه فمر واغتسل وجاء فأسلم، وكتب إلى قومه فجاءوا مسلمين، وهذا نص
في جواز المن لأنه أطلقه صلى الله عليه وآله من غير شئ.
وروي أن أبا غرة الجهني وقع في الأسر يوم بدر فقال: يا محمد إني ذو عيلة
33

فامنن علي، فمن عليه على أن لا يعود إلى القتال، فمر إلى مكة فقال: إني سخرت
بمحمد، وعاد إلى القتال يوم أحد فدعا رسول الله أن لا يفلت فوقع في الأسر
فقال: إني ذو عيلة فامنن علي، فقال النبي صلى الله عليه وآله: أمن عليك حتى
ترجع إلى مكة فتقول في نادي قريش: إني سخرت بمحمد مرتين، لا يلسع
المؤمن من جحر مرتين، فقتله صلى الله عليه وآله بيده، وهذا نص في جواز
المن.
وأما الدليل على جواز المفاداة بالرجال ما رواه أبو قلابة عن أبي المهلب عن
عمران بن الحصين: إن النبي صلى الله عليه وآله فادى رجلا برجلين، وأما الدليل
على جواز المفاداة بالمال، ما فعله النبي صلى الله عليه وآله يوم بدر، فإنه فادى
جماعة من كفار قريش بمال والقصة مشهورة، قيل: إنه فادى كل رجل
بأربعمائة، وقال ابن عباس: بأربعة آلاف، وفيهم نزل قوله تعالى: ما كان لنبي أن
يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض... إلى قوله: عذاب عظيم.
وروي أن أبا العاص زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وآله كان
ممن وقع في الأسر وكانت هي بمكة فأنفذت مالا له لتفكه من الأسر، وكانت فيه
قلادة كانت لخديجة أدخلت بها زينب على أبي العاص، فلما رآها رسول الله صلى
الله عليه وآله عرفها فرق لها رقة شديدة فقال: لو خليتم أسيرها ورددتم مالها؟
قالوا: نعم، ففعلوا ذلك، وهذا نص لأنهم فادوه بالمال ثم منوا عليه برد المال
عليها.
مسألة 18: ما لا ينقل ولا يحول من الدور والعقارات والأرضين، عندنا أن
فيه الخمس فيكون لأهله، والباقي لجميع المسلمين من حضر القتال، ومن لم
يحضر فيصرف ارتفاعه إلى مصالحهم.
وعند الشافعي أن حكمه حكم ما ينقل ويحول، خمسه لأهل الخمس،
والباقي للمقاتلة الغانمين، وبه قال ابن الزبير.
34

وذهب قوم إلى أن الإمام مخير فيه بين شيئين: بين أن يقسمه على الغانمين
وبين أن يقفه على المسلمين، ذهب إليه عمر ومعاذ والثوري وعبد الله بن المبارك،
وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن الإمام مخير فيه بين ثلاثة أشياء: بين أن يقسمه
على الغانمين وبين أن يقفه على المسلمين وبين أن يقر أهلها عليها ويضرب عليهم
الجزية باسم الخراج، فإن شاء أقر أهلها الذين كانوا فيها، وإن شاء أخرج أولئك
وأتى بقوم آخرين من المشركين وأقرهم فيها، وضرب عليهم الجزية باسم
الخراج.
وذهب مالك إلى أن ذلك يصير وقفا على المسلمين بنفس الاستغنام
والأخذ من غير إيقاف الإمام فلا يجوز بيعه ولا شراؤه.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وروي أن النبي صلى الله عليه وآله فتح
هوازن ولم يقسم أرضها بين الغانمين، فلو كانت للغانمين لقسمها فيهم، وروي أن
عمر فتح قرى بالشام فقال له بلال: اقسمها بيننا فأبى عمر ذلك وقال: اللهم
اكفني شر بلال وذريته، فلو كانت القسمة واجبة لكان يفعلها، عمر، وروي أن عمر
استشار عليا عليه الصلاة والسلام في أرض السواد فقال علي عليه السلام: دعها
عدة للمسلمين، ولم يأمره بقسمتها، ولو كان واجبا لكان يشير عليه بالقسمة.
مسألة 19: سواد العراق ما بين الموصل وعبادان طولا، وما بين حلوان
والقادسية عرضا، فتحت عنوة، فهي للمسلمين على ما قدمنا القول فيه، وقال
الشافعي: كانت غنيمة للغانمين فقسمها عمر بين الغانمين ثم اشتراها منهم ووقفها
على المسلمين ثم آجرها منهم، وهذا الخراج هو أجرة.
وقال الثوري وابن المبارك: وقفها عمر على المسلمين، وقال أبو حنيفة: هذه
الأرضون أقرها عمر في يد أهلها المشركين، وضرب عليهم الجزية باسم الخراج
فهذا الخراج هو تلك الجزية، وعنده لا يسقط ذلك بالإسلام، وقال مالك:
صارت وقفا بنفس الاستغنام.
35

دليلنا: ما قلناه في المسألة الأولى سواء.
مسألة 20: الصبيان يسهم لهم مع الرجال، وبه قال الأوزاعي، وكذلك
من يولد قبل القسمة، وأما النساء والعبيد والكفار فلا سهم لهم وإن شاء الإمام أن
يرضخ لهم فعل، وعند الشافعي، له أن يرضخ لهؤلاء الأربعة، ولا سهم لهم.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم.
مسألة 21: النساء لا سهم لهن، وإنما يرضخ لهن، وبه قال جميع الفقهاء
إلا الأوزاعي فإنه قال: يسهم للنساء.
دليلنا: إجماع الفرقة.
وروي عن ابن عباس أنه كتب إلى نجدة الحروري: كنت تستفتني هل
كان النساء يخرجن مع النبي صلى الله عليه وآله؟ كان يخرجن معه، يسقين
الماء ويداوين الجرحى، وكنت تسألني هل كان يسهم لهن؟ ما كان يسهم لهن،
وإنما يحذين من الغنيمة.
مسألة 22: الكفار لا سهم لهم مع المسلمين، سواء قاتلوا مع الإمام أو بغير
إذن الإمام، وإن قاتلوا باذنه أرضخ لهم إن شاء الإمام، وبه قال الشافعي إلا أنه
قال: يرضخ لهم، وقال الأوزاعي: يسهم لهم مع المسلمين.
دليلنا: إجماع الفرقة، ولأنا قد أجمعنا على وجوب الإسهام للمسلمين ولا
دليل على إلحاق الكفار بهم، وروي أن النبي صلى الله عليه وآله استعان
بيهود من بني قينقاع فرضخ لهم ولم يسهم.
مسألة 23: من يرضخ له من الكفار والنساء والعبيد عندنا، والصبيان
أيضا على مذهب الشافعي، إنما يرضخ له من أصل الغنيمة قبل أن يخمس،
36

وللشافعي فيه ثلاثة أقوال: أحدها مثل ما قلناه، والثاني من أربعة أخماس المقاتلة،
والثالث من خمس الخمس سهم النبي صلى الله عليه وآله.
دليلنا: أن معونة هؤلاء عائدة على أهل الغنيمة فيجب أن لا يختص
برضخهم قوم دون قوم مع أن معونتهم عائدة على جميعهم.
مسألة 24: للراجل سهم وللفارس سهمان: سهم له، وسهم لفرسه، وبه قال:
أبو حنيفة، وفي أصحابنا من قال: للفارس ثلاثة أسهم: سهم له، وسهمان لفرسه،
وبه قال الشافعي، وفي الصحابة: علي عليه السلام وعمر، وفي التابعين:
عمر بن عبد العزيز والحسن البصري وابن سيرين، وفي الفقهاء: مالك وأهل
المدينة والأوزاعي وأهل الشام والليث بن سعد وأهل مصر وأحمد وإسحاق
وأبو يوسف ومحمد.
دليلنا على الأول: الأخبار التي رواها أصحابنا ذكرناها في الكتاب الكبير.
وروي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله أعطى الفارس سهمين، سهما له
وسهما لفرسه. وروي عن المقداد قال: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وآله
سهمين، سهما لي وسهما لفرسي. وروى محمد بن حارثة أن النبي صلى الله عليه وآله
أقسم خيبر ثمانية عشر سهما وكانوا ألفا وخمسمائة رجل، منهم ثلاثمائة فارس.
وأما الرواية الأخرى فقد ذكرناها أيضا في الكتاب الكبير.
وروى نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله أسهم للرجل
ولفرسه ثلاثة أسهم، سهما له وسهمين لفرسه.
وروى الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان البصري عن عمر بن
الخطاب وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام: إن النبي صلى الله عليه وآله كان
يعطي الفارس ثلاثة أسهم: سهما له وسهمين لفرسه.
وروى عكرمة عن ابن عباس: إن النبي صلى الله عليه وآله أسهم يوم خيبر
لكل فرس سهمين.
37

وروى عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: إن النبي صلى الله عليه وآله أعطاني
أربعة أسهم: سهما وسهمين لفرسي وسهما لأمي وكانت من ذوي القربى.
وروى الشافعي قال: كان الزبير يضرب في الغنائم بأربعة أسهم: سهما له
وسهمين لفرسه وسهما لأمه وكانت من ذوي القربى.
مسألة 25: يسهم للفرس سهم من أي فرس كان، عربيا كان أو عجميا أو
مقرفا أو هجينا، وبه قال أبو حنيفة، وقال الشافعي: يسهم له سهمان على اختلاف
أنواعه، وقال الأوزاعي: إن كان عربيا فله سهمان، وإن كان أعجميا فلا سهم له،
وإن كان هجينا أو مقرفا فله سهم واحد، وقال أحمد بن حنبل: يسهم للعربي
سهمان ولما عداه سهم واحد، وعن أبي يوسف روايتان: إحديهما مثل قول أحمد
والثانية مثل قول الشافعي.
دليلنا: عموم الأخبار التي رويناها في أن للفارس سهمين ولم يفصل، وأيضا
قوله تعالى: ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله، ولم يفصل.
مسألة 26: إذا كان مع الرجل أفراس أسهم لفرسين منها، ولا يسهم لما
زاد عليهما، وبه قال أحمد بن حنبل والأوزاعي، وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي:
لا يسهم إلا لفرس واحد.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وقد ذكرناها في الكتاب الكبير، وروى
مكحول: إن الزبير حضر خيبر بفرسين فأسهم له خمسة أسهم: سهم له، وأربعة
أسهم لفرسيه.
مسألة 27: إذا قاتل على فرس مغصوب، لم يسهم لفرسه، وقال الشافعي:
يسهم لفرسه، ومن يستحق سهمه، فيه قولان: أحدهما للفارس، والثاني للمغصوب
منه، مثل الربح في المال المغصوب، فيه قولان.
38

دليلنا: ما روي من الأخبار أن الفارس له سهم ولفرسه سهم أو سهمان،
فأضاف الفرس إليه، وهذا ليس له فرس، ولأن الأصل عدم الاستحقاق، وإثبات
الإسهام له يحتاج إلى دليل، وقياسهم على الصلاة في الدار المغضوبة، نحن
نخالف فيه، لأن عندنا لا تجزئ الصلاة فيها.
مسألة 28: لا ينبغي للإمام أن يترك فرسا حطما وهو المنكسر، أو قحما
وهو الهرم، أو ضعيفا أو ضرعا وهو الذي لا يمكن القتال عليه لصغره، أو أعجف
وهو المهزول، أو رازحا وهو الذي لا حراك به أن يدخل دار الحرب للقتال
عليه، فإن أدخل وقاتل عليه أو لم يقاتل فإنه يسهم له، وللشافعي فيه قولان:
أحدهما مثل ما قلناه، والآخر لا يسهم له لأنه لا يمكن الانتفاع به.
دليلنا: عموم الأخبار الواردة في أن للفارس سهمين ولم يفصلوا.
مسألة 29: إذا دخل دار الحرب راجلا ثم وجد فرسا فكان عند تقضي
الحرب فارسا، أسهم له، وإن دخلها فارسا وعند تقضي الحرب كان راجلا، فإن
باعه أو وهبه أو آجره لم يسهم له.
وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: إن دخل الدار فارسا أسهم له، وإن
خرجت الدابة من يده على أي وجه كان وكان عند تقضي الحرب راجلا، وإن
دخلها راجلا لم يسهم له إن كان عند تقضي الحرب فارسا، فالاعتبار عنده
بدخول الدار، وعندنا وعند الشافعي بحال الحرب.
وقال محمد بقول أبي حنيفة إلا في فصل واحد لأنه قال محمد: إذا باعه قبل
تقضي القتال لم يسهم له، قال: لأنه باعه باختياره.
دليلنا: قوله تعالى: ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله، والإرهاب
بالفرس يكون حال القتال لا حال الدخول، وأيضا قوله تعالى: واعلموا أنما غنمتم
من شئ فإن لله خمسه، فعلم أن الباقي للغانمين، والغانمون هم الذين تولوا القتال،
39

فمن أوجب من ذلك لفرس لم يحضر فعليه الدلالة لأنه خالف الظاهر، ولأن
الاستحقاق يكون بتقضي القتال والحرب بدلالة أن من مات قبل ذلك لم يسهم
له بلا خلاف.
مسألة 30: إذا دخل الصحيح مجاهدا دار الحرب ثم مرض، فإنه يسهم له
سواء كان مرضا يخرجه من كونه مجاهدا أو لم يخرجه، وبه قال قوم من
أصحاب الشافعي، وهو نص الشافعي، وقال قوم من أصحابه واختاره الإسفرايني:
إنه إن كان مرضه لا يخرجه من كونه مجاهدا مثل الصداع والحمى فإنه يسهم له،
وإن كان يخرجه من كونه مجاهدا مثل الإغماء وغير ذلك فإنه لا سهم له.
دليلنا: إجماع الفرقة على أن كل من حضر القتال يسهم له على كل حال.
مسألة 31: إذا استأجر رجل أجيرا ودخلا معا دار الحرب للجهاد أسهم
للأجير سواء كانت إجارة في الذمة أو إجارة معينة، ويستحق مع ذلك الأجرة،
وقال أبو حنيفة: إن قاتل أسهم له، وإن لم يقاتل لم يسهم له، وقال أصحاب
الشافعي: إن كانت الإجارة في الذمة فإنه يسهم له، وإن كانت معينة ففيه ثلاثة
أقوال: أحدها مثل ما قلناه، والثاني لا يسهم له كالعبد، والثالث أنه مخير بين
فسخ الإجارة زمان الجهاد، ويسهم له ولا يستحق فيه الأجرة، وبين المقام على
الإجارة ولا سهم له.
دليلنا: إن الغنيمة تستحق بالحضور وهذا حضر، ولا ينافي حضوره الإجارة
لأن الإسهام يستحق بالحضور، وقد حضر، والأجرة تستحق بالعمل، وقد عمل،
فمن أبطلهما أو أبطل أحدهما فعليه الدلالة، وعموم الأخبار في أن الغنيمة يستحقها
من حضره على عمومها.
مسألة 32: إذا انفلت أسير من يد المشركين فلحق بالمسلمين بعد تقضي
40

القتال وحيازة المال قبل القسمة فإنه يسهم له، وعند الشافعي: لا يسهم له.
دليلنا: إجماع الفرقة على أن من لحقهم مددا قبل القسمة فإنه يسهم له وهذا
منهم.
مسألة 33: إذا لحق بهم بعد تقضي الحرب وقبل حيازة المال عندنا يسهم
له، وللشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه، والثاني لا يسهم له.
وقال أبو حنيفة: إن قاتل أسهم له، وإن لم يقاتل لم يسهم له.
دليلنا: ما قلناه في المسألة الأولى سواء.
مسألة 34: تجار العسكر، مثل الخباز والطباخ والبيطار وأمثالهم ممن
حضر لا للجهاد لا يسهم له، وقال أبو حنيفة: إن قاتل أسهم له، وإن لم يقاتل لا
يسهم له، وكذا نقول نحن، وللشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه أنهم لا
يسهم لهم غير أنه لم يفصل، والثاني يسهم لهم لأنهم حضروا الغنيمة، والغنيمة إنما
تستحق بالحضور، وهذا قوي أيضا إن اعتبرنا الحضور في استحقاق الإسهام لا
غير على ما تقدم.
دليلنا على الأول: أن الغنيمة إنما تستحق بالجهاد، وهؤلاء ما جاهدوا ولا
حضروا بنية الجهاد فوجب أن لا يستحقوا، ومتى قاتلوا تبيناهم بذلك أنهم من
المجاهدين فأسهمنا لهم.
مسألة 35: إذا لحق الغانمين مدد قبل القسمة شاركوهم وأسهم لهم،
وقال الشافعي: فيه المسائل الثلاثة التي تقدمت في الأسير، والقول في هذه مثل
القول في تلك سواء.
وقال أبو حنيفة: إذا لحق الغانمين المدد بعد تقتضي القتال وحيازة المال
يشركونهم في الغنيمة إلا في ثلاثة مواضع: أحدها أن يلحقوا بهم بعد القسمة في
41

دار الحرب لأن عنده لا يجوز القسمة في دار الحرب إلا أنه إن فعل صح، والثاني
إذا لحقوا بعد أن باع الإمام الغنيمة، الثالث أن يلحقوا بعد رجوع الغانمين إلى دار
الإسلام، ففي هذه المواضع وافقوا فيها أصحاب الشافعي.
دليلنا: على المسألتين الأخريين ما قدمناه سواء، فأما الأولى فلا خلاف فيها
وهي إذا ألحقوا للقتال قبل حيازة المال، وكذلك في الأسير، وأيضا إجماع الفرقة
على أن المدد إذا لحق الغانمين شاركوهم في الإسهام عام ولم يخصصوه فوجب حمله
على عمومه.
مسألة 36: إذا أخرج الإمام جيشا إلى جهة من الجهات وأمر عليها أميرا،
فرأى الأمير من المصلحة أن يقدم سرية إلى العدو فقدمها فغنمت السرية فإن
الجيش يشارك السرية في تلك الغنيمة، هكذا إذا غنم الجيش شاركته السرية،
وبه قال جميع الفقهاء، وقال الحسن البصري: إن الجيش لا يشارك السرية ولا
تشارك السرية الجيش.
دليلنا: إجماع الفرقة بل إجماع الأمة، وخلاف الحسن لا يعتد به لأنه
محجوج به، ومع ذلك فقد انقرض، وأيضا روي أن النبي صلى الله عليه وآله
بعث سرية من الجيش قبل أوطاس فغنمت، فأشرك النبي صلى الله عليه وآله
بينها وبين الجيش.
وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وآله قال:
المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ويجبر أقصاهم على أدناهم،
وهم يد على من سواهم، ويرد على قاعدهم سراياهم، ولا يقتل مؤمن بكافر، ولا
ذو عهد في عهده. فموضع الدلالة أنه قال: يرد على قاعدهم سراياهم، وهذا نص.
في تقسيم الخمس واختلافه
مسألة 37: عندنا أن الخمس يقسم ستة أقسام: سهم لله، وسهم لرسوله،
42

وسهم لذي القربى، فهذه أسهم كانت للنبي صلى الله عليه وآله وبعده لمن يقوم
مقامه من الأئمة، وسهم لليتامى وسهم للمساكين، وسهم لأبناء السبيل من آل
محمد صلى الله عليه وآله يشركهم فيه غيرهم، واختلف الفقهاء في ذلك.
فذهب الشافعي إلى أن خمس الغنيمة يقسم على خمسة أسهم: سهم لرسول
الله صلى الله عليه وآله، وسهم لذي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين،
وسهم لأبناء السبيل.
فأما سهم رسول الله صلى الله عليه وآله فيصرف في مصالح المسلمين، وأما
سهم ذي القربى فإنه يصرف إلى ذوي القربى على ما كان يصرف إليهم على عهد
النبي صلى الله عليه وآله على ما نبينه فيما بعد.
وذهب أبو العالية الرياحي إلى أن الخمس من الغنيمة والفئ على ستة أقسام:
سهم لله تعالى، وسهم لرسوله، وسهم لذي القربى، وسهم لليتامى، وسهم
للمساكين، وسهم لأبناء السبيل.
وذهب مالك إلى أن خمس الغنيمة وأربعة أخماس الفئ مفوض إلى اجتهاد
الإمام ليصرفه إلى من رأى أن يصرفه إليه.
وذهب أبو حنيفة إلى أن خمس الغنيمة وأربعة أخماس الفئ يقسم على ثلاثة
أسهم: سهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لأبناء السبيل، هذا الذي رواه عنه
الحسن بن زياد اللؤلؤي.
وروى ابن سماعة عنه مفسرا فقال: كان أبو حنيفة يقول: إن ذلك كان
مقسوما على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله على ما ذكر الشافعي على خمسة
إلا أنه لما مات سقط سهمه، وسهم ذي القربى الذين كانوا على عهده، وبقى
الأصناف الثلاثة فصرف إليهم.
ثم اختلف أصحابه في سهم ذوي القربى، فمنهم من قال: كانوا يستحقون
بالقرابة ثم سقط بموتهم، ومنهم من قال: ما كانوا يستحقون شيئا وإنما كان النبي
صلى الله عليه وآله يتصدق عليهم لقرابتهم، فأما أبو العالية الرياحي فهو رجل من
43

ثقات التابعين.
دليلنا: إجماع الفرقة المحقة وأخبارهم، وأيضا قوله تعالى: فإن لله خمسه
وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، فهؤلاء ستة أجناس
فيجب أن يقسم ستة أقسام، فمن قسم على خمسة فقد ترك الظاهر، وكذلك من
قسم على ثلاثة.
مسألة 38: سهم ذي القربى ثابت لم يسقط بموت النبي صلى الله عليه وآله
وهو لمن قام مقامه، وقال الشافعي: سهم ذي القربى ثابت وهو خمس الخمس
يصرف إلى أقاربه الغني والفقير منهم، ويستحقونه بالقرابة، وقال أبو حنيفة: سهم
ذي القربى سقط بموت النبي صلى الله عليه وآله إلا أنه يعطيهم الإمام شيئا لحق
الفقر والمسكنة ولا يعطي الأغنياء منهم شيئا.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضا قوله تعالى: ولذي القربى... الآية،
ولنا في الآية أدلة:
أحدها: إن الله تعالى أضاف الخمس إلى المذكورين وشرك بينهم بواو
الجمع كما يقول القائل: هذه الدار لفلان وفلان، حتى يذكر عددا فإنه يقتضي أن
يكون بينهم بالسوية وأبو حنيفة يقصرها على الثلاثة فقد ترك الظاهر، وأيضا فإن
الله تعالى أضاف الخمس إلى أهل الخمس بلام التمليك وشرك بينهم بواو
التشريك، والناس اختلفوا في هذه الإضافة، منهم من قال: إنها إضافة ملك، وهم
نحن والشافعي، وقال: إنها إضافة محل أي هم أهل لذلك فمن قال: الأغنياء
منهم لا يعطون، فقد ترك القولين وخرج عن الإجماع.
والثاني: إن الله تعالى جعل السهم لهم بحق القرابة لأنه قال: لله وللرسول
ولذي القربى، وظاهر هذا أن السهم لهم لأنهم ذوي القربى، وعند أبي حنيفة أنهم
لا يستحقونه بالقرابة، فإن قيل: قوله تعالى " ذي القربى " مجمل لأن ذي قربى
الرسول كثيرون، وهم بنو هاشم وبنو المطلب وبنو عبد شمس وبنو نوفل، ولم يبين
44

من الذي يستحق ذلك منهم، والجواب عنه من وجهين:
أحدهما: إنا لا نسلم أنه مجمل بل هو عام يتناول جميع القرابة وإنما يخص
من يخصه بدليل، والباقي على عمومه.
والجواب الثاني: إنها مجملة في المستحقين، وهذا لا يخرجهم من أن يكون
لهم فيه حق، وهذا كما نقول في قوله تعالى: وآتوا حقه يوم حصاده، وهذا يمكن
أن يستدل به على وجوب الزكاة وإن كان مجملا في القدر لأنه لا يخرج عن أن
يكون هناك حق فيه وكذلك هاهنا.
وأيضا روى جبير بن مطعم قال: لما كان يوم خيبر وضع النبي صلى الله
عليه وآله سهم ذي القربى في بني هاشم وبني المطلب وترك بني نوفل وبني
عبد شمس فانطلقت أنا وعثمان حتى أتينا النبي صلى الله عليه وآله فقلت: يا رسول
الله هؤلاء بنو هاشم لا ينكر فضلهم لموضعك الذي وضعك الله فيهم، فما بال
إخواننا بني المطلب أعطيتهم وتركتنا وقرابتنا واحدة فقال رسول الله: أنا وبني
المطلب لا نفترق في جاهلية ولا إسلام، وإنما نحن وهم شئ واحد، وشبك بين
أصابعه، وفي هذا الخبر أدلة: أحدها أنه قال: وضع سهم ذي القربى، فأثبت لذي
القربى سهما، والثاني أنه جعل ذلك لأدنى أقربائه بني هاشم وبني المطلب،
والثالث أنه جعل لهم ذلك بالقرابة لأن عبد مناف كان له خمسة أولاد.
تعداد أولاد عبد مناف وأساميهم وهم خمسة: هاشم وإخوانه
هاشم وهو جد رسول الله صلى الله عليه وآله، والمطلب، وهو جد الشافي،
ونوفل وهو جد جبير بن مطعم، وعبد شمس وهو جد عثمان ومعاوية وبني أمية،
وأبو عذرة ولم يعقب فأعطى رسول الله صلى الله عليه وآله من ذلك بني هاشم
وبني المطلب، وقال: إنما أعطيتهم لأنهم ما فارقونا في جاهلية ولا إسلام، ولم ينكر
على جبير وعثمان حيث طلبا ذلك بالقرابة، فدل على أنه أعطاهم بالقرابة، فإن
قيل: إنما أعطى بني المطلب بالنصرة لا بالقرابة قلنا: ليس هذا قولا لأحد، لأن
45

عندنا يستحقونه بالفقر فأما بالنصرة فهو خلاف الإجماع.
وأيضا في الخبر أن النبي صلى الله عليه وآله لم يعط بني عبد شمس ولا بني
نوفل وأعطى بني هاشم وبني المطلب، ولو كان الاستحقاق بالفقر لما كان يخص
واحدا دون آخر، فلما خص علم أنه دفع السهم بالقرابة.
وروى عبد الرحمان بن أبي ليلى عن علي عليه السلام قال: دخلت
أنا والعباس وفاطمة وزيد بن حارثة على رسول الله صلى الله عليه وآله فقلت:
يا رسول الله إن رأيت أن توليني حقنا في الخمس في كتاب الله تعالى
فأقسمته في حياتك حتى لا ينازعنا فيه أحد بعدك، ففعل ففعلت، فلما مات
رسول الله صلى الله عليه وآله ولانيه أبو بكر فقسمته، فلما كان آخر سنة من سني
عمر أتاه مال كثير فعزل حقنا، فدعاني عمر فقال: إن بني هاشم في غنى من
ذلك وإن بالمسلمين خلة فإن رأيت أن تصرفه إليهم، ففعل عمر ذلك، فقال
العباس: لقد أحرمتنا حقنا إنه لا يرجع إلينا أبدا، قال علي عليه السلام: وكان
العباس داهيا. وفيه دليلان:
أحدهما: إن عليا ذكر للنبي صلى الله عليه وآله أن لنا حقا وأنه مذكور
في كتاب الله تعالى من الخمس، فسأله أن يوليه إياه فولاه، وما أنكر عليه،
والشرع يؤخذ منه قولا وفعلا وإقرارا، فلما أقر عليا عليه السلام على ذلك علم
أن ذلك هو الشرع.
والثاني: من حيث الإجماع: وهو أن أبا بكر وعمر وليا عليا ذلك وكان
يأخذ الحق ويقسم، وما نازعه أحد، ولم يخالف أحد فدل على أنه إجماع.
وروى عبد الرحمان بن أبي ليلى قال: أتيت عليا عند أحجار الزيت فقلت له:
بأبي أنت وأمي ما فعل أبو بكر وعمر بحقكم من الخمس أهل البيت؟ فقال: أما
أبو بكر فما كان في زمانه أخماس، وما كان معه أوفاناه، وأما عمر فكان يعطينا
حتى أتاه مال فارس والشوش أو الأهواز - الشك من الشافعي - فقال لي: إن
بالمسلمين خلة فلو تركت حقكم من الخمس لأصرفه في خلة المسلمين فإذا أتاني
46

مال قضيته لكم، فقال العباس: لا تطمعه في حقنا، فقلت: ألسنا أحق من أجاب
أمير المؤمنين وسيد خلة المسلمين؟ فمات عمر قبل أن يأتيه مال فيعطينا، فوجه
الدلالة أن عمر أثبت الحق وسأله على وجه القراضة ولم يخالفه أحد.
وروى يزيد بن هارون قال: كتب نجدة الحروري إلى ابن عباس سأله عن
سهم ذي القربى لمن هو؟ فقال: هو لقرابة رسول الله صلى الله عليه وآله أراد عمر
أن يعطينا عوضا عنه فأبيناه لأنا رأيناه دون حقنا، فأخبر أن ذلك لقرابة النبي
صلى الله عليه وآله وأن عمر أراد أن يعطيهم عوضا عنه.
مسألة 39: عندنا أن سهم ذي القربى للإمام، وعند الشافعي لجميع ذي
القربى يستوي فيه القريب والبعيد والذكر والأنثى والصغير والكبير، إلا أنه:
للذكر مثل حظ الأنثيين، وقال المزني وأبو ثور: الذكر والأنثى فيه سواء.
دليلنا: إجماع الفرقة، ودليل الشافعي أن ذلك مستحق بالإرث الذي
يجري مجرى التعصيب فوجب أن يفضل الذكور على الإناث، ودليل المزني
وأبي ثور أن ذلك يستحق بالقرابة وهم متساوون فيه.
مسألة 40: عند الشافعي يجب في سهم ذي القربى أن يفرق في من هو في
شرق الأرض وغربها ولا يخص به أهل بلد دون بلد، وقال أبو إسحاق: ذلك
يشق، يخص به البلد الذي تؤخذ الغنيمة فيه، وما يقرب منه، فإذا أخذت الغنيمة
مثلا بالري فرق في ذي قربى خراسان، وإذا أخذت من الروم فرق في من كان
بالشام، وهذا الفرع يسقط عنا، غير أنا نقول في سهم اليتامى والمساكين وأبناء
السبيل منهم ما قاله أبو إسحاق من أنه يفرق في أهل البلد الذي تؤخذ فيه الغنيمة
أو ما قرب منه لئلا يشق.
مسألة 41: الثلاثة أسهم التي هي لليتامى والمساكين وأبناء السبيل من
47

الخمس يختص بها من كان من آل الرسول صلى الله عليه وآله دون غيرهم.
وخالف جميع الفقهاء في ذلك، وقالوا: إنها لفقراء المسلمين وأيتامهم
وأبناء سبيلهم دون من كان من آل الرسول خصوصا.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، ولأنه لا خلاف أن من ذكرناه داخلون
فيها لأنهم داخلون في يتامى المسلمين وفقرائهم وأبناء سبيلهم، وليس على دخول
من قالوه فيها دليل.
مسألة 42: ما يؤخذ من الجزية والصلح والأعشار من المشركين للمقاتلة
المجاهدين وللشافعي فيه قولان: أحدهما أن جميعه لمصالح المسلمين ويبدأ
بالأهم فالأهم، والأهم هم الغزاة والباقي للمقاتلة كما قلناه، هذا إذا قال: إنه لا
يخمس، وأما إذا قال: يخمس، فأربعة أخماسه تنصرف إلى أحد هذين النوعين،
والمصالح على القولين مقدمة عندهم.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم في أن الجزية للمجاهدين لا يشركهم فيها
غيرهم، وإذا ثبت ذلك ثبت في الكل لأن الصلح أيضا جزية عندنا، فأما الأعشار
فإنه ينصرف في مصالح المسلمين لأنه لا دليل على تخصيص شئ منه به دون
شئ.
مسألة 43: المرابطون للجهاد والمطوعة لهم سهم من الصدقة والغنيمة معا،
وقال الشافعي: المطوعة لهم سهم في الصدقات وليس لهم سهم من الفئ والفئ
للمرابطين خاصة.
دليلنا: عموم قوله تعالى: وفي سبيل الله، ويتناول ذلك المقاتلة
والمرابطين فوجب حملها على عمومها.
مسألة 44: لا يفضل الناس في العطايا بشرف أو سابقة أو زهد أو علم، وبه
48

قال علي عليه السلام، فإنه سوى بين الناس وأسقط العبيد، وبه قال أبو بكر فإنه
سوى بين الناس وترك التفضيل وكان يعطي العبيد، وكان عمر يفضل الناس
على شرفهم وهجرتهم ويسقط العبيد.
دليلنا: إن الاسم يتناول الجميع، وكونهم مقاتلين ومرابطين اشتركوا فيه
فلا ينبغي تفضيل بعضهم على بعض، لأن تفضيل بعضهم على بعض يحتاج إلى
دليل.
مسألة 45: إذا مات المجاهد أو قتل وخلف ورثة وامرأة فإنه ينفق عليهم
إلى أن يبلغوا من المصالح، وهو أحد قولي الشافعي، والثاني إنهم لا يعطون شيئا
لأنهم أتباع لغيرهم، فإذا سقط بموته سقط هؤلاء.
دليلنا: إن هذا من المصالح، فوجب أن يعطوا منه، وإنما قلنا: إنه من
المصالح، لأن المجاهد متى علم أنه إن قتل أو مات أنفق على ورثته كان أنشط
لجهاده، وروى الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان أن عمر بن الخطاب
قال: ما من أحد إلا وله في هذا المال حق إلا ما ملكت أيمانكم أعطيه أو أمنعه.
49

كتاب أهل البغي
مسألة 1: الباغي من خرج على إمام عادل، وقاتله، ومنع تسليم الحق إليه،
وهو اسم ذم، وفي أصحابنا من يقول: إنه كافر، ووافقنا على أنه اسم ذم جماعة من
العلماء المعتزلة بأسرهم، ويسمونهم فساقا، وكذلك جماعة من أصحاب أبي
حنيفة والشافعي، وقال أبو حنيفة: هم فساق على وجه اليدين.
وقال أصحاب الشافعي: ليس باسم ذم عند الشافعي، بل هو اسم من اجتهد
فأخطأ بمنزلة من خالف من الفقهاء في بعض مسائل الاجتهاد.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضا قوله صلى الله عليه وآله: اللهم وال
من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، صريح بذلك
لأن المعاداة من الله لا تكون إلا للكفار دون المؤمنين.
مسألة 2: إذا أتلف الباغي على العادل نفسا أو مالا والحرب قائمة، كان
عليه الضمان في المال، والقود في النفس، وبه قال مالك. وقال الشافعي: إن
أتلف مالا فعلى قولين: أحدهما يضمن، والآخر لا يضمن، وإن كان قتلا يوجب
القود فعلى طريقين: منهم من قال: لا قود قولا واحدا، والدية على قولين لأن
القصاص قد سقط بالشبهة، والمال لا يسقط.
ومن أصحابه من قال: القود على قولين مثل المال، والصحيح عندهم أنه لا
50

قود عليه، وبه قال أبو حنيفة، وإن كان المتلف عادلا فلا ضمان عليه بلا خلاف.
دليلنا: قوله تعالى: ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب، وقوله
عز وجل: الحر بالحر، وقال: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس، وقال النبي
صلى الله عليه وآله: ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل، وأنا والله
عاقلته، فمن قتل بعده قتيلا فأهله بين خيرتين: إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا
الدية.
وروي عن أبي بكر في الذين قاتلهم: يدون قتلانا ولا ندي قتلاهم، ولم ينكر
ذلك أحد فدل على أنه إجماع، فإن قالوا: إن عمر قال له أصحابنا عملوا لله
وأجورهم على الله فإنما الدنيا بلاغ، وقيل: قول عمر لا يدل على سقوط المستحق،
وإنما أفاد أن عملهم لله وأجورهم على الله، ولا يمنع ذلك من وجوب حقوق
الضمان لهم أيضا.
مسألة 3: مانعو الزكاة في أيام أبي بكر لم يكونوا مرتدين، ولا يجوز أن
يسموا بذلك.
وبه قال الشافعي وأصحابه، إلا أنهم قالوا: قد سماهم الشافعي مرتدين من
حيث منعوا حقا واجبا عليهم، وقال أبو حنيفة: هم مرتدون لأنهم استحلوا منع
الزكاة.
دليلنا: إن إسلامهم ثابت، ومن ادعى أن منع الزكاة ارتداد فعليه الدلالة،
وعليه إجماع الصحابة لأن أبا بكر لما هم بقتالهم احتج عليه عمر منكرا عليه بقول
النبي صلى الله عليه وآله: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا
قالوها عصموا بها مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، فقال أبو بكر: هذا من حقها،
والله لو منعوني عناقا كانوا يعطون رسول الله صلى الله عليه وآله لقاتلتهم عليها
والله لا فرقت بين ما جمع الله يعني قوله: وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، وأبو بكر
أقر عمر على اعتقاده الإيمان فيهم، واحتج في قتالهم بمعنى آخر وهو أنهم منعوا
51

الزكاة، ولو كانوا مرتدين عند أبي بكر لقال له: فالقوم لا يقولون لا إله إلا الله،
فلما لم يحتج عليه بذلك ثبت أن اعتقاده كاعتقاد عمر فيهم من الإيمان، ولأن
القوم منعوا بتأويل واحتجوا حجة مقيم على الإسلام فقالوا: قال الله تعالى: خذ
من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم،
كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله سكنا لنا، وليست صلاة ابن أبي قحافة
سكنا لنا، فأخبروا أنهم متمسكون بدين النبي صلى الله عليه وآله وفرقوا بينه وبين
أبي بكر، فإن صلاته كانت رحمة علينا، وصلاة أبي بكر ليست كذلك.
وأيضا فإن القوم لما جاؤوا تائبين قالوا: والله ما كفرنا بعد إسلامنا، وإنما
شححنا على أموالنا، فالقوم قد حلفوا أنهم ما كفروا، وهو ظاهر من كلامهم بين في
أشعارهم، وقال شاعرهم:
ألا فأصبحينا قبل نائرة الفجر * لعل منايانا قريب ولا ندري
أطعنا رسول الله ما كان بيننا * فوا عجبا ما بال ملك أبي بكر
فأخبرهم أنهم أطاعوا رسول الله صلى الله عليه وآله في وقته وحال حياته،
وكانوا معه في دعة فقالوا " فوا عجبا ما بال ملك أبي بكر ".
فإن الذي سألوكم فمنعتم * لكالتمر أو أحلى إليهم من التمر
سنمنعهم ما دام فينا بقية * كرام على الغزاء في ساعة العسر
ثبت بذلك أن القوم كانوا مسلمين مستمسكين بدين الإسلام.
مسألة 4: إذا ولى أهل البغي إلى غير فئة أو ألقوا السلاح أو قعدوا أو رجعوا
إلى الطاعة حرم قتالهم بلا خلاف، وإن ولوا منهزمين إلى فئة لهم جاز أن يتبعوا
ويقتلوا، وبه قال أبو حنيفة وأبو إسحاق المروزي، وقال باقي أصحاب الشافعي:
إنه لا يجوز قتالهم ولا اتباعهم.
دليلنا: قوله تعالى: التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله، وهؤلاء ما فاءوا إلى أمر
الله، ولا ينافي ذلك ما روي أن عليا عليه السلام يوم الجمل نادى: أن لا
52

يتبع مدبرهم، لأن أهل الجمل لم يكن لهم فئة يرجعون إليها، وعلى ما قلناه
إجماع الفرقة، وأخبارهم واردة به.
مسألة 5: من سب الإمام العادل وجب قتله، وقال الشافعي: يجب تعزيره،
وبه قال جميع الفقهاء.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضا قول النبي صلى الله عليه وآله: من
سب عليا فقد سبني ومن سبني فقد سب الله، ومن سب الله وسب نبيه فقد كفر
ويجب قتله.
مسألة 6: إذا وقع أسير من أهل البغي من المقاتلة كان للإمام حبسه، ولم
يكن له قتله، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: له قتله.
دليلنا: إجماع الفرقة. وأيضا روى عبد الله بن مسعود قال: قال لي رسول الله
صلى الله عليه وآله: يا بن أم عبد، ما حكم من بغى من أمتي؟ قال: قلت: الله ورسوله
أعلم، فقال صلى الله عليه وآله: لا يتبع مدبرهم ولا يجهز على جريحهم ولا يقتل
أسيرهم ولا يقسم فيئهم، وهذا نص، وروي أن رجلا أسيرا جئ به إلى علي عليه
الصلاة والسلام يوم صفين فقال: لا أقتلك صبرا إني أخاف الله رب العالمين.
مسألة 7: إذا أسر من أهل البغي من ليس من أهل القتال مثل النساء
والصبيان والزمنى والشيوخ الهرمى لا يحبسون، وللشافعي فيه قولان: نص في
الأم على مثل ما قلناه، ومن أصحابه من قال: يحبسون كالرجال الشباب
المقاتلين.
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة، وإيجاب الحبس عليهم يحتاج إلى دليل.
مسألة 8: إذا قاتل قوم من أهل الذمة مع أهل البغي أهل العدل خرجوا
53

بذلك من الذمة على كل حال. وقال الشافعي: إن قاتلوا بشبهة مثل أن يقولوا:
إنا لم نعلم أنه لا يجوز معاونة قوم من المسلمين أو ظننا أن ذلك جائز، لم
يخرجوا بذلك من الذمة، وإن كانوا عالمين بذلك فهل يخرجون عن الذمة أم
لا؟ على قولين: أحدهما يخرجون، والثاني لا يخرجون. وقال أبو إسحاق:
القولان إذا لم يشرط عليهم ذلك نطقا في عقد الذمة أنه لا يجوز منهم القتال
للمسلمين، فإن شرط عليهم ذلك نطقا فإنهم يخرجون عن الذمة قولا واحدا.
دليلنا: إن من شرط صحة عقد الذمة أن لا يقاتلوا المسلمين، فمتى قاتلوهم
نقضوا شرائط صحة العقد فخرجوا بذلك عن الذمة.
مسألة 9: يجوز للإمام أن يستعين بأهل الذمة على قتال أهل البغي، وقال
الشافعي: لا يجوز ذلك، وبه قال باقي الفقهاء.
دليلنا: إنا بينا أنهم كفار، وإذا كانوا كفارا فلا خوف أنه يجوز أن يستعين
بأهل الذمة عليهم، ولأن الأصل جواز ذلك، والمنع يحتاج إلى دليل.
مسألة 10: إذا نصب أهل البغي قاضيا يقضي بينهم أو بين غيرهم لم ينفذ
حكمه، سواء كان القاضي من أهل العدل أو من أهل البغي، وسواء كان حكمه
وافق الحق أو خالفه.
وقال أبو حنيفة: إن كان القاضي من أهل العدل صح ذلك، وإن كان من
أهل البغي لم ينفذ له قضاء، ولا تنعقد له الولاية.
وقال الشافعي: إن كان القاضي ممن يعتقد إباحة أموال أهل العدل ودمائهم
لم ينعقد له قضاء، ولم ينفذ ما حكم به، سواء وافق حكمه الحق أو لم يوافق،
وإن كان يقول أنه لا يستبيح أموال أهل العدل ولا دماءهم نفذت قضاياه، كما
تنفذ قضايا غيره، سواء كان القاضي من أهل العدل أو من أهل البغي.
دليلنا: إجماع الفرقة على أن القاضي لا يجوز أن يوليه غير الإمام، وهذا لم
54

يوله الإمام فيجب أن لا تنعقد ولايته ولا ينفذ حكمه فيما حكم به، لأن ثبوت ما
يحكم به موقوف على ثبوت قضائه الذي بينا فساده.
مسألة 11: إذا كتب قاضي أهل البغي إلى قاضي أهل العدل كتابا بحكم
حكم به أو بما ثبت عنده لم يعمل عليه، ولا التفت إليه، وبه قال أبو يوسف، وقال
الشافعي: المستحب أن لا يعمل به، وإن عمل به جاز.
دليلنا: إنا قد بينا أن قضاءه غير ثابت، فإذا لم يثبت له القضاء فلا حكم
لكتابه بلا خلاف.
مسألة 12: إذا شهد عدل من أهل البغي ردت شهادته ولم تقبل، وقال
الشافعي: لا ترد شهادته، وبه قال أبو حنيفة، غير أن أبا حنيفة يقول: أهل البغي
فساق لكنه فسق على طريق التدين، والفسق على طريق التدين لا ترد به الشهادة
عندهم لأنه يقبل شهادة أهل الذمة.
دليلنا: ما دللنا على أنهم كفار، وإذا ثبت ذلك لا يجتمع الكفر
مع العدالة، وإذا لم يكن عدلا فلا تقبل شهادته إجماعا.
مسألة 13: الباغي إذا قتل غسل وصلي عليه، وبه قال الشافعي، وقال
أبو حنيفة: يغسل ولا يصلى عليه.
دليلنا: عموم كل خبر روي في وجوب الصلاة على الأموات، وطريقة
الاحتياط أيضا تقتضيه.
مسألة 14: إذا كان المقتول في المعركة من أهل العدل لا يغسل ويصلى
عليه، وللشافعي فيه قولان: أحدهما لا يصلى عليه، والثاني يغسل ويصلى عليه.
دليلنا: إجماع الفرقة على أن الشهيد لا يغسل ويصلى عليه، وهذا شهيد
55

عندهم.
مسألة 15: قد ذكرنا في كتاب الفرائض: أن القاتل عمدا لا يرث إلا إذا
كان مطيعا بقتله، وإن كان خطأ يرث من التركة دون الدية، وبه قال مالك،
وقال الشافعي: لا يرثه على كل حال عمدا كان أو خطأ، مطيعا كان أو عاصيا،
وقال أبو حنيفة: لا يرث القاتل إلا في ثلاث مواضع: وهو إذا قتل وهو صبي، أو
مجنون أو عاقل قتل مورثه من أهل البغي.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضا قوله تعالى: للرجال نصيب مما
ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون، وقوله
تعالى: يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين، وقوله تعالى: ولكم
نصف ما ترك أزواجكم، وهذه الآيات على عمومها إلا أن يقوم دليل.
مسألة 16: إذا قصد رجل رجلا يريد نفسه أو ماله جاز له الدفع عن نفسه
وعن ماله، وإن أتى على نفسه أو نفس طالبه، ويجب عليه أن يدفع عن نفسه إذا
طلب قتله، ولا يجوز أن يستسلم مع القدرة على الدفع.
وللشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه، والثاني يجوز له أن يستسلم، ولا
يجب عليه الدفع، ذهب إليه أبو إسحاق.
دليلنا: قوله تعالى: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، وأيضا معلوم بأوائل
العقول وجوب دفع المضار عن النفس، فمن لم يدفعها عنها مع القدرة استحق
الذم.
مسألة 17: ما يحويه عسكر البغاة يجوز أخذه والانتفاع به، ويكون غنيمة
يقسم في المقاتلة، وما لم يحوه العسكر لا يتعرض له.
وقال الشافعي: لا يجوز لأهل العدل أن يستمتعوا بدواب أهل البغي ولا
56

بسلاحهم ولا يركبونها للقتال، ولا يرمون بنشابهم حال القتال، ولا في غير حال
القتال، ومتى حصل من ذلك شئ عندهم كان محفوظا لأربابه، فإذا انقضت
الحرب رد عليهم.
وقال أبو حنيفة: يجوز الاستمتاع بدوابهم وبسلاحهم والحرب قائمة، فإذا
انقضت كان ذلك ردا عليهم.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضا قوله تعالى: فقاتلوا التي تبغي حتى
تفئ إلى أمر الله، فأمر بقتالهم، ولم يفرق بين أن يقاتلوا بسلاحهم وعلى دوابهم أو
بغير ذلك.
مسألة 18: إذا امتنع أهل البغي بدارهم وأتوا ما يوجب الحد فمتى ظهرنا
عليهم أقيم ذلك عليهم، وبه قال الشافعي: وحكى الشافعي عن أبي حنيفة أنه لا
تقام عليهم الحدود ولا تستوفى منهم الحقوق بناء على أصله في دار الحرب.
دليلنا: قوله تعالى: الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة،
وقوله تعالى: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما، وقوله صلى الله عليه وآله: من
شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، ولم يفصل، ومن فرق احتاج إلى
دلالة.
57

كتاب المرتد
مسألة 1: المرأة إذا ارتدت لا تقتل بل تحبس وتجبر على الإسلام حتى
ترجع أو تموت في الحبس، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وقالوا: إن لحقت بدار
الحرب سبيت واسترقت، وروي عن علي عليه السلام أنها تسترق، وبه قال قتادة.
وقال الشافعي: إذا ارتدت المرأة قتلت مثل الرجل إن لم ترجع، وبه قال
أبو بكر.
وروي عن علي عليه السلام أنه قال: كل مرتد مقتول ذكرا كان أو أنثى،
وبه قال في التابعين الحسن البصري والزهري، وفي الفقهاء مالك والأوزاعي
والليث بن سعد وأحمد بن حنبل وإسحاق.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه
نهى عن قتل النساء والولدان ولم يفرق، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه
نهى عن قتل المرتدة، وروي عن ابن عباس أنه قال: المرتدة تحبس ولا تقتل،
وأيضا الأصل حقن الدماء، ولم يقم دليل على جواز قتلها فعلى من ادعى ذلك
الدلالة.
معنى الزنديق
مسألة 2: الزنديق هو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، فإذا تاب وقال:
58

تركت الزندقة، روي أصحابنا أنه لا تقبل توبته لأنه دين مكتوم، وبه قال مالك،
وقال الشافعي: تقبل توبته، وعن أبي حنيفة روايتان مثل قول مالك والشافعي.
دليلنا: إجماع الفرقة على الرواية التي ذكرناها، وأيضا فإن قتله بالزندقة
واجب بلا خلاف وما أظهره من التوبة لم يدل دليل على إسقاط هذا القتل عنه،
وأيضا فإن مذهبه إظهار الإسلام، فإذا طالبته بالتوبة فقد طالبته بإظهار ما هو مظهر
له، فكيف يكون إظهار دينه توبة؟
في أن المرتد على ضربين مرتد فطري ومرتد ملي
مسألة 3: المرتد على ضربين: أحدهما ولد على فطرة الإسلام من بين
المسلمين فمتى ارتد وجب قتله ولا تقبل توبته، والآخر كان كافرا فأسلم ثم ارتد
فهذا يستتاب، فإن تاب وإلا وجب قتله، وبه قال عطاء.
وقال الحسن البصري: المرتد يقتل بغير استتابة.
وقال أبو حنيفة والشافعي ومالك وعامة الفقهاء: أنه يستتاب سواء كان
مسلما في الأصل فارتد أو كافرا فأسلم ثم ارتد، فإن لم يتب وجب قتله.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضا قوله عليه السلام: من بدل دينه
فاقتلوه، ولم يشترط الاستتابة.
وروي عن عثمان أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا يحل
دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، كفر بعد إيمان أو زنا بعد إحصان أو قتل
نفس بغير نفس، ثبت أنه أباح دمه مطلقا. ولا يلزمنا في من أجمعنا على استتابته،
لأن ذلك خصصناه بدليل الإجماع.
مسألة 4: من اتفقنا على استتابته متى تاب سقط عنه القتل، وبه قال جميع
الفقهاء، وحكى الشافعي في القديم والجديد عن قوم أنه لا تقبل توبته ويجب قتله.
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا قوله عليه السلام: أمرت أن أقاتل
59

الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها حقنوا مني دماءهم، وأموالهم.
وأيضا قوله تعالى: إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا، فأثبته مؤمنا بعد
كفره، وقال سبحانه: يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد
إسلامهم وهموا بما لم ينالوا، إلى قوله: فإن يتوبوا يك خيرا لهم، فأخبر أن التوبة
خير لهم، وروي ما قلناه عن علي عليه السلام وأبي بكر وعمر وعثمان،
لأن أبا بكر قتل أهل الردة فمن أسلم كف عنه.
وروي عن علي عليه السلام أن شيخا تنصر فعرض عليه الرجوع، فلما لم
يقبل قتله، وقد قدمناه.
مسألة 5: الاستتابة واجبة لمن فرضه الاستتابة، وللشافعي فيه قولان:
أحدهما مثل ما قلناه، والثاني مستحبة، وبه قال أبو حنيفة.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم وظاهرها الإيجاب. وروي عن علي عليه
السلام أنه عرض الإسلام على الشيخ الذي كان تنصر، فلما لم يقبل قتله.
وروي عن عمر أنه أنكر على أبي موسى الأشعري حين قتل المرتد فقال: هلا
حبستموه ثلاثا؟ وروي ذلك عن مالك عن عبد الرحمن بن محمد بن
عبد القارئ عن أبيه قال: قدم على عمر بن الخطاب رجل من قبل أبي موسى
الأشعري فسأله عن الناس فأخبره، ثم قال: هل كان فيكم من معدمه خير؟ قال:
نعم رجل كفر بعد إسلامه، قال: فما ذا فعلتم به؟ قال: قدمناه فضربنا رقبته، فقال
عمر: هلا حبستموه ثلاثا وأطعتموه في كل يوم رغيفا واستتبتموه لعله يتوب
ويراجع أمر الله، اللهم لم أحضر ولم آمر ولم أرض إذا بلغني، فأنكر ترك
الاستتابة ولم ينكروا عليه، فلو لم يكن واجبا لما أنكره.
مسألة 6: الموضع الذي قلنا يستتاب لم يحده أصحابنا بقدر، والأولى أن
لا يكون مقدرا، وللشافعي فيه قولان - سواء قال أنه واجب أو مستحب - أحدهما
60

يستتاب ثلاثا، وبه قال أحمد وإسحاق، وهو ظاهر قول أبي حنيفة، والآخر
يستتاب في الحال وإلا قتل، وهو أصحهما عندهم، وهو اختيار المزني، ورووا عن
علي عليه السلام أنه قال: يستتاب شهرا، وقال الثوري: يستتاب ما دام يرجى
رجوعه.
دليلنا: أن التحديد بذلك يحتاج إلى دليل، وأيضا روي عن علي عليه
السلام أنه تنصر رجل فدعاه وعرض عليه الرجوع إلى الإسلام فلم يرجع فقتله
ولم يؤخره، وظاهر ذلك أنه لا تقدير فيه، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه
قال: من بدل دينه فاقتلوه، فالظاهر أنه يقتل من غير استتابة إلا ما قام عليه الدليل
من الاستتابة.
مسألة 7: المرتد إن كان عن فطرة الإسلام زال ملكه عن ماله وتصرفه
باطل، وإن كان عن إسلام قبله كان كافرا لا يزول ملكه وتصرفه صحيح،
واختلف أصحاب الشافعي في ذلك على طريقين:
منهم من قال في ملكه وتصرفه ثلاثة أقوال: أحدها لا يزول ملكه وتصرفه
صحيح، الثاني يزول ملكه وتصرفه باطل، الثالث يكون مراعى وكذلك تصرفه،
فإن عاد ثبت أن ملكه ما زال عنه وأن تصرفه وقع صحيحا، وإن مات أو قتل تبينا
أن ملكه زال عنه بالردة وأن تصرفه باطل.
ومن أصحابه من قال في تصرفه ثلاثة أقوال، وفي ملكه قولان.
دليلنا على التفصيل الأول: إجماع الفرقة على وجوب قتله وقسمة ماله بين
الورثة ووجوب عدة الوفاة على امرأته، والدليل على القسم الثاني أنه لا دليل على
زوال ملكه، والأصل بقاؤه، ومن ادعى زوال ملكه فعليه الدلالة.
مسألة 8: إذا مات المرتد وخلف مالا وله ورثة مسلمون ورثوه، سواء كان
المال اكتسبه حال إسلامه أو حال كفره، وبه قال أبو يوسف ومحمد.
61

وقال أبو حنيفة: يرث المسلمون ماله الذي اكتسبه حال حقن دمه وهو حال
إسلامه إلى آخر جزء من أجزاء إسلامه، وما اكتسبه حال إباحة دمه فئ.
وقال الشافعي: الكل فئ ما اكتسبه حال الإسلام وحال الارتداد - ولا
يرثه مسلم.
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا قوله تعالى: يوصيكم الله في أولادكم للذكر
مثل حظ الأنثيين، وقوله: للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون، وقوله:
ولكم نصف ما ترك أزواجكم، وغير ذلك ولم يفصل، فوجب حمله على
عمومه إلا ما أخرجه الدليل.
حكم من ترك الصلاة منكرا لوجوبها ومن تركها مقرا بوجوبها
مسألة 9: من ترك الصلاة معتقدا أنها غير واجبة كان كافرا يجب قتله بلا
خلاف، وإن تركها كسلا وتوانيا ومع ذلك يعتقد تحريم تركها فإنه يكون
فاسقا يؤدب على ذلك، ولا يجب عليه القتل.
وقال أبو حنيفة ومالك: يحبس حتى يصلي.
وقال الشافعي: يجب عليه القتل بعد أن يستتاب كما يستتاب المرتد، فإن
لم يفعل وجب قتله وقال أحمد بن حنبل: يكفر بذلك.
دليلنا: أن إيجاب القتل عليه يحتاج إلى دليل، وقد مضت هذه في كتاب
الصلاة.
مسألة 10: المرتد الذي يستتاب إذا لحق بدار الحرب لم يجر ذلك مجرى
موته، ولا يتصرف في ماله ولا ينعتق مدبره، ولا تحل الديون عليه، وبه قال
الشافعي.
وقال أبو حنيفة: يجري ذلك مجرى موته، تحل ديونه وينعتق مدبره،
ويقسم ماله بين ورثته على ما مضى.
62

دليلنا: إن هذا حي فلا يصح أن يورث كسائر الأحياء، ولحوقه بدار
الحرب من أجراه مجرى الموت فعليه الدلالة.
مسألة 11: إذا رزق المرتد أولادا بعد الارتداد كان حكمهم حكم الكفار
يجوز استرقاقهم، سواء ولدوا في دار الإسلام أو في دار الحرب.
وللشافعي فيه قولان: أحدهما لا يجوز لأن الولد يلحق بأبيه، فلما ثبت أن أباه
لا يسترق لأنه قد ثبت له حرمة الإسلام فكذلك ولد من قد ثبت له حرمة
الإسلام، والثاني يسترق لأنه كافر بين كافرين كالكافر الأصلي، ولا فرق عنده
بين أن يكونوا في دار الإسلام أو في دار الحرب، وقال أبو حنيفة: إن كانوا في دار
الإسلام لا يسترقون، وإن لحقوا بدار الحرب جاز استرقاقهم.
دليلنا: كل ظاهر دل على جواز استرقاق ذراري الكفار من ظاهر الكتاب
أو خبر عن النبي صلى الله عليه وآله لأنها على العموم، ومن خصصها فعليه الدلالة.
مسألة 12: إذا نقض الذمي أو المعاهد الذمة أو العهد ولحق بدار الحرب
وخلف أموالا وذرية عندنا فأمانة في ذريته وماله باق بلا خلاف، فإن مات ورثه
ورثته من أهل الحرب وورثته من أهل الذمة في دار الإسلام.
وبه قال الشافعي غير أنه قال: ميراثه لورثته من دار الحرب دون ورثته من
أهل الذمة في بلد الإسلام، لأنه لا توارث بين الحربي والذمي.
دليلنا: كل ظاهر يدل على ميراث الوالد والولد والزوج والزوجة فعمومها
يتناول هذا الموضع.
مسألة 13: ما يخص الحربي من ماله على مذهبنا أو جميعه على مذهب
الشافعي فإنه يزول عنه أمانه، وللشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه، والثاني
أن أمانه باق.
63

دليلنا: أن الأصل في أموال أهل الحرب زوال الأمان عنه، وإنما أخرجنا
أمان خباء هذا الميت بدليل، وهو أنه كان عقد الأمان لنفسه ولماله فلما نقض هو
الأمان في نفسه لم ينتقض في ماله، وليس هاهنا بيننا وبين الحربي أمان لا في
نفسه ولا في ماله، فيجب أن يزول أمانه ويكون فيئا ينقل إلى بيت المال.
64

كتاب قتال أهل الردة
مسألة 1: إذا ارتد الزوجان فرزقا بعد ارتدادهما ولدا، فإن كان في دار
الإسلام لا يسترق، وإن كان في دار الحرب يسترق.
وبه قال أبو حنيفة، وللشافعي فيه قولان: أحدهما يسترق وهو قوي، والآخر
لا يسترق سواء رزق في دار الإسلام أو في دار الحرب على القولين معا.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضا فإنه إذا رزق في دار الإسلام فهو
بحكم الإسلام بدلالة أن أبويه يلزمان الرجوع إلى الإسلام، فإن لم يرجعا قتلا،
وإذا نصرنا استرقاقه فهو أنه ولد كافر ليس عليه ذمة، ومن هذه صورته يجوز
استرقاقه.
مسألة 2: إذا أتلف أهل الردة أنفسا وأموالا كان عليهم القود في الأنفس،
والضمان في الأموال، سواء كانوا في منعة أو لم يكونوا في منعة.
وقال الشافعي: إن لم يكونوا في منعة مثل ما قلناه، وإن كانوا في منعة فعلى
قولين: أحدهما وهو الصحيح عندهم مثل ما قلناه، والثاني لا يجب عليهم
الضمان، قاله في قتال أهل البغي، وبه قال أبو حنيفة.
دليلنا: قوله تعالى: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس... الآية، وقوله:
ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا، وقوله: ولكم في القصاص حياة يا أولي
65

الألباب، ولم يفصل، فروي عن أبي بكر أنه قال في أهل الردة: يدون قتلانا ولا
ندي قتلاهم، ولم ينكر عليه أحد، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال
لخزاعة: فمن قتل بعده قتيلا فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا
الدية.
مسألة 3: إذا ارتد الرجل ثم رآه آخر من المسلمين مخلى فقتله معتقدا أنه
على الردة فبان أنه كان رجع إلى الإسلام، فإن علمه راجعا إلى الإسلام كان عليه
القود بلا خلاف، وإن لم يعلم رجوعه كان عليه أيضا القود، وكذلك إذا رأى
ذميا فقتله معتقدا أنه على الكفر فبان مسلما أو قتل من كان عبدا فبان أنه كان
أعتق فعليه القود في هذه المواضع كلها، وللشافعي فيه قولان: أحدهما لا قود
عليه، والثاني مثل ما قلناه.
دليلنا: قوله تعالى: النفس بالنفس... الآية، وقوله: ومن قتل مظلوما،
وقوله: ولكم في القصاص حياة، وقوله عليه السلام: فأهله بين خيرتين، ولم
يخصوا ولم يفصلوا.
مسألة 4: إذا أكره المسلم على كلمة الكفر فقالها لم يحكم بكفره ولم تبن
امرأته.
وبه قال جميع الفقهاء، إلا أن أبا حنيفة قال: القياس إن امرأته لا
تبين لكنها تبين استحسانا، وقال أبو يوسف: يحكم بكفره، وتبين امرأته.
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا قوله تعالى: إلا من أكره وقلبه مطمئن
بالإيمان، وأيضا الأصل بقاء العقد وإبانته يحتاج إلى دليل.
مسألة 5: السكران الذي لا يميز إذا أسلم وكان كافرا أو ارتد وكان مسلما
لم يحكم بإسلامه، ولا بارتداده، وبه قال أبو حنيفة، وقال الشافعي: يحكم
66

