الكتاب: الينابيع الفقهية
المؤلف: علي أصغر مرواريد
الجزء: ٣٣
الوفاة: معاصر
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤١٣ - ١٩٩٣ م
المطبعة:
الناشر: مؤسسة فقه الشيعة - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات: أشرف على جمع أصولها الخطية وترتيبها حسب التسلسل الزمني وعلى تحقيقها وإخراجها وعمل قواميسها علي أصغر مرواريد

الينابيع الفقهية 2
القضاء والشهادات
تعريف الكتاب 1

حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
الطبعة الأولى
1413 ه‍ - 1993 م
مؤسسة فقه الشيعة
بيروت - لبنان
حارة حريك - شارع دكاش - بناية كليوباترا
ص. ب 209 / 25 - تلفون 836763 - فاكس 04625848 - 357
تعريف الكتاب 2

سلسلة الينابيع الفقهية 2
القضاء والشهادات
أشرف على جمع أصولها الخطية وترتيبها حسب التسلسل
الزمني وعلى تحقيقها وإخراجها وعمل قواميسها
علي أصغر مرواريد
تعريف الكتاب 3

الفهرست الاجمالي للمتون
الإشراف
الخلاف نزهة الناظر
إرشاد الأذهان
الرسالة الفخرية
البيان
النفلية
الموجز الحاوي
الإقتصاد
المبسوط
تبصرة المتعلمين
تلخيص المرام
الدروس الشرعية
الألفية
المحرر
مسائل ابن طي
تعريف الكتاب 4

التعريف
سلسلة الينابيع الفقهية
موسوعة فقهية متكاملة جمعت بين دفتيها أهم المتون الفقهية
الأصلية بتحقيق رائع وتنقيح أكاديمي، ومن أحدث المناهج
العلمية لفن التحقيق.
تعني الموسوعة بالتقسيم الموضوعي للأبواب الفقه الإسلامي -
كافة أبوابه - وبذلك تهئ للباحث والمحقق والأستاذ أسهل
الطرق لاستنباط ما يحتاجه، واستخلاص ما يبتغيه، بعيدا
عن عناء الاستقصاء والبحث.
تميزت هذه الدورة الكبرى باعتمادها الأصول الخطية
الأصلية لكل المتون الفقهية بمثابة الأصول الأساسية لتحقيق
النصوص التي بقيت لفترة ليست بالقصيرة أسيرة الطبعات السقيمة.
بالإضافة إلى احتوائها النصوص التي تطبع لأول مرة، موزعة
حسب الأبواب الفقهية.
تفيد المتخصصين بدراسة الفقه المقارن واختلاف الفتاوى
على مدى عشرة قرون.
مقدمة المشرف 5

إهداء وشكر...
إلى...
كل انسان يؤمن بأن الشريعة السمحاء أساس جميع القوانين في العالم...
والى...
الذين يهتمون بشؤون المجمعات البشرية وشيعون إلى اصطلاحها عن طريق
القسم الإسلامية.
والى...
كل الذين يعشقون الفقه الإسلامي باعتبار أفضل السبل وأنجح القوانين
المستمدة من أصول القرآن للوصل إلى الكمال الإنسان من الجوانب
المادية والروحية...
أقدم هذا الجهد المتواضع...
ولا يسعني - في غمرة سعادتي وسروري وأنا أرى سلسلة الينابيع
الفقهية هذه قد عانقت النور - إلا أن أتقدم بجزيل شكري وعظيم
امتناني لكل الذين ساهموا من قريب أو بعيد بإيجاز هذا العمل الجليل
من العلماء والفضلاء الذين قدموا لنا مساعدتهم ومشورتهم الخالصة،
ومن الأخوة العاملين والمحققين معنا... داعيا الله لهم جميعا التوفيق
والسداد وأن يجزل لهم الثواب وحسن العاقبة...
إنه سميع مجيب. علي أصغر مرواريد
مقدمة المشرف 6

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المشرف 8

الخلاف
تأليف شيخ الطائفة
أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (قدس سره)
385 - 460 ه‍. ق
1

كتاب آداب القضاء
مسألة 1: لا يجوز أن يتولى القضاء إلا من كان عارفا بجميع ما ولى، ولا
يجوز أن يشذ عنه شئ من ذلك، ولا يجوز أن يقلد غيره ثم يقضى به.
وقال الشافعي: ينبغي أن يكون من أهل الاجتهاد ولا يكون عاميا، ولا يجب
أن يكون عالما بجميع ما وليه، وقال في القديم مثل ما قلناه.
وقال أبو حنيفة: يجوز أن يكون جاهلا بجميع ما وليه إذا كان ثقة، ويستفتي
الفقهاء ويحكم به، ووافقنا في العامي أنه لا يجوز أن يفتي.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم وأيضا تولية الولاية لمن لا يحسنها قبيحة في
العقول بأدلة ليس هذا موضع ذكرها بيناها في غير موضع، وأيضا ما اعتبرناه
مجمع على جواز توليته، وليس على ما قالوه دليل.
وأيضا قوله تعالى: وإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول، وقال:
وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله، ثبت أن الرجوع إلى الحجة لا غير،
وأيضا قوله سبحانه: وأن احكم بينهم بما أنزل الله، ومن حكم بالتقليد فما حكم
بما أنزل الله.
وأيضا روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: القضاة ثلاثة: واحد في
الجنة واثنان في النار، والذي في الجنة رجل عرف الحق فاجتهد فحكم فعدل،
ورجل عرف فحكم فجار فذاك في النار ورجل قضى بين الناس على جهل
3

فذاك في النار، ومن قضى بالفتيا فقد قضى على جهل.
وروى الشافعي في حديث رفعه إلى ابن عمر قال في رجل قضى بغير علم:
فذاك في النار، ومن قضى بالفتيا فقد قضى بغير علم لأن الفتيا لا تفضي إلى علم.
وروي أن النبي صلى الله عليه وآله لما بعث معاذ إلى اليمن قال: بم تقضي
بينهم يا معاذ؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله صلى
الله عليه وآله، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي، وفي بعضها: أستأذن
جلسائي، فقال النبي صلى الله عليه وآله: الحمد لله الذي وفق رسول الله
صلى الله عليه وآله ولم يقل: أقلد العلماء.
ولأنه إجماع الصحابة فإن الكل اجتهدوا وتركوا التقليد في مسألة الحرام
والمشتركة وميراث الجد والعول ولم يرجع بعضهم إلى بعض في تقليد، فثبت
بذلك أنهم أجمعوا على ترك التقليد.
وعند أبي حنيفة يقلد العالم ويقضى بقوله.
وروي عنه عليه السلام أنه قال: من قضى بين الناس على جهل فهو في
النار.
مسألة 2: إذا كان هناك جماعة يعلمون القضاء على حد واحد فعين الإمام
واحدا منهم فولاه لم يكن له الامتناع من قبوله، وللشافعي فيه قولان: أحدهما مثل
ما قلناه والآخر يجوز له الامتناع لأنه من فروض الكفايات.
دليلنا: أن الإمام معصوم عندنا فإذا أمر بأمر لا يجوز خلاف ذلك لأن
ذلك معصية وإثم يستحق فاعلها الإثم والعقاب.
مسألة 3: لا يكره الجلوس في المساجد للقضاء بين الناس، وبه قال
الشعبي ومالك وأحمد وإسحاق.
وقال عمر بن عبد العزيز: أنه يكره ذلك أن يقصده، وروى سعيد بن
4

المسيب أن عمر بن الخطاب كتب إلى القضاة أن لا تقضوا في المساجد، وقال
الشافعي: ذلك مكروه، وعن أبي حنيفة روايتان: إحديهما مثل ما قلناه والأخرى
مثل قول الشافعي.
دليلنا: أن الأصل جواز ذلك والمنع يحتاج إلى دليل، ولأن النبي صلى
الله عليه وآله لا خلاف أنه كان يقضي في المسجد فلو كان مكروها ما فعله،
وكذلك كان أمير المؤمنين عليه السلام يقضي بالكوفة في الجامع، ودكة
القضاء معروفة إلى يومنا هذا وهو إجماع الصحابة، وروي أن عمر بن الخطاب
وعثمان كانا يقضيان في المسجد بين الناس ولا مخالف لهم.
مسألة 4: يكره إقامة الحدود في المساجد، وبه قال جميع الفقهاء وحكي
عن أبي حنيفة جوازه، وقال: يفرش نطع فإن كان منه حدث كان عليه.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم وأيضا فإن في إقامة حدود القتل على وجه
القصاص ولا ينفك ذلك من نجاسة والمسجد ينزه عن ذلك، والنطع غير
مانع من النجاسة لأن النطع إذا كان في المسجد فالنجاسة تحصل فيه وذلك لا
يجوز.
وروي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله قال: لا تقام الحدود في
المساجد، وروى حكيم بن حزام أن النبي صلى الله عليه وآله نهى أن تقام الحدود
في المساجد وأن يستقاد فيها.
مسألة 5: من شرط القاضي أن يكون عدلا ولا يجوز أن يكون فاسقا، وبه
قال جميع الفقهاء وقال الأصم: يجوز أن يكون فاسقا.
دليلنا: إجماع الفرقة بل إجماع الأمة لأن خلاف الأصم قد انقرض،
وأيضا ما جوزناه مجمع على جواز توليته وما ذكره ليس عليه دليل.
5

في أن النساء مؤخرات عن الرجال في كل أمر وأنه لا يفلح قوم وليتهم
امرأة
مسألة 6: لا يجوز أن تكون المرأة قاضية في شئ من الأحكام، وبه قال
الشافعي.
وقال أبو حنيفة: يجوز أن تكون قاضية فيما يجوز أن تكون شاهدة فيه وهو
جميع الأحكام إلا الحدود والقصاص، وقال ابن جرير: يجوز أن تكون قاضية في
كل ما يجوز أن يكون الرجل قاضيا فيه لأنها تعد من أهل الاجتهاد.
دليلنا: إن جواز ذلك يحتاج إلى دليل لأن القضاء حكم شرعي فمن
يصلح له يحتاج إلى دليل شرعي.
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: لا يفلح قوم وليتهم امرأة، وقال
عليه السلام: أخروهن من حيث أخرهن الله، فمن أجاز لها أن تلي القضاء فقد
قدمها وأخر الرجل عنها، وقال: من فاته شئ في صلاته فليسبح فإن التسبيح
للرجال، والتصفيق للنساء، فالنبي صلى الله عليه وآله منعها من النطق لئلا يسمع
كلامها مخافة الافتتان بها فإن تمنع القضاء الذي يشتمل على الكلام وغيره أولى.
مسألة 7: إذا قضى الحاكم بحكم فأخطأ فيه ثم بان أنه أخطأ أو بان أن
حاكما كان قبله قد أخطأ فيما حكم به وجب نقضه ولا يجوز الإقرار عليه بحال.
وقال الشافعي: إن أخطأ فيما لا يسوع فيه الاجتهاد بأن خالف نص
الكتاب أو سنة أو إجماعا أو دليلا لا يحتمل إلا معنى واحدا - وهو القياس الجلي
على قول بعضهم، والقياس الجلي، والواضح على قول الباقين منهم - فإنه ينقض
حكمه، وإن أخطأ فيما يسوع فيه الاجتهاد لم ينقض حكمه.
وقال مالك وأبو حنيفة: إن خالف كتاب الله أو سنة لم ينقض حكمه، وإن
خالف الإجماع نقض حكمه، وناقض كل واحد أصله:
فقال مالك: إن حكم بالشفعة للجار نقض حكمه، وهذه مسألة خلاف،
6

وقال محمد بن الحسن: إن حكم بالشاهد واليمين نقض حكمه، وقال أبو حنيفة:
إن حكم بالقرعة بين العبيد أو بجواز بيع ما تركت التسمية على ذبحه عامدا
نقض حكمه لأنه حكم بجواز بيع الميتة.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضا فقد ثبت عندنا أن الحق في واحد،
وأن القول بالقياس والاجتهاد باطل، فإذا ثبت ذلك فكل من قال بهذا، قال بما
قلناه، وإنما خالف في ذلك من جوز الاجتهاد.
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: من أدخل في ديننا ما ليس منه
فهو رد، وقال عليه السلام: ردوا الجهالات إلى السنن، وهذه جهالة.
وروي عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري كتابا يقول فيه: ولا
يمنعك قضاء قضيت به اليوم ثم راجعت رأيك فهديت لرشدك أن تراجع فإن
الحق قديم، ولا يبطله شئ وإن الرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل.
مسألة 8: إذا عزل حاكم فادعى عليه إنسان أنه حكم على شهادة فاسقين
وأخذ منه مالا ودفعه إلى من سئل عن ذلك، فإن اعترف به لزمه الضمان بلا
خلاف، وإن أنكر كان على المدعي البينة، وإن لم يكن معه بينة كان القول قوله
مع يمينه، ولم يكن عليه بينة على صفة المشهود، وبه قال الشافعي، وقال
أبو حنيفة: عليه إقامة البينة على ذلك لأنه قد اعترف بالحكم، ونقل المال عنه إلى
غيره وهو يدعي ما يزيل ضمانه عنه فلا يقبل.
دليلنا: أن الظاهر من الحاكم أنه أمين كالمودع فلا يطالب بالبينة، ويكون
القول قوله مع يمينه.
مسألة 9: الترجمة لا تثبت إلا بشهادة شاهدين لأنها شهادة، وبه قال
الشافعي، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يفتقر إلى شهادة عدد بل يقبل فيه شهادة
واحد لأنه خبر بدليل أنه لا يفتقر إلى لفظ الشهادة.
7

دليلنا: إن ما اعتبرناه مجمع على قبوله، وما ادعوه ليس عليه دليل، وقد
اعتبر الشافعي لفظ الشهادة في ذلك.
مسألة 10: إذا شهد عند الحاكم شاهدان يعرف إسلامهما، ولا يعرف فيهما
جرح حكم بشهادتهما، ولا يقف على البحث إلا أن يجرح المحكوم عليه فيهما
بأن يقول: هما فاسقان، فحينئذ يجب عليه البحث.
وقال أبو حنيفة: إن كانت شهادتهما في الأموال والنكاح والطلاق والنسب
كما قلناه، وإن كانت في قصاص أو حد لا يحكم حتى يبحث عن عدالتهما.
وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي: لا يجوز له أن يحكم حتى يبحث عنهما
فإذا عرفهما عدلين حكم وإلا توقف في جميع الأشياء ولم يخصوا به شيئا دون
شئ.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضا الأصل في الإسلام العدالة والفسق
طارئ عليه يحتاج إلى دليل، وأيضا نحن نعلم أنه ما كان البحث في أيام النبي
صلى الله عليه وآله ولا أيام الصحابة، ولا أيام التابعين، وإنما هو شئ أحدثه
شريك بن عبد الله القاضي فلو كان شرطا ما أجمع أهل الأمصار على تركه.
مسألة الجرح والتعديل
مسألة 11: الجرح والتعديل لا يقبل إلا عن اثنين يشهدان بذلك فإذا شهدا
بذلك عمل عليه، وبه قال مالك ومحمد والشافعي، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف:
يجوز أن يقتصر على واحد لأنه إخبار.
وذكر الداركي عن أبي إسحاق أنه قال: العدد معتبر في من يزكي الشاهدين،
ولا يعتبر في أصحاب مسائله فإذا عاد إليه صاحب مسألة فإن جرح توقف في
الشهادة، وإن زكاة بعث الحاكم إلى المسؤول عنه فإذا زكاه اثنان عمل على
ذلك.
8

دليلنا: أن الجرح والتعديل حكم من الأحكام، ولا تثبت الأحكام إلا
بشهادة شاهدين، ولأن ما قلناه مجمع على وقوع الجرح به، وما ذكروه ليس
عليه دليل.
مسألة 12: إذا شهد اثنان بالجرح وشهد آخران بالتعديل وجب على
الحاكم أن يتوقف، وقال الشافعي: يعمل على الجرح دون التعديل، وقال
أبو حنيفة: يقبل الأمران فيقاس الجرح على التزكية.
دليلنا: أنه إذا تقابل الشهادتان ولا ترجيح لأحد الشاهدين وجب التوقف.
مسألة 13: لا يقبل الجرح إلا مفسرا وتقبل التزكية من غير تفسير، وبه
قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: يقبل الأمران مطلقا فقاس الجرح على التزكية.
دليلنا: إن الناس يختلفون فيما هو جرح وما ليس بجرح فيجب أن يفسر
فإنه ربما اعتقد فيما ليس بجرح أنه جرح فإذا فسره عمل القاضي بما يقتضي
الشرع فيه من تعديل أو جرح.
مسألة 14: شارب النبيذ يفسق عندنا، وبه قال مالك، وقال الشافعي: لا
يفسق.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضا النبيذ والخمر عندنا سواء، وقد
دللنا عليه فيما مضى، ومن أحكام الخمر فسق من شربه بلا خلاف فكذلك حكم
النبيذ.
مسألة 15: إذا حضر الغرماء في بلد عند الحاكم فشهد عنده اثنان، فإن
عرفا بعدالة حكم وإن عرفا بالفسق وقف، وإن لم يعرف عدالة ولا فسقا بحث
عنهما وسواء كان لهما السيماء الحسنة، والمنظر الأصل والظاهر الصدق، وبه
9

قال الشافعي، وقال مالك: إن كان المنظر الحسن توسم فيهما العدالة وحكم
بشهادتهما.
دليلنا: قوله تعالى: فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من
الشهداء، وهذا ما رضي بهما.
مسألة 16: إذا حضر خصمان عند القاضي فادعى أحدهما على الآخر مالا
فأقر له بذلك فسأل المقر له المذكور القاضي أن يكتب له بذلك محضرا،
والقاضي لا يعرفهما، ذكر بعض أصحابنا أنه لا يجوز له أن يكتب لأنهما يجوز أن
يكونا استعارا نسبا باطلا، وتواطئا على ذلك، وبه قال ابن جرير الطبري.
وقال جميع الفقهاء: أنه يكتب ويحليهما بحلاهما التامة ويضبط ذلك.
والذي عندي أنه لا يمتنع ما قاله الفقهاء فإن الضبط بالحلية يمنع من
استعارة النسب، فإنه لا يكاد يتفق ذلك، والذي قاله بعض أصحابنا يحمل على
أنه لا يجوز أن يكتب، ويقتصر على ذكر نسبهما فإن ذلك يمكن استعارته، وليس
في ذلك نص مستند عن أصحابنا نرجع إليه.
مسألة 17: إذا ارتفع إليه خصمان فذكر المدعي أن حجته في ديوان
الحكم، فأخرجها الحاكم من ديوان الحكم مختومة بختمه مكتوبة بخطه، فإن
ذكر أنه حكم بذلك حكم له، وإن لم يذكر ذلك لم يحكم له به، وبه قال
أبو حنيفة ومحمد والشافعي.
وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف: يعمل عليه ويحكم به، وإن لم يذكره لأنه إذا
كان بخطه مختوما بختمه فلا يكون إلا حكمه.
دليلنا: قوله تعالى: ولا تقف ما ليس لك به علم، فإذا لم يذكره لم يعلم،
ولأن الحكم أعلى من الشهادة بدلالة أن الحاكم يلزم والشاهد يشهد، ثم ثبت أن
الشاهد لو وجد شهادته تحت ختمه مكتوبة بخطه لم يشهد بها ما لم يذكر، فبأن لا
10

يحكم بها إذا لم يذكر أولى وأحرى، ولأن الخط يشبه الخط، ومعناه أنه قد يكتب
مثل خطه، ويحتال عليه، ويتركه في ديوانه فلا يجوز قبول ذلك إلا مع العلم.
مسألة 18: إذا ادعى مدع حقا على غير فأنكره المدعى عليه فقال المدعي
للحاكم: أنت حكمت به لي عليه، فإن ذكر الحاكم ذلك أمضاه بلا خلاف، وإن
لم يذكره فقامت البينة عنده أنه قد حكم به لم يقبل الشهادة على نفسه، وبه قال
أبو يوسف والشافعي، وقال ابن أبي ليلى وأبو حنيفة ومحمد: يسمع الشهادة على
فعل نفسه ويمضيه.
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة للمدعى عليه، وشغلها يحتاج إلى دليل.
واستدل المخالف بما روي أن النبي صلى الله عليه وآله صلى الظهر فسلم
في اثنتين فقام ذو اليدين فقال: أقصرت الصلاة نسيت يا رسول الله، فقال رسول
الله صلى الله عليه وآله: أحقا يقول ذو اليدين؟ قالوا: نعم، فقام رسول الله فصلى
ركعتين وسجد للسهو، فإذا جاز أن يقبل قول غيره في فعل نفسه في الصلاة
فكذلك في مسألتنا، وهذا عندنا خبر باطل ولو كان صحيحا لم يجز أن نقيس
عليه غيره لأنا لا نقول بالقياس.
مسألة 19: إذا شهد شاهدان على الحاكم بأنه حكم بما ادعاه المدعي
فأنفذه، وعلم الحاكم أنهما شهدا بالزور نقض ذلك الحكم وأبطله، فإن مات بعد
ذلك أو عزل فشهدا بإنفاذه عند حاكم آخر لم يكن له أن يمضيه عند الشافعي.
وقال مالك: بل يقبله ويعمل عليه، وهو الذي يقوى في نفسي، لأن الشرع
قد قرر شهادة الشاهدين إذا كان ظاهرهما العدالة، وعلى الحاكم بأنهما شهدا
بالزور ولا يوجب على الحاكم الآخر رد شهادتهما فيجب عليه أن يقبلهما ويمضى
شهادتهما.
وقاس الشافعي ذلك على شهادة الأصل والفرع فإنه متى أنكر الأصل
11

شهادة الفرع لا تسقط شهادة الفرع، والحاكم كالأصل وهؤلاء كالفرع ويجب
أن يسقطا.
وعندنا أن شهادة الفرع لا تسقط بل تقبل شهادة أعدلهما وفي أصحابنا من
قال: بل تقبل شهادة الفرع دون الأصل لأن الأصل منكر.
مسألة 20: لا يجوز الحكم بكتاب قاض إلى قاض، وخالف جميع الفقهاء
في ذلك وأجازوه إذا ثبت أنه كتابه.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وقوله تعالى: ولا تقف ما ليس لك به
علم، والعمل بذلك اقتفاء بغير علم.
مسألة 21: قد بينا أنه لا يحكم بكتاب قاض إلى قاض سواء كان على
صحته بينة أو كان مختوما فإنه لا يجوز العمل به.
وقال أهل العراق والشافعي: إن قامت البينة على ثبوته عمل به، ولا يعمل به
إذا لم تقم البينة وإن كان مختوما.
وقال قضاة البصرة الحسن وسوار وعبد الله بن الحسن العنبري: أنه إذا
وصل مختوما حكم به وأمضاه، وهو إحدى الروايتين عن مالك.
دليلنا: ما قدمناه في المسألة الأولى سواء لأن هذه فرع عليها.
مسألة 22: من أجاز كتاب قاض إلى قاض إذا قامت به البينة ففي كيفية
تحمل الشهادة اختلفوا.
فقال أبو حنيفة والشافعي: لا يصح إلا بعد أن يقرأ الحاكم الكتاب
على الشهود ويشهدهم على نفسه بما فيه، ولا يصح أن يدرجه ثم يقول لهما: اشهدا
علي بما فيه، ولا يصح هذا التحمل ولا يعمل به.
وقال أبو يوسف: إذا ختمه بختمه وعنونه جاز أن يتحملا الشهادة عليه مدرجا
12

يشهدهما أنه كتابه إلى فلان فإذا وصل الكتاب إليه شهدا عنده بأنه كتاب فلان
إليه فيقرأه ويعمل بما فيه.
وهذا يسقط عنا لأنا لا نجيز كتاب قاض إلى قاض على وجه.
مسألة 23: قال الشافعي: إذا كتب قاض إلى قاض كتابا وأشهد على نفسه
بذلك فتغيرت حال الكاتب لم يخل من أحد أمرين: إما أن يتغير حاله بموت أو
عزل أو بفسق فإن كان تغير حاله بموت أو بعزل لم يقدح ذلك في كتابه سواء
تغير ذلك قبل خروج الكتاب من يده أو بعده، وقال أبو حنيفة: إذا تغيرت حاله
سقط حكم الكتابة إلى المكتوب إليه، وقال أبو يوسف: إن تغيرت حاله قبل
خروجه من يده سقط حكمه، وإن كان بعد خروجه من يده لم يسقط حكم
كتابه.
وهذا الفرع يسقط عنا لأنا قد بينا أنه لا يجوز العمل بكتاب قاض إلى قاض
فما يبني عليه لا يصح.
مسألة 24: إذا تغيرت حال المكتوب إليه بموت أو فسق أو بعزل ثم قام
غيره مقامه فوصل الكتاب إلى من قد قام مقامه قال الشافعي: يقبله ويعمل به،
وقال الحسن البصري مثل ذلك، وقال أبو حنيفة: لا يعمل به غير الذي كتب
إليه.
وهذا أيضا يسقط عنا لأنه فرع على ما بينا فساده فلا وجه لإعادته.
مسألة 25: الحاكم إذا كتب وأشهد على نفسه بما كتب فهو أصل عند
الشافعي، والذي يحمل الشهادة على كتابه فرع له فهو كالأصل - وإن لم يكن
أصلا على الحقيقة.
وقال أبو حنيفة: الحاكم كالفرع، والأصل من يشهد عنده، وهذا غلط لأنه
13

لو كان الحاكم فرعا لما ثبت الحق بقوله وحده لأن شاهد الفرع إذا كان واحدا
لا يثبت بشهادته شهادة شاهد الأصل فيبطل أن يكون الكاتب شاهد الفرع، وهذا
يسقط عنا لما قدمناه من الأصل في هذا الكتاب.
مسألة 26: أجرة القاسم على قدر الأنصباء دون الرؤوس، وبه قال
أبو يوسف ومحمد قالاه استحسانا، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: هي على قدر
الرؤوس.
دليلنا: إنا لو راعيناها على قدر الرؤوس ربما أقضي إلى ذهاب المال لأن
الورثة يمكن أن يكون بينهما لأحدهما عشر العشر سهم من مائة سهم والباقي
للآخر ويحتاج إلى أجرة عشرة دنانير على قسمتها فيلزم من له الأقل نصف
العشرة، وربما لا يساوى سهمه دينارا فيذهب جميع الملك، وهذا ضرر والقسمة
وضعت لإزالة الضرر فلا يزال بضرر أعظم منه.
مسألة 27: كل قسمة كان فيها ضرر على الكل مثل الدور والعقارات
والدكاكين الضيقة لم يجبر الممتنع على القسمة والضرر لأن هذا لا يمكنه
الانتفاع بما يفرد له، وبه قال أبو حنيفة والشافعي.
وقال أبو حامد: الضرر يكون بذلك، وبنقصان القيمة فإذا قسم نقص من
قيمته لم يجبر على القسمة، وقال مالك: يجبر على ذلك.
دليلنا: قوله عليه السلام: لا ضرر ولا إضرار، وذلك عام، وهذا إضرار لأنه
لا يمكنه الانتفاع، وبهذا الخبر استدل من راعى نقصان القيمة، ولي فيه نظر.
مسألة 28: إن كانت القيمة يستضر بها بعضهم دون بعض مثل أن كانت
الدار لاثنين لواحد العشر، وللآخر الباقي فاستضر بها صاحب القليل دون الكثير
لم يخل الطالب من أحد أمرين: إما أن يكون المنتفع به أو المستضر، فإن كان
14

المنتفع به لم يجبر الممتنع على القسمة لأن في ذلك ضررا عليه، وإن كان
الطالب مستضرا أجبر الممتنع لأنه لا ضرر عليه، وقال الشافعي: إن كان الطالب
هو المنتفع به أجبرنا الممتنع عليها، وبه قال أهل العراق.
وقال ابن أبي ليلى: يباع لهما، ويعطي كل واحد منهما بحصة نصيبه من
الثمن، وقال أبو ثور: لا يقسم كالجوهرة، وهذا مثل ما قلناه.
وقال الشافعي: وإن كان المطالب يستضر بها فهل يجبر الممتنع أم لا؟ على
وجهين: أحدهما يجبر، والآخر لا يجبر - وهو المذهب - لأنها قسمة يستضر بها
طالبها فأشبه إذا استضر بها الاثنان.
دليلنا: قوله عليه السلام: لا ضرر ولا إضرار، وفي ذلك ضررا ما على
الطالب أو الممتنع فلا يجوز ذلك لعموم الخبر، وإنما أجزنا إذا كان الممتنع غير
مستضر لأنه لا ضرر عليه، والطالب قد رضي بدخول الضرر عليه فيجب أن يجبر
عليه.
مسألة 29: متى كان لهما ملك أقرحة كل قراح مفرد عن صاحبه، ولكل
واحد منهما طريق منفرد به، فطلب أحدهما قسمة كل قراح على حدته، وقال
الآخر: بل بعضها في بعض كالقراح الواحد، قسمناها كل قراح على حدته ولم
يقسم بعضها في بعض سواء كان الجنس واحدا مثل أن كان الكل نخلا أو كان
الكل كرما أو أجناسا أخر، الباب واحد، وسواء تجاورت الأقرحة أو تفرقت،
وكذلك الدور والمنازل، وبه قال الشافعي.
وقال مالك: إن كانت متجاورة قسم بعضها في بعض كالقراح الواحد،
وإن كانت متفرقة كقولنا، وقال أبو يوسف ومحمد: إن كان الجنس واحدا قسم
بعضه في بعض، وإن كان أجناسا كقولنا.
دليلنا: إن هذه قسمة نقل ملك من غير إلى غير فوجب أن لا يجبر الممتنع
عليها كما لو كانت متفرقة مع مالك وأجناسا مع أبي يوسف ومحمد، ولا يلزم
15

هذا قسمة القرية الكبيرة لأن الكل عين واحدة، وأيضا إن الأصل أن له في كل
شئ من الملك جزء، وإجباره على أن يأخذ من غير ملكه عوضا عنه يحتاج إلى
دليل.
مسألة 30: إذا كانت يد رجلين على ملك فقالا للحاكم: أقسم بيننا، فإن
كان لهما بينة أنه ملكهما قسمه بينهما بلا خلاف، وإن لم يكن لهما بينة غير اليد
ولا منازع هناك قسمه أيضا بينهما عندنا، وبه قال أبو يوسف ومحمد، وسواء
كان ذلك مما ينقل ويحول، أو لا يحول ولا ينقل، وسواء قالا هو ملكهما إرثا أو
غير إرث، وللشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه وهو أصحهما عنده، والثاني
لا يقسمه بينهما.
وقال أبو حنيفة: إن كان مما ينقل ويحول قسمه بينهما، وإن كان مما لا ينقل
نظرت: فإن قالا: هو ميراث بيننا، لم يقسم، وإن قالا: غير ميراث قسم بينهما.
دليلنا: إن ظاهر اليد عندنا يدل على ذلك فجاز أن يقسم بذلك كالبينة،
وقولهم " قسمة الحاكم حكمه بالملك " فالجواب عنه أنا نحترز من هذا وهو أن
القاسم يقسم ويكتب بالصورة وقصته، وأنه قسمه بينهما بقولهما فإذا كان هذا
إضرارا احترز من أن يكون حكما منه بالملك لهما.
مسألة 31: لا يجوز للحاكم أن يأخذ الأجرة على الحكم من الخصمين أو
من أحدهما سواء كان له رزق من بيت المال أو لم يكن.
وقال الشافعي: إن كان له رزق من بيت المال لم يجز، كما قلناه، وإن لم
يكن له رزق من بيت المال جاز له أخذ الأجرة على ذلك.
دليلنا: عموم الأخبار الواردة في أنه يحرم على القاضي أخذ الرشى، والهدايا،
وهذا دخل في ذلك، وأيضا طريقة الاحتياط تقتضي ذلك، وأيضا إجماع الفرقة
على ذلك فإنهم لا يختلفون في أن ذلك حرام.
16