بإسلامه، وارتداده.
دليلنا: أن الأصل بقاء إسلامه إن كان مسلما، وبقاء كفره إن كان كافرا
فعلى من ادعى تغيره الدليل، وقياس الشافعي على سائر عقوده وأنها صحيحة لا
نسلم لأن عندنا أن عقوده كلها فاسدة، ولا يصح شئ منها بتة فالأصل منازع
فيه، وأما ذلك على أبي حنيفة لأنه يسلم له العقود، ويفرق بينهما أن العقود
تحتاج إلى الاعتقاد في صحتها، فلهذا صحت منه، والإيمان يفتقر إلى اعتقاد وليس
من أهله، وعندنا أن العقود كلها تحتاج إلى نية واعتقاد، ومتى خلا منها فلا تقع
صحيحة.
مسألة 6: المرتد الذي يستتاب إذا رجع إلى الإسلام ثم كفر ثم رجع ثم
كفر قتل في الرابعة ولا يستتاب.
وقال الشافعي: يستتاب أبدا غير أنه يعزر في الثانية والثالثة، وكذلك
كلما تكرر.
وقال أبو حنيفة: يحبس في الثالثة لأن الحبس عنده تعزير.
وقال إسحاق بن راهويه: يقتل في الثالثة، وهو قوي لقوله تعالى: إن الذين
آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم، فبين أنه
لا يغفر لهم بعد الثالثة.
دليلنا: إجماع الفرقة على أن كل مرتكب للكبيرة فإذا فعل به ما يستحقه
قتل في الرابعة، وذلك على عمومه.
67

المبسوط
في فقه الإمامية
تأليف شيخ الطائفة
أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (قدس سره)
385 - 460 ه‍. ق
69

كتاب الجهاد وسيرة الإمام فصل: في فرض الجهاد ومن يجب عليه:
الجهاد فرض من فرائض الإسلام إجماعا، ولقوله تعالى: كتب عليكم القتال
وهو كره لكم، وقوله تعالى: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم.
وهو فرض على الكفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وعليه إجماع،
وأيضا قال الله تعالى: لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر
والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم
وأنفسهم على القاعدين درجة، ففاضل بين المجاهدين والقاعدين، ولو كان فرضا
على الأعيان لكان من تركه عاصيا ولم تصح المفاضلة، ثم قال: وكلا وعد الله
الحسنى.
والقدر الذي يسقط به فرض الجهاد عن الباقين أن يكون على كل طرف
من أطراف بلاد الإسلام قوم يكونون أكفاء لمن يليهم من الكفار، وعلى الإمام أن
يغزو بنفسه أو بسراياه في كل سنة دفعة حتى لا يتعطل الجهاد، اللهم إلا أن يعلم
خوفا فيكثر من ذلك.
وكان الفرض في عهد النبي صلى الله عليه وآله في زمان دون زمان
ومكان دون مكان.
أما الزمان فإنه كان جائزا في السنة كلها إلا في الأشهر الحرم، وهي أربعة:
71

رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، لقوله تعالى: فإذا انسلخ الأشهر الحرم
فاقتلوا المشركين، ولقوله تعالى: يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه
كبير وصد عن سبيل الله وكفر به.
وأما المكان فإنه كان مطلقا في سائر الأماكن إلا في الحرم، فإنه كان لا يجوز
القتال فيه إلا أن يبدأوا بالقتال لقوله تعالى: ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى
يقاتلوكم فيه، ثم نسخ ذلك وجاز القتال في سائر الأوقات وجميع الأماكن
لقوله تعالى: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
وقاتل النبي صلى الله عليه وآله هوازن في شوال، وبعث خالد بن
الوليد إلى الطائف في ذي القعدة فثبت بذلك أنه منسوخ، وقد روى أصحابنا أن
حكم ذلك ثابت في من يرى لهذه الأشهر حرمة، فأما من لا يرى ذلك فإنه يبدأ فيه
بالقتال.
ولما نزل قوله تعالى: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها، فأوجب
الهجرة، وكان الناس على ثلاثة أضرب: منهم من يستحب له ولا يجب عليه،
ومنهم من لا يستحب له ولا يجب عليه، ومنهم من يجب عليه.
فالذي يستحب لهم ولا يجب عليهم من أسلم بين ظهراني المشركين وله قوة
بأهله وعشيرته ويقدر على إظهار دينه ويكون آمنا على نفسه مثل العباس بن عبد
المطلب وعثمان، كان يستحب لهم أن يهاجروا لئلا يكثر سواد المشركين، ولا
يلزمه لأنه قادر على إظهار دينه.
وأما الذي لا يجب ولا يستحب له فهو أن يكون ضعيفا لا يقدر على الهجرة
فإنه يقيم إلى أن يتمكن ويقدر.
وأما الذي تلزمه الهجرة وتجب عليه من كان قادرا على الهجرة ولا يأمن على
نفسه من المقام بين الكفار، ولا يتمكن من إظهار دينه بينهم فيلزمه أن يهاجر لقوله
تعالى: إن الذين توفيهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا
مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها، فدل هذا
72

على وجوب الهجرة على المستضعف الذي لا يقدر على إظهار دينه، ودليله أن من
لم يكن مستضعفا لا يلزمه، ثم استثنى من لم يقدر فقال: إلا المستضعفين من
الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله
أن يعفو عنهم.
والهجرة باقية أبدا ما دام الشرك قائما، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم أنه قال: لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع
الشمس من مغربها. وما روي من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: لا هجرة بعد
الفتح، معناه لا هجرة بعد الفتح فضلها كفضل الهجرة قبل الفتح، وقيل: المراد
لا هجرة بعد الفتح من مكة لأنها صارت دار الإسلام.
ولا يجب الجهاد إلا على كل حر، ذكر، بالغ، عاقل.
فأما المملوك فلا جهاد عليه لقوله تعالى: ولا على الذين لا يجدون ما
ينفقون حرج، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله، أنه كان إذا أسلم الرجل
عنده قال: أو حرام مملوك؟ فإن كان حرا بايعه على الإسلام والجهاد، وإن
كان مملوكا بايعه على الإسلام.
وأما النساء فلا جهاد عليهن، وسئل النبي صلى الله عليه وآله: هل على
النساء جهاد؟ قال: نعم جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة.
والصبي لا جهاد عليه، روي عن ابن عمر قال: عرضت على رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فردني ولم يرني بلغت،
وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني في المقاتلة.
والمجنون لا جهاد عليه لأنه غير مكلف. فإن أراد الإمام أن يغزو بهم
ويخرجهم للحاجة إليهم جاز ذلك إلا المجانين فإنه لا نفع فيهم، وكان النبي
صلى الله عليه وآله يحمل معه النساء في الغزوات.
والأعذار التي يسقط معها فرض الجهاد: العمى والعرج والمرض والإعسار،
فأما الأعور فيلزمه فرضه لأنه كالصحيح في تمكنه.
73

والأعرج ضربان: أحدهما مقعد لا يطيق معه المشي والركوب فالجهاد
يسقط عنه، وإن كان عرجا خفيفا يطيق معه الركوب والعدو فإنه يلزمه الجهاد.
وأما المرض فضربان: ثقيل وخفيف، فالثقيل كالبرسام والحمى المطبقة فلا
جهاد عليه لقوله تعالى: ولا على المريض حرج، وإن كان خفيفا كالصداع
ووجع الرأس والحمى الخفيفة فالجهاد لا يسقط معه لأنه كالصحيح.
وأما الإعسار فإنه ينظر، فإن كان الجهاد قريبا من البلد وحوله لزم كل أحد
ولا يعتبر فيه وجود المال، وإن كان على بعد نظر، فإن كان مسافة لا تقصر فيها
الصلاة فمن شرطه الزاد ونفقة الطريق ونفقة من تجب عليه نفقته إلى حين العود
وثمن السلاح، فإن لم يجد فلا يلزمه شئ لقوله: ولا على الذين لا يجدون ما
ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله، وإن كانت المسافة أكثر من ذلك فمن
شرطه أن يكون واجدا لما ذكرناه في المسافة القريبة وزيادة راحلة لقوله: ولا على
الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه.
ومن أراد الجهاد وعليه الدين، فالدين ضربان: حال ومؤجل، فإن كان حالا
لم يكن له أن يجاهد إلا بإذن صاحبه، وإن كان الدين مؤجلا فالظاهر أنه يلزمه
وليس لصاحبه منعه لأنه بمنزلة من لا دين عليه، وقيل: أن له منعه لأنه معزور
بدينه لأنه يطلب الشهادة.
وأما الأبوان، فإن كانا مسلمين لم يكن له أن يجاهد إلا بأمرهما، ولهما منعه،
روي أنه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله أجاهد؟
فقال: لك أبوان؟ قال: نعم، قال: فعنهما فجاهد. وأما طلب العلم فالأولى أن لا
يخرج إلا بإذنهما، فإن معناه لم يحرم عليه مخالفتهما، هذا كله إذا لم يتعين
الجهاد، فإن تعين الجهاد وأحاط العدو بالبلد فعلى كل واحد أن يغزو وليس
لأحد منعه لا الأبوان ولا أهل الدين، وإن كان الأبوان مشركين أو أحدهما فله
مخالفتهما على كل حال.
وإذا خرج إلى الجهاد ولا منع هناك ولا عذر ثم حدث عذر:
74

فإن كان ذلك قبل أن يلتقي الزحفان وكان ذلك العذر من قبل الغير
- مثل أن يكون صاحب الدين أذن له ثم رجع، أو كان أبواه كافرين فأسلما
ومعناه - فعليه الرجوع مثل الأول، وإن كان العذر من قبل نفسه - كالعرج
والمرض - فهو بالخيار إن شاء فعل وإن شاء رجع.
وإن كان بعد التقاء الزحفين وحصول القتال، فإن كان لمرض في نفسه
كان له الانصراف لأنه لا يمكنه القتال، وإن كان للدين والأبوين فليس لهما ذلك
لأنه لا دليل عليه، ولقوله تعالى: ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا
إلى فئة، وذلك عام.
وإذا كان له أب كافر يستحب له أن يتوقى قتله، فإن ظهر منه ما لا يجوز
الصبر عليه كسب الله ورسوله والأئمة جاز له قتله، وروي أن أبا عبيدة قتل أباه
حين سمعه يسب رسول الله، فلما قال له النبي صلى الله عليه وآله: لم قتلته؟ قال:
سمعته يسبك، فسكت عنه.
من وجب عليه الجهاد لا يجوز أن يغزو عن غيره بجعل يأخذه عليه، فإن
كان ممن لا يجب عليه لإعساره جاز له أن يأخذ الجعل من غيره ويجاهد عنه،
وتكون الإجارة صحيحة ولا يلزمه رد الأجرة، ويكون ثواب الجهاد له وللمستنيب
أجر النفقة.
وأما ما يأخذه أهل الديوان من الأرزاق فليس بأجرة، بل هم يجاهدون
لأنفسهم، وإنما يأخذون حقا جعله الله لهم، فإن كانوا أرصدوا أنفسهم للقتال
وأقاموا في الثغور فهم أهل الفئ لهم سهم من الفئ يدفع إليهم، وإن كانوا مقيمين
في بلادهم يغزون إذا خيفوا فهؤلاء أهل الصدقات يدفع إليهم سهم منها.
وأما معاونة المجاهدين ففيها فضل من السلطان والعوام وكل أحد،
ويستحقون به الثواب، روي أن النبي صلى الله عليه وآله قال: من جهز غازيا
أو حاجا أو معتمرا أو خلفه في أهله فله مثل أجره.
وإذا عرف الإمام من رجل التخذيل أو الإرجاف أو معاونة المشركين
75

فينبغي أن يمنعه من الغزو معه. والتخذيل مثل أن يقول للمسلمين: الصواب أن
نرجع فإنا لا نطيق العدو ولا نثبت لهم، أو يعد طائفة من المسلمين بذلك
وتضعف نياتهم. والإرجاف أن يقول: بلغني أن للقوم كمينا، أو لهم مددا يلحقهم،
ونحو ذلك. والإعانة أن يؤوي عينا من المشركين أو يكاتبهم بأخبارهم ويطلعهم
على عورات المسلمين، فإن خالف واحد من هؤلاء وخرج مع الناس وغزا لم
يسهم له لأنه ليس من المجاهدين بل هو عاص، وليس كذلك من عليه الدين أو
له أبوان إذا خرج بل يسهم لهم، ولا يرضخ له أيضا لما قلناه.
ويجوز للإمام أن يستعين بالمشركين على قتال المشركين بوجود شرطين:
أحدهما: أن يكون بالمسلمين قلة وفي المشركين كثرة، والثاني: أن يكون
المستعان به حسن الرأي في المسلمين، كما فعل النبي صلى الله عليه وآله
مع صفوان بن أمية، واستعان النبي بيهود بني قينقاع فرضخ لهم، فإذا حضروا
وغنموا لا يسهم لهم بل يرضخ لهم كما فعل النبي صلى الله عليه وآله،
ويجوز أن يعطوا من سهم المؤلفة من الصدقات.
ويجوز أن يستأجر المشركين إجارة على الجهاد لأنهم ليسوا من أهل
الجهاد. ومن يرضخ له من النساء والصبيان والعبيد والكفار يدفع إليهم من
المصالح، ويجوز للإمام أن يعطيهم من أصل الغنيمة أو من أربعة أخماسها.
وإذا اجتمعت الشروط التي ذكرناها في من يجب عليه الجهاد فلا يجب عليه
أن يجاهد إلا بأن يكون هناك إمام عادل أو من نصبه الإمام للجهاد، ثم يدعوهم
إلى الجهاد فيجب حينئذ على من ذكرناه الجهاد، ومتى لم يكن الإمام ولا من
نصبه الإمام سقط الوجوب بل لا يحسن فعله أصلا، اللهم إلا أن يدهم المسلمين أمر
يخاف معه على بيضة الإسلام ويخشى بواره أو يخاف على قوم منهم، فإنه يجب
حينئذ دفاعهم ويقصد به الدفع عن النفس والإسلام والمؤمنين ولا يقصد الجهاد
ليدخلوا في الإسلام، وهكذا حكم من كان في دار الحرب ودهمهم عدو يخاف
منهم على نفسه جاز أن يجاهد مع الكفار دفعا عن نفسه وماله دون الجهاد الذي
76

وجب عليه في الشرع.
والجهاد مع أئمة الجور أو من غير إمام أصلا خطأ قبيح يستحق فاعله الذم
والعقاب، إن أصيب لم يؤجر وإن أصاب كان مأثوما.
ومتى جاهدوا مع عدم الإمام وعدم من نصبه فظفروا وغنموا كانت الغنيمة
كلها للإمام خاصة ولا يستحقون هم منها شيئا أصلا.
والمرابطة فيها فضل كثير وثواب جزيل إذا كان هناك إمام عادل، وحدها
ثلاثة أيام إلى أربعين يوما، فإن زاد على ذلك كان جهادا.
ومن نذر المرابطة في حال استتار الإمام وجب عليه الوفاء به، غير أنه لا
يجاهد العدو إلا على ما قلناه من الدفاع عن الإسلام والنفس.
وإن نذر أن يصرف شيئا من ماله إلى المرابطين في حال ظهور الإمام وجب
عليه الوفاء به، وإن كان ذلك في حال استتاره صرفه في وجوه البر، إلا أن
يخاف من الشناعة فيصرفه إليهم تقية.
ومن آجر نفسه لينوب عن غيره في المرابطة، فإن كان حال انقباض يد
الإمام فلا يلزمه الوفاء به، ويرد عليه ما أخذه منه، فإن لم يجده فعلى ورثته، فإن لم
يكن له ورثة لزمه الوفاء به، وإن كان في حال تمكن الإمام لزمه الوفاء به على
كل حال، ومن لا يمكنه المرابطة بنفسه فرابط دابة أو أعان المرابطين بشئ كان
له فيه ثواب.
فصل: في أصناف الكفار وكيفية قتالهم:
الكفار على ثلاثة أضرب: أهل كتاب، وهم اليهود والنصارى، فهؤلاء يجوز
إقرارهم على دينهم ببذل الجزية. ومن لهم شبهة كتاب، فهم المجوس، فحكمهم
حكم أهل الكتاب يقرون على دينهم ببدل الجزية. ومن لا كتاب له ولا شبهة
كتاب وهم من عدا هؤلاء الثلاثة أصناف من عباد الأصنام والأوثان والكواكب
وغيرهم، فلا يقرون على دينهم ببذل الجزية.
77

ومتى امتنع أهل الكتاب من بذل الجزية قوتلوا وسبيت ذراريهم ونساؤهم
وأموالهم وتكون فيئا.
وينبغي للإمام أن يبدأ بقتال من يليه من الكفار الأقرب فالأقرب، والأولى أن
يستحق كل طرف من أطراف بلاد الإسلام بقوم يكونون أكفاء لمن يليهم من
الكفار، فيبني الحصون ويحفر الخنادق إن أمكنه، ويولي عليهم عاملا عاقلا دينا
خيرا شجاعا، يقدم في موضع الإقدام ويتأنى في موضع التأني، فإذا فعل الإمام
ذلك فإنه يغزو بالمسلمين أهل الديوان وغيرهم ممن ينشط، وإنما قلنا: الأولى
قتال من يليه، لقوله تعالى: قاتلوا الذين يلونكم من الكفار، إلا أن يكون الأبعد أشد
خوفا من الأقرب فيبدأ بهم ثم يعود إلى الأقرب لأنه موضع ضرورة.
وإذا كان في المسلمين قلة وضعف وفي المشركين كثرة وقوة فالأولى أن
يؤخر الجهاد ويتأنى حتى يحصل للمسلمين قوة، فإذا اشتدت شوكة المسلمين
وعلم قوتهم لا يجوز أن يؤخر القتال، وأقل ما عليه أن يغزو في كل عام غزوة،
وكلما أكثروا الجهاد كان أفضل لأنه من فرائض الكفايات فكلما كان أكثر كان
أفضل.
وكان في بدو الإسلام أن يصاف واحد لعشرة، ثم نسخ بوقوف الواحد
لاثنين بدليل الآية، وليس المراد بذلك أن يقف الواحد بإزاء العشرة أو اثنين
وإنما يراد الجملة وأن جيش المسلمين إذا كان نصف جيش المشركين بلا زيادة
وجب الثبات، وإن كان أكثر من ذلك لم يلزم وجاز الانصراف.
ومعنى لزوم الثبات أنه لا يجوز الانصراف إلا في موضعين:
أحدهما: أن ينحرف لقتال وتدبير، بأن ينحرف عن مضيق إلى اتساع
لتجول الخيل، أو من معاطش إلى مياه، أو كانت الشمس أو الريح في وجوههم
فاستدبروها، وما أشبه ذلك.
والثاني: أن يتحيزوا إلى فئة وجماعة لقوله تعالى: إلا متحرفا لقتال أو متحيزا
إلى فئة.
78

ولا فرق بين أن تكون الفئة قريبة أو بعيدة، قليلة أو كثيرة لعموم الآية، فإن
انصرف على غير هذين الوجهين كان فارا وفسق بذلك وارتكب كبيرة وباء
بغضب من الله، فإذا غلب على ظنه أنه إذا تبت قتل وهلك فالأولى أن نقول: ليس
له ذلك لقوله تعالى: إذا لقيتم فئة فأثبتوا، وقيل: إنه يجوز له الانصراف لقوله
تعالى: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، وأما إذا كان المشركون أكثر من ضعف
المسلمين فلا يلزم الثبات، وهل يستحب ذلك أم لا؟ فإن غلب على ظنه أنه لا
يغلب فالمستحب أن يثبت ولا ينصرف لئلا يكسر المسلمين، وإن غلب على ظنه
أنه يغلب ويهلك فالأولى أن له الانصراف، وقيل: إنه يجب عليه الانصراف.
وكذلك القول في من قصده رجل فغلب على ظنه أنه إن ثبت له قتله فعليه الهرب.
وإذا نزل الإمام على بلد فله محاصرته ومنع أن يدخل إليه أحد أو يخرج
منه لقوله تعالى: واحصروهم، وحصر رسول الله صلى الله عليه وآله أهل
الطائف، وله أن ينصب عليهم منجنيقا أو عرادة ويهدم عليهم السور والمنازل،
ويقتل قتالا عاما كما فعل النبي صلى الله عليه وآله بأهل الطائف.
فإذا ثبت ذلك، فإن لم يكن في القوم مسلمون رماهم بكل حال وإن كان
فيهم نساء وصبيان، كما فعل النبي بأهل الطائف وكان فيهم نساء وصبيان.
وإن كان فيهم أسارى مسلمون، فإن كان مضطرا إلى ذلك - بأن يخاف إن
لم يرمهم نزلوا وظفروا به - جاز الرمي، وإن لم يكن ضرورة نظر في المسلمين،
فإن كانوا نفرا يسيرا جاز الرمي لأن الظاهر أنه يصيب غيرهم إلا أنه يكره ذلك،
لئلا يصيب مسلما، وإن كان المسلمون أكثر لم يجز الرمي لأن الظاهر أنه يصيب
المسلمين، ولا يجوز قتل المسلمين لغير ضرورة.
وله أن يفتح عليهم الماء فيغرقهم ويرميهم بالنار والحطب والحيات
والعقارب وكل ما فيه ضرر عليهم، وكره أصحابنا إلقاء السم في بلادهم.
وله أن يغير عليهم وهم غازون فيضع السيف فيهم، فإن النبي صلى الله عليه وآله
وآله أغار على بني المصطلق، وروي كراهية التبييت له حتى يصبح، والوجه فيه
79

أنه إذا كان مستظهرا وفيه قوة ولا حاجة به إلى الإغارة ليلا امتنع، وإذا كان
بالعكس من ذلك جاز الإغارة ليلا، وروى ابن عباس عن الصعب بن جثامة
قال: قلت: يا رسول الله نبيت المشركين وفيهم النساء والصبيان؟ فقال: إنهم
منهم.
وأما تخريب المنازل والحصون وقطع الشجر المثمرة فإنه جائز إذا غلب في
ظنه أنه لا يملك إلا بذلك، فإن غلب في ظنه أنه يملكه فالأفضل، أن لا يفعل،
فإن فعل جاز، كما فعل النبي صلى الله عليه وآله بالطائف وبني النضير وخيبر،
وأحرق على بني النضير وخرب ديارهم.
وإذا تترس المشركون بأطفالهم، فإن كان ذلك حال التحام القتال جاز
رميهم ولا يقصد الطفل بل يقصد من خلفه، فإن أصابه وقتله لم يكن عليه شئ
لأنا لو لم نفعل ذلك لأدى إلى بطلان الجهاد، وأما إذا لم تكن الحرب قائمة فإنه
يجوز أن يرموا، والأولى تجنبه.
وإذا تترس المشركون بأسارى المسلمين، فإن لم تكن الحرب قائمة لم يجز
الرمي، فإن خالف كان الحكم فيه كالحكم في غير هذا المكان، إن كان القتل
عمدا فالقود والكفارة، وإن كان خطأ فالدية والكفارة لأنه فعل ذلك من غير
حاجة، وإن كانت الحرب ملتحمة فإن الرمي جائز، ويقصد المشركين ويتوفى
المسلمين، لأن في المنع منه بطلان الجهاد.
فإذا ثبت جوازه، فإذا رمى فأصاب مسلما فقتله فلا قود عليه وعليه الكفارة
دون الدية لقوله تعالى: فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة، ولم
يذكر الدية.
وإذا وقع في الأسر شيخ من أهل الحرب ففيه أربع مسائل:
إحداها: أن يكون له رأي وقتال، فحكمه حكم الشاب، والإمام مخير بين
القتل والاسترقاق والمن والفداء.
الثانية: أن يكون فيه قتال ولا رأي له، فيجوز قتله أيضا.
80

الثالثة: له رأي ولا قتال فيه، فيجوز قتله بلا خلاف، لأن دريد بن الصمة قتل
يوم حنين وهو ابن مائة وخمسين سنة، أو خمس وخمسين، فلم ينكر النبي صلى
الله عليه وآله.
الرابعة: أن لا يكون له رأي ولا فيه قتال وهو الشيخ الفاني، فهذا لا يجوز قتله
عندنا، وفيه خلاف، وهكذا القول في أهل الصوامع والرهبان، فإنهم يقتلون
كلهم، إلا من كان شيخا فانيا هرما عادم الرأي لعموم الآيات والأخبار، وقد
روي أن هؤلاء لا يقتلون.
وأما الأسارى فعندنا على ضربين:
أحدهما: أخذ قبل أن تضع الحرب أوزارها وتنقضي الحرب، فإنه لا يجوز
للإمام استبقاؤه، بل يقتله بأن يضرب رقبته أو يقطع يديه ورجليه ويتركه حتى
ينزف ويموت، إلا أن يسلم فيسقط عنه القتل.
والضرب الآخر: فهو كل أسير يؤخذ بعد أن تضع الحرب أوزارها، فإنه
يكون الإمام مخيرا فيه بين أن يمن عليه فيطلقه وبين أن يسترقه وبين أن يفاديه،
وليس له قتله على ما رواه أصحابنا.
ومن أخذ أسيرا فعجز عن المشي ولم يكن معه ما يحمله عليه إلى الإمام
فليطلقه لأنه لا يدري ما حكم الإمام فيه. ومن كان في يده أسير وجب عليه أن
يطعمه ويسقيه وإن أريد قتله في الحال.
ولا يجوز قتال أحد من الكفار الذين لم تبلغهم الدعوة إلا بعد دعائهم إلى
الإسلام وإظهار الشهادتين والإقرار بالتوحيد والعدل والتزام جميع شرائع
الإسلام، فمتى دعوا إلى ذلك ولم يجيبوا حل قتالهم إلا أن يقبلوا الجزية وكانوا
من أهلها، ومتى لم يدعوا لم يجز قتالهم. وينبغي أن يكون الداعي الإمام أو من
يأمره الإمام بذلك، فإن بدر إنسان فقتل منهم قبل الدعاء فلا قود عليه ولا دية
لأنه لا دليل عليه.
وإن كان الكفار قد بلغتهم دعوة النبي صلى الله عليه وآله وعلموا أنه يدعو
81

إلى الإيمان والإقرار به وأن من لم يقبل قاتله ومن قبل منه أمنه، فهؤلاء حرب
للمسلمين وذلك مثل الروم والترك والزنج والخوز وغيرهم، فللإمام أن يبعث
الجند إلى هؤلاء من غير أن يراسلهم ويدعوهم لأن ما بلغهم قد أجزأ، وله أن
يسبيهم ويقتلهم غازين كما أغار النبي صلى الله عليه وآله على بني المصطلق
وقتلهم غازين.
وقوله عز وجل: ليظهره على الدين كله، أراد بالحج والأدلة، وقيل: أراد
ذلك عند قيام المهدي عليه السلام، وقيل: إنه أراد على أديان العرب كلها وقد
كان ذلك.
ولا يجوز قتل النساء، فإن عاون أزواجهن ورجالهن أمسك عنهن، وإن
اضطر إلى قتلهن لم يكن بقتلهن بأس.
ومن تقبل منه الجزية إنما تقبل منه إذا التزم شرائط الذمة، وهي الامتناع عن
مجاهرة المسلمين بأكل لحم الخنزير وشرب الخمر وأكل الربا ونكاح
المحرمات في شرع الإسلام، فمتى لم يقبلوا ذلك أو شيئا منه لا تقبل منهم
الجزية، وإن قبلوا ذلك ثم فعلوا شيئا من ذلك فقد خرجوا من الذمة وجرى
عليهم أحكام الكفار.
فصل: في ذكر عقد الأمان للمشركين:
عقد الأمان جائز للمشركين لقوله تعالى: وإن أحد من المشركين استجارك
فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه، وعقد النبي صلى الله عليه وآله الأمان
للمشركين عام الحديبية.
فإذا ثبت جوازه نظر، فإن كان العاقد الإمام جاز أن يعقده لأهل الشرك
كلهم في جميع البقاع والأماكن لأن إليه النظر في مصالح المسلمين وهذا من
ذلك.
وإن كان العاقد خليفة الإمام على إقليم فإنه يجوز له أن يعقد لمن يليه من
82

الكفار دون جميعهم لأن إليه النظر في تلك الجهة دون غيرها.
وإن كان العاقد آحاد المسلمين جاز أن يعقد لآحادهم والواحد والعشرة،
ولا يجوز أن يعقد لأهل بلد عام ولا لأهل إقليم لأنه ليس له النظر في مصالح
المسلمين.
فإذا ثبت جوازه لآحاد المسلمين، فإن كان العاقد حرا مكلفا جاز بلا
خلاف، وإن كان عبدا صح، سواء كان مأذونا له في القتال أو غير مأذون - وفيه
خلاف - لقوله صلى الله عليه وآله: يسعى بذمتهم أدناهم، وأدناهم عبيدهم.
وأما المرأة فيصح أمانها بلا خلاف، لأن أم هاني بنت أبي طالب أجارت
رجلا من المشركين يوم فتح مكة فأجاز النبي صلى الله عليه وآله أمانها وقال:
أجرنا من أجرت وأمنا من أمنت.
والصبي والمجنون لا يصح أمانهما لأنهما غير مكلفين، فإن أغر مشرك
بمراهق فأمنه ودخل بأمانه فأمانه فاسد، ولكن لا يجوز التعرض له قبل أن يرد
إلى مأمنه ثم يصير حربا، لأنه دخل بشبهة فلا يجوز غدره والظفر به.
وعلى هذا روى أصحابنا أن المشركين إذا استذموا من المسلمين فقالوا: لا
نذمكم، فظنوا أنهم آمنوهم فإنه لا يتعرض لهم، بل ينبغي أن يردوا إلى المأمن ثم
يصيرون حربا، لأنهم دخلوا بشبهة.
فأما ألفاظ الأمان فهو أن يقول: آمنتك، آجرتك، وأذممتك ذمة الإسلام،
فأما إذا قال: لا تذهل، لا تخف، لا بأس عليك، أو قال ما معناه بلغة أخرى، فإن
علم من قصده أنه أراد الأمان كان أمانا لأن المراعي القصد دون اللفظ، وإن لم
يقصد بذلك الأمان فلا يكون أمانا، غير أنهم إذا سكنوا إلى ذلك ودخلوا لا
يتعرض لهم، لأنه شبهة، ويردون إلى مأمنهم ثم يصيرون حربا. وكذلك الحكم
إذا أومأ مسلم إلى مشرك بما توهمه أنه أمان فركن إلى ذلك ودخل دار الإسلام
كان حكمه ما قلناه.
وإن قال: لم أو منهم، فالقول قوله، فإن مات قبل أن يبين شيئا لم يكونوا
83

آمنين، غير أنهم ينبغي أن يردوا إلى مأمنهم ثم يصيرون حربا لمكان الشبهة.
فأما وقت الأمان فإنه قبل الأسر ما دام على الامتناع، وإن حصل في مضيق
أو في حصن ولحقهم المسلمون فإنه يصح الأمان لأنه بعد على الامتناع. وإن أقر
مسلم بأنه آمن مشركا قبل منه.
وأما بعد الأسر فلا يصح الأمان من آحاد المسلمين، والحكم فيه إلى الإمام
على ما مضى. فإن أقر مسلم أنه كان آمن هذا الأسير قبل الأسر لم يقبل منه، لأنه لا
يملك عقد الأمان في هذه الحال فلا يملك الإقرار به، فإن أقام البينة على ذلك
قبلت، وكذلك إن اجتمعت جماعة من المسلمين فأقروا أنهم عقدوا الأمان له قبل
الأسر لم يقبل لأنهم يشهدون على فعلهم.
وإذا تجسس مسلم لأهل الحرب وكتب إليهم فأطلعهم على أخبار المسلمين
لم يحل بذلك قتله، لأن حاطب بن أبي بلتعة كتب إلى أهل مكة كتابا يخبرهم
بخبر المسلمين فلم يستحل النبي صلى الله عليه وآله قتله، وللإمام أن يعفو عنه،
وله أن يعزره، لأن النبي صلى الله عليه وآله عفا عن حاطب.
ومن أذم مشركا أو غير مشرك ثم خفره ونقض ذمامه كان غادرا آثما.
إذا دخل الحربي دار الإسلام فعقد لنفسه الأمان فإنه يعقد لنفسه ولماله على
طريق التبع، فإن خرج إلى دار الحرب نظر، فإن خرج بإذن الإمام في رسالة أو
تجارة أو حاجة فهو على الأمان مثل الذمي إذا خرج إلى دار الحرب لتجارة، وإن
لحق بدار الحرب للاستيطان انتقض أمانه في نفسه ولا ينتقض في ماله، فما دام
حيا فالأمان قائم لماله، فإن مات انتقل ميراثه إلى ورثته من أهل الحرب إن لم
يكن له وارث مسلم، وينتقض الأمان في المال لأنه مال الكافر لا أمان بيننا وبينه
في نفسه ولا ماله كسائر أهل الحرب، ويصير فيئا للإمام خاصة لأنه لم يؤخذ
بالسيف فهو بمنزلة ميراث من لا وارث له.
وإن عقد أمانا لنفسه، فمات عندنا وله مال وله ورثة في دار الحرب كانت
مثل المسألة الأولى سواء، وفي الناس من قال: إنه يرد إلى ورثته لأنه مات على
84

الأمان، والأول أقوى. فإن عقد الأمان لنفسه وماله ولحق بدار الحرب للاستيطان انتقض أمانه في
نفسه دون ماله على ما قلناه، ثم إن ظفر به ووقع في الأسر فملكه لا يزول عن ماله
لأنه لا دليل عليه، فإن فودي به أو من عليه رد إليه المال، وإن قتل زال ملكه عن
ماله إلى وارثه وكان الحكم كما قدمناه، وإن استرق زال ملكه لأن المملوك لا
يملك شيئا وصار ماله فيئا، فإن أعتق بعد ذلك لم يرد إليه، وكذلك إن مات لم
يرد إلى ورثته - سواء كانوا مسلمين أو كفارا - لأنه لم يترك شيئا.
إذا دخل مسلم دار الحرب بأمان فسرق منهم شيئا أو استقرض من حربي
مالا وعاد إلينا فدخل صاحب المال بأمان كان عليه رده لأن الأمان يقتضي
الكف عن أموالهم.
وإذا اقترض حربي من حربي مالا ثم دخل إلينا بأمان كان على المقترض
رده على المقرض، لأنه لا دليل على براءة ذمته بذلك، والأصل وجوب الرد،
وكذلك لو تزوج امرأة وأمهرها مهرا وأسلما وترافعا إلينا ألزمنا الزوج المهر إن
كان مما يملك، وإلا فقيمته إن كان لا يملكه مسلم.
وإن تزوج حربي بحربية ودخل بها وماتت، ثم أسلم زوجها ودخل إلينا،
وجاء وراثها يطلبون المهر لم يلزمه دفع ذلك إليهم لأن الورثة أهل حرب ولا
أمان لهم على هذا المهر، وإن كان لها ورثة مسلمون كان لهم مطالبة الزوج
بالمهر.
إذا دخل حربي إلينا بأمان فقال له الإمام: إن رجعت إلى دار الحرب وإلا
حكمت عليك حكم أهل الذمة، فأقام سنة جاز أن يأخذ منه الجزية، وإن قال له:
أخرج إلى دار الحرب فإن أقمت عندنا صيرت نفسك ذميا، فأقام سنة ثم قال:
أقمت لحاجة، قبل قوله ولم يجز أخذ الجزية منه، بل يرد إلى مأمنه، لأن الأصل،
براءة ذمته، وإن قلنا: إنه يصير ذميا، كان قويا لأنه خالف الإمام.
وإذا دخل المسلم أو الذمي دار الحرب مستأمنا، فخرج بمال من مالهم
85

ليشتري لهم به شيئا فإنه لا يتعرض له - سواء كان مع المسلم أو الذمي - لأن
ذلك أمانة معهم وللحربي أمان.
ولو دفع الحربي إلى الذمي في دار الإسلام وديعة كان في أمان بلا خلاف.
إذا حاصر الإمام بلدا وعقد عليهم على أن ينزلوا على حكمه فيحكم فيهم بما
يرى هو أو بعض أصحابه جاز ذلك كما نزلت بنو قريظة على حكم سعد بن
معاذ فحكم عليهم بقتل رجالهم وسبي ذراريهم، فقال النبي صلى الله عليه وآله:
لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة، يعني سبع سماوات.
فإذا ثبت جوازه فالكلام بعد ذلك في فصلين: في صفة الحاكم، وفيما
يحكم به. أما الحاكم، فلا بد من أن يكون حرا، مسلما، بالغا، ثقة من أهل العلم،
فإن كان صبيا أو مجنونا أو امرأة أو عبدا أو فاسقا أو كافرا لم يجز، ويجوز أن
يكون أعمى لأنه لا يحتاج في ذلك إلى رؤية، وكذلك إن كان محدودا في
قذف وتاب جاز.
فإن نزلوا على حكم رجل منهم نظر، فإن كان على حكم من يختاره الإمام
جاز لأنه لا يختار إلا من يصلح، وإن كان على حكم من يختارونه لم يجز حتى
يوصف.
فإن نزلوا على حكم كافر أو أن يحكم بهم كافر ومسلم لم يجز لأن الكافر
لا يكون حكما، وإن نزلوا على حكم مسلم أسير معهم حسن الرأي فيهم، أو رجل
أسلم عندهم وهو حسن الرأي فيهم، أو مسلم عندنا حسن الرأي فيهم كره ذلك
وكان جائزا إذا كان بالصفة التي ذكرناها.
وإن نزلوا على حكم من لا يجوز أن يكون حكما كان فاسدا غير أنهم
يكونون في أمان لأنهم نزلوا على هذا الشرط، فيردون إلى مواضعهم حتى يرضوا
بحكم من يجوز أن يكون حكما، فإن نزلوا على حكم من يجوز أن يكون حكما
فلم يحكم بشئ حتى مات لم يحكم فيهم غيره، ويردون إلى مواضعهم حتى
ينصب غيره ويرضوا به فينزلون على حكمه.
86

فأما ما يحكم به، فإنه لا يجوز أن يحكم إلا بما يراه حظا للمسلمين عائدا
بمصالحهم، ثم ينظر، فإن حكم بقتل الرجال وسبي النساء والولدان وغنيمة المال
نفذ ذلك كما حكم سعد بن معاذ في بني قريظة، وإن حكم باسترقاق الرجال
وسبي النساء والولدان وأخذ الأموال جاز أيضا، وإن حكم بالمن وترك السبي
بكل حال جاز أيضا إذا رآه حظا.
وإن حكم بأن يعقدوا عقد الذمة على أن يؤدوا الجزية لزمهم أيضا لأنهم نزلوا
على حكمه.
فإن حكم على أن من أسلم منهم يحقن دمه جاز لأن هذا يجوز من غير
تحكيم، وإن حكم على أن من أسلم منهم أن يسترق من أقام على الكفر، قيل:
جاز، فإن أراد أن يسترق بعد ذلك من أقام على الكفر لم يكن له لأنه لم يدخل
على هذا الشرط، وإن أراد أن يمن عليه جاز لأنه ليس فيه إبطال شئ شرطه، بل
فيه إسقاط ما كان شرط من القتل.
فإن حكم بقتل الرجال وسبي النساء والذرية ورأي الإمام أن يمن على
الرجال أو على بعضهم جاز ذلك، لأن سعدا حكم على بني قريظة بقتل رجالهم،
ثم إن ثابت الأنصاري سأل النبي صلى الله عليه وآله أن يهب الزبير بن رباطا
اليهودي له ففعل.
فإن نزلوا على حكم الحكم، فقبل أن يحكم فيهم بشئ أسلموا عصموا
دماءهم وأموالهم ولم يحل سبي ذراريهم، وإن أسلموا بعد أن حكم بقتل الرجال
وسبي النساء والولدان وأخذ الأموال سقط القتل لا غير وسبي النساء والولدان
وأخذ الأموال. وإن أراد الإمام هاهنا أن يسترق الرجال بعد ما أسلموا لم يجز
لأنهم ما نزلوا على هذا الحكم.
فإن حكم فيهم بقتل الرجال وسبي النساء والذرية وأخذ المال كان المال
غنيمة، ويخمس لأنه أخذ قهرا بالسيف.
فإن نزلوا على أن يحكم فيهم بكتاب الله أو القرآن كره ذلك، لأن هذا
87

الحكم ليس بمنصوص في كتاب الله أو القرآن فيحصل فيه اختلاف.
فإن نصبوا حكمين جاز، لأنه لما جاز الواحد جاز الاثنان، فإن اتفقا على
الحكم جاز، وإن مات أحدهما لم يحكم الآخر حتى يتفقوا عليه، فإن لم يمت
واختلفا لم يحكم حتى يجتمعا، فإن اجتمعا واختلفت الفئتان، فقالت إحديهما:
نحكم بهذا، وقالت الأخرى: لا نحكم بهذا، لم يجز أن يحكما حتى يتفقوا عليه.
فصل: في حكم المبارزة:
المبارزة على ضربين: مستحبة ومباحة.
فالمستحب أن يدعو المشرك إلى البراز، فيستحب للمسلم أن يبارزه كما
فعل حمزة وعلي وعبيدة عليه السلام يوم بدر.
والمبارزة المباحة: أن يخرج المسلم إلى المشرك ابتداء فيدعوه إلى البراز،
فهذه مباحة، وينبغي أن لا يخرج أحد إلى طلب المبارزة إلا بإذن الإمام، لأنه
أعرف بفرسان المسلمين وفرسان المشركين ومن يصلح للبراز ومن لا يصلح.
فإن بارز مشرك مسلما نظر، فإن بارز مطلقا جاز لكل أحد رميه وقتله لأنه
حربي لا أمان له، إلا أن تكون العادة قد جرت أن لا يقاتل عند البراز إلا المبارز
وحده فيستحب الكف عنه، فإن برز بشرط بأن يقول: على أن لا يقاتلني غير
صاحبي، وفي له بشرطه ولم يجز لغيره رميه لأنه قد عقد لنفسه أمانا، فإن ولى عنه
المسلم مختارا ومتحيزا فطلبه المشرك ليقتله كان للمسلمين دفعه لأن الشرط قد
زال، فإنه شرط الأمان ما دام في القتال وقد زال.
فإن زاد في الشرط فقال: أكون في أمان حتى أرجع إلى موضعي من
الصف، وفي له بذلك، اللهم إلا أن يولي عنه المسلم مختارا أو متحيزا فيطلبه
المشرك ليقتله أو يخشى عليه فحينئذ للمسلمين منعه باستنقاذه منه، فإن قاتلهم في
هذه الحالة قاتلوه لأنه نقض الشرط.
فإن خرج وشرط أن لا يقاتله غير مبارزه، ثم استنجد أصحابه فأعانوه أو
88

ابتدأوا بمعاونته فلم يمنعهم، فقد نقض أمانه ويقاتل معهم، فإن منعهم فلم يمتنعوا
فأمانه باق ولا يجوز قتاله ولكن يقاتل أصحابه.
وإذا اشتبه قتلى المسلمين بقتلى المشركين دفن منهم من كان صغير الذكر
ويستحب أن لا يؤخذ في القتال إلا بعد الزوال، فإن اقتضت المصلحة تقديمه جاز
ذلك. ولا يجوز التمثيل بالكفار ولا الغدر بهم ولا الغلول فيهم.
فصل: في حكم الأسارى:
الآدميون على ثلاثة أضرب: نساء وذرية، ومشكل، وبالغ غير مشكل.
فأما النساء والذرية فإنهم يصيرون مماليك بنفس السبي.
وأما من أشكل بلوغه، فإن كان أنبت الشعر الخشن حول الذكر حكم
ببلوغه، وإن لم ينبت ذلك جعل في جملة الذرية، لأن سعدا حكم في بني قريظة
بهذا فأجازه النبي صلى الله عليه وآله.
وأما من لم يشكل أمر بلوغه، فإن كان أسر قبل تقضي القتال فالإمام فيه
بالخيار بين القتل وقطع الأيدي والأرجل ويتركهم حتى ينزفوا إلا أن يسلموا
فيسقط ذلك عنهم، وإن كان الأسر بعد انقضاء الحرب كان الإمام مخيرا بين
الفداء والمن الاسترقاق وليس له قتلهم، أي هذه الثلاثة رأى صلاحا وحظا
للمسلمين فعله، وإن أسلموا لم يسقط عنهم هذه الأحكام الثلاثة وإنما يسقط عنهم
القتل لا غير، وقد قيل: إنه إن أسلم سقط عنه الاسترقاق لأن عقيلا أسلم بعد الأسر
بعد انقضاء الحرب، ففاداه النبي صلى الله عليه وآله ولم يسترقه.
فإن أسر وله زوجة فإنهما على الزوجية ما لم يختر الإمام الاسترقاق، فإن من
عليه أو فادى به عاد إلى زوجته، وإن اختار استرقاقه انفسخ النكاح.
وإن كان الأسير صبيا أو امرأة مزوجة فإن النكاح ينفسخ بنفس الأسر
لأنهما صارا رقيقين.
وإن أسر رجل بالغ، فإن كان من أهل الكتاب أو ممن له شبهة كتاب
89

فالإمام مخير فيه على ما مضى بين الثلاثة أشياء، وإن كان من عبدة الأوثان فإن
الإمام مخير فيه بين المفاداة والمن، وسقط الاسترقاق لأنه لا يقر على دينه بالجزية
كالمرتد.
فإن فادى رجلا وأخذ المال كان ذلك غنيمة، ولا يكون مخيرا في الفداء
كما يكون مخيرا في الاسترقاق، لأن ذلك ربما كان مصلحة وليس في ترك
المال مصلحة.
فإن أسر رجل من المشركين فقتله مسلم قبل أن يختار الإمام شيئا مما
ذكرناه كان هدرا ولا يجب عليه الدية.
ومتى أسلموا قبل الإسار فهم أحرار، عصموا دماءهم وأموالهم، إلا لحقها،
وسواء أحيط بهم في مضيق أو حصن الباب واحد.
وقد بينا أنه متى حدث الرق في الزوجين أو أحدهما انفسخ النكاح بينهما،
وذلك يكون عند حيازة الغنيمة وجمعها، فالنساء يرققن بنفس الاحتياز، والرجال
يرقون باختيار الإمام استرقاقهم، فإذا حدث الرق انفسخ النكاح.
فعلى هذا، إذا سبي الزوجان انفسخ النكاح في الحال لأن الزوجة صارت
مملوكة بنفس عقد الحيازة، وإن كان المسبي الرجل لا ينفسخ النكاح إلا إذا
استرقه الإمام، وإن كان المسبي المرأة انفسخ أيضا في الحال لما قلناه.
فأما إذا كان الزوجان معا مملوكين فإنه لا ينفسخ نكاحهما لأنه ما حدث
رق هاهنا، لأنهما كانا رقيقين قبل ذلك.
إذا وقعت المرأة وولدها في السبي فلا يجوز للإمام أن يفرق بينهما فيعطي
الأم لواحد والولد لآخر، لكن ينظر، فإن كان في الغانمين من يبلغ سهمه الأم
والولد أعطاهما إياه، وإن لم يكن أعطاهما إياه وأخذ فضل القيمة أو يجعلهما في
الخمس، فإن لم يفعل باعهما ورد ثمنهما في المغنم.
وهكذا إذا كان لرجل أمة وولدها فلا يجوز أن يفرق بينهما ببيع ولا هبة ولا
غيرهما من أسباب الملك، روى أبو أيوب الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وآله
90

قال: من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة، وفي
أصحابنا من قال أن ذلك مكروه ولا يفسد البيع به.
فإن بلغ الصبي سبعا أو ثمان سنين - فهو السن الذي يخير فيه بين الأبوين -
فيجوز أن يفرق بينهما، وفي الناس من قال: لا يجوز ما لم يبلغ.
وكذلك لا يفرق بينه وبين الجدة أم الأم لأنها بمنزلة الأم في الحضانة، وأما
التفرقة بينه وبين الوالد فإنه جائز لأن الأصل جوازه. فإن خالف وباع جاز البيع
على الظاهر من المذهب، وفي الناس من قال: البيع فاسد، لما رواه علي عليه
السلام أنه فرق بين جارية وولدها فنهاه رسول الله عن ذلك ورد البيع.
من خرج عن عمود الوالدين من فوق وأسفل - مثل الإخوة وأولادهم
والأعمام وأولادهم - لا يمنع من التفرقة.
إذا جنت جارية وتعلق أرش الجناية برقبتها ولها ولد صغير لم يتعلق الأرش
به، فإن فداها السيد فلا كلام، وإن امتنع لم يجز بيعها دون ولدها لأن فيه تفريقا
بينهما، لكنهما يباعان ويعطي المجني عليه ما يقابل قيمة جارية ذات ولد والباقي
للسيد.
بيان ذلك أن يقال: كم قيمة الجارية لها ولد دون ولدها؟
فيقال: مائة، فيقال: كم قيمة ولدها؟ فيقال: خمسون، فيخصها ثلثا الثمن والولد الثلث، فإن
كان ثلثا الثمن يفي بالأرش فقد استوفى، وإن كان أقل فلا شئ له غيره، وإن
كان أكثر رد الفضل على السيد.
فإن كانت بحالها وكانت الجارية حاملا، فإن فدا ها السيد فلا كلام، وإن
امتنع لم يجز بيعها إن كانت حاملا بحر ويصبر حتى تضع ويكون الحكم كما
لو كان منفصلا، وإن كانت بمملوك جار بيعهما معا على ما مضى إذا كان الولد
منفصلا.
إذا باع جارية حاملا إلى أجل ففلس المبتاع وقد وضعت ولدا مملوكا من
زنا أو زوج، فهل له الرجوع فيها دون ولدها؟ فيه وجهان:
91

أحدهما: ليس له لأنه تفريق بينها وبين ولدها، ويكون بالخيار بين أن يعطي
قيمة ولدها ويأخذهما، وبين أن يدع ويضرب مع الغرماء بالثمن.
والوجه الثاني: له الرجوع فيها لأن ذلك ليس فيه تفرقة، فإنهما يباعان معا
وينفرد هو بصحتها.
فإن ابتاع جارية فاتت بولد مملوك في يد المشتري وعلم بعيبها لم يكن له
ردها بالعيب لأنه تفريق بينها وبين ولدها، ولا يلزمه رد الولد لأنه ملكه، ويسقط
الرد ويكون له الأرش، فإن علم بالعيب وهي حامل كان مخيرا بين ردها وبين
الأرش.
الطفل إذا سبي لم يخل، إما أن يسبى مع أبويه أو أحدهما، أو يسبى منفردا
عنهما.
فإن سبي مع أبويه أو مع أحدهما كان دينه على دينهما، فإذا ثبت ذلك فلا
يجوز التفريق بينه وبين أمه في البيع لعموم الخبر، فإن باعهما معا جاز البيع من
المشركين والمسلمين لأنه محكوم بكفرهما، فإن مات أبواه فإنه لا يتغير عن حكم
دينه كالذمي إذا مات وله ولد فإنه لا يتغير دين ولده، فإن بيع هذا الولد من مسلم
جاز، وإن بيع من كافر كان مكروها ويصح البيع، وفي الناس من حرمه.
فأما إذا سبي الصبي منفردا عن أبويه فإنه يتبع السابي له في الإسلام، ولا
يجوز أن يباع إلا من مسلم، فإن بيع من كافر بطل البيع.
وروى أصحابنا أن الحميل هو الذي يجلب من بلد الشرك، فإن جلب منهم
قوم تعارفوا بينهم نسبا يوجب التوارث قبل قولهم بذلك، سواء كان ذلك قبل
العتق أو بعده، ويورثون على ذلك لأنه لا يمكن إقامة البينة من المسلمين على
صحة أنسابهم، وسواء كان النسب نسب الوالدين والولد أو من يتقرب بهما، إلا
أنه لا يتعدى ذلك منهم إلى غيرهم ولا يقبل إقرارهم به.
إذا أسر المشركون مسلما فأكرهوه على عقد الأمان لمشرك ففعل كان
الأمان باطلا، فإن أطلقوه فعقد الأمان مطلقا انعقد الأمان لأنه عقده باختياره، فإن
92

كان محبوسا فعقد الأمان بغير إكراه فالأولى أنه لا ينعقد لأن ظاهر الحبس
الإكراه، وقد قيل: إنه ينعقد كما يقبل إقراره.
فإن دخل رجل من أهل الحرب إلينا بأمان على أن عليه العشر أو الخمس
فكسد متاعه فرده إلى دار الحرب نظر فيه، فإن كان شرط أخذ العشر من المال
أخذ منه العشر، وإن كان شرط أخذ العشر من ثمن المال فلا شئ عليه لأنه ما
وجد الثمن، وإن أطلق اقتضى ذلك أخذ العشر بكل حال.
وإن سبى المسلمون زوجة مشرك فاسترقت، فدخل زوجها فطلبها وذكر
أن عندهم في الأسر فلانا وفلانا، فأطلقوها لي حتى أحضرهما، فقال له الإمام:
فأحضرهما، فإذا فعل أطلقهما الإمام ولم يطلقها له، لأنهما حران لا يجوز أن يكونا
ثمن مملوكة، ويقال له: إن اخترت أن تشتريها فأتنا بثمنها مالا، اللهم إلا أن يكون
قد أخذها مسلم وصارت أم ولد فلا ترد بحال.
فإن دخل إلينا حربي بأمان فقتل وأخذ المال وسرق وهرب إلى دار
الحرب، ثم عقد الأمان لنفسه ودخل إلينا، قتل بالقتل وغرم على المال وقطع
بالسرقة.
إذا كان القوم على القتال فأهدى حربي من الصف إلى مسلم شيئا كان
غنيمة لأنه إنما فعله خوفا من أهل الصف، وهكذا إن أهدى إلى الإمام في هذه
الحال، فإن أهدى حربي من دار الحرب إلى مسلم في دار الإسلام أو إلى الإمام في
غير زمان القتال فإنه لا يكون غنيمة، بل ينفرد به المهدي إليه لأنه لم يفعل ذلك
لأجل الحرب.
فإن أسر المشركون مسلما ثم أطلقوه على أن يكونوا منه في أمان ويقيم
عندهم ولا يخرج إلى دار الإسلام، كانوا منه في أمان، وعليه أن يخرج إلينا متى
قدر ولا يلزمه الإقامة بالشرط لأنه حرام. وإن كانوا استرقوه ثم أطلقوه على أنه عبد
لهم كان له أن ينهب ويسرق ويهرب كيف ما أمكنه لأن استرقاقه لا يصح.
فإن غصب مسلم فرسا وغزا عليه وغنم فأسهم له ثلاثة أسهم كان له ذلك
93

كله دون صاحب الفرس، فإن دخل دار الحرب بفرس نفسه فغزا ثم غصبه
غاصب من أهل الصف فرسه فغنموا عليها فأسهم الذي في يده الفرس ثلاثة أسهم
كان له من ذلك سهم وسهمان لصاحب الفرس. والفرق بينهما أن في المسألة
الأولى الغاصب هو الحاضر للقتال دون صاحب الفرس وقد أثر في القتال
بحضوره فارسا فكان السهم له دون صاحب الفرس، والمسألة الثانية صاحب
الفرس حضر القتال فارسا وأثر في القتال، والغصب حصل بعد ذلك فكان السهم
له دون الغاصب.
إذا أسر المسلم فأطلقه المشركون على أن لا يخرج من ديارهم كان له أن
يخرج.
والحربي إذا أسلم في دار الحرب، فإن لم يكن مستضعفا بل كان له عشيرة
ينصرونه ويحمون عنه ويقدر أن يظهر دينه فالأولى أن يخرج من دار الحرب،
ويجوز له أن يقيم، وإن كان مستضعفا لا رهط له ولا عشيرة ولا يمكنه إظهار دين
الإسلام، فإن قدر على الهجرة ووجد نفقة أو طريقا حرم عليه المقام ووجبت عليه
الهجرة، وإن لم يكن له طريق ولا يقدر على الهجرة لم يحرم عليه المقام لأنه
مضطر، وعليه أن يحتال في الخروج متى أمكنه.
وأما من أسر من المسلمين وحصل في دار الحرب فهو على ضربين:
أحدهما: أن يكون مستضعفا لكنه قادر على الهجرة، والآخر: مستضعف غير
قادر. وحكمهما على ما ذكرناه، وجملته أن الإقامة في دار الحرب إما مكروهة أو
محرمة على من يقدر على الخروج، وإن كان عاجزا غير قادر فهو مضطر، وروي
عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: أنا برئ من كل مسلم مع مشرك، قيل:
يا رسول الله ولم؟ قال: لا تتراءى ناراهما، يعني يكثر سوادهم.
فإذا ثبت هذا، فالأسير إذا خلي لم يخل، إما أن يشرط عليه المقام في دار
الحرب أو لا يشرط.
فإن لم يشرط نظر، فإن أطلقوه على أنهم في أمان صاروا منه في أمان وليس
94

له أن يغتالهم في مال ولا نفس، والحكم في مقامه على ما مضى، فإن خرج لهرب
فأدركوه فله أن يدفع عن نفسه، فإن قتل الذي أدركه فلا شئ عليه لأن من طلبه
نقض عهده وزال أمانه، وإن أطلق من غير أمان فله أن يغتالهم في أموالهم ويأخذ
ما يقدر عليه من ولدانهم ونسائهم لأنهم ليسوا منه في أمان.
وإن شرطوا عليه المقام عندهم نظر، فإن كان من غير يمين حرم عليه المقام
ولا يلزمه الوفاء بالشرط، فإن حلفوه على ذلك، فإن أكرهوه على اليمين لم ينعقد
يمينه لأنه مكره، والحكم في خروجه على ما ذكرناه، وإن لم يكرهوه على اليمين
وحلف مختارا كان له الخروج أيضا ولا كفارة عليه لأن الخروج أفضل بل هو
الواجب.
وإن أطلقوه على مال يحمله إليهم من دار الإسلام فإن لم يفعل وإلا عاد فلا
يلزمه الوفاء بذلك لا بحمل المال ولا بالعود.
وأما الفداء، فإنهم إن كانوا أكرهوه على الضمان لم يلزمه الوفاء به لأنه أمر
مكروه محرم، وإن كان تطوع ببذل الفداء فقد عقد عقدا فاسدا لا يلزمه الوفاء
به. وهكذا الإمام إذا شرط أن يفادي قوما من المسلمين بمال فالعقد فاسد، ولا
يملك المشركون ما يأخذونه منه، ومتى ظفر المسلمون به لم يغنم وكان مردودا
إلى بيت المال.
فصل: في حكم الحربي إذا أسلم في دار الحرب والمسلم
إذا أخذ ماله المشركون:
الحربي إذا أسلم في دار الحرب فإنه يعصم بإسلامه دمه وجميع أمواله - التي
يمكن نقلها إلى بلد الإسلام - وصغار ولده، وكذلك حكمه إن أسلم في بلد
الإسلام، فأما أولاده الكبار فلهم حكم نفوسهم، وأملاكه التي لا يمكن نقلها إلى بلد
الإسلام - مثل الأرضين والعقارات - فهي غنيمة.
ومتى أسلم وله حمل صار الحمل مسلما بإسلامه، فإن غنمت زوجته
95

واسترقت مع ولده لم يصح استرقاق الولد لأنه محكوم بإسلامه.
ولو تزوج مسلم حربية فأحبلها بمسلم ثم سبيت حاملا واسترقت لم يسترق
ولدها، فأما زوجته فإنه يجري عليها أحكام أهل الحرب وتسترق، فإذا استرقت
انفسخ النكاح بينهما.
فإن كان لمسلم دار استأجرها في دار الحرب ثم غنمها المسلمون فإنهم
يملكون رقبتها ويكون عقد الإجارة باقيا بحاله له استيفاؤها إلى انقضاء المدة.
ومتى أعتق مسلم عبدا مشركا وثبت له عليه ولاء ولحق بدار الحرب ثم
وقع في الأسر لم يسترق، لأنه قد ثبت عليه ولاء المسلم فلا يجوز إبطاله، ولو
قلنا: إنه يصح ويبطل ولاء المسلم، كان قويا. وإن كان الولاء لذمي ثم لحق
المعتق بدار الحرب فسبي استرق.
إذا ظهر المشركون على المسلمين وحازوا أموالهم فإنهم لا يملكونها - سواء
حازوها إلى دار الحرب أو لم يحوزوها - ويكون آخذها غاصبا إن ظهر عليه وغنم
وعرفه صاحبه فإن له أخذه قبل القسمة، ويجب دفعه إليه إن قامت له بينة، وإن
كان بعد القسمة فهو له أيضا، لكن يعطي الإمام من حصل في سهمه قيمته من بيت
المال لئلا تنقض القسمة، وإن أسلم من هو في يده أخذ منه بلا قيمة، وقد روي أنه
إذا قسمت كان صاحبها أولى بها بالقيمة، وإن دخل مسلم دار الحرب فسرقه أو
نهبه أو اشتراه ثم أخرجه إلى دار الإسلام فصاحبه أحق به ولا يلزمه قيمته، فإن
أعتقه من هو في يده أو تصرف فيه ببيع أو هبة أو غير ذلك فسد جميع تصرفه.
وإذا أحرز المشركون جارية رجل مسلم فوطئها المحرز لها فولدت ثم ظهر
المسلمون عليها كانت هي وأولادها لمالكها، فإن أسلم عليها لم يزل ملك
صاحب الجارية عن أولاده، اللهم إلا أن تسلم ثم يطأها بعد الإسلام ظنا منه أنه
ملكها، فحبلت بعد الإسلام، فإن ولده منها يكون أيضا لسيد الجارية، لكن يقوم
على الأب ويؤخذ منه قيمته، ويلزم الواطئ عقرها لمولاها.
وإذا أسلم عبد لحربي في دار الحرب ثم خرج إلى دار الإسلام فإنه يصير
96

حرا لا سبيل لمولاه عليه بحال، وإن لم يخرج إلى دار الإسلام فهو على أصل
الرق، فإن غنم كان غنيمة للمسلمين. والفرق بينهما أنه إذا خرج إلى دار الإسلام
فقد قهر سيده على نفسه فصار حرا، وإذا أقام في دار الحرب فلم يغلب مولاه على
نفسه يبقى على أصل الرق، وإن قلنا: إنه يصير حرا على كل حال، كان قويا.
وإن دخل حربي إلينا بأمان فاشترى عبدا مسلما ولحق بدار الحرب فغنمه
المسلمون فإنه باق على ملك المسلم، لأن الشراء فاسد لأن الكافر عندنا لا
يملك مسلما، ويرد عليه المال الذي أخذه المسلم ثمنا له في أمان، فإن تلف
العبد كان لسيده قيمته وعليه رد ثمنه فيترادان الفضل.
فصل: في، هل للإمام وخليفته أن يجعل الجعائل لمن
دله على مصلحة أم لا؟
يجوز للإمام وخليفته إذا دخل دار الحرب أن يجعل الجعائل على ما فيه
مصلحة المسلمين، فيقول: من دلنا على قلعة كذا فله كذا، وكذلك على طريق
غامض فله كذا، وما أشبه ذلك.
ثم لا يخلو إما أن يجعله من ماله، أو من مال أهل الحرب.
فإن جعله من ماله لم يصح حتى يكون معلوما موصوفا في الذمة أو مشاهدا
معينا، لأنه عقد في ملكه فلا يصح أن يكون مجهولا.
وإن كان من مال المشركين جاز مجهولا ومعلوما، فيقول: من دلنا على
القلعة الفلانية فله جارية منها، أو جارية فلان، وروي أن النبي صلى الله عليه وآله
جعل للبدأة الربع وللرجعة الثلث، وذلك القدر مجهول وغير مملوك وأجازه،
وروي أن أبا موسى صالح دهقانا على أن يفتح حصنا بالأهواز على أن يختار من
أهله أربعين نفسا، فجعل يختار، فقال أبو موسى: اللهم أنسه نفسه، فنسي نفسه
فأخذه أبو موسى وضرب عنقه.
فإذا ثبت ذلك ودل على قلعة وشوهدت لم يستحق شيئا قبل فتحها لأن
97

تحت قوله: جارية منها، يتضمن أنها تفتح ويتمكن من تسليم الجارية إليه، ولا
يرضخ له بشئ.
فإن فتحت القلعة لم يخل أن تفتح صلحا أو عنوة.
فإن فتحت صلحا وشرط أن لصاحب القلعة أهله وكانت الجارية من أهله،
فإنه يقال للدليل: قد جعلنا لك هذه الجارية وقد صولح صاحب القلعة عليها،
فرضي أن يأخذ قيمتها ليتم الصلح، فإن فعل ذلك جاز، وإن قلنا لصاحب
القلعة: أترضى أن تأخذ قيمتها وتسلمها إلى الدليل؟ فإن رضي جاز، وإن أبي كل
واحد منهما قيل لصاحب القلعة: ارجع إلى قلعتك بأهلك، ويزول الصلح لأنه
قد اجتمع أمران متنافيان لا يمكن الجمع بينهما وحق الدليل سابق وجب
تقديمه.
فأما إذا فتحت عنوة نظرا في الجارية، فإن كانت على الشرك سلمت إلى
الدليل، وإن كانت أسلمت، فإنها إن كانت أسلمت قبل الظفر بها فهي حرة لا
تدفع إلى الدليل، لكن تدفع إليه قيمتها - لأن النبي صلى الله عليه وآله صالح
أهل مكة على أن يرد عليهم من جاء إليه من المسلمات، فنهى الله عز وجل عن
ذلك ونسخ ما كان عقده وأمره برد مهورهن على أزواجهن - وإن أسلمت بعد
الظفر بها نظر إلى الدليل، فإن كان مسلما سلمت إليه لأنها مملوكة، وإن كان
مشركا لم تسلم إليه لأن الكافر لا يملك مسلما، لكن يدفع إليه قيمتها.
وإن ماتت الجارية إما قبل الظفر بها أو بعده فلا شئ له من قيمتها، لأن
أصل العقد وقع بشرط أن تكون له مع وجودها، ألا ترى أنها لو لم تفتح لم
يستحق شيئا، وهاهنا ما وجدت القدرة عليها.
فصل: في حكم ما يغنم وما لا يغنم:
إذا فتح بلد من بلاد الحرب فلا يخلو من أن يفتح عنوة أو صلحا.
فإن فتح عنوة كانت الأرض المحياة وغيرها من أموالهم ما حواه العسكر
98

وما لم يحوه العسكر غنيمة، فيخمس الجميع، فيكون الخمس لأهله الذين قدمنا
ذكرهم في كتاب قسمة الصدقات، ثم ينظر في الباقي، فكل ما حواه العسكر وما
لم يحوه العسكر مما يمكن نقله إلى دار الإسلام فهو للغانمين خاصة يقسم فيهم
على ما نبينه.
وأما الأرضون المحياة فهي للمسلمين قاطبة، وللإمام النظر فيها بالتقبيل
والضمان على ما يراه، وارتفاعها يعود على المسلمين بأجمعهم وينصرف إلى
مصالحهم، الغانمين وغير الغانمين فيه سواء.
فأما الموات فإنها لا تغنم وهي للإمام خاصة، فإن أحياها أحد من المسلمين
كان أولى بالتصرف فيها ويكون للإمام طسقها.
وإن فتحها صلحا، فإن صالحهم على أن تكون الدار لنا يسكنونها ببذل
الجزية فهي دار الإسلام، الموات منها للإمام على ما قلناه والباقي للمسلمين، وإن
كان الصلح على أن الدار لهم بالموات فالموات منها لهم ليس للمسلمين أن
يحيوها.
للمسلمين أن يأكلوا ويعلفوا في دار الحرب دوابهم، وإن أصابوا طعاما فلهم
أكله قدر الكفاية مع الإعسار واليسار، سواء كان معهم طعام أو لم يكن ولا
ضمان عليهم، وروي أن قوما غنموا طعاما وعسلا فلم يأخذ النبي صلى الله عليه
وآله منهم الخمس، وإن أخذوا طعاما وأخرجوه إلى دار الإسلام أو شيئا منه وجب
أن يردوه إلى الغنيمة لأن الحاجة قد زالت، سواء كان قليلا أو كثيرا. البهائم
المأكولة إذا احتاج الغانمون إلى ذبحها وأكل لحمها جاز لهم ذلك كالطعام
سواء، وليس عليهم قيمتها، فأما جلودها، فإن اتخذ منها سقاء أو سيرا أو شنا أو
ركوة فعليه رده في المغنم كالثياب، فإن قامت في يده مدة لزمه أجرة مثلها،
وعليه ضمان ما نقص منها، فإن زاد بصنعة أحدثها فيها فلا حق له فيها لأنه تعدى
فيها.
فأما لبس الثياب فليس له لبسها لقوله عليه السلام: من كان يؤمن بالله
99

واليوم الآخر فلا يلبس ثوبا من فئ المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه.
ولا يستعمل شيئا من أودية الغنيمة ولا يدهن بشئ من دهنه لا لنفسه ولا
دوابه إلا بشرط الضمان لأنه ليس بقوت، وكذلك إذا كان معه بزاة أو صقور أو
غير ذلك من الجوارح لم يكن له أن يطعمها من الغنيمة لأنه ليس إلى ذلك
ضرورة.
فإن اقترض بعض الغانمين لغيره شيئا من الغنيمة أو علف الدابة جاز، ولا
يكون قرضا لأنه ما ملكه حتى يقرضه، لكن يده عليه، فإذا سلمه إلى غيره فصار يد
الغير عليه فيكون يد الثاني عليه وهو أحق به، وليس عليه رده على الأول، فإن رده
كان المردود عليه أحق به لثبوت اليد، فإن خرج المقترض من دار الحرب
والطعام في يده وجب عليه رده في المغنم ولا يرده على المقرض.
ولا يجوز أن يبيع بعض الغانمين طعاما من غيره، فإن خالف لم يكن
ذلك بيعا وإنما يكون انتقالا من يد إلى يد، فما حصل في يد كل واحد منهما
يكون أحق بالتصرف فيه.
وعلى هذا لو باع أحدهما صاعين من طعام بصاع منه كان جائزا لأنه ليس
ببيع في الحقيقة، فإن أقرض واحد من الغانمين من هذا الطعام رجلا من غير
الغانمين أو باعه منه لم يصح وكان على القابض رده لأنه أخذ ملك غيره،
وكذلك لو جاء رجل من غير الغانمين ابتداء وأخذ من طعام الغنيمة لم تقر يده
عليه لأنه ليس له في الأصل أخذه، وكذلك لو باعه من غير الغانم بطل البيع
وكان عليه رده في المغنم.
إذا وجد في المغنم كتب نظر فيها، فإن كانت مباحة يجوز إقرار اليد عليها
- مثل كتب الطب والشعر واللغة والمكاتبات - فجميع ذلك غنيمة، وكذلك
المصاحف وعلوم الشريعة - كالفقه والحديث ونحوه - لأن هذا مال يباع
ويشترى كالثياب، وإن كانت كتبا لا يحل إمساكها - كالكفر والزندقة وما أشبه
ذلك - فكل ذلك لا يجوز بيعه، وينظر فيه، فإن كان مما ينتفع بأوعيته إذا
100

غسل كالجلود ونحوها فإنها غنيمة، وإن كان مما لا ينتفع بأوعيته كالكاغذ فإنه
يمزق ولا يحرق لأنه ما من كاغذ إلا وله قيمة. وحكم التوراة والإنجيل هكذا
كالكاغذ فإنه يمزق لأنه كتاب مغير مبدل.
وما لم يكن عليه أثر ملك فهو لمن أخذه - كالشجر والحجر والصيد - ولا
يكون غنيمة لأنه إنما يكون غنيمة ما كان ملكا للكفار، وإن كان عليه أثر ملك
- كالصيد المقموط والحجر المنحوت والخشب المنجور - فكل ذلك غنيمة لأن
عليه أثر ملك، فإن وجد ما يمكن أن يكون للكفار والمسلمين - كالوتد والخيمة
والخرج - ولم يعلم عرف سنة كاللقطة، فإن لم يظهر صاحبه ألحق بالغنيمة.
فإن كان في المغنم بهيمة وأرادوا ذبحها وأخذ جلودها لسيور الركاب
والبغال لم يجز ذلك لأن النبي صلى الله عليه وآله نهى عن ذبح الحيوان لغير
مأكله.
فإن وجد لهم الجوارح كالبزاة والصقور والفهود فكل ذلك غنيمة لأنها
تباع وتشتري، وكذلك السنانير لأنها تملك.
فإن كان فيما غنموا كلاب، فما يكون منها كلاب الصيد والماشية فهو
غنيمة، وما عداها لا يكون غنيمة لأنها لا تملك وتخلي.
فأما الخنازير فإنه ينبغي أن يقتلها، فإن أعجله السير فلم يتمكن لم يكن عليه
شئ.
وأما الخمور فإنها تراق، وظروفها، فإن كان المسلمون استوطنوا بلادهم
وصالحوهم عليها فلا يكسرونها لأنها غنيمة، وإن كانوا على الانصراف كسروها.
وإذا غنم المسلمون خيلا من المشركين ومواشيهم ثم أدركهم المشركون
وخافوا أن يأخذوها من أيديهم فلا يجوز لهم قتلها ولا عقرها، وإن كانوا رجالة أو
على خيل قد كلت ووقفت وخيف أن يستردوا الخيل فيركبونها فيظفرون بهم
فإنه يجوز لموضع الضرورة قتلها، فإن كانت خيلهم لم تقف فلا يجوز لهم عقرها
ولا قتلها، فإذا قاتلوا على الخيل جاز عقرها وقتلها.
101

وإذا سرق واحد من الغانمين من الغنيمة شيئا، فإن كان بمقدار ما يصيبه من
الغنيمة فلا قطع عليه، وكذلك إن كانت الزيادة أقل من نصاب يجب فيه القطع،
وإن زاد على نصيبه بنصاب يجب فيه القطع وجب قطعه، وإن عزل الخمس منها
فسرق واحد من الغانمين الذين ليس لهم من الخمس شئ نصابا وجب عليه
القطع على كل حال، وإن سرق من أربعة أخماس الغنيمة كان الحكم ما قدمناه.
ومتى كان السارق من غير الغانمين فإنه ينظر، فإن كان ممن له سهم في
الخمس كان حكمه ما قدمناه من أنه إن سرق أكثر من سهمه مقدار النصاب وجب
قطعه، وإن كان أقل من ذلك فلا قطع عليه، وإن لم يكن من أهل الخمس
وسرق من الأربعة أخماس قطع على كل حال، وإن سرق بعد عزل الخمس من
الأربعة أخماس قطع على كل حال إذا سرق نصابا، اللهم إلا أن يكون في
الغانمين من لو سرق منه لم يقطع مثل الابن، لأنه لو سرق الأب من مال ابنه لم
يجب قطعه، فإن كان كذلك كان حكمه حكم الابن الغانم لو سرق على ما
فصلناه.
إذا انقضت الحرب وحيزت لغنائم فقد ملك كل واحد من الغنيمة ما يصيبه
مشاعا، فإن كان في المغنم جارية فبادر فوطئها قبل القسمة درئ عنه الحد بمقدار
ما يصيبه منها ويقام عليه الحد بما يصيب الباقين، سواء كان الغانمون قليلين أو
كثيرين، هذا إذا كان عالما بتحريم الوطء، فإن لم يكن عالما بل ظن أنه يحل له
ذلك درئ عنه الحد لمكان الشبهة، وأما المهر فلا يلزمه للباقين، لأنه لا دليل عليه،
والأصل براءة الذمة.
فإن أحبلها كان حكم ولدها حكمها، يكون له منه بمقدار ما يصيبه ويلزم
بقية سهم الغانمين، ويلحق به لحوقا صحيحا لأنه شبهة، وتكون الجارية أم ولده
لأن الاسترقاق يقتضي ذلك، وتقوم الجارية عليه ويلزم سهم الغانمين. وينظر، فإن
كانت الغنيمة قدر حقه فقد استوفى حقه، وإن كان أقل أعطي تمام حقه، وإن كان
أكثر رد الفضل.
102

فإذا وضعت نظر، فإن كانت قومت عليه قبل الوضع فلا يقوم عليه الولد،
لأن الولد إنما يقوم إذا وضعت وفي هذه الحال وضعته في ملكه، وإن كان ما
قومت عليه بعد قومت هي والولد معابد الوضع، فأسقط منه نصيبه وغرم الباقي
بقدر سهمهم للغانمين. هذا إذا وطئ الجارية قبل القسمة.
فإن وطئها بعد القسمة - مثل أن يكون قد عزل العشرة من الغانمين جارية
بقدر سهمهم، فبادر واحد منهم فواقع عليها - فلا يخلو أن يكونوا قد رضوا بتلك
القسمة أو لم يرضوا بها.
فإن كانوا قد رضوا بها فقد صارت ملكا لهم دون غيرهم، ويكون حكمه
حكم من وطئ جارية مشتركة بينه وبين عشرة، يدرأ عنه عشر الحد ويقام عليه
الباقي، وتقوم عليه مع الولد ويسقط عشره عنه ويلزم الباقي.
وإن كان قبل الرضا كان الحكم مثل ذلك إلا أنه يكون كواحد من
جملة الغانمين فيسقط سهمه بحسب عددهم من الجارية والولد والحد، هذا إذا كان
موسرا.
فإن كان معسرا قومت عليه مع ولدها واستسعى في نصيب الباقين، فإن لم
يسع في ذلك كان له من الجارية مقدار نصيبه والباقي للغانمين، ويكون الولد
حرا بمقدار نصيبه والباقي للغانمين ويكون مملوكا لهم، والجارية تكون أم ولد،
وإن ملكها فيما بعد.
إذا كان في السبي من يعتق على بعض الغانمين من الآباء والأولاد - وإن
علوا أو نزلوا - فالذي يقتضيه المذهب أن نقول: إنه يعتق منه نصيبه منه ويكون
الباقي في الغانمين، ولا يلزمه فيه ما يبقى للغانمين لأنه لا دليل عليه، وقد قيل: إنه
لا ينعتق عليه أصلا إن لم يقسمه الإمام في حصته أو حصة جماعة هو أحدهم، لأن
للإمام أن يعطيه حصته من غيره فنصيبه غير متميز من الغنيمة، وإن قومه عليه أو
على جماعة هو أحدهم ورضي به انعتق نصيبه لأنه ملكه، ويلزمه حصة شركائه
ويقوم عليه كما لو أعتق شقصا له من مملوك إذا كان موسرا، فإن كان معسرا لا
103

يلزمه ذلك ويكون قدر حصته حرا وما سواه مملوكا، والأول أقوى عندي.
متى حدث الرق في الزوجين أو أحدهما انفسخ النكاح بينهما، وذلك
يكون عند حيازة الغنيمة وجمعها، فالنساء يرققن بنفس اختيار الملك، والرجال
يرقون باختيار الإمام استرقاقهم، فإذا حدث الرق انفسخ النكاح.
يكره نقل رؤوس المشركين من بلد إلى بلد، لأنه ما حمل بين يدي النبي
صلى الله عليه وآله رأس لمشرك إلا رأس أبي جهل يوم بدر في نفس المعركة،
وحمل إلى أمير المؤمنين عليه السلام رؤوس كثير من المشركين فأنكر وقال: ما
فعل هذا في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله ولا بعده.
فصل: في ذكر مكة هل فتحت عنوة أو صلحا؟ وحكم السواد
وباقي الأرضين:
ظاهر المذهب أن النبي صلى الله عليه وآله فتح مكة عنوة بالسيف ثم أمنهم
بعد ذلك، وإنما لم يقسم الأرضين والدور لأنها لجميع المسلمين كما نقوله في
كل ما يفتح عنوة إذا لم يمكن نقله إلى بلد الإسلام فإنه يكون للمسلمين قاطبة،
ومن النبي صلى الله عليه وآله على رجال من المشركين فأطلقهم، وعندنا أن
للإمام أن يفعل ذلك، وكذلك أموالهم من عليهم بها لما رآه من المصلحة.
وأما أرض السواد، فهي الأرض المغنومة من الفرس التي فتحها عمر، وهي
سواد العراق، فلما فتحت بعث عمر عمار بن ياسر أميرا وابن مسعود قاضيا وواليا
على بيت المال، وعثمان بن حنيف ماسحا فمسح عثمان الأرض، واختلفوا في
مبلغها، فقال الساجي: اثنان وثلاثون ألف ألف جريب، وقال أبو عبيدة: ستة
وثلاثون ألف ألف جريب، وهي ما بين عبادان والموصل طولا وبين القادسية
وحلوان عرضا، ثم ضرب على كل جريب نخل ثمانية دراهم والرطبة ستة،
والشجر كذلك، والحنطة أربعة، والشعير درهمين، وكتب إلى عمر فأمضاه.
وروي أن ارتفاعها كان في عهد عمر مائة وستين ألف ألف درهم، فلما كان
104

في زمن الحجاج رجع إلى ثمانية عشر ألف ألف درهم، فلما ولى عمر بن عبد
العزيز رجع إلى ثلاثين ألف ألف درهم في أول سنة، وفي الثانية بلغ ستين
ألف ألف، فقال: لو عشت سنة أخرى لرددتها إلى ما كان في أيام عمر، فمات تلك
السنة، وكذلك أمير المؤمنين صلى الله عليه وآله لما أفضي الأمر إليه أمضى ذلك
لأنه لم يمكنه أن يخالف ويحكم بما يجب عنده فيه.
والذي يقتضيه المذهب أن هذه الأراضي وغيرها من البلاد التي فتحت عنوة
أن يكون خمسها لأهل الخمس وأربعة أخماسها يكون للمسلمين قاطبة، للغانمين
وغير الغانمين في ذلك سواء، ويكون للإمام النظر فيها وتقبيلها وتضمينها بما
شاء، ويأخذ ارتفاعها ويصرفه في مصالح المسلمين وما ينوبهم من سد الثغور
وتقوية المجاهدين وبناء القناطر وغير ذلك من المصالح، وليس للغانمين
في هذه الأرضين خصوصا شئ، بل هم والمسلمون فيه سواء. ولا يصح بيع شئ
من هذه الأرضين ولا هبته ولا معاوضته ولا تمليكه ولا وقفه ولا رهنه ولا إجارته
ولا إرثه، ولا يصح أن يبني دورا ومنازل ومساجد وسقايات، ولا غير ذلك من
أنواع التصرف الذي يتبع الملك، ومتى فعل شئ من ذلك كان التصرف
باطلا وهو باق على الأصل.
وعلى الرواية التي رواها أصحابنا أن كل عسكر أو فرقة غزت بغير أمر
الإمام فغنمت تكون الغنيمة للإمام خاصة فهذه الأرضون وغيرها مما فتحت بعد
الرسول - إلا ما فتح في أيام أمير المؤمنين عليه السلام إن صح شئ من ذلك -
يكون للإمام خاصة ويكون من جملة الأنفال التي له خاصة لا يشركه فيها غيره.
وإذا نزل على بلد وأراد فتحه صلحا فلا يجوز ذلك إلا بشرط أن يضرب
عليهم الجزية، وأن يجري أحكامنا عليهم، وأن لا يجتمعوا مع المشركين على
قتال المسلمين، وهو بالخيار بين أن يضع الجزية على رؤوسهم أو على أرضهم،
ولا يجمع عليهم، فإن وضعها على أرضهم ثم أسلم بعضهم فإن الجزية تسقط عنه،
وتكون الأرض عشرية، تؤخذ منه الزكاة كما تؤخذ من أراضي المسلمين التي هي
105

أملاكهم، وتكون مصروفة إلى المجاهدين القائمين مقام المهاجرين والأنصار في
عهد النبي صلى الله عليه وآله.
وإذا صالح المشركين على أن تكون الأرض لهم بجزية التزموها وضربوها
على أرضهم فيجوز للمسلم أن يستأجر منهم بعض تلك الأرضين لأنها أملاكهم،
فإن اشتراها منهم مسلم صح الشراء وتكون أرضا عشرية.
فصل: في قسمة الغنيمة في دار الحرب وإقامة الحدود فيها:
يستحب أن تقسم الغنيمة في دار الحرب، ويكره تأخيرها إلا لعذر، من ذلك
أن يخاف كثرة المشركين أو الكمين في الطريق أو قلة علف أو انقطاع ميرة،
وروي أن النبي صلى الله عليه وآله قسم غنائم بدر بشعب من شعاب الصفراء
قريب من بدر وكان ذلك دار حرب.
ومن ارتكب كبيرة يجب عليه فيها الحد، لم يحد في دار الحرب وأخر حتى
يعود إلى دار الإسلام، ولم يسقط بذلك الحد عنه، سواء كان إمام أو لم يكن،
فإن رأى من المصلحة تقديم الحد جاز ذلك، وسواء كان الفاعل أسيرا أو أسلم
فيهم ولم يخرج إلينا أو خرج من عندنا لتجارة أو غيرها.
وإذا قتل في دار الحرب فحكمه حكم القتل في دار الإسلام، إن قتل مسلما
عمدا فالقصاص أو الدية والكفارة، وإن كان خطأ فالدية والكفارة، وعلى الرواية
الأولى لا يؤخر القصاص منه لأنه إنما كره إقامة الحد بذلك لئلا تحمله الحمية
على اللحاق بهم، وذلك مفقود في القود فالأولى تقديم القصاص.
106

كتاب الجزية
وأحكامها
فصل: في من تؤخذ منه الجزية ومن لا تؤخذ من أصناف الكفار:
قال الله تعالى: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، إلى قوله: حتى
يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وبعث النبي صلى الله عليه وآله معاذا إلى
اليمن وأمره أن يأخذ من كل حاكم دينارا أو عدله معافري، وأخذ رسول الله
صلى الله عليه وآله الجزية من مجوس هجر، وعلى جواز أخذ الجزية إجماع
الأمة.
والكفار على ضربين: ضرب يجوز أن تؤخذ منهم الجزية، والآخر لا يجوز
ذلك، فالأول هم الثلاثة أصناف: اليهود والنصارى والمجوس، وما عدا هؤلاء
من سائر الأديان من عباد الأوثان وعباد الكواكب من الصابئة وغيرهم فلا تؤخذ
منهم الجزية عربيا كان أو أعجميا.
ومن هو من الأصناف الثلاثة أخذت منه، والاعتبار في أخذها بالدين دون
النسب، فإن كان من هؤلاء الثلاثة أخذت منه عربيا كان أو أعجميا، وجملة ذلك
أنه من كان من أهل هذين الكتابين المشهورين - اليهود أهل التوراة والنصارى
أهل الإنجيل - فإنها تقبل منهم، وكذلك من كان من نسلهم فإنه يقر على دينه
ببذل الجزية، سواء كان من المبذلين أو من غيرهم، وسواء كان من أولاد
المبذلين أو لم يكن لعموم الآية.
107

وأما من كان من عبدة الأوثان فدخل في دينهم، فلا يخلو أن يدخل في
دينهم قبل نسخ شرعهم أو بعده، فإن كان قبل نسخ شرعهم أقروا عليه، وإن
كان بعد نسخ شرعهم لم يقروا عليه لقوله عليه السلام: من بدل دينه فاقتلوه،
وهذا عام إلا من خصه الدليل.
ومن أخذنا منه الجزية لا يجوز لنا أكل ذبائحهم ومناكحتهم على الظاهر من
المذهب عندنا، ومن لا تؤخذ منه الجزية لم يحل ذلك بلا خلاف.
فأما المجوس فحكمهم حكم أهل الكتاب، وروى أصحابنا أنه كان لهم
كتاب فأحرقوه، وروي ذلك عن علي عليه السلام.
وإذا أحاط المسلمون بقوم من المشركين فذكروا أنهم أهل كتاب وبذلوا
الجزية فإنه تقبل منهم، لأنه لا يتوصل إلى معرفة دينهم إلا من جهتهم، فيعقد لهم
الجزية بشرط أنهم إن كانوا على ما قالوا ثبت العهد وإن كانوا بخلافه نبذ إليهم،
ويعرف ذلك بأحد أمرين: إما أن يقروا كلهم، أو يسلم اثنان منهم ويعدلان
ويشهدان أنهم ليسوا بأهل كتاب، فإن قال بعضهم: إنا أهل كتاب، وقال
بعضهم: لسنا أهل كتاب، حكم لكل قوم منهم بحسب قوله، ولا يقبل قول
بعضهم على بعض لأن شهادة الكفار بعضهم على بعض لا تقبل.
فإن دخل عابد وثن في دين أهل كتاب قبل النسخ وله ابنان صغير وكبير
فأقاما على عبادة الأوثان، ثم جاء الإسلام ونسخ كتابهم، فإن الصغير إذا بلغ
وقال: إنني على دين أبي وأبذل الجزية أقر عليه لأنه تبع أباه في الدين، وأما
الكبير، فإن أراد أن يقيم على دين أبيه ويبذل الجزية لم يقبل منه، لأن له حكم
نفسه ودخوله في الدين بعد النسخ لا يصح.
فإن كانت المسألة بحالها ودخل أبوهما في دين أهل الكتاب ثم مات ثم
جاء الإسلام وبلغ الصبي واختار دين أبيه ببذل الجزية أقر عليه لأنه تبعه في دينه
فلا تسقط بموته، والكبير فلا يقر بحال لأن له حكم نفسه.
108

فصل: في كيفية عقد الجزية والأمان ومقدار الجزية ومن تجب عليه:
الأمان على ضربين: هدنة وعقد جزية.
فالهدنة عقد أمان إلى مدة إما على عوض أو على غير عوض، وسنبين حكمه
فيما بعد.
وأما عقد الجزية فهو الذمة ولا يصح إلا بشرطين: التزام الجزية وأن يجري
عليهم أحكام المسلمين مطلقا من غير استثناء.
فالتزام الجزية وضمانها لا بد منه لقوله تعالى: قاتلوا الذين لا يؤمنون، إلى
قوله: حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وحقيقة الإعطاء هو الدفع غير أن
المراد هاهنا الضمان وإن لم يحصل الدفع.
وأما التزام أحكامنا وجريانها عليهم فلا بد منه أيضا وهو الصغار المذكور في
الآية، وفي الناس من قال: الصغار هو وجوب جري أحكامنا عليهم، ومنهم من
قال: الصغار أن تؤخذ منه الجزية قائما والمسلم جالس.
وليس للجزية حد محدود ولا قدر مقدور، بل يضعها الإمام على أراضيهم أو
على رؤوسهم على قدر أحوالهم من الضعف والقوة بمقدار ما يكونون صاغرين به،
وقد روى أصحابنا أن أمير المؤمنين عليه السلام وضعها على الموسر ثمانية
وأربعين درهما، وعلى المتوسط أربعة وعشرين درهما، وعلى المتحمل اثني عشر
درهما، والمذهب الأول، فإنما فعل علي عليه السلام ذلك اتباعا لمن تقدمه أو لما
رآه في الحال من المصلحة.
والفقير الذي لا شئ معه تجب عليه الجزية لأنه لا دليل على إسقاطها عنه،
وعموم الآية يقتضيه، ثم ينظر، فإن لم يقدر على الأداء كانت في ذمته فإذا استغنى
أخذت منه الجزية من يوم ضمنها، وعقد العقد له بعد أن يحول عليه الحول.
وأما النساء والصبيان والبله والمجانين فلا جزية عليهم بحال.
إذا عقد الصلح على بلد من بلاد الحرب على أن تكون الأرض لنا أو لهم
وعقد لهم الذمة بجزية اتفقوا عليها، فيجوز أن يشرط عليهم ضيافة من مر بهم من
109

المسلمين مجاهدين وغير مجاهدين، لأن النبي صلى الله عليه وآله ضرب على
نصارى أيلة ثلاث مائة دينار وأن يضيفوا من مر بهم من المسلمين ثلاثا ولا يغشوا.
فإذا ثبت ذلك احتاج إلى شرطين:
أحدهما: أن يكون ذلك زائدا على أقل ما يجب عليهم من الجزية، وأن
يكون معلوم المقدار، وإنما قلنا ذلك لأن الضيافة ربما لم تتفق فيحصل الجزية
أقل مما يجب عليهم.
ولا يضرب الضيافة عليهم إلا برضاهم، لأن الأصل بالجزية أن لا تتم إلا
بالتراضي فإذا التزموها ورضوا بها لم يكن لهم بعد ذلك الامتناع منها، فإن
امتنعوا نقضوا العقد بذلك وينبذ إليهم، فإن طلبوا بعد ذلك أن يعقد العقد على
أقل ما يكون من الجزية أجيبوا إليه، وإن التزموا زيادة على ما يكون أقل الجزية
لزمهم ذلك، فإن امتنعوا بعد ذلك قوتلوا عليه، فإن مانعوا نقضوا العهد، فإن
طلبوا بعد ذلك العقد على أقل ما يراه الإمام أن تكون جزية لهم لزمه إجابتهم
إليه، ولا يتعين ذلك بدينار أو أقل أو أكثر على ما بيناه.
والشرط الثاني: أن يكون معلوما لأنه لا يصح العقد على مجهول، ويصير
معلوما بأن يكون عدد أيام الضيافة من الحول معلومة، فيقال لهم: يضيفون من
السنة خمسين يوما أو أقل أو أكثر، ويكون عدد من يضاف معلوما فيقال: كذا
وكذا نفسا من الرجال ومن الفرسان كذا وكذا، ويكون القوت معلوما لكل
رجل كذا وكذا رطلا من الخبز، وكذا من الأدم من لحم وجبن وسمن وزيت
وشيرج، ويكون مبلغ الأدم معلوما، ويكون علف الدواب معلوما - القت
والشعير والتبن وغير ذلك - لكل دابة شئ معلوم.
فإن نزلوا بهم ولم يوفوا مبلغ العلف فأقروا أن الصلح وقع على علف
الدواب لم يجب عليهم الحب، بل يلزمهم أقل ما يقع عليه اسم العلف من تبن
وقت، ثم ينظر في حالهم، فإن كانوا متساوين في قدر الجزية لم يفضل بعضهم
على بعض في الضيافة بل ينزل على كل واحد منهم مثل ما ينزل على الآخر،
110

وإن كانوا متفاضلين في الجزية كانت الضيافة أيضا مثل ذلك ومبلغ الضيافة
ثلاثة أيام - لما تضمنه الخبر - وما زاد عليه فهو مكروه.
وأما موضع النزول فينبغي أن يكون في فضول منازلهم وبيعهم وكنائسهم،
ويؤمرون بأن يوسعوا أبواب البيع والكنائس لمن يجتاز بهم من المسلمين، وأن
يعلوا أبوابها ليدخلها المسلمون ركبانا، فإن لم تسعهم بيوت الأغنياء نزلوا في
بيوت الفقراء ولا ضيافة عليهم، وإن لم يسعهم لم يكن لهم إخراج أرباب المنازل
منها، فإن كثروا وقل من يضيفهم فمن سبق إلى النزول كان أحق به وأولى، وإن
قلنا: يستعملون القرعة، كان أحوط، وكذلك إن جاؤوا معا أقرع بينهم، فإن
نزلوا بعد ذلك بقوم آخرين من أهل الذمة قروا الذين لم يقروا، وينزل الذين
قروا.
فإن مات الإمام قام غيره مقامه، ويثبت عنده مبلغ الجزية وما صولحوا عليه
من الضيافة أقرهم على ما كانوا عليه ولم يغير عليهم إلا بعد انقضاء المدة، ثم له
الخيار بعد ذلك ويثبت عنده ذلك بأن يوصي إليه الإمام المتقدم أو يشهد به
مسلمان عدلان، فإن لم يوجد ذلك رجع إلى قولهم فما يخبرون به يعمل به، فإن
كان له فيما بعد خلاف ما قالوا طالبهم بما مضى.
وقد بينا أن الجزية لا تؤخذ من المرأة، ولا جنون حتى يفيق، ولا مملوك
حتى يعتق، فإذا ثبت أن المرأة لا جزية عليها، فإن أبقت من دار الحرب تطلب أن
يعقد لها الذمة لتصير إلى دار الإسلام عقد لها الذمة بشرط أن يجري عليها
أحكامنا، ولا يشرط عليها الجزية، ولا فضل بين أن تجئ وحدها أو معها غيرها،
فإن بذلت الجزية وسألت عقد الذمة لها بالجزية عرفها الإمام أنه لا جزية عليها،
فإن قالت: عرفت هذا غير أني أختار أن أؤدي، قبل ذلك منها ويكون هبة لا
جزية، يلزم بالقبض وإن امتنعت قبل الإقباض لم تجبر عليه.
ولو أن أهل الدار من أهل الكتاب معهم النساء والصبيان، فامتنع الرجال
من الصلح على غير الجزية وبذلوا أن يصالحوا على أن الجزية على النساء
111

والولدان لم يجز، لأن النساء والصبيان مال والمال لا تؤخذ منه الجزية، فإن
صالحهم على ذلك بطل الصلح ولا يلزم النساء بشئ، فإن طلب النساء ذلك
ودعوا إلى أن تؤخذ منهن الجزية ويكون الرجال في أمان لم تصح منهن الجزية.
فإن قتل الرجال وسألت النساء أن يعقد لهن ليكن ذميات في دار الإسلام
عقد لهن بشرط أن تجري أحكامنا عليهن، وليس له سبيهن ولا أن يأخذ منهن
شيئا، فإن أخذ شيئا رده، وقد قيل: إنه يحتال عليهن حتى يفتحوا فيسبين ولا يعقد
لهن الأمان.
فأما المملوك فلا جزية عليه لقوله عليه السلام: لا جزية على العبيد، ولا
يكون الإمام فيه بالخيار إذا وقع في الأسر بل يملك، فإن أعتق قيل له: لا تقر في
دار الإسلام حولا بلا جزية، فإما أن يسلم أو يعقد الذمة.
وأما المجنون فلا جزية عليه لأنه غير مكلف، ثم ينظر في جنونه، فإن كان
مطبقا فلا شئ عليه، وإن كان يجن في بعض الحول ويفيق في بعض حكم
للأغلب وسقط الأقل، وقد قيل: إنه يلفق أيام الإفاقة فإذا بلغت سنة أخذت منه
الجزية، فأما إن أفاق نصف الحول وجن نصفه، فإن كانت الإفاقة في الأول وجن
فيما بعد وأطبق فلا جزية عليه لأنه ما تم الحول، وإن كان جنونه في الأول وإفاقته
في باقيه واستمرت الإفاقة فإنه إذا حال الحول من وقت الإفاقة أخذت منه الجزية.
وأما الصبي فلا جزية عليه، فإذا بلغ بالسن أو بالاحتلام أو بالإنبات نظر،
فإن كان من أولاد عباد الأوثان قيل له: إما أن تسلم أو تنبذ إليك وتصير حربا،
وإن كان من أولاد أهل الكتاب قيل له: إما أن تسلم أو تبذل الجزية أو تنبذ إليك
وتصير حربا، فإن اختار الجزية عقد معه على حسب ما يراه الإمام ولا اعتبار بجزية
أبيه، فإذا حال الحول عليه من وقت العقد أخذ منه ما وقف عليه.
وإذا صالح الإمام قوما على أن يؤدوا الجزية عن أبنائهم سوى ما يؤدون عن
أنفسهم، فإن كانوا يؤدونه من أموالهم جاز ذلك ويكون ذلك زيادة في جزيتهم،
وإن كان ذلك من أموال أولادهم لا يجوز ذلك لأنه تضييع لأموالهم فيما ليس
112

بواجب عليهم.
وإذا اتجرت امرأة بمالها في غير الحجاز لم يكن عليها أن تؤدي شيئا إلا أن
تشاء هي، لأن لها أن تختار في ذلك المكان المقام وتقيم فيه بغير إذنه، فإن
قالت: أدخل الحجاز على شئ يؤخذ مني، وألزمته نفسها جاز ذلك لأنه ليس لها
دخول الحجاز والإقامة فيه، فإذا بذلت عن ذلك عوضا جاز ذلك، هذا عند من
قال: ليس للمشرك دخول الحجاز، وسأذكر ما عندي فيه.
إذا بلغ المولود سفيها من أهل الذمة مفسدا لماله ودينه أو أحدهما لم يقر في
دار الإسلام بلا جزية، لعموم الآية، فإن اتفق مع وليه على جزية عقداها جاز، وإن
اختلف هو والولي قدمنا قوله على قول وليه لأنه يتعلق بحقن دمه، فإن لم يعقد
لنفسه ذمة نبذناه إلى دار الحرب ويكون حربا لنا.
والشيخ الفاني والزمن وأهل الصوامع والرهبان الذين لا قتال فيهم ولا رأي
لهم تؤخذ منهم الجزية لعموم الآية، وكذلك إذا وقعوا في الأسر جاز للإمام
قتلهم، وقد روي أنه لا جزية عليهم.
المولود إذا بلغ في دار الإسلام وأبواه كافران نظر، فإن كانا من أهل الذمة
أو أحدهما يخالف الآخر في دينه، فإنه يستأنف معه عقد الجزية والأمان ولا
يحمل على جزية أبيه، فيقال له: أنت بالخيار بين أن تعقد أمانا على جزية تنفق
عليها أو تنصرف إلى دار الحرب، فإن انصرف إلى دار الحرب فلا كلام، وإن
رضي بعقد الجزية عقد معه على ما يراه في الحال، ولا اعتبار بجزية أبيه لأن له
حكم نفسه، إلا أنه في أمان لا يتعرض له ولماله إلى أن ينصرف أو يعقد الجزية.
وإذا تقرر عقد الجزية بينهما فإن كان أول الحول فإذا جاء الحول استوفاه،
وإن كان في أثناء الحول عقد له الذمة فإذا جاء حول أصحابه وجاء الساعي، فإن
أعطي بقدر ما مضى من حوله أخذ منه، وإن امتنع حتى يحول عليه الحول لم
يلزمه ذلك.
وأما إن كان أحد الأبوين يقر على دينه ببذل الجزية والآخر لا يقر - مثل أن
113

يكون من وثني وكتابي أو مجوسي - ألحق بأبيه، فإن كان وثنيا لم يقبل منه
الجزية، وإن كان كتابيا أو مجوسيا أخذ من الابن الجزية.
وإذا أسلم الذمي بعد الحول سقطت عنه الجزية، وإن مات لم تسقط عنه
وتؤخذ من تركته، فإن لم يترك شيئا فلا شئ على ورثته، وإن أسلم وقد مضى
بعض الحول فلا يلزمه شئ مثل ذلك، وإن مات قبل الحول لا يجب أخذها من
تركته، لأنها إنما تجب بحؤول الحول وما حال.
فأما المستأمن والمعاهد - فهما عبارتان عن معنى واحد، وهو من دخل إلينا
بأمان لا للبقاء والتأبيد - فلا يجوز للإمام أن يقره في بلد الإسلام سنة بلا جزية
ولكن يقره أقل من سنة على ما يراه بعوض أو غير عوض، فإن خاف الإمام منه
الخيانة نقض أمانه ورده إلى مأمنه لقوله تعالى: وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ
إليهم على سواء.
فصل: فيما يشرط على أهل الذمة:
المشروط في عقد الذمة ضربان: أحدهما: يجب عليهم فعله، والآخر: يجب
عليهم الكف عنه.
فما يجب عليهم فعله على ضربين: أحدهما بذل الجزية، والآخر التزام أحكام
المسلمين. ولا بد من ذكر هذين الشرطين في عقد الجزية لفظا ونطقا، فإن أغفل
ذكرهما أو ذكر أحدهما، لم ينعقد لقوله تعالى: حتى يعطوا الجزية عن يد وهم
صاغرون، والصغار التزام أحكام المسلمين وإجراؤها عليهم.
وأما ما يجب الكف عنه فعلى ثلاثة أضرب: ضرب فيه منافاة الأمان،
وضرب فيه ضرر على المسلمين، وضرب فيه إظهار منكر في دار الإسلام. فذكر
هذه الأشياء كلها تأكيد وليس بشرط في صحة العقد.
فأما ما فيه منافاة الأمان، فهو أن يجتمعوا على قتال المسلمين، فمتى فعلوا
ذلك نقضوا العهد، وسواء شرط ذلك في عقد الذمة أو لم يشرط، لأن شرط
114

الذمة يقتضي أن يكونوا في أمان من المسلمين والمسلمون في أمان منهم.
وأما ما فيه ضرر على المسلمين يذكر فيه ستة أشياء: أن لا يزني بمسلمة، ولا
يصيبها باسم نكاح، ولا يفتن مسلما عن دينه، ولا يقطع عليه الطريق، ولا يؤوي
للمشركين عينا، ولا يعين على المسلمين بدلالة أو بكتبه كتابا إلى أهل الحرب
بأخبار المسلمين ويطلعهم على عوراتهم.
فإن خالفوا شرطا من هذه الشرائط نظر، فإن لم يكن مشروطا في عقد الذمة
لم ينقض العهد، لكن إن كان ما فعله يوجب حدا أقيم عليه الحد وإن لم يوجبه
عزر، وإن كان مشروطا عليه في عقد الذمة كان نقضا للعهد لأنه فعل ما ينافي
الأمان.
فأما إذا ذكر الله تعالى أو نبيه بالسب فإنه يجب قتله ويكون ناقضا للعهد،
وإن ذكرهما بما دون السب أو ذكر دينه وكتابه بما لا ينبغي، فإن كان قد شرط
عليهم الكف عن ذلك كان نقضا للعهد، وإن لم يكن شرط عليهم لم يكن نقضا
للعهد وعزروا عليه.
وأما ما فيه إظهار منكر في دار الإسلام ولا ضرر على المسلمين فيه فهو
إحداث البيع والكنائس وإطالة البنيان وضرب النواقيس وإدخال الخنازير
وإظهار الخمر في دار الإسلام، فكل هذا عليه الكف عنه سواء كان مشروطا أو
غير مشروط فإن عقد الذمة يقتضيه، وإن خالفوا ذلك لم ينقض ذمته سواء كان
مشروطا عليه أو لم يكن، لكن يعزر فاعله أو يحد إن كان مما يوجب الحد، وقد
روى أصحابنا أنهم متى تظاهروا بشرب الخمر أو لحم الخنزير أو نكاح
المحرمات في شرع الإسلام نقضوا بذلك العهد.
وكل موضع قلنا ينتقض عهدهم فأول ما يعمل به أن يستوفى منه بموجب
الجرم، ثم بعد ذلك يكون الإمام بالخيار بين القتل والاسترقاق والمن والفداء،
ويجوز له أن يردهم إلى مأمنهم من دار الحرب ويكونوا حربا لنا، فيفعل فيهم ما
يراه صلاحا للمسلمين. وإن أسلم قبل أن يختار الإمام شيئا سقط عنه إلا ما يوجب
115

القود والحد، فإن أصحابنا رووا أن إسلامه لا يسقط عنه الحد، وإن أسلم بعد أن
استرقه الإمام لم ينفعه إسلامه.
وينبغي للإمام أن يشرط على أهل الذمة أنهم يفرقون بين لباسهم ولباس
المسلمين بفرق ظاهر يعرفون به يكون مخالفا للبسهم على حسب ما يراه من
المصلحة في الحال، فإن ألزمهم أن يلبسوا الملون جاز، ويأخذهم بشد الزنانير في
أوساطهم، فإن كان عليه رداء شده فوق جميع الثياب وفوق الرداء لكي لا يخفى
الزنار، ويجوز أن يلبسوا العمامة والطيلسان لأنه لا مانع من ذلك، فإن لبسوا
قلانس شدوا في رأسها علما ليخالف قلانس القضاة، وإن رأى أن يختم في رقابهم
نحاسا أو رصاصا أو جرسا جاز.
وكذلك ينبغي أن يأمر نساءهم بلبس شئ يفرق بينهن وبين المسلمات من
شد الزنار وتجنب الإزار وتغير أحد الخفين - بأن يكون أحدهما أحمر والآخر
أبيض - وتجعل في رقبتها خاتما لتعرف به إذا دخلت الحمام. وجملته أن ذلك
من رأي الإمام واجتهاده ولا نص لنا في شئ من ذلك بل يفعل من ذلك ما
يراه، روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال في أهل الذمة: لا تبدأوهم بالسلام
واضطروهم إلى أضيق الطرق.
وإذا عقد الإمام الذمة وعرف مبلغها كتب أسماءهم وأنسابهم وأديانهم
ويكتب حلاهم لئلا يشكل الأمر عليه فيدلسوا، فإذا فعل ذلك، فإن أراد أن
يعرف على كل عدد عريفا على ما يراه من عشرة وعشرين يرعى أمورهم ويضبط من
يدخل في الجزية ومن يخرج عنها فعل، وإن تولاها بنفسه جاز.
ومتى مات الإمام وقام بعده غيره، فإن كان الأول أقر أهل الذمة على أمر
معلوم مدة معلومة أمضاه ولم يكن له نقضه، وإن لم يكن ذلك أو لم يثبت عنده
ابتدأهم بعقد الذمة، وإن كان عقد الأول وثبت فإذا انقضت المدة كان له أن
يستأنف عقدا آخر بزيادة أو نقصان على ما يراه من المصلحة، وإن كان الإمام
الأول عقد لهم الذمة على التأبيد انعقد ولم يكن للثاني تغيير شئ منه.
116

فصل: في حكم البيع والكنائس، وحكم البلاد والمساجد:
البلاد التي ينفذ فيها حكم الإسلام على ثلاثة أضرب: ضرب أنشأه المسلمون
وأحدثوه، وضرب فتحوه عنوة، وضرب فتحوه صلحا.
فأما البلاد التي أنشأها المسلمون - مثل البصرة والكوفة - فلا يجوز للإمام
أن يقر أهل الذمة على إنشاء بيعة أو كنيسة ولا صومعة راهب ولا مجتمع
لصلاتهم، فإن صالحهم على شئ من ذلك بطل الصلح بلا خلاف. والبلاد التي
فيها البيع والكنائس كانت في الأصل قبل بنائها.
وأما البلاد التي فتحت عنوة، فإن لم تكن فيها بيع ولا كنائس أو كانت
لكن هدموها وقت الفتح فحكمها حكم بلاد الإسلام، لا يجوز صلحهم على
إحداث ذلك فيها، وإن كانت فيها بيع وكنائس فصالح الإمام أهل الذمة على
المقام فيها بإقرار بيعه وكنائسه على ما هي عليه لم يصح، لأنهم قد ملكوها بالفتح
فلا يصح إقرارهم على البيع والكنائس فيها مثل الأول.
وأما ما فتح صلحا فهو على ضربين:
أحدهما أن يصالحهم على أن تكون البلاد ملكا لهم ويكونوا فيها مواد عين
على مال بذلوه وجزية عقدوها على أنفسهم، فهاهنا يجوز إقرارهم على بيعهم
وكنائسهم وإحداثها وإنشائها وإظهار الخمور والخنازير وضرب النواقيس فيها
كيف شاءوا لأن الملك لهم يصنعون به ما أحبوا، بل يمنعون من إظهار الستة
الأشياء التي تقدم ذكرها.
وإن كان الصلح على أن يكون ملك البلد لنا والسكنى لهم على جزية
التزموها، فإن شرط لهم أن يقرهم على البيع والكنائس على ما كانت عليه جاز،
وكذلك إن صالحهم على إحداث البيع والكنائس جاز، وإن لم يشرط ذلك
لهم لم يكن لهم ذلك لأنها صارت للمسلمين.
والموضع الذي قلنا أن له إقرارهم على ما هي عليه إن انهدم منها شئ لم
يجز لهم إعادتها لأنه لا دليل على ذلك، وبناؤها محرم ممنوع منه، وإن قلنا أن
117

لهم ذلك كان قويا لأنا أقررناهم على التبقية، فلو منعناهم من العمارة لخربت.
وأما دور أهل الذمة فعلى ثلاثة أضرب: دار محدثة، ودار مبتاعة، ودار
مجددة.
فأما المحدثة - فهو أن يشتري عرصة يستأنف فيها بناء - فليس له أن يعلو
على بناء المسلمين لقوله عليه السلام: الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، فإن ساوى بناء
المسلمين ولم يعل عليه فعليه أن يقصره عنه، وقيل: إنه يجوز ذلك، والأول
أقوى.
وأما الدور المبتاعة فإنها تقر على ما كانت عليه، لأنه هكذا ملكها.
وأما البناء الذي يعاد بعد انهدامه فالحكم فيه كالحكم في المحدث ابتداء،
لا يجوز أن يعلو به على بناء المسلمين والمساواة على ما قلناه. ولا يلزم أن يكون
أقصر من بناء المسلمين من أهل البلد كلهم، وإنما يلزمه أن يقصر عن بناء محلته.
والمساجد على ثلاثة أضرب: مسجد الحرام، ومسجد الحجاز، ومسجد
سائر البلاد.
فأما مسجد الحرام - فهو عبارة عن الحرم عند الفقهاء - فلا يدخلن مشرك
الحرم بحال لقوله تعالى: إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد
عامهم هذا.
وأما مسجد الحجاز فليس لهم دخوله إلا على ما سنبينه فيما بعد.
فأما سائر المساجد، فإن أرادوا دخولها للأكل والنوم وما أشبه ذلك منعوا
منها، وإن دخولها لاستماع قرآن وعلم حديث منعوا منها لأنهم أنجاس والنجاسة
تمنع المساجد، وقد قيل: إنهم يدخلونها لذلك لكن بإذن، والمذهب أنه ليس
لهم ذلك ولا لأحد أن يأذن لهم في ذلك. فإن قدم وفد من المشركين على
الإمام أنزلهم في فضول منازل المسلمين، وإن لم يكن لهم فضول منازل جاز أن
ينزلهم في دار ضيافة إن كانت، وإن لم تكن جاز للإمام أن ينزلهم في المساجد
لأن رسول الله صلى الله عليه وآله أنزل سبي بني قريظة والنضير في مسجد المدينة
118

حتى أمر ببيعهم، والأحوط أن لا ينزلهم فيها، وهذا الفعل من النبي صلى الله عليه
وآله كان في صدر الإسلام قبل نزول الآية التي تلوناها.
كل مشرك ممنوع من الاستيطان في حرم الحجاز من جزيرة العرب، فإن
صولح على أن يقيم بها ويسكنها كان الصلح باطلا لما روى ابن عباس، قال:
أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله بثلاثة أشياء فقال: أخرجوا المشركين من
جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بما كنت أجيزهم، وسكت عن الثالث وقال:
أنسيتها، وهي مسألة إجماع.
والمراد بجزيرة العرب الحجاز لا جزيرة العرب كلها، لأنه لا خلاف أنهم لا
يخرجون من اليمن وهي من جزيرة العرب، قال الأصمعي: حد جزيرة العرب من
عدن إلى ريف عبادان طولا، ومن تهامة وما والاها إلى أطراف الشام عرضا،
وكذلك قال أبو عبيدة وغيره، وقال بعضهم: الحجاز مكة والمدينة واليمن
ومخالفيها.
فأما دخولهم الحجاز لحاجة أو عابر سبيل فالحرم يمنعون من الاجتياز به
بكل حال، وقيل: إن لهم دخوله للاجتياز والامتيار إليه بعد أن لا يقيموا فيها،
والأول أقوى للآية.
فإن وافى ومعه ميرة بعث بها مع مسلم، وإن كان معه رسالة ورد بها خرج
إليه مسلم فسمعها منه، وإن كان لا بد أن يشافه الإمام خرج إليه الإمام فسمعها
منه، فإن خالف ودخل الحرم أخرج فإن عاد عزر، وإن مرض أخرج منه، وإن
مات أخرج ودفن في الحل، فإن دفن فيه قيل: إنه ينبش ما لم يتقطع، والأولى
تركه لأن النبش ممنوع منعا عاما. فإن أذن له الإمام في الدخول على عوض
وافقه عليه جاز له ذلك ووجب عليه دفعه إليه، وإن كان خليفة الإمام ووافقه على
عوض فاسد بطل المسمى ولزمه أجرة المثل.
فأما غير الحرم من الحجاز فليس لأحد منهم دخوله بغير إذن الإمام ولا
يحرم الاجتياز فيه لأنه لا دليل عليه، فإن اجتاز فيها لم يمكن من المقام فيها أكثر
119

من ثلاثة أيام، فإن انتقل من بلد إلى بلد في الحجاز وأقام في كل بلد ثلاثة أيام لم
يمنع منه، وركوب بحر الحجاز لا يمنعون منه، وإن كان في الحجاز جزائر
وجبال منعوا من سكناها، وكذلك حكم سواحل الحجاز، لأنها في حكم البلاد.
لا يجوز للحربي أن يدخل دار الإسلام إلا بإذن الإمام، ويجوز أن يدخلها
بغير إذنه لمصلحة من أداء رسالة أو عقد هدنة وما أشبه ذلك، فإن دخل بعضهم
فلا يخلو من أن يدخل بإذن أو بغير إذن.
فإن كان بغير إذن، فإن لم يدع أنه دخل في رسالة أو أمان كان للإمام قتله
واسترقاقه وسبي ماله لأنه حربي لا أمان له ولا عهد، وإن ادعى أنه دخل في رسالة
أو أمان مسلم قبل قوله في الرسالة لأنها لا يمكن أن يعلم إلا من جهته، فإن ادعى
أنه دخلها بأمان من مسلم لا يقبل قوله لأنه يمكنه أن يقيم عليه بينة، وقيل: إنه
يقبل قوله لأن الظاهر أن الحربي لا يدخل بلد الإسلام إلا بأمان والأول أقوى.
فأما إن استأذن في الدخول، فإن كان في رسالة بعقد هدنة أو أمان إلى مدة
ترك بغير عوض، وإن كان لنقل ميرة إلى المسلمين بهم غنى عنها أو لتجارة لم
يجز تركه إلا بعوض يشرط عليه حسب ما يراه الإمام من المصلحة سواء كان
عشرا أو أقل أو أكثر. فإذا دخلوا بلد الإسلام فلا يجوز أن يظهروا منكرا كالخمر
والخنازير وما أشبه ذلك.
وأما أهل الذمة إذا اتجروا في سائر بلاد الإسلام ما عدا الحجاز لم يمنعوا من
ذلك لأنه مطلق لهم، ويجوز لهم الإقامة فيها ما شاءوا، وأما الحجاز فلا يدخلون
الحرم منه على حال، وما عداه على ما قدمناه في دخول أهل الحرب بلاد الإسلام
في أكثر الأحكام، فلا يجوز أن يدخلوها إلا بإذن، فإن دخلوه بغير إذن عزروا ولا
يقتلون ولا يسترقون كأهل الحرب لأن لهم ذمة، وإن دخلوها بإذن نظر، فإن كان
لمصلحة المسلمين مثل رسالة لعقد ذمة أو هدنة أو نقل ميرة بالمسلمين حاجة إليها
دخلوها بغير عوض، وإن كان بالمسلمين غنى فالحكم فيها وفي دخوله للتجارة
واحد ليس له تمكينهم بغير عوض، فإذا دخل فلا يقيم الذمي في بلد من بلاد
120

الحجاز أكثر من ثلاثة أيام. والحربي يقيم ببلاد الإسلام ما شاء.
إذا دخل أهل الذمة الحجاز أو أهل الحرب دخلوا بلد الإسلام من غير شرط
فإن للإمام أن يأخذ منهم مثل ما لو دخلوها بإذن، وقيل: ليس له أن يأخذ منهم
شيئا، وهو قوي لأن الأصل براءة الذمة، وقيل: إنهم يعاملون بما يعامل المسلمون
إذا دخلوا بلاد الحرب سواء.
إذا اتجر أهل الذمة في الحجاز فإنه يؤخذ منهم ما يجب عليهم في السنة مرة
واحدة بلا خلاف، وأما أهل الحرب إذا اتجروا في بلاد الإسلام فالأحوط أن
يؤخذ منهم في كل دفعة يدخلونها لأنهم ربما لا يعودون، وقيل: إنه لا يؤخذ منهم
إلا في السنة دفعة واحدة، ويكتب لهم براءة إلى مثله من الحول لتبرأ ذمتهم من
المطالبة يكون وثيقة مدة ليعلم بذلك من يأتي بعده ويقوم مقامه.
وأما نصارى تغلب - وهم تنوخ ونهد وتغلب، وهم من العرب انتقلوا إلى دين
النصارى - فأمرهم مشكل، والظاهر يقتضي أنه تجري عليهم أحكام أهل الكتاب
لأنهم نصارى، غير أن مناكحتهم وذبائحهم لا تحل بلا خلاف، وينبغي أن تؤخذ
منهم الجزية ولا تؤخذ منهم الزكاة لأن الزكاة لا تؤخذ إلا من مسلم.
ومصرف الجزية مصرف الغنيمة سواء المجاهدين، وكذلك ما يؤخذ منهم
على وجه المعاوضة لدخول بلاد الإسلام لأنه مأخوذ من أهل الشرك. فصل: في ذكر المهادنة وأحكامها
الهدنة والمعاهدة واحدة، وهو وضع القتال وترك الحرب إلى مدة من غير
عوض، وذلك جائز لقوله تعالى: وإن جنحوا للسلم فاجنح لها، ولأن النبي صلى
الله عليه وآله صالح قريشا عام الحديبية على ترك القتال عشر سنين.
فإذا ثبت جوازه فالكلام في فصلين: أحدهما: في بيان الموضع الذي يجوز
ذلك فيه والذي لا يجوز، والثاني: بيان المدة.
وليس يخلو الإمام من أن يكون مستظهرا أو غير مستظهر، فإن كان
121

مستظهرا وكان في الهدنة مصلحة للمسلمين ونظر لهم - بأن يرجو منهم الدخول
في الإسلام أو بذل الجزية - فعل ذلك، وإن لم يكن فيه نظر للمسلمين بل كانت
المصلحة في تركه - بأن يكون العدو قليلا ضعيفا وإذا ترك قتالهم اشتدت
شوكتهم وقووا - فلا تجوز الهدنة لأن فيها ضررا على المسلمين.
فإذا هادنهم في الموضع الذي يجوز فيجوز أن يهادنهم أربعة أشهر بنص
القرآن العزيز وهو قوله تعالى: فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، ولا يجوز إلى سنة
وزيادة عليها بلا خلاف، لقوله تعالى: فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين
حيث وجدتموهم، فاقتضى ذلك قتلهم بكل حال وخرج قدر الأربعة أشهر
بدليل الآية الأولى وبقى ما عداه على عمومه، فأما إذا كانت المدة أكثر من أربعة
أشهر وأقل من سنة فالظاهر المتقدم يقتضي أنه لا يجوز، وقيل: إنه يجوز مثل مدة
الجزية.
فأما إذا لم يكن الإمام مستظهرا على المشركين بل كانوا مستظهرين عليه
لقوتهم وضعف المسلمين، أو كان العدو بالبعد منهم وفي قصدهم التزام مؤن
كثيرة، فيجوز أن يهادنهم إلى عشر سنين لأن النبي صلى الله عليه وآله هادن
قريشا عام الحديبية إلى عشر سنين ثم نقضوها من قبل نفوسهم، فإن هادنهم إلى
أكثر من عشر سنين بطل العقد فيما زاد على العشر سنين وثبت في العشر سنين.
ولا بد من أن تكون مدة الهدنة معلومة، فإن عقدها مطلقة إلى غير مدة كان
العقد باطلا لأن إطلاقها يقتضي التأبيد وذلك لا يجوز في الهدنة، فأما إن هادنهم
على أن الخيار إليه متى شاء نقض فإنه يجوز، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله
أنه فتح خيبر عنوة إلا حصنا منها فصالحوه على أن يقرهم ما أقرهم الله، وروي أنه
قال لهم: نقركم ما شئنا.
والحربي إذا أراد أن يدخل بلد الإسلام رسولا أو مستأمنا، فإن كان لقضاء
حاجة من نقل ميرة أو تجارة أو أداء رسالة ولم يطلب مدة معلومة جاز أن يدخل
يوما ويومين وثلاثة إلى العشرة، فإن أراد أن يقيم مدة فالحكم فيه كالحكم في
122

الإمام إذا أراد أن يعقد الهدنة وهو مستظهر وكان في ذلك نظر للمسلمين فيجوز
إلى أربعة أشهر على ما قدمناه بلا زيادة.
إذا أراد الإمام ترك القتال والموادعة على مال يبذله للمشركين، فإن لم يكن
مضطرا إلى ذلك لم يجز - سواء كان من حاجة أو غير حاجة - لقوله تعالى:
حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، والجزية تؤخذ من المشركين صغارا فلا
يجوز أن نعطيهم نحن ذلك، وإن كان مضطرا كان ذلك جائزا. والضرورة من
وجوه:
منها أن يكون أسير في أيديهم يستهان به ويستخدم ويسترق ويضرب،
فيجوز للإمام أن يبذل المال ويستنقذه من أيديهم لأن فيه مصلحة من استنقاذه
نفسا مؤمنة من العذاب.
ومنها أن يكون المسلمون في حصن وأحاط بهم العدو وأشرفوا على الظفر
بهم، أو كانوا خارجين من المصر وقد أحاط العدو بهم، أو لم يحط لكنه ما كان
مستظهرا عليهم فيجوز هاهنا أن يبذل المال على ترك القتال لأن النبي صلى الله
عليه وآله شاور في مثل هذا عام الخندق وأراد أن يصالحهم على شطر ثمار
المدينة حتى امتنع الأنصار من ذلك فثبت جوازه. فإذا أخذ المشركون هذا المال
لم يملكوه، فإن ظفر بهم فيما بعد كان مردودا إلى موضعه.
إذا صالح أهل الذمة على ما لا يجوز المصالحة عليه - مثل أن يصالحهم على
أن لا تجري عليهم أحكامنا، أو لا يمتنعوا من إظهار المناكير، أو على أن لا يردوا
ما يأخذونه من الأموال، أو أن يرد إليهم من جاء من عندهم مسلما مهاجرا، أو
يأخذ جزية أقل مما يحتمل حالهم وما أشبه ذلك - كان ذلك كله باطلا وعلى
من عقد الصلح نقضه وإبطاله، لأن النبي صلى الله عليه وآله عقد الصلح عام
الحديبية على أن يرد إليهم كل من جاء منهم مسلما مهاجرا فمنعه الله تعالى من
ذلك ونهاه عنه بقوله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات
مهاجرات... الآية.
123