مسألة 32: إذا حضر اثنان عند الحاكم معا في حالة واحدة وادعيا معا في
حالة واحدة، كل واحد منهما على صاحبه من غير أن يسبق أحدهما بها، روى
أصحابنا أنه يقدم من هو على يمين صاحبه، واختلف الناس في ذلك على ما
حكاه ابن المنذر فقال: منهم من قال " يقرع بينهما " وهو الذي اختاره أصحاب
الشافعي وقالوا لا نص فيها عند الشافعي، ومنهم من قال: يقدم الحاكم منهما من
شاء، ومنهم من قال: يصرفهما حتى يصطلحا، ومنهم من قال: يستحلف كل
واحد منهما لصاحبه.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، ولو قلنا بالقرعة كما ذهب إليه أصحاب
الشافعي كان قويا لأنه مذهبنا في كل أمر مجهول.
مسألة 33: إذا استعدى رجل عند الحاكم على رجل، وكان المستعدى
عليه حاضرا أعدى عليه وأحضره سواء علم بينهما معاملة أو لم يعلم، وبه قال
الشافعي وأهل العراق.
وقال مالك: إذا لم يعلم بينهما معاملة لم يحضره، لما روي عن علي عليه
السلام أنه قال: لا يعدي الحاكم على خصم إلا أن يعلم بينهما معاملة، ولا مخالف
له.
دليلنا: ما رواه ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله قال: البينة على
المدعي واليمين على من أنكر، ولم يفصل، ولأنه لو لم يحضره إلا بعد أن يعلم
بينهما معاملة أفضي إلى إسقاط أكثر الحقوق فإن أكثرها يجب بغير بينة
كالغصوب والجنايات والسرقة والودائع، وإذا أفضي إلى هذا سقط في نفسه، وما
روي عن علي عليه السلام غير ثابت ولا مقطوع به.
مسألة 34: إذا ادعى رجل على غيره شيئا وكان المستعدى عليه غائبا في
ولاية الحاكم في موضع ليس له فيه خليفة ولا فيه من يصلح للحكم أن يجعل
17

الحكم إليه فيه فإنه يحضره إذا تحرر دعوى خصمه قريبا كان أو بعيدا، وبه قال
الشافعي.
وقال أبو يوسف: إن كان في مسافة منها إلى وطنه ليلة أحضره، وإلا لم
يحضره، وقال قوم: إن كان في مسافة يوم وليلة أحضره، وإلا تركه، وقال قوم:
إن كان غائبا في مسافة لا يقصر فيها الصلاة أحضره، وإلا لم يحضره.
دليلنا: أن الحاكم منصوب لاستيفاء الحقوق وحفظها، وترك تضييعها،
فلو قلنا لا يحضره ضاع الحق وبطل لأنه لا يشاء شيئا أن يأخذ ماله أحد إلا أخذه
وجلس في موضع لا حاكم فيه، وما أفضي إلى هذا بطل في نفسه.
مسألة 35: إذا ادعي حقا على كامل عاقل حاضر غير غائب حي غير
ميت، وأقام بذلك شاهدين عدلين حكم له بذلك، ولا يجب عليه اليمين، وبه
قال أبو حنيفة ومالك والشافعي.
وقال ابن أبي ليلى: لا يحكم له بالبينة حتى يستحلفه معها كالصبي
والمجنون والميت والغائب.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضا ما رواه ابن عباس أن النبي صلى
الله عليه وآله قال: البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، فمن جعل اليمين
على المدعي فقد أسقط الخبر.
مسألة 36: إذا ادعى على غيره حقا فأنكر المدعى عليه فقال المدعي: لي
بينة غير أنها غائبة لم يجب له ملازمة المدعى عليه، ولا مطالبته بكفيل إلى أن
تحضر البينة، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: له المطالبة بذلك وملازمته.
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة، ومن أوجب ذلك فعليه الدلالة.
وروى سماك عن علقمة بن وائل بن حجر عن أبيه أن رجلا من كندة
ورجلا من حضر موت أتيا النبي صلى الله عليه وآله فقال الحضرمي: هذا غلبني
18

على أرضي وورثتها من أبي، وقال الكندي: في يدي أزرعها لا حق له فيها، فقال
النبي صلى الله عليه وآله للحضرمي: ألك بينة؟ قال لا، قال: لك يمينه، قال: إنه
فاجر لا يبالي على ما حلف إنه لا يتورع من شئ، فقال النبي صلى الله عليه وآله:
ليس لك منه إلا ذاك، فمن قال له الملازمة والمطالبة بالكفيل فقد ترك الخبر.
مسألة 37: إذا ادعى على غيره دعوى فسكت المدعى عليه أو قال: لا أقر
ولا أنكر، فإن الإمام يحبسه حتى يجيبه بإقرار أو بإنكار ولا يجعله ناكلا، وبه قال
أبو حنيفة.
وقال الشافعي: يقول له الحاكم ثلاثا إما أجبت عن الدعوى وإلا جعلناك
ناكلا ورددنا اليمين على خصمك.
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة، ورد اليمين في هذا الموضع وجعله ناكلا
يحتاج إلى دليل، وليس في الشرع ما يدل عليه.
مسألة 38: القضاء على الغائب في الجملة جائز، وبه قال الشافعي ومالك
والأوزاعي والليث بن سعد وابن شبرمة، قال ابن شبرمة: أحكم عليه ولو كان
خلف حائط، وبه قال أحمد وإسحاق.
وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه: لا يجوز القضاء على الغائب حتى يتعلق
الحكم بخصم حاضر شريك أو وكيل له والحاكم عندهم يقول: حكمت عليه
بعد أن ادعى على خصم ساع له الدعوى عليه.
وتحقيق هذا أن القضاء على الغائب جائز بلا خلاف، ولكن هل يصح
مطلقا من غير أن يتعلق بخصم حاضر أم لا؟ عندنا يجوز مطلقا، وعندهم لا يجوز
حتى قال أبو حنيفة: من ادعى على عشرة وواحد حاضر وتسعة غيب وأقام البينة
قضى على الحاضر وعلى غيره من الغائبين.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وذكرناها في الكتابين المقدم ذكرهما.
19

وروى أبو موسى الأشعري قال: كان إذا حضر عند النبي صلى الله عليه وآله
خصمان فتواعدا الموعد فوفى أحدهما ولم يف الآخر قضى للذي وفي علي الذي
لم يف، ومعلوم أنه ما قضى عليه بدعواه، ثبت أنه قضى عليه بالبينة.
وروي أن عمر صعد المنبر فقال: ألا أن أسيفع جهينة رضي من دينه وأمانته
بأن يقال سابق الحاج فأدان معرضا فأصبح وقد دين به فمن كان له عليه دين
فليأت غدا فلنقسم ماله بينهم بالحصص، ولا مخالف له.
كيفية جزاء شاهد الزور
مسألة 39: شاهد الزور يعزر ويشهر بلا خلاف، وكيفية الشهر أن ينادى
عليه في قبيلته أو مسجده أو سوقه وما أشبه ذلك بأن " هذا شاهد زور فاعرفوه "
ولا يحلق رأسه ولا يركب ولا يطوف به ولا ينادي هو على نفسه، وبه قال
الشافعي.
وقال شريح: يركب وينادي هو على نفسه " هذا جزاء من شهد بالزور "
ومن الناس من قال: يحلق نصف رأسه فإذا فرع من شهرته حلق النصف الآخر
إن شاء، ويقال يحلق نصف الرأس رمى.
وقال عمر بن الخطاب: يجلد أربعين سوطا ويسخم وجهه ويطاف به
ويطال حبسه.
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة، وما ذكرناه مجمع عليه، والزيادة تحتاج
إلى دليل، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه نهى عن المثلة هذه مثلة.
مسألة 40: إذا تراضى نفسان برجل من الرعية يحكم بينهما وسألاه الحكم
بينهما كان جائزا بلا خلاف، فإذا حكم بينهما لزم الحكم وليس لهما بعد ذلك
خيار، وللشافعي فيه قولان: أحدهما أنه يلزم بنفس الحكم كما قلناه، والثاني يقف
بعد إنفاد حكمه على تراضيهما فإذا تراضيا بعد الحكم لزم.
20

دليلنا: إجماع الفرقة على أخبار رووها إذا كان بين أحدكم وبين غيره
خصومة فلينظر إلى من روى أحاديثنا وعلم أحكامنا فليتحاكما إليه، ولأن الواحد
منا إذا دعا غيره إلى ذلك فامتنع منه كان مأثوما فعلى هذا إجماعهم.
وأيضا ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: من حكم بين اثنين
تراضيا به فلم يعدل بينهما فعليه لعنة الله، فلو لا أن حكمه بينهما جائز لازم لما
تواعده باللعن.
وأيضا لو كان الحكم لا يلزم بنفس الالتزام والانقياد لما كان للترافع إليه
معنى، فإن اعتبر التراضي كان ذلك موجودا قبل الترافع إليه.
مسألة 41: للحاكم أن يحكم بعلمه في جميع الأحكام من الأموال والحدود
والقصاص وغير ذلك سواء كان من حقوق الله تعالى أو من حقوق الآدميين
فالحكم فيه سواء، ولا فرق بين أن يعلم ذلك بعد التولية في موضع ولايته أو
قبل التولية أو قبلها بعد عزله، وفي غير موضع ولايته الباب واحد.
وللشافعي فيه قولان في حقوق الآدميين:
أحدهما: مثل ما قلناه، وبه قال أبو يوسف واختاره المزني، وعليه نص " في
الأم وفي الرسالة " واختاره، وقال الربيع: مذهب الشافعي أن القاضي يقضي
بعلمه، وإنما توقف فيه لفساد القضاة.
والقول الثاني: لا يقضي بعلمه بحال، وبه قال في التابعين شريح والشعبي،
وفي الفقهاء مالك والأوزاعي وابن أبي ليلى وأحمد وإسحاق.
حكي عن شريح أنه ترافع إليه خصمان فادعى أحدهما على صاحبه حقا
فأنكر، فقال شريح للمدعي: ألك بينه؟ قال: نعم أنت شاهدي، فقال: أنت الأمير
حتى أحضر وأشهد لك؟ يعني لا أقضي لك بعلمي.
وعن مالك وابن أبي ليلى قالا: لو اعترف المدعى عليه بالحق لم يقض
القاضي عليه به حتى يشهد عنده به شاهدان.
21

فأما حقوق الله تعالى فإنها تبنى على القولين فإذا قال: لا يقضي بعلمه في
حقوق الآدميين، فبأن لا يقضي به في حقوق الله أولى، وإذا قال يقضي بعلمه في
حقوق الآدميين ففي حقوق الله على قولين، ولا فصل على القولين معا بين أن يعلم
ذلك بعد التولية في موضع ولايته، أو قبل التولية أو بعد التولية في غير موضع
ولايته.
وقال أبو حنيفة ومحمد: إن علم بذلك بعد التولية في موضع ولايته حكم،
وإن علم به قبل التولية أو بعد التولية في غير موضع ولايته لم يقض به عليه، هذا
في حقوق الآدميين فأما في حقوق الله تعالى فلا يقضي عندهم بعلمه بحال.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضا قوله تعالى: يا داود إنا جعلناك
خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق، وقال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله
عليه وآله: وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط، ومن حكم بعلمه فقد حكم بالعدل
والحق.
وأيضا فإن الشاهدين إذا شهدا عند الحاكم حكم بقولهما بغالب ظنه لا
بالقطع واليقين، وإذا حكم بعلمه حكم بالقطع واليقين، والقطع واليقين أولى من
غالب الظن، ألا ترى أن العمل بالخبر المتواتر أولى من العمل بخبر الواحد بمثل
ما قلناه.
وأيضا لو لم يقض بعلمه أفضي إلى إيقاف الأحكام أو فسق الحاكم لأنه إذا
طلق الرجل زوجته بحضرته ثلاثا ثم جحد الطلاق كان القول قوله مع يمينه،
فإن حكم بغير علمه وهو استحلاف الزوج وسلمها إليه فسق، وإن لم يحكم له
وقف الحكم، وهكذا إذا أعتق الرجل عبده بحضرته ثم جحد، وإذا غصب من
رجل مالا ثم جحد يفضى إلى ما قلناه، فإذا أفضي إلى ما قلناه سقط.
مسألة 42: إذا قال الحاكم لحاكم آخر: قد حكمت بكذا أو أمضيت كذا
أو أنفذت كذا، لا يقبل منه ذلك إلا أن تقوم بينة يشهدان على حكمه وبما حكم
22

به ولا يحكم بقوله، وبه قال محمد بن الحسن ومالك، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف
والشافعي: يقبل قوله فيما قال أو أخبر به.
دليلنا: إن إيجاب قبول قوله يحتاج إلى دليل، وليس عليه دليل، ويدل
عليه قوله تعالى: ولا تقف ما ليس لك به علم، وقوله لا يوجب العلم فيجب أن لا
يقتضيه ولا يحكم به.
مسألة 43: يصح أن يحكم الحاكم لوالديه وإن عليا، ولولده وولد ولده
وإن سفلوا، وبه قال أبو ثور، وقال باقي الفقهاء: لا يصح حكمه لهم كما لا تصح
شهادته لهم.
دليلنا: أنه لا مانع من ذلك، وحملهم ذلك على الشهادة غير مسلم،
ونحن نخالفهم في ذلك، ونجوز شهادة الوالد لولده، والولد لوالده وسنذكر
ذلك في كتاب الشهادات.
23

كتاب الشهادات
مسألة 1: الشهادة ليست شرطا في انعقاد شئ من العقود أصلا، وبه قال
جميع الفقهاء إلا في النكاح فإن أبا حنيفة والشافعي قالا: من شرط انعقاده
الشهادة، وقال داود وأهل الظاهر: الشهادة على البيع واجبة، وبه قال سعيد بن
المسيب.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضا إيجاب ذلك يحتاج إلى دليل،
وقوله تعالى: وأشهدوا إذا تبايعتم، محمول على الاستحباب دون الوجوب بدليل
ما قدمناه ولأنه تعالى قال: وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة،
فالبيع الذي أمرنا بالإشهاد عليه هو البيع الذي أمرنا بأخذ الرهن به عند عدم
الشهادة، فلو كانت واجبة ما تركها بالوثيقة وأيضا قال: فإن أمن بعضكم بعضا
فليؤد الذي اؤتمن أمانته، فثبت أنه غير واجب إذ لو كان واجبا لما جاز تركه
بالأمانة.
وأيضا روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه ابتاع من أعرابي فرسا فاستتبعه
ليقضيه الثمن فلما رآه المشركون صفقوا وطلبوه بأكثر فصاح الأعرابي: ابتعه إن
كنت تريد أن تبتاعه، فقال النبي صلى الله عليه وآله: قد ابتعته، فقال: لا من يشهد
بذلك؟ قال خزيمة بن ثابت: أنا أشهد، فقال النبي صلى الله عليه وآله: بم تشهد
ولم تحضر؟ فقال: بتصديقك، وفي بعضها " نصدقك على أخبار السماء ولا
25

نصدقك على أخبار الأرض " فلو كان واجبا ما تركه رسول الله صلى الله عليه
وآله على البيع، وأيضا الآية متروكة الظاهر لأنه أمر بالإشهاد بعد وجود البيع
فقال: وأشهدوا إذا تبايعتم، وحقيقته بعد وقوع فعل التبايع.
مسألة 2: حقوق الله تعالى كلها لا تثبت بشهادة النساء إلا الشهادة بالزنى
فإنه روى أصحابنا أنه يجب الرجم بشهادة رجلين وأربع نسوة وثلاث رجال
وامرأتين ويجب الحد دون الرجم بشهادة رجل واحد وست نسوة، وخالف
جميع الفقهاء في ذلك وقالوا: لا يثبت شئ منها بشهادة النساء لا على الانفراد
ولا على الجمع.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم وقد أوردناها.
مسألة 3: يثبت الإقرار بالزنى بشهادة رجلين، وللشافعي فيه قولان: أحدهما
مثل ما قلناه، والثاني لا يثبت إلا بأربعة شهود كما أن الزنى لا يثبت إلا بأربعة
شهود.
دليلنا: أن سائر الإقرارات تثبت بشهادة اثنين بلا خلاف، فمن اعتبر في هذا
وحده أربعة شهود يحتاج إلى دلالة.
مسألة 4: لا يثبت النكاح والخلع والطلاق، والرجعة، والقذف، والقتل
الموجب للقود والوكالة، والوصية إليه، والوديعة عنده، والعتق والنسب والكفالة
ونحو ذلك ما لم يكن مالا، ولا المقصود منه المال، ويطلع عليه الرجال إلا
بشهادة رجلين، ولا يثبت بشهادة رجل وامرأتين، وبه قال الشافعي، وزاد
الشافعي أنه لا ينعقد النكاح إلا بشهادة رجلين.
وقلنا: لا يقع الطلاق إلا بشهادة رجلين، ولا مدخل للنساء في هذه الأشياء
التي ذكرناها، وبه قال مالك والشافعي والأوزاعي والنخعي، وقال الثوري
26

وأبو حنيفة وأصحابه: يثبت كل هذا بشاهد وامرأتين إلا القصاص فإنه لا خلاف
فيه.
دليلنا: إن ما اعتبرناه مجمع على ثبوت هذه الأحكام به، وما ادعوه ليس
عليه دليل، وقياس ذلك على المداينة لا يصح لأنا لا نقول بالقياس.
مسألة 5: إذا قال لعبده: إن قتلت فأنت حر، ثم هلك فاختلف العبد
والوارث، فقال العبد: هلك بالقتل، وقال الوارث: مات حتف أنفه، وأقام كل
واحد منهما شاهدين على ما ادعاه، للشافعي فيه قولان: أحدهما تعارضتا وسقطتا
ورق العبد، والقول الثاني بينة العبد أولى لأنها أثبت زيادة فيعتق العبد.
وهذا يسقط عنا لأن هذا عتق بشرط، والعتق بالشرط لا يصح عندنا ونحن
ندل على ذلك في كتاب العتق، ومتى قلنا أن التدبير وصية وليس هو عتقا بصفة
قلنا: تستعمل القرعة فمن خرج اسمه عمل على بينته.
مسألة 6: إذا قال: إن مت في رمضان فأنت حر، وقال للآخر: إن مت في
شوال فأنت حر، ثم مات، واختلف العبدان فادعى كل واحد منهما صحة ما جعل
له، وأقام بذلك بينة، فللشافعي فيه قولان: أحدهما تتعارضان ويرق العبدان،
والثاني بينة رمضان أولى لأنه قد يموت في رمضان فيخفى على بينة شوال ذلك،
وهذا أيضا يسقط عنا بما قلناه في المسألة الأولى سواء.
مسألة 7: يحكم بالشاهد واليمين في الأموال عندنا وعند الشافعي ومالك
على ما سنبينه، ويحكم عندنا بشهادة امرأتين مع يمين المدعي، وبه قال مالك،
وقال أبو حنيفة والشافعي وغيرهما: لا يحكم بشهادة المرأتين مع اليمين.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، ولأن المرأتين كالشاهد الواحد في
الأموال، ألا ترى لو أقام في المال شاهدين حكم له ولو أقام شاهدا وامرأتين حكم
27

له، ثبت أنهما كالرجل الواحد ثم ثبت أنه لو أقام شاهدا واحدا حلف معه
فكذلك إذا أقام امرأتين.
مسألة 8: إذا ادعى على رجل عند الحاكم حقا، فأنكر، فأقام المدعي
شاهدين بما يدعيه، فحكم الحاكم له بشهادتهما كان حكمه تبعا لشهادتهما، فإن
كانا صادقين كان حكمه صحيحا في الظاهر والباطن، وإن كانا كاذبين كان
حكمه صحيحا في الظاهر باطلا في الباطن سواء كان في عقد أو رفع عقد أو
فسخ عقد، أو كان مالا، وبه قال شريح ومالك وأبو يوسف ومحمد والشافعي،
وحكي عن شريح أنه كان إذا قضى لرجل بشاهدين قال له: يا هذا إن حكمي لا
يبيح لك ما هو حرام عليك.
وقال أبو حنيفة: إن حكم بعقد أو رفعه أو فسخه وقع حكمه صحيحا في
الظاهر والباطن معا، وأصحابه يعبرون عن هذا كل عقد صح أن يبتدئاه أو
يفسخاه صح حكم الحاكم فيه ظاهرا وباطنا، فمن ذلك إذا ادعى أن هذه
زوجتي فأنكرت فأقام شاهدين شهدا عنده بذلك حكم بها له وحلت له في
الباطن، فإن كان لها زوج بانت منه بذلك وحرمت عليه، وحلت للمحكوم له
بها.
وأما رفع العقد فالطلاق إذا ادعت أن زوجها طلقها ثلاثا وأقامت به شاهدين
فحكم بذلك بانت منه ظاهرا وباطنا وحلت لكل أحد وحل لكل واحد من
الشاهدين أن يتزوج بها، وإن كانا يعلمان أنهما شهدا بالزور، وأما الفسخ
فكالإقالة.
وقالوا في النسب: لو ادعى رجل أن هذه بنته فشهد بذلك شاهدا زور
فحكم الحاكم بذلك حكمنا بثبوت النسب ظاهرا أو باطنا وصار محرما لها
ويتوارثان.
وحكى الشافعي في الأقضية في القديم فقال: لو أن رجلا طلق زوجته ثلاثا
28

فادعت ذلك عند الحاكم فأنكر فقضى له بها بيمين أو بغير يمين كانت زوجته،
وعليها أن تهرب منه ولا تمكنه من نفسها.
فإن كان هذا على ما حكاه عنهم فهو نقض لأنه لم ينعقد حكمه في الباطن،
ووافقنا في الأموال إن كان القضاء له بملك غيره فإن حكمه لا يبيح له في
الباطن.
دليلنا: قوله تعالى: حرمت عليكم أمهاتكم... إلى قوله: والمحصنات من
النساء إلا ما ملكت أيمانكم، وأراد بالمحصنات زوجات الغير فحرمهن علينا إلا
بملك اليمين سببا أو استرقاقا، وأبو حنيفة أباحهن لنا بحكم باطل.
وقال تعالى: فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره، ومنه
دليلان: أحدهما قضى بأنه إذا طلقها لا تحل له من بعد زوج، وعنده إذا جهد
الطلاق فقضى له بها حلت له، وقوله تعالى: فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا
غيره، دل على أنها حلال له ما لم يطلقها، وعند أبي حنيفة إذا قضى له بزوجة غيره
حرمت الزوجة على زوجها بغير طلاق منه أو ادعت عليه أنه طلقها فأقامت بذلك
شاهدي زور حرمت عليه، وما طلقها.
وروت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله قال: إنما أنا بشر مثلكم
وإنكم تختصمون ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على
نحو ما سمعت منه، فمن قضيت له بشئ من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له
قطعة من النار، فمنعه عليه السلام من أخذه وإن كان قد قضي له، وأخبر أنه قطعة
من النار.
مسألة 9: تقبل شهادة النساء على الانفراد في الولادة والاستهلال، والعيوب
تحت الثياب كالرتق والقرن والبرص، بلا خلاف، وتقبل عندنا شهادتهن في
الاستهلال، ولا تقبل في الرضاع أصلا، وقال الشافعي: تقبل شهادتهن في
الرضاع أيضا، والاستهلال، وقال أبو حنيفة: لا تقبل شهادتهن على الانفراد فيهما
29

بل تقبل شهادة رجل وامرأتين.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضا ما اعتبرناه مجمع على قبول
شهادتهن فيه، وما قال الشافعي ليس عليه دليل وأيضا الأصل الإرضاع، وإثبات
ذلك يحتاج إلى دليل وليس في الشرع ما يدل على أن بشهادتهن يثبت ذلك.
مسألة 10: كل موضع تقبل فيه شهادة النساء على الانفراد لا يثبت الحكم
فيه إلا بشهادة أربع منهن، فإن كانت شهادتهن في الاستهلال أو في الوصية
لبعض الناس قبل شهادة امرأة في ربع الميراث، وربع الوصية وشهادة امرأتين
في نصف الوصية ونصف الميراث، وشهادة ثلاث في ثلاثة أرباع الوصية، وثلاثة
أرباع الميراث، وشهادة أربع في جميع الوصية وجميع ميراث المستهل.
وقال الشافعي: لا تقبل في جميع ذلك إلا شهادة أربع منهن، ولا يثبت
الحكم بالأقل من أربع على حال، وبه قال عطاء وقال عثمان البتي: يثبت بثلاث
نسوة، وقال مالك والثوري: يثبت بعدد وهو اثنتان فيهن.
وقال الحسن البصري وأحمد: يثبت الرضاع بالمرضعة وحدها، وبه قال
ابن عباس، وقال أبو حنيفة: تثبت ولادة الزوجات بامرأة واحدة القابلة أو غيرها،
ولا تثبت بها ولادة المطلقات.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وقد روى أصحابنا أن شهادة القابلة
وحدها تقبل في الولادة، وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله، وعن علي
عليه السلام.
مسألة 11: القاذف إذا تاب وصلح قبلت توبته وزال فسقه بلا خلاف،
وتقبل عندنا شهادته فيما بعد وبه قال عمر بن الخطاب، وروي عنه أنه جلد
أبا بكرة حين شهد على المغيرة بالزنى ثم قال له: تب تقبل شهادتك، وعن ابن
عباس أنه قال: إذا تاب القاذف قبلت شهادته، ولا مخالف لهما، وبه قال في
30

التابعين عطاء وطاووس، والشعبي، قال الشعبي: يقبل الله توبته ولا نقبل نحن
شهادته، وبه قال في الفقهاء الزهري وربيعة ومالك والشافعي والأوزاعي وعثمان
البتي وأحمد وإسحاق.
وذهبت طائفة إلى أنها تسقط ولا تقبل أبدا، ذهب إليه في التابعين شريح
والحسن البصري والنخعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه، والكلام مع أبي حنيفة
في فصلين:
عندنا وعند الشافعي ترد شهادته بمجرد القذف، وعنده لا ترد بمجرد
القذف حتى يجلد فإذا جلد ردت شهادته بالجلد لا بالقذف.
والثاني: عندنا تقبل شهادته إذا تاب، وعنده لا تقبل ولو تاب ألف توبة.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، والدليل على أن رد الشهادة يتعلق بمجرد
القذف ولا يعتبر الجلد قوله تعالى: والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة
شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا، فذكر القذف فعلق
وجوب الجلد برد الشهادة فثبت أنهما تعلقا به والذي يدل على أن شهادتهم لا
تسقط أبدا قوله تعالى في سياق الآية: وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد
ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم، ووجه الدلالة أن الخطاب إذا اشتمل على
جمل معطوفة بعضها على بعض " بالواو " ثم تعقبها استثناء رجع الاستثناء إلى
جميعها إذا كانت كل واحدة منهما مما لو انفردت رجع الاستثناء إليها كقوله "
امرأتي طالق وأمتي حرة وعبدي حر إن شاء الله " رجع الاستثناء إلى كل
المذكور، وكذلك في الآية.
فإن قالوا: الاستثناء يرجع إلى أقرب المذكورين، فقد دللنا على فساد ذلك
في كتاب أصول الفقه، والثاني: أن في الآية ما يدل على أنه لا يرجع إلى أقرب
المذكورين فإن أقربه الفسق، والفسق يزول بمجرد التوبة، وقبول الشهادة لا يثبت
بمجرد التوبة بل تقبل بالتوبة، وإصلاح العمل قيل ستة أشهر، وقيل سنة فلما
شرط في التوبة إصلاح العمل ثبت أنه رجع إلى الشهادة لا إلى الفسق.
31

والثالث: ما رواه ربيعة عن سعيد بن المسيب عن عمر أن النبي صلى الله
عليه وآله قال في قوله " إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور
رحيم ": توبته إكذابه نفسه، فإذا تاب قبلت شهادته.
مسألة 12: من شرط التوبة من القذف أن يكذب نفسه حتى يصح قبول
شهادته فيما بعد بلا خلاف بيننا وبين أصحاب الشافعي إلا أنهم اختلفوا فقال
أبو إسحاق - وهو الصحيح عندهم -: أن يقول القذف باطل ولا أعود إلى ما
قلت، وقال الإصطخري: التوبة إكذابه نفسه هكذا قال الشافعي، وحقيقة ذلك أن
يقول: كذبت فيما قلت، قال أبو حامد: وليس بشئ، وهذا هو الذي يقتضيه
مذهبنا لأنه لا خلاف بين الفرقة أن من شرط ذلك أن يكذب نفسه، وحقيقة
الإكذاب أن يقول: كذبت فيما قلت، كيف وهم رووا أيضا أنه يحتاج إلى أن
يكذب نفسه في الملأ الذين قذف بينهم وفي موضعه، فثبت ما قلناه.
والذي قاله المروزي قوي لأنه إذا أكذب نفسه ربما كان صادقا في الأول
فيما بينه وبين الله فيكون هذا الإكذاب كذبا وذلك قبيح.
مسألة 13: إذا أكذب نفسه وتاب لا تقبل شهادته حتى يظهر منه العمل
الصالح، وهو أحد قولي الشافعي إلا أنه اعتبر ذلك سنة، ونحن لم نعتبره لأنه لا
دليل عليه، والقول الآخر أنه يكفي مجرد الإكذاب.
دليلنا: قوله تعالى: إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا، فاعتبر التوبة
وصلاح العمل.
مسألة 14: من كان في يده شئ يتصرف فيه بلا دافع ولا منازع بسائر
أنواع التصرف جاز أن يشهدا له بالملك طالت المدة أم قصرت، وبه قال
أبو حنيفة.
32

وقال الشافعي: جاز أن يشهد له باليد قولا واحدا فأما الملك فينظر فيه: فإن
طالت المدة فعلى وجهين: قال الإصطخري: جاز أن يشهد له بالملك، وقال
غيره: لا يجوز، وإن قصرت المدة مثل الشهر والشهرين فلا يجوز قولا واحدا.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم وأيضا لا خلاف أنه يجوز أن يشترى منه
فإذا حصل في يده يدعي أنه ملك فلو لا أن ظاهر تصرفه يدل على ملكه لم يجز له
إذا انتقل إليه بالبيع أن يدعي أنه ملكه.
مسألة 15: تجوز الشهادة على الوقف، والولاء والعتق والنكاح
بالاستفاضة كالملك المطلق والنسب، وللشافعي فيه وجهان: فقال الإصطخري
مثل ما قلناه، وقال غيره: لا يثبت شئ من ذلك بالاستفاضة ولا يشهد عليها
بذلك.
دليلنا: أنه لا خلاف أن يجوز لنا الشهادة على أزواج النبي صلى الله عليه
وآله ولم يثبت ذلك إلا بالاستفاضة لأنا ما شاهدنا، وأما الوقف مبني على التأبيد
فإن لم تجز الشهادة بالاستفاضة أدى إلى بطلان الوقوف لأن شهود الوقف لا
يبقون أبدا فإن قيل يجوز تجديد شهادة على شهادة أبدا.
قلنا: الشهادة على الشهادة لا تجوز عندنا إلا دفعة واحدة فأما البطن الثالث
فلا يجوز على حال، وعلى هذا يؤدى إلى ما قلناه.
مسألة 16: ما يفتقر به في العلم إلى المشاهدة لا تقبل فيه شهادة الأعمى بلا
خلاف وذلك مثل القطع والقتل والرضاع والزنى والولادة واللواط وشرب
الخمر، وما يفتقر إلى سماع ومشاهدة من العقود كلها كالبيوع والصرف والسلم
والإجارة والهبة والنكاح ونحو هذا.
والشهادة على الإقرار لا تصح بشهادة الأعمى عليه، وبه قال في الصحابة
33

علي عليه السلام، وفي التابعين الحسن البصري وسعيد بن جبير والنخعي، وفي
الفقهاء الثوري وأبو حنيفة وأصحابه وعثمان البتي وسوار القاضي، وعليه أهل
البصرة وأكثر الكوفيين.
وذهبت طائفة إلى أن شهادته على العقود تصح، ذهب إليه في الصحابة
عبد الله بن عباس وفي التابعين شريح وعطاء والزهري، وفي الفقهاء ربيعة
ومالك والليث بن سعد والثوري وابن أبي ليلى.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم.
مسألة 17: يصح أن يكون الأعمى شاهدا في الجملة في الأداء دون التحمل، وفي
التحمل والأداء فيما لا يحتاج إلى المشاهدة مثل النسب والموت
والملك المطلق، وبه قال مالك وأبو يوسف والشافعي.
وقال أبو حنيفة ومحمد: لا يصح منه التحمل ولا الأداء فيما لا يحتاج إلى
المشاهدة، فجعلوا العمى كالجنون، وقالا أشد من هذا قالا: لو شهد بصيران عند
الحاكم فسمع شهادتهما ثم عميا أو خرسا قبل الحكم لم يحكم كما فسقا قبل
الحكم بشهادتهما، فيتصور الخلاف معه في ثلاثة فصول: فيما علمه وهو بصير،
والثاني: الشهادة بالنسب والموت والملك المطلق، والثالث: إذا عمي بعد الإقامة
وقبل الحكم.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضا قوله تعالى: وأشهدوا ذوي عدل
منكم، وقوله: وأشهدوا إذا تبايعتم، وقال عز وجل: فإن لم يكونا رجلين فرجل
وامرأتان، وكل ذلك على عمومه إلا ما أخرجه الدليل.
مسألة 18: يصح من الأخرس تحمل الشهادة بلا خلاف، وعندنا يصح
منه الأداء، وبه قال مالك وأبو العباس بن سريج، وقال أبو حنيفة وباقي أصحاب
الشافعي: لا يصح منه الأداء.
34