فإذا ثبت هذا فكل من جاء من المشركين مسلما مهاجرا وكان قد شرط
الإمام رد من جاء منهم فإنه إن كان له رهط وعشيرة يأمن أن يفتنوه عن دينه جاز
له رده، وإن لم يكن له رهط وعشيرة ولا يأمن أن يفتن عن دينه لم يجز رده، فإذا
ثبت أنه لا يجب رد من لا عشيرة له لا يجب رد البذل عنه.
وإذا وقعت الهدنة على وضع الحرب وكف النقض عن البعض فجاءتنا
امرأة منهم مسلمة مهاجرة لا يجوز ردها بحال، سواء كان شرط ردها أو لم يشرط،
وسواء كان لها رهط وعشيرة أو لم يكن، لأن رهطها وعشيرتها لا يمنعونها من
التزويج بالكافر وذلك غير جائز وتفارق بذلك الرجل.
فإذا ثبت أنها لا ترد، فإن جاء غير زوجها يطلبها - إما الأب أو الأخ أو
العم - أو الزوج ولم يكن أقبضها المهر فإنه لا يرد عليه شئ، وإن جاء زوجها
وكان قد دفع إليها مهرها وطالب بالمهر رد عليه لقوله تعالى: فلا ترجعوهن إلى
الكفار، ثم قال عز وجل: وآتوهم ما أنفقوا، وقد قال أكثر الفقهاء: لا يرد لأن
فوت البضع ليس بمال ولا في معنى المال، فلا يجب رده، وهذا قياس ونحن لا
نترك الظاهر للقياس.
فإذا ثبت أنه يرد المهر فجاءتنا امرأة مهاجرة مسلمة نظر، فإن كان غير
الزوج أو الزوج ولم يدفع المهر أو لم يسم المهر لا يرد عليه شئ لأن الله تعالى
قال: وآتوهم ما أنفقوا، وهذا ما أنفق، وإن كان قد سمى مهرا فاسدا وأقبضها
- كالخمر والخنزير وغيره - لم يكن له المطالبة لأنه ليس بمال ولا قيمة له في
شرعنا، وإن كان أقبضها مهرا صحيحا كان له المطالبة بما دفع إليها للآية، هذا إذا
قدمت إلى بلد الإمام أو بلد خليفته ومنع من ردها، وأما إذا قدمت إلى غير بلدهما
فمنع غير الإمام وغير خليفته من ردها فلا يلزم الإمام أن يعطيهم شيئا - سواء كان
المانع من ردها العامة أو رجال الإمام - لأن البذل يعطي الإمام من المصالح فلا
يتصرف غير الوالي فيه. وأما ما أنفقه في غير المهر من نفقة عرس وكرامة فإنه لا
يرد لأنه تطوع به.
124

فإن قدمت مجنونة أو عاقلة فجنت لم يجب الرد لأنه ربما تكون قد أسلمت
وجنت بعد الإسلام فلا يجوز ردها احتياطا، والمهر إن كانت جنت بعد إسلامها
فله مهرها، فإن لم يعلم كيف كان الأمر لم يعط شيئا من المهر لجواز أن تفيق
فتقول أنها لم تزل كافرة فترد عليه، ويتوقف عن الرد حتى تفيق وتبين أمرها، فإذا
أفاقت سئلت، فإن ذكرت أنها أسلمت أعطي المهر، وإن ذكرت أنها لم تزل كافرة
ردت عليه.
فأما إن قدمت صغيرة فوصفت الإسلام فإنها لا ترد ولم يحكم بإسلامها،
لأنها إذا وصفت الإسلام رجونا أن تقيم عليه بعد بلوغها فإن ردت ربما فتنوها عن
دينها، فإن جاء زوجها يطلبها أو يطلب المهر فهي لا ترد، والمهر أيضا يتوقف رده
حتى تبلغ، فإن بلغت وأقامت على الإسلام رد المهر، وإن لم تقم ردت هي
وحدها.
فإن قدمت مسلمة وجاء زوجها يطلبها فارتدت فإنها لا ترد عليه، لأنه حكم
لها بالإسلام أولا ثم ارتدت فوجب عليها أن تتوب أو يفعل بها من الحبس ما
يفعل بالمرتدة، ويرد على زوجها المهر لأنا حلنا بينه وبينها.
فإن جاء زوجها يطلبها فمات أو ماتت، فإن كان مات أو ماتت قبل المطالبة
فلا شئ له لأنا ما حلنا بينه وبينها، وإن مات بعد المطالبة استقر له المهر، فإن
كانت الزوجة ماتت أعطي المهر لعموم الآية، وإن كان الزوج مات فالمهر
لورثته.
فإن قدمت مسلمة فطلقها زوجها بائنا أو خالعها قبل المطالبة بها لم يكن له
المطالبة بالمهر لأن الزوجية قد زالت فزالت الحيلولة، فإن كان الطلاق رجعيا
فراجعها عادت المطالبة بالمهر لأنها عادت زوجته.
فإن قدمت مسلمة فجاء زوجها فأسلم نظر، فإن أسلم في وقت يجتمعان فيه
على النكاح - بأن أسلم قبل انقضاء عدتها - ردت إليه، وإن كان طالب بمهرها
فأعطيناه كان عليه رده لأن المهر للحيلولة وما حللنا بينهما، وإن أسلم بعد انقضاء
125

عدتها لم يجمع بينهما ثم ينظر، فإن كان طالب بالمهر قبل انقضاء عدتها فمنعناه
كان له المطالبة لأن الحيلولة حصلت قبل إسلامه، وإن لم يكن طالب قبل انقضاء
العدة لم يكن له المطالبة بالمهر لأنه التزم حكم الإسلام وليس من حكم الإسلام
المطالبة بالمهر بعد البينونة. وهكذا إذا كانت غير مدخول بها وأسلم بعد ذلك
لم يكن له المطالبة بالمهر لأنه أسلم بعد البينونة وحكم الإسلام يمنع من وجوب
المطالبة في هذه الحال.
فإن قدمت أمة مسلمة مهاجرة ولها زوج لم ترد عليه لأن إسلامها يمنع من
ردها ويحكم بحريتها، فإن جاء سيدها يطلبها فلا يجب ردها ولا قيمتها، فأما
المهر، فإن كان زوجها حرا فله المطالبة به، وإن كان عبدا فلسيده المطالبة به.
إذا جاءت امرأة مسلمة فجاء زوجها فادعاها لم يثبت ذلك إلا بأحد شيئين:
إما بأن يشهد شاهدان مسلمان أنها زوجته، أو تعترف المرأة بذلك، فأما قول
المشركين وإن كثر عددهم فإنه لا يقبل.
فإذا ادعى دفع المهر وطالب به فإنه يثبت بشاهدين أو شاهد وامرأتين
أو شاهد ويمين، لأن المال يثبت بهذه البينات الثلاث.
فإن اختلفا في قدر المهر فلا ينظر إلى ما وقع به العقد وإنما ينظر إلى ما وقع
فيه القبض قليلا كان أو كثيرا، لأن الواجب رد ما وقع القبض عليه، فإن خالفته
في ذلك كان القول قولها أنها ما قبضت إلا هذا القدر لأن الأصل أن لا قبض،
فإن أعطيناه المهر بما ذكرنا فقامت البينة أن المقبوض كان أكثر كان له الرجوع
بالفضل.
وكل موضع يجب فيه رد المهر فإنه يكون ذلك من بيت المال المعد
للمصالح.
فأما رد الرجال، فإنه إن شرط في عقد الهدنة أن نرد من جاءنا من الرجال
نظر، فإن شرط رد من له رهط وعشيرة جاز ذلك لأنه لا يخاف أن يفتن عن دينه،
وإن شرط رد من لا عشيرة له كان الصلح فاسدا لأنه صلح على ما لا يجوز، فإن
126

أطلق رد الرجال ولم يفصل كان الصلح باطلا فاسدا لأنه صلح على ما لا يجوز،
لأن إطلاقه يقتضي رد الجميع وذلك باطل، فإذا بطل الصلح لم نرد من جاءنا
منهم رجلا كان أو امرأة، ولا يرد البذل عنها بحال لأن البذل استحق بشرط وهو
مفقود هاهنا كما لو جاءنا من غير هدنة.
وإذا رد من له عشيرة فمعنى الرد أن لا يكرهه على الرجوع ولا يمنعه إن
اختار ذلك، فيقول: لك في الأرض مراغم كثيرا وسعة، ولا يمنع منه من جاء
ليرده، ويوصيه أن يهرب، فإذا هرب منهم ولم يكن في قبضة الإمام لم يتعرض له،
فإن أبا بصير جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله فرده فهرب منهم وأتى النبي صلى
الله عليه وآله فقال: وفيت لهم ونجاني الله منهم، فلم يرده ولم يعب ذلك عليه
وتركه، وكان في طريق الشام يقطع على قريش حتى سألوا النبي صلى الله عليه
وآله أن يضمه إليه.
فإن قدم علينا مملوك لهم مسلما صار حرا، فإن جاء سيده يطلبه لم يجب
رد ثمنه لأنه صار حرا بالإسلام ولا دليل على وجوب رد ثمنه، فإن جاء صغير
فوصف الإسلام لم يرد لجواز أن يقيم على وصفه بعد البلوغ، وكذلك إن كان
عندنا لم يرد إليهم بل يترك الصبي حتى يبلغ، فإن وصف الإسلام وإلا أمرنا
بالانصراف، وهكذا المجنون بعد الإفاقة سواء.
لا يجوز لأحد أن يعقد عقد الهدنة والكف عن القتال لأهل إقليم أو صقع
من الأصقاع إلا الإمام أو من يقوم مقامه بأمره، وأما عقد الأمان لآحادهم والنفر
اليسير منهم فإنه يجوز لآحاد المسلمين على ما مضى في كتاب الجهاد.
فإن خالف غير الإمام من آحاد الأمة وعقد الهدنة لإقليم كانت الهدنة باطلة،
فكل من جاءنا بعد ذلك كان بمنزلة من جاء منهم وليس بيننا وبينهم عقد.
وإذا عقد الإمام الهدنة إلى مدة ومات وقام غيره مقامه لم يكن له نقض تلك
الهدنة إلى انقضاء مدتها.
إذا نزل الإمام على بلد وعقد معهم صلحا على أن يكون البلد لهم ويضرب
127

على أرضهم خراجا يكون بقدر الجزية ويلتزمون أحكامنا ويجريها عليهم كان
ذلك جائزا ويكون ذلك جزية ولا يحتاج إلى جزية الرؤوس، فمن أسلم منهم
سقط ما ضربه على أرضه من الصلح وصارت الأرض عشرية.
فإن شرط عليهم أن يأخذ منهم العشر من زرعهم على أنه متى قصر ذلك عن
أقل ما يقتضي المصلحة أن يكون جزية كان جائزا، وكذلك إن غلب في ظنه أن
العشر وفق للجزية كان جائزا، وإن غلب في ظنه أن العشر لا يفي بما توجبه
المصلحة من الجزية لا يجوز أن يعقد عليه، وإن أطلق ولا يغلب في ظنه الزيادة أو
النقصان فالظاهر من المذهب أنه يجوز، لأن ذلك من فروض الإمام واجتهاده فإذا
فعله دل على صحته لأنه معصوم.
فصل: في تبديل أهل الجزية دينهم:
من كان مقيما على دين ببذل الجزية فدخل في غير دينه وانتقل إليه لم
يخل، إما أن ينتقل إلى دين يقر أهله عليه ببذل الجزية، أو دين لا يقر عليه أهله.
فإن انتقل إلى دين يقر عليه أهله - كاليهودي ينتقل إلى النصرانية أو
المجوسية - فظاهر المذهب يقتضي أنه يجوز أن يقر عليه لأن الكفر عندنا كالملة
الواحدة، ولو قيل: إنه لا يقر عليه لقوله تعالى: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن
يقبل منه، ولقوله عليه السلام: من بدل دينه فاقتلوه، وذلك عام إلا من أخرجه
الدليل، كان قويا.
فإذا قلنا بالظاهر من المذهب وانتقل إلى بعض المذاهب أقر على جميع
أحكامه، وإن انتقل إلى مجوسية فمثل ذلك، غير أن على أصلنا لا يجوز
مناكحتهم بحال ولا أكل ذبائحهم، ومن أجاز أكل ذبائحهم من أصحابنا ينبغي
أن يقول: إن انتقل إلى اليهودية والنصرانية أكل ذبيحته، وإن انتقل إلى المجوسية
لا يؤكل ولا يناكح.
وإذا قلنا: لا يقر على ذلك - وهو الأقوى عندي - فإنه يصير مرتدا عن دينه،
128

ويطالب إما أن يرجع إلى الإسلام أو إلى الدين الذي خرج منه، ولو قيل أنه لا
يقبل منه إلا الإسلام أو القتل لكان قويا للآية والخبر، فعلى هذا إن لم يرجع إلى
الدين الذي خرج منه قتل ولم ينبذ إلى دار الحرب لأن فيه تقوية لأهل الحرب
وتكثيرا لعددهم.
وأما إذا انتقل إلى دين لا يقر عليه أهله كالوثنية فإنه لا يقر عليه، والأقوى أنه
لا يقبل منه إلا الإسلام، وعلى ما تقدم إن رجع إلى ما خرج منه أقر عليه،
وكذلك إن رجع إلى دين يقر عليه أهله أقر عليه، والأول أحوط، فإن أقام على
الامتناع فحكمه ما قدمناه من وجوب القتل عليه.
وأما أولاده، فإن كانوا كبارا أقروا على دينهم ولهم حكم نفوسهم، وإن كانوا
صغارا نظر في الأم، فإن كانت على دين يقر عليه أهله ببذل الجزية أقر ولده
الصغير في دار الإسلام سواء ماتت الأم أو لم تمت، وإن كانت على دين لا يقر
عليه أهله كالوثنية وغيرها فإنهم يقرون أيضا لما سبق لهم من الذمة، والأم لا يجب
عليها القتل.
فصل: في نقض العهد:
إذا عقد الإمام لعدة من المشركين عقد الهدنة إلى مدة فعليه الوفاء بموجب
ذلك إلى انقضاء المدة لقوله تعالى: أوفوا بالعقود، وعليهم أيضا الوفاء بذلك،
فإن خالف جميعهم في ذلك انتقضت الهدنة في حق الجميع، وإن وجد من
بعضهم نظر في الباقين، فإن لم يكن منهم إنكار بقول أو فعل ظاهر أو اعتزال
بلادهم أو مراسلة الإمام بأنهم على خلف كان ذلك نقضا للهدنة في حق
جميعهم، وإن كان منهم إنكار لذلك كما بيناه كان الباقون على صلحه دون
الناقضين لأن النبي صلى الله عليه وآله صالح قريشا فدخل في صلحه خزاعة وفي
صلحهم بنو بكر، ثم إن بني بكر قاتلوا خزاعة وأعانهم قوم من قريش وأعاروهم
السلاح فنقض رسول الله صلى الله عليه وآله الهدنة وسار إليهم ففتح مكة.
129

وأما إذا أنكر الباقون فالهدنة ثابتة في حقهم لأنه لا يضيع لهم فيما فعله، فإذا
ثبت هذا فكل موضع حكمنا أن الهدنة زالت في حق الكل فإنهم يصيرون بمنزلة
أهل الحرب الذين لم يعقد لهم هدنة، وللإمام أن يسير إليهم ويقاتلهم، وكل
موضع حكمنا بنقضها في حق بعض دون بعض نظر، فإن اعتزلوا وفارقوا
بلادهم سار الإمام إلى الناقضين وقاتلهم على ما ذكرناه، وإن لم يعتزلوهم ولم
يميزهم الإمام لم يكن للإمام أن يسير إليهم ليلا ولا يبيتهم لكن يميزهم ثم يقاتل
الباقين، فإن عرفهم فذاك، وإن أشكل عليه فالقول قولهم لأنه لا يتوصل إليه إلا
من جهتهم.
إذا خاف الإمام من المهادنين خيانة جاز له أن ينقض العهد لقوله تعالى:
وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء، ولا تنقض الهدنة بنفس الخوف
بل للإمام نقضها، فإذا نقضها ردهم إلى مأمنهم لأنهم دخلوا إليه من مأمنهم فكان
عليه ردهم إليه.
وإذا زال عقد الهدنة لخوف الإمام نظر فيما زال به، فإن لم يتضمن وجوب
حق عليه - مثل أن آوى لهم عينا أو عاون - رده إلى مأمنه ولا شئ عليه، وإن
كان ذلك يوجب حقا نظر، فإن كان حقا لآدمي - كقتل نفس وإتلاف مال -
استوفى ذلك منه، وإن كان حقا لله محضا - كحد الزنى وشرب الخمر - لم يقم
عليه بلا خلاف عند الفقهاء، وعندي أنه يجب أن يقيم عليه الحدود لعموم الآي،
وإن كان حقا مشتركا مثل السرقة قطعه.
قد بينا فيما تقدم أن على الإمام أن يغزو كل سنة أقل ما يجب عليه، وإن
كان أكثر من ذلك كان أفضل، ولا يجوز ترك ذلك إلا لضرورة: منها أن يقل
عدد المسلمين ويكثر المشركون فإنه يجوز تأخيره، ويجوز أيضا إذا توقع مجئ
مدد فيقوى بهم، أو يكون الماء والعلف متعذرا في طريقه فيجوز تأخيره حتى
يتسع، أو يرجو أن يسلم منهم قوم إذا بدأهم بالقتال لم يسلموا، ولهذا أخر النبي
صلى الله عليه وآله قتال قريش لهدنة، وأخر قتال أسد وطي ونمير بلا هدنة فثبت
130

جوازه.
وإذا عقد الذمة للمشركين كان عليه أن يذب عنهم كل من لو قصد
المسلمين لزمه أن يذب عنهم، ولو عقد الهدنة لقوم منهم كان عليه أن يكف عنهم
من تجري عليه أحكامنا من المسلمين وأهل الذمة، وليس عليه أن يدفع عنهم أهل
الحرب ولا بعضهم عن بعض. والفرق بينهما أن عقد الذمة يقتضي أن تجري
عليهم أحكامنا فكانوا كالمسلمين، والهدنة عقد أمان لا يتضمن جري الأحكام
فاقتضى أن يأمن من جهته من يجري عليه حكم الأمان دون غيره.
فإذا ثبت هذا فليس يخلو حالهم من أربعة أحوال: إما أن يكونوا في جوف
بلاد الإسلام، أو في طرف بلاد الإسلام، أو بين بلاد الإسلام وبلاد الحرب، أو في
جوف بلاد الحرب.
فإن كانوا في جوف بلاد الإسلام - كالعراق ونحوها - أو في طرف بلاد
الإسلام فعليه أن يدفع عنهم لأن عقد الذمة اقتضى ذلك، فإن شرط أن لا يدفع
عنهم لم يجز لأنه إن لم يدفع عنهم تخطى إلى دار الإسلام.
وإن كانوا بين بلاد الإسلام وبلاد أهل الحرب أو في جوف دار الحرب
فعليه أن يدفع عنهم إذا أمكنه ذلك لأن عقد الذمة اقتضى هذا، فإن شرط في عقد
الذمة أن لا يدفع عنهم أهل الحرب لم يفسد العقد لأنه ليس في ذلك تمكين أهل
الحرب من دار الإسلام.
فإذا ثبت هذا، فمتى قصدهم أهل الحرب ولم يدفع عنهم حتى مضى حول
فلا جزية عليهم لأن الجزية تستحق بالدفع، وإن سباهم أهل الحرب فعليه أن
يسترد ما سبي منهم من الأموال لأن عليه حفظ أموالهم، فإن كان في جملته خمر أو
خنزير لم يلزمه ولا عليه أن يستنقذ ذلك منهم لأنه لا يحل إمساكه.
فإذا أخذ الجزية منهم أخذها كما يأخذ غيرها، ولا يضرب منهم أحدا ولا
ينالهم بقول قبيح، والصغار أن يجري عليهم الحكم لا أن يضربوا.
131

فصل: في الحكم بين المعاهدين والمهادنين:
لا خلاف بين أهل العلم بالسير أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما نزل
المدينة وادع يهودا كافة على غير جزية - والموادعة والمهادنة شئ واحد - منهم
بنو قريظة والنضير والمصطلق لأن الإسلام كان ضعيفا بعد، وفيهم نزل قوله
تعالى: فاحكم بينهم أو أعرض عنهم، فإذا تحاكم أهل الهدنة إلينا لم يجب على
الحاكم أن يحكم بينهم بل هو بالخيار في ذلك، فأما أهل الذمة فالحكم فيهم
أيضا مثل ذلك، وقد روى أصحابنا أنهم إذا تحاكموا إلى حاكم المسلمين حملهم
على حكم الإسلام.
وأهل الذمة إذا فعلوا ما لا يجوز في شرع الإسلام نظر فيه، فإن كان غير
جائز في شرعهم أيضا - كما لو زنوا أو لاطوا أو سرقوا أو قتلوا أو قطعوا - كان
الحكم في ذلك كالحكم بين المسلمين في إقامة الحدود لأنهم عقدوا الذمة بشرط
أن تجري عليهم أحكام المسلمين، وإن كان ذلك مما يجوز في شرعهم - مثل
شرب الخمر ولحم الخنزير ونكاح ذوات المحارم - فلا يجوز أن يتعرض لهم ما
لم يظهروه ويكشفوه لأنا نقرهم عليه ونترك التعرض لهم فيه لأنهم عقدوا الذمة
وبذلوا الجزية على هذا، فإن أظهروا ذلك وأعلنوه منعهم الإمام وأدبهم على
إظهاره، وقد روى أصحابنا أنه يقيم عليهم الحدود بذلك، وهو الصحيح.
إذا جاءنا نصراني قد باع من مسلم خمرا أو اشترى من مسلم خمرا أبطلناه
بكل حال - تقابضا أو لم يتقابضا - ورددنا الثمن إلى المشتري، فإن كان مسلما
استرجع الثمن وأرقنا الخمر لأنا لا نقضي على المسلم برد الخمر، وجوزنا إراقتها
لأن الذمي عصى بإخراجها إلى المسلم فأريقت عليه، وإن كان المشتري المشرك
رددنا إليه الثمن ولا نأمر الذمي برد الخمر بل نريقها لأنها ليست كمال الذمي.
يكره للمسلم أن يقارض النصراني أو يشاركه لأنه ربما يشتري ما ليس
بمباح في شرعنا، فإن فعل صح القراض لأن الظاهر أنه لا يفعل إلا المباح.
وينبغي إذا دفع إليه المال أن يشترط أن لا يتصرف إلا فيما هو مباح في شرعنا
132

لأن الشرط يمنع من ذلك، لكن يلزمه الضمان متى خالف.
فإذا دفع إليه المال لم يخل إما أن يشترط أو لا يشترط، فإن شرط عليه
ذلك فابتاع خمرا أو خنزيرا فالابتياع باطل - سواء ابتاعه بعين المال أو في
الذمة لأنه خالف الشرط فلا يجوز أن يقبض الثمن، فإن قبضه فعليه الضمان - وإن
دفع إليه المال مطلقا فابتاع ما لا يجوز ابتياعه فالبيع باطل، فإن دفع إليه الثمن
فعليه الضمان أيضا لأنه ابتاع ما ليس بمباح عندنا، وإطلاق العقد يقتضي أن
يبتاع لرب المال ما يملكه رب المال فإذا خالف فعليه الضمان.
وأما استرجاع المال عند المفاضلة فإنه ينظر، فإن كان رب المال علم أنه ما
يصرف إلا في مباح فعليه قبض ماله منه، وإن علم أنه يصرف في محظور أو
خالطه محظور حرم عليه أن يقبض منه، وإن أشكل كره لكنه جائز.
وإذا أكرى نفسه من ذمي، فإن كانت الإجارة في الذمة صح لأن الحق
ثابت في ذمته وإن كانت معينة، وإن استأجره ليخدمه شهرا أو يبني له شهرا صح
أيضا وتكون أوقات العبادات مستثناة منها.
فإن أوصى بعبد مسلم لمشرك لم يصح لأن المشرك لا يملك المسلم،
وقد قيل: إنه يملكه إذا قبل الوصية ويلزم رفع اليد عنه كما لو ابتاعه، والأول
أوضح. وعلى الوجه الثاني أنه إن أسلم وقبل الوصية صح وملكه بعد موت
الموصي، وعلى الوجه الأول لا يملكه وإن أسلم صح وملكه لأن الوصية وقعت في
الأصل باطلة.
فأما إذا أوصى مسلم أو مشرك لمشرك بعبد مشرك فأسلم العبد قبل
موت الموصي ثم مات فقبله الموصى له فإنه لا يملكه، وقيل: إنه يملكه ويلزم رفع
يده عنه بالبيع، والأول أوضح لأن الاعتبار في الوصية حال اللزوم وهي حالة
الوفاة.
والمشرك ممنوع من شراء المصاحف إعزازا للقرآن، فإن اشترى لم يصح
البيع، وفي الناس من قال: يملكه ويلزم الفسخ، والأول أصح. وهكذا حكم
133

الدفاتر التي فيها أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله، وآثار السلف وأقاويلهم
حكمها حكم المصاحف سواء، وأما كتب الشعر والأدب واللغة ونحو ذلك
فشراؤها جائز لأنه لا حرمة لها.
إذا أوصى ببناء كنيسة أو بيعة أو موضع لصلاة أهل الذمة فالوصية باطلة،
لأن ذلك معصية والوصية بمعصية الله باطلة بلا خلاف، وكذلك إن أوصى أن
يستأجر به خدما للبيعة والكنيسة ويعمل به صلبانا أو يستصبح به أو يشتري
أرضا فتوقف عليها أو ما كان في هذا المعنى كانت الوصية باطلة لأنها إعانة على
معصية.
ويكره للمسلم أن يعمل بناء أو تجارة أو غيره في بيعهم وكنائسهم التي
يتخذونها لصلاتهم.
فأما إذا أوصى ببناء بيت أو كنيسة لمارة الطريق والمجتاز منهم أو من
غيرهم أو وقفها على قوم يسكنونها أو جعل كراءها للنصارى أو لمساكينهم جازت
الوصية لأنه ليس في شئ من ذلك معصية إلا أن يبني لصلواتهم، وكذلك إذا
أوصى للرهبان والشمامسة جازت الوصية لأن صدقة التطوع عليهم جائزة.
إذا أوصى بشئ يكتب به التوراة والإنجيل والزبور وغير ذلك من الكتب
القديمة فالوصية باطلة لأنها كتب مغيرة مبدلة، قال الله تعالى: يحرفون الكم عن
مواضعه، وقال عز وجل: فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من
عند الله، وهي أيضا منسوخة فلا يجوز نسخها لأنه معصية والوصية بها باطلة. فإن
أوصى أن يكتب طب أو حساب ويوقف جاز لأن في ذلك منافع مباحة
والوصية بها جائزة.
134

كتاب الفئ وقسمة الغنائم
فصل: في حقيقة الفئ والغنيمة ومن يستحقها:
الفئ مشتق من فاء يفئ إذا رجع، والمراد به في الشرع فيما قال الله
تعالى: ما أفاء الله على رسوله... الآية، ما حصل ورجع عليه من غير قتال ولا
إيجاف بخيل ولا ركاب، فما هذا حكمه كان لرسوله خاصة، وهو لمن قام مقامه
من الأئمة عليه السلام ليس لغيرهم في ذلك نصيب، وقد ذكرنا ذلك في كتاب
قسمة الصدقات.
وأما الغنيمة فمشتقة من الغنم، وهو ما يستفيده الإنسان بسائر وجوه
الاستفادة، سواء كان برأس مال أو غير رأس مال، وعند الفقهاء أنه عبارة عما
يستفاد بغير رأس مال.
فإذا ثبت ذلك فالغنيمة على ضربين: أحدهما: ما يؤخذ من دار الحرب
بالسيف والقهر والغلبة. والآخر ما يحصل من غير ذلك من الكنوز والمعادن
والغوص وأرباح التجارات وغير ذلك مما ذكرناه في كتاب الزكاة في باب ما
يجب فيه الخمس.
فما يؤخذ من دار الحرب يخرج منه الخمس - سواء كان مما يمكن نقله إلى
بلد الإسلام أو لا يمكن - فيقسم في أهله الذين ذكرناهم هناك، والأربعة أخماس
الباقي على ضربين: فما يمكن نقله إلى بلد الإسلام قسم بين الغانمين على ما
135

سنبينه، وما لا يمكن نقله إلى بلد الإسلام من الأرضين والعقارات فهو لجميع
المسلمين على ما بيناه في كتاب الجهاد، ويكون للإمام النظر فيها وصرف
ارتفاعها إلى جميع المسلمين وإلى مصالحهم، ويبدأ بالأهم فالأهم.
وما يؤخذ بالفزعة - مثل أن ينزل المسلمون على حصن فهرب أهله
ويتركون أموالهم فيها فزعا منهم - فإنه يكون من جملة الغنائم التي تخمس،
والأربعة أخماس للمقاتلة، وقد قيل: إن ذلك من جملة الفئ لأن القتال ما حصل
فيه، وهو الأقوى.
والغنيمة كانت محرمة في الشريعة المتقدمة وكان يجمعون الغنيمة فتنزل
النار من السماء فتأكلها، ثم أنعم الله تعالى على النبي صلى الله عليه وآله فجعلها
له خاصة بقوله: يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول، وروي عن النبي
صلى الله عليه وآله قال: أحل لي الخمس لم يحل لأحد قبلي وجعلت لي
الغنائم، وكان النبي صلى الله عليه وآله يقسم الغنيمة أولا لمن لم يشهد
الوقعة لأنها كانت له خاصة، ونسخ بقوله: واعلموا أن ما غنمتم من شئ فإن لله
خمسه... الآية، فأضاف المال إلى الغانمين ثم انتزع الخمس لأهل السهمان فبقي
الباقي على ملكهم، وعليه الإجماع.
والغنيمة تقسم خمسة أقسام، فالخمس يقسم ستة أقسام: سهم لله، وسهم
لرسوله، وسهم لذي القربى، فهذه الثلاثة أسهم للإمام القائم مقامه اليوم، وفي
أصحابنا من قال: يقسم الخمس خمسة أقسام: سهمان للرسول أو للإمام، والثلاثة
أسهم الباقية لليتامى والمساكين وأبناء السبيل من آل الرسول خاصة لا يشركهم
فيها أحد، وعلى الإمام أن يقسم ذلك بينهم على قدر حاجتهم ومؤونتهم من قلة
وكثرة، فإن نقص شئ عن كفاياتهم كان عليه أن يتمه من نصيبه، وإن فضل
كان له، وقد بيناه فيما مضى من كتاب قسمة الصدقات والأخماس.
وأما ما كان للنبي صلى الله عليه وآله خاصة من أملاكه وأمواله فهو
لورثته، لأزواجه من ذلك الثمن والباقي لبنته عليه السلام، النصف بالتسمية
136

والباقي بالرد، وكان صلى الله عليه وآله موروثا، وكان للنبي صلى الله عليه
وآله وسلم الصفايا، وهو ما اختاره من الغنيمة قبل القسمة من عبد أو ثوب أو دابة،
فيأخذ من ذلك ما يختار ولم يقسم عليه بلا خلاف، وهو عندنا لمن قام مقامه
من الأئمة عليه السلام.
وأما ما يؤخذ من الجزية والصلح والأعشار فإنه يخمس لأنه من جملة الغنائم
على ما فسرناه.
وأما ميراث من لا وارث له ومال المرتد إذا لم يكن له وارث مسلم فهو
للإمام خاصة.
وأما الخراج فهو لجميع المسلمين، فإن كان قد خمست الأرضون لا
يخمس، وإن كانت لم تخمس خمس، والباقي للمسلمين مصروف في مصالحهم.
فصل: في حكم السلب:
السلب لا يختص السالب إلا بأن يشرطه له الإمام، فإن شرطه له كان له
خاصة ولا يخمس عليه، وإن لم يشرط كان غنيمة. والنفل هو أداء بشرط بقول
الإمام: في البدأة الربع وفي الرجعة الثلث، والأولى أن نقول: إذا شرط الإمام
ذلك استحقه ولا تخمس عليه.
والسلب إنما يستحقه على ما قلناه إذا قتل في حال القتال، فأما إذا قتله وقد
ولو الدبر فإنه لا يستحقه إلا أن يكون قد شرط الإمام له ذلك فيستحقه حينئذ. ويستحق السلب بشروط:
أحدهما: أن يقتل المشرك والحرب قائمة، فإذا قتله في هذه الحال أخذ
سلبه سواء قتله مقبلا أو مدبرا، فأما إن قتله وقد ولوا الدبر والحرب غير قائمة فلا
سلب له ويكون غنيمة. ويحتاج أن يعزر بنفسه مثل أن يبادر إلى صف
المشركين أو إلى مبارزة من يبارزهم فيكون له السلب، فإن لم يعزر بنفسه مثل أن
رمى سهما في صف المشركين من صف المسلمين فقتل مشركا لم يكن له سلبه.
137

وينبغي أن لا يكون مجروحا مثخنا بل يكون قادرا على القتال، فإذا قتله يكون له
سلبه.
وأما صفة القاتل الذي يستحق السلب فإنه لا يخلو من أحد أمرين: إما أن
يكون ذا سهم من الغنيمة أو غير ذي سهم، فإن كان ذا سهم كان السلب له، وإن
كان غير ذي سهم لم يخل من أحد أمرين: إما أن يكون لا سهم له لارتياب به أو
لنقص فيه، فإن كان لا سهم له - إما بأن يكون كافرا، أو لارتياب فيه كالمخذل
مثل عبد الله بن أبي كان يقول: الحرب تدور ولا يقدر على الخروج، ومثل
ذلك، وفي العدو كثرة - فهذا لا يسهم له ولا يستحق السلب لأن هذا ما عاون
المسلمين بل عاون عليهم، وإن كان لا يسهم له لنقص فيه - مثل المجنون
والمرأة - فالأولى أن نقول: إن له سلبه لعموم قوله: من قتل كافرا فله سلبه. وأما
الصبي فله سهم فيستحق السلب.
وأما المقتول فينظر، فإن كان من المقاتلة فالقاتل يستحق سلبه سواء قتله
المسلم وهو يقاتل أو لا يقاتل بعد أن يكون من المقاتلة، وإن لم يكن من المقاتلة
مثل أن يكون صبيا أو امرأة نظرت، فإن كانت تقاتل مع المشركين فقتلها المسلم
كان له سلبها لأن قتلها مباح في هذه الحال، وإن قتلها من غير أن تعاون
المشركين فلا يستحق السلب لأن قتلها محظور.
فإذا ثبت أن السلب يستحقه القاتل بالشروط التي ذكرناها، فإن قتله واحد
كان السلب له، وإن قتله اثنان كان لهما - مثل أن جرحاه فمات من جرحهما أو
ضرباه فقتلاه - فإن جرحه أحدهما وقتله آخر نظرت، فإن كان الأول بجرحه لم
يصيره ممتنعا كان السلب للقاتل، وإن كان الأول صيره ممتنعا بجرحه كان
السلب له - مثل أن قطع واحد يديه ورجليه ثم قتله آخر كان السلب للأول لأنه
صيره زمنا قتيلا - وإن قطع إحدى يديه وإحدى رجليه وقتله آخر فالسلب للثاني
لأنه قادر على الامتناع، والسلب للقاتل، وإذا قطع يديه أو رجليه وقتله آخر
فالسلب للثاني، لأنه القاتل، ولأن بقطع اليدين يمتنع بالرجلين بأن يعدو، وبقطع
138

الرجلين يمتنع باليدين بأن يقاتل بهما ويرمي.
وأما السلب الذي يستحقه القاتل فكل ما كان يده عليه، وهو جنة للقتال أو
سلاح كان له - مثل الفرس والبيضة والخوذة والجوشن والسيف والرمح
والدرقة والثياب التي عليه - فإن جميع ذلك كله له، وما لم تكن يده عليه - مثل
المضرب والرحل والجنائب التي تساق خلفه وغير ذلك - فإنه يكون غنيمة ولا
يكون سلبا، وما كان يده عليه وليس بجنة للقتال - مثل المنطقة والخاتم والسوار
والطوق والنفقة التي معه - فالأولى أن نقول: إنه له لعموم الخبر.
فأما إذا أسر المسلم كافرا فقد قلنا: إن كان قبل تقضي الحرب كان الإمام
مخيرا بين قتله وقطع يديه ورجليه وليس له أخذ الفداء منه، وإن أسر بعد تقضي
القتال فهو مخير بين المن والاسترقاق والفداء، فإن استرقه أو فأداه بمال كان
للغانمين دون الذي أسره لأنه لم يقتله والنبي صلى الله عليه وآله جعل
السلب لمن قتل، وقيل: إن السلب له لأنه لو أراد قتله قتله وإنما حمله إلى الإمام،
فالأسر أعظم من القتل، والأول أصح.
فصل في ذكر النفل وأحكامه:
النفل هو أن يجعل الإمام لقوم من المجاهدين شيئا من الغنيمة بشرط، مثل
أن يقول: من تولى السرية فله كذا، ومن دلني على القلعة الفلانية فله كذا، ومن
قتل فلانا من البطارقة فله كذا، فكل هذا نفل بحركة الفاء، ويقال بسكونها، وهو
مشتق من النافلة وهي الزيادة، ومن هذا سميت نوافل الصلوات الزائدة على
الفرائض.
وهو جائز عندنا ويستحقه زائدا على السهم الراتب له، وروي أن رسول الله
صلى الله عليه وآله بعث سرية قبل نجد فيها ابن عمر فغنموا إبلا كثيرة
فكان سهامهم اثنى عشر بعيرا فنقلهم رسول الله صلى الله عليه وآله بعيرا
بعيرا، وروى حبيب بن مسلمة الفهري قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وآله
139

وسلم وقد نفل في البدأة الربع وفي الرجعة الثلث.
وينبغي للإمام أن ينفل إذا كثر عدد المشركين واشتدت شوكتهم وقل من
بإزائهم من المسلمين ويحتاج إلى سرية وأن يكمن كمينا ليحفظ به المسلمين، وإذا
لم يكن به حاجة لم يجز أن ينفل لأن النبي صلى الله عليه وآله غزا غزوات كثيرة
لم ينفل فيها ونفل في بعضها عند الحاجة.
فإذا ثبت جوازه فذلك موكول إلى ما يراه الإمام ويؤدي إليه اجتهاده، قليلا
كان أو كثيرا. ولا يتقدر بقدر لأن النبي صلى الله عليه وآله جعل في البدأة
الربع وفي الرجعة الثلث لما رأى ذلك مصلحة. ومعنى البدأة السرية الأولى التي
يبعثها إلى دار الحرب إذا أراد الخروج إليهم، والرجعة هي السرية الثانية التي
يبعثها بعد رجوع الأولة، وقيل: إن الرجعة هي السرية التي يبعثها بعد رجوع
الإمام إلى دار الإسلام، والبدأة لا خلاف فيها.
والنفل يكون إما بأن ينفل الإمام من سهم نفسه الذي هو الأنفال والفئ،
وإن جعل ذلك من الغنيمة جاز، والأولى أن يجعله من أصل الغنيمة، وقيل: إنه
يكون من أربعة أخماس المقاتلة.
إذا قال الإمام قبل لقاء العدو: من أخذ شيئا من الغنيمة فهو له بعد الخمس
كان جائزا لأنه معصوم فعله حجة، وفيه خلاف.
فصل: في أقسام الغنيمة:
الغنيمة على ثلاثة أقسام:
أحدهما: ما يكون مالا يمكن نقله وتحويله إلى دار الإسلام مثل الدنانير
والدراهم والأثاث وغير ذلك.
وثانيها: ما يكون أحسابا مثل النساء والولدان.
وثالثها: ما لا يمكن نقله ولا تحويله مثل الأرضين والعقارات والشجر
والبساتين.
140

فما ينقل ويحول يخرج منه الخمس فيكون لأهله، والأربعة أخماس تقسم
بين الغانمين بالسوية لا يفضل راجل على راجل ولا فارس على فارس، وإنما
يفضل الفارس على الراجل على ما نبينه. ولا يجوز أن يعطي منها من لم يحضر
الوقعة.
وأما النساء والولدان إذا سبوا فإنهم يرقون بنفس السبي من غير أن يسترقوا،
ويملكهم من الغانمين في الوقت الذي يملكون الأموال التي قدمناها التي تحول
وتنقل، ولا يجوز قتلهم بحال لأن النبي صلى الله عليه وآله نهى عن قتل
النساء والصبيان.
وأما الرجال البالغون المأسورون فقد بينا أنهم على ضربين: ضرب أسروا
قبل أن تضع الحرب أوزارها، والآخر من يؤسر بعد ذلك. فالأول الإمام مخير
فيه بين القتل وقطع الأيدي والأرجل وتركهم حتى ينزفوا، والقسم الآخر مخير
بين ثلاثة أشياء: بين الاسترقاق والمن والمفاداة تخييرا شرعيا، لكن يعمل من
ذلك ما هو الأصلح للمسلمين.
وأما ما لا ينقل ولا يحول من العقار والدور فإنها لجميع المسلمين، من حضر
القتال ومن لم يحضر، ويكون الناظر فيه الإمام، ولا بد من إخراج الخمس منه،
وهو مخير بين إخراج الخمس منها فيجعلها لأرباب الخمس خاصة، وبين أن
يتركها ويخرج الخمس من الارتفاع، أي ذلك فعل فقد جاز.
فأما حكم سواد العراق - وهو ما بين الموصل وعبادان طولا، وحلوان
والقادسية عرضا - فقد بينا الكلام فيه فلا معنى لإعادته، وكذلك حكم ما يفتح
عنوة ويؤخذ قهرا بالسيف والغلبة.
فصل: في كيفية قسمة الغنيمة:
الغنيمة إذا جمعت فأول ما يبتدئ الإمام بها أن يعطي السالب سلب المقتول
إذا كان شرطه له على ما مضى القول فيه لأن حقه معين، ثم يعزل بعد ذلك ما
141

تحتاج إليه الغنيمة من الاتفاق عليه كأجرة الحفاظ والنقال وغير ذلك من المؤن
لأن ذلك من مصلحة الغنيمة.
ثم يرضخ من أصل الغنيمة لأهل الرضخ، وهم ثلاثة: العبيد والكفار
والنساء، لأن هؤلاء لا سهم لهم، فأما الصبيان فلهم سهم مثل الرجال. والرضخ
أن يعطي الإمام كل واحد منهم ما يراه من المصلحة في الحال.
ثم يعزل الخمس لأهله والأربعة أخماس للغانمين، فيبتدئ بقسمتها بينهم ولا
يؤخر قسمة ذلك وإن كانوا في دار الحرب لأن أهلها حاضرون، وأهل الخمس
إن كانوا حاضرين قسمه فيهم، وإن لم يكونوا حاضرين أخر ذلك إلى العود.
وقد قلنا أن الذي لهم الرضخ ثلاثة: العبيد سواء خرجوا بإذن سيدهم أو
بغير إذنهم فإنه لا سهم لهم، وأما الكفار فلا سهم لهم، لأنهم إن قاتلوا بغير إذن
الإمام فلا سهم لهم ولا إرضاخ، وإن قاتلوا معه بأمره فإنه يرضخ لهم إن شاء ولا
سهم لهم.
والإرضاخ يجوز أن يكون من أصل الغنيمة وهو الأولى، وإن أعطاهم من
ماله خاصة من الفئ والأنفال كان له، وقال قوم: إنه يكون من أربعة أخماس
المقاتلة، والأول أصح، لأنه لمصلحة الغنيمة لأنهم يعينونه.
وأما خمس الخمس فهو للإمام خاصة مع سهمين آخرين على ما قدمناه
فيصير نصف الخمس له، فإن أرضخ لهم من ذلك فهو له، وإن لم يفعل فلا
يلزمه.
وينبغي أن يدفع الإمام إلى كل واحد منهم بحسب الحاجة، فمن حضر ولم
يقاتل دفع إليه شيئا يسيرا، وإن قاتل دفع إليه أكثر من ذلك، وإن أبلى بلاء
حسنا أعطاه أكثر من ذلك.
وإذا أراد قسمة الأربعة أخماس على الغانمين أحصى عدد الفرسان والرجالة
وأعطى كل رجل سهما وكل فرس سهما، وقد روي أن للفرس سهمين، والأول
أحوط، فيحصل للفارس سهمان، وعلى الرواية الأخرى ثلاثة أسهم، وللراجل سهم
142

واحد.
وإذا كان الفارس معه أفراس كثيرة لم يسهم إلا لفرسين له.
وإذا قاتل على فرس مغصوب لا يستحق له سهما لا هو ولا المغصوب منه،
وإن استأجره أو استعاره ليقاتل عليه أسهم له بلا خلاف ويستحقه المستأجر أو
المستعير دون المؤجر والمعير، وإن استأجره أو استعاره لا ليقاتل عليه فهو مثل
المغصوب سواء لا يستحق له سهما.
ولا يسهم لشئ من المركوب من الإبل والبغال والحمير إلا للفرس خاصة
بلا خلاف.
وعلى الإمام أن يتعاهد خيل المجاهدين إذا أراد الدخول إلى دار الحرب
للقتال فلا يترك أن يدخلها حطما وهو الذي يكسر، ولا قحما وهو الكبير الذي لا
يمكن القتال عليه لكبر سنه وهرمه، ولا ضعيفا ولا ضرعا وهو الذي لا يمكن
القتال عليه لصغره، ولا أعجف وهو المهزول، ولا رازحا وهو الذي لا حراك به
لأن هذه الأجناس لا يمكن القتال عليها بلا خلاف، فإن خالف وأدخل دابة بهذه
الصفة فإنه يسهم لها لعموم الأخبار، وقال قوم: لا يسهم له لأنه لا لا فائدة فيه.
إذا دخل رجل دار الحرب فارسا ثم ذهب فرسه قبل تقضي القتال فيقتضي
القتال وهو راجل لم يسهم لفرسه، سواء نفق فرسه أو سرق أو قهره عليه
المشركون أو باعه أو وهبه أو آجره بعد أن يخرج عن يده لم يسهم له، وإن
دخل راجلا دار الحرب ثم ملك فرسا وكان معه بعد تقضي الحرب أسهم له.
والاعتبار بحال تقضي الحرب، فإن كان حال تقضي القتال راجلا لم يسهم له وإن
كان حال دخول الدار فارسا، وإن كان حال تقضي الحرب فارسا أسهم له وإن
كان حال الدخول راجلا، هذا إذا كان القتال في دار الحرب، فأما إذا كان في دار
الإسلام فلا خلاف أنه لا يسهم إلا للفرس الذي يحضر القتال.
إذا حضر الرجل القتال وهو صحيح أسهم له سواء قاتل أو لم يقاتل بلا
خلاف، فإن حضر دار الحرب مجاهدا ثم مرض ولم يتمكن من القتال فإنه يسهم
143

له عندنا سواء كان مرضا يمنع من الجهاد أو لم يمنع.
إذا استأجر الرجل أجيرا ودخلا معا دار الحرب فإنه يسهم للأجير
والمستأجر، سواء كانت الإجارة في الذمة أو معينة، ويستحق مع ذلك الأجرة
لأنه قد حضر والإسهام يستحق بالحضور.
إذا انفلت أسير من يد المشركين ولحق الغانمين فيه ثلاث مسائل:
أحدهما: أن يلحق بهم قبل تقضي القتال وحيازة المال فحضر معهم القتال
وشهد الوقعة أسهم له لأن الاعتبار بحال الاستحقاق.
الثانية: أن يلحق بهم بعد تقضي القتال وبعد حيازة الغنيمة فإنه يسهم له ما لم
تقسم الغنيمة.
الثالثة: إذا لحق بهم بعد تقضي الحرب وقبل حيازة المال فإنه يسهم له أيضا.
إذا دخل قوم تجار أو صناع مع المجاهدين دار الحرب - مثل باعة
العسكر كالخباز والبقال والبزاز والشواء والخياط والبيطار وغير ذلك ممن يتبع
العسكر - فغنم المجاهدون نظر فيهم، فإن حضروا للجهاد مع كونهم تجارا أو
أنهم مجاهدون فإنه يسهم لهم، وإن حضروا لا للجهاد نظر، فإن جاهدوا أسهم
لهم، وإن لم يجاهدوا لم يسهم لهم بحال، وإن اشتبه الحال فلا يعلم لأي شئ
حضروا فالظاهر أنه يسهم لهم لأنهم حضروا والإسهام يستحق بالحضور.
وإذا جاءهم مدد، فإن وصل قبل قسمة الغنيمة أسهم لهم، وإن جاؤوا بعد
قسمة الغنيمة فلا يسهم لهم. وأما الصبيان ومن يولد في تلك الحال فإنه يسهم لهم
على كل حال، ومن تولد بعد قسمة الغنيمة فلا يسهم له.
وإذا قاتلوا في المراكب وغنموا وفيهم الرجالة والفرسان كانت الغنيمة مثل
ما لو قاتلوا في البر، للراجل سهم، وللفارس سهمان.
إذا أخرج الإمام جيشا إلى جهة من جهات العدو وأمر عليهم أميرا فرأى
الأمير من المصلحة تقديم سرية إلى العدو فقدمها فغنمت السرية أو غنم الجيش
اشترك الكل في الغنيمة - الجيش والسرية - لأنهم جيش واحد وكل فرقة منهم
144

مدد للأخرى، وهذا لا خلاف فيه إلا من الحسن البصري.
وإذا أخرج الإمام جيشا وأمر عليهم أميرا ثم إن الأمير رأى أن يبعث سريتين
إلى جهة واحدة في طريقين مختلفين فبعثهما فغنمت السريتان فالسريتان مع
الجيش شركاء مثل المسألة الأولى.
وإن أخرج الإمام جيشا وأمر عليهم أميرا، ثم رأي الإمام أن يبعث سريتين
إلى جهتين مختلفين فبعثهما فغنم السريتان كانت السريتان مع الجيش شركاء في
الكل، وفي الناس من قال: لا تشارك إحدى السريتين الأخرى ويشاركان
جميعا الجيش والجيش يشاركهما، والصحيح الأول.
وإذا أخرج الإمام جيشين إلى جهتين مختلفتين وأمر على كل واحد من
الجيشين أميرا، فإذا غنمت إحديهما لم تشركها الأخرى فيها لأنهما جيشان
مختلفان وجهة كل واحد منهما مخالفة لجهة الأخرى، اللهم إلا أن يتفق التقاؤهما
في موضع من المواضع فاجتمعا وقاتلا في جهة واحدة وهما معا فإنهما يشتركان
في الغنيمة لأنهما صارا جيشا واحدا.
فأما إذا أخرج الإمام سرية ولم يخرج الإمام فغنمت السرية لم يشركها
الإمام في تلك الغنائم، لأنه إنما يشارك السرية من هو من المجاهدين، والإمام إذا
لم يخرج من البلد فليس بمجاهد فلم يشارك.
ذرية المجاهدين إذا كانوا أحياء يعطون على ما قدمناه، فإذا مات المجاهد أو
قتل وترك ذرية أو امرأة فإنهم يعطون كفايتهم من بيت المال لا من الغنيمة، فإذا
بلغوا، فإن أرصدوا أنفسهم للجهاد كانوا بحكمهم، وإن اختاروا غيره خيروا وما
يختارونه ويسقط مراعاتهم، وهكذا حكم المرأة لا شئ لها.
المجاهد إذا مات بعد أن حال عليه الحول واستحق السهم فلورثته المطالبة
بسهمه لأنه قد استحقه بحؤول الحول، والمجاهدون معينون، وليس كذلك أولاد
الفقراء لأن الفقراء غير معينين فلا يستحقون بحؤول الحول، وللإمام أن يصرف
إلى من شاء منهم.
145

فصل: في أقسام الغزاة:
الغزاة على ضربين:
المتطوعة: وهم الذين إذا نشطوا غزوا وإذا لم ينشطوا اشتغلوا بمعائشهم،
فهؤلاء لهم سهم من الصدقات، فإذا غنموا في دار الحرب شاركوا الغانمين وأسهم
لهم.
والضرب الثاني: هم الذين أرصدوا أنفسهم للجهاد، فهؤلاء لهم من الغنيمة
الأربعة أخماس، ويجوز عندنا أن يعطوا أيضا من الصدقة من سهم ابن السبيل لأن
الاسم يتناولهم وتخصيصه يحتاج إلى دليل.
فأما الأعراب فليس لهم من الغنيمة شئ، ويجوز للإمام أن يرضخ لهم أو
يعطيهم من سهم ابن السبيل من الصدقة لأن الاسم يتناولهم.
وإذا أعطوا من الغنيمة فقد بينا أنهم يسوى بينهم ولا يفضل أحد لشرفه وعلمه
وشجاعته على من لم يكن كذلك، وإنما يفضل الفارس على الراجل فحسب،
وإذا أعطوا من سهم ابن السبيل جاز للإمام أن يفضلهم بل يعطيهم على قدر
أحوالهم وكفاياتهم وكثرة مؤونتهم وقلتها بحسب ما يراه في الحال لسنتهم.
وقد بينا أن المنفوس الذي يولد قبل قسمة الغنيمة أنه يسهم له، ولا يجوز
لأحد من الغزاة أن يغزو بغير إذن الإمام، فإن خالف أخطأ، وإن غنم كان للإمام
خاصة.
ومتى دعا الإمام الغزاة إلى الغزو وجب عليهم أن يخرجوا، وعلى الإمام أن
يعطيهم قدر كفايتهم، ويلزمهم المبادرة إليه.
والإمام يغزي إلى كل جانب الذين هم في تلك الجهة لقوله تعالى: يا أيها
الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار، فإن كان في المسلمين كثرة أنفذ إلى
كل جهة فرقة من المسلمين، وإن كان فيهم قلة أنفذ جميعهم إلى أقوى الجهات.
وما يحتاج إليه من الكراع وآلات الحرب كل ذلك من بيت المال من
أموال المصالح، وكذلك رزق الحكام وولاة الأحدات والصلاة وغير ذلك من
146

وجوه الولايات، فإنهم يعطون من المصالح، والمصالح تخرج من ارتفاع
الأراضي المفتوحة عنوة ومن سهم سبيل الله على ما بيناه.
ومن جملة ذلك ما يلزمه فيما يخصه من الأنفال والفئ وهو جنايات من لا
عقل له ودية من لا يعرف قاتله وغير ذلك مما نذكره ونقول إنه يلزم بيت المال.
ويستحب للإمام أن يجعل العسكر قبائل وطوائف وحزبا حزبا، ويجعل
على كل قوم عريفا لقوله تعالى: وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، والنبي صلى
الله عليه وآله عرف عام خيبر على كل عشرة عريفا.
وإذا أراد الإمام القسمة ينبغي أن يبدأ أولا بقرابة الرسول وبما هو أقرب إلى
رسول الله صلى الله عليه وآله، ثم الأقرب فالأقرب، فإن تساوت قراباتهم
قدم أقدمهم هجرة، فإن تساووا قدم الأسن، فإذا فرع من عطايا أقارب الرسول
صلى الله عليه وآله بدأ بالأنصار وقدمهم على جميع العرب، فإذا فرع من
الأنصار بدأ بالعرب، فإذا فرع من العرب بدأ بالعجم.
147

كتاب قتال أهل البغي
قال الله تعالى: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت
إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا
بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين، قيل: نزلت في رجلين اقتتلا،
وقيل في فئتين، وذلك أن النبي عليه السلام كان يخطب فنازعه عبد الله بن أبي
ابن سلول المنافق فعاونه قوم وأعان عليه آخرون، فأصلح النبي عليه السلام بينهم
فنزلت هذه الآية، والطائفتان الأوس والخزرج.
قالوا في الآية خمس فوائد:
أحدها: أن البغاة على الإيمان لأن الله سماهم مؤمنين، وهذا عندنا باطل لأنه
إنما سماهم مؤمنين في الظاهر كما قال: وإن فريقا من المؤمنين لكارهون
يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون، وهذه
صفة المنافقين بلا خلاف.
الثاني: وجوب قتالهم فقال: فقاتلوا التي تبغي، وهذا صحيح عندنا.
الثالث: القتال إلى غاية، وهو أن يفيئوا إلى أمر الله بتوبة أو غيرها، وهذا
صحيح لأنه قال: حتى تفئ إلى أمر الله.
الرابعة: أن الصلح إذا وقع بينهم فلا تبعة على أهل البغي في دم ولا مال، لأنه
ذكر الصلح أخيرا كما ذكره أولا ولم يذكر تبعة، فلو كانت واجبة ذكرها، وهذا
148

عندنا غير صحيح لأن التبعة على أهل البغي فيما يتلفونه من نفس ومال على ما
سيجئ بيانه، وإن لم يذكر في الآية فقد علمناه بدليل آخر.
الخامس: قالوا فيها دلالة على أن من كان عليه حق فمنعه بعد المطالبة به حل
قتاله، فإن الله تعالى لما أوجب قتال هؤلاء لمنع حق كان كل من منع حقا
بمثابتهم، وعلى كل أحد قتالهم، وهذا ليس بصحيح عندي، لأن هذا خطاب
للأئمة دون آحاد الأمة، وليس - من حيث قال: فقاتلوا التي تبغي، فأتي بلفظ
الجمع - ينبغي أن يتناول الجميع لأن هذا يجري مجرى قوله: والسارق
والسارقة فاقطعوا أيديهما، ولا خلاف أن هذا خطاب للأئمة، ونحن وإن وجبت
علينا طاعة الإمام في قتال هؤلاء، فإن قتالنا تبع لقتال الإمام، وليس لنا الانفراد.
بقتالهم.
وروى ابن عمر وسلمة بن الأكوع وأبو هريرة أن النبي عليه السلام قال: من
حمل علينا السلاح فليس منا، وروي عنه أنه قال: من خرج عن الطاعة وفارق
الجماعة فميتته جاهلية، وروى ابن عباس أن النبي عليه السلام قال: من فارق
الجماعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام عن عنقه، وروى ابن عمر أن النبي عليه
السلام قال: من خلع يده عن طاعة الإمام جاء يوم القيامة لا حجة له عند الله،
ومن مات وليس في عنقه بيعة فقد مات ميتة جاهلية.
ولا خلاف أيضا أن قتال أهل البغي واجب جائز، وقد قاتل أبو بكر
طائفتين: قاتل أهل الردة - قوم ارتدوا بعد النبي عليه السلام - وقاتل مانعي
الزكاة وكانوا مؤمنين، وإنما منعوها بتأويل، يدل على ذلك أن أبا بكر لما ثبت
على قتالهم قال عمر: كيف تقاتلهم وقد قال النبي عليه السلام: أمرت أن
أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا
بحقها، وحسابهم على الله؟ فقال أبو بكر: والله لا فرقت بين ما جمع الله، هذا من
حقها لو منعوني عناقا مما يعطون رسول الله لقاتلتهم عليها.
فموضع الدلالة أن عمر توقف عن قتالهم لكونهم مؤمنين، وأيضا فإن القوم
149

لما أسروا قالوا: والله ما كفرنا بعد إسلامنا وإنما شححنا على أموالنا، وقالوا حين
منعوا: قال الله: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن
صلاتك سكن لهم، جعل الله صلاة النبي سكنا لنا وليست صلاة ابن أبي قحافة
سكنا لنا، وكل هذا دليل على إسلامهم.
وقد قال شاعرهم:
أطعنا رسول الله ما كان بيننا * فوا عجبا ما بال ملك أبي بكر
فأخبروا أنهم أطاعوا رسول الله، ثبت أنهم كانوا مؤمنين، فإذا ثبت قتال
مانعي أهل الزكاة كان قتال أهل البغي بذلك أولى.
وأيضا فلا أحد من الأمة يفرق بين المسألتين، وقد قاتل علي عليه السلام
ثلاث طوائف: قاتل أهرم البصرة يوم الجمل عائشة وطلحة والزبير وعبد الله بن
الزبير وغيرهم.
وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن الحسين عليه السلام قال: دخلت
على مروان بن الحكم فقال: ما رأيت أحدا أكرم عليه من أبيك ما هو إلا أن ولينا
يوم الجمل فنادى مناديه: لا يقتل مدبر ولا يدنف على جريح.
وقاتل أهل الشام ومعاوية ومن تابعه، وقاتل أهل النهروان والخوارج
وهؤلاء كلهم عندهم محكوم بكفرهم، لكن ظاهرهم الإسلام وهم عندهم
مسلمون، لكن قاتلوا الإمام العادل، فإن الأمة كانت بعد عثمان لعلي عليه
السلام بلا خلاف، وكل من خالفه فقد بغى عليه وخرج عن قبضة الإمام وجب
قتالهم، وتسميتهم البغاة عندنا ذم لأنه كفر عندنا، وقال بعضهم: ليس بذم ولا
نقصان، وهم أهل الاجتهاد اجتهدوا فأخطأوا بمنزلة طائفة خالفوا من الفقهاء لأنهم
مؤمنون عندهم قاتلوا بتأويل سائغ وقد قلنا: إن هؤلاء كفار، وهذا التأويل خطأ
كبير لا يسوع على حال.
ولا يجب قتال أهل البغي ولا تتعلق بهم أحكامهم إلا بثلاث شروط:
أحدهما: أن يكونوا في منعة لا يمكن كفهم وتفريق جمعهم إلا بإنفاق
150

وتجهيز جيوش وقتال، فأما إن كانوا طائفة قليلة وكيدها كيد ضعيف، فليسوا
بأهل البغي، فأما قتل عبد الرحمان بن ملجم أمير المؤمنين عليه السلام عندنا كفر
وتأويله غير نافع له، وعندهم هو وإن تأول فقد أخطأ ووجب قتله قودا.
والثاني: أن يخرجوا عن قبضة الإمام منفردين عنه في بلد أو بادية، فأما إن
كانوا معه وفي قبضته فليسوا أهل البغي.
وروي أن عليا عليه السلام كان يخطب فقال رجل من باب المسجد: لا
حكم إلا لله، تعريضا بعلي أنه حكم في دين الله، فقال علي عليه السلام: كلمة
حق يريد بها باطل، لكم علينا ثلاث: ألا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله،
ولا نمنعكم الفئ ما دامت أيديكم معنا، ولا نبدأكم بقتال، فقال: ما دامت
أيديكم معنا يعني لستم منفردين.
والثالث: أن يكونوا على المباينة بتأويل سائغ عندهم، وأما من باين وانفرد
بغير تأويل فهؤلاء قطاع الطريق حكمهم حكم المحاربين، وليس من شرط قتالهم
أن ينصبوا لأنفسهم إماما لأن الله تعالى لم يذكر ذلك حين أوجب قتالهم، وقال
بعضهم: نصب الإمام شرط، وهو ضعيف عندهم.
فكل موضع حكم بأنهم بغاة لم يحل قتالهم حتى يبعث الإمام من يناظرهم
ويذكر لهم ما ينقمون منه، فإن كان حقا بذله لهم، وإن كان لهم شبهة حلها، فإذا
عرفهم ذلك فإن رجعوا فذاك وإن لم يرجعوا إليه قاتلهم لأن الله تعالى أمر
بالصلح قبل الأمر بالقتال، فقال: فأصلحوا بينهما فإن بغت فقاتلوا، ثبت أنهم لا
يقاتلون قبل ذلك.
وروي عن علي عليه السلام أنه لما أراد قتال الخوارج بعث إليهم عبد الله بن
عباس ليناظرهم، فلبس حلة حسنة ومضى إليهم فقال: هذا علي بن أبي طالب ابن
عم رسول الله وزوج ابنته فاطمة وقد عرفتم فضله فما تنقمون منه؟ قالوا: قلنا حكم
في دين الله وقتل ولم يسب، فإما أن يقتل ويسبى أو لا يقتل ولا يسبى، إذا حرمت
أموالهم حرمت دماؤهم والثالث محا اسمه من الخلافة.
151