دليلنا: ما قلناه في المسألة الأولى سواء.
مسألة 19: العبد إذا كان مسلما بالغا عدلا قبلت شهادته على كل أحد من
الأحرار والعبيد إلا على مولاه، فأما غيره فإنه تقبل شهادته لهم وعليهم، وروي عن
علي عليه السلام أنه تقبل شهادة بعضهم على بعض، ولا تقبل شهادتهم على
الأحرار.
وقال أنس بن مالك: أقبلها مطلقا كالحر، وبه قال عثمان البتي وداود
وأحمد وإسحاق، قال البتي: كم من عبد خبر من مولاه، وقال النخعي والشعبي:
أقبلها في القليل دون الكثير.
وذهب قوم إلى أنها لا تقبل على حال لا على حر ولا عبد لا في القليل ولا في
الكثير، ذهب إليه في الصحابة عمر وابن عباس وابن عمر، وفي التابعين خلق،
شريح والحسن البصري وعطاء ومجاهد، وفي الفقهاء أبو حنيفة وأصحابه
والشافعي والأوزاعي والثوري.
دليلنا: قوله تعالى: واستشهدوا شهيدين من رجالكم، وذلك عام في
الجميع، وقال: وأشهدوا ذوي عدل منكم، وهذا عدل وعليه إجماع الفرقة
وأخبارهم.
مسألة 20: تقبل شهادة الصبيان بعضهم على بعض في الجراح ما لم
يتفرقوا إذا اجتمعوا على أمر مباح كالرمي وغيره، وبه قال ابن الزبير ومالك.
وقال قوم: إنها لا تقبل بحال لا في الجراح ولا في غيرها تفرقوا أو لم
يتفرقوا، ذهب إليه ابن عباس وشريح والحسن البصري وعطاء والشعبي، وفي
الفقهاء الأوزاعي والثوري وابن أبي ليلى وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وعليه إجماع الصحابة، روى ابن أبي
مليكة عن ابن عباس أنه قال: لا تقبل شهادة الصبيان في الجراح، وخالفه ابن
35

الزبير، فذهب الناس إلى قول ابن الزبير فثبت أنهم أجمعوا على قوله وتركوا قول
ابن عباس.
مسألة 21: شهادة أهل الذمة لا تقبل على المسلمين بلا خلاف بين أصحابنا
إلا أنهم أجازوا شهادة أهل الذمة في الوصية خاصة إذا كانت بحيث لا يحضره
مسلم بحال، وخالف جميع الفقهاء في ذلك، وقالوا: لا تقبل بحال.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم وأيضا قوله تعالى: إذا حضر أحدكم
الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم، يعني من المسلمين أو آخران من
غيركم يعني من أهل الذمة فإذا ادعوا أن هذا منسوخ طولبوا بالدلالة عليه، وليس
معهم دليل يقطع العذر.
مسألة 22: قال قوم: لا يجوز قبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض
سواء اتفقت ملتهم أو اختلفت مثل شهادة اليهود على اليهود أو على النصارى
وكذلك النصارى، وبه قال مالك والشافعي والأوزاعي وابن أبي ليلى وأحمد.
وقال آخرون: تقبل شهادة بعضهم على بعض سواء اتفقت ملتهم أو
اختلفت، ذهب إليه قضاة البصرة: الحسن وسوار وعثمان البتي، وبه قال في
الفقهاء حماد بن أبي سليمان والثوري وأبو حنيفة وأصحابه.
وذهب الشعبي والزهري وقتادة إلى أنه إن كانت الملة واحدة كاليهود على
اليهود قبلت، وإن اختلفت ملتهم لم تقبل كاليهود على النصارى، وهذا هو الذي
ذهب إليه أصحابنا ورووه.
دليلنا: قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن
تصيبوا قوما بجهالة، فأمر الله بالتثبت أو التبين في نبأ الفاسق، والكافر فاسق.
وروى ابن غنم قال: سألت معاذ بن جبل عن شهادة اليهود على النصارى
فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول: لا تقبل شهادة أهل دين على غير
36

أهل دينهم إلا المسلمين فإنهم عدول على أنفسهم وعلى غيرهم، وهذا الذي
اخترناه.
والوجه فيه إذا اختاروا الترافع إلينا فأما إن لم يختاروا فلا يلزمهم ذلك.
مسألة 23: يقضى بالشاهد الواحد مع يمين المدعي في الأموال، وبه قال
في الصحابة علي عليه السلام وأبو بكر وعمر وعثمان وأبي بن كعب، وفي التابعين
الفقهاء السبعة وعمر بن عبد العزيز وشريح والحسن البصري وأبو سلمة بن
عبد الرحمان وربيعة بن أبي عبد الرحمان، وفي الفقهاء مالك والشافعي وابن أبي
ليلى وأحمد بن حنبل.
وذهب قوم إلى أنه لا يقضى بالشاهد الواحد مع اليمين، ذهب إليه الزهري
والنخعي، وفي الفقهاء الأوزاعي وابن شبرمة والثوري وأبو حنيفة وأصحابه، قال
محمد بن الحسن: إن قضي بالشاهد مع اليمين نقضت حكمه.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وروى عمرو بن دينار عن ابن عباس أن
النبي صلى الله عليه وآله قضى باليمين مع الشاهد، وفي رواية مسلم بن خالد
الزنجي عن عمرو بن دينار عن طاووس عن ابن عباس عن النبي مثله.
وروى عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن ربيعة عن سهل بن أبي صالح
عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله قضى باليمين مع الشاهد، وفي
غيره قضى بيمين وشاهد، وقيل: أن سهلا نسي هذا الحديث فذكره ربيعة أنه
سمعه منه، وكان يقول: حدثني ربيعة عني عن أبي هريرة.
وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله قال:
أتاني جبرئيل وأمرني أن أقضي باليمين مع الشاهد.
وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب عليهم
السلام أن النبي صلى الله عليه وآله قضى بالشاهد الواحد مع يمين من له الحق
قال جعفر بن محمد: رأيت الحكم بن عيينة يسأل أبي وقد وضع يده على جدار
37

القبر ليقوم قال: أقضى النبي صلى الله عليه وآله باليمين مع الشاهد؟ قال: نعم،
وقضى بها على بين أظهركم، ورواه عبد العزيز بن أبي سلمة ويحيى بن أبي سليم
عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب عليهم السلام أن النبي
صلى الله عليه وآله قضى بالشاهد الواحد مع يمين صاحب الحق.
وقد روي هذا الخبر عن النبي صلى الله عليه وآله ثمانية، أربعة ذكرناهم
وهم علي عليه السلام وابن عباس وأبو هريرة وجابر، وأربعة أخر زيد بن ثابت
وسعد بن عبادة ومسروق وعبد الله بن عمر ومسلم بن الحجاج قد خرج هذا
الحديث في الصحيح من طريق عمرو بن دينار عن ابن عباس.
وعلى المسألة إجماع الصحابة، روى جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن
أبي طالب عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وأبو بكر وعمر
وعثمان يقضون بالشاهد الواحد مع يمين المدعي، فثبت بهذا سنة رسول الله صلى
الله عليه وآله، وفيه إخبار عن دوام حكمه بذلك فلا يمكن حمله على قضية
واحدة.
وروى أبو الزناد عن عبد الله بن عباس قال: شهدت النبي صلى الله عليه وآله
وأبا بكر وعمر وعثمان يقضون بالشاهد مع اليمين، وروى جعفر بن محمد عن أبيه
قال: قضى بها عليه السلام بين أظهركم، وفي رواية أخرى قضى بها على بالعراق،
وروى داود بن الحصين عن أبي جعفر محمد بن علي أن أبي بن كعب قضى
باليمين مع الشاهد فهؤلاء الخمسة قالوا به، ولا مخالف لهم بحال.
مسألة 24: إذا كان مع المدعي شاهد واحد واختار يمين المدعى عليه كان
له، فإن حلف المدعى عليه أسقط دعواه، وإن نكل لم يحكم عليه، ويكون له
الشاهد مع اليمين، وبه قال الشافعي، وقال مالك: يحكم عليه بالنكول مع
موافقته لنا أن القضاء بالنكول إذا لم يكن مع المدعي شاهد.
دليلنا: إن الحكم عليه بذلك يحتاج إلى دليل، ولا دلالة على ذلك،
38

وأيضا فمذهب مالك يؤدى إلى القضاء بمجرد النكول لأن المدعي إذا لم يحلف
مع شاهده فقد أطرح شاهده ورفضه كأن لم يكن، فصارت اليمين في جنبة
المدعى عليه ابتداء.
فلو قلنا متى نكل عنها قضينا عليه بالنكول كان حكما بمجرد النكول، وهذا
لا سبيل إليه، ولأن مذهبه يفضى إلى القضاء بالشاهد الواحد لأن اليمين على
المدعى عليه فمتى نكل لم يكن نكوله حجة للمدعي كما لو كان مع المدعي
شاهدان فتركها وعدل إلى إحلاف المدعى عليه لم يكن في عدوله إليه عن شاهده
حجة للمدعى عليه، فإذا ثبت أن نكوله ليس بحجة للمدعى عليه لم يبق مع
المدعي إلا شاهد واحد، فوجب أن لا يقضى له به.
مسألة 25: لا يثبت الوقف بشهادة واحد مع يمين المدعي، وللشافعي فيه
قولان: بناء على الوقف إلى من ينتقل، فإذا قال: ينتقل إلى الله تعالى فلا يثبت إلا
بشاهدين، وإذا قال: ينتقل إلى الموقوف عليه فيثبت بشاهد ويمين، وقال
أبو العباس: يثبت بشاهد ويمين قولا واحدا.
دليلنا: أن ما اعتبرناه مجمع على ثبوت الوقف به، وما قالوه ليس عليه
دليل، والأخبار التي رويناها في القضاء بالشاهد مع اليمين مختصة بالأموال،
والوقف ليس بمال للموقوف عليه بل له الانتفاع به فقط دون رقبته.
مسألة 26: إذا كان معه شاهد وأراد أن يحلف المدعى عليه فنكل عن
اليمين فإنها ترد على المدعي فإن حلف حكم له بها، وإن نكل ولم يحلف
انصرف، وللشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه، والثاني لا يرد عليه بل
يحبس المدعى عليه حتى يحلف أو يعترف.
دليلنا: عموم الأخبار التي وردت في أن المدعى عليه إذا رد اليمين فعلى
المدعي اليمين، وهي عامة.
39

مسألة 27: إذا مات إنسان وخلف دينا له على غيره، وعليه دين ولهم
شاهد واحد وامتنعوا من أن يحلفوا مع الشاهد لم يجز للغريم أن يحلف،
وللشافعي فيه قولان: الأول - وهو الأصح - مثل ما قلناه، والثاني أن له أن يحلف
لأنه إذا ثبت صار إليه كان له أن يحلف كالوارث.
دليلنا: هو أنه لو ثبت هذا الحق كان بثبوته للميت يرثه ورثته عند بدليل أنه
لو كانت التركة عبدا وأهل شوال كانت فطرته على ورثته وكان لهم أن يقضوا
الدين من عين التركة ومن غيرها، وإنما يتعلق حق الغرماء بالتركة كما يتعلق
حتى المرتهن بالرهن فإذا كان ثبوته لغيرهم لم يجز أن يحلف يمينا يثبت بها حقا
للغير فإن الإنسان لا يثبت بيمينه مالا لغيره، وأيضا قوله تعالى: وأن تقولوا على الله
ما لا تعلمون، وقوله: ولا تقف ما ليس لك به علم، وهذا غير عالم.
مسألة 28: إذا مات وخلف تركة وعليه دين فإن كان الدين يحيط بالتركة
لم تنتقل التركة إلى وارثه، وكانت مبقاة على حكم ملك الميت فإن قضي الدين
من غيرها ملكها الوارث الآن، وإن كان الدين محيطا ببعض التركة لم ينتقل قدر
ما أحاط الدين به منها إلى ورثته وانتقل إليهم ما عداه، وبه قال الإصطخري من
أصحاب الشافعي.
وقال أبو حنيفة: إن كان الدين محيطا بالتركة لم ينتقل إلى الورثة كما قلناه،
وإن لم يكن محيطا بها انتقلت كلها إلى الورثة.
وقال الشافعي وأصحابه إلا الإصطخري: أن التركة تنتقل كلها إلى الورثة
سواء كانت وفق الدين أو أكثر، والدين باق في ذمة الميت، وتعلق حق الغرماء
بها كالرهن، ولهم أن يقضوا الدين من عين التركة ومن غيرها.
دليلنا: قوله تعالى: ولكم نصف ما ترك أزواجكم، إلى قوله: من بعد
وصية يوصى بها أو دين، فأخبر أن ذلك بعد الدين، وكذلك في قوله: يوصيكم
الله في أولادكم... الآية، ولأن التركة لو انتقلت إلى الوارث لوجب إذا كان في
40

تركته من يعتق على وارثه أن يعتق عليه مثل أن ورث الرجل أباه أو ابنه.
بيانه: كان له أخ مملوك وابن المملوك حر فمات الرجل وخلف أخاه
مملوكا فورثه ابن المملوك فإنه لا يعتق عليه إذا كان على الميت دين بلا خلاف،
دل على أن التركة ما انتقلت إليه، وكذلك لو كان أبوه أو ابنه مملوكا لابن عمه
فمات السيد فورثه عن ابن عمه كان يجب أن ينعتق ويبطل حق الغرماء، وقد
أجمعنا على خلافه.
مسألة 29: إذا ادعى رجل جارية وولدها بأنها أم ولده وولدها منه
استولدها في ملكه، وأقام شاهدا واحدا وحلف، حكم له بالجارية وسلمت إليه،
وكانت أم ولده باعترافه بلا خلاف بيننا وبين الشافعي إلا أنه يقول: تنعتق بوفاته
وأما الولد فإنه لا يحكم له به أصلا فيبقي في يد من هو في يده على ما كان،
وللشافعي فيه قولان: أحدهما - وهو الأصح - مثل ما قلناه، والثاني يحكم له
بالولد ويلحق به.
دليلنا: أن القضاء بالشاهد واليمين خاص في الأموال على ما مضى القول
فيه، وهاهنا ادعى النسب والحرية، وذلك لا يحكم له بشاهد ويمين.
مسألة 30: إذا كان في يد رجل عبد فادعى آخر عليه أن هذا غصبه على
نفسه وأنه كان عبدي وأنا أعتقته، وأقام شاهدا واحدا لم يقبل ذلك ولا يحكم به،
وقال الشافعي: أقضي له به وأحكم بالعتق فيه، واختلف أصحابه، منهم من قال:
يحكم بذلك قولا واحدا، ومنهم من قال: هذه على قولين كالمسألة التي قبلها.
دليلنا: ما قلناه في المسألة التي قبلها وأيضا فإن البينة تشهد له بملك كان،
والبينة إنما تقبل إذا شهدت بما يدعيه من كون الملك له في الحال فأما بملك
كان فلا، كما لو قال: هذا الذي في يد زيد عبدي، وشهد شاهدان أنه كان عبده
لم يثبت الملك بشهادتهما لأنه يدعي ملكا في الحال، والبينة تشهد بملك كان.
41

مسألة 31: الأيمان تغلظ عندنا بالمكان والزمان وهو مشروع، وبه قال
الشافعي، وقال أبو حنيفة: لا تغلظ بالمكان بحال وهو بدعة.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم فإنهم رووا أنه لا يحلف عند قبر النبي صلى
الله عليه وآله أحد على أقل مما يجب فيه القطع فدل ذلك على أنه إذا كان
كذلك أو زاد عليه تغلظ وأنه ليس ببدعة، ولست أجد خلافا بينهم في ذلك.
وروى جابر أن النبي صلى الله عليه وآله قال: من حلف على منبري هذا
كان اليمين إثما فليتبوأ مقعده من النار، وفيه إجماع الصحابة روي ذلك عن علي
عليه السلام وأبي بكر وعمر وعثمان وعبد الرحمان بن عوف ولكل واحد منهم
قصة معروفة تركنا ذكرها تخفيفا، ولا مخالف لهم.
وأما الزمان فقوله تعالى: تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله، قال أهل
التفسير: يريد بعد العصر، وقال عليه السلام: ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة
ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم رجل بايع إمامه فإن أعطاه وفي له، وإن لم يعطه
خانه، ورجل حلف بعد العصر يمينا فاجرة ليقطع بها مال امرئ مسلم.
مسألة 32: لا تغلظ اليمين بأقل مما يجب فيه القطع، ولا يراعى بلوع
النصاب الذي يجب فيه الزكاة، وبه قال مالك.
وقال الشافعي: لا تغلظ بأقل مما تجب فيه الزكاة إذا كانت يمينا في المال
أو المقصود منه المال، وإن كان يمينا في غير ذلك على كل حال، وقال ابن
جرير: يغلظ في الكثير والقليل.
دليلنا: إجماع الفرقة على ما بيناه في المسألة التي ذكرناها.
مسألة 33: التغليظ بالمكان والزمان استحباب دون أن يكون ذلك شرطا
في صحة الأيمان، ووافقنا في الأزمان والألفاظ الشافعي، والمكان على قولين:
أحدهما مثل ما قلناه، والثاني أنه شرط.
42

دليلنا: إن كون ذلك شرطا يحتاج إلى دليل، وأيضا قوله عليه السلام:
اليمين على المدعى عليه والبينة على المدعي، ولم يذكر الزمان ولا المكان، وما
ذكرناه من الأدلة محمول على الاستحباب.
مسألة 34: الحالف إذا حلف على فعل نفسه حلف على القطع والبتات
نفيا كان أو إثباتا وإن كان على فعل غيره فإن كانت على الإثبات كانت على
القطع، وإن كانت على النفي كانت على نفي العلم، وبه قال الشافعي، وقال
الشعبي والنخعي: كلها على العلم، وقال ابن أبي ليلى: كلها على البت.
دليلنا: أن النبي صلى الله عليه وآله حلف رجلا فقال: قل والله ما له
عليك حق، فلما كان على فعل نفسه استحلفه على البت، ولأنها إذا كانت على
فعل نفسه أحاط علمه بما يحلف عليه فكلف ما يقدر عليه، وهكذا إذا كانت على
الإثبات على فعل الغير لأنه لا يثبت شيئا حتى يقطع به، فإذا كانت على النفي
لفعل الغير لم يحط علمه بأن الغير لم يفعل ما فعل كذا لأنه قد يفعله ولا يعلم.
مسألة 35: إذا شهد عنده شاهدان ظاهرهما العدالة فحكم بشهادتهما ثم
تبين أنهما كانا فاسقين قبل الحكم نقض حكمه، وللشافعي فيه قولان: قال
أبو العباس والمزني: أحدهما ينقضه كما قلناه، والآخر لا ينقضه، وبه قال أبو حنيفة،
وقال أبو إسحاق: ينقضه قولا واحدا، كما قلناه.
دليلنا: قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن
تصيبوا قوما بجهالة، فأمر بالتثبت والتبين فإذا علمه فاسقا وجب رد شهادته ونقض
ما حكم به.
وأيضا فإن الشرع إنما قرر الحكم بشهادة من ظاهره العدالة فإذا علم أنه
حكم بمن ظاهره الفسق فقد حكم بغير الشرع فوجب نقضه، وأيضا رد شهادة
الفاسق مجمع عليه منصوص فيجب أن ينقض حكمه بذلك.
43

مسألة 36: إذا حكم بشهادة نفسين في قتل، وقتل المشهود عليه ثم بان أن
الشهود كانوا فساقا قبل الحكم بالقتل سقط القود، وكان دية المقتول المشهود
عليه من بيت المال، وقال أبو حنيفة: الدية على المزكين، وقال الشافعي: الدية على
الحاكم وأين تجب على قولين: أحدهما على عاقلته، والآخر في بيت المال.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم فإنهم رووا أن ما أخطات القضاة من
الأحكام فعلى بيت المال.
مسألة 37: إذا شهد أجنبيان أنه أعتق سالما في حال موته وهو الثلث،
وشهد وارثان أنه أعتق غانما في هذه الحالة وهو الثلث، ولم يعلم السابق منهما،
أقرع بينهما فمن خرج اسمه أعتق ورق الآخر، وللشافعي فيه قولان: أحدهما مثل
ما قلناه، والثاني يعتق من كل واحد منهما نصفه.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم لأنهم أجمعوا على أن كل أمر مجهول فيه
القرعة، وهذا من ذلك.
مسألة 38: إذا ادعى رجل على رجل حقا ولا بينة له فعرض اليمين على
المدعى عليه فلم يحلف ونكل ردت اليمين على المدعي فيحلف ويحكم له، ولا
يجوز الحكم على المدعى عليه بنكوله، وبه قال الشعبي والنخعي ومالك
والشافعي.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا ترد اليمين على المدعي بحال فإن كان التداعي
في مال كرر الحاكم اليمين على المدعى عليه ثلاثا فإن حلف وإلا قضى عليه
بالحق بنكوله وإن كان في قصاص، وقال أبو حنيفة: يحبس المدعى عليه أبدا
حتى يقر بالحق أو يحلف على نفيه، وقال أبو يوسف ومحمد: يكرر عليه اليمين
ثلاثا ويقضى عليه بالدية وأما إذا كانت الدعوى في طلاق أو نكاح فإن اليمين لا
تثبت في هذه الأشياء في جنبة المدعى عليه فلا يتصور فيهما نكول، ونحن نفرد
44

هذا القول بالكلام.
وقال ابن أبي ليلى: يحبس المدعى عليه في جميع المواضع حتى يحلف أو
يقر.
فالخلاف مع أبي حنيفة في فصلين: أحدهما في الحكم بالنكول والثاني في
رد اليمين.
دليلنا: على أن اليمين ترد: إجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضا قوله تعالى:
ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم،
فأثبت الله يمينا مردودة بعد يمين، فاقتضى ذلك أن اليمين ترد في بعض
المواضع بعد يمين أخرى.
فإن قيل: الآية تقتضي رد اليمين والإجماع أن المدعى عليه إذا حلف لم ترد
اليمين بعد ذلك على المدعي.
قيل: لما أجمعوا على أنه لا يجوز رد اليمين بعد اليمين عدل بالظاهر عن هذه
وعلم أن المراد به أن ترد أيمان بعد وجوب أيمان، ويدل عليه أيضا قوله عليه
السلام: المطلوب أولى باليمين من الطالب، ولفظة أولى من وزن أفعل وحقيقتها
الاشتراك في الحقيقة وتفضيل أحدهما على الآخر، فاقتضى الخبر أن الطالب
والمطلوب يشتركان في اليمين لكن للمطلوب مزية عليه بالتقديم.
وأما الدليل على أن المدعى عليه لا يحكم عليه بمجرد النكول، أن الأصل
براءة الذمة، وإيجاب الحكم عليه بالنكول يحتاج إلى دليل.
مسألة 39: إذا نكل مدعى عليه ردت اليمن على المدعي في سائر الحقوق،
وبه قال الشعبي والنخعي والشافعي، وقال مالك: إنما ترد اليمين فيما يحكم به
بشاهد وامرأتين دون غيره من النكاح والطلاق ونحوه.
دليلنا: عموم الأخبار التي وردت في اليمين.
وأيضا الأنصار لما ادعوا على اليهود أنهم قتلوا عبد الله بخيبر قال لهم النبي
45

صلى الله عليه وآله: تحلفون خمسين يمينا، وتستحقون دم صاحبكم، فقالوا: من
لم نشاهده كيف نحلف عليه؟ فقال: يحلف لكم اليهود خمسين يمينا، فقالوا:
إنهم كفار، فنقل النبي صلى الله عليه وآله اليمين من جنبة المدعي إلى جنبة
المدعى عليهم، وهذا حكم برد اليمين عند النكول، وكانت الدعوى في قتل
العمد، والدماء لا يحكم فيها بشاهد وامرأتين.
مسألة 40: إذا حلف المدعي، ثم أقام المدعي البينة بالحق لم يحكم له بها،
وبه قال ابن أبي ليلى وداود، وقال باقي الفقهاء: إنه يحكم بها.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضا قوله عليه السلام: من حلف
فليصدق، ومن حلف له فليرض، ومن لم يفعل فليس من الله في شئ.
مسألة 41: إذا ادعى على رجل حقا وقال: ليس لي بينة وكل بينة لي فهي
كاذبة، فحلف المدعى عليه ثم أقام البينة قال محمد: لا يحكم له بذلك لأنه
جرح البينة، وقال الشافعي وأبو يوسف: يحكم له بها لأنه يجوز أن يكون نسي
بينته فكذب على اعتقاده، وهذا الفرع يسقط عنا لأن أصل المسألة عندنا باطل
وقد دللنا عليه.
مسألة 42: إذا ادعى رجل على امرأة نكاحا أو المرأة على زوجها طلاقا أو
العبد على سيده عتقا ولا بينة مع المدعي لزم المدعى عليه اليمين، فإن حلف وإلا
ردت اليمين على المدعي فحلف وحكم له به، وبه قال الشافعي.
وقال أبو حنيفة: لا تلزم اليمين في هذه الدعاوي بحال.
وقال مالك: إذا كان مع المدعي شاهد واحد لزم المدعى عليه اليمين، وإن
لم يكن معه شاهد لم يلزم المدعى عليه اليمين.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وقوله عليه السلام: البينة على المدعي
46

واليمين على المدعى عليه، ولم يفصل، وروي عن ركانة أتى النبي صلى الله عليه
وآله فقال: إني طلقت امرأتي البتة، فقال: ما أردت والله بها إلا واحدة، فاستحلفه
النبي صلى الله عليه وآله على الطلاق.
مسألة 43: إذا كان بين رجلين عداوة ظاهرة مثل أن يقذف أحدهما
صاحبه أو قذف الرجل امرأة فإنه لا تقبل شهادة أحدهما على الآخر، وبه قال
الشافعي، وقال أبو حنيفة: تقبل ولا تأثير للعداوة في رد الشهادة بحال.
دليلنا: ما روى طلحة بن عبيد الله قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وآله
مناديا فنادى لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين، والعدو متهم، وقال عليه السلام: لا
تقبل شهادة الخائن والخائنة ولا الزاني ولا الزانية، ولا ذي غمر على أخيه، " وذو
الغمر من كان في قلبه حقد أو بغض ".
مسألة 44: تقبل شهادة الوالد لولده والولد لوالده وتقبل شهادة الوالد على
ولده ولا تقبل شهادة الولد على والده، وبه قال عمر وعمر بن عبد العزيز والمزني
وأبو ثور وإحدى الروايتين عن شريح، واختاره المزني، وقال باقي الفقهاء: إنها لا
تقبل.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضا قوله تعالى: واستشهدوا شهيدين
من رجالكم، وقال تعالى: وأشهدوا ذوي عدل منكم، وذلك عام.
مسألة 45: شهادة الولد على والده لا تقبل بحال، وقال الشافعي: إن تعلق
بالمال أو بما يجري مجرى المال كالدين والنكاح والطلاق قبلت، وإن شهد عليه
بما يتعلق بالبدن كالقصاص وحد الفرية فيه وجهان: أحدهما لا تقبل والثاني
- وهو الأصح - أنها تقبل.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم فإنهم لا يختلفون فيه.
47

مسألة 46: إذا أعتق رجل عبدا ثم شهد المعتق لمولاه قبلت شهادته، وبه
قال جميع الفقهاء، وحكي عن شريح أنه قال: لا تقبل.
دليلنا: إجماع الفرقة.
مسألة 47: تقبل شهادة الأخ لأخيه، وبه قال جميع الفقهاء، وقال
الأوزاعي: لا تقبل.
وقال مالك: إن شهد له في غير النسب قبلت، وإن شهد له في النسب فإن
كانا أخوين من أم فادعى أحدهما أخا من أب وشهد له آخر لم يقبل ذلك.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وما قدمناه في المسألة أيضا يدل عليه،
وروي عن عمر وابن عمر وابن الزبير أنهما قبلا شهادة الأخ لأخيه ولا مخالف
لهما.
مسألة 48: تقبل شهادة الصديق لصديقه، وإن كان بينهما مهاداة وملاطفة،
وبه قال جميع الفقهاء إلا مالكا فإنه قال: إذا كان بينهما مهاداة وملاطفة لا تقبل
شهادته، وإن لم تكن قبلت.
دليلنا: ما قلناه في المسألة الأولى سواء.
مسألة 49: تقبل شهادة أحد الزوجين للآخر، وبه قال الشافعي، وقال أهل
العراق: لا تقبل، وقال النخعي وابن أبي ليلى: تقبل شهادة الزوج لزوجته، ولا
تقبل شهادة الزوجة لزوجها.
دليلنا: ما قلناه في المسألة الأولى سواء.
تفصيل الشافعي في من تقبل شهادته ومن لا تقبل
مسألة 50: لا يجوز قبول شهادة من لا يعتقد إمامة الأئمة الاثني عشر ولا
48

منهم إلا من كان عدلا يعتقد العدل والتوحيد ونفي القبيح عن الله تعالى، ونفي
التشبيه، ومن خالف في شئ من ذلك كان فاسقا لا تقبل شهادته.
وقال الشافعي: أهل الآراء على ثلاثة أضرب منهم من نخطيه ولا نفسقه
كالمخالف في الفروع فلا ترد شهادته إذا كان عدلا، ومنهم من نفسقه ولا نكفره
كالخوارج والروافض نفسقهم ولا نكفرهم، ومنهم من نكفره وهم القدرية الذين
قالوا بخلق القرآن ونفي الرؤية وإضافة المشيئة إلى نفسه، وقالوا: إنا نفعل الخير
والشر معا، فهؤلاء كفار، ولا تقبل شهادتهم، وحكمهم حكم الكفار، وبه قال
مالك وشريك وأحمد بن حنبل.
وقال ابن أبي ليلى وأبو حنيفة: لا أرد شهادة أحد من هؤلاء، والفسق الذي
ترد به الشهادة ما لم يكن على وجه التدين كالفسق بالزنى والسرقة وشرب الخمر
فأما من تدين به واعتقده مذهبا ودينا يدين الله به لم أرد شهادته كأهل الذمة عنده
فسقوا على سبيل التدين، وكذلك أهل البغي فسقوا عنده فوجب أن لا ترد
شهادتهم.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم ولأنه قد دلت الأدلة القاطعة على صحة
هذه الأصول التي أشرنا إليها ليس هاهنا موضع ذكرها، والمخالف فيها كافر
والكافر لا تقبل شهادته.
مسألة 51: اللعب بالشطرنج حرام على أي وجه كان، ويفسق فاعله به،
ولا تقبل شهادته، وقال مالك وأبو حنيفة: مكروه، إلا أن أبا حنيفة قال: هو يلحق
بالحرام، وقالا جميعا ترد شهادته، وقال الشافعي: هو مكروه وليس بمحظور، ولا
ترد شهادة اللاعب به إلا ما كان فيه قمار أو ترك الصلاة حتى يخرج وقتها
متعمدا، ويتكرر ذلك منه، وإن لم يتعمد ترك الصلاة حتى يذهب وقتها، وقال
سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير: هو مباح.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضا روى الحسن البصري عن رجال
49

من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله عن النبي عليه السلام أنه نهى عن اللعب
بالشطرنج، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج
فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون، فشبهها بالأصنام المعبودة، وروي
عنه أنه قال: اللاعب بالشطرنج من أكذب خلق الله يقول مات وما مات - يعني
قولهم شاة مات -.
مسألة 52: من شرب نبيذا حتى يسكر لم تقبل شهادته، وكان فاسقا بلا
خلاف، وإن شرب منه قليلا لا يسكر مثله فعندنا لا تقبل شهادته ويحد ويحكم
بفسقه، وبه قال مالك، وقال الشافعي: أحده ولا أفسقه ولا أرد شهادته، وقال
أبو حنيفة: لا أحده ولا أفسقه ولا أرد شهادته إذا شرب مطبوخا فإن شرب نقيعا فهو
حرام لكنه لا يفسق بشربه.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، ولأنا قد دللنا في كتاب الأشربة على أن
النبيذ حكمه حكم الخمر سواء، ومن أحكام الخمر تفسيق شاربه ورد شهادته بلا
خلاف.
مسألة 53: اللاعب بالنرد يفسق وترد شهادته وبه قال أبو حنيفة ومالك.
وقال الشافعي على ما نص عليه أبو إسحاق في الشرح: أنه مكروه وليس
بمحظور ولا يفسق فاعله ولا ترد شهادته وهو أشد كراهة من الشطرنج، وقال قوم
من أصحابه: إنه حرام ترد شهادة اللاعب به.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وروى أبو موسى الأشعري قال: سمعت
النبي صلى الله عليه وآله يقول: من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله، وروى
سليمان بن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وآله قال: من لعب بالنرد فكأنه
غمر يده في لحم الخنزير ودمه.
50

في أن المغني فاسق
مسألة 54: الغناء محرم يفسق فاعله وترد شهادته.
وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: هو مكروه.
وحكي عن مالك أنه قال: هو مباح، والأول هو الأظهر لأنه سئل عن الغناء
فقال: هو فعل الفساق عندنا.
وقال أبو يوسف: قلت لأبي حنيفة في شهادة المغني والمغنية والنائح
والنائحة، فقال: لا أقبل شهادتهما، وقال سعيد بن إبراهيم الزهري: هو مباح غير
مكروه، وبه قال عبد الله بن الحسن العنبري، قال أبو حامد: ولا أعرف أحدا من
المسلمين حرم ذلك، ولم أعرف مذهبنا.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضا قوله تعالى: فاجتنبوا الرجس من
الأوثان واجتنبوا قول الزور، وقال محمد بن الحسن: قول الزور هو الغناء، وقال
تعالى: ومن الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم
ويتخذها هزوا، وقال ابن مسعود: لهو الحديث الغناء، وقال ابن عباس: هو الغناء
وشراء المغنيات وأيضا ما رواه أبو أمامة الباهلي أن النبي صلى الله عليه وآله نهى
عن بيع المغنيات وشرائهن والتجارة فيهن، وأكل أثمانهن وثمنهن حرام، وروى
ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وآله قال: إن الغناء ينبت النفاق في القلب كما
ينبت الماء البقل.
في أن الغناء محرم كان بالصوت أو بآلة غير الصوت
مسألة 55: الغناء محرم سواء كان صوت المغني أو بالقضيب أو بالأوتار
مثل العيدان والطنابير والنايات والمعازف وغير ذلك، وأما الضرب بالدف في
الأعراس والختان فإنه مكروه.
وقال الشافعي: صوت المغني والقصب مكروه وليس بمحظور، وضرب
الأوتار محرم كله وضرب الدف في الختان والأعراس مباح.
51

دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، والأخبار التي قدمناها تدل على ذلك
فإنها عامة في سائر أنواع الغناء.
مسألة 56: إنشاد الشعر مكروه، وقال الشافعي: إذا لم يكن كذبا ولا
هجوا ولا تشبيبا بالنساء فهو مباح.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله قال:
لئن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعرا، فإن قالوا:
المعنى فيه ما كان فيه فحش وهجو.
وقال أبو عبيدة: معناه الاستكثار منه بحيث يكون الذي يتعلم من الشعر
ويحفظ منه أكثر من القرآن والفقه، قلنا نحن نحمله على عمومه ولا نخصه إلا
بدليل، وقوله تعالى: والشعراء يتبعهم الغاوون، يدل على ذلك أيضا.
في كراهة إنشاد الشعر والأخبار التي وردت في ذمه وعيبه
مسألة 57: شهادة ولد الزنى لا تقبل، وإن كان عدلا، وبه قال مالك إلا أنه
قال: إنها لا ترد بالزنى، وقال الشافعي وباقي الفقهاء: لا تقبل.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وروي عنه عليه السلام أنه قال: ولد الزنى
شر الثلاثة، يعني من الزاني والزانية.
مسألة 58: من أقيم عليه حد في معصية من قذف أو شرب خمر أو زنا أو
لواط أو غير ذلك ثم تاب وصار عدلا قبلت شهادته، وبه قال أكثر الفقهاء إلا
خلاف أبي حنيفة في القاذف وقد مضى، وقال مالك: كل من حد في معصية لا
أقبل شهادته بها.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضا قوله تعالى: والذين يرمون
المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم، ولم يفصل، وقال تعالى:
52

واستشهدوا شهيدين من رجالكم، ولم يفرق.
مسألة 59: البلدي والبدوي والقروي تقبل شهادة بعضهم على بعض، وبه
قال أهل العراق والشافعي، وقال مالك: لا أقبل شهادة البدوي على الحضري إلا
في الجراح.
دليلنا: ما قلناه في المسألة الأولى سواء.
مسألة 60: إذا شهد صبي أو عبد أو كافر عند الحاكم فرد شهادتهم ثم بلغ
الصبي وأعتق العبد وأسلم الكافر فأعادوها قبلت، وكذلك إن شهد بالغ مسلم
حر بشهادة فبحث عن حاله فبان فاسقا ثم عدل فأقامها بعينها قبلت منه وحكم
بها، وبه قال داود وأبو ثور والمزني، وقال مالك: أرد الكل، وقال أهل العراق
والشافعي: أقبل الكل إلا الفاسق الحر البالغ فإنه إذا ردت شهادته لفسقه ثم
أعادها وهو عدل لا تقبل شهادته.
دليلنا: كل ظاهر ورد بقبول شهادة العدل فإنها محمولة على عمومها.
مسألة 61: شهادة المجني مقبولة وهو إذا كان على رجل دين يعترف به
سرا ويجحده جهرا فجنى له صاحب الدين شاهدين يريانه ولا يراهما ثم حاوره
الحديث فاعترف به فسمعاه وشاهداه صحت الشهادة، وبه قال ابن أبي ليلى
وأبو حنيفة وعمرو بن حريث القاضي والشافعي.
وذهب شريح إلى أنها غير مقبولة، وبه قال النخعي والشعبي، وقال مالك:
إن كان المشهود عليه جلدا قبلت، وإن كان مغفلا يخدع مثله لم أقبلها عليه.
دليلنا: ما قلناه في المسألة الأولى سواء، وأيضا قوله تعالى: إلا من شهد
بالحق وهم يعلمون، وهذا شهد بالحق لأنه علمه.
53

مسألة 62: إذا مات وخلف ابنين وتركة فادعى أجنبي دينا على الميت فإن
اعترف الابنان استوفى من حقهما، وإن اعترف به أحدهما فإن كان عدلا فهو
شاهدان فهو شاهد المدعي، وإن كان معه شاهد آخر شهد له بالحق استوفى الدين
من حقهما، وإن لم يكن معه شاهد آخر فإن حلف مع شاهده ثبت الدين أيضا
واستوفاه من حقهما، وإن لم يحلف أو لم يكن المعترف عدلا كان له نصف
الدين في حصة المعترف، وبه قال الشافعي.
وقال أبو حنيفة: يأخذ من نصيب المقر جميع الدين، وقال أبو عبيد بن
خربوذ وأبو جعفر الأسترآبادي من أصحاب الشافعي: فيها قول آخر كقول أبي
حنيفة.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضا فإن المدعي وأحد الابنين قد
اعترف بالدين على الميت، وإن الدين متعلق بالتركة في حقه وحق أخيه بدليل
أن البينة لو قامت به استوفاه منهما فإذا كان كذلك كان تحقيق الكلام " لك
على وعلى أخي " ولو قال هذا لم يجب عليه من حقه إلا نصف الدين.
مسألة 63: يثبت القصاص بالشهادة على الشهادة، وبه قال الشافعي،
وقال أبو حنيفة: لا يثبت.
دليلنا: قوله تعالى: واستشهدوا شهيدين من رجالكم، وقال: وأشهدوا ذوي
عدل منكم، ولم يفرق، وأيضا عموم الأخبار التي وردت في جواز قبول الشهادة
على الشهادة يدل على ذلك.
مسألة 64: حقوق الله تعالى مثل حد الزنى، وشرب الخمر وما أشبهه لا
يثبت بالشهادة على الشهادة، وبه قال أبو حنيفة، وللشافعي فيه قولان: أحدهما مثل
ما قلناه، والثاني - وهو الأقيس - أنها تثبت، وبه قال مالك.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم فإنهم لا يختلفون في ذلك أنه لا يثبت
54

بالشهادة على الشهادة.
مسألة 65: الظاهر من المذهب أنه لا تقبل شهادة الفرع مع تمكن حضور
شاهد الأصل، وإنما يجوز ذلك مع تعذره إما بالموت أو بالمرض المانع من
الحضور أو الغيبة، وبه قال الفقهاء إلا أنهم اختلفوا في حد الغيبة.
فقال أبو حنيفة: ما يقصر فيه الصلاة وهو ثلاثة أيام، وقال أبو يوسف: هو ما لا
يمكنه أن يحضر معه ويقيم الشهادة ويعود فيبيت في منزله، وقال الشافعي:
الاعتبار بالمشقة فإن كان عليه مشقة في الحضور حكم بشهادة الفرع، وإن لم
تكن مشقة لم يحكم، والمشقة قريب مما قال أبو يوسف، وفي أصحابنا من قال:
يجوز أن يحكم بذلك مع الإمكان.
دليلنا: على الأول أنه إجماع، والثاني فيه خلاف والدليل على جوازه أن
الأصل جواز قبول الشهادة على الشهادة، وتخصيصها بوقت دون وقت أو على وجه دون
وجه يحتاج إلى دليل.
وأيضا روى أصحابنا أنه إذا اجتمع شاهد الأصل وشاهد الفرع واختلفا فإنه
تقبل شهادة أعدلهما حتى أن في أصحابنا من قال: تقبل شهادة الفرع وتسقط
شهادة الأصل لأنه يصير الأصل مدعى عليه، والفرع بينة المدعي للشهادة على
الأصل.
مسألة 66: لا تقبل شهادة النساء على الشهادة إلا في الديون والأملاك
والعقود، فأما الحدود فلا يجوز أن تقبل فيها شهادة على شهادة، وقال قوم: لا
تقبل شهادة النساء على الشهادة بحال في جميع الأشياء، وبه قال الشافعي.
وقال أبو حنيفة: إن كان الحق مما يثبت بشهادة النساء أو لهن مدخل فيه
قبلت شهادتهن على الشهادة، وإن كان مما لا مدخل لهن فيه لم تقبل.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم.
55

مسألة 67: إذا عدل شاهد الفرع شاهد الأصل ولم يسمياه لم يقبل ذلك،
وبه قال جميع الفقهاء، وقال أبو حنيفة: يحكم بذلك.
دليلنا: أنه إذا لم يسمياه تعرف عدالة الأصل، وقد يعدلان من عندهما أنه
عدل وإن لم يكن عدلا.
مسألة 68: إذا سميا شاهد الأصل ولم يعدلا سمعها الحاكم، وبحث عن
عدالة الأصل فإن وجده عدلا حكم به، وإلا توقف فيه، وبه قال الشافعي، وقال
أبو يوسف والثوري لا تسمع هذه الشهادة لأنهما لم يتركا تزكية الأصل إلا لريبة.
دليلنا: أنهما إنما يشهدان بما يعلمان، وقد يعلمان شهادة الأصل وإن لم
يعلما كونهما عدلين فلا يجوز لهما أن يشهدا بذلك، وعلى الحاكم أن يبحث عن
عدالة الأصل، لا يتركان ذلك إلا لريبة بل لما قلناه.
مسألة 69: ما يثبت بشهادة الاثنين في الأصل إذا شهد شاهدان على شهادة
أحدهما وشاهدان على شهادة الآخر ثبت بلا خلاف شهادة شاهد الأصل، وإن
شهد شاهد على شهادة أحدهما، وشاهد آخر على شهادة الآخر لم يثبت بهذه
الشهادة ما شهدا به، وبه قال علي عليه السلام، وفي التابعين شريح والنخعي
والشعبي وربيعة، وفي الفقهاء أبو حنيفة وأصحابه والثوري والشافعي ومالك.
وذهب قوم إلى أنه يثبت بذلك ويحكم الحاكم به ذهب إليه ابن شبرمة
وابن أبي ليلى وعثمان البتي وعبد الله بن الحسن العنبري وأحمد وإسحاق.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضا ما اعتبرناه مجمع على ثبوت
الحكم به، وما قالوه ليس عليه دليل، وأيضا الأصل أن لا تثبت شهادة الفرع إلا
بدلالة شرعية، وما اعتبرناه مجمع عليه، وما قالوه ليس عليه دليل.
مسألة 70: إذا شهد شاهدان على شهادة رجل ثم شهدا هما على شهادة
56

الآخر فإنه تثبت شهادة الأول بلا خلاف، وعندنا تثبت شهادة الثاني أيضا، وبه
قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري ومالك وربيعة وأحد قولي الشافعي الصحيح
عندهم، والقول الثاني أنه لا يثبت حتى يشهد آخران على شهادة الآخر، وهو
اختيار المزني.
دليلنا: الأخبار التي وردت بأن شهادة الأصل لا تثبت إلا بشاهدين،
والشاهدان قد ثبتا في كل واحد من الشاهدين.
مسألة 71: تثبت بالشهادة على الشهادة شهادة الأصل، ولا يقومون مقام
الأصل في إثبات الحق، وللشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه، والآخر أنهم
يقومون مقام الأصل في إثبات الحقوق.
دليلنا: أن شاهد الفرع لو كان يقوم مقام الأصل في إثبات الحق لما
جازت الشهادة على الشهادة لأنه إن كان الحق إثبات فعل كالقتل والإتلاف لم
يثبت بشهادة الفرع لأنه يحتاج إلى مشاهدة، والفرع ما شاهد الفعل، وإن كان
الحق عقدا افتقر إلى سماع ومشاهدة، والفرع ما سمع وما شاهد فلما أجمعنا على
جواز الكل ثبت أن الفرع يثبت بشهادة الأصل بلا شبهة.
مسألة 72: إذا شهد اثنان بأنه سرق ثوبا قيمته ثمن دينار وشهد آخران أنه
سرق ذلك الثوب بعينه، وقيمته ربع دينار، ثبت عليه ربع دينار وبه قال
أبو حنيفة.
وقال الشافعي: يثبت ثمن دينار لأنهما شهدا أن قيمته ثمن دينار، ثبت عليه
ربع دينار، وإن ما زاد عليه ليس بقيمة له فثبت الثمن بشهادة الأربعة وما زاد
تعارضت البينتان.
دليلنا: أنه لا تعارض بين الشهادتين فينبغي أن تثبت البينتين معا فيثبت
ربع دينار، ويجري مجرى راويين الخبر الواحد أحدهما روي زيادة فائدة فالزائد
57

أولى في الأخذ به من الناقص.
مسألة 73: إذا شهد عدلان عند الحاكم بحق ثم فسقا قبل أن يحكم بشهادتهما حكم
بشهادتهما ولم يرده، وبه قال أبو ثور والمزني، وقال باقي الفقهاء:
لا يحكم بشهادتهما.
دليلنا: إن الاعتبار بالعدالة حين الشهادة لا حين الحكم فإذا كانا عدلين
حين الشهادة وجب الحكم بشهادتهما، وأيضا إذا شهدا وهما عدلان وجب الحكم
بشهادتهما، فمن قال: إذا فسقا بطل هذا الوجوب، فعليه الدلالة.
مسألة 74: إذا شهد شاهدان بحق وعرف عدالتهما ثم رجعا عن الشهادة
قبل الحكم بها لم يحكم، وبه قال الجماعة إلا أبا ثور فإنه قال: يحكم بالشهادة.
دليلنا: أنهما إذا رجعا لم يكن لهما شهادة فلا يجوز الحكم كما لو اجتهد
الحاكم ثم تغير اجتهاده قبل الحكم فإنه لا يحكم.
مسألة 75: إذا شهد شاهدان بحق وعرف عدالتهما وحكم الحاكم
فاستوفى الحق ثم رجعا عن الشهادة لم ينقض حكمه، وبه قال جميع الفقهاء،
وقال سعيد بن المسيب والأوزاعي: ينقضه.
دليلنا: إن الذي حكم به مقطوع به بالشرع ورجوعهم يحتمل الصدق
والكذب فلا ينقض به ما قد قطع عليه.
مسألة 76: إذا شهد شاهدان على رجل بما يوجب قتله أو قطعه ثم رجعا
وقالا: عمدنا وقصدنا أن يقتل أو يقطع، فعليهم القود، وبه قال ابن شبرمة
والشافعي وأحمد وإسحاق، وقال ربيعة والثوري وأبو حنيفة: لا قود عليهم.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم وعليه إجماع الصحابة، روي أن شاهدين
58

شهدا عند أبي بكر على رجل بسرقة فقطعه ثم قالا: أخطأنا عليه والسارق غيره،
فقال: لو علمت أنكما تعمدتما لقطعتكما، وروى سفيان عن مطرف عن الشعبي
قال: شهد شاهدان عند علي عليه السلام على رجل بالسرقة فقطعه ثم أتياه بآخر
فقالا: هذا الذي سرق وأخطأنا على الأول، فقال: لو علمت أنكما تعمدتما
لقطعتكما، وهما قضيتان معروفتان ولا يعرف لهما منكر، ثبت أنهم أجمعوا عليه.
مسألة 77: إذا شهد شاهدان على طلاق امرأة بعد الدخول بها وحكم
الحاكم بذلك ثم رجعا عن الشهادة لم يلزمها مهر مثلها ولا شئ منه، وبه قال
أبو حنيفة ومالك.
وقال عبيد الله بن الحسن العنبري: عليهما مهر مثلها، وبه قال الشافعي.
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة فمن أوجب عليها شيئا فعليه الدلالة، وأيضا
ليس خروج البضع عن ملك الزوج له قيمة بدلالة أنه لو طلق زوجته في مرضه
لم يلزم مهر مثلها من الثلث كما لو أعتق عبده أو وهبه فلما بطل ذلك ثبت أنه لا
قيمة له، وكان يجب أيضا لو كان عليه دين يحيط بالتركة فطلق زوجته في مرضه
أن لا ينفذ الطلاق كما لا ينفذ العتق والعطاء فلما نفذ طلاقها ثبت أنه لا قيمة له
لخروجه عن ملكه فإذا ثبت أنه لا قيمة له لم يلزمه ضمان كما لو أتلفا عليه ما لا
قيمة له.
مسألة 78: إذا شهدا عليه بالطلاق قبل الدخول بها ففرق الحاكم بينهما
ثم رجعا غرما نصف المهر، وبه قال أبو حنيفة.
وللشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه وهو اختيار المزني وهو أضعف
القولين عندهم، إلا أنه يقول نصف مهر مثلها، وعندنا نصف المهر المسمى،
والقول الآخر أنهما يضمنان كمال مهر مثلها وهو أصح القولين عندهم.
دليلنا: أنه إذا حيل بينهما قبل الدخول لزمه نصف المهر فوجب أن لا
59

يرجع عليهما إلا بقدر ما عزم، وأيضا الأصل براءة الذمة، وما ألزمناهما مجمع
عليه، وما زاد عليه ليس عليه دليل، وأيضا فإنه إذا طلقها قبل الدخول بها عاد إليه
نصف الصداق، فلو قلنا يرجع عليهما بكل المهر حصل له مهر ونصف، وذلك
باطل.
مسألة 79: إذا شهدا بدين أو بعتق وحكم بذلك عليه ثم رجعا كان
عليهما الضمان.
واختلف أصحاب الشافعي في ذلك على طريقين: فقال أبو العباس وشيوخ
أصحابه: المسألة على قولين مثل مسألة الغصب، وهي أنه لو كان في يده عبد
فأعتقه أو وهبه وأقبضه ثم ذكر أنه كان لزيد فهل عليه قيمته؟ على قولين، كذلك
هاهنا، ومنهم من قال: لا غرم عليه هاهنا قولا واحدا ومسألة الغصب على قولين،
وقال أبو حامد: والمذهب أنها على قولين - كما قال أبو العباس -: أحدهما لا
ضمان وهو الضعيف، والثاني عليهما الضمان وهو أصحهما، وبه قال أبو حنيفة.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم على أن شاهد الزور يضمن ما يتلف
بشهادته وهذا من ذلك.
مسألة 80: إذا شهد رجل وعشر نسوة بمال على رجل وحكم بقولهم ثم
رجع الكل عن الشهادة كان على الرجل حق من المال والباقي على النسوة، وبه
قال أبو حنيفة والشافعي.
وقال أبو يوسف ومحمد: على الرجل النصف وعليهن النصف لأن الرجل
نصف البينة فضمن نصف المال.
دليلنا: أن المال يثبت بشهادة الجميع فضمن الجميع غرامته والرجل
سدس البينة فيجب أن لا يلزمه أكثر من ذلك، ولأن كل امرأتين في مقابلة رجل
فكانت العشر نسوة بإزاء خمسة رجال فصار الشاهد بالحق كأنهم ستة رجال،
60

ولو كانوا ستة رجال فرجعوا لم يلزمه أكثر من السدس كذلك هاهنا على
الرجل السدس، وعلى كل امرأتين السدس.
61

كتاب الدعاوي والبينات
مسألة 1: إذا ادعى نفسان دارا وهما فيها أو الثوب ويدهما عليه، ولا بينة
لواحد منهما كان العين بينهما نصفين، وبه قال الشافعي، إلا أنه قال: يحلف كل
واحد منهما لصاحبه.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضا روى أبو موسى الأشعري أن رجلين
تنازعا دابة ليس لأحدهما بينة فجعلها النبي صلى الله عليه وآله بينهما.
مسألة 2: إذا ادعيا ملكا مطلقا ويد أحدهما على العين كانت بينته أولى،
وكذلك إذا أضافاه إلى سبب فإن ادعى صاحب اليد الملك مطلقا والخارج
أضافه إلى سبب كانت بينة الخارج أولى، وبه قال الشافعي.
وقال أصحاب الشافعي: إذا تنازعا عينا يد أحدهما عليها وأقام كل واحد
منهما بينة سمعنا بينة كل واحد منهما وقضينا لصاحب اليد سواء تنازعا ملكا
مطلقا أو ما يتكرر، فالمطلق كل ملك إذا لم يذكر أحدهما سببه وما يتكرر كآنية
الذهب والفضة، والصفر والحديد يقول كل واحد منهما: صيغ في ملكي، وهذا
يمكن أن يصاع في ملك كل واحد منهما، وكذلك ما يمكن نسجه مرتين
كالصوف والخز وما لا يتكرر سببه كثوب قطن وإبريسم فإنه لا يمكن أن ينسج
دفعتين، وكذلك النتاج لا يمكن أن تولد الدابة مرتين، وكل واحد منهما يقول:
63

ملكي نسج في ملكي، وبه قال شريح والنخعي والحكم ومالك والشافعي، وهل
يحلف مع البينة؟ على قولين.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن كان المدعى ملكا مطلقا أو ما يتكرر سببه لم
تسمع بينة المدعى عليه، وهو صاحب اليد، وإن كان ملكا لا يتكرر سببه سمعنا
بينة الداخل - وهو الذي يقتضيه مذهبنا، وقد ذكرناه في النهاية والمبسوط
والكتابين في الأخبار -.
وقال أحمد بن حنبل: لا أسمع بينة صاحب اليد بحال في أي مكان كان،
وقد روى ذلك أصحابنا أيضا.
وتحقيق الخلاف مع أبي حنيفة هل تسمع بينة الداخل أم لا؟ عند الشافعي
تسمع، وعنده لا تسمع، والفقهاء يقولون بينة الداخل أولى، وهذه عبارة فاسدة
لأنه إذا كان الخلاف في سماعها سقط أن يقال أولى وهذه المسألة ملقبة به بينة
الداخل والخارج، فإن الداخل من كانت يده على الملك والخارج من لا يد له
عليه.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، والخبر المشهور عن النبي صلى الله عليه
وآله أنه قال: البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه.
ويدل على الأول ما رواه جابر أن رجلين اختصما إلى رسول الله
صلى الله عليه وآله في دابة أو بعير فأقام كل واحد منهما البينة أنها له نتجها، فقضى بها
رسول الله صلى الله عليه وآله للذي في يده، وروى غياث بن إبراهيم عن أبي
عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
عليه السلام اختصم إليه رجلان في دابة، وكلاهما أقام البينة أنه نتجها فقضى بها للذي
هي في يده، وقال: لو لم تكن في يده جعلتها بينهما نصفين.
مسألة 3: إذا شهدت البينة للداخل مضافا قبلناها بلا خلاف بيننا وبين
الشافعي وقد حكيناه، وإن كان بالملك المطلق فإنا لا نقبلها، هذا مخالف ما
64

ذكره في المسألة الثانية، وللشافعي فيه قولان: أحدهما قاله في القديم مثل ما
قلناه، وقال في الجديد: مسموعة.
دليلنا: أخبار أصحابنا، وأيضا إذا شهدت بالملك المطلق يجوز أن تكون
شهدت بالملك لأجل اليد، واليد قد زالت ببينة المدعي فلو حكمنا بشهادتهما
حكمنا بما زال، وبطل فلهذا لا تسمع.
مسألة 4: إذا تنازعا عينا لا يد لواحد منهما عليها، فأقام أحدهما شاهدين،
والآخر أربعة شهود، فالظاهر من مذهب أصحابنا أنه يرجح بكثرة الشهود،
ويحلف، ويحكم له بالحق، وهكذا لو تساويا في العدد وتفاضلا في العدالة
فيرجح بالعدالة وهو إذا كانت إحديهما أوفى عدالة وبه قال مالك، وأومأ
الشافعي إليه في القديم، والذي اعتمده أصحابه وجعلوه مذهبا أنه لا ترجيح
بشئ منهما، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه.
وقال الأوزاعي: أقسط المشهود به على عدد الشهود فاجعل لصاحب
الشاهدين الثلث، ولصاحب الأربعة الثلثين وقد روى ذلك أيضا أصحابنا.
دليلنا: إجماع الفرقة ورواياتهم:
فإنه روى أبو بصير عن أبي عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام أن عليا
عليه السلام أتاه قوم يختصمون في بغلة فقامت لهؤلاء البينة أنهم أنتجوها على
مذودهم ولم يبيعوا ولم يهبوا وقامت لهؤلاء البينة بمثل ذلك فقضى لأكثرهم بينة
واستحلفهم.
وأما الرواية الأخرى فرواها السكوني عن جعفر بن محمد عليه السلام عن
أبيه عن آبائه عن علي عليه السلام أنه قضى في رجلين ادعيا بغلة فأقام أحدهما
شاهدين والآخر خمسة فقال: لصاحب الخمسة خمسة أسهم ولصاحب الشاهدين
سهمان.
والمعول على الأول لأن هذا من طريق العامة أو يحمل على وجه الصلح
65

بينهم بذلك.
مسألة 5: إذا كان مع أحدهما شاهدان ومع الآخر شاهد وامرأتان تقابلتا
بلا خلاف بيننا وبين الشافعي، فأما إن كان مع أحدهما شاهدان ومع الآخر
شاهد واحد وقال أحلف مع شاهدي فإنهما لا يتقابلان، وللشافعي في كل
واحدة منهما قولان: أحدهما مثل ما قلناه، والثاني أنهما يتقابلان.
دليلنا: إن ما اعتبرناه مجمع على تقابلهما وليس على ما قالوه دليل، وأيضا
فإن الشاهدين يشهدان فلا تلحقهما التهمة، والحالف يحلف في حق نفسه فتلحقه
التهمة.
مسألة 6: إذا شهد شاهدان بما يدعيه المدعي، فقال المشهود عليه: أحلفوه
لي مع شاهده، لم يحلف، وبه قال الزهري وأبو حنيفة وأصحابه ومالك
والشافعي، وقال شريح والشعبي والنخعي وابن أبي ليلى: يستحلفه مع البينة.
دليلنا: أن إيجاب اليمين عليه يحتاج إلى شرع والأصل براءة الذمة.
وأيضا روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله قال: البينة على المدعي
واليمين على المدعى عليه، فمن جعلها في جانب واحد فقد ترك الخبر، وروى
جابر أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله في فرس أو بعير فأقام
كل واحد منهما بينة أنه له نتجها فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وآله للذي
هي في يده.
مسألة 7: إذا ادعى على امرأة فقال: هذه زوجتي أو تزوجت بها، لم يلزم
الكشف حتى يقول تزوجت بها بولي مرشد وشاهدي عدل، وبه قال أبو حنيفة.
وللشافعي فيه ثلاثة أوجه: أحدها مثل ما قلناه، والثاني - وهو ظاهر
المذهب - أنه لا بد من الكشف، والثالث ينظر: فإن ادعى عقد النكاح فقال:
66

تزوجت بها، كان ذلك الكشف شرطا، وإن كانت الدعوى الزوجية لم يفتقر
إلى الكشف.
دليلنا: قوله عليه السلام: البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، ولم
يشرط أمرا آخرا غير هذا فمن زاد عليه فعليه الدلالة ولا دلالة عليه.
مسألة 8: إذا ادعى على المرأة الزوجية فأنكرت، كان عليه البينة، وإن لم
يكن له بينة كان عليها اليمين، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: لا يمين عليها.
دليلنا: قوله عليه السلام: البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، ولم
يفصل.
مسألة 9: إذا ادعى بيعا أو صلحا أو إجارة أو نحو ذلك من العقود التي هي
سوى النكاح لا يلزمه الكشف أيضا، وللشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه،
والثاني يلزمه كشفه.
دليلنا: ما قلناه في المسألة الأولى في النكاح سواء.
مسائل تعارض البينتين
مسألة 10: إذا تعارضت البينتان على وجه لا ترجيح لإحداهما على الآخر
أقرع بينهما فمن خرج اسمه حلف وأعطي الحق، هذا هو المعول عليه عند
أصحابنا، وقد روي أنه يقسم بينهما نصفين.
وللشافعي فيه أربعة أقوال: أحدهما تسقطان وهو أصحها، وبه قال مالك،
والثاني يقرع بينهما كما قلناه وهل يحلف أم لا؟ على قولين، وبه قال علي عليه
السلام وابن الزبير، ولابن الزبير فيها قصة، الثالث يوقف أبدا، والرابع يقسم
بينهما نصفين وبه قال ابن عباس والثوري وأبو حنيفة وأصحابه.
دليلنا: إجماع الفرقة على أن القرعة تستعمل في كل أمر مجهول مشتبه
67

وهذا داخل فيه، والأخبار في عين المسألة كثيرة أوردناها في كتب الأخبار.
وروى سعيد بن المسيب أن رجلين اختصما إلى رسول الله
صلى الله عليه وآله في أمر وجاء كل واحد منهما بشهود عدول على عدة واحدة فأسهم النبي
صلى الله عليه وآله بينهما، وقال: اللهم أنت تقضي بينهما، وهذا نص، وقد روي
أنه قسم بينهما نصفين.
وروى أبو موسى الأشعري قال: رجلان ادعيا بعيرا على عهد رسول الله
صلى الله عليه وآله، وبعث كل واحد منهما شاهدين فقسمه النبي
صلى الله عليه وآله بينهما نصفين، وتأول أصحاب الشافعي هذا فقالوا: هذه قضية في عين،
ويحتمل أن يكون إنما فعل ذلك لأن يدهما كانت على المتنازع فيه، وقد روي
في هذا الخبر " ولا بينة مع واحد منهما " وعلى هذا لا معارضة فيه.
مسألة 11: إذا ادعى دارا في يد رجل فقال: هذه الدار التي في يدك لي
وملكي، فأنكر المدعى عليه فأقام البينة أنها كانت في يده أمس أو منذ سنة لم
تسمع هذه البينة.
وللشافعي فيها قولان: أحدهما مثل ما قلناه وهو ما نقله المزني والربيع، وما
نقله البويطي أنها تسمع واختلف أصحابه على طريقين: فقال أبو العباس: المسألة
على قولين، وقال أبو إسحاق: المسألة على قول واحد وهو أنها لا تسمع كما قلناه،
وهو اختيار أبي حامد الإسفرايني، وهو المذهب عندهم.
دليلنا: إن المدعي يدعي الملك في الحال، والبينة تشهد له بالأمس، فقد
شهدت له بغير ما يدعيه فلم تقبل، فإن قالوا: إنها شهدت له بالملك أمس
والملك يستدام إلى أن يعلم زواله، قلنا: لا نسلم أن الملك ثبت بها حتى يكون
مستداما، على أن زوال الأول موجود فلا يزال الثابت بأمر محتمل.
مسألة 12: إذا ادعى دارا في يد رجل فقال: هذه الدار كانت لأبي وقد
68