فقال ابن عباس: إن خرج عنها رجعتم إليه؟ قالوا: نعم، قال ابن عباس: أما
قولكم حكم في دين الله، تعنون الحكمين بينه وبين معاوية، وقد حكم الله في
الدين قال: وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها، وقال:
يحكم به ذوا عدل منكم، فحكم في أرنب قيمته درهم، فبأن يحكم في هذا الأمر
العظيم أولى، فرجعوا عن هذا.
قال: وأما قولكم: كيف قتل ولم يسب؟ فأيكم لو كان معه فوقع في سهمه
عائشة زوج النبي صلى الله عليه وآله كيف يصنع؟ وقد قال الله عز وجل: ولا
أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا، قالوا: رجعنا عن هذا.
قال: وقولكم محا اسمه من الخلافة، تعنون أنه لما وقعت المواقفة بينه وبين
معاوية كتب بينهم " هذا ما واقف أمير المؤمنين على معاوية "، قالوا له: لو كنت
أمير المؤمنين ما نازعناك فمحى اسمه. فقال ابن عباس: إن كان محا اسمه من
الخلافة فقد محا رسول الله اسمه من النبوة لما قاضى صلى الله عليه وآله سهيل بن
عمرو بالحديبية، كتب الكتاب علي " هذا ما قاضى عليه رسول الله سهيل بن
عمرو " فقال: إنه لو كنت رسول الله ما خالفناك، فقال النبي عليه السلام لعلي:
أمحه، فلم يفعل، فقال لعلي: أرنيه، فأراه، فمحاه النبي عليه السلام بإصبعه،
فرجع بعضهم، وبقى منهم أربعة ألف لم يرجعوا فقاتلهم علي عليه السلام فقتلهم.
فثبت أنهم لا يبدأون بالقتال حتى يعرض عليهم الإجابة، كمن لم تبلغه
الدعوة، وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: الخوارج كلاب أهل النار.
إذا انقضت الحرب بين أهل العدل والبغي إما بالهزيمة أو بأن عادوا إلى
طاعة الإمام، وقد كانوا أخذوا الأموال وأتلفوا وقتلوا، نظرت فكل من وجد عين
ماله عند غيره كان أحق به، سواء كان من أهل العدل أو أهل البغي، لما رواه ابن
عباس أن النبي عليه السلام قال: المسلم أخو المسلم لا يحل دمه وماله إلا بطيبة
من نفسه.
وروي أن عليا عليه السلام لما هزم الناس يوم الجمل قالوا له:
152

يا أمير المؤمنين ألا تأخذ أموالهم؟ قال: لا لأنهم تحرموا بحرمة الإسلام فلا تحل
أموالهم في دار الهجرة.
وروى أبو قيس أن عليا عليه السلام نادى: من وجد ماله فليأخذه، فمر بنا
رجل فعرف قدرا يطبخ فيها فسألناه أن يصبر حتى ينضج فلم يفعل ورمى برجله
فأخذها، وقد روى أصحابنا أن ما يحويه العسكر من الأموال فإنه يغنم، وهذا
يكون إذا لم يرجعوا إلى طاعة الإمام، فأما إن رجعوا إلى طاعته فهم أحق
بأموالهم.
فأما ما كان قتلا وإتلافا نظرت:
فإن كان في غير حال القتال مثل أن كان قبل الحرب أو بعدها فالضمان
على من أتلف ذلك، دما كان أو مالا، لأنه ليس في تضمينه تنفير أهل البغي عن
الدخول في الطاعة.
وإن كان هذا الإتلاف والحرب قائمة نظرت: فإن كان المتلف من أهل
العدل فلا ضمان عليه لأن الله تعالى أوجب على أهل العدل قتالهم فكيف يوجب
القتال ويوجب الضمان على القاتل؟ وأما إن كان المتلف من أهل البغي، فإن
كان مالا فعلى من أتلفه الضمان عندنا، وقال بعضهم: لا ضمان عليه، وإن كان
قتلا يوجب القود فعليه القود عندنا، ولا دية، وفيهم من قال: لا قود ولا دية.
وإذا اقتتلوا فيما بينهم قبل أن يقاتلهم الإمام فلا ضمان عليهم، ومن قال: لا
ضمان عليهم بحال، ادعى الإجماع، وهذا ليس بصحيح، لأنا نحن ننازع فيه،
ومالك يخالف فيه، وقد خالف فيه أبو بكر فإنه قال في الذين قاتلهم: يدون قتلانا
ولا ندي قتلاهم، قالوا: رجع عنه فإن عمر قال له: أصحابنا عملوا لله وأجرهم
على الله وإنما الدنيا بلاغ، قلنا: ليس هذا رجوعا وإنما هو ترك مالهم في جنب
الله.
ولا خلاف أن الحربي إذا أتلف شيئا من أموال المسلمين ونفوسهم ثم أسلم
فإنه لا يضمن ولا يقاد به، والكلام في المرتدين والحكم في تضمينهم على ما
153

فصلناه في أهل البغي سواء أتلفوا قبل القتال أو بعده، فعليهم الضمان، وإن كان
الإتلاف حال الحرب فعليهم الضمان عندنا وعند قوم لا ضمان عليهم مثل أهل
البغي.
أهل الردة بعد رسول الله ضربان:
الضرب الأول: منهم قوم كفروا بعد إسلامهم مثل مسيلمة وطليحة والعنسي
وأصحابهم، وكانوا مرتدين بالخروج من الملة بلا خلاف.
والضرب الثاني: قوم منعوا الزكاة مع مقامهم على الإسلام وتمسكهم به،
فسموا كلهم أهل الردة، وهؤلاء ليسوا أهل ردة عندنا وعند الأكثر.
والردة في لغة العرب: ترك حق كانوا مقيمين عليه متمسكين به، فكل من
فعل هكذا فهو مرتد عنه، فذلك الحق الذي ارتدوا عنه ينقسم فمنه خروج عن
الملة بالكفر وهو ترك حق، ومنه ترك حق مع المقام على الملة كمنع الزكاة
ونحو ذلك، وقد بينا أن ما يجري هذا المجرى لا يسمى به مرتدا كما أن من
وجب عليه الدين فمنعه مع المطالبة لا يسمى مرتدا، وقال قوم: كانوا مرتدين
لأنهم استحلوا منع الزكاة، ومن استحل متعمدا منعها كفر، وهذا ليس بصحيح
لأنا بينا أنهم ما استحلوها وإنما منعوها لشبهة.
قد ذكرنا أن أهل البغي الذين تتعلق بهم أحكام البغاة أن يكونوا في منعة
يحتاج في فلهم وتفرقة جمعهم إلى إنفاق الأموال وتجهيز الجيوش، فأما إن كانت
الفئة قليلة لا يمنع أخذها عن إرادتها لم تتعلق بهم أحكام أهل البغي، وكانوا
كغير المتأولين تقام عليهم الحدود، وتستوفى منهم الحقوق.
وروى جعفر بن محمد عليه السلام أن عليا قال في ابن ملجم بعد ما ضربه:
أطعموه واسقوه وأحسنوا إساره فإن عشت فأنا ولي دمي أعفو إن شئت وإن شئت
استقدت وإن مت فقتلتموه فلا تمثلوا، فكان هذا منه عليه السلام عندنا تفضلا
وإحسانا، وإلا فقد بينا أنه كافر بما فعله، وعندهم تأويله لم ينفعه أيضا.
وأما إن كانت كثيرة ذات منعة لكنهم ما خرجوا عن قبضة الإمام فتأولوا
154

وأتلفوا ضمنوا، وأقيمت عليهم الحدود، لما روي أن عليا عليه السلام استعمل على
قوم نابذوه واليا فسمعوا له ما شاء الله، ثم قتلوه، فأرسل إليهم: أن ادفعوا إلينا
قاتله فنقتله به، فقالوا: كلنا قاتله، قال: فاستسلموا بحكم الله عليكم، قالوا:، لا،
فسار إليهم فقاتلهم وأصاب أكثرهم فثبت أن الخروج عن قبضة الإمام شرط،
ولأنهم إذا كانوا في قبضته وتحت يده وحكمه يجري عليهم لم يؤد استيفاء
الحقوق منهم إلى تنفيرهم ومنعهم من المتابعة، لأن القوم في قبضته.
إذا عاد أهل البغي إلى الطاعة وتركوا المباينة حرم قتالهم، وهكذا إن قعدوا
فألقوا السلاح، وهكذا إن ولوا منهزمين إلى غير فئة، الحكم في هذه المسائل
الثلاث واحد، لا يقتلون ولا يتبع مدبرهم، ولا يدنف على جريحهم بلا خلاف
فيه، لقوله تعالى: فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله فأوجب
القتال إلى غاية، وقد وجدت فوجب أن يحرم قتالهم.
فأما إن ولوا منهزمين إلى فئة لهم يلتجئون إليها فلا يتبعون أيضا، وقال قوم:
يتبعون ويقتلون، وهو مذهبنا، لأنا لو لم نقتلهم ربما عادوا إلى الفئة، واجتمعوا
ورجعوا للقتال.
آحاد أهل البغي متى أتلفوا ضمنوا، وإن أتلف جماعتهم والحرب قائمة، قال
قوم: يضمنون وهو مذهبنا، وقال آخرون: لا يضمنون، قالوا: والفرق بينه وبين
الجماعة أن الجماعة متى ضمنت ما أتلفت أدى إلى التنفير عن الرجوع إلى الحق،
وهذا ساقط في حق واحد وهذا ينتقض بالواحد، لأنا متى ضمناه أدى إلى تنفيره.
الخوارج هم الذين يعتقدون أن من أتى كبيرة مثل شرب الخمر والزنى
والقذف فقد كفر، وصار مخلدا في النار، فإذا ظهر قوم رأيهم رأي الخوارج أو
مذهبهم وامتنعوا من الجماعات، وقالوا: لا نصلي خلف إمام كافر لم يجز قتلهم
ولا قتالهم على هذا ما داموا في قبضة الإمام بلا خلاف، لما رواه ابن عباس أن عليا
عليه السلام بينما يخطب إذ سمع تحكيما من ناحية المسجد " لا حكم إلا لله "
فقال علي عليه السلام: لا حكم إلا لله كلمة حق أريد بها باطل، لكم علينا ثلاث:
155

لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولا نمنعكم الفئ ما دامت
أيديكم مع أيدينا، ولا نبدأكم بقتال، ولم يزد على هذا.
وروي أن ابن ملجم أتى الكوفة لقتل علي عليه السلام ففطن به وأتى به إلى
علي فقيل له: إنه يريد قتلك، فقال علي عليه السلام: لا أقتله قبل أن يقتلني.
ولأنهم إذا كانوا مع الإمام وتحت قبضته وأحكامه تجري عليهم، لم يحل
قتالهم، وإن كانوا معتقدين خلاف قوله، ألا ترى أن المنافقين كانوا على عهد
النبي عليه السلام معروفين مشهورين بأعيانهم وأنسابهم وأسمائهم، وينزل
فيهم القرآن، ولم يقتلهم النبي عليه السلام وإن كان يعلم منهم ما يعتقدونه،
وكف عنهم لإظهار الشهادتين فرفع السيف عنهم بهذا الظاهر، ولم يتعرض لما
يستنبطونه.
فإذا ثبت هذا نظرت:
فإن صرحوا بسب الإمام عزروا عندهم لمعنيين: أحدهما لو سب غير الإمام
عزر، فبأن يعزر إذا سب الإمام كان أولى، والثاني لأن فيه تقصيرا في حقه، وعندنا
يجب قتلهم إذا سبوا الأئمة.
وإن لم يصرحوا له بالسب لكنهم عرضوا له به عزروا، وقال قوم: لا
يعزرون لأن عليا عليه السلام لما سمع قول القائل " لا حكم إلا لله " يعني
حكمت في دين الله لم يعزره، والأول مذهبنا لأنه لو عرف بالقذف عزر، كذلك
إذا عرض بالشتم والسب وجب أن يعزر ولأنه إن لم يعزر أفضي إلى التصريح.
فإذا تقرر أنهم لا يقتلون ما داموا في قبضة الإمام، فإن بعث الإمام إليهم واليا
فقتلوه أو قتلوا صاحبا للإمام غير الوالي، وكان القتل مكابرة ظاهرة في جوف
البلد، فعليهم القود، لما روي أن عليا عليه السلام بعث عبد الله بن خباب عاملا
على الخوارج بالنهر وإن قتلوه، فأرسل إليهم: أن ادفعوا إلينا قاتله لنقتله به، فلم
يفعلوا وقالوا: كلنا قتله، فقال: استسلموا بحكم الله عليكم، فأبوا فسار إليهم
فقاتلهم وأصاب أكثرهم.
156

وإذا تقرر أنا نقتله قصاصا فهل يتحتم القصاص أم لا؟ قال قوم: يتحتم لأنهم
وإن كانوا معه في البلد فقد شهروا السلاح معاندين، وقتلوه، فهو كقطاع الطريق
سواء وهذا مذهبنا، وقال آخرون: لا يتحتم ولولي القتل أن يعفو عن القتل لأن
قطاع الطريق متى شهروا السلاح وأخافوا السبيل لقطع الطريق وأخذ أموال
الناس فقتلهم متحتم وهؤلاء قتلوه جهرا لغير هذا فلم يتحتم عليهم القود.
إذا حضر النساء والصبيان والعبيد القتال مع أهل البغي، قوتلوا مع الرجال
وإن أتى القتل عليهم، لأن العادل يقاتل أهل البغي في حكم الدافع عن نفسه
وماله، ولو قصدها له وأعانته امرأة له أو عبد له أو غلام مراهق كان له قتله، وإن
أتى القتل عليه.
إذا وقع أسير من أهل البغي في أيدي أهل العدل، فإن كان من أهل القتال
وهو الشاب والجلد الذي يقاتل كان له حبسه ولم يكن له قتله، وقال بعضهم: له
قتله والأول مذهبنا.
فإذا ثبت أنه لا يقتل فإنه يحبس وتعرض عليه المبايعة، فإن بايع على
الطاعة والحرب قائمة، قبل ذلك منه وأطلق، وإن لم يبايع ترك في الحبس،
فإذا انقضت الحرب فإذا أتوا تائبين أو طرحوا السلاح وتركوا القتال أو ولوا
مدبرين إلى غير فئة أطلقناه، وإن ولوا مدبرين إلى فئة لا يطلق عندنا في هذه
الحالة، وقال قوم: يطلق لأنه لا يتبع مدبرهم، وقد بينا أنه يتبع مدبرهم إذا ولوا
منهزمين إلى فئة.
وإن كان الأسير من غير أهل القتال كالنساء والصبيان والمراهقين والعبيد،
قال قوم: لا يحبسون بل يطلقون، لأنهم ليسوا من أهل المبايعة، وقال بعضهم:
يحبسون كالرجال الشباب سواء، وهو الأقوى عندي، لأن في ذلك كسرا
لقلوبهم، وفلا لجمعهم، وهكذا الحكم في من لا يقاتل كالزمن والشيخ الفاني
الحكم فيه كالحكم في النساء والصبيان سواء.
إذا سأل أهل البغي الإنظار وتأخير القتال نظرت، فإن سألوا إنظارهم زمانا
157

قليلا كاليوم ونحو ذلك أنظرهم ليدبروا ويتفكروا في الطاعة، لأنه من المصلحة،
وإن سألوا الإنظار مدة طويلة كالشهر ونصف الشهر ونحو هذا، بحث الإمام عن
هذا ونظر فيه، فإن علم أنها مكيدة وتدبير على القتال والتجمع لذلك، عاجلهم
بالقتال حذرا أن يتم عليهم منهم ما يتعبه وربما وقع الظفر به، وإن علم أن القصد
التكفؤ والتدبير في الطاعة، ورجا دخولهم في طاعته أنظرهم لأنها مصلحة.
ومتى قلنا: لا يمهلهم، فسألوه الإنظار ببذل مال بذلوه لم يجز أخذ المال على
تأخير قتالهم، وهو لا يأمن قوتهم واشتداد شوكتهم، لأن المال إنما يؤخذ على
ترك القتال ذلة وصغارا، ولا صغار على المسلمين ولأنه ربما أنفق أكثر مما يأخذ
منهم، فإن سألوا الإنظار ببذل الرهائن من أولادهم ونحو هذا لم يجز له تأخير
القتال لأنه ربما قويت شوكتهم، فإذا قاتلونا لم يحل لنا قتل الرهائن، لأن الجاني
غيرهم فلهذا لم نأخذ الرهائن.
وإن كان في أيدي أهل البغي أسير من أهل العدل، فطلبوا الصلح من أهل
العدل والحرب قائمة، وضمنوا تخلية من عندهم من الأسرى، وأعطوا بذلك
رهائن قبلت الرهائن، واستوثق للمسلمين، ثم ينظر فإن أطلقوا من في أيديهم من
الأسارى أطلق أساراهم، وإن قتلوا الأسارى لم يقتل أساراهم لأن القاتل غيرهم،
ثم ينظر فيهم، فإن كانت الحرب قائمة لم يطلق الأسارى، فإذا انقضت الحرب
أطلقوا رهائنهم كما يطلق أسيرهم سواء.
إن خاف على الفئة العادلة الضعف لقلتها، وخاف أن تنالهم نكبة من أهل
البغي كان له الإنظار حتى تشتد شوكته، ويقوى أمره، ويكثر جنده، لأنه لا يأمن
إن قاتلهم أن يهزموه وربما استأصلوا شافته، فلهذا كان له إنظارهم.
إذا استعان أهل البغي على قتال أهل العدل بالمشركين لم يخل من ثلاثة
أحوال: إما أن يستعينوا بأهل الحرب أو بأهل الذمة أو بالمستأمنين.
فإن استعانوا بأهل الحرب وعقدوا لهم ذمة أو أمانا على هذا، كان ما فعلوه
باطلا لا ينعقد لهم أمان، ولا يثبت لهم ذمة، لأن من شرط صحة عقد الذمة أن
158

يبذلوا الجزية وتجري عليهم أحكامنا، ولا يجتمعوا على قتال المسلمين، فإذا كان
هذا شرطا في صحة عقد الذمة، لم تجزء الذمة بشرط قتال المسلمين، وأيضا لو
كان لهم عهد وذمة مؤبدة فقاتلوا المسلمين انتقض عهدهم، فبأن لا يثبت لهم ذمة
بهذا الشرط أولى، وأيضا عقد الأمان يقتضي الكف عنا وأن نكف عنهم، وهذا
شرط أن لا يكف بعضنا عن بعض، وهذا يبطل العهد.
فإذا ثبت أنه لا ينعقد لهم أمان ولا عهد، فإذا أعانوا أهل البغي على قتال أهل
العدل، كانوا كالمنفردين عنهم بالقتال، يقاتلون ويقتلون، مقبلين ومدبرين كأهل
الحرب سواء، فإن وقعوا في الأسر كان الإمام مخيرا فيهم بين المن والقتل
والاسترقاق والفداء، بل ليس لأهل البغي أن يتعرضوا لهم، لا لأن الأمان صح
لهم لكن لأنهم قد بذلوا لهم الأمان، وإن كان فاسدا لزمهم الكف عنهم لسكونهم
إليهم واعتمادهم على قولهم.
فإن قالوا: أليس عندكم أن عقد الأمان يصح من آحاد المسلمين كيف لم
يصح من أهل البغي؟ قلنا: لم يصح لمعنى آخر، وهو أنهم شرطوا ما يبطله.
وأما إن استعانوا بأهل الذمة فعاونوهم وقاتلوا معهم فهل تنتقض ذمتهم أو
لا؟ نظرت.
فإن ادعوا عذرا وذكروا شبهة، فإن قالوا: ما قاتلناكم طائعين بل مكرهين
مقهورين، فالقول قولهم، وهكذا لو قالوا: القتال مع أهل البغي ظننا أن طائفة من
المسلمين إذا طلبوا المعونة إعانتهم جائزة، فالقول قولهم، وكان هذا شبهة في بقاء
ذمتهم، وثبوت عهدهم.
وأما إن قاتلوا عالمين بذلك فإنه تنتقض ذمتهم عندنا، وقال قوم: لا
تنتقض، والأول أصح لأنهم لو انفروا بقتال أهل العدل نقضوا العهد، فكذلك إذا
قاتلوهم مع أهل البغي، هذا إذا لم يشترط في أصل العقد لهم الكف عن القتال
نطقا.
فأما إن كان مشروطا نطقا وخالفوه نقضوا الذمة، فكل موضع قلنا: انتقض
159

العهد، فهل يقتلون أو يسبون أو يردون إلى دار الحرب؟ قد بيناه في السير،
ومتى قلنا: ما انتقض عهدهم، فهم كأهل البغي لا يتبع مدبرهم ولا يدنف على
جريحهم كأهل البغي سواء.
فأما إن أتلفوا نفوسا وأموالا ضمنوها عندنا كما قلنا في أهل البغي، ومن قال:
لا ضمان على أهل البغي، أوجب على أهل الذمة الضمان، والفرق بينهما أن الله
أمرنا بالصلح بين الطائفتين ولم يذكر ضمان الدم والمال، والطائفتان مؤمنتان،
وليسوا هاهنا كذلك، والفرق الآخر أن الضمان سقط من أهل البغي لأن في
تضمينهم تنفيرهم وبقاءهم على المخالفة والمباينة ولهذا سقط عنهم الضمان، وليس
كذلك أهل الذمة، لأنا قد أمنا هذا فيهم فلا يخاف تنفيرهم ولا مقامهم على
المعاندة، فلهذا ضمناهم.
وأما إن استعانوا بمن له أمان فقاتلوا معهم إلى مدة انتقض أمانهم، فإن ذكروا
أنهم أكرهوا على ذلك وأقاموا البينة على ذلك كانوا على العهد، وإن لم يقيموا
بينة انتقض أمانهم.
والفرق بينهم وبين أهل الذمة أن عقد الذمة أقوى وأوكد في بابه من عقد
الأمان، بدليل أن الأمان إلى مدة والذمة مؤبدة ولأن على الإمام أن يكف عن أهل
الذمة من يقصدهم كما يكف عن المسلمين من يقصدهم سواء، وليس كذلك
المستأمن لأن الإمام يكف عنه من تجري عليه أحكامنا، فأما أهل الحرب فلا يكفه
عنهم، فلما كانوا أقوى جاز أن تبقى الذمة مع هذه المعاونة، ولا يبقى عقد الأمان
مع هذه المعاونة.
لا يجوز للإمام أن يستعين على قتال أهل البغي بمن يرى قتالهم مدبرين،
ويجهز على جريحهم ويقتل أسيرهم، لأن قتلهم مدبرين ظلم وعدوان، فلا يستعين
بمن يتعدى ويظلم فإن احتاج إلى الاستعانة بهم لم يجز إلا بشرطين:
أحدهما: ألا يجد من يقوم مقامهم.
والثاني: أن يكون مع الإمام عدة وقوة متى علم منهم قتلهم وقصدهم
160

مدبرين أمكنه كفه عنهم.
فإن عدم الشرطان أو أحدهما فلا يستعين بهم، فأما إن استعان عليهم بأهل
الذمة فلا يجوز بحال، لأنه إذا لم يستعن عليهم بمن يرى قتلهم مدبرين مع اعتقاده
الإيمان فبأن لا يستعين عليهم بمن يرى قتلهم مدبرين وهو يخالفهم في الدين
ويعتقد قتلهم طاعة أولى، ولأنهم يرون قتلهم ديانة وطاعة وقربة فلا يستعين عليهم
بمن يرى هذا فيهم.
للإمام أن يستعين على قتال أهل الحرب بالمشركين، فإن رسول الله صلى
الله عليه وآله قد فعل هذا لأنه استعار من صفوان سبعين درعا عام الفتح وخرج
معه إلى هوازن، وكان مشركا، واستعان بغيره من المشركين، ولا يجوز إلا
بشرطين:
أحدهما: أن يكون المستعان به حسن الرأي في الإسلام.
والثاني: أن يكون بالإمام من القوة ما لو صار أهل الشرك الذين معه مع
أهل الحرب في مكان واحد أمكنه دفع الجميع عن نفسه.
لأن النبي عليه السلام هكذا فعل: استعان بمن كان حسن الرأي في
الإسلام، لأن هوازن غلبت في أول النهار وانهزم أصحاب النبي عليه السلام
فقال رجل: غلبت هوازن وقتل محمد، فقال له صفوان بن أمية: بفيك الحجر
لرب من قريش أحب إلينا من رب من هوازن، ووقف رسول الله صلى الله عليه
وآله وتراجع الناس، ثبت بهذا أنه استعان بمن له الرأي الحسن في الإسلام.
إذا افترق أهل البغي طائفتين ثم اقتتلت الطائفتان الباغيتان، فإن كان للإمام
به قوة ومنة على قهرهما فعل، ولم يكن له معاونة إحديهما على الأخرى، لأن كل
واحدة منهما على الخطأ، والإعانة على الخطأ من غير حاجة خطأ، ولأن معاونة
إحديهما كالأمان لهم مع مقامهم على البغي، ولا يجوز عقد الأمان لأهل البغي.
فإذا ثبت أن هذا لا يسوع، قاتلهما معا حتى يعودا إلى الطاعة، وإن علم من
نفسه أنه يضعف عنهما ولا يأمن أن تجتمع الطائفتان معا عليه، كان له أن يضم
161

إحديهما إلى نفسه ويقاتل الأخرى، ينوي بقتالها كسرها ومنعها عن البغي، ولا
ينوي معاونة من يقاتل معها، فإذا ثبت أنه يقاتل مع إحديهما فإنه يقاتل مع التي
هي إلى الحق أقرب، فإن كانا في التأويل سواء قاتل مع التي يرى المصلحة له في
القتال معها، فإذا انهزمت تلك الطائفة أو أطاعته لم يكن له قتال التي قاتل معها
حتى يدعو إلى الإجابة ويعذر إليها، لأن قتاله معها يجري مجرى الأمان لها.
لا يسوع للإمام العادل أن يقاتل أهل البغي بالنار، ولا أن ينصب عليهم
المنجنيق لأنه إنما له أن يقاتل من أهل البغي من يقاتله منهم دون من لا يقاتله، فلو
حرقهم بالنار ورماهم بحجر المنجنيق، لم يؤمن أن يقتل من لا يحل قتله، وإن
اضطر إلى ذلك ساع ذلك له، وإنما يضطر إليه في موضعين:
أحدهما: على سبيل المقاتلة، وهو أن يقاتلوه بذلك فيقاتلهم به على سبيل
الدفع عن نفسه.
والثاني: أن يحاصروه من كل جانب فلا يمكنه دفع أحد منهم إلا بهذه الآلة
فحينئذ يقاتلهم به ليجعل لنفسه طريقا يخرج به من وسطهم.
إذا غلب أهل البغي على بلد فجبوا الصدقات وأخذوا الجزية واستأدوا
الخراج، وقع ذلك موقعه عند الفقهاء، لأن عليا عليه السلام قد هزم الناس
بالبصرة وبصفين ولم ينقل عنه أنه لم يعتد بما فعلوه، ولا استدرك عليهم،
وعندنا لا يقع ذلك موقعه، غير أن للإمام أن يجيزه، لأنه إن أخذ منهم مرة أخرى
أدى ذلك إلى الإضرار بالناس، فلذلك أجاز علي عليه السلام ذلك.
وأما الحدود إذا أقاموها فلا تعاد مرة أخرى لما ذكرناه، فإذا زالت أيديهم
عنه وملكه أهل العدل طالبهم العادل بذلك، فإن ذكروا أنه استوفى منهم فإن
أقاموا البينة به نفذها، وإن لم يكن له بينة، أما الصدقات إذا ادعى رب المال أنها
قبضت منه، فالقول قوله مع يمينه لأنه أمين، وهذه اليمين على الوجوب عند قوم
وعند آخرين على الاستحباب.
وهكذا إذا طالب الساعي رب المال بالزكاة فادعى أنها لا تجب عليه أو قد
162

استوفيت منه، فإن كان قوله لا يخالف الظاهر مثل أن قال: قد حال الحول على
مالك، فقال رب المال: ما حال، فالقول قوله مع يمينه استحبابا لأن قوله لا
يخالف الظاهر، لأن الأصل أن الحول ما حال، وإن كان قوله مخالفا للظاهر مثل
أن قال: قد حال الحول على مالك، فقال: انقطع الحول في أثناء الحول لأني
بعتها ثم اشتريتها، أو قال: قد حال الحول وقد أخذ الزكاة مني ساع قبلك،
فالقول قوله لأنه أمين.
وهل اليمين واجبة أو مستحبة؟ على ما مضى، فمن قال: مستحبة، فإن حلف
وإلا تركه، ومن قال: على الوجوب، فإن حلف أسقط الدعوى، وإن لم يحلف
أخذنا بالزكاة لا بالنكول، ولكن بظاهر الوجوب عليه وعندنا أنه لا يمين عليه
بحال، وكذلك في هذه المسألة سواء.
وأما أهل الذمة إذا ذكروا أنهم أدوا الجزية فلا يقبل قولهم، لأن الجزية بمنزلة
الأجرة، فإنها تحقن الدم والمساكنة، ومن سكن الدار وادعى أنه أدى الأجرة لم
يقبل قوله، ولأنه لا أمانة لهم، ويفارق أهل الزكاة لأنهم أمناء.
وأما الخراج فإن زعموا أنه قد استوفى منهم فهل يقبل قولهم في ذلك أم لا؟
قال قوم: يقبل قولهم، لأنهم مسلمون، وعندنا لا يقبل قولهم، لأن الخراج ثمن أو
أجرة المثل، وأيهما كان لم يقبل قولهم في أدائه، ويفارق الزكاة لأنها على سبيل
المواساة وأداؤها عبادة فلهذا قبل قولهم، وليس كذلك الجزية والخراج، لأنها
معاوضة وهذا بدل في معاوضة فلم يقبل قوله في أدائه فبان الفصل بينهما.
إذا نصب أهل البغي قاضيا يقضى بينهم أو بين غيرهم نظرت:
فإن كان القاضي ممن يعتقد إباحة أموال أهل العدل ودمائهم، لم ينعقد له
قضاء، ولم ينفذ له حكم، سواء وافق الحق أو لم يوافقه، لأن من يستبيح أموال
أهل العدل لم يؤمن على القضاء، وعندهم لم يكن من أهل الاجتهاد.
وإن كان ثقة في دينه لا يستبيح أموال أهل العدل ولا دماءهم عندنا لم ينفذ
قضاؤه أيضا لأنه لم يتقلده من قبل من له التولية، وقال قوم: ينفذ قضاؤه كما ينفذ
163

قضاء غيره، سواء كان القاضي من أهل البغي أو من أهل العدل، وقال بعضهم:
إن كان من أهل العدل نفذ حكمه، وإن كان من أهل البغي لم ينعقد له قضاء،
ولم ينفذ ما كان حكم به.
فمن أجاز قضاءهم قال: لا يرد من قضاياهم إلا ما يرد من قضايا غيرهم، فإن
كان حكمه قد خالف فيه كتابا أو سنة أو إجماعا أو قياسا لا يحتمل إلا معنى
واحدا نقضناه، وإن لم يخالف شيئا من هذا أمضيناه ونفذناه.
فإن كان حكم بسقوط الضمان عنهم فيما أتلفوه على أهل العدل، نظرت:
فإن كان حكم بسقوط الضمان عما أتلفوه قبل القتال أو بعده لم ينفذ حكمه، لأنه
خالف الإجماع، وإن كان حكم بسقوط الضمان عنهم فيما أتلفوه حال القتال،
سقط لأنها مسألة خلاف يسوع فيها الاجتهاد، وقد بينا على مذهبنا أن جميع
ذلك لا ينفذ على وجه، لأن ولايته غير منعقدة، ولأن الاجتهاد عندنا باطل،
والحق في واحد لا يسوع خلافه.
فأما إذا كتب قاضيهم إلى قاضي أهل العدل بحكم حكم به أو بما ثبت
عنده، عندنا لا يجوز له أن يحكم به. وعندهم يستحب له أن يرده ولا يقبله استهانة
بهم وكسرا لقلوبهم، فإن قبله ونفذه جاز، وقال قوم: يرد الكتاب ولا يعمل به
على ما قلناه.
إذا شهد عدل من أهل البغي لم تقبل شهادته عندنا، وعندهم تقبل غير أن
بعضهم يقول: إن أهل البغي فساق لكنه فسق على طريق التدين، والفسق على
طريق التدين لا ترد به الشهادة عنده لأنه يقبل شهادة أهل الذمة. وقد قلنا أن
عندنا أنه لا تقبل لأنهم فساق، ولا تقبل عندنا شهادة الفاسق، سواء كان على
طريق التدين أو لا على وجه التدين.
وقال بعضهم: أقبل شهادته إذا كان ممن لا يرى أنه يشهد لصاحبه بتصديقه
مثل الخطابية، فإنهم يعتقدون تحريم الكذب والإقدام على اليمين الكاذبة، فإذا
كان لبعضهم حق على من يجحده ولا شاهد له به يذكر ذلك لأهل دينه وحلف
164

له أنه صادق فيما يدعيه، فإذا حلف ساع له في دينه أن يشهد له بالحق مطلقا على
ما صح عنده باليمين، فمن كان هذا دينه واعتقاده لا تقبل شهادته، لأنه لا يؤمن
أن يشهد على هذا المذهب، ولأنه شاهد زور فلا تقبل شهادته بوجه.
وقال بعضهم: إن شهد بذلك مطلقا لم أقبل شهادته، لئلا يكون على مذهبه،
وإن شهد على إقرار من عليه الدين أو قبض مشاهدة قبلتها، لأنه لا يمكن أن يشهد
بأنه شاهد هذا وما شاهده.
إذا قتل مسلم في معركة البغاة.
فإن كان من أهل البغي غسل وصلى عليه كسائر المسلمين، وقال بعضهم:
يغسل ولا يصلى عليه لأنه باين الإمام كالحربي، ويقتضي مذهبنا أن لا يغسل ولا
يصلى عليه لأنه كافر عندنا كالحربي.
وإن كان المقتول من أهل العدل يصلى عليه ولا يغسل عندنا لأنه شهيد،
وقال قوم: لا يصلى عليه لأنه مقتول في المعركة، وقال آخرون: يغسل ويصلى
عليه.
يكره للعادل قتل ذي رحم له من أهل البغي ويعرض عنه ليلي قتله غيره،
لقوله تعالى: وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما
وصاحبهما في الدنيا معروفا، وروي أن أبا بكر أراد قتل أبيه يوم أحد فنهاه النبي عليه وآله السلام عنه وقال: دعه ليلي قتله غيرك، وكف أبا حذيفة عن قتل أبيه.
وإذا نهى عن قتل أبيه الحربي فبأن ينهى عن قتل الباغي أولى، فإن خالف
وقتله كان جائزا، وروي أن أبا عبيدة قتل أباه فقال له النبي صلى الله عليه وآله:
لم قتلته؟ فقال: سمعته يسبك، فسكت ولم ينكر.
ويجوز أن يقصد قتل أهل البغي لأنه محكوم بكفره، وقال قوم: لا يقصد
قتله، بل يقصد دفعهم وتقليل حدهم وتفريق جمعهم، كما يدفع الإنسان عن
نفسه وماله، وإن أتى على نفسه.
165

إذا قصد رجل رجلا يريد نفسه أو ماله أو حريمه فله أن يقاتله دفعا عن نفسه
بأقل ما يمكنه دفعه به، وإن أتى ذلك على نفسه لقوله عليه السلام: من قتل دون
ماله فهو شهيد.
فإذا ثبت أن ذلك له، فهل يجب عليه الدفع عن نفسه أم لا؟
قال قوم: يجب عليه لقوله تعالى: ولا تقتلوا أنفسكم، وقوله: ولا تلقوا
بأيديكم إلى التهلكة، ولأنه قادر على ما به خلاص نفسه من التلف، فلزمه فعله
كالطعام والشراب.
وقال آخرون: لا يجب عليه وله أن يستسلم للقتل، فإن عثمان استسلم للقتل
مع القدرة على الدفع، لأنه قيل إنه كان في داره أربعمائة مملوك، فقال: من
ألقى سلاحه فهو حر، فلم يقاتل أحد فقتل، والأول أقوى لأن دفع الضرر واجب
عن النفس بحكم العقل، وكذلك المضطر إلى طعام أو شراب نجس وجب عليه
أن يتناوله، وقال بعضهم: لا يجب لأنه يتوفى نجاسة.
فإن قصده قاصد ليقتله وكان قادرا على الهرب منه وجب عليه الهرب، وقال
قوم: لا يجب، وقال آخرون: إن كان يقدر على دفعه عن نفسه لا يجب، فإن لم
يقدر على دفعه وقدر على الهرب وجب عليه الهرب.
أمان الحر المسلم والمرأة وأمان العبد إذا كان مأذونا له في القتال صحيح
بلا خلاف.
فإذا ثبت أنه جائز فإنما يجوز أن يعقد الأمان لآحاد المشركين، والنفر
اليسير، كالقافلة الصغيرة ونحو هذا، فأما إن أراد عقد الأمان لكل المشركين أو
لجنس من أجناسهم كالترك والروم والهند فلا يصح لأن فيه افتتانا على الإمام.
وأما الإمام فيجوز له أن يعقد الأمان للكل، ولأي جنس شاء إذا كانت
المصلحة في ذلك، فأما صاحب الإمام فإنما يعقد الأمان للجنس الذي في موضع
نظره منهم، كوالي خراسان يعقد للترك، ووالي مصر يعقد للروم، ووالي عمان
يعقد للهند.
166

فأما أمان العبد الذي لم يأذن له مولاه للقتال، فجائز عند قوم، وقال
آخرون: إذا لم يأذن له مولاه في القتال لم ينعقد أمانه، والأول مذهبنا لقوله عليه
وآله السلام: المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم.
يجوز لأهل العدل أن يستمتعوا بدواب أهل البغي وسلاحهم يركبونها
للقتال ويرمون بنشاب لهم حال القتال، وفي غير حال القتال متى حصل شئ من
ذلك مما يحويه العسكر كان غنيمة، ولا يجب رده على أربابه، وقال قوم: لا
يجوز شئ من ذلك، ومتى حصل شئ منه كان محفوظا لأربابه، فإذا انقضت
الحرب رد عليهم، وقال بعضهم: يجوز الاستمتاع بدوابهم وسلاحهم والحرب
قائمة فإذا انقضت كان ذلك ردا عليهم.
ومن منع منه قال: لا يجوز ذلك حال الاختيار، فأما حال الاضطرار مثل
أن وقعت هزيمة واحتاج الرجل إلى دابة ينجو عليها، فإذا وجد دابة لهم حل
ذلك له، وكذلك إذا لم يجد ما يدفع به عن نفسه إلا سلاحهم جاز ذلك، لما
أوجبته الحال لأنها أموال أهل البغي وأموال أهل البغي وغيرهم فيها سواء، كما لو
اضطر إلى طعام الغير جاز له أكله.
إذا امتنع أهل البغي بدارهم وأتوا ما يوجب عليهم الحد، فمتى ظهرنا عليهم
أقيم ذلك عليهم، وحكي عن أبي حنيفة أنه لا يقام عليهم الحدود، ولا يستوفى
منهم الحقوق بناء على أصله في دار الحرب، والأول مذهبنا.
167

كتاب المرتد
قال الله تعالى: ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من
الخاسرين، وقال: إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم
يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا، وقال تعالى: ومن يرتدد منكم عن دينه
فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب
النار هم فيها خالدون، فدلت هذه الآيات كلها على خطر الارتداد.
فإذا ثبت أنها محرمة فمن ارتد عن الإسلام لم يخل من أحد أمرين: إما أن
يكون رجلا أو امرأة.
فإن كان رجلا قتل لإجماع الأمة، وروي عن النبي عليه السلام قال:
لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو
قتل نفس بغير نفس، وروى عبد الله بن عباس أن النبي عليه السلام قال: من بدل
دينه فاقتلوه.
وروي أن معاذا قدم اليمن وبها أبو موسى الأشعري، فقيل له: إن يهوديا أسلم
ثم ارتد منذ شهرين، فقال: والله لا جلست - وفي بعضها لا نزلت - حتى يقتل
قضى رسول الله صلى الله عليه وآله بذلك، فقتل، وعليه إجماع الأمة.
وروي أن قوما قالوا لعلي عليه السلام: أنت إله، فأجج نارا فحرقهم فيها،
فقال ابن عباس: لو كنت أنا لقتلتهم بالسيف، سمعت النبي عليه السلام
168

يقول: لا تعذبوا بعذاب الله، من بدل دينه فاقتلوه.
وفي هذه القضية قول علي عليه السلام:
لما رأيت الأمر أمرا منكرا * أججت ناري ودعوت قنبرا
وروي أن شيخا تنصر، فقال له علي عليه السلام: ارتددت؟ فقال: نعم،
فقال: لعلك أردت أن تصيب مالا ثم ترجع؟ قال: لا، قال: لعلك ارتددت
بسبب امرأة خطبتها فأبت عليك فأردت أن تتزوج بها ثم ترجع؟ قال: لا، قال:
فارجع، قال: لا حتى ألقى المسيح، فقتله.
وإن كان المرتد امرأة حبست عندنا وتستتاب ولا تقتل، فإن لحقت بدار
الحرب سبيت واسترقت، وقال قوم: تقتل مثل الرجل سواء، لأن النبي عليه وآله
السلام لما فتحت مكة أمر بقتل مغنيتين كانتا لأبي جهل تغنيان بسب النبي عليه
السلام فقتلتا، وهذا ليس بصحيح لأنه عليه وآله السلام ما أمر بقتلهما للارتداد،
لأنهما ما أسلمتا لكن لكفرهما والغناء بسبه عليه السلام.
الكفر على ثلاثة أضرب: أصلي وارتداد وزندقة.
فالأصلي ما كان كافرا لم يزل وهو المتولد بين كافرين، فمتى أسلم قبل
إسلامه لقوله تعالى: قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف، وروي عن
النبي عليه السلام أنه قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا
قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم، وهؤلاء قد قالوها، وهذا إجماع أيضا.
وأما الردة فإن يكفر بعد الإيمان، سواء كان مؤمنا لم يزل فارتد أو كان
كافرا فأسلم ثم ارتد، فمتى أسلم بعد ردته قبل إسلامه، وحقن دمه كإسلام الكافر
الأصلي، وفي الناس من قال: لا يقبل إسلام المرتد بوجه.
وعندنا أن المرتد على ضربين: مرتد ولد على فطرة الإسلام، فهذا لا يقبل
إسلامه، ومتى ارتد وجب قتله، والآخر كان كافرا فأسلم ثم ارتد فهذا يستتاب فإن
رجع وإلا قتل.
وأما الزنديق فقال قوم: تقبل توبته، وقال آخرون: لم تقبل توبته، وروى
169

ذلك أصحابنا.
من يستتاب فهل الاستتابة واجبة أو مستحبة؟ قال قوم: واجبة، وقال
آخرون: مستحبة، والأول أقوى، لأن ظاهر الأمر الوجوب، وكم يستتاب، قال
قوم: يستتاب ثلاثا، وقال آخرون: يستتاب القدر الذي يمكنه فيه الرجوع، وهو
الأقوى، والأول أحوط لأنه ربما دخلت عليه شبهة فيتأملها وينبه عليها.
فأما إن ارتد وله مال فهل يزول ملكه عن ماله بالردة؟ قال قوم: يوقف ماله
ويكون مراعى، فإن مات أو قتل تبينا أنه زال عنه بالردة، وإن تاب تبينا أن ملكه
باق بحاله، وما زال، فعلى هذا يكون تصرفه في ماله موقوفا، وقال آخرون: لا
يزول ملكه عن ماله وتصرفه صحيح، وقال آخرون: يزول ملكه بنفس الردة
وتصرفه باطل.
والذي يقتضيه مذهبنا أن المرتد إن كان من فطرة الإسلام فإنه يزول ملكه
بنفس الردة وتصرفه باطل، وإن كان عن إسلام قبله كان كافرا فإن ماله موقوف
وتصرفه موقوف، وإن قلنا لم تزل كان قويا لأنه لا دليل عليه والأصل بقاء
الملك.
فإذا ثبت ذلك فإن كان عليه دين أو أرش جناية أو نفقة قرابة وزوجة
استوفى كل هذا من ماله على سائر الأقوال، لأن هذه الحقوق لا تعطل أصلا،
فلا بد من استيفائها، هذا إذا كان في حياته.
فأما بعد وفاته فإنه يقضى الديون وأرش الجنايات ونفقة الزوجات - وإن
كان اجتمعت عليه - كل هذا من التركة، فأما نفقة الأقارب فلا تستوفى بعد
وفاته.
فإذا ثبت أن الكل في تركته نظرت:
فإن وفت التركة بالدين وهذه الحقوق فلا كلام، وإن فضل منها فضل أو
كان له مال ولا دين عليه ولا غيره فمتى مات أو قتل كان ماله عندنا لورثته
المسلمين، قريبين كانوا أو بعيدين، فإن لم يكن له وارث مسلم كان لبيت المال.
170

وقال قوم: يكون لبيت المال فيئا، سواء كان مالا اكتسبه حال حقن دمه أو
حال إباحة دمه، وقال قوم: ما اكتسبه حال حقن دمه - وهو حال إسلامه إلى آخر
جزء من أجزاء إسلامه - لورثته المسلم، وما اكتسبه حال إباحة دمه فئ، ومنهم
من قال: مثل ما قلناه.
إذا ترك الصلاة نظرت: فإن كان لا يعتقد وجوبها فهو كافر إجماعا لأنه
خالف إجماع الخاصة والعامة، وإن تركها مع اعتقاد وجوبها وقال: أنا أكسل
عنها أو يضيق صدري منها، استتيب فإن تاب وإلا قتل، والاستتابة على ما قلناه في
المرتد، فتارك الصلاة يجب قتله عند هذا القائل.
وقال قوم: لا يقتل، وإنما يحبس حتى يصلى، وقال بعضهم: يكفر بذلك،
وعندنا أنه لا يكفر ويعزر دفعة فإن عاد عزر، فإن عاد عزر، فإن عاد رابعا قتل لما
روي عنهم عليه السلام أن أصحاب الكبائر يقتلون في الرابعة.
إذا ارتد المسلم فبادر رجل فقتله قبل الاستتابة فلا ضمان عليه، لأنه مباح
الدم لقوله عليه السلام: من بدل دينه فاقتلوه، إلا أنه وإن لم يجب عليه الضمان
فعليه التعزير لأنه فعله بغير إذن الإمام، وإن جرحه جارح ثم عاد إلى الإسلام
فسرى إلى نفسه فمات، فلا ضمان على الجاني، وقال قوم: عليه نصف الدية
والأول أصح عندنا.
فأما إذا قتل المرتد لم يخل من أحد أمرين: إما أن يكون القتل عمدا أو خطأ.
فإن كان عمدا محضا يوجب القود، فالولي بالخيار بين القصاص والعفو،
سواء تقدم القتل على الردة أو تأخر عنها، فإن القصاص مقدم عليها، فإن اختار
القود قتلناه وفات القتل بالردة، كما لو مات المرتد، وإن اختار العفو على مال
تثبت الدية مغلظة في ماله ويقتل بالردة.
وإن كان القتل خطأ لم يعقل عنه العاقلة وتكون الدية مخففة مؤجلة في ماله
تستوفى في ثلاث سنين كل سنة ثلثها، فإن مات أو قتل قبل انقضائها حلت
بوفاته، لأن الديون المؤجلة تحل بالوفاة وتستوفى من ماله.
171

قد مضى الكلام في ملك المرتد والاختلاف فيه، فأما تصرفه، فمن قال:
ملكه زال، فقد انقطع تصرفه فيه، ومن قال: ثابت أو مراعى، فالحاكم يحجر عليه
فيه لئلا يتصرف فيه بالإتلاف، لأن هذا المال محفوظ، فإن عاد إلى الإسلام رد
إليه، وإن مات أو قتل كان فيئا أو ميراثا على ما تقدم.
فإذا ثبت أنه يحجر عليه فإنه يحفظ كل صنف بما يحفظ مثله به، فإن كان
ناضا أو أثاثا دفع إلى عدل، وإن كان عقارا فكذلك، ويؤمر بحفظه واستغلاله،
وإن كان له رقيق دفع ذكور الرقيق إلى عدل أيضا، ويدفع الإناث إلى عدل من
النساء، فمن كان ذا صناعة صنعها ويؤاجر بذلك، وإن لم يكن له صنعة يؤاجر
للخدمة وتؤاجر الأمة من النساء، والذكور من الرجال والأمة القن وأم الولد في
هذا سواء.
وأما المكاتب فيكون على كتابته يؤدى من مال الكتابة إلى الإمام ويعتق لأن
الإمام قائم مقامه فيه، ويكون ولاؤه له، إن كان شرط عندنا، وإن عاد إلى الإسلام
رد إليه، وإن لحق بدار الحرب لم يغير من ذلك شيئا إلا في فصل وهو أنه يباع
عليه الحيوان لأنه لا يدري متى يكون رجوعه إذا كان له الحظ في بيعه، فأما ما
كان له الحظ في حفظه وإيقافه حفظ عليه.
وقال قوم: لحوقه بدار الحرب بمنزلة موته، يحل ديونه المؤجلة، ويعتق
المدبر وأم الولد، ويقسم ماله بين ورثته على فرائض الله، والأول أقوى لأنه لا
دليل على ذلك، ولأنه ربما عاد إلى الإسلام فيضيع ماله.
فأما زوجاته فقد بيناه في كتاب النكاح، فإن ارتد قبل الدخول بانت منه
بنفس الردة، ولها نصف المهر، وإن كان بعد الدخول وقف الفسخ على انقضاء
العدة، فإن عاد إلى الإسلام قبل انقضاء العدة فهما على الزوجية وإن انقضت
العدة قبل رجوعه بانت منه ونفقتها في ماله قبل انقضاء العدة.
فأما ولده فلا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون ولد حال الإسلام أو في
حال الردة.
172

فإن ولد حال الإسلام أو خلفه حملا فهو على الإسلام لا يتبع أباه في الدين،
ويكون ولده مسلما، فإن قتله قاتل قبل البلوغ فعليه القود، وإذا بلغ فإن وصف
الإسلام أقر عليه، وإن لم يصف الإسلام ووصف الكفر استتيب، فإن تاب وإلا
قتل بمنزلة أبيه سواء، وقال بعضهم: إن لم يصف الإسلام أقر على كفره،
والصحيح هو الأول، لكن إن قتله قاتل بعد البلوغ قبل أن يصف الإسلام سقط
عنه القود للشبهة، ولو قتله قبل البلوغ لوجب القود، لأنه محكوم بإسلامه، ويقوى
في نفسي أنه يجب على قاتله القود على كل حال ما لم يظهر منه كفر.
فأما من ولد بعد الردة من كافرة مرتدة أو غيرها فهو كافر لأنه ولد بين
كافرين، وهل يجوز استرقاقه أم لا؟
قال قوم: لا يجوز لأن الولد يلحق بأبيه، فلما ثبت أن أباه لا يسترق لأنه ثبت
له حرمة الإسلام فكذلك ولده.
وقال آخرون: يسترق لأنه كافر بين كافرين، كالكافر الأصلي، وهو
الأقوى.
ولا فصل على القولين بين أن يكونوا في دار الإسلام أو في دار الحرب،
وقال قوم: إن كانوا في دار الإسلام لا يسترقون، وإن لحقوا بدار الحرب جاز
استرقاقهم، فمن قال: لا يسترق، قال: هو بمنزلة أبيه يعرض عليه السلام فإن
رجع وإلا قتل، ومن قال: يسترق، فمتى لحق بدار الحرب فوقع في الأسر كان
كالكافر الأصلي يكون الإمام مخيرا فيه بين القتل والمن والفداء والاسترقاق، غير
أنه لا يقر على دينه ببذل الجزية لأنه قد انتقل بعد نزول القرآن.
الذمي إذا نقض العهد ولحق بدار الحرب أو المعاهد الباب واحد، وخلف
عندنا أموالا وذرية، فأمان ماله باق بحاله، لأنه لما صح أن يعقد الأمان لماله دون
نفسه، وهو أن يبعث بماله في بلاد الإسلام بأمان أو يكتب من دار الحرب إلى
الإمام أن يعقد له الأمان على ماله ففعل صح، وإن عقد لنفسه دون ماله بأن دخل
173

إلينا بأمان صح، فإذا صح كل واحد على الانفراد، فإذا انتقض أحدهما ثبت
الآخر.
فإذا ثبت أن أمانه باق بحاله، فإن مات ورثه ورثته من أهل الذمة عندي،
وقالوا: يرثه ورثته من أهل الحرب دون ورثته من أهل الذمة في دار الإسلام، لأنه
لا توارث بين أهل الحرب وأهل الذمة، لانقطاع الولاية بينهما.
فإذا صار هذا المال ملكا لحربي فهل يزول أمانه أم لا؟ قال قوم: يزول لأنه
مال من ليس بيننا وبينه أمان في نفسه ولا ماله، فهو كمال حصل لحربي في دار
الإسلام ابتداء بغير أمان، وقال آخرون: يكون على ذلك الأمان لمن ورثه لأن
كل من ورث شيئا ورثه بحقوقه كمن ورث شقصا قد استحق به الشفعة، فإن
الوارث يستحق به الشفعة، وكذلك من ورث دينا به رهن كان بحقوقه، والأول
على هذا المذهب أقوى.
فمن قال: زال أمانه، قال: يغنم ماله فينقل إلى بيت المال فيئا، ومن قال:
أمانه باق بحاله، فهو كذلك، فإن مات مالكه فورثه عنه آخر كان على الأمان
وعلى هذا أبدا فإما أن يعقد الأمان لنفسه ويدخل إلينا فيقبضه أو يبعث إلينا من
يقبضه.
فأما ولده فهم على الذمة ما داموا صغارا، فإذا بلغوا قيل لهم: لكم العهد،
فإما أن تعقدوا الذمة ببذل الجزية، وإلا فانصرفوا إلى مأمنكم.
حكم السكران عند قوم قوم حكم الصاحي فيما له وفيما عليه، فإن ارتد وهو
سكران ثم مات كان ماله فيئا، وإن أسلم وهو سكران حكم بإسلامه، وإن قتله
قاتل بعد ارتداده فلا شئ عليه ولا يقتل إن لم يتب حتى يمتنع مفيقا فاستظهر في
توبته إلى حال إفاقته.
وقال قوم: هذا استحباب لأنا قد حكمنا بارتداده، وقررناه كالصاحي، فعلى
هذا إن ارتد وهو مفيق ثم سكر وأسلم وهو سكران صح إسلامه ولا يطلق حتى
174

يفيق فيعرض عليه السلام، فإن وصفه حكم بإسلامه من حين وصفه حال سكره،
وإن وصف الكفر حكم بكفره، وهو حين امتنع بعد الإفاقة ثم استتيب الآن فإن
تاب وإلا قتل فقد حكم بإسلامه حال سكره، وإنما استبقيناه لنعرض عليه السلام
بعد إفاقته استظهارا.
وعندنا أن السكران يختلف حاله فيما له وفيما عليه، فأما طلاقه وعتقه
وعقوده كلها فلا تصح عندنا بحال، وأما إذا زنا أو لاط أو جنى أو قذف أو سرق
فإنه يتعلق به جميع أحكامه كالصاحي، وأما الكفر فينبغي أن نقول: يحكم عليه
به، ويكون حكمه على ما مضى، وكذلك يحكم بإسلامه، ويكون على ما مضى
سواء، وإنما قلنا ذلك، لأن الظواهر التي تتعلق هذه الأحكام بها عامة في
السكران والصاحي، وإنما أخرجنا بعضها بدليل.
فأما صفة إسلام المرتد والكافر الأصلي سواء، وهي أن يشهد أن لا إله إلا الله
وأن محمدا رسول الله، ويبرأ من كل دين خالف الإسلام، فإن قال: أشهد أن لا
إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، كان كافيا، والأولى أنه إذا كان لا يعترف
بالنبوات ولا بالكتب، ويكون ممن يعبد الأوثان فأتى بالشهادتين فقد أسلم، لأنه
كفر بهذا القدر فإذا اعترف به فقد أسلم.
وإذا كان هذا الكافر ممن يعتقد أن محمدا نبي لكنه يقول: بعث إلى الأميين
وهم عبدة الأوثان من العرب، دون أهل الكتاب، أو يقول: إن محمدا نبي حق،
ولكنه ما بعث بعد وسيبعث فيما بعد، فإذا اقتصر هذا على الشهادتين لم يكن
مسلما، لأنه معترف أن محمدا نبي، فلا يزول هذا التأويل حتى يبرأ من كل دين
خالف دين الإسلام.
إذا جنى في حال ردته فأتلف أنفسا وأموالا نظرت:
فإن كان وحده أو في فئة غير ممتنعة فعليه الضمان كالمسلم سواء، لأنه قد
175

التزم حكم الإسلام، ويثبت له حرمته فألزمناه ذلك، ويفارق الحربي لأنه ما التزم
حكم الإسلام، فلهذا لم يكن عليه الضمان.
فأما إن كان في منعة، وكان الإتلاف حال القتال، فعندنا عليه الضمان،
وقال بعضهم: لا ضمان عليه، وقد بينا أنه إذا جرح وهو مرتد ثم سرى إلى نفسه
فمات فلا ضمان على من جرحه سواء سرى إلى نفسه وهو على الردة أو أسلم ثم
سرت إلى نفسه، لأن الجرح إذا وقع غير مضمون كانت السراية فيه غير
مضمونة.
فأما إن جرح وهو مرتد ثم جرح بعد إسلامه ثم سرى إلى نفسه نظرت،
فإن كان الذي جرحه حال إسلامه هو الذي جرحه حال كفره فلا قود عليه لأنه
مات من جرحين مضمون وغير مضمون، وإن كان الذي جرحه حال إسلامه غير
الذي جرحه حال كفره، فهل عليه القود أم لا؟ قال قوم: عليه القود، وقال
آخرون: لا قود عليه وعليه نصف الدية، وعندنا أن عليه القود ويرد عليه نصف
الدية.
إذا ارتد وهو مفيق ثم جن، لم يقتل حال جنونه، لأن القتل بالردة والمقام،
فإذا جن لم يكن من أهل الإقامة عليها. فلهذا لم يقتل، فإن ارتد عبد لرجل ثم جن
لم يقتل حال جنونه أيضا، وإن قتل ثم جن قتل حال جنونه قصاصا، والفصل
بينهما أن القصاص يجب بنفس القتل وقد وجد الموجب منه، وليس كذلك
الارتداد، لأنه إنما يجب القتل بعد المقام عليه. وهذا لم يوجد.
وأما الكلام في نكاحه وطلاقه:
إذا تزوج المرتد كان نكاحه باطلا، سواء قلنا ينفذ تصرفه في ماله أو قلنا لا
ينفذ، لأنه أن تزوج مسلمة فالمسلمة لا تحل للكافر، وإن تزوج وثنية أو مجوسية
لم يصح لأنه كانت له حرمة الإسلام، وهي ثابتة، وإن تزوج كتابية لم يصح لأنه
لا يقر على دينه، ألا ترى أنه لو كانت له زوجة كتابية فارتد انفسخ النكاح
176

بينهما.
فأما إنكاحه فلا يصح أن يزوج أمته ولا بنته ولا أخته، أما البنت والأخت
فلانه لا ولاية له عليهما، وأما أمته فقد قلنا إن للكافر أن يزوج أمته المسلمة،
وللمسلم أن يزوج أمته الكافرة، لكن لا يصح هاهنا عند من قال: زال ملكه أو هو
مراعى، لأن النكاح لا يكون موقوفا، ومن قال: ملكه ثابت، فإن زوجها قبل أن
يحجر عليه الحاكم قال: يصح، وإن كان بعد الحجر لا يصح.
فأما طلاقه فإن كان قد ارتد قبل الدخول فقد بانت بالردة، فلا يلحقها
طلاقه، وإن كانت الردة بعد الدخول وقف النكاح على انقضاء العدة، فإن عاد
إلى الإسلام قبل انقضاء العدة، تبينا أن الطلاق وقع بها حين الطلاق، وإن لم يعد
حتى انقضت عدتها بانت، وتبينا أن الطلاق ما وقع عليها لأن البينونة سبقت
الطلاق.
فأما الذبيحة فلا تحل ذبيحته، لأنه كافر وعندنا لا تحل ذبيحة الكفار
وعندهم لأنه لا كتاب له، فإذا ذبح شاة نظرت، فإن كانت له فهي حرام، وإن
كانت لغيره فإن ذبحها بغير إذنه فعليه الضمان، وإن كان باذنه فلا ضمان عليه،
سواء علمه مرتدا أو لم يعلمه، لأنه أتلفها باذنه.
إذا قامت البينة على الأسير أنه قد أكل لحم الخنزير وشرب الخمر في دار
الحرب، لم يحكم بكفره، لأنه قد يفعل هذا مع اعتقاد تحريمه كما يفعله المسلم
في دار الإسلام، وإن قامت البينة على أنه أكره على الكفر لم يحكم بكفره، وإن
مات كان ماله لورثته ميراثا بلا خلاف، فإن عاد إلينا عرضنا عليه السلام، فإن
تاب تبينا أن الذي وصفه ما كان كفرا ولا ارتدادا، وإن وصف الكفر تبينا أنه قد
كان كفر من حين ارتد.
فإن ارتد باختياره ثم صلى بعد الردة نظرت: فإن صلى في دار الحرب قال
قوم: يحكم له بالإسلام، وإن صلى في دار الإسلام لم يحكم له بالإسلام.
والفرق بين الدارين أنه لا يمكنه إظهار الإسلام في دار الحرب بغير الصلاة،
177

فلهذا حكم بإسلامه بصلاته ويمكنه إظهار الإسلام في دار الإسلام بغير الصلاة،
وهو الشهادتان، فلهذا لم يحكم بإسلامه بالصلاة، ولأنه إذا صلى في دار الحرب
لم يحمل على التقية، فإن التقية في ترك الصلاة، فلهذا حكم له بالإسلام بفعلها،
وليس كذلك دار الإسلام، لأنه إذا فعلها احتمل أن يكون تقية، فلهذا لم يحكم له
بالإسلام، فبان الفصل بينهما، ويقوى في نفسي أنه لا يحكم له بالإسلام بالصلاة
في الموضعين.
178