ورثتها أنا وأخي الغائب منه، وأقام بينة من أهل الخبرة الباطنة والمعرفة أنهما
ورثاه ولا نعرف له وارثا سواهما، انتزعت ممن هي في يده ويسلم إلى الحاضر
نصفها والباقي يجعل في يد أمين حتى يعود الغائب، وبه قال أبو يوسف ومحمد،
وقال أبو حنيفة: يؤخذ من المدعى عليه نصيب الحاضر، ويقر الباقي في يد من هي
في يده حتى يحضر الغائب.
دليلنا: أن الدعوى للميت والبينة بالحق له بدليل أنه إذا حكم بالدار يقضى
منها ديونه وينفذ منها وصاياه، فإذا كانت الدعوى للميت والبينة له حكم له
الحاكم لأنه لا يعبر عن نفسه فحكم له بالبينة التي يقيمها، كالصبي والمجنون،
وإذا ثبت الدار للميت ثبت ميراثا عنه بين ولديه.
مسألة 13: إذا تنازعا عينا من الأعيان عبدا أو دارا أو دابة فادعى أحدهما
أنها له منذ سنتين، والآخر ادعى أنها له منذ شهر وأقام كل واحد منهما بما يدعيه
البينة، أو ادعى أحدهما أنها له منذ سنة، وقال الآخر: هي الآن ملكي، وأقام كل
واحد منهما بما يدعيه البينة الباب واحد والعين المتنازع فيها في يد ثالث كانت
البينة المتقدمة أولى فيه، وبه قال أبو حنيفة واختاره المزني وأصح قولي الشافعي،
وله قول آخر أنهما سواء.
دليلنا: إن البينة إذا شهدت بالملك في الحال مضافا إلى مدة سالفة حكم
بأنه للمشهود له بعد تلك المدة، بدليل أن ما كان من فائدة من نتاج أو ثمرة أو
سبب حادث في المدة كان للمشهود له بالملك، فإذا ثبت هذا فقد شهدت به
إحديهما منذ سنتين، والأخرى منذ شهر فتعارضتا فيما تساويا فيه وهو مدة شهر،
وسقطتا، وبقى ما قبل الشهر ملك وبينة لا منازع له فيه فيحكم له بذلك قبل
الشهر فلا يزال عنه بعد ثبوته إلا بدليل.
وأيضا التي قد شهدت بالملك منذ سنتين قد أضافته إلى ملكه هذه المدة
والتي شهدت به لغيره منذ شهر لا يصح بالملك له إلا بأن يكون قد ملكه من
69

الذي هو له منذ سنتين، ولا خلاف أنا لا نحكم بأنه ملك عنه لأنه لو كان عنه
ملك لوجب أن يكون له الرجوع عليه بالدرك، فإذا لم يحكم بأنه عنه ملك
بقي الملك على صاحبه حتى يعلم زواله عنه.
مسألة 14: إذا تنازعا دابة فقال أحدهما: ملكي، وأطلق وأقام بها بينة، وقال
الآخر: ملكي نتجتها، وأقام بذلك بينة، فبينة النتاج أولى وهكذا كل ملك
تنازعاه فادعاه أحدهما مطلقا، وادعاه الآخر مضافا إلى سببه، مثل أن قال: هذه
الدار لي، وقال الآخر اشتريتها، أو قال: هذا الثوب لي، وقال الآخر: لي نسجته في
ملكي، أو قال: هذا العبد لي، وقال الآخر: بل غنمته أو ورثته، الكل واحد إذا لم
تكن العين المدعاة في يد أحدهما، وللشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه،
والآخر هما سواء، وفي أصحابه من قال: بينة النتاج أولى قولا واحدا.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم.
مسألة 15: إذا تداعيا دارا وهي في يد أحدهما وأقام أحدهما البينة بقديم
الملك والآخر بحديثه، فإن كانت الدار في يد من شهدت بقديم الملك فهي له بلا
خلاف، لأن معه حجتين بينة قديمة، ويد، وإن كانت في يد حديث الملك
فصاحب اليد أولى وبه قال أبو حنيفة، نص عليه فقضى ببينة الداخل هاهنا لأنه
يقول: لا أقضي ببينة الداخل إذا لم تفد إلا ما تفيده يده، وهذه أفادت أكثر مما
تفيده يد وهو إثبات الملك منذ شهر واليد لا تفيد ذلك، وقال أبو يوسف ومحمد:
البينة بينة الخارج.
وقال الشافعي: هي لصاحب اليد كما قلناه، واختلف أصحابه على وجهين:
فقال أبو إسحاق: على القولين ولا أنظر إلى اليد فإذا قلنا سواء كانت اليد أولى،
وإذا قلنا قديم الملك أولى كان قديم الملك أولى من اليد، ومن أصحابه من قال:
صاحب اليد أولى بالبينة، وهو ظاهر المذهب على القولين معا.
70

دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وخبر جابر عن النبي صلى الله عليه وآله
وخبر غياث بن إبراهيم عن أبي عبد الله عليه السلام المقدم ذكرهما يدلان عليه
أيضا.
مسألة 16: إذا قال: لفلان على ألف قضيتها، فقد اعترف بألف، وادعى
قضاءها فلا يقبل منه إلا ببينة، وللشافعي في قبول ذلك منه قولان: أحدهما - وهو
الصحيح - مثل ما قلناه، والثاني يقبل قوله كما يقبل إذا قال: على ألف إلا
تسعين.
دليلنا: أن إقراره بالألف مجمع عليه، ووجوب قبول قوله في القضاء
يحتاج إلى دليل.
مسألة 17: إذا غصب رجل من رجل دجاجة فباضت بيضتين فاحتضنتهما
هي أم غيرها، بنفسها أو بفعل الغاصب فخرج منهما فرخان فالكل للمغصوب
منه، وبه قال الشافعي.
وقال أبو حنيفة: إن باضت عنده بيضتين فاحتضنت الدجاجة واحدة منهما
فلم يتعرض الغاصب لها كان للمغصوب منه ما يخرج منها، وإن أخذ الأخرى
فوضعها هو تحتها أو تحت غيرها فخرج منها فروج كان الفروخ للغاصب وعليه
قيمتها.
دليلنا: أن ما يحدث عند الغاصب على العين المغصوبة فهو للمغصوب منه
لأن الغاصب لا يملك بفعله شيئا، ومن ادعى أنه إذا تعدى ملكه فعليه الدلالة لأن
الأصل بقاء ملك المغصوب منه.
مسألة 18: إذا كان في يد رجلين، كبير بالغ مجهول النسب، فادعياه
مملوكا فالقول قوله بلا خلاف فإن اعترف لهما فإنه مملوك لهما بلا خلاف،
71

وإن اعترف لأحدهما بأنه مملوكه كان له دون الآخر، وبه قال الشافعي.
وقال أبو حنيفة: إذا اعترف أنه مملوك لأحدهما كان مملوكا لهما لأنه ثبت
أنه مملوك باعترافه ويدهما عليه فكان بينهما.
دليلنا: أن الأصل الحرية، وإنما صار مملوكا باعترافه فوجب أن يكون
مملوكا لمن اعترف له.
مسألة 19: رجل ادعى دارا في يد رجل، فأنكر، فأقام المدعي بينة أنها
ملكه منذ سنة، فجاء آخر فادعى أنه اشتراها من المدعي منذ خمسين سنين، حكمنا
بزوال ملك المدعى عليه ببينة المدعي بلا خلاف ثم ينظر في بينة المدعي الثاني
- وهو المشتري - من المدعي الأول، فإن شهدت بأنه اشتراها من الأول وهي ملكه
أو كان متصرفا فيها تصرف الملاك فإنه حكم بها للمشتري بلا خلاف - وهو
المدعي الثاني -، وإن شهدت بينة المشتري بالشراء فقط لم تشهد بملك ولا بيد،
قال الشافعي: حكمنا بها للمشتري وإليه أذهب، وقال أبو حنيفة: أقرها في يد
المدعي ولا أقضي بها للمشتري لأن البينة إذا لم تشهد بغير البيع المطلق لم يدل
على أنه باع ملكه ولا أنها كانت في يديه حين باع لأنه قد يبيع ملكه وغير ملكه.
دليلنا: أن بينة المدعي أسقطت يد المدعى عليه وأثبتها ملكا للمدعي منذ
سنة ولم تنف أن يكون قبل السنة ملكا للمدعي، فإذا قامت البينة أن هذا المدعي
باعها قبل هذه السنة بأربع سنين فالظاهر أنها ملكه حين البيع حتى يعلم غيره
فهو كالبينة المطلقة، وبينة المدعي لو كانت مطلقة فإنا نقضي بها للمشتري بلا
خلاف وكذلك هاهنا.
مسألة 20: إذا ادعى زيد شاة في يد عمرو فأنكر عمرو فأقام زيد البينة أنها
ملكه، وأقام عمرو البينة أن حاكما من الحكام له بها على زيد وسلمها إليه،
ولا يعلم على أي وجه حكم الأول بها لعمرو، ولا ينقض حكم الحاكم الأول،
72

وللشافعي فيه وجهان: أحدهما مثل ما قلناه وهو اختيار المزني وأبي حامد،
والوجه الثاني ينقض حكمه لأنه محتمل، وبه قال محمد بن الحسن.
دليلنا: أنه إذا ثبت عند الثاني أن الأول حكم بها لعمرو على زيد فالظاهر أنه
على الصحة حتى يعلم غيره، ولا ينقض الحكم بأمر محتمل.
مسألة 21: إذا ادعى زيد عبدا في يد عمرو فأنكر فأقام زيد البينة به، وقضى
الحاكم له به ثم قدم خالد وأقام البينة أن العبد له فقد حصل لزيد بينة فيما سلف
وبينة لخالد في الحال، فهما متعارضتان، ولا يحتاج زيد إلى إعادة البينة، وبه قال
أبو حنيفة وأحد قولي الشافعي، والقول الآخر أنهما لا تتعارضان إلا بأن يعيد البينة
فإذا أعادها تعارضتا.
دليلنا: أن هاهنا بينتين إحديهما لزيد والأخرى لعمرو، وبينة زيد معها زيادة
لأنها تثبت الملك له فيما مضى أيضا.
وأيضا فقد بينا أن بينة قديم الملك أولى وإذا قلنا بذلك ثبت أنهما
متعارضتان لأنها تثبت الملك له في الحال وإن أثبتته له فيما مضى.
مسألة 22: إذا ادعى زيد عبدا في يد رجل فأنكر المدعى عليه، فأقام زيد
البينة أن هذا العبد كان في يديه بالأمس أو كان ملكا له بالأمس، حكمنا بهذه
البينة.
ولأصحاب الشافعي فيه طريقان: أحدهما قال أبو إسحاق: لا يقضى بها قولا
واحدا، ونقل ذلك الربيع والمزني، وقال أبو العباس على قولين: أحدهما يقضى
له بها وهو الذي نقله البويطي واختاره لنفسه أبو العباس فإنه قال: وبه أقول،
والقول الثاني لا يقضى بها كما نقله الربيع والمزني.
دليلنا: أنا قد بينا أن البينة بقديم الملك أولى من البينة بحديث الملك، فإذا
ثبت ذلك فهذه ثبتت بقديم الملك سواء شهدت باليد أو الملك لأن اليد تدل
73

على الملك، ومن خالف يحتاج إلى دليل.
مسألة 23: إذا اشترك اثنان في وطء امرأة في طهر واحد وكان وطء ان
يصح أن يلحق به النسب وأتت به لمدة يمكن أن يكون من كل واحد منهما
أقرعنا بينهما فمن خرجت قرعته ألحقناه به، وبه قال علي عليه السلام.
وقال الشافعي: نريه القافة فمن ألحقته به ألحقناه به فإن لم يكن قافة أو اشتبه
الأمر عليها أو نفته عنهما ترك حتى يبلغ فينسب إلى من شاء منهما ممن يميل
طبعه إليه، وبه قال أنس بن مالك وهو إحدى الروايتين عن عمر، وبه قال في
التابعين عطاء، وفي الفقهاء مالك والأوزاعي وأحمد بن حنبل، وقال أبو حنيفة:
ألحقه بهما معا ولا أريه القافة.
وحكى الطحاوي في المختصر قال: إن اشترك اثنان في وطء امرأة
فتداعياه فقال كل واحد منهما: " هذا ابني " ألحقته بهما معا فألحقه باثنين ولا
ألحقه بثلاثة، وقال أبو يوسف: ألحقه بثلاثة، واختار الطحاوي طريقة أبي يوسف:
هذا قول المتقدمين.
وقال المتأخرون منهم الكرخي والرازي: يجوز أن يلحق الولد بمائة أب على
قول أبي حنيفة والمناظرة على هذا تقع.
قال أبو حنيفة: فإن كان لرجل أمتان فحدث ولد فقالت كل واحدة منهما:
هو ابني من سيدي، قال: ألحقه بهما فجعلته ابنا لكل واحدة منهما وللأب أيضا.
قال أبو يوسف ومحمد: لا يلحق بأمتين لأنا نقطع أن كل واحدة منهما ما
ولدته وأن الوالدة إحديهما وأبو حنيفة ألحق الولد الواحد بآباء عدة وبأمهات عدة.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم لأنهم لا يختلفون في ذلك.
فأما الدليل على أن القيافة لا حكم لها في الشرع، ما روي أن العجلاني
قذف زوجته بشريك بن السحماء، وكانت حاملا فقال رسول الله
صلى الله عليه وآله: إن أتت به على نعت كذا وكذا فلا أرى إلا أنه كذب عليها، وإن أتت به على
74

نعت كذا وكذا فهو من شريك بن السحماء، فاتت به على النعت المكروه فقال
عليه السلام: لولا الأيمان لكان لي ولها شأن، فوجه الدلالة أنه عليه السلام عرف
الشبه ولم يعلق الحكم به فلو كان له حكم لكان يعلق الحكم به فيقيم الحد على
الزاني، فلما لم يفعل هذا ثبت أن الشبه لا يعلق به حكم.
والدليل على أن الولد لا يلحق برجلين قوله تعالى: يا أيها الناس إنا خلقناكم
من ذكر وأنثى، فلا يخلو أن يكون كل الناس من ذكر وأنثى أو كل واحد منهم
من ذكر وأنثى فبطل أن يريد كل الناس من ذكر وأنثى لأن كل الناس من ذكر
واحد وهو آدم عليه السلام خلقه وحده ثم خلق حواء من ضلعه الأيسر ثم خلق
الناس منهما فإذا بطل هذا ثبت أنه أراد خلق كل واحد من ذكر وأنثى، فمن قال:
من أنثى وذكرين، فقد ترك الآية.
مسألة 24: إذا كان وطئ إحديهما في نكاح صحيح والأخرى في نكاح
فاسد قال مالك: فإن صحيح النكاح أولى، وحكي ذلك عن أبي حنيفة، وقال
الشافعي: لا فرق بين ذلك وبين ما تقدم، والذي يقتضيه مذهبنا أنه لا فرق بينهما
وأنه يجب أن يقرع بينهما.
دليلنا: ما قدمناه في المسألة الأولى سواء.
مسألة 25: إذا وطئ الرجل أمة ثم باعها قبل أن يستبرئها فوطئها
المشتري قبل أن يستبرئها ثم أتت بولد يمكن أن يكون منهما فإنه يلحق بالأخير،
وقال مالك: يلحق بالأول لأن نكاحه صحيح ونكاح الثاني فاسد، وحكي
ذلك عن أبي حنيفة، وقال الشافعي: نريه القافة مثل ما تقدم.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم.
مسألة 26: إذا وطئ اثنان على ما قدرناه وكانا مسلمين أو أحدهما مسلما
75

والآخر كافر أو كان أحدهما حرا أو أجنبيين أو أحدهما ابنا والآخر أبا، لا يختلف
الحكم فيه، في أنه يقرع بينهما، وبه قال الشافعي إلا أنه قال: بالقافة أو الانتساب،
وقال أبو حنيفة: الحر أولى من العبد والمسلم أولى من الكافر.
دليلنا: إجماع الفرقة وعموم الأخبار التي قدمناها، فمن ادعى التخصيص
فعليه الدلالة، فأما الأب والابن فلا يتقدر فيهما إلا وطء الشبهة أو عقد الشبهة.
اختلاف الزوجين في متاع البيت
مسألة 27: إذا اختلف الزوجان في متاع البيت، فقال كل واحد منهما:
كله لي، ولم يكن مع أحدهما بينة نظر فيه: فيما يصلح للرجال القول قوله مع
يمينه، وما يصلح للنساء فالقول قولها مع يمينها وما يصلح لهما كان بينهما، وقد
روي أيضا أن القول في جميع ذلك قول المرأة مع يمينها، والأول أحوط.
وقال الشافعي: يد كل واحد منهما على نصفه، يحلف كل واحد منهما
لصاحبه ويكون بينهما نصفين سواء كانت يدهما من جهة المشاهدة أو من حيث
الحكم، وسواء كان مما لا يصلح للرجال دون النساء أو للنساء دون الرجال أو
يصلح لهما، وسواء كان الدار لهما أو لأحدهما أو لغيرهما، وسواء كانت الزوجية
قائمة بينهما أو بعد زوال الزوجية، وسواء كان التنازع بينهما أو بين ورثتهما أو
بين أحدهما وورثة الآخر، وبه قال عبد الله بن مسعود وعثمان البتي وزفر.
وقال الثوري وابن أبي ليلى: إن كان التنازع فيما يصلح للرجال دون
النساء فالقول قول الرجل، وإن كان فيما يصلح للنساء دون الرجال فالقول قول
المرأة.
وقال أبو حنيفة ومحمد: إن كانت يدهما عليه مشاهدة فهو بينهما كما لو
تنازعا عمامة يدهما عليها أو خلخالا يدهما عليه فهو بينهما، وإن كانت يدهما عليه
حكما فإن كان يصلح للرجال دون النساء فالقول قول الرجل، وإن كان يصلح
للنساء دون الرجال فالقول قول المرأة، وإن كان يصلح لكل واحد منهما فالقول
76

قول الرجل، ويخالف الشافعي في ثلاثة فصول: إذا كان مما يصلح للرجال، وإذا
كان مما يصلح للنساء، وإذا كان مما يصلح لكل واحد منهما، قال أبو حنيفة:
وإن كان الاختلاف بين أحدهما وورثة الآخر فالقول قول الباقي منهما.
وقال أبو يوسف: القول قول المرأة فيما جرى العرف والعادة أنه قدر جهاز
مثلها، وهذا متعارف بين الناس، وهذا مثل ما حكيناه في بعض روايات
أصحابنا.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وقد أوردناه في الكتابين المقدم ذكرهما.
مسألة 28: إذا كان لرجل على رجل حق فوجد من له الحق مالا لمن عليه
الحق فإن كان من عليه الحق باذلا فليس له أخذه منه بلا خلاف، وإن كان مانعا
إما بأن يجحده ظاهرا وباطنا، أو يعترف باطنا ويجحده ظاهرا، أو يعترف به
ظاهرا وباطنا، ويمنعه لقوته، فإنه لا يمكن استيفاء الحق منه، فإذا كان بهذه الصفة
كان له أن يأخذ من ماله بقدر حقه من غير زيادة سواء كان من جنس ماله أو من
غير جنسه إلا إذا كان وديعة عنده فإنه لا يجوز له أخذه منها وسواء كان له بحقه
بينة يقدر على إثباتها عند الحاكم أو لم يكن، وبه قال الشافعي، ولم يستثن
الوديعة إذا لم يكن له حجة، فإن كان له حجة تثبت عند الحاكم فعلى قولين.
وقال أبو حنيفة: ليس له ذلك إلا في الدراهم والدنانير التي هي الأثمان فأما
غيرهما فلا يجوز.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم.
وأيضا روي أن هند امرأة أبي سفيان جاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله
فقالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، وإنه لا يعطيني ما يكفيني وولدي
إلا ما آخذ منه سرا، فقال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف، فالنبي أمرها
بالأخذ عند امتناع أبي سفيان منه، والظاهر أنها تأخذ من غير جنس حقها فإن أبا
سفيان ما كان يمنعها الخبز والأدم، وإنما كان يمنعها الكسوة، فالظاهر أن الأخذ
77

من غير جنس الحق.
وأما اختصاص الوديعة فلما رواه أصحابنا، وأيضا فقد روي عن النبي
صلى الله عليه وآله أنه قال: أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك، فمن أجاز
الوديعة بحق له فقد ترك الخبر.
78

المبسوط
في فقه الإمامية
تأليف شيخ الطائفة
أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (قدس سره)
385 - 460 ه‍. ق
79

كتاب آداب القضاء
القضاء جائز بين المسلمين، وربما كان واجبا، فإن لم يكن واجبا كان
مستحبا، قال الله تعالى: " يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس
بالحق " وقال: " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في
أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما " وقال تعالى: " وداود وسليمان إذ
يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين " وقال تعالى:
" وأن احكم بينهم بما أنزل الله " وقال تعالى: " فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض
عنهم ".
وقد ذم الله من دعي إلى الحكم فأعرض عنه فقال: " وإذا دعوا إلى الله ورسوله
ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون "، ومدح قوما دعوا إليه فأجابوا فقال: " إنما كان
قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك
هم المفلحون " وقال: " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين
الناس أن تحكموا بالعدل ".
وروي عن علي عليه السلام أنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله إلى
اليمن قاضيا، وبعث علي عليه السلام عبد الله بن العباس قاضيا إلى البصرة، وروى
81

ابن مسعود أنه قال: لأن أجلس يوما فأقضي بين الناس أحب إلي من عبادة سنة.
وعليه إجماع الأمة إلا أبا قلابة فإنه طلب للقضاء فلحق بالشام، وأقام زمانا ثم
جاء فلقيه أيوب السجستاني وقال له: لو أنك وليت القضاء وعدلت بين الناس
رجوت لك في ذلك أجرا، فقال: يا أيوب السابح إذا وقع في البحر كم عسى أن
يسبح؟ إلا أن أبا قلابة رجل من التابعين لا يقدح خلافه في إجماع الصحابة، وقد
بينا أنهم أجمعوا ولا يمنع أن يكون امتناعه كان لأجل أنه أحس من نفسه بالعجز لأنه
كان من أصحاب الحديث ولم يكن فقيها.
وهو من فروض الكفايات إذا قام به قوم سقط عن الباقين، فإن أطبق أهل بلد
على تركه وامتنعوا منه فقد خرجوا وأثموا، وكان للإمام قتالهم عليه، لما روي عن
النبي عليه السلام أنه قال: إن الله لا يقدس أمة ليس فيهم من يأخذ للضعيف حقه،
ولأنه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فإن وجد الإمام ثقة من أهل العلم يرضاه للقضاء وهناك مثله استحب له أن
يطيعه، فإن لم يفعل قال قوم: للإمام إجباره عليه لأنه يدعوه إلى طاعة، وقال
آخرون: ليس له إجباره، وهو الأقوى عندي لما روي عن النبي عليه السلام أنه
قال: إنا لا نجبر على القضاء أحدا، وقد روي كراهة تولي القضاء والامتناع لما روي
عن النبي عليه السلام أنه قال: من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين.
وروى ابن عباس أن النبي عليه السلام قال: من جعل قاضيا فقد ذبح بغير
سكين، قيل: يا رسول الله وما الذبح؟ قال: نار جهنم.
وروي عنه عليه السلام أنه قال: يؤتى بالقاضي العدل يوم القيامة فمن شدة ما
يلقاه من الحساب يود أن لم يكن قضى بين اثنين في تمرة.
والوجه في الجمع بين هذه الأخبار أن من كان من أهل العلم بالقضاء ويقضي
بالحق فهو مثاب، ومن كان من أهل العلم لكنه لا يقضي بالحق أو كان جاهلا لم
يحل له أن يليه وكان مأثوما فيه، لما روى ابن بريدة عن أبيه أن النبي عليه السلام
82

قال: القضاة ثلاثة: واحد في الجنة واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف
الحق وعدل ورجل عرف فحكم فجار فذاك في النار، ورجل قضى بين الناس على
جهل فذاك في النار.
وروي عنه عليه السلام أنه قال: إذا جلس القاضي للحكم بعث الله إليه ملكين
يسددانه فإن عدل أقاما وإن جار عرجا وتركاه.
وروي عنه عليه السلام أنه قال: من طلب القضاء حتى يناله فإن غلب عدله
جوره فله الجنة، وإن غلب جوره عدله فله النار.
وروي عنه عليه السلام أنه قال: إن الله مع الحاكم ما لم يجر، فإذا جار برئ
منه ولزمه الشيطان.
والناس في القضاء على ثلاثة أضرب: من يجب عليه، ومن يحرم عليه، ومن
يجوز له.
فأما من يجب عليه أن يليه، فكل من تعين ذلك فيه وجب عليه أن يليه، وهو
إذا كان ثقة من أهل العلم ولا يجد الإمام غيره، فعلى الإمام أن يوليه، وعليه أن يلي
ذلك، فإن لم يعلم الإمام به فعليه أن يأتي الإمام فيعرفه نفسه ليوليه القضاء لأن القضاء
من فرائض الكفايات كالصلاة على الميت وتكفينه ودفنه، وإذا مات ميت ولم يكن
هناك من يصلي عليه إلا واحد تعين عليه أن يصلي عليه وأن يكفنه ويدفنه ولأنه من
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا لم يكن هناك من يقوم به إلا واحد تعين ذلك
عليه.
وأما من يحرم عليه أن يلي القضاء، فإن يكون جاهلا ثقة كان أو غير ثقة أو
فاسقا من أهل العلم، وقال بعضهم: إذا كان ثقة جاز أن يليه، وإن لم يكن من أهل
العلم يستفتي ويقضي، والأول مذهبنا لقوله عليه السلام: رجل قضى بين الناس
على جهل فذاك في النار.
ومن يجوز له ولا يحرم عليه، مثل أن يكون في المكان جماعة من أهل الفقه
والعلم فهاهنا لكل واحد منهم أن يلي القضاء، فإن دعا الإمام واحدا منهم إليه، قال
83

بعضهم: يجب عليه، وقال آخرون: لا يجب عليه، وهو الصحيح.
فعلى هذا هل يستحب له أم لا؟ لم يخل من أحد أمرين: إما أن تكون له كفاية
أو لا كفاية له.
فإن لم تكن له كفاية استحب له أن يليه لأنه إذا فعل ذلك كان مطيعا لله في
النظر بين الناس، ويكون له في مقابلة عمله رزق يكفيه، وإذا لم يل القضاء طلب
الكفاية من المباح من تجارة وغيرها فكان حصول الرزق له في طاعة أولى من حصوله
من مباح.
وإن كانت له كفاية لم يخل من أحد أمرين: إما أن يكون معروفا أو خامل
الذكر.
فإن كان مشهورا بالعلم معروفا يقصده الناس يستفتونه ويتعلمون منه،
فالمستحب له أن لا يلي القضاء لأن التدريس والتعليم طاعة وعبادة مع السلامة
والأمن من الغرر، والقضاء وإن كان طاعة فإنه في غرر لقوله عليه السلام: من ولى
القضاء فقد ذبح بغير سكين، فكانت السلامة أسلم لدينه وأمانته.
فأما إن كان خامل الذكر لا يعرف علمه ولا يعلم فضله ولا ينتفع الناس
بعلمه، فالمستحب أن يليه ليدل على نفسه، ويظهر فضله، وينتفع الناس به،
حتى قال بعضهم: المستحب له أن يبذل المال على ذلك حتى يظهر ويعرف ويعلم
فضله وينتفع، والأول أصح لأن بذل المال على ذلك لا يجوز، ولا للإمام أن يأخذ
على ذلك عوضا.
وأما من يحل له أخذ الرزق عليه ومن لا يحل:
فجملته أن القاضي لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون ممن تعين عليه القضاء
أو لم يتعين عليه، وهو القسم الأول والأخير.
فإن كان ممن يجوز له القضاء ولم يتعين عليه لم يخل من أحد أمرين: إما أن
يكون له كفاية أو لا كفاية له، فإن لم يكن له كفاية جاز له أخذ الرزق، وإن كانت له
كفاية فالمستحب أن لا يأخذ، فإن أخذ جاز ولم يحرم عليه، بل كان مباحا، وجواز
84

إعطاء الرزق للقضاء إجماع، ولأن بيت المال للمصالح، وهذا منها بل أكثرها
حاجة إليه، لما فيه من قطع الخصومات، واستيفاء الحقوق، ونصرة المظلوم ومنع
الظالم، هذا إذا لم يتعين عليه القضاء.
فأما إن تعين عليه القضاء لم يخل من أحد أمرين: إما أن يكون له كفاية أو لا
كفاية له، فإن كانت له كفاية حرم عليه أخذ الرزق لأنه يؤدي فرضا قد تعين عليه، و
من أدى فرضا لم يحل له أخذ الرزق عليه مع الاستغناء عنه، وإن لم يكن له كفاية حل
ذلك له لأن عليه فرض النفقة على عياله وفرضا آخر وهو القضاء، وإذا أخذ الرزق
جمع بين الفرضين، لأن الرزق يقوم مقام الكسب، فكان الجمع بين الفرضين أولى
من إسقاط أحدهما، هذا عندنا وعندهم.
وحكم الشهادة في أخذ الجعل عليها عندنا لا يجوز بحال، وقالوا: لا يخلو
الشاهد من أحد أمرين: إما أن يكون قد تعينت عليه أو لم تتعين.
فإن لم يكن تعين عليه الأداء والتحمل نظرت: فإن لم يكن له كفاية حل له،
وإن كانت له كفاية فالمستحب له أن لا يفعل، وإن فعل جاز.
وإن تعين عليه الأداء والتحمل نظرت: فإن كانت له كفاية لم يحل له الأخذ
وإن لم يكن له كفاية جاز له الأخذ كالقضاء سواء، وهكذا قالوا في الإمامة العظمى
والأذان والإقامة، يؤخذ الرزق على ذلك ولا يكون أجرة لأنه عمل لا يفعله عن الغير،
وإذا فعله عن نفسه عاد نفعه إلى الغير، وعندنا أن جميع ذلك لا يجوز أخذ الجعل
عليه، فإن كان الشاهد أو المؤذن أو المقيم محتاجا جعل له من بيت المال سهم من
المصالح، فأما الإمامة العظمى فلها أشياء تخصها من الأنفال وغير ذلك، فلا حاجة
مع ذلك إلى أخذ الرزق عليه.
إذا علم الإمام أن بلدا من البلاد لا قاضي له لزمه أن يبعث إليه، روي أن النبي
عليه السلام بعث عليا عليه السلام إلى اليمن وبعث علي عليه السلام ابن عباس إلى
البصرة قاضيا، وعليه إجماع.
فإذا ثبت هذا نظرت: فإن كان الإمام يعرف من يصلح له ولاه ذلك، وإن لم
85

يعرف استدعى أهل العلم وتناظروا بين يديه واختبرهم، فإذا عرف من كان من أهل
العلم بعث به إلى جيران بيته ومسجده وجيران سوقه ومن يعرفه، فيبحث عن
عدالته كما يبحث الحاكم عن عدالة الشهود، فإذا حصل عنده أنه من أهل القضاء
ولاه وكتب له كتابا يعهد إليه فيه بتقوى الله وطاعته في نفسه وفي نظره له، ويأمره أن
يتأمل أحوال الشهود ويتعاهد الأطفال والوقوف وغير ذلك مما يليه القضاة.
فإذا كتب له وولاه لم يخل البلد الذي ولاه من أحد أمرين: إما أن يكون بعيدا أو
قريبا.
فإن كان بعيدا منقطعا لا يكاد يستفيض الخبر بالولاة أحضر الإمام شاهدين و
أشهدهما على نفسه بتوليته، وبما عهد إليه عليهما، فإن كان القارئ هو الإمام لم
يفتقر إلى مطالعتهما، وإن كان القارئ غيره فلا بد أن ينظر، فيه، ويقول الإمام: قد
عهدت بذلك إليه، ثم يبعث بالحاكم ومعه الشاهدين إلى بلد الولاية ليشهدا بذلك
للحاكم عند أهله، ولا يثبت ولايته إلا بذلك.
وإن كان البلد قريبا من بلد الإمام كالبصرة والكوفة وواسط والموصل من
بغداد، وما كان في معناها بحيث تتواتر الأخبار إليه بالتولية، قال قوم: اقتصر عليه و
يثبت بالاستفاضة كالنسب والموت والملك المطلق، وقال آخرون: لا يثبت
بالاستفاضة كالبلد البعيد، والذي أقوله: إن الاستفاضة إن بلغت إلى حد يوجب
العلم، فإنه يثبت الولاية بها وإن لم يبلغ ذلك لم يثبت.
وأصل هذه ثلاث مسائل اختلفوا فيها: النكاح، والوقف، والعتق، فالكل
على هذين الوجهين، قال قوم: تثبت بالاستفاضة، وقال آخرون: لا تثبت، ويقوى
في نفسي في هذه المسائل أنها تثبت بالاستفاضة، وعليه تدل أخبارنا.
فإذا ثبت هذا وأراد المسير إلى بلد ولايته، فإنه يطلب من أهل ولايته في هذا
المكان من يسأله عما يحتاج إليه من حال بلد ولايته، فإن لم يجد ففي طريقه، فإن
لم يجد أخر ذلك حتى يسأل عما يحتاج إليه في بلد ولايته.
فإذا دخل البلد نزل في وسطه دون طرفه لأنه أقرب للتسوية بين أهله في قصده،
86

كما يقال في الخطيب يقبل بوجهه قصد وجهه، ولا يلتفت يمينا ولا شمالا لأنه
أقرب إلى التسوية بينهم، فإذا حصل في بلد الولاية نادى فيه وأعلم أهله بقدومه،
فإن كان كبيرا نادى حتى يعلم كل أحد، وإن كان صغيرا ينتشر خبره في يوم لم يزد
على يوم، وإن كانت قرية يعرف أهله من ساعته استغنى عن النداء.
والنداء أن يقول: ألا إن فلان بن فلان قد أتى قاضيا فاجتمعوا لقراءة عهده يوم
كذا في وقت كذا، فإن حضروا قرأ العهد عليهم، وانصرف إلى منزله ليدبر أمر
القضاء من بعد، وأول ما يبدأ بالنظر فيه سنذكره فيما بعد.
وإذا أراد القاضي أن يقضي بين الناس فالمستحب أن يقضي في موضع بارز
للناس مثل رحبة أو فضاء ليصل كل ذي حاجة إليه من غير مزاحمة، فيكون أرفق
بهم، ويستحب أن يكون في وسط البلد لأنه أقرب ما يكون إلى المساواة بين الناس،
فإن نزل في طرف البلد أو قضى في بيته أو موضع ضيق جاز.
وروت أم سلمة قالت: اختصم رجلان من الأنصار في مواريث فقضى رسول الله
صلى الله عليه وآله بينهما في بيتي.
ويستحب أن يصل إليه في مجلس حكمه كل أحد، ولا يتخذ حاجبا يحجب
الناس عن الوصول إليه، بلى إن كان له حاجب لغير هذا اليوم جاز، روى أبو مريم
صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: من ولى شيئا من أمور الناس فاحتجب
دون حاجتهم وفاقتهم احتجب الله دون حاجته وفاقته وفقره.
وأما الحكم في المساجد فقد كرهه قوم إذا قصد الجلوس فيه للحكم، فإن كان
جالسا واتفقت حكومة جاز أن يقضى بينهما، سواء كان المسجد صغيرا أو كبيرا،
لما روي أن النبي عليه السلام سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فقال: لا وجدتها
إنما بنيت المساجد لذكر الله والصلاة.
وروي عنه عليه السلام أنه قال: جنبوا المساجد صبيانكم ومجانينكم و
خصوماتكم والحكومة، وهذا موجود في أحاديثنا أيضا مثله.
87

وقد روي أن أمير المؤمنين عليه السلام كان يقضي في المسجد ودكة القضاء
معروفة إلى يومنا هذا، فالأولى جوازه وفيه خلاف.
فأما إقامة الحدود فمكروه عند الكل فيها، وحكي عن بعضهم جوازه، وقال:
يفرش له نطع ويحد عليه، فإن بدرت منه بادرة كانت على النطع.
ويكره للقاضي أن يقضي وهو غضبان، ويستحب له إذا غضب أن يدع القضاء
حتى إذا زال غضبه قضى بين الناس، لما روي عنه عليه السلام أنه قال: لا يقضي
القاضي ولا يحكم الحاكم بين اثنين وهو غضبان.
وروت أم سلمة أن النبي عليه السلام قال: من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فلا
يقضين وهو غضبان.
وكل معنى يكون به في معنى الغضبان كان حكمه حكم الغضبان، كالجوع
الشديد والعطش الشديد والغم الشديد والفرح الشديد والوجع الشديد ومدافعة
الأخبثين والنعاس الذي يغمر القلب، كل ذلك سواء.
روى أبو سعيد الخدري أن النبي عليه السلام قال: لا يقضي القاضي إلا وهو
شبعان ريان، وروى عبد الرحمن بن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وآله قال: لا
يقضي القاضي وهو غضبان مهموم، ولا مصاب محزون، ولا يقضي وهو جائع.
فإن خالف وقضى بين الناس على الصفة التي ذكرناها فوافق الحق نفذ ولا
ينقض حكمه، لما روي أن الزبير بن العوام ورجلا من الأنصار اختصما إلى
رسول الله في شراج الحرة، فقال النبي عليه السلام: اسق زرعك يا زبير ثم أرسل الماء
إلى جارك، فقال الأنصاري: أن كان ابن عمتك؟ فاحمر وجه رسول الله
صلى الله عليه وآله وقال: اسق زرعك يا زبير ثم احبس الماء حتى يبلغ أصول الجذر.
فوجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وآله استنزل الزبير عن كمال حقه
فقال: اسق زرعك، فلما كلمه الأنصاري غضب رسول الله صلى الله عليه وآله ثم
حكم للزبير بكل حقه فقال: واحبس الماء حتى يبلغ أصول الجذر، فثبت أن حكم
الحاكم وهو غضبان ماض إذا كان حقا.
88

ويكره له أن يتولى البيع والشراء فيما يخصه بنفسه، لما روي أن النبي
عليه السلام قال: ما عدل وال اتجر في رعيته أبدا، ولا ينظر في أمر ضيعته ونفقة عياله بل
يوكل من ينظر له فيه لأن هذا كله مما يشغله عن الحكم.
ويستحب أن يكون وكيله مجهولا لأنه إذا عرف حوبي لأجل القاضي، فكان
وكيله كهو، فإن خالف في هذا فباع واشترى بنفسه فالتصرف صحيح نافذ، لأنه
ليس بمحرم، وإنما هو مكروه لأجل الحكم.
فإذا دعي القاضي إلى وليمة استحب له أن يحضرها، لما روي أن النبي
عليه السلام قال: لو دعيت إلى ذراع لأجبت، ولو أهدي إلي كراع لقبلت، وروي عنه
عليه السلام أنه قال: من دعي إلي وليمة فلم يجب فقد عصى الله ورسوله، وعند
قوم إجابتها من فروض الكفايات، وعندنا مستحب وليس بفرض، فإن كثرت الولائم
وازدحمت تخلف عن الكل لأن القضاء قد تعين عليه، والإجابة إما من فروض
الكفايات وقد قام بها غيره، أو هو مستحب فالاشتغال بالقضاء مقدم عليها.
ويعود المرضى ويشهد الجنائز ويأتي مقدم الغائب لأنها قربة وطاعة، فإن
كثر هذا وازدحم عليه حضر الكل لأنه حق يسهل قضاؤه ويحضر لحظة وينصرف.
فإذا حضر القاضي بلد ولايته فأول ما يبدأ به أن يبعث إلى الحاكم المعزول به
فيأخذ ديوان الحكم إليه - نعني بذلك ما عنده من وثائق الناس، وحججهم من
المحاضر والسجلات - فإن من عادة القضاة إذا حكموا بشئ أن يكون ذلك في
سجل على نسختين، نسخة في يد المحكوم له، ونسخة في ديوان الحاكم احتياطا،
فمتى ضاعت حجته سكن إلى ما في ديوان الحكم، ويكون فيه كتب الوقف، فإن
العادة أن القضاة يجددون كتب الوقف كلما اختلقت أو مات شهودها، ويكون فيه
ودائع الناس أيضا، فإن من الناس من يودع كتبه ووثائقه ديوان الحاكم احتياطا، فإن
ديوان الحكم أحفظ لها.
وإنما قلنا: يأخذ الديوان إليه، لأن من كانت في يده قد عزل عن النظر وصار
89

النظر إليه، فيدفع ما في يديه إليه، فإذا حصل الديوان عنده خرج إلى المجلس الذي
يجلس فيه للقضاء راكبا إن كان له مركوب أو ماشيا إن لم يكن له مركوب، وكلما مر
بقوم سلم عليهم من على يمينه وشماله، لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال:
يسلم الراكب على الماشي والقائم على القاعد، والقليل على الكثير، فإذا وصل
إلى مجلسه سلم إلى من سبق إليه من الوكلاء والخصوم.
فإن كان مجلسه في المسجد صلى حين يدخله ركعتين تحية المسجد، لما
روي عن النبي عليه السلام أنه قال: إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي
ركعتين، وإن لم يكن المكان مسجدا كان بالخيار بين أن يصلي ركعتين إن كان وقتا
يجوز النافلة فيه وبين أن يترك، ويفرش له ما يجلس عليه من حصير أو بساط أو
غيره، ولا يجلس على التراب ولا على بارية المسجد لأنه أهيب له في عين الخصوم
وأنفذ لأمره، ويجلس عليه وحده ليتميز من غيره عند تقدم الخصم إليه، ويكون
متوجها إلى القبلة لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: خير المجالس ما استقبل به
القبلة، فإذا جلس يكون على رأسه ثقة يرتب الناس يقدم السابق فالسابق والأول
فالأول، ولا يقدم من تأخر ويؤخر من تقدم لأن السابق أحق من غيره.
ثم ينظر فيه: فإن كان يكتب لنفسه كتب ما يحتاج إليه وإن لم يكن يكتب
لنفسه اتخذ كاتبا ثقة حافظا، ويجلسه بين يديه بالقرب منه، بحيث يشاهد ما يكتبه،
وسنبين صفة الكتاب فيما بعد.
وينبغي أن يكون في مجلسه أهل العلم من أهل الحق، وعند المخالف من
أهل كل مذهب واحد حتى إن حدثت حادثة يفتقر فيها إلى أن يسألهم عنها ليتذكر
جوابه فيها ودليله عليها، فإن كانوا بالقرب ذاكرهم، وإن كانوا بالبعد استدعاهم
إليه، وإذا حكم بحكم فإن وافق الحق لم يكن لأحد أن يعارضه فيه وإن أخطأ وجب
عليهم أن ينبهوه عليه.
وقال المخالف: ليس لأحد أن يرد عليه وإن حكم بالباطل عنده، لأنه إذا كان
حكمه باجتهاده وجب عليه العمل به، فلا يعترض عليه بما هو فرضه، إلا أن يخالف
90

نص الكتاب أو سنة أو إجماعا أو قياسا لا يحتمل إلا معنى واحدا فإن ذلك ينكر
عليه.
وقد ذكرنا ما عندنا إنه إن أصاب الحق نفذ حكمه، ولا يعترض عليه، وإن أخطأ
وجب على كل من حضره أن ينبهه على خطأه، ولا قياس عندنا في الشرع
ولا اجتهاد، وليس كل مجتهد مصيبا.
وينبغي أن يحضر عنده شهود البلد، فإن كان ذا جانب واحد أحضرهم، وإن
كان ذا جانبين أحضرهم عنده ليستوفي بهم في الحقوق ويثبت بهم الحجج
والمحاضر والسجلات.
فأما موضع جلوسهم، فإن كان الحاكم يحكم بعلمه، فإن شاء استدناهم و
إن شاء باعدهم، لأنه إذا كان يقضي بعلمه فمتى أقر عنده مقر بحق ثم رجع عنه
حكم عليه بعلمه، ولا يحتاج إلى شاهد على إقراره، وإن كان ممن لا يقضي بعلمه
استدناهم إليه بحيث يسمعون كلام الخصمين كي لا يقر منهم مقر ثم يرجع عنه، فإذا
رجع عنه شهد به عنده شاهدان وحكم عليه بالبينة لا بعلمه.
فإذا جلس للقضاء فأول شئ ينظر فيه حال المجسين في حبس المعزول لأن
الحبس عذاب فيخلصهم منه، ولأنه قد يكون منهم من تم عليه الحبس بغير حق.
فإذا ثبت هذا فترتيب ذلك أن يبعث إلى الحبس ثقة يكتب اسم كل واحد منهم
في رقعة مفردة، ويكتب اسم من حبسه وبما ذا حبسه، فإذا فرع من هذا نادى في
البلد إلى ثلاثة أيام " إن القاضي فلان ينظر في أمر المحبسين، فمن كان له على
محبوس حق فليحضر يوم كذا " ويأخذ الوعد اليوم الرابع، فيخرج في الرابع إلى
مجلسه على الوجه الذي ذكرناه، فيخرج رقعة فينادي مناديه " هذه رقعة فلان بن فلان
المحبوس فمن كان خصمه فليحضر "، فإذا حضر خصمه بعث إليه فأخرجه ثم يخرج
رقعة أخرى، ويصنع مثل ذلك حتى يحضر عنده العدد الذي يتمكن أن يفصل بينهم
وبين خصومهم، فإذا اجتمعوا أخرج الرقعة الأولى فيقول: أين خصمه، فإذا حضرا
91

عنده لم يسأل الحابس لم حسبته؟ لأنه ما حبسه إلا بحق لكنه يسأل المحبوس فيقول
له: هذا خصمك؟ فإذا قال: نعم، قال له: بما ذا حبسك؟ فالجواب ينقسم خمسة
أقسام:
الجواب الأول: يقول: حبسني بدين وأنا به ملي وفي غنى، قيل له: فاقض
دينك، فإن النبي عليه السلام قال: مطل الغني ظلم، فإن فعلت وإلا حبسناك حتى
تقضيه، وإن قال: الدين علي وأنا معسر لا أقدر على قضائه، نظرت في سبب
الدين:
فإن كان مال حصل في يديه كالقرض والشراء والصلح والغصب ونحو ذلك
لم يقبل قوله بالإعسار، لأن الأصل الغنى وحصول المال حتى يثبت زواله.
فإن كان سبب ثبوته من غير مال حصل في يديه كالمهر وأرش الجناية وإتلاف
مال الغير ونحو ذلك، نظرت: فإن عرف له مال غير هذا كالميراث والغنيمة ونحو
ذلك لم يقبل قوله أيضا في الإعسار، لأن الأصل المال، فإن أقام البينة بهلاك المال
وأنه معسر فالقول قوله بغير يمين، لأن الظاهر ما قامت به البينة.
وأما إن كان سببه غير مال حصل في يديه ولم يعرف له مال أصلا فالقول قوله
لأن الأصل أن لا مال، مع يمينه لجواز أن يكون له مال.
فإذا ثبت أن القول قوله مع يمينه إذا كان الأصل الفقر والعدم نظرت:
فإن لم يكن مع المدعي بينة بالمال حلف المدعى عليه أن لا مال له، فإذا حلف
نادى منادي القاضي ثلاثا " إن فلانا قد فصل بينه وبين خصمه فهل له من خصم "؟
فإن حضر نظر بينهما وإن لم يظهر له خصم أطلقه بغير يمين أنه لا خصم له، لأن
الظاهر أنه حبس لخصم واحد حتى يعلم غيره.
وأما إن كان مع المدعي بينة بأن له مالا نظرت: فإن أبهمت البينة الشهادة ولم
يعين المال، لم تسمع شهادته، لأنها بمجهول، وإن عينت المال فقال: له الدار
الفلانية والعقار الفلاني، سألناه عنه فإن قال: صدقت البينة المال لي وقد ذهب عني
92

أنه كان لي، صدقناه وكلفناه قضاء الدين منه، فإن قال: ما هو لي ولا حق لي فيه،
فإما أن يقر به لزيد أو لا يقر به لأحد، فإن لم يقر به لأحد فالظاهر أنه ملكه وماله، و
كلفناه القضاء، وإن قال: هو لزيد، سألنا زيدا فإن رد الإقرار وقال: ما لي قبله
مال، قلنا: قد ثبت بالبينة أن المال لك فاقض منه دينك، لأن أحدا لا يدعيه، وإن
قال زيد: صدق هو لي، لم يخل زيد من أحد أمرين: إما أن يكون معه بينة أو لا بينة
معه، فإن كانت له بينة أن المال له، كانت بينته أولى من بينة المدعي لأن له اليد بإقرار
المحبوس بأن الدار له، ومع الحالتين البينة أن الدار للمحبوس فهل يقضي بها لزيد
أم لا؟
قال قوم: يقضي بها له، لأن البينة يشهد بها للمحبوس وهو مكذب لها، ومن
كذب بينة فيما شهدت له به سقطت، وتكون الدار لزيد، وقال آخرون: إنا نقضي
بالدار أن يباع في الدين لأن البينة شهدت بشيئين: أحدهما المال للمحبوس،
والثاني يقضي دينه منها، فإذا قال: ليست لي، صدق في حق نفسه ولم يصدق في
حق الغرماء فيباع في الدين.
فإذا فرع منه ولم يبق له مال نادى منادي القاضي ثلاثا " إن فلانا قضي بينه وبين
خصمه، فإن كان له خصم فليحضر "، فإن حضر حكم بينهما، وإن لم يحضر له
خصم أطلقه بغير يمين.
الجواب الثاني: يقول: حبست في حد قذف أو قصاص، فإذا قال هذا ويسأل
الحابس الاستيفاء له استوفاه في الحال، فإذا قضي بينهما نادى على ما مضى.
الجواب الثالث: قال: حبست على تعديل البينة لأن المدعي أقام شاهدين فلم
يعرف الحاكم عدالتهما فحبسني حتى يعرف ذلك من حالهما، فالكلام في أصل
المسألة هل يحبس لهذا أم لا؟ قال قوم: يحبس لأن الذي عليه أن يقيم البينة والذي
بقي على الحاكم من معرفة العدالة، ولأن الأصل العدالة حتى يعرف غيرها، وقال
93

بعضهم: لا يحبس لجواز أن يكون فاسقا وحبسه بغير حق أو تكون عادلة وحبسه
بحق، وإذا انقسم إلى هذا لم يحبسه بالشك، والأول أصح عندنا فعلى هذا لم
يطلقه، ومن قال بالثاني أطلقه حتى يعرف العدالة، هذا إذا كان الحاكم حبسه من
غير أن يقول: حكمت بذلك.
وإن قال: كان حبسه وحكم بحبسه، فليس لهذا تخليته لأن ذلك ينقض
اجتهاد الحاكم الأول، والذي يقتضيه مذهبنا أن له أن يبحث عن الشهود، فإن لم
يكونوا عدولا نقض ما حكم الأول به من حبسه.
الجواب الرابع: قال: حبسني ظلما فإني أرقت على نصراني خمرا فقضى علي
بالضمان وحبسني، أو قتلت كلبا فقضى علي بقيمته، فعندنا أنه ليس له أن ينقضه
لأنه حبسه بحق لأن ذلك عندنا مضمون.
وقال بعضهم: ينظر في الحاكم الجديد: فإن وافق اجتهاده اجتهاد الأول أعاده
إلى الحبس، وإن أدى اجتهاده أنه لا ضمان عليه فهذه مسلمة مشهورة إذا حكم
باجتهاده ثم ولى غيره هل ينقض بالاجتهاد ما حكم فيه بالاجتهاد؟ على قولين:
أحدهما: لا ينقضه بل عليه أن يقره ويمضيه، لأنه ثبت بالاجتهاد، فلا ينقض
بالاجتهاد حكما ثبت بالاجتهاد كاجتهاد نفسه بعد الاجتهاد.
والثاني: لا ينقضه لأنه ثبت بالاجتهاد، ولا يمضيه لأنه باطل عنده، فيرده إلى
الحبس حتى يصطلحوا، ويكون الحاكم في مهلة النظر، وهذا لا يصح على مذهبنا
لأن الحكم بالاجتهاد لا يصح وإنما يحكم الحاكم بما يدل الدليل عليه، فإن كان
الحاكم الأول حبسه بحق أقره عليه وإن حبسه بغير حق خلاه.
الجواب الخامس: قال: ما لي خصم وحبست بغير حق، فإذا قال هذا نادى
منادي القاضي بذلك فينظر فيه: فإن حضر خصمه وادعى أنه خصمه وهو الذي
حبسه، قلنا له: هذا خصمك، فإن قال: نعم حبسني بسببه، فالحكم على
ما مضى، وإن قال: ما لي خصم ولا أعرف هذا، نظرت: فإن كان للمدعي بينة أنه
94

خصمه وأنه حبسه حكم بها عليه، وإن لم يكن معه بينة بحال نادى منادي الحاكم
بذلك، فإن لم يظهر له خصم فالقول قوله مع يمينه أنه لا خصم له، ويطلقه، لأن
الظاهر أنه ما حبسه محالا وأنه حبسه بخصم له عليه حق.
فإذا فرع من النظر في أمر المحبسين نظر بعد ذلك في أمر الأوصياء: وقد يكون
الوصي في أمر الأطفال والمجانين من أولاده وأموالهم، وقد يكون وصيا بتفرقة
الثلث أو وصيا منهما، وإنما قلنا يقدم النظر في أمر الأطفال والمجانين، لأن هؤلاء
لا يعبرون عن نفوسهم، ولا يمكنهم المطالبة بحقوقهم، وتفرقة الثلث إذا كان على
أقوام غير معينين لم يمكنهم المطالبة بحقوقهم، فكان النظر في أمر من لا يمكنه
المطالبة بحقه أولى، فإذا ثبت هذا نظر في وصي وصي.
فإذا نظر في ذلك لم يخل من أحد أمرين: إما أن يكون الحاكم الذي قبله قد
أنفذ الوصية إليه وقضى بصحتها أو لم يفعل ذلك.
فإذا كان قد أنفذ الوصية إليه نظر في أمره: فإن وجده ثقة قويا أقر على نظره،
لأن الثقة لا يجور، والقوي لا يضعف عن النظر فيها، وإن وجده فاسقا عزله لأنه
موضع ولاية وأمانة والفسق ينافي ذلك، وإن وجده ضعيفا ثقة أقره على النظر لأنه
أمين، وضم إليه غيره لضعفه عن النظر.
وإن كان الحاكم الأول لم ينفذ الوصية إليه لم يخل الوصي من أحد أمرين: إما
أن يكون قد تصرف أو لم يكن تصرف.
فإن لم يكن تصرف في شئ نظر فيه: فإن كان ثقة قويا أقره عليها وأمضاها
له، وإن كان فاسقا عزله، وإن كان ثقة ضعيفا أقره على النظر لأن الموصي رضي
به، وضم إليه غيره لعجزه عن النظر.
وإن كان الوصي قد تصرف بأن فرق الثلث نظرت: فإن كان ثقة نفذ تصرفه،
وإن كان فاسقا نظرت في أهل الثلث: فإن كانوا معينين فقد وقعت التفرقة موقعها لا
لأن الوصي تصرف بحق، لكن لأنه قد وصل كل ذي حق إلى حقه، ولو وصل حقه
95

إليه بغير تسليم الوصي إليه صح، كذلك هاهنا، وإن كان أهل الثلث غير معينين
مثل أن أوصى به للفقراء والمساكين، فعلى الوصي الضمان، لأنه تعدى فيه، لأنه
غير وصي فلا فصل بينه وبين الأجنبي فيضمنه القاضي ذلك المال، ويقيم أمينا
يفرقه في أهله.
فإذا فرع من الأوصياء نظر في أمر الأمناء: وقد يكون أمينا في مواضع، منها أن
يموت الرجل ويخلف مالا وأطفالا ومجانين، ويكون موته من غير وصية فينصب
الحاكم أمينا ينظر لهم، وقد يكون أوصى بتفرقة ثلثه مطلقا ولم يسند ذلك إلى
وصي، فالحاكم ينصب أمينا لتفرقة ثلثه، أو يكون الوصي يفسق فينصب الحاكم
مكانه أمينا، وقد يضعف الوصي فيضم إليه أمينا، فينظر في أمر أمين أمين
كالأوصياء سواء فإن وجد الأمين ثقة قويا أقره، وإن وجده فاسقا عزله ونصب غيره،
وإن وجده ثقة ضعيفا أقره وضم إليه أمينا آخر ليعينه على النظر، وجملته أن أمين
الحاكم كوصي الوالد وقد فسرناه.
فإذا فرع من الأمناء نظر في الضوال واللقطة:
أما الضوال فما كان من البهائم التي لا تلتقط بل تحفظ لصاحبها، وهو ما
امتنع من صغار السباع لقوته كالإبل والبقر والحمير والبغال، أو امتنع لخفته كالظباء
والطيور، فهذه تحفظ لأربابها يجعلها الإمام في الحمى ترعى فيه.
وأما اللقطة فكل مال إذا لم يحفظ هلك، كالغنم والثياب والأثمار و
الحبوب، فإذا وجد الرجل شيئا من هذا فهو لقطة لا نظر للحاكم فيها ما لم يحل
الحول عليها، فإذا حال الحول فللملتقط أن يتملكها ولا اعتراض عليه فيها، وقد
يكون في الناس من لا يرى التملك فيدفعها إلى القاضي ليحفظها على مالكها.
فإذا كان عنده شئ من اللقطة فالحاكم يصنع ما يراه مصلحة، فإن كان مما
يخاف هلاكه كالغنم والحيوان، أو لا يخاف لكن في حفظه مؤونة كالأموال الجافية
باعها وحفظ ثمنها، وإن لم يكن في حفظها مؤونة ولا غرر كالأثمان والجواهر
96

حفظها على ربها، فإذا جاء طالبها دفعها إليه على شرائطها المذكورة في اللقطة.
اللدد والالتواء مصدران، يقال: فلان يتلدد إذا كان يلتفت يمينا وشمالا
ويلتوي، ومنه قيل: لديد الوادي، لجانبيه لأنها مائلة، ومنه قيل اللدود، وهو
الوجور، لأنه في أحد شدقيه، وخصم ألد إذا كان شديد الخصام، وجمعه لد، قال
تعالى " وهو ألد الخصام " و " تنذر به قوما لدا ".
فإذا تقرر هذا، وبان للقاضي من أحد الخصمين لدد - أي التواء وعنت - وقد
يكون هذا من وجوه: أحدها أن يتقدم خصمه إلى الحاكم فيدعي عليه ويتوجه اليمين
ويسأل الحاكم أن يستحلفه له، فإذا بدأ باليمين قطعها عليه، وقال: عليه بينة، فإذا
فعل هذا أول مرة نهاه عنه ومنعه منه، وعرفه أن هذا لا يحل إن لم يكن لك بينة، فإن
عاد كذلك زبره وأغلظ له في النهي عنه، وصاح عليه، ولا يعجل عليه بالتعزير لئلا
يكون جاهلا بذلك، فإن عاد ثالثا إلى مثلها فقد فعل ما يستحق به التأديب والتعزير،
فينظر الحاكم فيه باجتهاده، فإن كان قويا لا يكفه عنه إلا التعزير عزره، وإن كان
ضعيفا لا يطيق الضرب حبسه وأدبه بالحبس لا بالضرب، وإن كان المصلحة في
ترك ذلك كله فعل.
وهكذا إذا أغلظ للحاكم في القول فقال: حكمت علي بغير حق، نهاه فإن عاد
زبره، فإن عاد فقد استوجب التعزير بالضرب أو الحبس أو بالعفو، وجملته أنه إليه
ففعله بحسب ما يقتضيه المصلحة.
المستحب أن لا يكون الحاكم جبارا متكبرا عسوفا لأنه إذا عظمت هيبته لم
يلحن ذو الحجة بحجته هيبة له، ولا يكون ضعيفا مهينا لأنه لا يهاب، فربما فرق
بمجلسه بالمشاتمة، ويكون فيه شدة من غير عنف ولين من غير ضعف فإنه أولى
بالمقصود.
ومتى حدثت حادثة فأراد أن يحكم فيها، فإن كان عليها دليل من نص كتاب
أو سنة أو إجماع عمل عليه، وكذلك عندهم إن كان عليه قياس لا يحتمل إلا معنى
واحدا كالشفعة للشريك، وخيار الأمة إذا أعتقت تحت عبد، ونحو هذا، حكم به
97

من غير مشورة، وعندنا أن جميع الحوادث هذا حكمها، فلا يخرج عنها شئ، فإن
اشتبهت كانت مبقاة على الأصل.
وعندهم إن كانت مسألة اجتهاد استحب له أن يشاور فيها لقوله تعالى:
" وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله " ولم يرد تعالى المشاورة في أحكام
الدين وما يتعلق بالشريعة، وإنما أراد ما يتعلق بتدبير الحرب ونحوه بلا خلاف، و
كان رسول الله صلى الله عليه وآله غنيا عن مشاورتهم لكن أراد أن يستن به الحاكم
بعده، وقال تعالى: " وأمرهم شورى بينهم " وشاور النبي عليه السلام أصحابه في
قصة أهل بدر وأساراهم وشاور أهل المدينة يوم الخندق وعليه الإجماع عندهم، و
قد قلنا ما عندنا.
وعندهم إذا شاور فينبغي أن يشاور الموافق والمخالف من أهل العلم ليذكر
كل واحد منهم مذهبه وحجته، لينكشف الحجاج، ولا يشاور إلا من كان ثقة أمينا
عالما بالكتاب والسنة، وأقاويل الناس، ولسان العرب، والقياس، فإذا شاورهم
في ذلك واجتهد فيها وغلب على ظنه الحكم فيها فذاك فرضه لا يرجع فيه إلى قول
غيره وإن كان غيره أعلم منه، حتى يعلم كعلمه، لأنه لا يصح أن يلي الحاكم حتى
يكون ثقة من أهل الاجتهاد، فإن لم يكن كذلك لم يكن حاكما ولم ينفذ له حكم، و
كل ما حكم به باطل، وكذلك لا يجوز أن يقلد ويفتي، وقد قلنا: إن عندنا أنه لا
يتولى الحكم إلا من كان عالما بما وليه، ولا يجوز أن يقلد غيره ولا يستفتيه فيحكم
به، فإن اشتبه عليه بعض الأحكام ذاكر أهل العلم لينبهوه على دليله، فإذا علم
صحته حكم به وإلا فلا.
وقال قوم في المفتي مثل ما قلناه، وقال في القاضي: يجوز أن يكون عاميا يقلد
ويقضي، فإذا كان من أهل العلم والاجتهاد لم يكن له تقليد غيره عند قوم، وقال
آخرون: له أن يقلد من هو أعلم منه ويعمل بقوله.
فأما إذا نزلت بالعالم نازلة تفتقر إلى اجتهاد، مثل أن خفيت عليه جهة القبلة و
قد دخل وقت الصلاة، نظرت: فإن كان الوقت واسعا لم يكن له التقليد بل يستدل
98

على جهتها لأنه لا يخاف فوات الحادثة، وإن كان الوقت ضيقا فخاف إن تشاغل
بالدلائل والاجتهاد أن تفوته الصلاة، قال قوم: له تقليد غيره، وقد حكي عن هذا
القائل أنه كان يقلد الملاحين في جهة القبلة، وقال: إذا ضاق الوقت جرى مجرى
الأعمى والعامي، وقال غيره: ليس له التقليد، وهو الأقوى عندي، لأنه متمكن من
الوصول إلى العلم بما كلفه.
فعلى هذا هل يتصور ضيق الوقت وخوف الفوات في حق الحاكم أم لا؟ قال
قوم: يتصور، وهو إذا ترافع إليه مسافران والقافلة سائرة، ومتى تشاغل بالاجتهاد
فاتهما السفر، فعلى هذا يجوز عند قوم أن يقلد غيره ويحكم به، وقال آخرون: لا
يجوز، وهو الصحيح عندنا.
القضاء لا ينعقد لأحد إلا بثلاث شرائط:
الشرط الأول: أن يكون من أهل العلم والعدالة والكمال، وعند قوم بدل كونه
عالما أن يكون من أهل الاجتهاد، ولا يكون عالما حتى يكون عارفا بالكتاب والسنة
والإجماع، والاختلاف ولسان العرب، وعندهم والقياس.
فأما الكتاب فيحتاج أن يعرف من علومه خمسة أصناف: العام والخاص،
والمحكم والمتشابه، والمجمل والمفسر والمطلق والمقيد والناسخ والمنسوخ.
أما العموم والخصوص، لئلا يتعلق بعموم قد دخله التخصيص كقوله تعالى:
" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن " هذا عام في كل مشركة حرة كانت أو أمة وقوله:
" والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " خاص في الحرائر فقط، فلو
تمسك بالعموم غلط وكذلك قوله: " اقتلوا المشركين " عام، وقوله: " من الذين أوتوا
الكتاب حتى يعطوا الجزية " خاص في أهل الكتاب.
وأما المحكم والمتشابه، ليقضي بالمحكم دون المتشابه.
والمجمل والمفسر، ليعمل بالمفسر كقوله: " أقيموا الصلاة " وهذا غير مفسر
وقوله: " فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون... الآية " مفسر لأنه فسر الصلوات
99