كتاب قتال أهل الردة
إذا ارتد المسلم عن الإسلام إلى أي كفر كان، من يهودية أو نصرانية أو
مجوسية أو زندقة أو جحد أو تعطيل أو عبادة الأوثان وإلى أي كفر كان، لم يقر
على دينه بوجه بل يجب قتله لقوله تعالى: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل
منه، وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: من بدل دينه فاقتلوه، وروي عنه عليه
السلام أنه قال: الإسلام يعلو ولا يعلى عليه.
إذا ثبت هذا فإذا كان المرتدون في منعة فعلى الإمام أن يبدأ بقتالهم قبل
قتال أهل الكفر الأصلي من أهل الحرب لإجماع الصحابة على ذلك، وإذا قوتل
أهل الردة، فمن وقع منهم في الأسر، فإن كان عن فطرة الإسلام قتلناه على كل
حال، وإن لم يكن كذلك استتبناه، وعندهم يستتاب على كل حال، فإن تاب
وإلا قتلناه.
وأما الذراري نظرت، فإن ارتد وله ولد غير بالغ لم يتبع أباه في الكفر
لقوله عليه السلام: الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، وإن كان الولد ولد بعد الردة، فإن
كانت أمه مسلمة مثل أن ارتد وحده ولم تعلم فوطئها أو علمت فقهرها فحملت
فالولد مسلم لقوله: يعلو ولا يعلى عليه، وإن ولد بين كافرين بأن ارتدا جميعا
فأحبلها وهما مرتدان فالولد يلحقه.
وهل يسترق أم لا؟ قال قوم: يسترق لأنه كافر ووالده كافران كالكافر
179

الأصلي، وقال آخرون: لا يسترق لأن الولد يتبع أباه، وإذا لم يسترق أبوه
فكذلك الابن، وهو الأقوى عندي وسواء ولد في دار الإسلام أو في دار الحرب،
وقال بعضهم: إن كان ولد في دار الإسلام لم يسترق وإن ولد في دار الحرب
استرق.
فأما المرأة فمتى ارتدت فالحكم فيها كالرجل عندهم تقتل بالردة، وعندنا لا
تقتل بل تحبس أبدا حتى تموت، وفيه خلاف.
إذا أتلف أهل الردة أنفسا وأموالا كان عليهم عندنا القود في النفوس،
والضمان في الأموال سواء كانوا في منعة أو غير منعة، وقال قوم: إن لم يكونوا
في منعة كما قلناه، وإن كانوا في منعة، والمنعة أن لا يقدر الإمام عليهم حتى
يستعيد أموالهم، فعلى هذا قال قوم: عليهم الضمان، وقال قوم: لا ضمان عليهم.
إذا ارتد رجل ثم رآه رجل من المسلمين مخلى فقتله يعتقد أنه على الردة
فبان أنه قد كان أسلم، فإن علمه أسلم فعليه القود، وإن لم يعلمه أسلم قال قوم:
عليه القود، وقال آخرون: لا قود عليه، والأول أقوى، وهكذا لو رأى ذميا فقتله
يعتقد أنه على الكفر فبان مسلما، عند قوم: يجب القود، وعند آخرين: لا يجب،
وهكذا لو قتل من كان عبدا فبان أنه قتله وقد أعتق.
فعلى هذين القولين أقواهما عندي أن عليه القود، وإنما قلنا عليه القود لظاهر
القرآن، ولأن الظاهر من حال المرتد
القرآن، ولأن الظاهر من حال المرتد إذا أطلق أنه أطلق بعد توبة وإسلام، فمن
قال: عليه القود، قال: وليه بالخيار إن أحب قتل، وإن أحب أخذ الدية، ومن قال:
لا قود عليه، قال: عليه الدية مغلظة حالة في ماله لأنه قتل عمدا، وإنما يسقط القود
للشبهة.
إذا أكره المسلم على كلمة الكفر فقالها لم يحكم بكفره بلا خلاف، غير أن
بعضهم قال: القياس أن لا تبين امرأته لكن نبينها استحسانا، وقال بعضهم: تبين
180

امرأته، والأول مذهبنا وهو أن لا تبين امرأته.
ولا فرق بين أن يكره على كلمة الكفر في دار الإسلام أو دار الحرب، غير أنه
إن كان ذلك في دار الحرب وعاد إلى دار الإسلام يعرض عليه السلام، لأنه لا
يعلم إكراهه على ذلك، فإن أتى حكم بأنه كان مسلما وإن أبي حكم بردته من
حين قالها.
وإن كان في دار الحرب مقيدا أو محبوسا أو موكلا به، فأتى بكلمة الكفر لم
يحكم بكفره، ومتى قال: كنت مكرها، قبل قوله لأن التوكيل والقيد والحبس
إكراه له في الظاهر، كما قلنا في من شهد على نفسه في عقد بيع وهو مقيد أو
محبوس أو موكل به كان القول قوله أنه مكره، وإن كان مخلى في دار الحرب
يذهب ويجئ ويتصرف في أشغاله بغير قيد ولا توكيل، فأتى بكلمة الكفر حكم
بكفره لأن الظاهر أنه قالها باختياره وإيثاره لأن كونه في دار الكفر ليس بإكراه.
فأما الإكراه على الإسلام فعلى ضربين: إكراه بحق وبغير حق.
فإن كان بغير حق كإكراه الذمي عليه والمستأمن، فإنه لا يكون به مؤمنا
لأنه إكراه بغير حق لأنه لا يحل قتله.
وإن كان الإكراه بحق كإكراه المرتد والكافر الأصلي إذا وقع في الأسر،
فالإمام مخير فيه بين القتل والمن والفداء والاسترقاق، فإن قال له: إن أسلمت وإلا
قتلتك، فأسلم حكم بإسلامه، وكذلك المرتد لأنه إكراه بحق.
فأما إن ثبت أنه يأكل لحم الخنزير ويشرب الخمر في دار الحرب لم يحكم
بكفره، لأنه يحتمل أن يكون فعله مع اعتقاده إباحته، ويحتمل مع اعتقاده
تحريمه فلا يكفر بأمر محتمل، فإن مات ورثه ورثته المسلمون بلا خلاف هاهنا.
فإن خلف ابنين فقال أحدهما: مات مسلما فلي نصف التركة ولأخي
النصف، وقال الآخر: مات مرتدا فالمال فئ، فعندنا أن هذا القول لا يقبل منه
لأنه إن مات مسلما فالمال بينهما، وإن كان مرتدا فالمال أيضا بينهما لأن المسلم
عندنا يرث الكافر، غير أنه يسلم إلى المنكر نصف التركة لأنه القدر الذي يستحقه
181

على قوله، ويوقف الباقي إلى أن يقبله الآخر لأنه على كل حال.
وعلى مذهب المخالف: يعطي من قال كان مسلما حقه ولم يعط الباقي شيئا
لأنه لا يدعيه، وما الذي يعمل به؟
قال قوم: يوقف لأنه لا يمكن تسليمه إلى أخيه، لأنه يقول: ليس لي وإنما هو
لأخي، والآخر يقول: ليس لي فلا يدفع إليه، ولا يحمل إلى بيت المال لأنه حكم
بأن له وارثا، فلم يبق غير الوقف لترتفع الشبهة.
وقال آخرون: يحمل إلى بيت المال فيئا لأن الظاهر أنه ملكه وارثه، فإذا أقر
بأنه لغيره قبل قوله على نفسه، لأنه إقرار في حق نفسه، كمن قال: هذه الدار التي
في يدي لزيد، سلمناها إليه لأنه إقرار في حق نفسه.
السكران متى ارتد أو أسلم حكم بإسلامه وارتداده، وهو الذي يقتضيه
مذهبنا، وأما عقوده الباقية فلا تصح، ولا طلاقه ولا عتاقه، وقال قوم: كل ذلك
صحيح كالصاحي، غير أنه إذا ارتد وهو سكران استتيب إذا صحا، فإن قتله قاتل
حال سكره فلا شئ عليه، لأنه مرتد، وقال قوم: لا يصح إسلامه ولا كفره.
إذا أسلم ثم كفر ثم أسلم ثم كفر وتكرر هذا منه قتلناه في الرابعة، وقال قوم:
يقبل منه أبدا وإن كثر غير أنه يعزر كل دفعة، وقال قوم: يحبسه في الثالثة،
والحبس عنده تعزير، وقد روى أصحابنا أنه يقتل في الثالثة أيضا.
182

تبصرة المتعلمين
في أحكام الدين
للشيخ جمال الدين أبي منصور الحسن بن سديد الدين
يوسف بن زين الدين علي بن محمد مطهر الحلي المشتهر بالعلامة الحلي
والعلامة على الإطلاق
647 - 726 ه‍. ق
183

كتاب الجهاد
وفيه فصول:
الفصل الأول: في من يجب عليه:
وهو فرض على الكفاية بشروط تسعة: البلوغ والعقل والحرية والذكورة
وأن لا يكون هما ولا مقعدا ولا أعمى ولا مريضا يعجز عنه، ودعاء الإمام أو من
نصبه إليه.
ولا يجوز مع الجائر إلا أن يدهم المسلمين عدو يخشى عليه منه فيدفعه ولا
يقصد معونة الجائر، والعاجز يجب أن يستنيب مع القدرة، ويجوز لغير العاجز.
ويستحب المرابطة ثلاثة أيام إلى أربعين فإن زادت كانت جهادا، ويجب
بالنذر [وشبهه].
الفصل الثاني: في من يجب جهادهم:
وهم ثلاثة أصناف:
الأول: اليهود والنصارى والمجوس، وهؤلاء يقتلون إلى أن يسلموا أو يلتزموا
شرائط الذمة، وهي: قبول الجزية، وأن لا يؤذوا المسلمين، وأن لا يتظاهروا
بالمحرمات كشرب الخمر، وأن لا يحدثوا كنيسة ولا يضربوا ناقوسا، وأن يجري
عليهم أحكام المسلمين، فإن التزموا بهذه كف عنهم.
185

ولا حد للجزية بل بحسب ما يراه الإمام، ولا تؤخذ من الصبيان والمجانين
والبله والنساء، ويجوز وضعها على رؤوسهم وأراضيهم، ولو أسلموا سقطت، ولو
مات الذمي بعد الحول أخذت من تركته ويجوز أخذها من ثمن المحرمات،
ومستحقها المجاهدون، وليس لهم استئناف بيعة ولا كنيسة في دار الإسلام،
ويجوز تجديدها، ولا يجوز أن يعلو الذمي على بناء المسلمين، ويقر ما ابتاعه من
مسلم على حاله، ولا يجوز أن يدخلوا المساجد.
الثاني: من عدا هؤلاء من الكفار يجب جهاده ولا يقبل منه إلا الإسلام، ويبدأ
بقتال الأقرب والأشد خطرا، وإنما يحاربون بعد الدعاء من الإمام أو من نصبه إلى
الإسلام، فإن امتنعوا أحل قتالهم، ويجوز المهادنة مع المصلحة بإذن الإمام،
ويمضي ذمام آحاد المسلمين - وإن كان عبدا - لآحاد المشركين، ويرد من دخل
بشبهة الأمان إلى مأمنه ثم يقاتل، ولا يجوز الفرار إذا كان العدو على الضعف من
المسلمين إلا لمتحرف لقتال أو متحيز إلى فئة، ويجوز المحاربة بسائر أنواع
الحرب إلا إلقاء السم في بلادهم، ولو تترسوا بالصغار والنساء أو المسلمين ولم
يمكن الفتح إلا بقتلهم جاز، ولا يقتل النساء - وإن عاون - إلا مع الضرورة، ومن
أسلم في دار الحرب حقن دمه وولده الصغار من السبي وماله من الأخذ مما ينقل
ويحول، وأما الأرضون فمن الغنائم، ولو أسلم العبد قبل مولاه وخرج ملك
نفسه.
الثالث: البغاة، وهم كل من خرج على إمام عادل، ويجب قتاله مع دعاء
الإمام أو من نصبه، على الكفاية إلا أن يرجعوا، وهم قسمان: من له فئة، فيجهز على
جريحهم ويتبع مدبرهم ويقتل أسيرهم، ومن لا فئة له، فلا يجهز على جريحهم ولا
يتبع مدبرهم ولا يقتل أسيرهم، ولا يحل سبي ذراري الفريقين ولا نساؤهم ولا
أموالهم.
186

الفصل الثالث: في قسمة الغنائم:
جميع ما يغنم من بلاد الشرك يخرج منه ما شرطه الإمام كالجعائل
والرضخ والأجر وما يصطفيه، ثم يخمس الباقي، وأربعة الأخماس الباقية إن كان
مما ينقل ويحول فللمقاتلة ومن حضر القتال وإن لم يقاتل خاصة، للراجل سهم
وللفارس سهمان، ولذي الأفراس ثلاثة، ومن ولد بعد الحيازة قبل القسمة أسهم
له، وكذا من يلحقهم للمعونة، ولا يفضل أحد على غيره لشرفه أو شدة بلائه،
ويقسم ما يغنم في المراكب هذه القسمة، ولا يسهم لغير الخيل، والاعتبار بكونه
فارسا عند الحيازة لا بدخول المعركة، ولا نصيب للأعراب وإن جاهدوا.
والأسارى من الإناث والأطفال يملكون بالسبي، والذكور البالغون إن
أخذوا قبل أن تضع الحرب أوزارها وجب قتلهم ما لم يسلموا، ويتخير الإمام بين
ضرب أعناقهم وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ويتركهم حتى ينزفوا ويموتوا،
وإن أخذوا بعد انقضاء الحرب لم يجز قتلهم، ويتخير الإمام بين المن والفداء
والاسترقاق.
وأما الأرضون: فما كان حيا فللمسلمين كافة لا يختص بها الغانمون، والنظر
فيها إلى الإمام، ولا يصح بيعها ولا وقفها ولا هبتها ولا ملكها على الخصوص، بل
يصرف الإمام حاصلها في المصالح، والموات وقت الفتح للإمام لا يتصرف فيها
إلا باذنه.
هذا حكم الأرض المغنومة، وأما أرض الصلح فلأربابها، ولو باعها
المالك انتقل ما عليها من الجزية إلى رقبته، ولو أسلم سقط ما على أرضه أيضا،
ولو شرطت الأرض للمسلمين كانت كالمغنومة.
وأما أرض من أسلم عليها أهلها طوعا فلأربابها، وليس عليهم سوى الزكاة
مع الشرائط، وكل أرض ترك أهلها عمارتها فالإمام يقبلها ويدفع طسقها من
المتقبل إلى أربابها، وكل من أحيا أرضا مواتا بإذن الإمام فهو أحق بها، ولو كان
لها مالك كان عليه طسقها له، وإلا فللإمام، ومع غيبته فهو أحق، ومع ظهوره له
رفع يده.
187

وشرط التملك بالإحياء أن لا يكون في يد مسلم، ولا حريما لعامر، ولا
مشعرا لعبادة، ولا مقطعا ومحجرا.
والأحياء بالعادة، والتحجير لا يفيد التمليك بل الأولوية.
الفصل الرابع: في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
وهما يجبان عقلا على الكفاية بشروط أربعة: أن يعلم المعروف والمنكر، وأن
يجوز تأثير الإنكار، وأن لا يظهر أمارة الإقلاع، وانتفاء المفسدة.
والمعروف قسمان: واجب وندب، فالأمر بالواجب واجب، وبالمندوب
مندوب. وأما المنكر فكله قبيح فالنهي عنه واجب.
وينكر أولا بالقلب ثم باللسان ثم باليد، ولو افتقر إلى الجراح لم يفعله إلا
بإذن الإمام، والحدود لا يقيمها إلا بأمره.
ويجوز للرجل إقامة الحد على عبده وولده وزوجته إذا أمن الضرر، وللفقهاء
إقامتها حال الغيبة مع الأمن، ويجب على الناس مساعدتهم، ولهم الفتوى
والحكم بين الناس مع الشرائط المبيحة للفتيا، ولا يجوز الحكم بمذهب أهل
الخلاف، فإن اضطر عمل بالتقية ما لكن قتلا.
ويجوز الولاية من قبل العادل، ولو ألزمه وجبت، ويحرم من الجائر ما لم
يعلم تمكنه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو أكره بدونه جاز، ويجتهد
في إنفاذ الحكم بالحق.
188

إرشاد الأذهان للشيخ جمال الدين أبي منصور الحسن بن سديد الدين يوسف بن زين الدين
علي بن محمد مطهر الحلي المشتهر بالعلامة الحلي والعلامة على الإطلاق
647 - 726 ه‍. ق
189

كتاب الجهاد
ومقاصده خمسة:
الأول: من يجب عليه:
يجب جهاد أهل الذمة - وهم: اليهود والنصارى والمجوس - إذا أخلوا
بشرائط أهل الذمة وهي: قبول الجزية، وأن لا يفعلوا ما ينافي الأمان كالعزم على
حرب المسلمين وإمداد المشركين، وأن لا يؤذوا المسلمين بالزنى واللواط والسرقة
والتجسس عليهم وشبهه، وأن لا يتظاهروا بالمناكير كشرب الخمر وأكل الخنزير
ونكاح المحرمات، وأن لا يحدثوا كنيسة ولا يضربوا ناقوسا ولا يرفعوا بناء، وأن
تجري عليهم أحكام المسلمين.
وبالأولين يخرجون عن الذمة، وأما الباقي فإن شرط في عقد الذمة وأخلوا به
خرجوا، وإلا قوبلوا بمقتضى شرعنا.
ولو سبوا النبي عليه السلام قتل الساب، ولو نالوه بدونه عزروا، ولو شرط
الكف خرقوا، ولو أسلموا كف عنهم.
ويجب جهاد غيرهم من أصناف الكفار إلى أن يسلموا أو يقتلوا، وجهاد
البغاة على الكفاية على كل مكلف حر ذكر غيرهم، بشرط وجود الإمام أو من
نصبه.
ويسقط عن الأعمى، والزمن، والمريض العاجز، والفقير العاجز عن نفقته
191

ونفقة عياله وثمن سلاحه - فإن بذل له ما يحتاج إليه وجب، ولا يجب لو كان
أجرة - وعمن منعه أبواه مع عدم التعيين.
وليس لصاحب الدين المؤجل منع المديون قبل الأجل، ولا منع المعسر
مطلقا على رأي.
ويتعين بالنذر، وإلزام الإمام، وقصور المسلمين، وبالدفع مع الخوف وإن
كان بين أهل الحرب، ويقصد الدفع لا مساعدتهم.
والموسر العاجز يقيم عوضه استحبابا على رأي، والقادر إذا أقام غيره سقط
عنه ما لم يتعين.
وتجب المهاجرة عن بلد الشرك إذا لم يتمكن من إظهار شعائر الإسلام.
وتستحب المرابطة بنفسه وبفرسه وغلامه وإن كان الإمام غائبا، وحدها
ثلاثة أيام إلى أربعين يوما، فإن زادت فله ثواب الجهاد، وتجب بالنذر مع الغيبة
أيضا.
ولو نذر شيئا للمرابطين وجب صرفه إليهم على رأي، ولو آجر نفسه وجب
وإن كان الإمام غائبا.
المقصد الثاني: في كيفيته:
يحرم في أشهر الحرم، إلا أن يبدأ العدو فيها، أو يكون ممن لا يرى لها
حرمة، ويجوز في الحرم، ويبدأ بقتال الأقرب إلا مع الخوف من الأبعد.
وإنما يجوز بعد الدعاء من الإمام أو نائبه إلى الإسلام لمن لا يعلمه، فإذا التقى
الصنفان وجب الثبات، إلا أن يزيد العدو على الضعف، أو يريد التحرف للقتال،
أو التحيز إلى فئة وإن غلب الهلاك.
وتجوز المحاربة بأصنافها، إلا السم، ولو اضطر إليه جاز، ولو تترسوا
بالنساء أو الصبيان أو المسلمين ولم يمكن التوقي جاز قتل الترس، ولا دية على
قاتل المسلم وعليه الكفارة، ولو تعمد قتله مع إمكان التحرز وجب عليه القود
192

والكفارة.
ولا يجوز قتل المجانين والصبيان والنساء وإن عاون - إلا مع الضرورة -
ولا التمثيل ولا الغدر ولا الغلول.
ويكره الإغارة ليلا، والقتال قبل الزوال اختيارا، وتعرقب الدابة، والمبارزة
بغير إذن.
ويجوز للإمام ونائبه الذمام لأهل الحرب عموما وخصوصا، ولآحاد
المسلمين العقلاء البالغين ذمام آحاد المشركين لا عموما، وكل من دخل بشبهة
الأمان رد إلى مأمنه.
وإنما ينعقد قبل الأسر، ويدخل ماله لو استأمن ليسكن دار الإسلام، فإن
التحق بدار الكفر للاستيطان انتقض أمانه دون أمان ماله، فإن مات في الدارين
ولا وارث له سوى الكفار صار فيئا للإمام، ولو أسره المسلمون واسترقوه ملك
ماله تبعا له.
ويصح بكل عبارة تدل على الأمان صريحا أو كناية، بخلاف لا بأس أو
لا تخف، ولو أسلم الحربي وفي ذمته مهر لم يكن للزوجة ولا لوارثها مطالبته،
فإن ماتت ثم أسلم، أو أسلمت قبله ثم ماتت طالبه وارثها المسلم خاصة.
ويجوز عقد العهد على حكم الإمام أو نائبه العدل، والمهادنة على حكم من
يختاره الإمام، فإن مات قبل الحكم بطل الأمان وردوا إلى مأمنهم، ولو مات أحد
الحكمين بطل حكم الباقي ويتبع حكمه المشروع، فإن حكم بالقتل والسبي
والمال فأسلموا سقط القتل.
ولو هادنهم على ترك الحرب مدة مضبوطة وجب، ولا تصح المجهولة،
ولو شرط إعادة المهاجرة لم يجز، فإن هاجرت وتحقق إسلامها لم تعد، ويعاد
على زوجها ما سلمه من المهر المباح خاصة، فلو قدم وطالب بالمهر فماتت بعد
المطالبة دفع إليه مهرها، وإن ماتت قبل المطالبة لم يدفع إليه، ولو قدمت فطلقها
بائنا لم يكن له المطالبة، ولو أسلم في الرجعية فهو أحق بها، ولو قدمت مسلمة
193

وارتدت لم تعد لأنها بحكم المسلمة.
وتجوز إعادة من تؤمن فتنة من الرجال بخلاف من لا تؤمن بكثرة العشيرة
وغيرها.
المقصد الثالث: في الغنيمة:
ومطالبه ثلاثة:
الأول:
كل ما ينقل ويحول مما حواه العسكر مما يصح تملكه يخرج الإمام منه
الجعائل للدال على المصلحة وغيره، والسلب الرضخ للراعي والحافظ وغيرهما
إذا جعلها الوالي، والخمس لأربابه.
والباقي يقسم بين الغانمين، ومن حضر القتال وإن لم يقاتل - حتى الطفل
المولود بعد الحيازة قبل القسمة، أو اتصل بهم حينئذ من المدد - للراجل سهم،
وللفارس سهمان، ولذي الأفراس ثلاثة وإن كثروا، وسواء البر والبحر.
ويسهم للخيل وإن لم تكن عرابا، لا لما لا ينتفع به منها، ولا لغيرها من
الحيوانات،
ولا سهم للمغصوب إذا كان المالك غائبا، ولو كان حاضرا فالسهم له،
ويسهم للمستعار والمستأجر، والسهم لهما دون المالك، والاعتبار بكونه فارسا
عند الحيازة.
ويشارك الجيش السرية الصادرة عنه، ولا يتشارك الجيشان من البلد إلى
جهتين، ولا الجيش السرية الخارجة عنه من البلد.
وليس للأعراب شئ وإن قاتلوا مع المهاجرين، بل يرضخ لهم ما يراه
الإمام.
ولا يملك المشركون أموال المسلمين بالاستغنام، فإن غنموها ثم استردها
المسلمون فلا سبيل على الأحرار، والأموال لأربابها قبل القسمة، ولو عرفت بعد
194

القسمة فلأربابها، ويرجع الغانم بها على بيت المال.
المطلب الثاني: في الأسارى:
الإناث يملكن بالسبي، وكذا من لم يبلغ، ويعتبر المشتبه بالإنبات.
والبالغ من الذكور إن أخذ قبل تقضي الحرب وجب قتله - إما يضرب
عنقه، أو تقطع يده ورجله من خلاف وتركه حتى ينزف - وإن أخذ بعده لم يجز
قتله، ويتخير الإمام بين المن والفداء والاسترقاق وإن أسلموا بعد الأسر.
ويجب إطعام الأسير وسقيه وإن أريد قتله - ولو عجز لم يجب قتله، ولو قتله
مسلم فهدر - ودفن الشهيد خاصة، والطفل تابع، ولو أسلم أحد أبويه تبعه.
ويكره قتل الأسير صبرا، وحمل رأسه من المعركة.
ولو استرق الزوج انفسخ النكاح لا بالأسر خاصة، ولو أسر الزوجان، أو
كان الزوج طفلا، أو أسرت المرأة انفسخ بالأسر، ولو كانا مملوكين تخير
الغانم.
ولا يجب إعادة المسبية لو صولح أهلها على إطلاق مسلم من يدهم فأطلق،
ولو أطلقت بعوض جاز ما لم يستولدها مسلم، ولو أسلم العبد قبل مولاه ملك
نفسه إن خرج قبله، وإلا فلا.
ويحقن الحربي دمه وولده الصغار وماله المنقول بإسلامه في دار الحرب وما
لا ينقل للمسلمين، ولو سبيت زوجته الحامل منه استرقت دون حملها.
المطلب الثالث: في الأرضين:
وهي أربعة:
المفتوحة عنوة: للمسلمين قاطبة، ويتولاها الإمام، ولا يملكها المتصرف على
الخصوص، ولا يصح بيعها ولا وقفها، ويصرف الإمام حاصلها في مصالح
المسلمين، ويقبلها الإمام ممن يراه بما يراه، وعلى المتقبل بعد مال القبالة الزكاة
195

مع الشرائط، وينقلها الإمام من متقبل إلى غيره بعد المدة، ومواتها وقت الفتح
للإمام خاصة لا يجوز إحياؤها إلا باذنه، فإن تصرف أحد فعليه طسقها له، ومع
غيبته يملكها المحيي.
الثاني: أرض الصلح فإن لأربابها يملكونها على الخصوص، ويجوز لهم
التصرف بالبيع والوقف وغيرهما، وعليهم ما صالحهم الإمام، ولو باعها المالك
من مسلم انتقل ما عليها إلى رقبة البائع، ولو أسلم الذمي سقط ما على أرضه
واستقر ملكه، ولو صولحوا على أن الأرض للمسلمين ولهم السكنى فهي
كالمفتوحة عنوة عامرها للمسلمين ومواتها للإمام.
الثالث: أرض من أسلم عليها طوعا، وهي لأربابها يتصرفون فيها كيف
شاءوا، وليس عليهم سوى الزكاة مع الشرائط.
الرابع: الأنفال، وهي: كل أرض خربة باد أهلها واستنكر رسمها، والأرضون
الموات التي لا أرباب لها، ورؤوس الجبال، وبطون الأودية، وكل أرض لم يجر
عليها ملك مسلم.
وكل من سبق إلى إحياء ميتة فهو أحق بها، ولو كان لها مالك معروف
فعليه طسقها له، وللإمام تقبيل كل أرض ميتة ترك أهلها عمارتها، وعلى المتقبل
طسقها لأربابها.
سياقة:
لا يجوز إحياء العامر ولا ما به صلاحه، كالشرب والطريق في بلاد الإسلام
والشرك، إلا أن ما في بلاد الشرك يغنم بالغلبة.
ويجوز إحياء الموات بإذن الإمام، وبدون إذنه مع غيبته - ولا يملكه
الكافر - بشرط أن لا تكون عليه يد مسلم، ولا حريما، ولا مشعر عبادة، ولا
مقطعا، ولا مسبوقا بالتحجر.
وحد الطريق في المبتكر خمس أذرع، وقيل: بسبع، وحريم الشرب
196

مطرح ترابه والمجاز على جانبيه، وبئر المعطن أربعون ذراعا، والناضح ستون،
والعين ألف في الرخوة وخمسمائة في الصلبة، والحائط مطرح ترابه.
والتحجير يفيد الأولوية، ويحصل بنصب المروز أو الحائط، فلو أحياها غيره
لم يصح، ويجبر الإمام المحجر على العمارة أو التخلية، وللإمام أن يحمي المرعى
لنفسه وللمصالح دون غيره.
والأحياء بالعادة كبناء الحائط ولو بخشب أو قصب والسقف في المسكن،
والحائط في الحظيرة، والمرز أو المسناة وسوق الماء في أرض الزرع، أو قطع
المياه الغالبة عنها، أو عضد شجرها المضر.
والمعادن الظاهرة لا تملك بالإحياء، ولا تختص بالتحجر، وللسابق أخذ
حاجته، ولو تسابقا أقرع مع تعذر الاجتماع، ولو حفر إلى جانب المملحة بئرا
وساق الماء وصار ملحا ملكه.
وتملك الباطنة بالعمل، وللإمام إقطاعها قبل التملك وإحياؤها ببلوغها
والتحجير بدونه، ويجبره الإمام على إتمام العمل أو التخلية، ولو ظهر في المحياة
معدن ملكه.
ويملك حافر البئر ماءها، ومياه الغيوث والعيون والآبار المباحة شرع.
ويملك المحيز في إناء وشبهه، وما يفيضه النهر المملوك لصاحبه، ويقسم
على قدر أنصبائهم.
ولو قصر المباح أو سيل الوادي، بدأ بالأول للزرع إلى الشراك، والشجر
إلى القدم، والنخل إلى الساق، ثم يرسل إلى من يليه، ولا يجب قبل ذلك وإن
أدى إلى ضر وتلف الأخير.
خاتمة:
لا يجوز الانتفاع بالطرق في غير الاسترقاق، إلا بما تفوت معه منفعته، فلو
جلس غير مضر ثم قام بطل حقه وإن قام بنية العود، ولو كان للبيع والشراء في
197

الرحاب فكذلك إلا أن يكون رحله باقيا.
ومن سبق إلى موضع في المسجد فهو أولى ما دام جالسا، ولو قام ورحله
فيه فهو أولى عند العود وإلا فلا، ولو استبق اثنان ولم يمكن الجمع أقرع.
ومن سكن بيتا في مدرسة أو رباط ممن له السكنى، فهو أحق لا يجوز
إزعاجه، وله المنع من المشاركة.
ولو شرط التشاغل بالعلم أو مدة بطل حقه بالترك أو خروجها، ولو فارق
بطل حقه وإن كان لعذر.
المقصد الرابع: في أحكام أهل الذمة والبغاة:
وفيه مطلبان: الأول:
اليهود والنصارى والمجوس إذا التزموا بشرائط الذمة أقروا على دينهم،
وتؤخذ منهم الجزية.
ولا حد لها، بل يقدرها الإمام، ويجوز وضعها على رؤوسهم وأرضيهم،
وعلى أحدهما، واشتراط ضيافة عساكر المسلمين مع علم القدر.
وتسقط الجزية عن الصبيان والمجانين والنساء والمملوك والهم ومن أسلم
قبل الحول أو بعده قبل الأداء، وينظر الفقير بها، وتؤخذ من تركة الميت بعد
الحول.
ومن بلغ أو أعتق كلف الإسلام أو الجزية، فإن امتنع منهما صار حربيا.
ويجوز أخذها من ثمن المحرمات، ومستحقها المجاهدون.
ولو استجدوا كنيسة أو بيعة في بلاد الإسلام وجب إزالتها، ولهم تجديد ما
كان قبل الفتح، والتجديد في أرضهم.
ولا يجوز للذمي أن يعلو بنيانه على المسلم، ويقر ما ابتاعه من مسلم، فإن
انهدم لم يجز التعلية، ولا يجوز لهم دخول المساجد وإن أذن لهم، ولا استيطان
198

الحجاز.
ولو انتقل إلى دين لا يقر عليه لم يقبل منه إلا الإسلام أو القتل، وكذا لو عاد
أو انتقل إلى ما يقر عليه على رأي.
ولو فعلوا الجائز عندهم لم يعترضوا، إلا أن يتجاهروا به، فيعمل معهم
مقتضى شرع الإسلام.
ولو فعلوا المحرم عندنا وعندهم، تخير الحاكم بين الحكم بينهم على
مقتضى شرع الإسلام، وبين حملهم إلى حاكمهم.
المطلب الثاني: في أحكام أهل البغي:
كل من خرج على إمام عادل وجب قتاله على من يستنهضه الإمام أو نائبه
على الكفاية، ويتعين بتعيين الإمام، ثم لا يرجع عنهم إلا أن يفيئوا، فإن كان لهم
فئة يرجعون إليها قتل أسيرهم وتبع مدبرهم وأجهز على جريحهم، وإلا فلا.
ولا يجوز سبي ذراريهم ولا نسائهم، ولا تملك أموالهم الغائبة، وفيما حواه
العسكر مما ينقل ويحول قولان.
وللإمام الاستعانة في قتلهم بأهل الذمة، ويضمن الباغي ما يتلفه على العادل
في الحرب وغيرها من مال ونفس.
ومانع الزكاة مستحلا يقتل، وغير مستحل يقاتل حتى يدفعها، وسباب
الإمام يقتل، ولو قاتل الذمي مع البغاة خرق الذمة.
المقصد الخامس: في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
وهما واجبان على الكفاية على رأي، إلا الأمر بالمندوب فإنه مندوب.
وإنما يجبان بشرط علمهما، وتجويز التأثير، وإصرار الفاعل على المنهي أو
خلاف المأمور، وانتفاء الضرر عنه وعن ماله وعن إخوانه.
ويجبان بالقلب مطلقا أولا إذا عرف الانزجار بإظهار الكراهية، أو بضرب
199

من الإعراض والهجر، وباللسان إذا عرف الافتقار إلى الاستخفاف باللفظ وباليد
إذا عرف الحاجة إلى الضرب، ولو افتقر إلى الجراح والقتل افتقر إلى إذن الإمام
على رأي.
ولا تقام الحدود إلا باذنه، ويجوز إقامتها على المملوك، قيل: وعلى الولد
والزوجة.
وللفقيه الجامع الشرائط الإفتاء - وهي العدالة، والمعرفة بالأحكام الشرعية
عن أدلتها التفضيلية - إقامتها، والحكم بين الناس بمذهب أهل الحق، ويجب على
الناس مساعدته على ذلك، والترافع إليه، والمؤثر لغيره ظالم.
ولا يحل الحكم والإفتاء لغير الجامع للشرائط، ولا يكفيه فتوى العلماء، ولا
تقليد المتقدمين، فإن الميت لا يحل تقليده وإن كان مجتهدا.
والوالي من قبل الجائر إذا تمكن من إقامة الحدود، قيل: جاز له معتقدا نيابة
الإمام، والأحوط المنع، أما لو اضطره السلطان جاز، إلا في القتل، ولو أكرهه
على الحكم بمذهب أهل الخلاف جاز، إلا في القتل.
200

تلخيص المرام
في معرفة الأحكام
للشيخ جمال الدين أبي منصور الحسن بن سديد الدين
يوسف بن زين الدين علي بن محمد مطهر الحلي المشتهر بالعلامة الحلي
والعلامة على الإطلاق
647 - 726 ه‍. ق
201

كتاب الجهاد
وفيه فصول:
الأول:
الجهاد واجب على الكفاية على البالغ العاقل الحر الذكر غير الهم والمقعد
والأعمى والفقير العاجز عن نفقة الطريق والعيال وثمن السلاح والمريض العاجز
بشرط الإمام أو من نصبه، والدعاء أو ضعف المسلمين أو التعيين بالنذر وشبهه.
وقد يجب مع الجائر إذا دهم العدو المسلمين أو غيرهم مع خوفه على
نفسه، وكذا من خاف على نفسه مطلقا أو ماله مع غلبة السلامة، وقيل: يجب أن
يستنيب الموسر العاجز، وغيره يجوز إلا مع التعيين، والمدين والأبوان لهم المنع
إلا مع التعيين، ولو كان الرهن مؤجلا وإن لم يكن برهن على رأي، أو المدين
معسرا فلا منع، ولو بذل للفقير ما يحتاج إليه وجب، ولو كان أجرة لم يجب،
وقيل: لا يسقط مع تجدد العذر حالة الشروع إلا مع العجز عن القيام به.
ومن تعين عليه لا يجوز أن يجاهد عن غيره بأجرة.
ويحرم في أشهر الحرم إلا لمن لا يرى لها حرمة إلا مع بدأة الكفار، والقتال
دون الدعاء إلى شرائع الإسلام من الإمام أو نائبه لمن لا يعرف، والفرار إلا مع
الزيادة على الضعف إلا للمتحرف والمتحيز وإن كان في جيش عدده اثنا عشر
ألفا على رأي، ولو غلب الهلاك على رأي، ولو زاد المشركون على الضعف
203

فالأولى للمسلمين الثبات مع الاستظهار على رأي، ولو عرفوا العطب جاز الثبات
على رأي، ولو انفرد اثنان بمسلم لم يجب الثبات على رأي.
ويجب المهاجرة عن بلاد الشرك مع ضعفه عن إظهار شعائر الإسلام وهي
دائمة بدوام الشرك والجهاد مع ابتداء الكفار به، وإلا يستحب المكنة والتربص
مع قلة المسلمين.
ويجوز المحاربة بأنواعها إلا السم على رأي إلا مع العجز، ولا يجوز قتل
المجانين والصبيان والنساء وإن أعن، ولو تترسوا كف عنهم إلا مع الضرورة،
ولو كان بالمسلم وجبت الكفارة مطلقا والقود إن أمكن العدول، ولا الرهبان في
الصوامع وما أشبهها من المواضع التي حبسوا أنفسهم فيها على رأي إلا أن يكونوا
مقاتلين، ولا الأعمى ولا المقعد ولا التمثيل ولا الغدر ولا الغلول.
ويستحب المرابطة وإن غاب الإمام ومع النذر يجب مطلقا، وكذا لو نذر
الإعطاء للمرابطين على رأي، وكذا لو استؤجر على رأي، ولو عجز استحب أن
يربط فرسه وحدها ثلاثة أيام على رأي إلى أربعين فيصير جهادا، والبدأة بقتال
الأقرب إلا مع الخوف من الأبعد، والقتال بعد الزوال، والمبارزة مع ندب
الإمام ومع الإلزام يجب، ولو طلبها المشرك ولم يشترط عدم المعاونة جازت،
ولو شرط حرمت على رأي، فإن فر المسلم وطلبه الحربي جاز دفعه ولو لم يطلبه
لم يجز قتاله على رأي، ولو استنجد مع شرط عدم المعاونة لصاحبه نقض، ولو
تبرع أصحابه بمعاونته فدفعهم فهو باق على العهد.
ويكره قبل الزوال إلا مع الحاجة والقتل صبرا، وأن يعرقب الدابة،
والمبارزة من دون الإذن على رأي، والإغارة ليلا، وقطع الأشجار، ورمي النار
وتسليط المياه إلا مع الضرورة، ونقل رؤوس المشركين.
الثاني:
يجب جهاد غير اليهود والنصارى والمجوس من الكفار، فإن أسلم في دار
204

الحرب عصم دمه وولده الأصاغر، والحمل ولا يملك إذا سبيت أمته، وماله
المنقول وأما غيره فللمسلمين، ولو أسلم العبد قبل مولاه عتق وشرط قوم الخروج
من بلد الكفار قبل مولاه، وتملك الإناث من دار الحرب بالسبي، وكذا الأصاغر
ويعتبر بعدم الإنبات، والذكور البالغون يقتلون إن كانت الحرب قائمة ما لم
يسلموا، ويتخير الإمام بين ضرب أعناقهم وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف،
والشيخ يقتل إذا كان مقاتلا ذا رأي في الحرب، وكذا لو اتصف بأحدهما ولو
فقدهما لم يقتل، وإن أسر بعد الانقضاء يخير بين المن والفداء والاسترقاق وإن
كان حربيا على رأي، وإن أسلموا بعد الأسر، ولو عجز الأسير عن المشي لم يجب
قتله، ولو قتله مسلم فهو هدر، ويجب إطعامه وسقيه ومواراة المسلم، ومع اشتباهه
يعتبر بصغر ذكره على رأي، ويصلى عليهم بنية الصلاة على المسلم على رأي.
وحكم الطفل المسبي تابع لأحد أبويه، وقيل: ويتبع السابي في الإسلام لو
سبي منفردا، فلو بيع على كافر بطل البيع، فإن أسلم أبوه فهو كذلك.
ويكره التفرقة بين الأم والولد على رأي، لا بينه وبين الوالد والعم والأخ
على رأي، ولو بيع الولد من دون أمه أو بالعكس صح على رأي، وسبي الزوج
لا يفسخ النكاح إلا أن يكون طفلا، ولو سبيت الزوجة أو هما انفسخ، ولو كانا
مملوكين يتخير الغانم على رأي.
ويجوز الذمام للبالغ العاقل المختار المسلم وإن كان عبدا أو أمة لآحاد
المشركين بعد الأسر وإن استظهر عليهم إذا تضمن مصلحة، ولا يجوز عاما إلا
للإمام أو من يأذن له، ويجب الوفاء به ما لم يخالف المشروع.
وكل من دخل بشبهة الأمان فهو آمن إلى أن يعاد، ولو أقر المسلم بذمام
مشرك في وقت يصح إنشاؤه قبل، ولو أقر بعد الأسر لم يقبل إلا بالبينة، ولو
ادعاه المشرك فالقول قول المسلم ويرد إلى مأمنه، وكذا لو مات المسلم من غير
جواب، ولو عقد الأمان لنفسه ليسكن دار الإسلام دخل ماله في الأمان، فإن
استوطن دار الحرب انتقض أمان نفسه دون ماله، ولو مات في الدارين انتقض
205

أمان المال مع عدم الوارث المسلم وانتقل إلى وارثه الكافر وصار فيئا للإمام
خاصة، ولو أسر فاسترق ملك ماله تبعا له، ويرد المسلم ما سرقه في دار
الحرب
إذا دخلها مستأمنا، ولو أسر المسلم وأطلقوه بشرط استيطان دارهم وأمنهم منه
وجب الوفاء بالثاني دون الأول، بل يحرم على رأي، ولو أطلقوه بمال لم يجب،
وليس للزوجة ولا لوارثها مطالبة الحربي بالمهر إذا أسلم، ولو ماتت ثم أسلم أو
أسلمت قبله ثم ماتت طالبه وارثها المسلم.
ويجوز عقد العهد على حكم المسلم العاقل العدل، والمهادنة على حكمه،
ويجوز تعددهم، ولو مات قبل الحكم فلا أمان ويردون إلى مأمنهم، ولو مات
أحد الحكمين بطل حكم الباقي ويتبع حكم الحاكم إذا لم يخالف المشروع،
ولو حكم بالسبي والقتل والمال فأسلموا بطل في القتل خاصة، ويجوز جعالة
الوالي للدال على المصلحة ولا بد من مشاهدتها أو وصفها إن كانت عينا، ولا
يشترط إن كانت من مال الغنيمة، ولو فتح البلد بأمان وكانت في الجملة وتعاسر
أربابها والمجعول له فسخت الهدنة وردوا، ولو كانت جارية فأسلمت قبل الفتح
دفعت القيمة، وكذا لو كان بعد الفتح وكان المجعول له كافرا، فلو ماتت قبل
الفتح أو بعده فلا عوض، ولو أعتق المسلم الذمي بالنذر فلحق بدار الحرب
وأسره المسلمون استرق على رأي، ولا خلاف في الاسترقاق لو كان المعتق
ذميا، ولو سبيت امرأة للمشركين فصولحوا على إطلاق أسير في أيديهم فأطلق لم
يجب إعادتها إليهم، ولو أعتقت بعوض جاز إذا لم يستولدها مسلم.
ويجوز المعاقدة على ترك الحرب مدة للصلح من غير حد على رأي، ولا
بد من التعيين، ولا يتولاها على العموم إلا الإمام، ويجوز للمسلم على الخصوص،
ولو وقعت على ما لا يجوز لم يجب الوفاء على رأي، ولا تعاد المهاجرة إذا
أسلمت، ويعاد على زوجها ما سلمه من مهرها المباح خاصة، ولو طالب بالمهر
فماتت أخذ من التركة، ولو ماتت قبل الزوج أو طلقها بائنا فلا مطالبة ولا تعاد
المرأة لو ارتدت، ولو ماتت أمة لم يكن لسيدها المطالبة بالقيمة على رأي، ولو
206

أسلم في الرجعية فهو أحق ويعاد من الرجال من يؤمن فتنته خاصة ولا يجب
حمل من يجب رده، ولو شرط إعادة الرجال مطلقا بطل الصلح.
وثلاثة الأصناف يحاربون على الإسلام إلا مع التزام شرائط الذمة، وهي:
قبول الجزية وألا يفعلوا ما ينافي الأمان كالعزم على المحاربة، وألا يؤذوا
المسلمين، وألا يتظاهروا بالمناكير ولا يحدثوا كنيسة ولا بيعة ولو استحدث وجب
إزالتها إلا أن يكون الأرض فتحت صلحا لهم ولهم تجديد ما استهدم على رأي،
وأن لا يضربوا ناقوسا ولا يرفعوا بناء، ولهم استدامة ما شروه من المسلمين
كذلك، ولو انهدم حرم العلو، وأن يجري عليهم أحكام المسلمين والأولان
يخرجانهما عن الذمة والبواقي مع الشرط وإذا خرقوا في بلد الإسلام ردهم الإمام
وله القتل والمن والفداء والاسترقاق، ولو أسلم بعد الخرق عصم نفسه وماله.
وتسقط الجزية عن الصبيان والمجانين والنساء والمملوك والهم على رأي،
وينظر الفقير ولا يسقط عنه على رأي، ولو أعتق الذمي أو بلغ الطفل أو أفاق
المجنون سنة ألزموا بالجزية أو الإسلام، ولو ادعى الحربي أنه ذمي وبذلها قبل بلا
بينة، ولو ظهر الخلاف بطل الأمان ولا حد لها على رأي، وهو الصغار على رأي،
وله الوضع على الرؤوس والأراضي ولا يجمع على رأي.
ويجوز اشتراط ضيافة العسكر معها بشرط أن تكون معلومة بأن تعين الوقت
بعشرين يوما من السنة وعدد من يضاف، وتعيين الأدم والقوت، وينبغي أن يكون
النزول في فاضل بيوتهم وبيعهم وكنائسهم، ولو أسلم قبل الحلول أو بعده قبل
الأداء سقطت على رأي، ولو مات بعده لم تسقط، ولو مات الإمام وقد قرر الجزية
أمدا معينا وجب على القائم بعده إمضاؤه، ولو أطلق الأول فللثاني التغيير.
ومصرفها المسلمون المجاهدون، ويجوز أخذها من ثمن الخمور والخنازير،
ويحرم عليهم دخول المساجد ولو أذن لهم، واستيطان الحجاز على رأي، ولو
انتقلوا عن دينهم إلى ما لا يقرون عليه قتلوا وكذا إلى ما يقرون عليه على رأي، ولو
رجعوا إلى دينهم الأول لم يقتل منهم في الحالين على رأي، ولو أصر فقتل قيل:
207

لا يسبى أطفاله، ولو تجاهروا بما يسوع عندهم لا عندنا حكم عليهم، ولو أسروه
فلا اعتراض، وإن فعلوا ما ليس بسائغ يخير بين الحكم والرد إلى حكمهم.
ويكره أن يبتدئوا بالسلام وأجرة تجديد الكنائس والبيع، ولا يجوز لهم
شراء المصاحف والأحاديث على خلاف.
ويجب جهاد الباغي مع دعاء الإمام إليه أو نائبه على الكفاية إلا مع التعيين،
ولا يرجع عنهم إلا بالرجوع أو القتل، وإن كان لهم فئة جاز الإجهاز واتباع
المدبر وقتل الأسير بخلاف ما إذا لم يكن لهم فئة.
ولا يجوز سبي الذراري والنساء على رأي، ولا يملك أموالهم الغائبة ولا
الحاضرة على رأي، وإنما يتعلق بهم أحكام البغي بشرط الكثرة التي لا يمكن
تفريق جمعها إلا بالقتال، وأن يخرجوا عن قبضة الإمام في بلد أو بادية، وأن
يكونوا على المباينة بتأويل سائغ عندهم ولو قاتل الذمي مع أهل البغي خرق
ذمامه وللإمام استعانتهم على قتالهم، ولو أتلف الباغي مال العادل أو نفسه حال
الحرب ضمن، ولو فعل ما يوجب حدا واعتصم بدار الحرب فمع الظفر به يقام
عليه.
ومانع الزكاة غير مستحل يجوز قتاله حتى يدفع، وساب الإمام يجب قتله.
الثالث:
يخرج الجعائل من الغنيمة وما يحتاج إليه كالأجرة وما يصطفيه وما شرطه
للقاتل من السلب، وليس له من دون شرط على رأي، ولا إذا قتله بعد انقضاء
الحرب، ويكون له وإن قتل مدبرا.
ويشترط إن يغرر بنفسه، فلو رمى من صف المسلمين إلى صفهم سهما فقتل
لم يكن له سلب.
ويشترط أن يكون قادرا على القتال، فلو قتل مثخنا فلا سلب، وأن لا يكون
مخذلا، ولو قتله اثنان تشاركا في السلب، ولو جرحه الأول ممتنعا فقتله الثاني
208

فالسلب للأول وإلا فللثاني، والسلب كل ما كان يده عليه وهو جنة للقتال،
وسلاح كالفرس والبيضة والثياب والسلاح والجنيب إذا كان بيده وما يرضخه
للنساء والعبيد والكفار.
ثم الخمس يقسم نصفه للإمام والآخر للثلاثة على رأي، ثم يقسم ما ينقل بين
المقاتلة ومن حضر ولو كان طفلا أو مولودا قبل القسمة، ومن يلحق للمعاونة:
للراجل سهم، وللفارس سهمان على رأي، ولذي الأفراس ثلاثة وكذا في السفن،
ويعتبر كونه فارسا عند الحيازة لا عند المعركة، ولا يسهم لغير الخيل، ولا لما لا
ينتفع به منها على رأي، ولا للمغصوب مع غيبوبة ومع حضوره فالسهم له،
ويسهم للمستعار والمستأجر ويملكه المقاتل والجيش يشارك السرية مع
صدورها، منه، ولا يتشارك الجيشان، ولا يعطي الأعراب على رأي بل يرضخ
لهم، ولا يسهم لمن غزا من المسلمين معهم إذا كان مخذلا لهم أو معاونا
للمشركين بأن يكاتبهم ويطلعهم على عورات المسلمين، ولا يرضخ لهم بخلاف
المدين ومن منعه أبواه.
ولا يجوز التصرف في الغنيمة قبل القسمة إلا بالضروري كالطعام، ولو
أخرجوا الطعام إلى بلد الإسلام وجب رده إلى الغنيمة، ولو باع أحد الغانمين
عالما شيئا فباطل، ويكون الثاني أحق باليد، ويجب عليه الرد إلى الغنيمة إذا
خرج من دار الحرب، ولو لم يكن الثاني عالما لم يقر يده عليه.
ويكره تأخير القسمة في دار الحرب، وإقامة الحدود فيها، ولا يملك
المجعول له الرزق من بيت المال ولا المرصد للجهاد رزقه إلا بالقبض، فإن حل
ومات فلوارثه المطالبة.
ولا يملك الكفار ما غنموا من المسلمين، ولو استرده المسلمون فالعبيد
والأموال لأربابها، ومع التفريق يرجع الغانمون بقيمتها على الإمام على رأي،
والأحرار لا سبيل عليهم، ولو وطئ المشرك جارية المسلم واستعادها المسلم
فأولادها رق، ولو أسلم ثم وطئها ظانا تملكها فحملت فالولد للسيد ويقوم على أبيه
209

وعليه عقرها، ولو اشترى المستأمن عبدا مسلما بطل الشراء ويرد عليه ما وزنه
ثمنا، ولو تلف العبد فعليه القيمة ويترادان الفضل، ولو استغنم من ينعتق على
بعضهم انعتق حصته إن جعله الإمام له ولغيره برضاه، ويجب شراء الباقي على
رأي، ولو وطئ الغانم جارية المغنم عالما درئ عنه الحد بقدر نصيبه، ولو كان
جاهلا فلا حد، وتقوم عليه الجارية حينئذ، فإن قومت بعد الوضع قوم ولدها أيضا
وإلا فلا ولا مهر في الحالين.
ومباح الأصل كالصيد والشجر لا يختص به أحد، ولو كان عليه أثر ملك
وهو في دار الحرب فهو غنيمة، ولو وجد في دار الحرب ما يحتمل أن يملكه
المسلمون والكفار فهو لقطة.
وما لا ينقل يخرج خمسه والباقي للمسلمين والأسارى يخرج منهم الخمس
والباقي للمقاتلة.
والأرض المفتوحة عنوة إن كانت محياة فهي للمسلمين قاطبة، ولا يملكها
المتصرف ولا يصح بيعها ولا وقفها ولا هبتها، ويصرف الإمام حاصلها في
المصالح ومواتها للإمام، ولا تحيي إلا باذنه مع ظهوره ويملكها المحيي عند
غيبته.
والأرض المفتوحة صلحا لأربابها، ولو بيعت على مسلم انتقل ما عليها إلى
رؤوسهم وإن صولحوا على الأرض للمسلمين ولهم السكنى فهي كالخراج، وإن
أسلم صاحبها ملكها وسقط عنه ما ضرب عليها، وأرض من أسلم عليها لهم.
وكل أرض ترك عمارتها قبلها الإمام وطسقها لأربابها، والمحيي للأرض
أحق من غيره.
الرابع:
يجب سمعا على رأي الأمر بالمعروف الواجب، والنهي عن المنكر على
الأعيان على رأي بشرط علمهما، وتجويز التأثير والإصرار وعدم المفسدة.
210

ويستحب بالمندوب، ويجبان بالقلب مطلقا، فإن لم يؤثر فباللسان، فإن لم
يؤثر فباليد ما لم يبلغ الجراح، فيشترط الإمام على رأي إلا في المملوك والولد
والأهل على رأي، وكذا إقامة الحدود، والوالي من الجائر القادر يقيمها معتقدا
نيابة الأصل على رأي، ولو اضطره إلى ما لا يجوز استعمله إلا في الدماء.
ويجوز نيابة العادل، وقد يجب ويحرم من غيره مع استعمال المحرم،
ويجوز لا معه، وللفقهاء العارفين الحكم والفتوى، ويجب مساعدتهم والمؤثر
لغيرهم ظالم.
211

الرسالة الفخرية
للشيخ جمال الدين أبي منصور الحسن بن سديد الدين
يوسف بن زين الدين علي بن محمد مطهر الحلي المشتهر
بالعلامة الحي والعلامة علي الإطلاق
647 - 726 ه‍. ق
213

كتاب الجهاد
ويجب مع دعاء النبي عليه السلام أو إمام المسلمين أو نائبه أو مع الخوف
على بيضة الإسلام أو على النفس الجهاد.
وجهاد البغاة ثوابه كثواب جهاد الكفار ووجوبه كوجوبه.
ونيته إذا توجه: أتوجه إلى الجهاد لوجوبه قربة إلى الله.
ووجوبه على الكفاية إلا في مواضع.
وإذا وقف في الصف قال: أجاهد في سبيل الله لوجوبه قربة إلى الله.
والمرابطة مستحبة وقد تجب.
ونيتها إن كانت مستحبة يقول: أرابط في سبيل الله كذا كذا يوما لندبه قربة
إلى الله. وإن كانت واجبة ينوي الوجوب.
وإذا ربط فرسه أو غلامه في سبيل الله قال: أرابط هذا الفرس أو الغلام لندبه
قربة إلى الله.
ونية الإنفاق على المجاهدين أو المرابطين: أخرج هذا في سبيل الله على
المجاهدين في سبيله أو المرابطين لندبه قربة إلى الله.
وإن وجب عليه بنذر أو وصية أو غير ذلك نوى الوجوب.
215

فصل
في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
كله واجب: والأمر بالمعروف الواجب واجب وبالمندوب مندوب،
وشرطه انتفاء الضرر وتجويز التأثير والعلم بالمعروف والمنكر.
ويجب بالقلب ثم باللسان ثم باليد.
ونيته بالقلب: آمر بالمعروف أو أنهي عن المنكر بالقلب لوجوبه قربة إلى
الله.
وإذا تمكن باللسان قال: آمر بالمعروف أو أنهي عن المنكر باللسان لوجوبه
قربة إلى الله.
وكذا باليد وقد يجتمع الكل فينوي لكل واحد.
فصل
في أشياء متفرقة:
نية طلب العلم: أطلب العلم لوجوبه قربة إلى الله. وإن كان ندبا نواه.
ونية السلام على المؤمن: أسلم على المؤمن لندبه قربة إلى الله.
ونية النظر إلى وجه العالم: أنظر إلى وجه هذا العالم لندبه قربة إلى الله.
ونية قضاء الحاجة للمؤمن: أقضي حاجة المؤمن لندبه قربة إلى الله.
وفي صورة السعي فيها يقول: أسعي في حاجة المؤمن لندبه قربة إلى الله.
ونية الجلوس في مجالس العلماء ومواضع العبادات: أجلس في هذا
المجلس أو الموضع لندبه قربة إلى الله.
ويستحب أن يصرف أفعاله كلها من الأكل للغذاء المباح ولبس الثياب
والنوم وجماع ملك اليمين أو الزوجة إلى العبادة الشرعية وينوي بها الاستحباب
ويشكر الله تعالى عليها ثم يقول:
أشكر نعمة الله لوجوبه قربة إلى الله.
ولسجدة الشكر يقول: أسجد سجدة الشكر لندبها قربة إلى الله.
216

وإن كانت واجبة قال " لوجوبها ".
وتعلم القرآن واجب، فمنه ما يجب على الأعيان وهو سورة الفاتحة عينا
وسورة غير العزائم لأجل الصلاة على التخيير، وكذا الآيات الدالة على التوحيد
فإنه يجب واحدة منها على التخيير على الأعيان ولا يجب الكل على الأعيان، وغير
ذلك واجب على الكفاية لا الاكتفاء بالآحاد فيه بل إذا قام به عدد يوجب التواتر
ويحصل العلم بنقله، فإذا لم يحصل له العلم بذلك فدائما ينوي بتعليمه وتعلمه
وتلاوته الوجوب فيقول: أقرأ القرآن لوجوبه قربة إلى الله.
وترك القرآن وإهماله دائما يقرب من التكفين.
وعند علمه بقيام من يحصل التواتر بتعلمه يجوز له نية الندب في تلاوته
فيقول: أقرأ القرآن لندبه قربة إلى الله.
وكذا نية استماعه وكتبته، وكذا الأحاديث المنقولة عن النبي والأئمة عليهم
السلام بما يتعلق بالأحكام منها واجب على الكفاية ينوي الوجوب فيقول: أسمع
الحديث لوجوبه قربة لله.
وأما المستحب منها فينوي عند كل فعل الاستحباب والقربة.
217

الدروس الشرعية
للشهيد السعيد محمد بن جمال الدين مكي العاملي
" الشهيد الأول "
734 - 786 ه‍. ق
219

كتاب الجهاد وهو من أعظم أركان الإسلام، قال الله تعالى: إن الله اشترى من المؤمنين
أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله.
وعن النبي صلى الله عليه وآله: فوق كل بر بر حتى يقتل الرجل في سبيل
الله فليس فوقه بر.
وفي الفاخر: إن الملائكة تصلي على المتقلد بسيفه في سبيل الله حتى يضعه،
ومن صدع رأسه في سبيل الله غفر الله له ما كان قبل ذلك من ذنب.
وهو فرض كفاية على البالغ العاقل، الحر الذكر، الصحيح من المرض،
السليم من العمى والإقعاد، والشيخوخة المانعة من القيام، والفقر.
ويتعين بتعيين الإمام أو قصور القائمين بدونه وبالنذر وشبهه.
وللأبوين والمدين مع الحلول واليسار المنع، وقال الحسن: تسقط طاعتهما
وطاعة الغريم عند الاستنفار، وحمل على التعيين.
ومن عجز بنفسه وتمكن من إقامة غيره مقامه وجب عند الشيخ وابن
إدريس، ولو قدر فأقام غيره مقامه سقط عنه، إلا أن يعينه الإمام، ويجوز الاستئجار
للجهاد عندنا.
وإنما يجب بشرط دعاء الإمام العادل أو نائبه، ولا يجوز مع الجائر اختيارا،
إلا أن يخاف على بيضة الإسلام - وهي أصله ومجتمعة - من الاصطلام، أو يخاف
221

اصطلام قوم من المسلمين، فيجب على من يليهم الدفاع عنهم.
ولو احتيج إلى مدد من غيرهم وجب لكفهم لا لإدخالهم في الإسلام، وكذا
لو كان بين أهل الحرب ودهمهم عدو وخاف منه على نفسه جاز له أن يجاهد
دفاعا لا إعانة للكفار، وقيد في النهاية العدو لأهل الحرب بالكفر، وكذا كل من
خشي على نفسه مطلقا. وظاهر الأصحاب عدم تسمية ذلك كله جهادا بل
دفاع، وتظهر الفائدة في حكم الشهادة والفرار وقسمة الغنيمة وشبهها.
وأما الرباط فضله كثير، سواء كان بنفسه أو غلامه أو دابته، في حضور
الإمام وغيبته، ومن نذر المرابطة وجبت مطلقا، وكذا لو نذر صرف مال فيها، ولا
يجوز صرفه في البر حال الغيبة على الأصح، ولو آجر نفسه أو قبل الجعل عليها
قام بها، ولا يجب رد المال على الباذل أو وارثه، ونقله ابن الجنيد كله حال الغيبة،
وأوجبه الشيخ، فإن لم يجد الوارث قام بها، وهو مخصص لعموم الأدلة بغير
ثبت.
وأقلها ثلاثة أيام، ونقل ابن الجنيد ليلة، وأكثرها أربعون يوما، فإن زاد فله
ثواب المجاهدين، وأفضلها ما قرب من الثغر، وكل من وطن نفسه على الإعلام
والمحافظة من أهل الثغور فهو مرابط.
ويكره نقل الأهل والذرية إليه.
والمجاهدون ثلاثة: أهل الكتاب، وهم: اليهود والنصارى، وبحكمهم من له
شبهة كتاب كالمجوس، وألحق بهم ابن الجنيد الصابئة، ومن عداهم من
المشركين، والبغاة على الإمام العادل.
والواجب قتال الكتابي حتى يسلم أو يتذمم أو يقتل، وقتال المشرك حتى
يسلم أو يقتل، وقتال الباغي حتى يفئ أو يقتل.
ويبدأ بقتال من يليه، إلا أن يكون الأبعد أشد خطرا، ومن ثم أغار رسول الله
صلى الله عليه وآله على الحارث بن أبي ضرار لما بلغه أنه يجمع له، وكان بينه و
بينه عدو أقرب، وكذا فعل بخالد بن سفيان الهذلي، أو يكون الأقرب مهادنا.
222