الخمس لأن قوله " حين تمسون " يعني المغرب والعشاء الآخرة " وحين تصبحون "
يعني الصبح " وعشيا " يعني العصر " وحين تظهرون " يعني الظهر.
وأما المطلق والمقيد، ليبني المطلق على المقيد كقوله: " واستشهدوا
شهيدين من رجالكم " فهذا مطلق في العدل والفاسق، وقوله: " وأشهدوا ذوي عدل
منكم " مقيد بالعدالة فيبني المطلق عليه.
وأما الناسخ والمنسوخ، ليقضي بالناسخ دون المنسوخ، كآية العدة بالحول و
الآية التي تضمنت العدة بالأشهر.
وأما السنة فيحتاج أن يعرف منها أيضا خمسة أصناف: المتواتر والآحاد
والمرسل والمتصل ليعمل بالمتواتر دون الآحاد، وبالمتصل دون المرسل، والمسند
ما كان مرفوعا إلى رسول الله، والمنقطع ما كان موقوفا على صحابي، والعام و
الخاص، والناسخ والمنسوخ لما تقدم في نص القرآن، وفي السنة مجمل ومفسر
ومطلق ومقيد كما في الكتاب فيحتاج أن يعرف كل ذلك لما مضى.
ويعرف الإجماع والاختلاف لأن الإجماع حجة لئلا يقضي بخلافه ويعرف
الاختلاف ليعلم هل قوله موافق لقول بعض الفقهاء أم لا؟
ويحتاج أن يعرف لسان العرب لأن صاحب الشريعة خاطبنا به، ومن راعى
القياس قال: لا بد من أن يعرف كيفية وجوه الاستنباط.
وقال قوم: لا يلزمه أن يكون عارفا بجميع الكتاب بل يكفي أن يعرف من ذلك
الآيات المحكمة، وقيل إن جميع ذلك خمسمائة آية، وذلك يمكن معرفته، والسنة
يكفي أن يعرف ما يتعلق بالأحكام من سنته عليه السلام دون آثاره وأخباره فإن جميع
ذلك لا يحيط به أحد علما، وما قلناه مدون في الكتب في أحاديث محصورة، وأما
الخلاف فهو متداول بين الفقهاء يعرفونه حتى أصاغرهم، وأما لغة العرب فيكفي أن
يعرف به ما ذكرناه دون أن يكون عالما بجميع اللغات، وفي الناس من أجاز أن يكون
القاضي عاميا ويستفتي العلماء ويقضي به، والأول هو الصحيح عندنا.
الشرط الثاني: أن يكون ثقة عدلا، فإن كان فاسقا لم ينعقد له القضاء إجماعا إلا
100

الأصم فإنه أجاز أن يكون فاسقا.
الشرط الثالث: أن يكون كاملا في أمرين: كامل الخلقة والأحكام.
أما كمال الخلقة فإن يكون بصيرا، فإن كان أعمى لم ينعقد له القضاء لأنه
يحتاج أن يعرف المقر من المنكر، والمدعي من المدعى عليه، وما يكتبه كاتبه بين
يديه، وإذا كان ضريرا لم يعرف شيئا من ذلك، وإذا لم يعرف لم ينعقد له القضاء.
وإما كمال الأحكام، فإن يكون بالغا عاقلا حرا ذكرا فإن المرأة لا ينعقد لها
القضاء بحال، وقال بعضهم: يجوز أن تكون المرأة قاضية، والأول أصح، ومن
أجاز قضاءها قال: يجوز في كل ما يقبل فيه شهادتها، وشهادتها تقبل في كل شئ
إلا في الحدود والقصاص.
لا يجوز القضاء بالاستحسان عندنا ولا بالقياس، ومن أوجب القياس حكما
لم يجز له بالاستحسان، وقال قوم: يجوز الاستحسان وقد ذكرناه في الأصول.
إذا قضى الحاكم بحكم ثم بان له أنه أخطأ أو بان له أن حاكما كان قبله قد أخطأ
فيما حكم به وجب عليه أن ينقض حكمه عندنا، ويستأنف الحكم بما علمه حقا
لا يسوع له غير ذلك.
وقال قوم: إن بان أنه أخطأ فيما لا يسوع فيه الاجتهاد مثل أن خالف نص كتاب
أو سنة أو إجماعا أو دليلا لا يحتمل إلا معنى واحدا فإنه ينقض حكمه ويبطله،
وقال آخرون: إن خالف نص كتاب أو سنة لم ينقض حكمه وإن خالف الإجماع
نقض حكمه، ثم ناقضوا فقال بعضهم: إن حكمه بالشفعة لجار نقضت حكمه، و
هذه مسألة خلاف، وقال محمد: إن حكم بالشاهد مع اليمين نقضت حكمه، و
قال أبو حنيفة: إن حكم بالقرعة بين العبيد أو بجواز بيع ما ترك التسمية على ذبحه
عامدا نقضت حكمه لأنه حكم بجواز بيع الميتة، وإن كان الخطأ فيما لا يسوع
الاجتهاد فيه فإنه لا ينقض حكمه عندهم.
فأما إن تغير حكمه قبل أن يحكم باجتهاده الأول فإنه يحكم بالثاني ويدع
الأول، لأن الأول عنده خطأ فلا يحكم بما يعتقده خطأ، وهكذا قالوا في من أشكل
101

على جهة القبلة واجتهد ثم تغير اجتهاده نظرت: فإن كان بعد الصلاة لم ينقض
الأول، وإن كان قبل الصلاة عمل على الثاني، وهكذا لو سمع شهادة شاهدين ثم
فسقا، فإن كان بعد الحكم بشهادتهما لم ينقض حكمه، وإن كان قبل الحكم
بشهادتهما لم يحكم بشهادتهما.
وقد قلنا ما عندنا في ذلك: وهو أنه متى بان له الخطأ فيما حكم به أو فعله
وعلم أن الحق في غيره نقض الأول واستأنف الحكم بما علمه حقا، وكذلك في
جميع المسائل التي تقدم ذكرها وأشباهها.
إذا ولى القضاء لم يلزمه أن يتبع حكم من كان قبله عندنا،. وإن تبعه جاز، فإن
بان أنه حكم بالحق أقره عليه وإن بان أنه حكم بالباطل نقضه، وإن تحاكم
المحكوم عليه وادعى أنه حكم عليه بالجور لزمه النظر فيه على ما بيناه.
وقال المخالف: ليس عليه أن يتبع حكم من كان قبله لأن الظاهر من حكمه و
قضائه أنه وقع موقع الصحة فإن اختار أن يتبعه وينظر فيه لم يمنع منه، فإن كان
صوابا لم يعرض له، وإن كان خطأ فيما لا يسوع فيه الاجتهاد نظرت: فإن كان حقا لله
كالعتق والطلاق نقضه وأبطله، لأن له في حق الله نظرا، وإن كان ذلك في حق
آدمي لم يكن النظر فيه من غير المطالبة.
فإن استعدى إليه على حاكم كان قبله لم يحضره حتى يبين ما يستعديه لأجله
احتياطا للمعزول وخوفا عليه من الامتهان والابتذال، وإن ذكر ما يستعدي عليه
لأجله نظرت:
فإن قال: لي عنده حق من دين ومعاملة وغصب، أحضره وسأله، فإن
اعترف ألزمه وإن أنكر قضي بينهما، كما يقضى بينه وبين غيره.
وإن قال: ارتشى مني على الأحكام، أحضره أيضا لأن الرشوة غصب.
وإن قال: قضى علي وجار في الحكم، فإنه قضى بفاسقين، نظرت: فإن
كان مع المدعي بينة أنه قضى عليه بذلك قضاء ما أحضره وإن لم يكن معه بينة
بذلك قال قوم: لا يحضره حتى يقيم البينة أنه حكم عليه حكما ما، لأن هذا مما لا
102

يتعذر إقامة البينة عليه لأن الحاكم لا يكاد يحكم إلا وعنده قوم، وقال قوم: يحضره
بغير بينة لأن الحاكم قد يحكم ولا يحضره أحد، وهو الأقوى عندي.
فإذا أحضره سأله عن ذلك، فإن قال: صدق، فعليه الضمان لأنه قد اعترف
أنه دفع ماله إلى الغير بغير حق، وإن أنكر فقال: ما قضيت إلا بعدلين، فالقول قوله
ولا يجب عليه إقامة البينة على صفة الحكم، وقال بعضهم: يجب عليه إقامة البينة
أنه حكم بعدلين، وهو الأقوى عندي لأنه إذا اعترف بالحكم ونقل المال عنه إلى
غيره وهو يدعي ما يزيل الضمان عنه فلا يقبل منه، ومن قال: إن القول قوله، منهم
من قال: مع اليمين، وهو الأقوى عندهم، لأن ما يدعيه المدعي ممكن، وقال
بعضهم: القول قوله بغير يمين.
إذا تحاكم إليه خصمان لا يعرف لسانهما أو شهد عنده شاهد بشئ فلا يعرف
لسانه فلا بد من مترجم يترجم عنه ليعرف الحاكم ما يقوله، والترجمة عند قوم شهادة
ويفتقر إلى العدد والعدالة والحرية ولفظ الشهادة، وقال قوم: يقبل في الترجمة
واحد لأنه خبر وليس بشهادة بدليل أنه لا يفتقر إلى لفظ الشهادة، والأول أحوط
عندنا لأنه مجمع على العمل به.
فمن قال: الترجمة شهادة، قال: ينظر فيما يترجم عنه فإن كان مالا أو ما في
معناه ثبت بشهادة شاهدين، وشاهد وامرأتين، وإن كان مما لا يثبت إلا بشاهدين
كالنكاح والنسب والعتق وغير ذلك، لم يثبت إلا بشاهدين عدلين، وإن كان
حد الزنى فأصل الزنى لا يثبت إلا بأربعة.
والإقرار، قال قوم: يثبت بشاهدين، لأنه إقرار، وقال آخرون: لا يثبت إلا
بأربعة لأنه إقرار بفعل، فوجب أن لا يثبت إلا بما ثبت به ذلك الفعل كالإقرار بالقتل.
إذا شهد عند الحاكم شاهدان بحق يكتب حلية كل واحد منهما واسمه ونسبه و
يرفع فيه إلى موضع لا يشاركه فيه غيره، وهو كلام في كيفية البحث عن حال الشهود
وينبغي أن يبين أولا وجوب البحث ثم يبين كيفيته.
103

وجملته أنه إذا ادعى عند الحاكم دعوى على رجل فأنكر المدعى عليه الحق
فأتى المدعي بشاهدين لم يخل الحاكم من ثلاثة أحوال: إما يعرف عدالتهما أو
فسقهما أو لا يعرف منهما عدالة ولا فسقا.
فإن عرف عدالتهما بأن شهدا عنده قبل هذا فعرف عدالتهما بالبحث عنهما، أو
عرفهما لكونهما في جواره أو نحو هذا، حكم بشهادتهما على ما يعرفه من عدالتهما
ولم يبحث عن حالهما، لأنه قد عرفهما عدلين.
وإن عرفهما فاسقين في الظاهر أو فاسقين في الباطن دون الظاهر لم يحكم
بشهادتهما، لأنه لا يجوز أن يحكم بشهادة فاسقين.
وإن لم يعرفهما بل جهل حالهما والجهل على ضربين:
أحدهما: ألا يعرفهما أصلا.
والثاني: أن يعرف إسلامهما دون عدالتهما، لم يحكم بشهادتهما حتى يبحث
عن عدالتهما وسواء كان ذلك في حد أو قصاص أو غير ذلك من الحقوق.
وقال قوم: إن كان ذلك في قصاص أو حد كما قلنا، وإن كان غير ذلك
كالأموال والنكاح والطلاق والنسب، حكم بشهادتهما بظاهر الحال، ولم يبحث
عن عدالتهما بعد أن يعرف إسلامهما، ولا يكتفي بمعرفة إسلامهما بظاهر الدار كما
يحكم بإسلام اللقيط، بل على تعرف السبب وهو أن أسلما بأنفسهما أو بإسلام
أبويهما أو بإسلام الثاني، فإذا عرفهما مسلمين حكم إلا أن يقول المحكوم عليه:
هما فاسقان، فحينئذ لا يحكم حتى يبحث عن حال الشهود.
فإذا عرف العدالة حكم، وإذا حكم بشهادتهما بظاهر العدالة عنده نفذ
حكمه، فلو ثبت أنهما كانا فاسقين حين الحكم بشهادتهما لم ينقض الحكم، و
الأول أحوط عندنا، والثاني تدل عليه رواياتنا، غير أنه إذا علم أنهما كانا فاسقين
حين الحكم نقض حكمه.
وأما كيفية البحث فنقدم أولا من الذي يبحث عنه ومتى يبحث عنه.
104

وجملته أن الشهود ضربان: من له شدة عقول، يعني وفور عقل وضبط وحزم
وجودة تحصيل، ومن ليس لهم شدة عقول، يعني هو عاقل إلا أنه ليس بكامل
العقل.
فإذا لم يكن لهم شدة عقول، فإذا شهد عنده منهم اثنان في غير الحدود وأربعة
في الحدود، فينبغي أن يفرقهم ويسأل كل واحد على حدته، متى شهد، وكيف
شهد، وأين شهد، ومن كتب أولا؟ وبالمداد كتب أو الحبر؟ وفي أي شهر وفي أي
يوم؟ وفي أي وقت منه؟ وفي أي محلة؟ وفي أي دار وأي مكان من الدار في الصفة أو
في البيت أو في الصحن؟ فإذا سمع ذلك منه يستدعي الآخر ويسأله كما سأل
الأول، فإن اختلفا سقطت الشهادة وإن اتفقا على ذلك يعظهم.
وروي في تفرقة الشهود خبر داود النبي عليه السلام وخبر دانيال، وقد رواه
الخاص والعام.
وروي أن سبعة خرجوا في سفر ففقد واحد منهم فجاءت امرأته إلى علي
عليه السلام وذكرت ذلك له، فاستدعاهم وسألهم فأنكروا ففرقهم وأقام كل واحد إلى
سارية، ووكل به من يحفظه ثم استدعى واحدا فسأله فأنكر فقال علي: الله
أكبر، فسمعه الباقون فظنوا أنه قد اعترف، واستدعى واحدا واحدا بعد هذا فاعترفوا،
فقال الأول: قد أنكرت، فقال: قد شهد هؤلاء عليك، فاعترف فقتلهم علي
عليه السلام به.
فإذا ثبت أن التفرقة مستحبة، فإذا ثبتوا مع ذلك على أمر واحد ولم يختلفوا و
وعظهم، فقال: شهادة الزور معصية تواعد النبي عليه السلام عليها، وأن شاهد الزور
لا يزول قدماه حتى يتبوأ مقعده من النار.
وروي أن رجلين شهدا عند علي عليه السلام على رجل أنه سرق، فقال
المشهود عليه: والله ما سرقت، والله إنهما كذبا علي لتقطع يدي، فوعظهما
عليه السلام واجتمع الناس فذهبا في الزحام، فطلبا فلم يوجدا، فقال علي عليه السلام:
لو صدقا لثبتا.
105

فإذا وعظهما فإن رجعا فلا كلام، وإن أقاما على الشهادة وقد اتفقا على
الشهادة ولم يختلفا ووعظا فثبتا، فعند ذلك يبحث عن عدالتهما، هذا إذا لم يكن
لهم شدة عقول.
فأما إن كان لهم شدة عقول ووفور ضبط وجودة تحصيل، لم يفرقهم ولم
يعظهم، لأن في ذلك نقيصة عليهم وغضاضة منهم، غير أنه يبحث عنهم،
والبحث عن هؤلاء من غير تفريق ولا عن موعظة، والبحث عن القسم الأول بعد
التفريق والموعظة.
فأما الكلام في كيفية البحث أن يكتب اسم كل واحد منهم، وكنيته إن كانت له
كنية، ويرفع في نسبه إلى الموضع الذي لا يشاركه فيه غيره، ويكتب حليته من لون
وقد وطول وقصر، ويذكر منزله الذي يسكنه في محلة كذا، ويذكر موضع مصلاه
وسوقه ودكانه ومعاشه من تجارة أو صنعة، لئلا يقع اسم على اسم، فيعدل الفاسق
ويفسق المعدل.
فإذا ضبط هذا نظرت: فإن أراد الحاكم الشرح والتطويل كتب: حضر القاضي
فلان بن فلان، فلان بن فلان المدعي وأحضر معه فلانا المدعى عليه، فادعى عليه
كذا وكذا، فأنكر، فأحضر المدعي شاهدين...، وذكر ما قلنا من ضبطهما،
بالصفات وإن أحب الاختصار والإيجاز اقتصر على ذكر المدعي والمدعى عليه،
وذكر قدر الحق والشهود.
أما معرفة المدعي لئلا يكون ممن لا تقبل شهادة المزكي له، لكونه أباه أو ولده
على الاختلاف فيه، وأما المدعى عليه لئلا يكون عدوه، وأما قدر الحق فلان في
الناس من يرى قبول شهادة الشاهد في القليل دون الكثير، وأما المشهود، فلما
مضى، ولينظر من الذي يزكيهم، فإذا ضبط كل هذا كتبه في رقاع ودفعها إلى
أصحاب مسائله ليسألوا عنه جيران بيته ودكانه وأهل سوقه ومسجده، وتكون
المسألة عنه سرا لأنه ليس المقصود هتك الشهود، فإذا كان جهرا ربما انكشف عليه
ما يفتضح به ولأنه إذا كان جهرا ربما توقف المزكي عن ذكر ما يعرفه فيه حياء ومراعاة
106

حق، ولأنه قد يخاف المشهود عليه فيبقي سرهما.
فإذا ثبت أن المسألة تكون سرا، فإنه يعطي كل ذلك إلى صاحب مسائله،
ويكتم عن كل واحد منه ما دفعه إلى الآخر لئلا يتواطئا على تزكية أو جرح بما لا
أصل له.
فإذا ثبت هذا فالحاكم بالخيار بين أن يطلق هذا إلى أصحاب مسائله ويفوض
المسألة إليهم، وبين أن يبعث كل واحد إلى رجل يعرفه الحاكم من جيرانه
ومخالطيه وأهل الخبرة والمعرفة به، فإذا ثبت هذا فالكلام في كيفية المسألة يأتي
إن شاء الله.
وينبغي أن يحرص الحاكم إذا بعث بصاحب مسألة ألا يعرف ويكون مجهولا
عند المدعي والمدعى عليه والشاهد، لأن المدعي ربما رشاه ليزكي المجروح و
المدعى عليه يرشوه ليجرح المزكي، والشاهد يرشوه ليثني عليه ويزكيه.
والمستحب أن يكون صاحب مسائله جامعا للعفاف في طعمه، لأن من لم يتق
أكل الحرام لا يتق الكذب وترك الصدق، ويكون جامعا للعفاف في نفسه من ترك
وفعل كالغضب والمعاصي، لأن من لم يصبر نفسه عن المعاصي لا يوثق بتزكيته
ويكون وافر العقل لئلا يخدع، بريئا من الشحناء والميل إلى قوم دون قومه لأنه
يخفي من عدوه حسنا ويذكر قبيحا، ولا يكون من أهل الأهواء فيميل على من
خالفه، ويخفف عمن وافقه، ولا يكون من أهل اللجاج، ويكون ثقة أمينا في دينه
لأنه موضع أمانة، ولا يستعمل فيه أهل الخيانة.
ولا يقبل التعديل والجرح إلا من اثنين وهو أحوط عندنا، وقال بعضهم: يجوز
أن يقتصر على واحد لأنه إخبار، وقال بعضهم: العدد معتبر في من يزكي الشاهدين،
ولا يعتبر في أصحاب مسائله، فإذا عاد إليه صاحب مسألته فإن جرح توقف في
الشهادة، وإن زكاة بعث الحاكم إلى المسؤول عنه، فإذا زكاه اثنان تحمل ذلك، ومن
أجاز تزكية واحد قال: هذا خبر لأنه لا يعتبر فيه لفظ الشهادة، وقال من خالفهم:
يعتبر لفظ الشهادة ولا تقبل فيه الرسالة ولا يقبل والدا لولده ولا ولدا لوالده، وقد
107

قلنا: إن عندنا يعتبر لفظ الشهادة لأنه شهادة، ويقبل كل في موضع تقبل فيه
الشهادة.
وإذا رجع أصحاب مسائله فشهدوا عنده بشئ نظرت: فإن عدلا حكم، وإن
جرحا وقف، وإن اختلفا فجرح أحدهما وعدل الآخر بعث بهما ثانيا وبعث مع كل
واحد منهما غيره، فإذا عادوا إليه نظرت: فإن تمت شهادة العدالة حكم بها، وإن
تمت شهادة الجرح وقف.
وإن جرحه اثنان وزكاه اثنان قدم الجرح على التعديل لأمرين: أحدهما أن من
شهد بالجرح معه زيادة لأن الإنسان يظهر الطاعات ويستر المعاصي، فمن شهد
بالعدالة شهد بالظاهر، ومن جرح عرف الباطن، فكان معه زيادة على الظاهر، كما
قلنا في من مات فشهد اثنان أن أخاه وارثه وحده، وشهد آخران أن له أخوين كان الزائد
أولى، وهكذا لو شهد اثنان أنه مات وخلف هذه الدار ورثته، وشهد آخران أنه باعها
قبل وفاته، كان من شهد بالبيع قبل الموت أولى، أو شهد شاهدان أن له عليه ألفا
وشهد آخران أنه قضاها كان من شهد بالقضاء أولى لأنه زائد.
فرع:
على هذا لو كانت الزيادة مع المزكي قدم على الجرح وهو إذا انتقل عن بلده
إلى غيره فشهد اثنان من بلده بالجرح، واثنان من البلد الذي انتقل إليه بالعدالة كانت
العدالة أولى لأنه قد يترك المعاصي ويستعمل الطاعات، فيعرف هذان ما خفي على
الأولين، وكذلك لو كان البلد واحدا فسافر فزكاه أهل سفره وجرحه أهل بلده كانت
التزكية أولى، وأصله أنا ننظر إلى الزيادة فنعمل عليها.
والمعنى الآخر أن من شهد بالجرح فهو ناقل، ومن شهد بالعدالة أقره على
الأصل كما لو شهد اثنان بألف وآخران بالقضاء كان القضاء أولى لأنه ناقل.
فإذا ثبت أن الجرح مقدم على التزكية، فإنه لا يقبل الجرح إلا مفسرا وتقبل
التزكية من غير تفسير، وقال قوم: يقبل الأمران معا مطلقا، والأول أقوى عندنا لأن
الناس يختلفون فيما هو جرح وما ليس بجرح، فإن أصحاب الشافعي لا يفسقون من
108

شرب النبيذ، ومالك يفسقه، ومن نكح المتعة في الناس من فسقه، وعندنا أن ذلك
لا يوجب التفسيق بل هو مباح مطلق، فإذا كان كذلك لم يقبل الجرح إلا مفسرا لئلا
يجرحه بما هو جرح عنده، وليس بجرح عند القاضي.
ويفارق الجرح التزكية لأن التزكية إقرار صفة على الأصل، فلهذا قبلت من غير
تفسير، والجرح إخبار عما حدث من عيوبه وتجدد من معاصيه فبان الفصل بينهما.
حكي أن بعض أهل العراق كان يتبع على إسماعيل بن إسحاق القاضي
حكوماته، فشهد عنده يوما مع آخر، فقال القاضي للمشهود له: زدني في شهودك،
فقال العراقي: بدلا عمن؟ قال: منك، قال: ولم؟ قال: لأنك تشرب المسكر،
قال: فأنا أعتقد إباحته واعتقادي إباحته أعظم من شربي له، ثم قال: قبلت شهادتي
أمس وأنا أشربه وتردها اليوم؟ فقبل شهادته.
شرب النبيذ واعتقاد إباحته عندنا فسق يوجب رد الشهادة، وإنما حكينا
الحكاية لنبين الفرض.
ولا يقبل صاحب المسألة جرح الشاهد إلا بالسماع أو المشاهدة، وذلك أن
شهود القاضي بالجرح والتعديل أصحاب مسائله، يبعث كل واحد منهم ليعرف
صفة الشاهد، فإذا عرفها على صفة يسوع له الشهادة بها حينئذ يرجع إلى الحاكم
ويشهد به عنده، فإذا شهد عنده بذلك سمع شهادته وعمل عليها، ولا يسأله من أين
تشهد بما شهدت به؟ كما يشهد عنده بالطلاق والعتق، فيعمل على ما شهد به
عنده، فلا يسأله من أين علمت هذا؟
فالمشاهدة أن يشاهده على ما يفسق به من غصب وزنا ولواط وقتل ونحو
ذلك.
والسماع على ضربين: أحدهما: بتواتر الخبر عنده بذلك، والثاني: يشيع
ذلك في الناس فيصير عالما بذلك.
ويسوع له أن يؤدي الشهادة مطلقا كما يستفيض في الناس النسب
والموت والملك المطلق فيصير شاهدا به.
109

فأما إن كان السماع خبر الواحد والعشرة فلا يصير عالما بذلك، لكنه يشهد عند
الحاكم بما سمعه، ويكون هاهنا شاهد الفرع والذي سمع منه شاهد الأصل فيكون
حكمه حكم شاهد الفرع والأصل، فلا يثبت عندنا ما قال: الأصل إلا بشاهدين.
فإذا ثبت هذا فإن صاحب المسألة إذا علم الصفة فشهد بها عند الحاكم،
فقال: زنا فلان ولاط فلان، إذا استفسره عن الذي جرحه به، لا يكون قاذفا، سواء
أضاف إليه هذا بلفظ القذف أو بلفظ الشهادة، لأنه لا يقصد إدخال المضرة عليه
بإضافة الزنى إليه وإنما قصد إثبات صفته عند الحاكم ليبني الحاكم حكمه عليها.
قال قوم: إذا قال المزكي: هو عدل، كفى ذلك في التزكية لقوله: " وأشهدوا
ذوي عدل منكم " فاقتصر على العدالة فقط، ومنهم من قال: لا بد أن يقول: عدل
علي ولي، لأنه بقوله عدل لا يفيد العدالة في كل شئ، وإنما يفيد أنه عدل، كقوله
" صادق " لا يفيد الصدق في كل شئ، فافتقر إلى قرينة تزيل الاحتمال ويجعله
مطلق العدالة مقبول الشهادة في كل شئ، فيقول: عدل علي ولي، فلا يبقى هناك
ما لا تقبل شهادته فيه، والأول أقوى وهذا أحوط.
ولا يقبل هذا منه حتى يكون من أهل الخبرة الباطنة والمعرفة المتقادمة.
أما الخبرة الباطنة فبشيئين:
أحدهما: أن عادة الإنسان أن يستر المعاصي فإذا لم يكن بباطنه خبيرا ربما كان
فاسقا في الباطن.
والثاني: إن كان لا يعرف الباطن من حاله كانت معرفته ومعرفة الحاكم سواء،
لأن كل واحد منهما يعرف الظاهر، فلما قلنا: لا بد للحاكم من البحث ثبت أنه يبحث
لمعرفة الباطن.
وأما المعرفة المتقادمة، لأن الإنسان ينتقل من حال إلى حال، يتوب مدة
فيعدل، وينقض التوبة أخرى فيفسق، فإذا لم تتقادم معرفته لم يعرف بنقل حاله،
فلهذا قلنا: لا بد من ذلك.
فإن قالوا: هلا قلتم لا يفتقر إلى ذلك كما لم يفتقر الجرح إليه؟ قلنا: الفصل
110

بينهما أن الجرح يعرف في لحظة وهو أن يرتكب ما يفسق به فتسقط شهادته، ولو
كان قبل ذلك أعدل الناس، فلهذا لم يفتقر إلى الخبرة المتقادمة، وليس كذلك
التزكية لأنه لا يكون عدلا بأن يراه في يومه عدلا، لأن العدل من تاب عن المعاصي
فطالت مدته في الطاعات، فإذا لم يكن خبيرا به، فربما لم يسغ أن يشهد بعدالته و
هذا إلى صاحب المسألة أن لا يشهد بالتزكية حتى يثبت عنده ذلك لمن هو من أهل
الخبرة الباطنة والمعرفة المتقادمة.
قد ذكرنا أن أصحاب مسائله يسألون عن صفة الشاهد سرا، فإذا سأل عنه سرا
فزكاه فإذا حضرا للحكم بشهادتهما لم يسألهما عن عدالتهما، لأنه قد سألهما عنها
وشهدا عنده بذلك، لكنه يسألهما فيقول: هذان هما اللذان زكيتماهما وسألتكما
عنهما؟ فإذا قالا: نعم، حكم بشهادتهما، وإنما قلنا: يسأل جهرا بعد السر، احتياطا
لئلا يقع اسم على اسم فيكون المزكي غير المسؤول عنه.
لا يجوز للحاكم أن يرتب شهودا يسمع شهادتهم دون غيرهم، بل يدع الناس
فكل من شهد عنده فإن عرفه وإلا سأل عنه، على ما بيناه، وقيل: أول من رتب
شهودا لا يقبل غيرهم إسماعيل بن إسحاق القاضي المالكي.
والصحيح ما قلناه، لأن الحاكم إذا رتب قوما فإنما يفعل هذا بمن هو عدل
عنده، وغير من رتبه كذلك مثله أو أعدل منه، فإذا كان الكل سواء لم يجز أن يخص
بعضهم بالقبول دون بعض، ولأنه فيه مشقة على الناس لحاجتهم إلى الشهادة
بالحقوق في كل وقت من نكاح وغصب وقتل وغير ذلك.
فإذا لم يقبل إلا قوما دون قوم شق على الناس - ولأن فيه ضررا على الناس - فإن
الشاهد إذا علم أنه لا يقبل قول غيره ربما تقاعد فيها حتى يأخذ الرشوة عليها ولأن
فيه إبطال الحقوق، فإن كل من له حق لا يقدر على إقامة البينة به من كان مقبول
الشهادة راتبا لها دون غيره، فإذا كان كذلك لم يجز ترتيبهم، وإنما نمنع أن يقبل قوما
دون غيرهم، فأما إن رتب قوما قد عرف عدالتهم وسكن إليهم يسمع قولهم ويقبل
111

شهادتهم، فإذا شهد بالحق عنده غيرهم يبحث عنهم فإذا زكوا حكم بذلك فلا
بأس به.
فإذا ثبت عنده اثنان بحق نظرت: فإن عرف الفسق وقف، وإن عرف العدالة
حكم، وإن خفي الأمر عنده سأل وبحث، فإذا ثبتت العدالة حكم، ومتى عرف
العدالة حكم بها، فإذن لا خلاف أن له أن يقضي بعلمه بالجرح والتعديل وإنما
الخلاف في القضاء بعلمه في غير ذلك.
فإذا ثبتت عنده العدالة، قال قوم: لا يعود إلى البحث ويبني الأمر على ما ثبت
عنده، لأن الأصل العدالة حتى يظهر الجرح، وقال بعضهم: عليه أن يعيد البحث
كلما مضت مدة أمكن تغير الحال فيها، لأن العيب يحدث والأمور تتغير ولم يحده،
وقال بعضهم: كلما مضت ستة أشهر، - وهو غير محدود -، وإنما هو على ما يراه
الحاكم، وهو الأحوط.
إذا حضر الغرباء في بلد عند حاكم فشهد عنده اثنان، فإن عرف العدالة حكم
وإن عرف الفسق وقف، وإن لم يعرف عدالة ولا فسقا بحث، وسواء كان لهما
السيماء الحسنة والمنظر الجميل وظاهر الصدق أو لم يكن، هذا عندنا وعند
جماعة، وقال بعضهم: إذا توسم فيهما العدالة بالمنظر الحسن حكم بشهادتهما
من غير بحث، لأن في التوقف تعطيل الحقوق.
وينبغي للقاضي أن يتخذ كاتبا يكتب بين يديه يكتب عنده الإقرار والإنكار
وغير ذلك.
روي عن النبي عليه السلام أنه قال لزيد بن ثابت: تعرف السريانية؟ قال: لا،
قال: فإنهم يكتبون لي ولا أحب أن يقرأ كتبي كل واحد، فتعلم السريانية، قال زيد:
فتعلمتها في نصف شهر، فكنت أقرأ بما يرد عليه وأكتب الجواب عنه.
وروي عن ابن عباس أنه قال: كان للنبي عليه السلام كاتب يقال له السجل.
وصفة الكاتب أن يكون عدلا عاقلا ويجتهد أن يكون فقيها نزها عن الطمع،
112