ولا يجوز القتال إلا بعد الدعاء إلى الإسلام، بإظهار الشهادتين والتزام جميع
أحكام الإسلام، والداعي هو الإمام أو نائبه، ولو قوتلوا مرة بعد الدعاء كفى عما
بعدها، ومن ثم غزا النبي صلى الله عليه وآله بني المصطلق غارين فاستأصلهم.
ولا يجوز في أشهر الحرم، وهي: رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، إلا
أن يبدأ العدو بالقتال فيها، أو لا يرى حرمتها.
ويكف عن النساء وإن أعن إلا مع الضرورة، وكذا عن الصبيان والمجانين
وأسرى المسلمين، ولو لم يمكن الفتح إلا بقتلهم جاز، وعلى القاتل الكفارة في
المسلم، ولا يغرم ماله لو أتلفه خطأ أو لحاجة.
ويستحب الدعاء عند التقاء الصفين بالمأثور، ومنه دعاء النبي صلى الله عليه
وآله: اللهم منزل الكتاب سريع الحساب مجري السحاب اهزم الأحزاب، ومنه:
يا صريخ المكروبين، يا مجيب المضطرين، يا كاشف الكرب العظيم، اكشف
كربي وغمي، فإنك تعلم حالي وحال أصحابي، فاكفني بقوتك عدوي.
وليوص الإمام أصحابه بوصية أمير المؤمنين عليه السلام: استشعروا
الخشية... إلى آخرها.
ويستحب أن يكون القتال عند الزوال بعد أن يصلي الظهرين، لأنه تفتح
عنده أبواب السماء وتنزل الرحمة والنصر، وهو أقرب إلى الليل وأقل
للقتل.
ويجوز القتال بسائر أنواعه، وهدم المنازل والحصون، ورمي المناجيق،
والتحريق بالنار، وقطع الأشجار، وإرسال الماء ومنعه.
وعن علي عليه السلام: لا يحل من الماء، ويحمل على حالة الاختيار، وإلا
جاز إذا توقف الفتح عليه، والحصار، ومنع السابلة دخولا وخروجا، فقد قطع
رسول الله صلى الله عليه وآله أشجار الطائف، وحرق على بني النضير وخرب
ديارهم، ولا يجوز بإلقاء السم على الأصح.
ويكره تبييتهم ليلا والقتال قبل الزوال لغير حاجة، ولو اضطر فيهما جاز،
وأن تعرقب الدابة ولو وقفت به، ولو رأى صلاحا جاز، كما فعله جعفر عليه
223

السلام بمؤتة، وذبحها أحسن حينئذ.
ويكره المبارزة بين الصفين بغير إذن الإمام، ويحرم إن منع، ويجب إن
ألزم. ولو نكل المبارز عن قرنه جازت إعانته إلا مع شرط عدمها، فإن هرب
المسلم فطلبه القرن أعين مطلقا، وأبطل ابن الجنيد اشتراط عدم المعاونة. ويكره
قتل الأسير صبرا، أي حبسا للقتل.
ويحرم الفرار إذا كان العدو على الضعف فأقل، إلا متحرفا لقتال أو متحيزا
إلى فئة، والتمثيل بالكفار، والغدر بهم، والغلول منهم، والقتال بعد الأمان، ولو
كان من آحاد المسلمين لآحاد الكفار، وإن كان المجير عبدا أو أدون شرفا، ولو
استذم الخصم فأجيب بعدم الذمام فتوهم الأمان حرم اغتياله وأعيد إلى مأمنه.
ويحرم القتال أيضا بعد الهدنة، ولا يتولاها إلا الإمام أو نائبه لمصلحة. ومن
لم ينبت فهو صبي، فلو ادعى استعجاله بالدواء قبل منه بغير يمين.
درس [1]:
لا يجوز أخذ الجزية من الوثني وإن كان عجميا، ويجوز من الكتابي وإن
كان عربيا، ولو انتقل الكتابي إلى غير ملته أقر عند الشيخ إذا كان الثاني يقر عليه
ناقلا فيه الإجماع.
وشرائط الذمة: قبول الجزية بحسب ما يراه الإمام على الرؤوس، أو
الأرضين، أو عليهما على الأقوى، والتزام أحكام الإسلام، وأن لا يفعلوا ما ينافي
الأمان، كمعاونة الكفار وإيواء عينهم، وأن لا يتجاهروا بالمحرمات في شريعة
الإسلام، كأكل لحم الخنزير وشرب الخمر وأكل الربا ونكاح المحارم،
فيخرجون عن الذمة بترك هذه أو بعضها.
ويجب أن يعطوا الجزية صاغرين، فعند المفيد: هو أن يؤخذوا بما لا يطيقون
حتى يسلموا للرواية، وفي المبسوط: التزام أحكامنا، وفي الخلاف: عدم تقريرها
مع التزام أحكامنا، وقال ابن الجنيد: التزام أحكامنا وأخذها منه قائما، ولم يجوز
224

النقص عن دينار.
ويجب على الفقير على الأصح، وينظر بها حتى يوسر، وفي العبد قولان،
والمروي الوجوب على مولاه عنه، ولا جزية على النساء والأطفال والمجانين،
وفي الهم والمقعد والراهب وأهل الصوامع والمجنون أدوارا قولان، وكذا في
قتلهم.
ويجب على السفيه خلافا لابن حمزة، ويجوز أخذها من ثمن المحرم ولو
كان بالإحالة على المشتري، خلافا لابن الجنيد في الإحالة.
ويمنعون من أن يحدثوا كنيسة أو بيعة، أو يضربوا ناقوسا، أو يطيلوا بناء على
جارهم المسلم أو يساووه، بل ينخفضون عنه.
فرع:
لو كانت دار جاره سردابا لم يلزم بمثله، ولو كانت داره على نشر لا يمكن
الانتفاع بها إلا بالعلو على المسلم فالأقرب جوازه، ويقتصر على أقل من بنيان
المسلم، ولو انعكس جاز له أن يقارب دار المسلم في العلو، وإن أدى إلى الإفراط
في الارتفاع.
تنبيه:
يجوز تقرير نصارى تغلب عند الشيخ مع أنهم تنصروا في الإسلام، ومنعه
ابن الجنيد، والمروي عن علي عليه السلام: أنه توعدهم بالقتل، وعلله بتركهم ما
شرطه عليهم النبي صلى الله عليه وآله من أنهم لا ينصرون أبناءهم، وفي زمن الغيبة
يجب إقرارهم على ما أقرهم عليه ذو الشوكة من المسلمين كغيرهم.
وتجب الهجرة عن بلاد الشرك لمن لا يتمكن من إظهار دينه، ولم تنقطع
الهجرة بفتح مكة عن غيرها، ولو عجز عنها كالمستضعف والمرأة سقط وتوقع
المكنة.
225

ويجب مواراة المسلم دون الكافر، فإن اشتبها دفن كميش الذكر، ولا يقرع
خلافا لابن إدريس.
درس [2]:
تقسم الغنيمة المنقولة بعد الجعائل والمؤن ثم الخمس بين المقاتلة، ومن
حضر قبل القسمة حتى المولود بالسوية، للراجل سهم، وللفارس سهمان، ولذي
الأفراس ثلاثة وإن كثرت، ولو اشتركوا في فرس اقتسموا سهمها، ولا يسهم
لغيرها من الدواب، ولا للعبيد والنساء والكفار، ولكن يرضخ لهم بحسب ما يراه
الإمام، وكان النبي صلى الله عليه وآله يخرج النساء معه للمداواة، ولا للأعراب
وإن قاتلوا مع المهاجرين على الأصح، ويرضخ لهم، ويتشارك الجيش وسريته.
ولا فرق بين غنيمة البحر والبر.
ومن أسلم قبل الظفر به عصم نفسه وولده الأصاغر وماله المنقول دون
غيره، وكل عبد أسلم قبل مولاه وخرج إلينا فهو حر وإلا فلا.
ولو وطئ الغانم جارية من المغنم فلا حد عليه عند الشيخ ناقلا الإجماع،
ويلحق به الولد.
ولو وجد في الغنيمة أموال للمسلمين فهي لأربابها، ولو عرفت بعد القسمة
على الأصح، وفي النهاية: يقوم العبيد والأموال في سهم المقاتلة وتدفع القيمة، إلى
أربابها من بيت المال، أما الأحرار فلا سبيل عليهم إجماعا.
وما لا ينقل من الأرضين والعقارات فهو للمسلمين قاطبة، والنظر فيه إلى
الإمام.
وأما الأسارى فالإناث والأطفال يملكون بالسبي مطلقا، والذكور البالغون
يقتلون حتما إن أخذوا ولما تضع الحرب أوزارها إلا أن يسلموا، وإن أخذوا بعد
الحرب تخير الإمام فيهم بين المن والفداء والاسترقاق، ومنع في المبسوط: من
استرقاق من لا يقر على دينه كالوثني، بل يمن عليه أو يفادي، وتبعه الفاضل.
226

ولو عجز الأسير عن المشي احتمل، فإن أعوز لم يحل قتله، وأمر بإطلاقه في
النهاية، ويجب إطعام الأسير وسقيه وإن أريد قتله سريعا، ويتخير في القتل بين
ضرب العنق وقطع اليد والرجل بغير حسم لينزفوا.
ولو أسر المشركون مسلما لم يجز له التزوج فيهم، إلا أن يكونوا أهل
كتاب، فيجوز متعة أو دواما عند الضرورة الشديدة.
وينفسخ نكاح المشركين بأسرهما، وكذا بأسر الزوجة وحدها، وبأسر
الزوج الصغير وحده، ولو أسر الزوج الكبير وحده لم يحكم بالانفساخ حتى
يسترق، ولو كانا رقيقين تخير الغانم.
درس [3]:
في اللواحق
يجوز إخراج الشيوخ ما دام فيهم قتال، بارز عمار بصفين وهو ابن نيف
وتسعين سنة، قال ابن الجنيد: لا أستحب أن ينقص سنه عن ثماني عشرة.
ويجوز الذمام من الواحد للآحاد بغير إذن الإمام خلافا للحلبي، مع قوله
بوجوب الكف عمن أذمه وإن أثم.
ويجوز التحكيم في الحرب، ويراعى في الحاكم الكمال، والإيمان،
والعدالة، والمعرفة بمصالح القتال، ورضي الإمام به، نعم يكره إذا كان أسيرا في
أيدي المشركين، ومنعه ابن الجنيد، فينفذ حكمه ما لم يخالف المشروع.
وتتقدر الهدنة بما دون السنة، فيراعى الأصلح في القدر، ولو اشتد الضعف
جازت إلى عشر سنين لا أزيد، وإذا هاجرت امرأة منهم إلينا مسلمة وتحقق إسلامها
لم تعد، ويعاد على زوجها ما سلمه إليها من الصداق المباح من بيت المال، وقال
ابن الجنيد: من سهم الغارمين في الزكاة، ولو كانت عينه باقية رد بعينه، و هو
بعيد.
وظاهر بعض الأصحاب: أن الغانمين ليس لهم تصرف في الغنيمة بأكل
227

ولا علف ولا غيره قبل القسمة، وجوزه الشيخ في المبسوط، وابن الجنيد مدعيا
للإجماع، وهو الحق.
وللإمام الاصطفاء من الغنيمة، وجوز الحلبي أن يبدأ بسد ما ينوبه من خلل
في الإسلام ومصالح أهله ولو استغرق الغنيمة، وهو نادر، ولو خيف استرجاع
الكفار الغنيمة ففي جواز إتلاف الحيوان نظر، وقطع الشيخ بالمنع.
ويجوز السلب والنقل بالشرط، وأوجب ابن الجنيد السلب للقاتل بغير
شرط.
وجعل للفارس ثلاثة أسهم لرواية إسحاق بن عمار، ويعارضها رواية حفص
بن غياث وإن كانت ضعيفة، لاعتضادها بعمل المعظم، ولا يسهم للعبد المأذون
له ولا المكاتب خلافا له.
والمروي تحريم التفرقة بين الأم وولدها، وكره ابن الجنيد التفريق بين
الصغير وبين من يقوم مقام الأبوين في النفقة كالإخوة والأجداد، وهو حسن، ولا
فرق في التفريق بين البيع وغيره.
ولو سبي الطفل منفردا تبع السابي في الإسلام عند الشيخ والقاضي وابن
الجنيد، وهو المختار.
ولو أسلم الأسير بعد حكم الإمام فيه أنفذ إلا القتل، ولو كان قبل الحكم
تخير بين المن والفداء والاسترقاق، ونقل الشيخ سقوط الاسترقاق، لأن عقيلا
أسلم بعد الأسر، ففداه النبي صلى الله عليه وآله ولم يسترقه، وهي حكاية حال فلا
تعم.
ولا يجوز للذمي استيطان الحجاز ولا جزيرة العرب، وحدها من عدن إلى
ريف عبادان طولا، ومن تهامة وما والاها إلى أطراف الشام عرضا، ويجوز
الاجتياز والامتيار، وقال الجعفي: لا يصلح سكناهم دار الهجرة إلا أن يدخلوها
نهارا يتسوقون بها ويخرجون ليلا، وقال ابن الجنيد: يجوز إقامتهم فيما صولحوا
عليه كأيلة وتيم ووادي القرى.
228

وكل بلدة مصرها المسلمون لا يجوز إحداث كنيسة ولا بيعة ولا بيت نار
فيها إجماعا، وكذا لو سكنوا الأرض المفتوحة عنوة لم يحدثوا فيها شيئا من
ذلك، ومنع ابن الجنيد من سكناهم مصرا مصره المسلمون ومن دفنهم فيه. قال:
والتمصير إما بالإحداث كالكوفة والبصرة وبغداد وسر من رأى، أو بالإسلام عليها
طوعا، كالمدينة والطائف واليمن وبعض الديلم، أو بقسمة بلاد العنوة بين
المسلمين.
ويجوز اشتراط ضيافة مارة المسلمين، كما شرط رسول الله صلى الله عليه
وآله على أهل أيلة: أن يضيفوا من مر بهم من المسلمين ثلاثا، وشرط على أهل
نجران: إقراء رسله عشرين ليلة فما دون، وعارية ثلاثين فرسا وثلاثين بعيرا
وثلاثين درعا مضمونة.
ويكره بدأة الذمي بالسلام، وإذا سلم أجيب بعليكم، ويكره مصافحته، فإن
فعل فمن وراء الثياب.
ويستحب أن يضطر إلى أضيق الطرق وأن يمنع من الجادة، وأما العلامة
والركوب عرضا والمنع من الخيل وحذف مقاديم الشعور وترك الكنى
الإسلامية وشبه ذلك فلم نقف عليه لأئمتنا عليه السلام.
ولو أسلم الذمي بعد الحول قبل الأداء سقطت الجزية على الأصح.
ولو أسلم قوم على أرضهم طوعا ملكوها، وليس عليهم فيها سوى الزكاة مع
اجتماع الشرائط، ولو تركوا عمارتها فالمشهور في الرواية: أن الإمام يقبلها بما يراه
ويصرفه في مصالح المسلمين، وفي النهاية: يدفع من حاصلها طسقها لأربابها
والباقي للمسلمين، وابن إدريس منع من التصرف بغير إذن أربابها، وهو متروك.
ولو باع الذمي أرضه المجعول عليها الجزية على مسلم انتقل إلى الذمي لأنه
جزية، وقال الحلبي: هو على المشتري مع الزكاة، وهو مردود، لقوله صلى الله
عليه وآله: لا جزية على مسلم، قال: ولو استأجرها من الذمي مسلم أو ذمي
فخراجها على المستأجر، وفيه بعد إلا مع الشرط.
229

ومصرف الجزية عسكر المجاهدين، ولا يجوز التصرف في المفتوحة عنوة
إلا بإذن الإمام عليه السلام: سواء كان بالوقف أو بالبيع أو غيرها، نعم في حال
الغيبة ينفذ ذلك، وأطلق في المبسوط: أن التصرف فيها لا ينفذ، وقال ابن
إدريس: إنما يباع ويوقف تحجيرنا وبناؤنا وتصرفنا لا نفس الأرض.
ولا يجوز بيع المصحف للكافر، ولا يملكه لو اشتراه، وألحق الشيخ
أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله، وكرهه الفاضلان.
درس [4]:
يجب قتال البغاة على الإمام العادل إذا استنفر عليهم، قال الله تعالى: فقاتلوا
التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله، وقال النبي صلى الله عليه وآله: ما سمع داعينا
أهل البيت أحد فلم يجبه إلا كبه الله على منخريه في النار، وقال صلى الله عليه
وآله: ما خفقت راية على رأس امرئ مؤمن في سبيل الله فطعمته النار.
وكيفية قتال البغاة مثل كيفية قتال المشركين، والفرار كالفرار، إلا أن البغاة
إذا كان لهم فئة أجهز على جريحهم وتبع مدبرهم وقتل أسيرهم، وإن لم يكن لهم
فئة اقتصر على تفريقهم. ونقل الحسن أنهم يعرضون على السيف، فمن تاب منهم
ترك وإلا قتل.
ولا يجوز سبي نساء الفريقين، ونقل الحسن أن للإمام ذلك إن شاء، لمفهوم
قول علي عليه السلام: إني مننت على أهل البصرة كما من رسول الله صلى الله
عليه وآله على أهل مكة، وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وآله أن يسبي فكذا
للإمام، وهو شاذ.
ولا تقسم أموالهم التي لم يحوها العسكر إجماعا. وجوز المرتضى قتالهم
بسلاحهم وعلى دوابهم، لعموم: فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله.
وما حواه العسكر إذا رجعوا إلى طاعة الإمام حرام أيضا، وإن أصروا
فالأكثر على أن قسمته كقسمة الغنيمة، وأنكره المرتضى وابن إدريس، وهو
230

الأقرب عملا بسيرة علي عليه السلام في أهل البصرة، فإنه أمر برد أموالهم فأخذت
حتى القدور.
وإذا استؤسر منهم مقاتل حبس حتى تنقضي الحرب، ولو كان غير مقاتل
كالنساء والزمنى والشيوخ والصبيان أطلقوا، ونقل الشيخ في الخلاف: أنهم
يحبسون، وهو ظاهر ابن الجنيد.
والبغي اسم ذم عندنا، وفي تكفيره قولان، يتفرع عليهما تغسيله والصلاة
عليه ودفنه لا حل ماله.
واشترط الشيخ في قتال البغاة ثلاثة شروط: كونهم في منعة لا يمكن تفريقهم
إلا بالجيوش، وأن يخرجوا عن قبضة الإمام في بلد أو بادية، وأن يكونوا على
المباينة بتأويل يعتقدونه، وإلا فهم محاربون.
وتجوز الاستعانة بأهل الذمة في قتال البغاة مع الأمن، وفي قتال المشركين
أيضا، ولو استعان البغاة بنسائهم وأطفالهم فكما تقدم، ولو عاذوا بالمصاحف
والدعوة إلى حكم الكتاب لم يلتفت إليهم، إذا كانوا قد دعوا إليه فامتنعوا،
وقوتلوا حتى يصرحوا بالفئة، ولو قاتل الذمي معهم نقض عهده، فلو ادعوا الجهل
أو الإكراه فالأقرب القبول، ولو غزا المشركون البغاة فعلى الإمام الذب عنهم.
ويضمن البغاة ما أتلفوه على أهل العدل نفسا ومالا حال الحرب وبعده
بخلاف العكس، وأما جناية أهل الحرب على المسلمين فمغفرة إذا أسلموا نفسا
ومالا، وكذا جناية حربي على حربي هدر إذا أسلما، والعادل إذا قتل فهو شهيد
إجماعا.
وساب النبي صلى الله عليه وآله أو أحد الأئمة المعصومين عليه السلام
يجب قتله، ويحل دمه لكل سامع مع الأمن، ولو عرض عزر، ومانع الزكاة
مستحلا مرتد، وغيره يقاتل حتى يدفعها.
231

كتاب الحسبة
يجب الأمر بالمعروف الواجب والنهي عن المنكر بشروط ستة: التكليف،
والعلم بجهة الفعل، وإمكان التأثير، وانتفاء المفسدة، وأن يكون المعروف مما
سيقع والمنكر مما سيترك، وعدم ظن مقام الغير مقامه على الأقوى، وبعض
هذه شروط الجواز، ومدرك وجوبهما العقل والنقل، ولا يلزم وجوبهما على الله
تعالى بمعنى يحصل معه أثرهما حذرا من الإلجاء.
ويستحب الأمر بالمندوب والنهي عن المكروه، وطريق الأمر والنهي:
التدرج فالإعراض ثم الكلام اللين ثم الخشن ثم الأخشن ثم الضرب غير المبرح
ثم المبرح، أما الجرح والقتل فالأقرب تفويضهما إلى الإمام.
ويجب بالقلب وجوبا مطلقا، ويكفي في سقوط إظهارهما ظن الضرر على
المباشر أو على بعض المؤمنين نفسا أو مالا، وحينئذ الأقرب التحريم، ولو لم
يجوز التأثير وأمن الضرر جاز الإنكار قطعا، ولو لاح من المتلبس أمارة الندم
حرم قطعا.
والحدود والتعزيرات إلى الإمام ونائبه ولو عموما، فيجوز في حال الغيبة
للفقيه - الموصوف بما يأتي في القضاء - إقامتها مع المكنة، ويجب على العامة
تقويته، ومنع المتغلب عليه مع الإمكان، ويجب عليه الإفتاء مع الأمن وعلى
العامة المصير إليه والترافع في الأحكام فيعصي مؤثر المخالف ويفسق، ولا يكفي
232

في الحكم والإفتاء التقليد.
ولا يجوز تولي القضاء من قبل الجائر إلا مع الإكراه أو التمكن من الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو أكره على الحكم أو الإفتاء بغير حق أجاب إلا
في القتل، وفي إجراء الجرح مجراه خلاف، قطع الشيخ في الكلام بأنه كالقتل
في عدم جوازه بالإكراه.
ويجوز للمولى إقامة الحد على رقيقه إذا شاهد أو أقر الرق أو قامت عنده بينة
ثبتت عند الحاكم على قول، وللأب الإقامة على ولده كذلك وإن نزل، وللزوج
على الزوجة حرين أو عبدين أو أحدهما، فيجتمع على الأمة ولاية الزوج والسيد،
ولا فرق بين الجلد والرجم لما روي أنه لو وجد رجلا يزني بامرأته فله قتلهما،
ومنع الفاضل من الرجم والقطع بالسرقة.
ولا يشترط في الزوجة الدخول وفي اشتراط الدوام نظر أقربه المنع فيجوز
إقامته في المؤجل، وفي جواز إقامة المرأة الحد على رقيقها والمكاتب على رقيقه
والفاسق مطلقا نظر، ولا يملك إقامة الحد على المكاتب والمبعض، ولو اشترك
الموليان اجتمعا في الاستيفاء، ولا يجوز لأحدهما الاستقلال ولو ولى من قبل
الجائر كرها، قيل: جاز له إقامة الحد معتقدا النيابة عن الإمام، وهو حسن إن كان
مجتهدا وإلا فالمنع أحسن.
233

كتاب المرتد
وهو من قطع الإسلام بالإقرار على نفسه بالخروج منه، أو ببعض أنواع
الكفر، سواء كان مما يقر أهله عليه أو لا، أو بإنكار ما علم ثبوته من الدين ضرورة،
أو بإثبات ما علم نفيه كذلك.
أو يفعل ذاك صريحا، كالسجود للشمس والصنم، وإلقاء المصحف في
المقذر قصدا، وإلقاء النجاسة على الكعبة أو هدمها، أو إظهار الاستخفاف بها.
ولا حكم لردة الصبي، بل يؤدب.
وكذا المجنون، ولو ارتد عاقلا ثم جن، لم يقتل في موضع الاستتابة لأنا لا
نعلم امتناعه.
والكافر الأصلي لا يسمى مرتدا لعدم قطعه الإسلام، ولو تلفظ السكران
بكلمة الكفر لم يرتد عند الشيخ في الخلاف، لعدم القصد، وأولى منه عدم
الحكم بإسلامه حال السكر إذا كان كافرا، ويمكن حصول ردته لإلحاقه
بالصاحي فيما عليه كقضاء العبادات، قال في المبسوط: وهو قضية المذهب،
وحكم أيضا بصحة إسلامه، وفساد عقوده وإيقاعاته كبيعه وطلاقه، وإن كان
الاحتياط تجديد إسلامه بعد إفاقته.
ولا حكم لردة الغالط والغافل والساهي والنائم إجماعا، وتقبل دعوى
ذلك كله، وكذا الإكراه مع القرينة، كالأسر.
234

وتثبت الردة بالإقرار بها ولو مرة، وبشهادة عدلين، فلو كذبهما لم يسمع،
وإن ادعى الغلط سمع بلا يمين، وإن ادعى الإكراه فكذلك إن كان هناك قرينة.
ولو خرج الأسير بعد وصفه الكفر مكرها، لم يجب تجديد إسلامه فلو أمر به
فامتنع كشف عن سبق ردته، وظاهر المبسوط أنه لا بد من عرضه عليه.
ولو أمر المسلم بالشهادتين فامتنع، لم يحكم بكفره.
وأما أحكام المرتد فهي: إما في النفس، أو المال أو الولد، أو الزوجية.
فالأول: وجوب القتل إن كان رجلا مولودا على فطرة الإسلام، لقوله صلى
الله عليه وآله: من بدل دينه فاقتلوه، ولا تقبل منه التوبة ظاهرا، وفي قبولها باطنا
وجه قوي.
وإن أسلم عن كفر ثم ارتد لم يقتل، بل يستتاب بما يؤمل معه عوده، وقيل:
ثلاثة أيام، للرواية، فإن لم يتب قتل، واستتابته واجبة عندنا.
والمرأة لا تقتل مطلقا، بل تضرب أوقات الصلوات ويدام عليها السجن حتى
تتوب أو تموت، ولو لحقت بدار الحرب قال في المبسوط: تسترق.
ولو كان المرتدون في منعة بدأ الإمام بقتالهم قبل قتال الكفار، فإذا ظفر بهم
أجرى عليهم الأحكام المذكورة.
والمرتد عن ملة لو تكررت منه الردة والاستتابة، قتل في الرابعة، أو الثالثة
على الخلاف.
وقاتل المرتد الإمام أو نائبه، ولو بادر غيره إلى قتله فلا ضمان، لأنه مباح
الدم، ولكنه يأثم ويعزر، قاله الشيخ لعدم إذن الإمام، وقال الفاضل: يحل قتله
لكل من سمعه، وهو بعيد.
فرع:
لو قتل المرتد مسلما أو مرتدا عمدا قتل به، وقدم على قتل الردة، وإن كان
شبيه عمد فالدية في ماله، وكذا لو صولح على مال، ويشكل إذا كان من فطرة
235

لأنه لا مال له، وإن كان خطأ قال الشيخ: في ماله، لأنه لا يعقله قومه، ويشكل
بأن ميراثه لهم.
وكلمة الإسلام " أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله " وإن
تبرأ من كل دين غير الإسلام كان تأكيدا.
ولو كان كفره بدفع عموم النبوة، صرح بالعموم، وكذا بجحد فريضة.
وتقبل توبة الزنديق على الأصح، لأن باب الهداية غير محسوم والبواطن لا
تتبع، لقول النبي صلى الله عليه وآله لأسامة: هلا شققت عن قلبه.
وروي عدمه لأن التقية دينه فلا يتصور فيه الترك لأن الترك هو التلبس
بالضد، إذ الكافر لا يكون تاركا دينه إلا بما هو ضده، ولو أمر بحل شبهته احتمل
الإجابة، لأن أصل الدعوة الحجة وعدمه، إذ الحق لا لبس فيه والخيالات لا حصر
لها، فربما تمادى في كفره.
وتمنع الردة قبول الجزية، وصحة النكاح لكافرة أو مسلمة، وحل الذبيحة،
والإرقاق.
وتوجب الحكم بالنجاسة، وعدم إجراء أحكام المسلمين عليه، لو مات فلا
يغسل ولا يكفن ولا يدفن بين المسلمين، ولا بين الكفار، ولا تدرأ غرامة المتلفات
ولا عقوبة الجنايات.
وأما حكم ماله، فالخروج عنه إلى الوارث إن كان عن فطرة، وتقضى منه
ديونه.
وفي إنفاذ وصاياه قبل الردة عندي تردد، والأقرب أنه لا ينفق عليه منه.
ولو فات السلطان، ولو احتش أو احتطب ففي دخوله في ملكه تردد، فإن
أدخلناه صار إرثا، وعلى هذا لا ينقطع إرثه ما دام حيا، وهو بعيد، وإن كان طيا
حجر عليه ولم يزل ملكه، ويدخل في ملكه المتجددات.
وفي الحجر عليه بنفس الردة أو بحكم الحاكم وجهان الأقرب الأول، وينفق
عليه ما دام، وكذا من تجب نفقته عليه، وفي فساد تصرفاته في أمواله مطلقا، أو
236

بشرط الموت على الردة وجهان، وإذا مات مرتدا أو قتل فماله لوارثه عندنا، لا
لبيت المال.
وأما ولده السابق فمسلم، ولو علق بعد الردة من مسلمة فمسلم، وإن كان
من كافرة أو مرتدة فمرتد تبعا، ويحتمل كونه كافرا لأنه لم يسبق له إسلام ولا
تبعية إسلام، ويحتمل ضعيفا كونه مسلما لبقاء علاقة الإسلام.
وحديث الولادة على الفطرة فعلى الأول لا يسترق، وهو قول المبسوط،
ويلزم عند البلوغ بالإسلام أو القتل، وفي الخلاف: إنما يسترق إذا ولد في دار
الحرب، وعلى الثاني يجوز استرقاقه ويؤمر عند البلوغ بالإسلام أو الجزية إن كان
من أهلها، وعلى الثالث إن أعرب الكفر بعد بلوغه، فهو مرتد حينئذ.
وأما زوجته فتبين في الحال إن كان فطريا، وتعتد عدة الوفاة ولو لم يدخل
على الأصح، وإن كان مليا وقف نكاحه على انقضاء عدة الطلاق، فإن عاد فيها،
وإلا بانت، ولو انتفى الدخول بانت في الحال.
ولو ارتدت المرأة بعد الدخول وانقضت العدة ولما تسلم بانت.
ولا يصح تزويج المرتد ولا المرتدة على الإطلاق، لأنه دون المسلمة وفوق
الكافرة، ولأنه لا يقر على دينه، والمرتدة فوقه لأنها لا تقتل.
وليس له تزويج ابنته لنقصه، ولا أمته للحجر عليه، وطلاقه مراعى، وذبيحته
ميتة، فإن كانت لغيره ولم يأذن ضمن، والصلاة لا تكفي في إسلامه وإن كانت
في دار الحرب لقيام الاحتمال.
ولو تاب فقتله معتقد ردته أقيد عند الشيخ، لأنه قتل مسلما عمدا، ولأن
الظاهر أنه إنما أطلق بعد إسلامه، قال الشيخ: وكذا لو قتل من ظنه ذميا فبان
مسلما، أو عبدا فظهر حرا.
ويحتمل الاقتصار على الدية في ماله مغلظة لعدم القصد إلى قتل المسلم،
وكلما يتلفه المرتد من نفس أو مال يضمنه، وإن كان مع جماعة في منعة،
والقياس على عدم ضمان الباغي ممنوع الأصل.
237

كتاب المحارب
وهو من جرد السلاح للإخافة في مصر أو غيره، ليلا أو نهارا، وإن كان
امرأة، بشرط الريبة، ولو ظنا، لا الطليع والرداء والمتأهب والمختلس والضعيف
الذي لا يخاف منه عادة، ولو خيف منه فمحارب.
ولو تظاهر اللص فمحارب.
ويجب الدفاع عن النفس والحريم، ولا يجوز الاستسلام، ولو عجز وجب
الهرب إن أمكن.
والمدافعة عن المال غير واجبة إلا مع اضطراره إليه، وغلبة ظن الظفر،
ويتحرى الأسهل، كالصياح، ثم الخصام، ثم الضرب، ثم الجرح، ثم التعطيل،
ثم التدفيف.
ودم المدفوع هدر، وكذا ما يتلف من ماله إذا لم يمكن دفعه إلا به.
والدافع كالشهيد، ولا يبدأ إلا مع العلم بقصده أو الظن، ولو كف كف
عنه، فإن عاد عاد عليه، فلو قطع يده مقبلا ثم رجله مدبرا ضمن الرجل، فإن سرتا
ضمن النصف قصاصا أو دية، ولو أقبل بعد ذلك فقطع عضوا ثالثا ضمن الثلث،
بخلاف ما إذا قطع يديه مقبلا ثم رجله فإنه يضمن النصف لتوالي الجرحين، قاله
الشيخ، ويمكن المساواة لأنه لا نظر إلى التعدد مع السراية، ولو عض يده
فانتزعها فبدرت أسنانه فهدر.
238

وله التخلص باللكم وشبهه، ولو بالقتل متدرجا.
ولو صال الفارسان تضامنا إن كانا عاديين، وإلا ضمن العادي، ولو تجارحا
فتداعيا الدفاع تحالفا وضمنا.
ويجوز الدفاع عن بضع الزوجة والأمة، والتقبيل وشبهه، وكذا الولد، ولو
أدى الدفع متدرجا إلى القتل.
وزجر المطلع على العورة، فإن أصر فرمى فلا ضمان، ولو كان رحما
لصاحب المنزل اقتصر على الزجر، إلا مع تجرد المرأة.
والدفاع يجري في العجماوات.
ولو تلف من أمره الإمام بالصعود إلى نخلة أو بالنزول في بئر لمصلحة
المسلمين والضمان في بيت المال، وإن لم يكرهه لوجوب طاعة الإمام، ولو كان
نائبه ضمن بالإكراه في ماله، إن لم يكن لمصلحة عامة.
وتثبت المحاربة بالإقرار ولو مرة، وبشهادة عدلين، لا بشهادة النساء مطلقا،
ولا عبرة بشهادة بعض الرفقاء لبعض إلا مع عدم التهمة، كتغاير اللص أو
سلامة الشاهد منه، ولا بشهادة اللص على مثله.
ويتخير الإمام بين القتل والصلب وقطع اليد اليمنى، ثم الحسم ندبا، ثم
الرجل اليسرى، والنفي فيكاتب البلدان التي يقصدها بالمنع من مؤاكلته ومعاملته
ومجالسته إلى أن يتوب، ولو قصد دار الكفر فمكنوه من الدخول قوتلوا.
وقيل: يقتل قصاصا إن قتل مكافئا، فإن عفا عنه قتل حدا، ولو قتل
واستهلك المال ارتجع، وقطع مخالفا، ثم قتل وصلب مقتولا، ولو انتزع المال
خاصة قطع مخالفا ونفي، وإن جرح ولا مال اقتص منه ونفي، ولو شهر السلاح
خاصة نفي خاصة.
ولا يشترط في قطعه النصاب، ولا الحرز، ولو جرح فسرى اقتص منه،
وقتل حدا مع العفو أو الصلح، ولو قتل أو جرح لا للمال فأمره إلى الولي، ولو
جرح للمال وعفا عنه لم يجز القصاص، ولو تاب قبل القدرة عليه سقط حق الله
239

تعالى خاصة، ولو تاب بعد القدرة لم يسقط شئ.
ويجوز صلبه حيا على التخيير، ولا يترك حيا أو ميتا على الخشبة أزيد من
ثلاثة أيام، ثم ينزل ويجهز، ولو كان قد قدم غسله وكفنه أجزأ.
ويعزر المختلس، والمستلب، والمزور، خطا أو كلاما، والمبنج، والمرقد،
ولو جنيا ضمنا.
ولو قتله في منزله، فادعى المحاربة كفى الشهادة بهجومه عليه وفي يده
سلاح مشهور.
ولو أدب ولده أو زوجته فماتا ضمن في ماله، لاشتراطه بالسلامة، وكذا
معلم الصبية، وقاطع السلعة.
والآكلة والخبيثة بإذن صاحبها الكامل، لا ضمان عليه.
ولو لم يأذن البالغ اقتص من القاطع، وإن قطع أجنبي سلعة صبي، قوى
الشيخ سقوط القود إلى الدية، كما لو قطعها الولي.
أما الختان فيجوز من الحاكم، مع امتناع البالغ منه، ومن الآحاد بطريق
الحسبة مع امتناعه، والواجب كشف جميع البشرة، فلو زاد الفاعل ضمن وإن
أذن له في الختان، ولو فعل ذلك الحاكم في حر أو برد مفرطين، قوى الشيخ
الضمان في كتاب الأشربة، وعدمه في كتاب الحدود من المبسوط.
أما عذرة المرأة، - وهي جلدة كعرف الديك بين الشفرين في أعلى الفرج
فوق مدخل الذكر وفوق مخرج البول إذا قطعت بقي أصلها كالنواة تشاهد عند
الهزال وتستتر عند السمن - فيستحب إزالتها، ولا يملك الحاكم إجبارها، ولو
أجبرها أو قطعها أجنبي حسبة ضمن السراية.
وفي ضمان المقطوع عندي نظر لم أقف فيه على كلام، فإن قلنا به ضمن
الأرش في أقرب أزمنة الجرح من الاندمال، وأما عذرة البكارة فمضمونة إلا على
الزوج.
240

المسائل لابن طي للشيخ أبي القاسم
علي بن علي بن جمال الدين محمد بن طي العاملي
241

كتاب الجهاد
وفيه مسائل:
مسألة [1]: قوله رحمه الله تعالى: ولو تترسوا بالنساء والصبيان أو آحاد
المسلمين جاز رمي الترس في حال القتال - إلى قوله - فلو لم يمكن التحرز فلا
قود ولا دية.
فنقول: إما أن تحصل الضرورة إلى رمي الترس أو لا، والضرورات التي
ذكرها الشارع في الحرب ثمانية:
أ - انكسار الدين.
ب - تلف شئ من دماء المسلمين.
ج‍ - تلف شئ من أموال المسلمين.
د - انكسار عسكر المسلمين.
ه‍ - الأشق في الحرب لقلة الزاد ومائهما.
و - عدم الظفر بالمقصود.
ز - الإخلال بأحد أركان الإسلام أو فروعه أو خراب بعض بيوت
العبادات.
ح - أن يؤدي إلى ترك القتال.
فيحصل ثمانية أقسام باعتبار الضرورة وعدمها، والمراد بالجواز هنا الإباحة
243

الشاملة للوجوب، والإباحة بمعنى الأخص، فلو كانوا يقصدون الكفار والكفار
قصدهم الدفع، فإن لزم من التحرز عن الترس إحدى المحذورات الثمانية
المذكورة جاز رمي الترس إجماعا، ولو لم يلزم أحد المحذورات المذكورة فيه
قولان، وإليه أشار بقوله: واحتمال الحال تركه، فقيل لا يجوز رمي الترس لأن ما
حرمه الشارع إنما يباح بنص أو تخصيص أو ضرورة، فيكون رخصة إذا انتهت
مدة الحكم ولم تحصل هاهنا لاحتياج كل منهما إلى دليل، وليس الأقرب جواز
رمي الترس لأن الكفار هم السبب في إتلاف هؤلاء من المسلمين.
وأما ترس الذمي فحكمه حكم المسلم إذا كان ملتزما بشرائط الذمة إذا لم
يكن الترس بسببه كما في مقامه بين أهل الحرب اختيارا.
مسألة [2]: الدين بالنسبة إلى الجهاد ثمانية:
أ - مدين موسر مع الحلول والرهن، فله المنع لبيع الرهن أو الإيفاء من غيره.
ب - موسر مع الحلول ولا رهن ويمنع حتى يوفي.
ج‍ - مدين موسر مع الأجل ولا رهن.
د المسألة بحالها مع الرهن ولا منع فيهما.
ه‍ - معسر مع الحلول والرهن القاصر فلا منع بسبب الزائد عن قيمة الرهن.
و - المسألة بحالها ولا رهن ولا منع، وقال الشيخ: له المنع.
ز - معسر مع الأجل ولا رهن ولا منع.
ح - معسر مع الأجل والرهن القاصر فلا منع أيضا.
مسألة [3]: السلب المستحق للقاتل كلما يد المقتول عليه، وهو جنة للقتال أو
سلاح كالسيف والرمح والدرقة والثياب التي عليه والفرس سواء كان راكبا أو
نازلا إذا كانت بيده، وكذا ما عليها من سرج ولجام وجميع آلاتها والحلية التي
244

على الآلات سلب، والبيضة والجوشن وما لا يد له عليه كالجنائب التي تساق
خلفه، والرحل غنيمة.
أما ما يده عليه وليس جنة كالمنطقة والخاتم والنفقة التي معه ففي كونها
سلبا أو غنيمة نظر من ثبوت اليد ومن كونه ليس جنة.
245

سلسلة الينابيع الفقهية
- 2 -
السبق والرماية
أشرف على جمع أصولها الخطية وترتيبها حسب التسلسل
الزمني وعلى تحقيقها واخراجها وعمل قواميسها
على أصغر مرواريد
247

الخلاف
تأليف شيخ الطائفة
أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (قدس سره)
385 - 460 ه‍. ق
249

كتاب السبق
مسألة 1: المسابقة على الأقدام بعوض لا تجوز، وهو مذهب الشافعي،
وقال قوم من أصحابه: إنه يجوز، وبه قال أبو حنيفة.
دليلنا: قوله عليه السلام: لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر، وليس هذا
واحدا منها، وهذا خبر مجمع عليه فلذلك استدللنا به.
مسألة 2: المسابقة بالمصارعة بعوض لا تجوز، وقال أهل العراق: تجوز،
وللشافعي فيه وجهان: أحدهما كما قلناه، والآخر كما قالوه.
دليلنا: ما قلناه في المسألة الأولى سواء.
مسألة 3: المسابقة بالطيور بعوض لا تجوز، وللشافعي فيه وجهان:
أحدهما مثل ما قلناه وهو المذهب عندهم، والآخر أنه يجوز لأن فيها فائدة من نقل
الكتب ومعرفة الأخبار.
دليلنا: ما قدمناه من الخبر.
مسألة 4: لا تجوز المسابقة بالسفن والزوارق ولأصحاب الشافعي فيه
وجهان، والذي عليه عامة أصحابه مثل ما قلناه، وقال أبو العباس: يجوز ذلك.
251

دليلنا: الخبر المتقدم.
مسألة 5: يجوز لغير الإمام أن يعطي السبق وهو ما يخرج في المسابقة في
الخيل، وبه قال الشافعي، وقال مالك: لا يجوز ذلك إلا للإمام لأنه من المعاونة
على الجهاد وليس ذلك إلا للإمام.
دليلنا: الخبر فإنه قال: لا سبق إلا في نصل - وقد روي بالفتح والسكون
فالفتح يفيد الشئ المخرج والسكون يفيد المصدر - ولم يفصل، ولأن الأصل
الإباحة والمنع يحتاج إلى دليل.
مسألة 6: إذا قال أحدهما لصاحبه: إن سبقت فلك العشرة، وإن سبقت أنا
فلا شئ لي عليك، كان جائزا، وبه قال الشافعي، وقال مالك: إنه لا يجوز لأنه
قمار.
دليلنا: أن الأصل جوازه والمنع يحتاج إلى دليل، وأيضا روي أن النبي
صلى الله عليه وآله مر بحزبين من الأنصار يتناضلون وقد سبق أحدهما الآخر فقال
النبي صلى الله عليه وآله: أنا مع الحزب الذي فيه أبو الأدرع، فأقرهما على
النضال وقد سبق أحدهما الآخر.
مسألة 7: إذا أخرج اثنان سبقا فأدخلا بينهما ثالثا لا يخرج شيئا فقالا: إن
سبقت أنت فلك السبقان معا، كان جائزا، وبه قال الشافعي، وقال مالك: لا
يجوز، وبه قال ابن خيران من أصحاب الشافعي.
دليلنا: ما قلناه في المسألة الأولى، وأيضا روي عن النبي صلى الله عليه
وآله أنه قال: من أدخل فرسا بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار وإن لم يأمن
أن يسبق فليس بقمار، وهذا ممن لا يأمن أن يسبق ومعناه ولا يائس فوجب أن
يصح.
252

مسألة 8: الاعتبار في السبق بالهادي وهو العنق والكتف والكتد، وبه قال
الشافعي، وقال الثوري: الاعتبار بأذنيه فإنه متى سبق بهما فقد سبق.
دليلنا: ما اعتبرناه مجمع عليه، وما قالوه ليس عليه دليل.
مسألة 9: عقد المسابقة من العقود الجائزة مثل الجعالة، وبه قال أبو حنيفة
وهو أحد قولي الشافعي، وله قول آخر أنه من العقود اللازمة كالإجارة وهو
أصحهما عندهم لقوله تعالى: أوفوا بالعقود، وهذا عقد.
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة، ولا دليل على لزوم هذا العقد فيجب نفي
لزومه والآية مخصوصة بلا خلاف.
مسألة 10: إذا تناصلا فسبق أحدهما صاحبه فقال: لك عشرة بشرط أن
تطعم السبق أصحابك كان النصال صحيحا والشرط باطلا، وبه قال أبو حنيفة
وأبو إسحاق المروزي، وقال الشافعي: النصال باطل.
دليلنا: أن الأصل صحته، وأن مضامة الشرط إليه تفسده يحتاج إلى دليل.
253

المبسوط
في فقه الإمامية
تأليف شيخ الطائفة
أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (قدس سره)
385 - 460 ه‍. ق
255

كتاب السبق والرماية
قال الله تعالى: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به
عدو الله وعدوكم، وروى عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وآله قال: ألا إن
القوة الرمي ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ووجه الدلالة أن الله تعالى أمر
بأعداد الرمي ورباط الخيل للحرب، ولقاء العدو والإعداد، وذلك لا يكون إلا
بالتعلم، والنهاية في التعلم المسابقة بذلك، ليكد كل واحد نفسه في بلوع النهاية
والحذق فيه فكان في ضمن الآية دليل على ما قلناه.
وقال تعالى: يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا، فأخبر
بالمسابقة.
وروى ابن أبي ذؤيب عن نافع عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله
قال: لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر، وروي لا سبق بسكون الباء، وروي
بفتح الباء، فالسكون مصدر مشتق من فعل سبق يسبق سبقا، والسبق بالفتح
العوض المخرج في المسابقة، فأثبت النبي صلى الله عليه وآله السبق في هذه
الثلاثة.
وروى أبو لبيد قال: سئل أنس بن مالك: هل كنتم تراهنون على عهد
رسول الله؟ فقال: نعم راهن رسول الله صلى الله عليه وآله على فرس له فسبق،
فسر بذلك وأعجبه.
257

وروي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله سابق بين الخيل المضمرة
من الحفياء إلى ثنية الوداع خمسة أميال إلى ستة، ومن ثنية الوداع إلى مسجد بني
زريق ميل، والمشهور في الخبر الخيل المضمرة بتخفيف الميم، وروى الساجي
المضمرة بفتح الضاد وتشديد الميم.
وروى الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: كان
لرسول الله صلى الله عليه وآله ناقة يقال لها العضباء إذا تسابقت سبقت،
فجاء أعرابي على بكر فسبقها فاغتم المسلمون، فقيل: يا رسول الله سبقت
العضباء فقال: حق على الله أن لا يرفع شيئا في الناس إلا وضعه، وفي
بعضها ألا يرتفع شئ من الدنيا إلا وضعه.
وروي عن عائشة قالت: كنت مع رسول الله في غزاة فقال للقوم: تقدموا،
فتقدموا فقال لي: تعالى أسابقك، فسابقته برجلي فسبقته، فلما كان في غزاة
أخرى قال للقوم: تقدموا، فتقدموا، وقال: تعالي أسابقك فسابقته فسبقني، وكنت
قد نسيت، فقال: يا عائشة هذه بتلك وكنت بدنت.
وروي أن النبي صلى الله عليه وآله مر بقوم من الأنصار يترامون، فقال
رسول الله صلى الله عليه وآله: أنا مع الحزب الذي فيه ابن الأدرع، فأمسك
الحزب الآخر، وقالوا: لن يغلب حزب فيه رسول الله، فقال: ارموا فإني أرمي
معكم، فرمى مع كل واحد منهم رشقا فلم يسبق بعضهم بعضا، فلم يزالوا
يترامون وأولادهم وأولاد أولادهم لا يسبق بعضهم بعضا.
وروي عن بعضهم أنه قال: تناضلوا واحتفوا واخشوشنوا وتمعددوا.
قوله " تناضلوا " يعني تراموا، والنضال الرمي، " واحتفوا " يعني امشوا
حفاة، " واخشوشنوا " يعني ألبسوا الخشن من الثياب، وأراد أن يعتادوا الحفا
" وتمعددوا " يعني تكلموا بلغة معد بن عدنان، فإنها أفصح اللغات وأيسرها.
وعليه إجماع الأمة لأنه لا خلاف بينهم في جوازه، وإنما الخلاف في أعيان
المسائل.
258

فإذا تقرر جواز ذلك في الجملة، فالكلام فيما يجوز المسابقة عليه، وما لا
يجوز، وما تضمنه الخبر من النصل والحافر والخف.
فالنصل ضربان: أحدهما نشابة وهي للعجم، والآخر السهم وهي للعرب،
والمزاريق وهي الردينيات والرماح والسيوف كل ذلك من النصل، ويجوز
المسابقة عليه بعوض لقوله تعالى: وأعدوا لهم ما استطعتم... الآية، ولقوله: لا
سبق إلا في نصل أو خف أو حافر، وكل ذلك يتناوله اسم النصل.
وأما الخف فضربان: إبل وفيلة، فأما الإبل فيجوز المسابقة عليه، لقوله
تعالى: فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب، وللخبر أيضا، والركاب الإبل ولأن
النبي صلى الله عليه وآله سابق بناقته العضباء، وأما الفيل فقال قوم: لا يجوز، لأنه
ليس مما يكر ويفر، وقال آخرون: يجوز، وهو الأظهر والأقوى عندنا لعموم
الخبر.
وأما المسابقة على الخيل فجائز لقوله " ولا حافر " ولقوله تعالى: ومن رباط
الخيل، وقوله " من خيل ولا ركاب " وعليه الإجماع.
وأما البغال والحمير فقال قوم: لا يجوز المسابقة عليها، لأنها لا تكر ولا تفر
كالبقر، وقال آخرون: جائز، وهو الأقوى لعموم الخبر.
فأما ما لم يرد فيه الخبر فمذهبنا أنه لا يجوز المسابقة عليه، لأن النبي صلى
الله عليه وآله نفى أن تكون المسابقة إلا في الثلاثة الأشياء، فمن ذلك المسابقة
بالأقدام أو إلى حبل أو على أن يدحو حجرا أو على المصارعة أو الطير خمس
مسائل.
فالمسابقة بالأقدام يكون على ضربين: إما أن يتعاديا فأيهما سبق صاحبه فهو
السابق، أو يكون للمدى شيئا معلوما فهو جائز بلا عوض بلا خلاف وفي كونه
بعوض فيه خلاف، وقد بينا أن عندنا لا يجوز بحال، فمن أجازه استدل بما روي
أن النبي صلى الله عليه وآله سابق عائشة.
وأما المسابقة على أن يدحو حجرا يدفعه من مكان إلى مكان ليعرف به
259

الأشد، فلا يجوز بعوض وبغير عوض لأنه لا يقاتل بها.
والمسابقة بالمصارعة بغير عوض تجوز، وأجازه قوم بعوض وفيه خلاف،
فمن أجازه قال: لما روي أن النبي صلى الله عليه وآله خرج إلى الأبطح فرأى
يزيد بن ركانة يرعى أعنزا له، فقال للنبي: هل لك في أن تصارعني؟ فقال له
النبي صلى الله عليه وآله: ما تسبق لي؟ فقال: شاة، فصارعه فصرعه النبي عليه
وآله السلام فقال للنبي: هل لك في العود؟ فقال النبي: ما تسبق لي؟ فقال:
شاة، فصارعه فصرعه، فقال للنبي صلى الله عليه وآله: هل لك في العود؟ فقال
النبي صلى الله عليه وآله: ما تسبق لي؟ فقال: شاة، فصارعه فصرعه، فقال للنبي:
أعرض على الإسلام، فما أحد وضع جنبي على الأرض، فعرض عليه السلام
فأسلم ورد عليه غنمه، والأقوى أنه لا يجوز لعموم الخبر.
وأما المسابقة بالطيور، فإن كان بغير عوض جاز عندهم، وإن كان بعوض
فعلى قولين، وعندنا لا يجوز للخبر.
وأما المسابقة بالسفن والزوارق، فقال قوم: يجوز، وقال آخرون: لا يجوز،
وهو الصحيح عندنا للخبر.
الأسباق جمع سبق، وهو المخرج للسبق، ولا يخلو ذلك من ثلاثة أحوال:
إما أن يخرجه غيرهما، أو أحدهما، أو هما.
فإن كان الذي يخرج غيرهما، فإن كان الإمام نظرت، فإن أخرجه من ماله
جاز، لما روي أن النبي صلى الله عليه وآله سابق بين الخيل وجعل بينهما سبقا،
وفي بعضها سابق بين الخيل وراهن، وإن أراد إخراجه من بيت المال جاز أيضا
للخبر، ولأن فيه مصلحة للمسلمين وعدة، وإن كان المخرج لذلك غير الإمام
جاز أيضا عندنا، وقال بعضهم: لا يجوز لأنه من المعاونة على الجهاد وليس ذلك
إلا للإمام، والأول أقوى، لأن فيه نفعا للمسلمين.
فالتفريع على هذا:
إن قال لاثنين: أيكما سبق إلى كذا فله عشرة دراهم، صح لأن كل واحد
260

منهما يجتهد أن يسبق وحده، فأما إن قال لاثنين: من سبق فله عشرة، ومن صلى
فله عشرة - وقوله صلى يعني حاذى رأس فرسه صلوى فرس السابق، والصلوان
الحقوان -.
فإذا سوى بينهما في العطية: فإن لم يدخل بينهما ثالثا كان خائبة لأن كل
واحد منهما لا يكد ولا يجهد، لأنه إن سبق فله العشرة وإن صلى فله العشرة.
وإن أدخل بينهما ثالثا وقال: أي الثلاثة سبق أو صلى فله العشرون، صح
لأن كل واحد منهم يكد ويجهد خوفا أن يكون ثالثا غير سابق ولا مصلى. هذا إذا
سوى بينهما.
فأما إن فاضل في العطية فقال: للسابق عشرة، وللمصلي خمسة، فإن أدخل
بينهما ثالثا صح لأن كل واحد يخاف أن يكون ثالثا لا يأخذ شيئا، وإن لم
يدخل بينهما ثالثا، قال قوم: لا يصح لأن كل واحد منهما لا يخلو من جعل،
وقال آخرون: يصح، وهو الأقوى عندي، لأن كل واحد منهما يكد ويحرص
على تحصيل الأكثر، هذا إذا كان المسبق غيرهما.
فأما إذا كان المسبق أحدهما، فقال: أينا يسبق فله عشرة، إن سبقت أنت
فلك العشرة، وإن سبقت أنا فلا شئ عليك، جاز هذا عند قوم، ولا يجوز عند
آخرين، والأول أقوى، لأن الأصل جوازه.
الثالث: أن يسبق كل واحد منهما صاحبه، فيخرج كل واحد منهما عشرة
ويقول: من سبق فله العشرون معا، فإن لم يدخلا بينهما محللا فهو القمار بعينه،
لما روي أن النبي صلى الله عليه وآله قال: من أدخل فرسا بين فرسين وقد أمن أن
يسبق فهو قمار، وإن لم يأمن فليس بقمار.
والدلالة من أول الخبر، وهو أنهما لو تسابقا وأدخلا بينهما ثالثا قد أمن أن
يسبق - معناه أي قد أيس أن يسبق - لضعف فرسه وقوة الآخرين، فهو قمار، لأنه
قد علم وعرف أنه لا يسبق ولا يأخذ شيئا، فإذا لم يجز هذا ومعهما ثالث قد أيس
أن يسبق فبأن لا يجوز إذا لم يكن معهما ثالث بحال أولى.
261

فهذا دلالة الفقهاء، وعندي أنه لا يمنع جوازه، لأن الأصل الإباحة.
فأما إن أدخلا بينهما ثالثا لا يخرج شيئا، وقالا: إن سبقت أنت فلك السبقان
معا، فهذا جائز عند قوم، وعند آخرين لا يجوز، والأول أقوى، لأن الأصل
جوازه.
فعلى هذا إذا أدخلا بينهما محللا نظرت، فإن لم يكن فرسه كف ء لفرسيهما،
وهو أن كان على برذون وكل واحد منهما على عربي جواد، فالمسابقة قمار للخبر
الذي قدمناه، وإن كان فرسه كفؤا لفرسيهما، فهذا هو الجائز لقوله عليه السلام:
من أدخل فرسا بين فرسين ولا يأمن أن يسبق فليس بقمار.
إذا أسبق كل واحد منهما عشرة وأدخلا بينهما محللا لا يخرج شيئا وقالا:
أي الثلاثة سبق فله السبقان معا، فإن تسابقوا على هذا فسبق أحد المسبقين وتأخر
المحلل والآخر معا كان السبقان معا للسابق، يمسك سبق نفسه ويستحق سبق
غيره، وقال بعضهم: يمسك سبق نفسه، ولا يستحق سبق غيره، والأول أصح،
للخبر المتقدم.
ويتفرع على هذا سبع مسائل: ثلاث لا خلاف فيها مع هذا القائل، وأربع
فيها خلاف.
فالتي لا خلاف فيها: إذا سبق الثلاث كلهم أتوا الغاية معا فهاهنا يجوز كل
واحد منهما مال نفسه، ولا شئ للمحلل، لأنه ما سبق، الثانية سبق المسبقان معا
وتأخر المحلل فكل واحد منهما يجوز مال نفسه، ولا شئ للمحلل لأنه ما سبق،
الثالثة سبق المحلل وحده وتأخرا، أخذ المحلل السبقين لأنه قد سبقهما.
وأما الأربعة التي فيها خلاف فترتيبها أن يبني على المحلل.
الأولى: سبق أحد المسبقين والمحلل معا فتأخر الآخر، فالمسبق يحوز مال
نفسه ويكون العشرة بينه وبين المحلل نصفين، لأنهما سبقا المسبق الآخر، وقال
المخالف: يحوز المسبق السابق سبق نفسه وتكون العشرة للمحلل لأنه لو
شاركه المسابق السابق كان قمارا لأنه يحصل في القوم من يغنم تارة ويغرم
262

أخرى وهذا لا سبيل إليه، وقد سبق المسبق المتأخر فكان العشرة له وحده.
الثانية: سبق أحد المسبقين وصلى المحلل، وتأخر الآخر، فالسابق يحوز مال
نفسه وسبق الآخر، لأنه قد سبق الكل، وعلى قول المخالف تكون العشرة التي
للمتأخر للمحلل، لأنه قد سبق المتأخر.
الثالثة: سبق أحد المسبقين وتأخر المحلل والمسبق الآخر معا، فالسابق
يحوز مال نفسه، وسبق المتأخر، وعلى قول المخالف: يحوز السابق مال نفسه،
والمسبق الثاني يحوز مال نفسه ولا شئ للمحلل لأنه ما سبق أحدا.
الرابعة: سبق أحد المسبقين وصلى المسبق الآخر وتأخر المحلل عنهما،
فالسابق يحوز السبقين معا، وعلى قول المخالف: للسابق سبق نفسه وللمسبق
الثاني سبق نفسه ولا شئ للمحلل لأنه تأخر عنهما.
إذا قال أجنبي أو إمام أو غيره لعشرة أنفس: من سبق فله عشرة، فإن وافى
القوم معا فلا شئ لواحد منهم، لأنه ما سبق أحدا فلم يوجد الشرط، فإن وافى
منهم واحد وتأخر الباقون كان له العشرة، وإن وافى تسعة وتأخر العاشر كان
العشرة للتسعة.
وإذا قال: من سبق فله عشرة، ومن صلى فله خمسة، فإن سبق خمسة وصلى
أربعة، وتأخر العاشر، كان لمن سبق عشرة وهم خمسة، ولمن صلى خمسة وهم
أربعة ولا شئ للآخر.
فإن سبق واحد وصلى ثمانية، وتأخر العاشر، فلمن سبق عشرة، ولمن صلى
خمسة ولا شئ للعاشر، فإن سبق ثلاثة وصلى أربعة وتأخر الباقون، فلمن سبق
عشرة ولمن صلى أربعة، ولا شئ للباقين، وعلى هذا أبدا.
الهادي العنق، والكتد الكاهل وهو العالي ما بين أصل العنق والظهر، وهو
من الخيل مكان السنام، ومن البقر هو مجتمع الكتفين.
فإذا ثبت هذا فمتى تسابقا لم يخل الفرسان من أحد أمرين: إما أن يكونا في
الخلقة متساويين أو مختلفين.
263

فإن كانا متساويين في القد وطول العنق، فمتى سبق أحدهما الآخر بالهادي
أو ببعضه أو بالكتد فقد سبق.
وأما إن كانا مختلفين في الخلقة، مثل أن يكون طول عنق أحدهما ذراعا
وطول عنق الآخر ذراعا وشبرا، فإن سبق القصير الطويل بالهادي أو ببعضه فقد
سبق، وكذلك إذا كان الرأسان سواء، وإن سبق الطويل القصير فإن كان بقدر
الزيادة في الخلقة لم يكن سابقا لأن ذلك لطول خلقته لا لسرعة عدوه، وإن كان
السبق بأكثر من الزيادة في الخلقة كان سابقا.
والاعتبار في السبق بالكتد أو الهادي عند الأكثر، وقال شاذ: الاعتبار
بالإذن فإذا سبق بها فقد سبق، لقوله صلى الله عليه وآله: بعثت والساعة كفرسي
رهان كاد أحدهما أن يسبق الآخر باذنه، والأول أقوى، لأن أحد الفرسين متى
رفع عنقه قليلا كان هو السابق وإن كان إذن الآخر سبق، والخبر المراد به
ضرب المثل على سبيل المبالغة كما قال: من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة
بنى الله له بيتا في الجنة، وإنما أراد المبالغة في الكل بضرب المثل.
لا يجوز المسابقة حتى يكون ابتداء الغاية التي يجريان منها والانتهاء التي
يجريان إليها معلوما، ولما روي أن النبي صلى الله عليه وآله سابق بين الخيل
المضمرة من الحفياء إلى ثنية الوداع، وبين التي لم يضمر من ثنية الوداع إلى
مسجد بني زريق.
ومن شرطه أن تكون الغاية التي يجريان إليها واحدة، ولا تختلف الغايتان
فتكون إحديهما أبعد من الأخرى.
وأما المناضلة إذا تناضلا على الإصابة جاز، وإن تناضلا على أيهما أبعد رميا
قال قوم: يجوز، وقال آخرون: لا يجوز، والأول أقوى.
النضال اسم يشتمل على المسابقة بالخيل والرمي معا ولكل واحد منهما
اسم ينفرد به، فالمناضلة في الرمي والرهان في الخيل، فأما قولهم " سبق " فهو من
الأضداد، سبقه بمعنى أخرج السبق وسبقه أحرز السبق.
264

وجميع أحكام الرهان معتبرة في النضال إلا من واحد، وهو أن المسابقة لا
تصح حتى تعين القوس، ومتى نفق لم يستبدل صاحبه غيره، وفي النضال لا
يحتاج إلى تعيين القوس، وإن عينها لم يتعين، ومتى انكسرت كان له أن
يستبدل، لأن المقصود من النضال الإصابة، ومعرفة حذق الرامي، وهذا لا يختلف
لأجل القوس، والقصد في المسابقة معرفة السابق، فلهذا اختلف باختلاف
الفرس، وإذا نفق لم يقم غيره مقامه، لأنه قد يكون دون الأول أو خيرا منه، وليس
كذلك القوس لأن المقصود معرفة حذقه، فكل قوس يذهب يقوم غيرها مقامها.
لا تصح المناضلة إلا بسبع شرائط: وهو أن يكون الرشق معلوما، وعدد
الإصابة معلوما، وصفة الإصابة معلومة، والمسافة معلومة، وقد الغرض معلوما،
والسبق معلوما وأن يشترط مبادرة أو محاطة.
أما الرشق - بكسر الراء - فعبارة عن عدد الرمي، يقال رشق ووجه ويد،
واليد بالفارسية دست، وقوله " وجه " معناه أن يقفوا عند أحد الغرضين يرمون
رشقهم إلى الآخر فقالوا " وجه ".
وأما الرشق - بفتح الراء - فعبارة عن الرمي، يقال: فرس رشيق وغلام
رشيق، إذا كان دقيقا، وليس للرشق عدد معلوم عند الفقهاء، بل على أي عدد
يتفقان عليه، وعند أهل اللغة عبارة عما بين عشرين إلى ثلاثين.
وأما عدد الإصابة فإن يقال الرشق عشرون والإصابة خمسة، ونحو هذا.
وصفة الإصابة معلومة، وهو أن يقال حوابي أو خواصر أو خوارق أو
خواسق، وقيل خواصل، ومنه يقال: خصلت مناضلي، أي سبقته.
فالحوابي ما وقع بين يدي الغرض، وحبا إليه أي سبق إليه، ومنه قال حبا
الصبي يحبو إذا حبا من مكان إلى مكان، والخواصر ما كان في جانبي الغرض
ومنه قيل الخاصرة لأنها من جانبي الرجل، والخوارق ما خدش الغرض ولم
يثبت فيه، والخواسق ما فتح الغرض وثبت فيه، والخواصل اسم للإصابة أي
إصابة كانت.
265

وللإصابة غير هذه الأسماء لكنها ليست من شرائط المناضلة، وهو المارق
والخارق والخازم والمزدلف، فالمارق هو الذي يقع في الغرض وينفذ فيه،
ويقع في الجانب الآخر، والخازم والخارق معا عبارة عن الذي يخزم حاشية
الغرض ثبت فيه أو لم يثبت، والمزدلف هو الذي يقع في الأرض قبل الغرض ثم
يثب إلى الغرض.
وأما المسافة وهو ما بين الهدفين لا بد أن تكون معلومة، فيقال: مائتا ذراع
أو ثلاثمائة ونحوه.
وأما الغرض فنذكر أولا الهدف ثم الغرض، فالهدف هو التراب المجموع
الذي ينصب فيه الغرض أو حائط أو غير ذلك، والغرض هو الذي ينصب في
الهدف ويقصد إصابته، ويكون من رق أو جلد أو خشب أو ورق أو قرطاس،
والغرض الرقعة من الشن البالي، والرقعة ما نصبت من التراب. وقال بعض أهل
اللغة: الغرض هو المعلق غير منصوب في التراب.
وقد الغرض يكون معلوما، يقال شبر في شبر، أو أربع أصابع في أربع
أصابع.
وأما السبق والقرع فعبارة عن المال المخرج في المناضلة، وقال ابن
الأعرابي: السبق والخطر والندب والقرع والوجب عبارة عن المال المخرج.
وأما المبادرة فإن يبادر أحدهما إلى الإصابة مع تساويهما في عدد الرمي
المجموع، والمحاطة أن يبادر أحدهما إلى الإصابة مع تساويهما في عدد الرمي
بعد إسقاط ما تساويا في الإصابة. فالست الأولة شرط، وأما ذكر
المبادرة والمحاطة، قال قوم: هو شرط، وقال آخرون: ليس بشرط، والتفريع على
المبادرة والمحاطة فقد قلنا: إن المبادرة أن يبادر أحدهما إلى الإصابة مع
تساويهما في عدد الرمي، فإذا وجد هذا أحدهما فقد فضله.
بيانه: شرطا الرشق عشرين والإصابة خمسة، وعلى هذه الصورة جميع ما
نذكره من المسائل فيما بعد، فرمى كل واحد منهما عشرة وأصاب كل واحد
266

منهما خمسة، فقد تساويا في عدد الرمي والإصابة فما فضل أحدهما صاحبه، ولا
يرميان ما بقي من الرشق لأنه يخرج عن المبادرة.
فإن كانت بحالها، فرمى كل واحد منهما عشرة، فأصاب أحدهما خمسة،
والآخر أربعة، فقد فضله صاحب الخمسة، فأما إن رمى كل واحد منهما خمسة
عشر، فإن أصاب كل واحد منهما خمسة فما فضل أحدهما صاحبه ولا يرميان ما
بقي، وإن أصاب أحدهما خمسة والآخر أربعة، فقد فضل صاحب الخمسة، وعلى
هذا أبدا.
فإن رمى كل واحد منهما عشرين فأصاب كل واحد منهما خمسة فما فضل
أحدهما صاحبه ولا يرميان ما بقي، وإن أصاب أحدهما أربعة والآخر خمسة فقد
فضله صاحب الخمسة، وهذا أصل متى تساويا في عدد الرمي والإصابة معا قبل
إكمال الرشق لم يكملاه، ومتى بادر أحدهما إلى الإصابة مع تساويهما في عدد
الرمي فقد فضل وعلى هذا أبدا.
وأما المحاطة فقد قلنا: هو أن يبادر أحدهما إلى عدد الإصابة مع تساويهما
في عدد الرمي، بعد إسقاط ما تساويا فيه من الإصابة، فإن عدم هذا لم يفضل
أحدهما صاحبه.
بيانه: الرشق عشرون والإصابة خمسة، على ما صورناها، رمى أحدهما عشرة
فأصاب خمسة، ورمى الآخر عشرة فأصاب خمسة، تحاطا ذلك وأكملا الرشق،
فإن كانت بحالها فرمى أحدهما عشرة فأصاب تسعة، ورمى الآخر عشرة فأصاب
خمسة تحاطا خمسة بخمسة، وفضل الآخر يكملان الرشق، وعلى هذا أبدا.
فإن بادر أحدهما إلى الإصابة مع تساويهما في عدد الرمي بعد إسقاط ما
تساويا فيه من الإصابة، لم يخل من أحد أمرين: إما أن يكون هذا بإكمال الرشق،
أو قبل إكماله، فإن كان هذا بإكمال الرشق، فقد فضل المنفرد بالإصابة.
بيانه: رمى كل واحد منهما العشرين، فأصاب أحدهما كلها، وأصاب الآخر
خمسة عشر فخمسة عشر بخمسة عشر، وانفرد أحدهما بخمسة، فقد فضله، هذا إذا
267

حصل كذلك بإكمال الرشق.
فأما إن حصل هذا قبل إكمال العشرين، وهو أن يبادر أحدهما إلى الإصابة
مع تساويهما في عدد الرمي، بعد إسقاط ما تساويا فيه من الإصابة، فطالب
صاحب الأقل الأكثر بإكمال الرشق، فقال صاحب الأكثر: قد فضلتك لا أرمي
ما بقي من الرشق، فهل عليه الرمي أم لا؟ لم يخل من أحد أمرين: إما أن يكون له
فائدة في إكمال الرشق، أو لا فائدة.
فإن لم يكن له فائدة، فقد فضله صاحب الأكثر ولا يجب إكمال الرشق،
مثل أن رمى أحدهما خمسة عشر فأصابها، ورمى الآخر خمسة عشر فأصابها
خمسة، فلا يجب الإكمال، لأن أكثر ما فيه أن يرمي صاحب الأقل ما بقي من
الرشق، وهو خمسة فيصيبها فيضمها إلى الخمسة التي له، فتصير عشرة، ويرمي
صاحب الأكثر ما بقي ويخطئها كلها وله خمسة عشرة تحاطا عشرة بعشرة،
وفضل صاحب الأكثر بخمسة وهو عدد الإصابة، فلهذا قلنا: لا يرمي ما بقي.
وأما إن كان لصاحب الأقل فائدة بإكمال الرشق، فقد تكون الفائدة رجاء
أن ينضل صاحب الأكثر، وقد يكون أن يساوى صاحب الأكثر في الإصابة، وقد
يكون أن يمنع صاحب الأكثر أن ينفرد بعدد الإصابة.
بيان ذلك أنه ينضل صاحب الأقل صاحب الأكثر، بأن يرمي أحدهما
عشرة فيصيب ستة، ويرمي الآخر عشرة فيصيب واحدا وبقى من الرشق عشرة،
فيصيبها صاحب الواحد فيصير له أحد عشر، ويخطئها صاحب الستة فيكون له
ستة، ولهذا أحد عشر فيتحاطا ستة بستة وتبقى لصاحب الأحد عشر خمسة،
فيفضله بذلك.
وأما المساواة فبأن يرمي أحدهما خمسة عشر فيصيب عشرة، ويرمي الآخر
خمسة عشر فيصيب خمسة، فإذا أكملا الرشق أصاب صاحب الخمسة ما بقي
فيصير له عشرة إصابات، ويخطئها صاحب العشرة فيكون لكل واحد منهما
عشرة وتساويا وسقطا.
268

وأما أن يمنع صاحب الأكثر أن ينفرد بالإصابة، مثل أن يرمي أحدهما
خمسة عشرة، فأصاب إحدى عشر، ورمى الآخر خمسة عشر فأصاب اثنين، فإذا
أكمل الرشق أصاب صاحب الاثنين ما بقي وهو خمسة صار له سبعة، وأخطأ
صاحب الأحد عشر ما بقي فاستقر له أحد عشر، ثم تحاطا ما تساويا فيه من
الإصابة سبعة بسعة، وفضل لصاحب الأحد عشر أربعة.
فالحكم في كل هذا واحد: متى كان لصاحب الأقل فائدة إما أن يرجع إلى
أن يفضل صاحبه، أو يساويه في عدد الإصابة أو يمنعه عن الانفراد بعدد الإصابة،
فهل له المطالبة بإكمال الرشق أم لا؟ قال قوم: ليس له ذلك، لأن صاحب
الأكثر قد بادر إلى الإصابة مع تساويهما في عدد الرمي بعد إسقاط ما تساويا فيه
من الإصابة، فوجب أن يكون ناضلا، كما لو تناضلا مبادرة وبادر أحدهما إلى
الإصابة مع تساويهما في عدد الرمي فإنه قد فضل أحدهما صاحبه، وقال آخرون
- وهو الأقوى عندي -: له مطالبته بإكمال الرشق، لأن له فائدة، لأنه ربما فضل
أو أسقط ما له من الفضل أو يساوى، فلهذا كان له المطالبة بإكمال الرشق.
ويفارق المبادرة لأن موضوعها على أن لا يحط ما تساويا فيه من الإصابة،
فإن بادر أحدهما إلى الإصابة مع تساويهما في عدد الرمي فلا معنى لإكمال
الرشق، فبان الفصل بينهما.
إذا تسابقا أو تناضلا، وأخرج كل واحد منهما سبقا وأدخلا بينهما محللا
فهل ذلك من العقود الجائزة أو اللازمة؟ قال قوم: من العقود الجائزة كالجعالة،
وقال آخرون: من العقود اللازمة كالإجارة، والأقوى الأول.
فمن قال: من العقود اللازمة، قال: لزم، ويلزم الوفاء به، ومتى أراد أحدهما
أن يخرج منه نفسه بعد التلبس بالمناضلة أو قبل التلبس وبعد العقد، لم يكن له
ذلك، ومن قال: من الجائزة، قال: هو كالجعالة وأيهما أراد إخراج نفسه من
السباق كان له ذلك، وعلى القولين يصح أن يكون العوض فيه عينا ودينا.
فإذا تم النضال بينهما سواء قيل إنه جائز أو لازم، فقد استحق السبق
269

بذلك.
فإن كان عينا كان الناضل يستحقها كسائر أمواله، فإن اختار تملكها
وأحرزها وإن شاء أطعمها أصحابه، وإن كان العوض دينا طالبه، فإن منعه حكم
الحاكم عليه به، كما يقضى عليه في سائر الديون، وإن كان موسرا استوفاه وصنع
به ما شاء على ما ذكرناه، وإن كان معسرا كان الناضل أحد الغرماء، فإن كان
مفلسا ضرب به معهم.
وهل يجوز أخذ الرهن والضمين بالسبق أم لا؟ لم يخل من أحد أمرين: إما
أن يكون السبق عينا أو دينا.
فإن كان عينا لم يجز أخذ الرهن به، سواء كان قبل النضال أو بعد الفراع
منه، لأنه لا يجوز أخذ الرهن والضمين بالأعيان.
وإن كان السبق دينا فإن كان بعد الفراع من النضال جاز، لأنه لزم على
القولين، لأن العمل قد وجد، وإن كان بعد العقد قبل النضال، فمن قال: هو عقد
إجارة، قال: يصح، لأنه رهن أو ضمين بالأجرة في الإجارة، وهو جائز، ومن
قال: جعالة، منهم من قال: يجوز لقوله تعالى: ولمن جاء به حمل بعير وأنا به
زعيم، ولم يعقبه بنكير، وقال آخرون: لا يصح لأن الرهن والضمين كل واحد
منهما عقد لازم، ومال الجعالة جائز، فلا يستوثق للجائز باللازم كمال الكتابة،
وهو الأقوى.
لا تصح المناضلة حتى يكون السبق معلوما، لأنه يكون في معاوضة كالثمن
في البيع فإذا ثبت ذلك ففيه أربع مسائل:
إن قال: أسبقتك عشرة على أنك إن نضلتني فلك عشرة ولا أرمي أبدا، أو
لا أرمي شهرا - يعني أنفة - كان هذا باطلا لأنه شرط ترك ما هو مندوب إليه
مرغب فيه فكان فاسدا، فإذا فسد الشرط فسد النضال.
الثانية: قال: إن نضلتني فلك دينار حال وقفيز حنطة بعد شهر، صح
النضال.
270

الثالثة: قال: على أنك إن نضلتني فلك عشرة، وتعطيني قفيز حنطة، كان
فاسدا لأن موضوع النضال على أن الناضل يأخذ ولا يعطي، وهذا قد شرط عليه
إذا نضل أن يعطي وهذا فاسد، ولأن كل واحد منهما قد أسبق صاحبه، ولا محلل
بينهما، وهذا فاسد.
الرابعة: قال إن نضلتني فلك عشرة إلا دانقا، صح لأنه استثناء معلوم من
معلوم يصح، وإن قال: على أن على عشرة إلا قفيز حنطة، كان باطلا لأن قيمة
القفيز مجهول، فإذا حذف من المعلوم مجهولا كان مجهولا فلهذا بطل النضال.
إذا تناضلا فسبق أحدهما صاحبه، فقال: إن نضلتني فلك عشرة، بشرط أن
تطعم السبق أصحابك فالنضال باطل، وقال قوم: الشرط باطل والنضال
صحيح، وهذا أقوى.
فمن قال: المناضلة صحيحة، قال: يستحق الناضل المسمى وهو بالخيار، إن
شاء أطعم السبق أصحابه، وإن شاء منع، ومن قال: المناضلة باطلة، فتناضلا فإن
كان الناضل هو المسبق فلا كلام يمسك مال نفسه، وإن كان الناضل هو
المسبق لم يستحق المسمى لأن المسمى سقط في العقد الفاسد.
وقال قوم: يستحق أجرة المثل كالبيع والصلح والإجارة، وقال آخرون:
لا يستحق شيئا لأنه إنما يجب أجرة المثل في الموضع الذي يفوت على العامل
عمله، وعاد به نفعه إلى الناضل، كالقراض الفاسد يجب عليه أجرة مثل العامل
لأنه فوت عليه عمله فيما عاد نفعه إليه.
إذا تسابقا نظرت: فإن كان السبق بالخيل، فإنهما يجريان معا في زمان
واحد لا يسبق أحدهما صاحبه، لأن السابق من سبق إلى الغاية، وإن كان السباق
بالمناضلة فلا بد أن يبدأ أحدهما قبل صاحبه، لأنهما لو بدءا معا لم يعرف
المصيب منهما، ولم يستفد بالمناضلة حذقا.
ثم لا يخلو من أحد أمرين: إما أن تكون المناضلة بشرط أن يبدأ فلان، فإذا
فعلا هذا كان على ما شرط، وإن أطلقاها من غير شرط فمن الذي يبدأ، لا يخلو
271

النضال من أحد أمرين، إما أن يكون كل واحد منهما سبق صاحبه أو لم يسبق.
فإن كان كل واحد منهما سبق صاحبه، قال قوم: يقرع بينهما، لأنه لا مزية
لأحدهما، وقال آخرون: النضال فاسد، والأول أقوى عندي، وإن لم يكن كل
واحد منهما أخرج السبق بل أخرج أحدهما أو غيرهما، قال قوم: إن كان
المسبق أحدهما بدأ هو لأن له مزية، وإن كان غيرهما كان له الخيار إليه في تقديم
أيهما شاء، وقال قوم: النضال باطل، لأن موضوع النضال على أن يكون للمسبق
مزية.
وإن كان إخراج العوض منه فالسنة في النضال أن يكون لأهله غرضان
وهدفان يرمون من عند أحدهما إلى الآخر، ثم يمشون إلى الذي رموا إليه
فيأخذون سهامهم ويقفون عنده، فيرمون إلى الذي ابتدأوا منه، لما روي عن النبي
صلى الله عليه وآله أنه قال: ما بين الغرضين روضة من رياض الجنة.
فإذا ثبت هذا ورتبوا غرضين ووقفوا فرموا أولا من عند واحد إلى الآخر فبدأ
أحد الرماة إما بالشرط أو بالقرعة أو بالتسبيق على ما فصلناه، فإذا مشوا إلى الآخر
وجمعوا سهامهم للرمي لم يكن للذي بدأ من عند الأول أن يبدأ من عند الآخر، بل
يبدأ غيره على ما يرتبونه، لأن موضوع المناضلة على المساواة بين المتناضلين،
بدليل أن المسافة في الكل واحد.
فأما الكلام في كيفية الرمي، فإن إطلاق المناضلة يقتضي المراسلة أن يرمي
سهما وسهما كذلك حتى ينفد الرشق، لأنها عادة الرماة، فإن شرطا غير ما
يقتضيه الإطلاق مثل أن يرمي عشرة وعشرة رشقا ورشقا جاز.
وإذا عرض لأحد المناضلين عارض فاضطرب رميه لأجله، مثل أن أغرق
النزع فخرج السهم من اليمين إلى اليسار، وذلك أن من شأن السهم أن يسترسل
على إبهام بالغ صاحبه، فزاد في النزع فعبر القوس فمر على أصل سبابة يساره،
وإن انكسر قوسه أو انقطع وتره أو عرض في الطريق عارض غير سوق
استرساله، مثل أن وقع في بهيمة أو غيرها ونفذ عنها أو طائر أو إنسان أو استلبه
272

ريح في أحد كتفيه فتغير نزعه.
وجملته متى عرض عارض اضطرب رميه لأجله لم يعتد بذلك السهم عليه
من الخطأ، إن هو أخطأ، لأن الخطأ ما كان لسوء رميه، فأما إذا كان لعارض فلا
يكون لسوء رميه، فيرد إليه ليعيد رميه، ومتى حصلت الإصابة مع العارض، قال
قوم: يعتد عليه خطأ، وقال آخرون: لا يعتد، وهو الأقوى.
إذا تجاوز السهم الهدف مع العارض، قال قوم: يعتد عليه، وقال آخرون:
لا يعتد عليه.
قد قلنا إن الخاسق ما ثقب الغرض وثبت نصله فيه، والخارق ما خدشه ولم
يثقبه، فإذا شرطا الإصابة خواسق ورمى فأصاب الغرض ففيه ثلاث مسائل:
إحداها: ثقبه وثبت نصله فيه، حسب له إصابة لأنه خسق.
الثانية: خدش الغرض ولم يثقبه، لم يعتد له إصابة، فكان خطأ لأنه شرط
الخواسق، وهذا خارق.
الثالثة: ثقب الغرض ثقبا يصلح للخسق، غير أن السهم سقط ولم يثبت فيه،
قال قوم: يحسب خاسقا لأنه ثقب الغرض، وإنما لم يثبت لمانع، وهو أن اتسع
الثقب أكثر من الحاجة، أو لثقبه غلظ منعه البقاء فيه، وقال آخرون - وهو
الأقوى - إنه لا يعتد به خاسقا لأن الخاسق ما ثبت فيه نصله، وهذا ما ثبت.
إذا شرطا الإصابة مطلقة، وهي الخواصل، فمتى أصاب الغرض بوجه مثل
أن خرق أو خسق أو خرم أو مرق فالكل إصابة يعتد له بها، لأنهما شرطا هذا.
إذا كانت الإصابة بينهما خواسق، فرمى أحدهما فأصاب الغرض ثم سقط
السهم فادعى الرامي أنه خسق، وإنما سقط ولم يثبت في الغرض لغلظ ثقبه من
حصاة أو نواة أو غيرهما، وأنكر صاحبه، لم يخل من أحد أمرين: إما أن يعلم
موضع الإصابة أو لا يعلم.
فإن لم يعلم موضع الإصابة، فالقول قول المصاب عليه، لأن الأصل أن لا
خسق، وهل القول قوله مع يمينه؟ نظر: فإن لم يكن فيه غلظ ولا حصاة ولا ما
273

يرد السهم عن الثبات فيه، فالقول قوله بلا يمين، لأن الظاهر أن سقوطه لسوء
رميه، وإن كان فيه شئ من هذا فالقول قوله مع يمينه لأن ما يدعيه الرامي ممكن.
فأما إن عرف موضع الإصابة، نظرت في الموضع، فإن لم يكن فيه ما يرد
السهم عن الثبوت، فالقول قول المصاب عليه، أيضا لما مضى، وإن كان هناك ما
يرد السهم من حصاة أو نواة، فإن لم يكن السهم خرق وجه الحصاة، فالقول قول
المصاب عليه أيضا لأنه لو كان الأمر على ما ادعاه الرامي لكان السهم قد فتح
المكان، وبان أن المانع ما كان وراءه من الحصاة، وإن كان السهم قد خرق ما
في وجه الحصاة وبلغ النصل إلى الحصاة، فمن قال في المسألة الأولى يعتد له به
خاسق، قال هاهنا مثله، ومن قال: لا يعتد له، قال: لا يعتد هاهنا له ولا عليه، حتى
يرمي ثانيا لأنا لا نعلم هل خسق أم لا؟
إذا كانت الإصابة خواسق، فرمى أحدهما فوقع سهمه في ثقبة كانت في
الغرض أو في مكان خلق بال، فثقب الموضع وثبت السهم في الهدف، وكان
الغرض ملصقا بالهدف، فهل يعتد به خاسقا أم لا؟ قال قوم: ينظر في الهدف،
فإن كان قويا كقوة الغرض، مثل أن كان الهدف حائطا أو طينا جامدا قويا فهو
خاسق، وإن كان الهدف ضعيفا ولم يكن بقوة الغرض، كالتراب والطين
الرطب لم يعتد به له ولا عليه، لأن أمره مشكل.
قد ذكرنا الخرم، وهو أن يقع السهم في حاشية الغرض فخرمه، وثبت فيه
مثل أن قطع من حاشيته قطعة وثبت فيه، أو شق الحاشية فثبت فيه، وكان
الغرض محيطا ببعض السهم، وبعض السهم لا يحيط به الغرض، فإذا كان
كذلك فشرط الخواسق فخرم، قال قوم: لا يعتد به خاسقا، لأن الخاسق ما ثبت
فيه ويحيط الغرض بجميع دور السهم، وهذا ليس كذلك، وقال آخرون: إنه
خاسق، لأن الخاسق ما ثقب الغرض وثبت فيه، وهذا موجود، لأنه إذا خرم فقد
خسق وزيادة، لأنه قد قطع منه قطعة ورماه وثبت السهم في مكان القطعة، فبأن
يحسب خاسقا أولى.
274

هذا إذا ثلم الحاشية وثبت فيه وكان بعض دور السهم خارج الحاشية، فأما
إذا كانت الثلمة على صفة إذا كان حاشية الغرض ذهب، كان الغرض محيطا
بكل السهم كان خاسقا بلا خلاف.
إذا شرط الخواسق فرمى أحدهما سهم فمرق، فقد وصفنا المارق، وهو أن
يصيب الغرض ويثقبه فينفذ السهم من ورائه، فإذا كان كذلك قال قوم: هو
خاسق، ومن الرماة من لم يجعله خاسقا وجعله خطأ اعتد به عليه.
إذا كان الخواسق فرمى أحدهما فوقع السهم في الغرض، فوجد في ثقبة
منه، والسهم ثابت في الغرض مع جليدة، فاختلفا فقال الرامي: خسقت بقطع
السهم هذه الجليدة من الغرض لشدة رميي، فأنكر المصاب عليه ذلك، قال قوم:
القول قول المصاب عليه لأن الأصل ألا خسق حتى يعلم.
هذا إذا كان صلابة الهدف كصلابة الغرض، وإن لم تكن صلابة الهدف
كصلابة الغرض، لم يعتد به له ولا عليه.
القدح الفوق، والفوق الثلمة التي يقع فيها الوتر من السهم، فإذا تناضلا
والشرط الإصابة المطلقة، فعلى أي وجه أصاب حسب له إذا أصاب بنصله، فأما
إن أصاب بعرض السهم، أو أصاب بالقدح، وهو أن وقع السهم بين يدي
الغرض، ثم انقلب فوقع فوقه على الغرض، فهذا عليه لأنه أسوأ ما يكون من
الخطأ.
فأما إن تناضلا فازدلف، وهو أن يقع بين يدي الغرض، ثم يثب إلى جهة
الغرض فإن أخطأ كان عليه، لأنه من سوء رميه، وإن أصاب قال قوم: يعتد به له
إصابة، وفيهم من قال: لا يعتد له ولا عليه، والأول أقوى.
إذا تناضلا وفي الجو ريح لينة، فرمى وميل رميه إلى جهة الريح بحيث
يكون قدر ما يميله يوافق الإصابة فأصاب حسب له، وهكذا لو كانت الريح في
وجه الغرض فنزع نزعا بقدر ما يكون قوة رميه مع معاونة الريح يصل إلى
الغرض ويصيب، فأصاب كان له، لأنه هو النهاية في الحذق أن يكون رماه مع
275

معاونة الريح يوافق المراد، فأما إن كانت الريح عاصفة لم يعتد عليه الخطأ
خطأ، ولا الإصابة إصابة.
فإن هبت الريح فحولت الغرض فوقع السهم في مكانه الذي تحول منه،
نظرت: فإن كان الشرط إصابة مطلقة كانت إصابة، وإن كان الشرط خواسق
نظرت: فإن كانت صلابته مثل صلابة الغرض فإنه يعتد به خاسقا، وإن كانت
صلابة الهدف دون صلابة الغرض، لا يعتد به له ولا عليه، لأنا لا نعلمه خاسقا ولا
غير خاسق.
وإن وقع السهم فوق المكان الذي تحول إليه لم يعتد به له، وكان عليه،
لأنه لو كان الغرض في مكانه الأول لم يكن مصيبا له، اللهم إلا أن يتفقا بعد
تحوله أن تكون الإصابة بحيث تحول إليه، فيصح ذلك كما لو حولاه إليه تحويلا
من غير ريح.
إذا كانت الإصابة خواسق فرمى فثبت في الغرض، ثم سقط عنه كان خاسقا
لأنه فعل الخسق، وسقوطه يحتمل أن يكون لثقله أو لريح حركته فسقط.
إذا عقدا نضالا مطلقا، ولم يشترطا قوسا معروفة، اقتضى إطلاقه أن يكون
الرمي منهما بنوع واحد، يرميان معا بالعربية أو معا بالعجمية، فإن أراد أحدهما
الرمي بالعربية، والآخر بالعجمية لم يكن له، فإن شرطا أن يرمي أحدهما بالعربية
والآخر بالعجمية، لزم ما شرطا، وما روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه رأى
رجلا معه قوس عجمية فقال: ملعون حاملها عليكم بالقسي العربية وسهامها، فإنه
سيفتح عليكم بها، فمنسوخ بالإجماع.
إذا تناضلا فلا يجوز حتى تكون الإصابة على السواء، وإن شرطا أن يحسب
خاسق أحدهما بخاسق واحد، والآخر كل خاسق بخاسقين، أو يكون لأحدهما
خاسق واحد بخاسقين أو يحط من خواسق أحدهما خاسق واحد، فالكل باطل،
لأن موضوع النضال على المساواة، ليعرف حذق الناضل فيها، فإذا فضل
أحدهما فضل صاحبه بما فضل به لا بحذقه، وإن نقص أحدهما نقص بما حط من
276

إصابته لا بحذق صاحبه، فلهذا قلنا: لا يجوز.
إذا عقدا النضال على نوع من القسي تعين ما عقداه، مثل أن قالا: نرمي معا،
بالعربية دون العجمية، أو قالا: نرمي معا، بالعجمية دون العربية، تعين ما شرطاه
ولم يكن لأحدهما أن يعدل عنه بعد الشرط.
فأما إن وقع على قوس معينة من النوع فقالا: يكون الرمي بهذه، لم يتعين،
وكان له أن يعدل إلى غيرها، سواء كان لحاجة أو لغير حاجة، لأن الأصل
والمقصود في النضال الرمي والقوس تبع، فكان له أن يستبدل إليه من نوعها
كيف شاء.
فإن كان هذا في الرهان لم يجز حتى يعين الفرس، فإذا تعين بعين لا يعدل
عنه إلى غيره، لأن الأصل هو والفارس تبع له، فالرجل في النضال كالفرس في
الرهان، والقوس في النضال كالرجل في الرهان، فإن أراد في الرهان أن يستبدل
بالدابة لعذر أو لغير عذر لم يجز، وإن أراد أن يستبدل بالرجل جاز، وإن أراد أن
يستبدل في النضال بالرجل لم يجز، وإن أراد أن يستبدل بالقوس جاز.
فإن نفق الفرس لم يقم غيره مقامه، وإن مات الفارس قام وارثه مقامه،
كذلك في النضال، إن مات الرامي لم يقم غيره مقامه، وإن انكسر القوس قام
غيرها مقامها، فإن شرطا في النضال قوسا معينة على أن لا يرمى بغيرها كان
النضال فاسدا لأنه شرط ما ليس من مصلحة النضال.
الشن هو الجلد، والجريد هو الشنبر المحيط بالشن كشنبر المنخل، والعرى
المخدمة هي التي حول الشن، والمعاليق الخيوط التي يعلق بها، والغرض ما دار
عليه الشنبر، فإن شرطا إصابة الشن فأصابه كان إصابة، وإن أصاب العرى أو
الشنبر لم يكن إصابة، لأنه ليس من الشن.
وإن شرطا إصابة الغرض فأصابه الشن أو الشنبر أو العرى كان إصابة، لأنه
غرض كله، وإن أصاب العلاقة، قال قوم: يعتد به، لأنها من جملة الغرض، وقال
آخرون: لا يعتد به، وهو الأقوى، لأن العلاقة غير الغرض.
277

إذا عقدا بينهما نضالا على أن الرشق عشرون، والإصابة خمسة، وأراد
أحدهما الزيادة في عدد الرشق وفي عدد الإصابة، وامتنع الآخر عليه:
فمن قال: إنه عقد لازم، لم يجز أن يزيدا ولا أن ينقصا مع بقاء العقد
كالإجارة والبيع، وإن تفاسخا العقد واستأنفا ما يتفقان عليه جاز.
ومن قال: هو عقد جائز على ما اخترناه، قال: إن كانت المطالبة قبل التلبس
بالرمي أو بعد التلبس ولم يكن لأحدهما على صاحبه مزية، مثل أن كانا في عدد
الرمي والإصابة سواء، فأيهما طلب فصاحبه بالخيار، إن شاء أجابه وإن شاء
انصرف، أو جلس لأنه عقد جائز.
وإن كان لأحدهما مزية على صاحبه، مثل أن رمى أحدهما عشرة فأصاب
أربعة، ورمى الآخر عشرة فأصاب سهمين، فإن طالب بذلك من له الأكثر كان
بالخيار، وإن كان المطالب من له الأقل قال قوم: صاحبه بالخيار، لأنه عقد جائز،
وقال آخرون: ليس له المطالبة بذلك، لأنا لو أجزنا ذلك أدى إلى أن لا ينضل
أحد أحدا إلا ومتى أشرف على أنه مغلوب طالب بالزيادة وجلس، فأمن أن
ينضل، وهذا أقوى.
إذا كان الرشق عشرين، والإصابة خمسة، فرمى أحدهما عشرة فأصاب
سهمين، ورمى الآخر عشرة فأصاب سهمين، فقال أحدهما لصاحبه: ارم سهمك
فإن أصبت فقد نضلتني، لم يجز، لأن موضوع النضال أن يعرف الأحذق منهما،
فإذا فعلا هذا ربما فضل لا بحذقه، وأيضا فإن هذا يؤدى إلى أن يكون الناضل
منضولا، والمنضول ناضلا وذلك لا يجوز.
بيانه: أن يكون لأحدهما إصابة أربعة، ولصاحبه إصابة واحدة، فقال صاحب
الأكثر لصاحب الأقل: ارم سهمك فإن أصبت فقد نضلتني، فرمى فأصاب، فنضله
والمنضول إصابته أكثر، وهذا لا يجوز.
فإن كان هذا قبل التلبس بالعقد أو بعد ذلك لكن تفاسخا ثم قال: ارم
سهمك هذا فإن أصبت فلك دينار، صح لأنها جعالة فيما له فيه غرض صحيح.
278

إذا قال له: ارم عشرين سهما فإن كان صوابك أكثر من خطائك فلك
دينار، قال قوم: يصح لأنها جعالة صحيحة كرجل له عشرون عبدا فقال: إن
جئتني بأكثر فلك دينار، صح، وقال بعضهم: لا يصح، لأن العوض في مقابلة
عمل مجهول، والأول أصح.
وإن قال له: ارم عشرين وناضل نفسك، فإن كان الصواب أكثر فلك
كذا، كان باطلا لأنه لا يصح أن يناضل نفسه.
إذا تناضلا فرمى أحدهما فأصاب بالنصل فهي إصابة، فإن انقطع السهم
باثنين وأصاب بالسهم فهي إصابة، لأنه أجود رمى وأحسنه، فإن أصاب بالقدح
- وهو الفوق - لم يكن إصابة وكان عليه، وإن أصاب بهما اعتد له بإصابة النصل
ولم يعتد بالقدح لا له ولا عليه.
إذا رمى سهمه فأصاب فوق سهم في الغرض نظرت: فإن كان الذي في
الغرض قد ثبت نصله فيه وبقيته بطوله إلى جانب الرامي لم يعتد به ولا عليه، لأن
بينه وبين الغرض قدر طول السهم الذي في الغرض، ولا يعلم ما يكون منه لو لم
يقع في فوق السهم.
وإن كان السهم الذي في الغرض قد نفذ في الغرض إلى فوقه، فوقع هذا
الثاني في فوق الأول، فإن كان الشرط الإصابة اعتد له إصابة، لأنا نعلم قطعا أنه
لولا الأولة أصاب الغرض، وإن كان الشرط الخواسق لم يعتد به له ولا عليه، لأنا
لا نعلم هل يخسق أم لا؟
فأما إن ثبت الأول نصله في الغرض وبقية طوله خارج منه، فأصاب فوقه
وشج عليه وأصاب الغرض اعتد له إصابة، لأنه إنما أصاب بحذقه وجودة رميه.
إذا شرطا أن كل من أراد الجلوس والترك فعل، لم يخل أن يكون الشرط
مقارنا للعقد أو بعده، فإن كان بعد العقد فمن قال: هو لازم، قال: وجوده وعدمه
سواء، ومن قال: جائز، قال: لا يؤثر في العقد، لأنهما شرطا مقتضى العقد.
وإن كان الشرط مقارنا للعقد، فمن قال: هو لازم، أبطل العقد، ومن قال:
279

جائز، فمن قال: لكل واحد الترك، لم يقدح في العقد، ومن قال: لمن عليه
الفضل أن يجلس، كان عقد النضال باطلا لأنه يخالف موجب العقد، إذا تناضلا
على رشق معلوم وإصابة معلومة، على أنه يسقط عنه واحدا من الخطأ لا يعتد به له
ولا عليه، كان النضال باطلا.
إذا شرطا نوعا من القسي تعين ذلك النوع إما العربية أو العجمية، ولم يكن
لأحدهما العدول عنه، فأما إن عين قوسا من النوع لم تتعين، وكان له أن يعدل
إلى غيرها.
إذا عقدا نضالا ولم يذكرا قدر المسافة من موقف الرماية وبين الغرض،
كان النضال باطلا، فإذا ذكراها فمن قال بلزوم العقد لم يجز الزيادة فيها ولا
النقصان، ومن قال: هو جائز، أجازه، وإن لم يذكرا قدر الغرض في الصغر أو
الكبر فالنضال باطل.
وإذا تناضلا ولم يذكرا قدر ارتفاع الغرض عن وجه الأرض، كان مكروها
لما يقع فيه من النزاع، وإن تركه جاز، لأن ارتفاعه معروف وينصرف إطلاقه إلى
العرف بين أهله، والمسافة لا عرف فيها، ومتى شرطا قدر ارتفاعه من وجه
الأرض لم يجز خفضه ولا رفعه عند من قال: هو عقد لازم.
إذا كانت المسافة مائتين وخمسين جاز، لما روي أنه سئل بعض أصحاب
النبي صلى الله عليه وآله: كيف كنتم تقاتلون العدو؟ فقال: إذا كانوا على مائتين
وخمسين ذراعا قاتلناهم بالنبل، وإن كانوا على أقل قاتلناهم بالحجارة، فإذا كانوا
على أقل من ذلك قاتلناهم بالرماح، فإذا كانوا على أقل من ذلك قاتلناهم
بالسيوف. ولأنه العرف في البلاد: فعرف بغداد مائتان وخمسون، وعرف مصر
مائتان.
وإن كانت المسافة ثلاث مائة وخمسين لم يجز، لأنه عقد لا يمكن الوفاء به،
لأن الإصابة تقل وتتعذر، وقيل: إنه ما كان يرمي أحد على أربع مائة ذراع
ويصيب إلا عقبة بن عامر الجهني.
280

فأما إذا كانت المسافة ما بين مائتين وخمسين وثلاث مائة وخمسين
قوم: يجوز لأن الإصابة مع هذه المسافة معتادة، وقال آخرون: لا يجوز، لأن
الإصابة تقل غالبا.
إذا كان الرشق عشرة، والإصابة ثمانية فما دونها جاز، وإن كانت الإصابة
تسعة ولا يعتبر العاشر لم يصح، وإن كانت الإصابة من العشرة تسعة أو عشرة،
قال قوم: يجوز لأنه يمكن الوفاء به، وقال آخرون: لا يجوز لأنه يتعذر في العادة،
والأول أقوى.
يجوز عقد النضال على أرشاق كثيرة، فإن عقداه على أن يرميا مائة رشق
جاز كما يجوز على رشق واحد، فإذا صح لم يخل من أحد أمرين: إما أن يشترطا
قدرا ما يرميان في كل يوم أو يطلقا:
فإن اشترطا أن يكون الرمي سهما في كل يوم كذا وكذا رشقا، صح ما
شرطا لأن الأغراض تختلف، فإن رميا ما اشترطا عليه فلا كلام، وإن أراد الزيادة
في ذلك أو النقصان فعلى ما مضى، وإن وقع العقد مطلقا اقتضى إطلاقه
التعجيل، والرمي في كل يوم من برد الغداة إلى الليل.
وكان الرمي طول النهار إلا من عذر، وما لا بد منه من الأكل والشرب
وحاجة الإنسان والطهارة والصلاة، وكذلك ما كان عذرا يقطع الرمي كالريح
العاصفة وكذلك المطر لأنه يبل الوتر ويفسد الريش، وكذلك المرض فيؤخر
حتى يزول العارض.
وإذا جاء الليل انقطع الرمي لأن العادة ما جرت به ليلا، إلا أن يشترطا
الرمي ليلا ونهارا، فحينئذ يرميان ليلا، فإن كان القمر منيرا فذاك، و إن لم يكن
القمر منيرا فالضوء من شمع ومشعل ونحو ذلك، فيكون على ما شرطاه.
إذا رمى أحدهما فأصاب، فإن المرمى عليه يرمي بعده، ولا يكلف المبادرة
فيدهش، ولا له أن يطول الإرسال بأن يمسح قدميه أو يقوم سهمه أو يفوق النبل
ويديره طلبا للتطويل حتى تبرد يد صاحبه فينسى الطريقة التي يسلكها في
281

الإصابة، ومتى أطال الرامي الكلام عند الرمي وهو إذا أصاب افتخر وتبجح
وطول الكلام نهي عنه، لأن لا يغتاظ صاحبه فيتشوش رميه، وكذلك الشاهد
ينبغي أن يقل الكلام ولا يزهره المصيب لئلا يكسر قلب صاحبه.
إذا اختلفا في موضع النضال فقال بعضهم: عن يمين الغرض، وقال
آخرون: عن شماله، كان للذي له البدأة أن يقف حيث شاء، فإذا رميا من هذا
المكان ومضيا إلى الهدف الآخر كان البادئ منه المناضل الآخر، ولا يرمي
أحدهما ابتداء من الغرضين لأنه هو التسوية بين المناضلين، فإذا بدأ الآخر من
الآخر وقف أيضا حيث شاء، لأن البدأة له كالأول.
هذا إذا كانا اثنين، فإن زادوا على هذا فكانوا ثلاثة، فرمى أحدهم ابتداء من
غرض ثم صاروا إلى الثاني أقرعنا بين الآخرين، فإذا خرجت القرعة لأحدهما
وقف حيث شاء، فإذا عادوا إلى الأول رمى الثالث ابتداء بلا قرعة.
إذا عقدا نضالا واختلفا، فقال أحدهما: مستقبل الشمس، وقال آخرون:
مستدبرها، قدم قول من طلب الاستدبار لأن ذلك هو العرف، فإن اشترطا أن
يكون الرمي في وجه الشمس كان على ما شرطاه لأنهما على هذا دخلا، كما لو
شرطا الرمي ليلا.
يجوز للجماعة عقد النضال ليتناضلوا حزبين كما يجوز في رجلين أن يرمي
كل واحد رشقا.
فإذا ثبت أنه جائز فإنهم يقتسمون الرجال بالاختيار لا بالقرعة، لأنه لو كان
عقد إجارة أو جعالة فإن القرعة لا يدخلهما، فإذا صاروا حزبين بالقسمة، فإن
أرادوا القرعة ليعين كل فريق بالقرعة لم يجز لمثل ما ذكرناه عند من خالفه، و
يقوى في نفسي أنه لا مانع منه.
ثم ينظر فإن اتفقا على أن البادئ بالاختيار " فلان " جاز، وإن اختلفوا وقالوا:
لا نرضى إلا بالقرعة، جاز الإقراع هاهنا، فمن خرجت قرعته بدأ فاختار رجلا،
فإذا اختار رجلا بدأ الآخر فاختار رجلا، وكذلك رجلا رجلا حتى يقسم
282

الجماعة.
فإذا صاروا حزبين كان تدبير كل حزب إلى أحذق أهل حزبه، فإن جعلوا
تدبير الحزبين معا إلى واحد من أحد الحزبين لم يجز، لأنه متهم في ذلك، لأنه
يقدم الحذاق من حزبه، ويؤخر الحذاق من الحزب الآخر.
إذا تناضلوا حزبين فقال أحدهما: أنا أختار الرجال على أن أسبق، لم يجز
لأن موضوع النضال على أن لا يكون لأحدهما فضل، لأجل إخراجه السبق، ولو
قال: أنا أختار الرجال على أن من اخترته أخرج هو السبق ولا أخرج شيئا، لم
يجز لما مضى.
ولو قال: أختار أنا على أن أخرج أنا السبق، وإن اخترت أنت عليك
إخراج السبق، كل هذا لا يجوز، ولو قال: نقترع فأينا خرجت قرعته كان هو
المسبق، لم يجز، ولا يجوز أن يقولا: نرمي معا على أن من أصاب منا فعلى الآخر
إخراج السبق، لأنه عوض في جعالة أو إجارة، وأيهما كان فلا يجوز بالقرعة ولا
بالإصابة.
إذا وقفوا لقسمة الرجال للمناضلة فحضر غريب فذكر أنه رام فقسموه وهم لا
يعرفونه، لم يخل من أحد أمرين: إما أن يبين راميا أو غير رام.
فإن بان ممن لا يحسن الرمي كان العقد فيه باطلا، لأنه ليس من أهله، فإذا
بطل فيه بطل في الذي كان في مقابلته لأن القسمة رجل ورجل، فإذا بطل فيهما
لم يبطل في الباقين، وقال قوم: يبطل في الكل بناء على تفريق الصفقة، فمن قال:
لا يبطل، قال: أهل كل حزب بالخيار بين الفسخ والإمضاء، لأن الصفقة تفرقت.
وأما إن بان راميا فإن كان كأحدهم فلا كلام، وإن كانت إصابته أكثر،
فقال غير أهل حزبه: ظنناه كأحدنا فقد كثرت إصابته فلا نرضى، فلا خيار لهم،
وكذلك لو قلت إصابته لا خيار لحزبه، لأن الشرط أن يكون من أهل الصنعة ولا
يعتبر الأحذق فيه.
إذا تلبسا بالنضال ففضل لأحدهما إصابة، فقال المفضول: اطرح الفضل
283

بدينار حتى نكون في عدد الإصابة سواء، لم يجز لأن موضوع النضال على أن
ينضل أحدهما صاحبه بحذقه، فإذا طرح ربما فضله لما طرح من عدد الإصابة لا
لحذقه، وإذا لم يصح فعليه رد ما بذله، ويعود إلى عدد إصابته، ويكون الرمي على
إكمال الرشق ليبين الناضل منهما.
إذا تعاقدا نضالا وتعين البادئ منهما بالشرط أو بالقرعة أو بالسبق، فبادر
الآخر فرمى فأصاب أو أخطأ لم يعتد ولا عليه، لأنه رمى قبل وقت الرمي كما
لو رمى قبل عقد النضال.
المضربة ما يلبسه الرامي من جلد في يده اليسرى يستر به ظهر إبهامه خوفا
أن يمر الرشق به فيعقره، والأصابع ما يلبسه في اليمنى لأنه يعقد بإبهامه وسبابته
على فوق السهم والوتر، فإذا كان عليها جلد لم يعقر نفسه حين الرمي.
فإذا ثبت هذا وأراد الصلاة وهذا في يده لم يخل من أحد أمرين: إما أن
يكون الجلد نجسا أو طاهرا، فإذا كان نجسا كجلد الكلب والخنزير قبل الدباغ
أو بعده، أو كان جلد ميتة مما يؤكل لحمه أو مما لا يؤكل لحمه فلا يجوز الصلاة
فيه، سواء كان قبل الدباغ أو بعده، وإن كان الجلد طاهرا وهو جلد ما يؤكل
لحمه مدبوغا أو قبل الدباغ فالصلاة فيه جائزة، وإن كان مذكى من جلد ما لا
يؤكل لحمه مدبوغا أو قبل الدباغ فالصلاة فيه عندنا غير جائزة، وعندهم يجوز
لأنه طاهر، ولكن إذا صلى وهو في يديه يمنع أن يصل بطون أصابعه إلى الأرض
حين السجود، قال قوم: يجزئه، وكذلك عندنا إذا كان الجلد يجوز الصلاة فيه.
وجملته أنه لا بد من كشف الجبهة في الصلاة، ولا بد من ستر الركبتين لئلا
ينكشف شئ من العورة، ويجوز كشف الرجلين وسترها، واليدان مثل ذلك،
وقال قوم: لا بد من كشفهما.
الصلاة في السلاح جائز لقوله تعالى: وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة...
الآية، وروى سلمة بن الأكوع قال: قلت: يا رسول الله أصلي على القوس والقرن؟
فقال: اطرح القرن وصل بالقوس، والقرن الجعبة التي يكون فيها النشاب، فإن
284

كانت كالحقة بالغطاء فهي الجعبة، وان كان رأس السهام مكشوفا فذاك
القرن.
فإذا ثبت أنه جائز فالسلام على ثلاثة أضرب: محرم، ومكروه، ومباح.
فالمحرم ما كان نجسا مثل أن يكون من جلد نجس أو ريش مالا يؤكل لحمه، أو
عليه نجاسة من دم ونحوه، والمكروه الطاهر مما يشغله عن الصلاة كالقرن
والرمح، والمباح ما كان طاهرا لا يشغله كالسيف والخنجر والسكين.
إذا قال لرجل: إزم هذا السهم فإن أصبت فلك عشرة، صح لأنها جعالة،
وإن قال: ارم به فإن أصبت فلك عشرة، وإن أخطأت فعليك عشرة، فهذا
باطل.
إذا اختلفا فقال أحدهما: نصف ذات اليمين أو ذات الشمال، وقال الآخر:
بين يدي الغرض على ذراع أو ذراعين، فإن كانا شرطا ذلك بالشرط أملك،
وإن كان مطلقا حملا على العرف، فإن كان العرف ذات اليمين أو ذات الشمال
أو بين يديه حملا عليه، وقد قدمنا أن في الناس من قال: الخيار إلى الذي له
البداة، وهو الأولى.
إذا سبق أحدهما صاحبه عشرة فقال: إن نضلتني فهي لك، وإلا فلا شئ
لك، فقال الثالث للمسبق: أن شريكك في الغنم والغرم فإن نضلك فعلى نصف
العشرة، وإن نضلته فلي نصف ما سبقته، كان باطلا.
وكذلك لو سبق كل واحد منهما عشرة، وأدخلا بينهما، محللا، فقال رابع
لكل واحد من المسبقين: أنا شريكك في الغرم والغنم، فإن نضلك فالعشرة
علينا، وإن نضلته فالعشرة لنا، لأنه إنما يغنم أو يغرم من تناضل فيتضل أو ينضل،
فأما من كان ناحية فلا شئ له ولا عليه.
إذا سبق أحدهما صاحبه على أن يكون البادى من الوجهين أبدا كان باطلا،
لان النضال موضوع على المساواة، وإن قالا، أنا أبتدي من الوجهين
ثم أنت من الوجهين جاز، لأنه لا تفاضل فيه.
285

إذا عقدا نضالا على أن كل واحد منهم معه ثلاثة رجال، لم يجز حتى يكون
الرجال معلومين بالمشاهدة أو بالصفة، فأما مطلقا فلا يجوز لأنه غرر.
إذا شرطا الإصابة حوابى على أن من خسق منهما كان كحابيين، قال قوم:
يجوز، لان موضوعه أن ينضل أحدهما صاحبه بحذقه، ومن خسق كان أحذق
من الذي حبا فكان أنضل منه وبان حذفه.
إذا تناضلا على أن الإصابة حوابى، على أن ما كان إلى الشن أقرب أسقط
الذي منه أبعد، صخ ذلك لأنه لما جاز أن يناضلا محاطة فيسقطا ما تساويا فيه
من الإصابة كذلك هاهنا.
فإذا ثبت أنه جائز فقد فرع على هذا ست مسائل، والظاهر أن الإصابة إصابة
الهدف:
فإذا رمى أحدهما سهما فوقع في الهدف بقرب الغرض، ثم رمى الآخر
خمسة أسهم فوقعت أبعد من هذا الواحد، ثم رمى الأول سهما فوقع أبعد من
الخمسة سقطت الخمسة بالأول الذي هو أقرب، وسقط الذي بعد الخمسة
بالخمسة، لان الخمسة إلى الغرض أقرب.
الثانية: رمى أحدهما خمسة إلى الهدف بعضها إلى الغرض أقرب من بعض،
ثم رمى الثاني خمسة كلها أبعد من الخمسة الأولى، سقطت الخمسة الثانية بالأولة
لأنها إلى الغرض أقرب، وبقيت الخمسة الأولى لا يسقط ما قرب منها إلى الغرض
ما كان منها إلى الغرض أبعد، لان الأقرب يسقط أبعد من سهام غيره، لا من سهام
نفسه.
الثالثة: أصاب أحدهما الغرض والآخر الهدف، فالذي في الغرض يسقط
الذي في الهدف لأنه لما اسقط الأقرب إلى الغرض ما كان منه أبعد فبأن يسقط
إصابة الغرض ما كان في الهدف أولى.
الرابعة: أصاب أحدهما الغرض ورمى الآخر فأصاب العظم، وهو الذي في
وسط الغرض، من الرماة من قال: يسقط الذي في العظم ما كان أبعد منه، وقال
286

قوم: لا يسقط لان السن كله موضع إصابة وليس فيه أقرب وأبعد.
الخامسة: رمى أحدهما فأصاب الهدف ثم رمى الآخر فأصاب الهدف أيضا
وكان في القرب إلى الغرض سواء، قال قوم: تناصلا، لان أحدهما ليس بأقرب.
السادسة: الساقط ما وقع بين يدي الغرض، والقاسط ما وقع من أحد
الجانبين، والخارج ما جاوز الغرض من فوق، وينبغي أن ينظر إلى الأقرب إلى
الغرض ويسقط، به ما كان أبعد من أي جانب كان من جميع جهاته، لأنه إذا كان
الساقط ما يقرب فالخارج كذلك.
287

تبصرة المتعلمين
في أحكام الدين
للشيخ جمال الدين أبي منصور الحسن بن سديد الدين
يوسف بن زين الدين علي بن محمد مطهر الحلي المشتهر بالعلامة الحلي والعلامة على الاطلاق
647 - 726 ه‍. ق
289

الفصل الرابع: في السبق والرماية:
ولا بد فيهما من إيجاب وقبول، وإنما يصحان في السهام والحراب
والسيوف، والإبل والفيلة والخيل والبغال والحمير خاصة.
ويجوز أن يكون العوض دينا وعينا، وأن يبذله أجنبي أو أحدهما أو من بيت
المال، وجعله للسابق منهما أو للمحلل، وليس المحلل شرطا.
ولا بد في المسابقة من تقدير المسافة والعوض وتعيين الدابة، وتساويهما في
احتمال السبق.
ويفتقر الرمي إلى تقدير الرشق وعدد الإصابة وصفتها وقدر المسافة
والغرض والعوض وتماثل جنس الآلة، ولا يشترط تعيين السهم ولا القوس.
ولو قالا: من سبق مثا ومن المحلل فله العوضان، فمن سبق من الثلاثة فهما
له، فإن سبقا فلكل ماله، وإن سبق أحدهما والمحلل فللسابق ماله ونصف الآخر
والباقي للمحلل، ولو فسد العقد فلا أجرة.
ولو كان العوض مستحقا فعلى الباذل مثله أو قيمته.
ويحصل السبق بالتقدم بالعنق والكتد ولا يشترط ذكر المحاطة
والمبادرة.
291

إرشاد الأذهان للشيخ جمال الدين أبى منصور الحسن بن سديد الدين يوسف بن زين الدين
علي بن محمد مطهر الحلي المشتهر بالعلامة الحلي والعلامة على الاطلاق
647 - 726 ه‍. ق
293

المقصد الرابع: في السبق والرماية:
وإنما يصحان في السهم والنشاب والحراب والسيف والإبل والفيلة
والفرس والحمار والبغل، دون الطيور القدم والسفن والمصارعة وشبهها، فإن
اكتفينا بالايجاب فهو جائز، وإلا فلازم.
وتفتقر المسابقة إلى تقدير المسافة وتقدير العوض دينا كان أو عينا من
أحدهما أو أجنبي، وتعيين ما يتسابق عليه، واحتمال السبق، وجعل العوض لهما
أو للمحلل أو لأجنبي، على إشكال، والرمي إلى عدده، وعدد الإصابة، وصفتها،
وقدر المسافة، والعوض، وتماثل جنس الآلة. ولا يشترط تعيين القوس ولا السهم
ولا المبادرة والمحاطة ولا تساوي الموقف.
وكما يصح الرهن على الإصابة يصح على التباعد، وأن يبذل العوض
أجنبي، أو من بيت المال، وجعله للسابق أو للمحلل، ولو جعل للسابق من خمسة
فتساووا فلا شئ، ولو سبق واحد أو اثنان فلهما أو له، وجعل السبق للسابق وإن
تعدد، وجعل المصلى لمن صلى وإن تكثر، ولا شئ للأخير.
ولو أخرجا وقالا: من سبق فهما له، فإن سبق أحدهما أو المحلل فهما له،
وإن سبقا فلكل ماله، وإن سبق أحدهما والمحلل فللسابق مال نفسه ونصف الآخر وللمحلل الباقي.
295

ولو شرطا المبادرة والرشق عشرين والإصابة خمسة فأصابا خمسة من
عشرة لم يجب الاكمال، ولو أصاب أحدهما خمسة منها والآخر أربعة نضل
صاحب الخسمة.
ولو شرطا المحاطة فأصابا خمسة منها تحاطا وأكملا، ولو أصاب أحدهما
تسعة منها والآخر خمسة منها تحاطا وأكملا، ولو بادر أحدهما بعد المحاطة إلى
إكمال العدد مع انتهاء الرشق فقد نضل صاحبه، وإن كان قبله وطلب المسبوق
الاكمال أجيب مع الفائدة كرجاء الرجحان أو المساواة أو القصور عن العدد،
وإن لم تكن فائدة لم يجب كما لو رميا خمسة عشر فأصابها أحدهما والآخر
خمسة.
ويملك العوض بتمام النضال، ولو فسد العقد فلا عوض، ولو خرج
مستحقا فعلى باذله المثل أو القيمة.
296

تلخيص المرام
في معرفة الاحكام
للشيخ جمال الدين أبى منصور الحسن بن سديد الدين يوسف بن زين الدين
علي بن محمد مطهر الحلي المشتهر بالعلامة الحلي والعلامة على الاطلاق
647 - 726 ه‍. ق
297

كتاب السبق
الخامس: إنما تجوز المسابقة على النضل الشامل للسهم والنشاب والحراب والسيف،
وعلى الخف الشامل للإبل والفيلة، وعلى الحافر الشامل للفرس والبغل
والحمار.
وهى عقد لازم كالإجارة على رأي، ولا بد من العوض عينا أو دينا، سواء
كان من أحدهما أو مغاير، ويجوز من بيت المال، ويملكه السابق مع تمام
السبق، ولا يشترط المحلل، ويجوز جعل العوض له أو للسابق.
وشرط المسابقة تقدير المسافة والعوض، وتعيين ما يسابق عليه وكونه
محتملا للسبق وعدمه، وجعل العوض لأحدهما أو للمحلل، واتحاد الغاية لا
الموقف، ولا يشترطان في الرمي.
وشرط المراماة تعيين عدد الرمي، وعدد الإصابة وصفتها، وقد المسافة،
وما يقصد إصابته، والعوض، وتماثل جنس القوس لا شخصها، ولو شرط تعينه لم
يتعين.
ويجوز اشتراط المبادرة، وهي: أن يبادر أحدهما إلى الإصابة مع التساوي
في عدد الرمي.
والمحاطة وهي إسقاط ما تساويا فيه من الإصابة.
299

ولو كان العوض من أجنبي للسابق من خمسة فتساووا فلا استحقاق، ولو
سبق أحدهم أو اثنان فلهما، وهكذا إلى الأربعة، ولو قال: من صلى فله اثنان ومن
سبق فله ثلاثة، فعوض السابق لم سبق اتحد أو تكثر، وكذا عوض المصلي لمن
صلى، ولو تأخر البعض فلا شئ له.
ولو كان العوض من المتسابقين وأدخلا المحلل وقالا: من سبق فله
العوضان، فإن سبق المحلل فله، وكذا لو سبق أحدهما، ولو سبق المحلل فكلك
ماله، ولو سبق أحدهما والمحلل فللسابق ماله وللمحلل الآخر.
ولو شرط المبادرة وعدد الرمي عشرون والإصابة خمسة، فأصاب كل
واحد خمسة من عشرة فقد تساويا ولا يجب الاكمال لعدم فائدة المبادرة، ولو
أصاب أحدهما خمسة والآخر أربعة فقد سبق الأول ولا يجب الاكمال.
ولو شرطا المحاطة فأصاب كل واحد خمسة من عشرة تحاطا وأكملا، ولو
أصاب أحدهما تسعة منها والآخر خمسة تحاطا في الخمسة وأكملا، ولو بادر
أحدهما مع المحاطة إلى إكمال العدد مع انتهائه فقد سبق، وإن كان قبله وسأل
صاحب الأقل الاكمال أجيب مع الفائدة بأن يرجح عليه أو يساويه، أو يمنعه من
الانفراد بالإصابة بأن يقتصر بعد المحاطة عن العدد، ولايجاب مع عدمها كما لو
أصاب أحدهما خمسة عشر منها والآخر خمسة تحاطا، فإذا أكملا فأكثر ما يحصل
لصاحب الخمسة الباقي دون الآخر، فيفصل الأكثر الكمال، ولو فسد العقد فلا
أجرة ولا عوض، ولو كان العوض مستحقا فعلى الباذل القيمة، وقيل: لا تصح فيه
المعاوضة.
والاعتبار في المسابقة بالعنق أو الكتد، وقيل: بالاذن، ولو كان عنق
أحدهما أطول وسبق بما يزيد على الفاضل سبق، وإلا فلا.
ولو أخرج أحدهما عشرة وقال: إن نضلتني فهي لك وإلا فلا شئ عليك،
فقال ثالث للمخرج: أنا شريكك في الغنم والغرم إن نضلتك فعلى النصف وإن
نضلت فلي نصف ما أخرجت، لم يصح، وكذا لو أخرجا وأدخلا المحلل، وقال
300

الرابع لكل منهما: أنا شريكك في الغنم والغرم.
ولو كان العدد عشرين والإصابة خمسة، فرمى كل منهما عشرة وأصاب
اثنين فقال أحدهما: ارم سهمك فإن أصبت نصلتني لم يجز، ولو قال له: ارم
عشرين فإن كان صوابك أكثر فلك دينار، صح جعالة، ولو قال: ناضل
نفسك فإن كان الصواب أكثرا فلك دينار، لم يصح، ولو شرط أن يسقط عنه
واحدا خطأ لا له ولا عليه، بطل النضال، ولو شرط الإصابة مطلقا أجزأ ما أصاب
بالنضل مطلقا.
والخاسق هو الذي يثقب الغرض ويثبت فيه، فلو نقبه نقبا يصلح للخسق
وسقط السهم لم يكن خاسقا، ولو شرط الخاسق فمرق بأن ثقب ونفذ من وراء
الغرض فهو خاسق، ولو ادعى ما اشترطاه من الصفة وأنكر الآخر، فالقول قول
المنكر مع يمينه.
301