واعتبرنا العدالة لأنه موضع أمانة، واعتبرنا العقل كي لا يخدع، ويكون فقيها ليعرف
الألفاظ التي تتعلق الأحكام بها فلا يغيرها، لأن غير الفقيه لا يفرق بين واجب وجائز،
وليكون أخف على الحاكم، لأنه يفوض ذلك إليه ولا يحتاج أن يراعيه فيما يكتبه،
ويكون نزها بريئا من الطمع كي لا يرتشي فيغير، وأقل أحوال العدالة أن يكون حرا
مسلما فلا يتخذ عبدا لأنه ليس بعدل، وعندنا يجوز أن يكون عبدا لأنه قد يكون
عدلا، ولا يتخذ كافرا بلا خلاف لقوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من
دونكم لا يألونكم خبالا "، وكاتب الرجل بطانته.
وروى أبو سعيد الخدري عن النبي عليه السلام أنه قال: ما بعث الله من نبي ولا
استخلف من خليفة إلا كان له بطانتان بطانة يدعوه إلى الخير ويحضه عليه، وبطانة
يدعوه إلى الشر ويحضه عليه، والمعصوم من عصمه الله.
وقال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم
بالمودة " وكاتب الرجل وليه وصاحب سره وعليه إجماع الصحابة أنه لا يجوز أن
يكون كاتب الحاكم والإمام كافرا.
ولا ينبغي لقاض ولا وال من ولاة المسلمين أن يتخذ كاتبا ذميا ولا يضع
الذمي في موضع يفضل به مسلما، وينبغي أن يعز المسلمين لئلا يكون لهم حاجة
إلى غير أهل دينهم، والقاضي أقل الخلق في هذا عذرا، فإن كتب له عبده أو فاسق
في حاجة نفسه وضيعته دون أمر المسلمين فلا بأس.
فإذا ثبتت صفة الكاتب، فالحاكم بالخيار بين أن يجلسه بين يديه ليكتب ما
يكتب وهو ينظر إليه وبين أن يجلسه ناحية عنه، فإن أجلسه بين يديه فكتب وهو
ينظر إليه فلا يكاد يقع فيه سهو، ولا غلط، وإن أجلسه ناحية عنه عرفه ما يجري
بخطابه ليكتب ذلك.
فإن ترافع إليه نفسان فأقر أحدهما لصاحبه كتب الحاكم المقر منهما، وأشهد
على المقر منهما ثم بعث بهما إلى كاتبه، وإنما قلنا يكتب المقر أو يشهد عليه
لأنهما إذا قاما إلى الكاتب لا يؤمن أن يختلط المقر منهما فيقول كل واحد منهما: أنا
113

المقر له، فإذا خيف هذا احتيط بالكتابة والإشهاد.
وينبغي أن يكون القاسم بين الناس أموالهم في صفة الكاتب عدلا عاقلا و
يجتهد أن يكون فقيها نزها عن الطمع، ويكون عدلا كي لا يجور ولا يخون، وعاقلا
مستيقظا كي لا ينخدع، ويكون حاسبا لأنه عمله، وبه يقسم، فهو كالفقه للحاكم و
يفارق الكاتب لأنه لا حاجة به إلى الحساب.
وينبغي أن يكون عارفا بالقيم فإن لم يعرف القيم عمل على قول مقومين يقومان
له، فيقسم على ما يقولان.
إذا ترافع إلى الحاكم خصمان فادعى أحدهما على صاحبه حقا لم يخل
المدعى عليه من أحد أمرين: إما أن يقر أو ينكر.
فإن أقر ثبت الحق عليه بإقراره، لأن الإقرار أقوى من البينة، وبالبينة يثبت الحق
فالإقرار به أولى.
فإن قال المقر له: أشهد لي أيها الحاكم بما أقر لي به شاهدين، لزم الحاكم أن
يشهد له به، سواء قيل إن الحاكم يقضي بعلمه أو قيل لا يقضي بعلمه، لأنه إن قيل:
لا يقضي بعلمه، فلا بد منه لأن علمه لا يقضى له به، وإذا قيل: يقضي له بعلمه،
فلا بد أيضا منه لأنه قد يعلم ثم ينسى، ويعزل فلا يحكم بقوله بعد عزله، أو يموت
فيبطل حقه.
فإن سأل المقر له أن يكتب له بذلك محضرا قال قوم: يجب، وقال آخرون: لا
يجب عليه ذلك.
فمن قال: يجب أو قال: لا يجب وأجابه إلى الكتاب فصفته " بسم الله
الرحمن الرحيم حضر القاضي فلان بن فلان - وإن كان قاضي الإمام قال: قاضي
عبد الله الإمام، وإن كان خليفة قاض قال: خليفة القاضي فلان بن فلان والقاضي
فلان قاضي عبد الله الإمام على كذا وكذا -، فإذا فرع من صفة القاضي ذكر المدعي
والمدعى عليه ".
114

ولا يخلو القاضي من أحد أمرين: إما أن يعرفهما أو لا يعرفهما.
فإن كان يعرفهما بأنسابهما وأسمائهما بدأ بالمدعي فقال: فلان بن فلان
وأحضر معه فلان بن فلان الفلاني - والأولى أن يضبط حليتهما، فإن أخل بها جاز
لأن الاعتماد على النسب - فادعى عليه كذا وكذا فاعترف له فسأله أن يكتب له
محضرا فكتب له في وقت كذا وكذا، ويعلم الحاكم على رأس المحضر بعلامته
التي يعلم بها " الحمد لله رب العالمين " " الحمد لله على مننه " ونحو هذا.
ولا يحتاج أن يقول في هذا المحضر في مجلس حكمه وقضائه لأن الحق
يثبت باعترافه والاعتراف يصح منه في مجلس الحكم وفي غيره، ولا يحتاج أن
يقول: بشهادة فلان وفلان، ولا في آخر المحضر: شهدا عندي بذلك، لأن الحق
يثبت بالاعتراف عنده لا بالشهادة، فإن كتب فيه أقر وشهد على إقراره شاهدان كان
أوكد، هذا إذا كان الحاكم يعرفهما.
فأما إن لم يكن يعرفهما كتب على ما قلناه، غير أنه يقول في المدعي: حضر
رجل ذكر أنه فلان بن فلان الفلاني وأحضر معه رجلا ذكر أنه فلان بن فلان الفلاني،
ويكون الاعتماد هاهنا على الحلية فيذكر الطول والقصر، ويضبط حلية الوجه من
سمرة وشقرة، وصفة الأنف والفم والحاجبين والشعر سبطا أو جعدا، وقال ابن
جرير: إذا لم يعرفهما الحاكم لم يكتب محضرا لأنه قد يستعير النسب، وبه قال
بعض أصحابنا، والأول أقوى، لأن المعول على الحلية ولا يمكن استعارتها.
فأما إن أنكر، لم يخل من أحد أمرين: إما أن يكون مع المدعي بينة أو لا
بينة له.
فإن كان له بينة فالحاكم أولا يسأله، ألك بينة؟ ولا يقول: أحضر بينتك، بل
يسأله، فإذا قال: نعم، يقول له: إن شئت أقمتها، ولا يقول له أقمها، لأنه أمر، فإذا
أقامها لم يلزم الحاكم أن يسمعها حتى يسأله المدعي أن يسمعها، لأنها قد يحضر
ولا يرى أن يشهد له، فإذا سأل الحاكم استماعها قال الحاكم: من كان عنده شئ
فليذكر، ولا يقول الحاكم: اشهدا عليه، لأنه أمر بذلك، فإذا شهدا عنده بذلك
115

وسمعها ثبت الحق بشهادتهما عنده.
فإن سأله أن يكتب له محضرا بما جرى كتب له على ما بيناه:
بسم الله الرحمن الرحيم حضر القاضي فلان بن فلان قاضي عبد الله الإمام على
كذا وكذا في مجلس حكمه وقضائه فلان بن فلان الفلاني وأحضر معه فلان بن
فلان الفلاني فادعى عليه كذا، فأنكر، فسأل الحاكم المدعي: ألك بينة؟ فأحضرها
وسأله سماع شهادتهما ففعل فسأله أن يكتب له محضرا بما جرى، فأجابه إلى ذلك
في وقت كذا ويكتب العلامة في رأس المحضر.
ولا بد في هذا المحضر من ذكر مجلس حكمه وقضائه، ولا بد من ذكر ثبوته
بالبينة لأن فيه سماع البينة والبينة لا تسمع إلا في مجلس الحكم، ويفارق الأول لأن
الحق ثبت بالإقرار، ولا يفتقر إلى مجلس الحكم، ولا يكتب في آخر المحضر
شهدوا عندي بذلك، لأن ثبوته عنده بالشهادة يفارق الإقرار، لأنه ثبت به، فلهذا لم
يكتب: شهدوا عندي بذلك، هذا إذا لم يكن مع المدعي كتاب بحقه.
فأما إن كان معه كتاب بحقه والبينة شهدت له بما في كتابه، فإن اختار الحاكم
أن يكتب له محضرا فعل، وإن اختار أن يقصر على كتابه علم في أوله وكتب تحت
شهادة كل شاهد: شهد عندي بذلك في مجلس حكمي وقضائي، لأن الشهادة لا
تسمع إلا فيه، هذا إذا كانت معه بينة.
فأما إن لم يكن معه بينة فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، وليس له أن
يستحلفه لخصمه حتى يسأله أن يستحلفه، لأن اليمين حق له، فليس له أن يستوفيها
له كالدين، فإن استحلفه من غير مسألة الخصم لم يعتد بها بل يعيدها عليه إذا سأله
الخصم.
وحكي في هذا أن أبا الحسين بن أبي عمر القاضي أول ما جلس للقضاء ارتفع
إليه خصمان فادعى أحدهما على صاحبه دنانير وأنكر الآخر، فقال القاضي
للمدعي: ألك بينة؟ قال: لا، فاستحلفه القاضي من غير مسألة المدعي، فلما فرع
قال له المدعي: ما سألتك أن تستحلفه لي، فأمر أبو الحسين أن يعطي الدنانير من
116

خزانته، لأنه استحيى أن يستحلفه ثانيا.
فإذا ثبت أن القول قوله مع يمينه، فإما أن يحلف أو ينكل.
فإن حلف انفصلت الخصومة، فإن سأل الحالف الحاكم أن يكتب له محضرا
بما جرى كي لا يدعي عليه هذا الحق مرة أخرى فعل، وكتب:
" بسم الله الرحمن الرحيم حضر القاضي فلان بن فلان الفلاني قاضي عبد الله
الإمام على كذا وكذا في مجلس حكمه وقضائه فلان بن فلان الفلاني وأحضر معه
فلان بن فلان، وادعى عليه كذا وأنكر، فسأل القاضي المدعي: ألك بينة؟ فلم
يكن له بينة، فقال: لك يمينه، فسأله أن يستحلفه له ففعل، وذلك في وقت كذا "،
ولا بد - في مجلس حكمه - لأن فيه استحلافا، ويعلم في أوله ولا يعلم في آخره، لأنه
لا شهادة هاهنا، هذا إذا حلف.
وإن نكل رد اليمين على المدعي، فإن حلف ثبت الحق بيمينه مع نكول
المدعى عليه، فإن سأله أن يكتب له محضرا فعل وكتب على ما بيناه وزاد
فيه " فعرض اليمين على المدعى عليه فأنكر ونكل عنها فرد اليمين على المدعي
فحلف وثبت له الحق في وقت كذا " ويعلم في أوله، ولا بد فيه - من مجلس
الحكم - لأجل الاستحلاف، ولا يعلم في آخره، لأنه ما ثبت له الحق بالشهود.
هذه صفة المحاضر وليس في شئ منها حكم بحق وإنما هي حجة بثبوت
الحق، فما افتقر منها إلى ذكر مجلس الحكم والشهادة فعل، وما لم يفتقر إلى
ذلك ترك على ما ذكرناه، وإن سأل صاحب الحق الحاكم أن يحكم له بما ثبت له
عنده فعل ذلك، وقال: حكمت لك به، ألزمته الحق، أنفذت لك الحكم به.
فأما السجل فهو لإنفاذ ما ثبت له في المحضر والحكم به له، وهذا هو
الفصل بين المحضر والسجل أن المحضر لثبوت الحق، والسجل لإنفاذ ما فيه
والقضاء له به، وصفته " بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أشهد القاضي فلان بن
فلان قاضي عبد الله الإمام على كذا في مجلس حكمه وقضائه بموضع كذا في وقت
كذا أنه ثبت عنده بشهادة فلان وفلان وقد عرفهما بما ساع له قبول شهادتهما عنده
117

على ما في كتاب نسخته بسم الله الرحمن الرحيم "، وينسخ الكتاب أو المحضر في
أي حكم كان.
فإذا فرع منه قال بعد ذلك: فحكم به وأنفذه وأمضاه بعد أن سأله فلان بن فلان
أن يحكم له به، ولا يحتاج أن يذكر ذلك بمحضر المدعي والمدعى عليه، لأن
القضاء على الغائب جائز عندنا، لكنه إن اختار الاحتراز عن مذهب من منع منه،
قال فيه: بعد أن حضر من ساع له الدعوى عليه.
فإذا ثبتت صفة المحضر والسجل فمتى طولب الحاكم أن يكتب محضرا
وسجلا نظرت: فإن لم يكن في بيت المال كاغذ ولم يحمل له صاحب الحق كاغذا
لم يجب عليه أن يكتب له، لأنه لا يجب على الحاكم أن يتحمل من ماله لأحد
الخصمين.
فإن كان في بيت المال كاغذ أو حمل إليه صاحب الحق الكاغذ قال قوم: عليه
ذلك لأنها حجة له، فكان عليه إقامتها له كما لو أقر له بالحق فسأله الإشهاد على
إقراره فعل، وقال آخرون: لا يجب عليه لأن له بحقه حجة فلا يلزمه أكثر منها،
ويفارق الإقرار لأنه لا حجة بحقه له فلهذا كان عليه إقامتها له.
فمن قال: يكتب وجوبا أو استحبابا قال: يكتب نسختين إحديهما تكون في
يديه والأخرى تجلد في ديوان الحكم، وأيتهما هلكت بانت الأخرى عنها، فمن
هاهنا يجتمع عنده الحجج والوثائق وقد يجتمع عنده ودائع للناس، فإن ديوان
الحكم أحرز لها، وكل من حصل له محضر أو سجل كتب عليه محضر فلان،
سجل فلان، وثيقة فلان، بكذا وكذا ينجزها فلان.
فإن كان عمله واسعا جمع ما اجتمع عنده منها، وشدها في إصارة واحدة،
وكتب عليها قضاء يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا، وكذلك يصنع في كل يوم،
فإذا مضى أسبوع جمع ما اجتمع عنده فيه، فجعله في مكان واحد، وإذا مضى شهر
جمع كل ذلك وكتب: قضاء أسبوع كذا من قضاء شهر كذا، فإذا مضت سنة جمع
الكل في مكان واحد، وكتب على الجملة: قضاء سنة كذا، هذا إذا كان العمل
118

كثيرا.
فأما إن كان قليلا نظر إلى ما حكم به كل يوم فجعله في قمطر بين يديه، وختم
عليه بخاتمه ورفعه، وإذا كان من الغد أحضره وجعل فيه ما حصل عنده، فإذا
اجتمع قضاء أسبوع أو قضاء شهر جمعه وكتب عليه أسبوع كذا أو شهر كذا، على
ما فصلناه، وإنما قلنا: يفعل هذا، لأنه متى احتاج إلى إخراج شئ لم يتعب فيه،
وأخرجه أسرع ما يكون، ولو لم يفعل هذا التفصيل اختلطت الوثائق، وتعذر
إخراجها، فلهذا قلنا: يحصلها هذا التحصيل.
قد ذكرنا أن أحدا لا ينعقد له القضاء حتى يجمع فيه ثلاثة أوصاف: أن يكون ثقة
من أهل العلم، وأن يكون كامل الأحكام والخلقة، فإذا ثبت هذا فإن كان يحسن
الكتابة انعقد له القضاء وإن كان لا يحسن الكتابة:
قال قوم: انعقد له القضاء، لأنه ثقة من أهل الاجتهاد، وكونه لا يكتب لا يقدح
فيه، لأن النبي عليه السلام إمام الأئمة ما كان يكتب، ولم يؤثر ذلك فيه.
وقال آخرون: الكتابة شرط لأنه يحتاج أن يكتب إلى غيره، وأن يكتب غيره
إليه، فإذا كتب بحضرته شاهد ما يكتبه فلا يخفى عليه، ولا يمكنه أن يحرف ما
يكتبه، فإذا لم يعرف الكتابة، فأملى عليه ربما كتب ما لا يمليه عليه، ويقرأ ما لا
يكتب، فلهذا كانت الكتابة شرطا فهو كالأعمى.
ويفارق النبي عليه السلام من وجهين:
أحدهما: أنه كان مخصوصا بصحابة لا يخونونه وغيره بخلافه.
والثاني: أن الأمية في النبي عليه السلام فضيلة وفي غيره نقيصة لأن النبي
عليه السلام كان يخبر عن الله أخبار الأنبياء، فإذا كان أميا كان أبلغ لمعجزته، وأدل
على نبوته، لأنه يخبر عن الله تعالى، قال الله: " وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا
تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون " يعني أن المبطل يرتاب لو كان يكتب فلهذا كان
119

فضيلة، وليس كذلك غيره، لأنه إذا لم يكتب كان نقصا فيه فبان الفصل بينهما.
والذي يقتضيه مذهبنا أن الحاكم يجب أن يكون عالما بالكتابة والنبي
عليه السلام عندنا كان يحسن الكتابة بعد النبوة، وإنما لم يحسنها قبل البعثة.
إذا ارتفع إليه خصمان فذكر المدعي أن حجته في ديوان الحكم، فأخرجها
الحاكم من ديوان الحكم مختومة بخاتمه مكتوبا بخطه نظرت: فإن ذكر أنه حكم
بذلك حكم له، وإن لم يذكر ذلك لم يحكم به عندنا وعند جماعة، وقال قوم:
يعمل عليه ويحكم به وإن لم يذكره لأنه إذا كان بخطه مختوما بخاتمه فلا يكون إلا
حكمه، وإنما قلنا بالأول لقوله تعالى: " ولا تقف ما ليس لك به علم "، ولأن
الخط يشبه الخط، وقد يحتال عليه، فيكتب مثل خطه ويوضع في ديوانه، فربما
قضي بغير حق.
قالوا: أليس لو وجد في روزنامج أبيه بخط أبيه دينا على غيره كان له أن يعمل
على خطه ويحلف على استحقاقه بالخط؟، هلا قلتم في الحكم مثله؟ قيل:
الفصل بينهما أن الشهادة والحكم لا بد فيهما من علم يعمل عليه، فلهذا لم يعمل
على الخط، وليس كذلك في الدين والمعاملة، لأنها مبنية على ما يغلب على ظنه
وبالخط يغلب على ظنه، على أن عندنا أنه لا يجوز للورثة أن يحلف على ما يجد
خط أبيه به.
إن ادعى عنده مدع حقا على غيره فأنكر، فقال المدعي: لي بما ادعيته حجة
عليه، لم يخل من ثلاثة أحوال: إما أن يقول: أقر لي بالحق، أو حكم لي به عليه
حاكم، أو أنت حكمت لي به.
فإن قال: أقر لي به، نظرت: فإن أقام البينة أنه أقر عندك بالحق قضي به عليه،
لأن البينة لو شهدت على إقراره به في غير مجلس الحكم قضي عليه بها، فكذلك إذا
كان في مجلس الحكم، وإن لم يكن له بينة لكن الحاكم ذكر أنه أقر له به، فهل
يقضي بعلمه؟ قال قوم: يقضي بعلمه، وقال آخرون: لا يقضي، وعندنا أن الحاكم
إذا كان مأمونا قضى بعلمه، وإن لم يكن كذلك لم يحكم به.
120

وإن قال: الحجة حكم حاكم به عليه، فالحكم به كالإقرار به، إن أقامت البينة
عنده بأن حاكما حكم به عليه أمضاه، وحكم به عليه، لأنها شهادة عنده على فعل
غيره، وإن لم يكن له بينة لكنه علم أن حاكما غيره حكم به عليه فهل يقضي بعلمه
بذلك أم لا؟ على قولين.
وإن قال: أنت حكمت به لي عليه، فإن ذكر الحاكم ذلك أمضاه، وليس هذا
من القضاء بعلمه لكنه إمضاء قضاء قضى به بعلمه، وحكم قد كان حكم به قبل هذا
فتذكره الآن فأمضاه، وإن لم يذكره فقامت البينة عنده أنه قد كان حكم به لم يقبل
الشهادة على فعل نفسه عندنا وعند جماعة، وقال قوم: يسمع الشهادة على فعل
نفسه ويمضيه، والأول أقوى لأنه لو شهد بشئ ثم نسيه فقامت البينة عنده أنه
شهد به لم يشهد بذلك ما لم يذكره، ولا يرجع إلى قول غيره في شهادة نفسه، كذلك
في الحكم.
فإذا ثبت هذا فالحاكم إذا لحقه مثل هذا لا يمضيه لأنه لا يعلمه، ولا ينقضه
لجواز أن يكون حكم، بل يؤخره حتى يذكر، فإن مات أو عزل فقامت البينة عند غيره
بأنه حكم به أمضاه الغير لأنها شهادة على حكم غيره، وأما إن علم أنهما شهدا
بالزور قطعا إن أمكن ذلك أبطله ونقضه، فإن كان مات أو عزل فشهد به شاهدان
عند حاكم غيره لم يكن له أن يمضيه، وقال بعضهم: بل يقبله ويعمل عليه، والأول
أقوى لأن الحاكم كشاهد الأصل، والشهادة بحكمه كشاهد الفرع، ثم ثبت أن شاهد
الفرع لا تقبل شهادته على شهادة الأصل، إذا كان الأصل منكرا للشهادة فكذلك
هاهنا.
فصل: في كتاب قاض إلى قاض:
روى أصحابنا أنه لا يقبل كتاب قاض إلى قاض ولا يعمل به، وأجاز
المخالفون ذلك، قالوا: يقبل كتاب قاض إلى قاض وإلى الأمين وكتاب الأمين إلى
القاضي والأمين لقوله تعالى فيه قصة سليمان وبلقيس: " قالت يا أيها الملأ إني
121

ألقي إلي كتاب كريم إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم " فكتب إليها
سليمان وكانت كافرة يدعوها إلى الإيمان.
قال بعض أهل التفسير: البدأة بسم الله الرحمن الرحيم، لا يقدم عليه غيره
فقدم سليمان هاهنا ذكره على التسمية، فقال " إنه من سليمان وإنه بسم الرحمن
الرحيم " لأن المكتوب إليها كانت كافرة، فخاف سليمان أن تتكلم بما لا ينبغي فيعود
إليه لا إلى الله.
وروى الضحاك بن سفيان قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله على قوم
من العرب وكتب معي كتبا فأمرني فيه أن أورث امرأة أشيم الضبائي من دية زوجها
فعمل به عمر، وكان لا يورث المرأة من دية زوجها حتى روى له الضحاك بن سفيان
ذلك، فصار إليه وعمل به، وكان يورثها فيما بعد.
وروى عبد الله بن حكيم قال: أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله قبل
وفاته بشهر أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب.
وروي أن النبي عليه السلام جهز جيشا وأمر عليهم عبد الله بن رواحة
وأعطاه كتابا مختوما وقال: لا تفضه حتى تبلغ موضع كذا وكذا، فإذا بلغت ففضه
واعمل بما فيه، ففضضته وعملت بما فيه.
وكتب رسول الله صلى الله عليه وآله إلى القياصرة والأكاسرة:
كتب إلى قيصر ملك الروم: " بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله إلى
عظيم الروم: يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم... الآية " فلما وصل
الكتاب إليه قام قائم ووضعه على رأسه واستدعى مسكا فوضعه فيه، فبلغ رسول الله
صلى الله عليه وآله ذلك فقال: اللهم ثبت ملكه.
وكتب إلى ملك الفرس كتابا " بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله إلى
كسرى بن هرمزان أسلموا تسلموا والسلام " فلما وصل الكتاب إليه أخذه ومزقه وبلغ
ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: تمزق ملكه.
قال الشعبي: نقلت كتب رسول الله صلى الله عليه وآله على أربعة أضرب
122

واستقرت على الرابعة، كان يكتب في أول كتابه: باسمك اللهم ثم يكتب بعده ما أراد
على عادة الجاهلية، ثم نزل قوله تعالى " بسم الله مجريها ومرسيها " فكتب بسم الله،
فلما نزل قوله " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا " كتب " بسم الله الرحمن "
فلما نزل قوله " إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم " كتب " بسم الله الرحمن
الرحيم " فاستقر الأمر عليه إلى اليوم.
وذكروا أن عليه إجماع الأعصار لأنه لم يزل الصحابة والتابعون ومن بعدهم
عصرا بعد عصر يكتب بعضهم إلى بعض ولأن بالناس حاجة إليه.
وهذا كله ليس فيه دلالة: أما كتب النبي عليه وآله السلام فإنما عمل عليها
لأنها كانت معلومة وهي حجة لأن قوله حجة، وإنما الخلاف في من ليس بمعصوم
ولا يدري هل هو كتابه أم لا، يعمل به أم لا؟ فأما كتبه إلى كسرى وقيصر فإنه دعاهم
فيها إلى الله والإقرار بنبوته، وذلك عليه دليل غير الكتاب، ولا خلاف عندنا أنه
لا يقبل فيه كتاب قاض إلى قاض، والإجماع غير مسلم لأنا نخالف فيه.
فمن أجاز ذلك أجاز كتاب قاضي مصر إلى قاضي مصر، وقاضي قرية إلى قاضي قرية، و
قاضي مصر إلى قاضي قرية، لأن أحدا لا يولي القضاء إلا وهو ثقة
مأمون، وإذا كان كذلك لم يختلف باختلاف موضع ولايته، فإذا ثبت فكتب قاض
إلى قاض كتابا لم يجز أن يحكم بما فيه ولا يمضيه حتى يثبت عنده بالبينات أنه
كتاب فلان إليه، سواء وصل مختوما أو غير مختوم، وقال قوم: إذا وصل مختوما
حكم به وأمضاه.
فإذا ثبت أنه لا يقبل ولا يعمل عليه إلا بالشهادة، فالكلام في فصلين: في
كيفية التحمل وكيفية الأداء:
أما التحمل فإذا كتب القاضي كتابه استدعى بالشهود وقرأه عليهم أو دفعه إلى
ثقة يقرأه عليهم، فإذا قرأه الغير عليهما فالأولى أن يطلعا فيما يقرأه لئلا يقع فيه
تصحيف أو غلط وتغيير، وليس بشرط لأنه لا يقرأه إلا ثقة، فإذا قرأه عليهما أو قرأه
الآخر فعليه أن يقول لهما: هذا كتابي إلى فلان، والاحتياط أن يقول لهما هذا كتابي
123

إلى فلان وقد أشهدتكما على ما فيه.
فإذا تحملا عليه الشهادة نظرت: فإن كان قليلا يضبطانه اعتمدا على الحفظ
والضبط، وإن كان كثيرا لا يمكنهما ضبطه كتب كل واحد منهما نسخة منه يتذكر بها
ما شهد به، وقبضا الكتاب قبل أن يغيبا عنه، فإذا وصل الكتاب معهما إليه قرأه
الحاكم أو غيره على الحاكم وعليهما، فإذا سمعاه قالا: هذا كتاب فلان إليك،
ولا بد أن يقولا: قد أشهدنا على نفسه بما فيه، لأنه قد يكون كتابة ولكن غير الذي
أشهدهما على نفسه بما فيه، وسواء وصل الكتاب مختوما أو غير مختوم معنونا أو
غير معنون الباب واحد، فإن الاعتماد على شهادتهما لا على الخط والختم.
فإن امتحى الكتاب نظرت: فإن ضبطا ما فيه لم يضر وإن لم يضبطا ما فيه لم
يعمل عليه، فقد ثبت أنه لا بد من تحمل الشهادة وأدائها على ما فصلناه.
فأما إن كتب الكتاب فأدرجه وختمه ثم استدعى بهما فقال: هذا كتابي قد
أشهدتكما على نفسي بما فيه لم يجز، ولا يصح هذا التحمل ولا يعمل عليه ما لم
يقرأ عليهما، وقال بعضهم: إذا ختمه بختمه وعنونه جاز أن يتحمل الشهادة عليه
مدرجا يشهدهما أنه كتابه إلى فلان، فإذا وصل الكتاب شهدا عنده أنه كتاب فلان
إليه فيقرأه ويعمل بما فيه.
قالوا: وهذا غلط لأنه تحمل شهادة على ما في كتاب مدرج، فإذا لم يعلما ما
فيه لم يصح التحمل كالشهادة في الأملاك وفي الوصايا، فإنه لو أوصى بوصية وأدرج
الكتاب وأظهر الشهود مكان الشهادة، وقال: قد أوصيت بما أردته في هذا
الكتاب، ولست أختار أن يقف أحد على حالي وتركتي قد أشهدتكما على ما فيه،
لم يصح هذا التحمل بلا خلاف، فكذلك هاهنا، هذا الكلام في التحمل والأداء.
فأما الكلام فيما يكتب الحكم به نظرت: فإن حضره خصمان فحكم على
أحدهما بحق في ذمته ففر المحكوم عليه، فسأل المحكوم له أن يكتب له بذلك
كتابا كتب له بلا خلاف، لأنه قضاء على حاضر، وقد أقر بعد أن قضي به عليه،
فيكتب بذلك.
124

وإن قامت البينة عليه بالحق فهرب قبل أن يحكم عليه، أو حضر فادعى حقا
على غائب وأقام به بينة كان له أن يقضي عليه وهو غائب، وفيه خلاف.
فإذا قضى عليه فسأله أن يكتب له بذلك كتابا إلى قاض آخر جاز، ولا فصل
في هذا الفصل وفي الذي قبله بين أن يكون بين الكاتب والمكتوب إليه مسافة بعيدة
أو قريبة في بلد كانا أو في بلدين، لأنه نقل حكم إلى حاكم بما حكم به.
فأما إن قامت البينة عنده بالحق وثبت عنده ولم يحكم به، فقال: اكتب لي بما
حصل عندك، كتب له: شهدا عندي له بكذا وكذا، ليكون المكتوب إليه هو الذي
يقضى به بالحق، ولا يكتب: ثبت عندي بشهادتهما، لأن قوله: ثبت عندي،
حكم بشهادتهما فيكتب بالقدر الذي حصل عنده.
ولا يجوز أن يكتب في هذا الفصل حتى يكون بينه وبين المكتوب إليه مسافة
يجوز قبول الشهادة فيها على الشهادة لأنها شهادة على شهادة، فاعتبرنا في ذلك ما
نعتبره في الشهادة، ويفارق الفصلين قبله لأنه نقل حكم قد حكم به إلى حاكم فلا
يعتبر فيه المسافة.
فإذا ثبت هذا نظرت فيما شهدا به: فإن كان الحق دينا كتب به إليه، وإذا وصل
الكتاب إليه عمل به وقضى عليه وألزمه الخروج من حقه، وإن كان الحق عينا
نظرت:
فإن كان عينا لا تختلط بغيرها كعبد مشهور للسلطان أو فرس مشهور أو ثوب
مشهور لا نظير له أو ضيعة أو دار كتب إليه بذلك، وإذا وصل الكتاب عمل به
وحكم له.
وإن كان عينا تختلط بغيرها كثوب له مثل لكنه ضبط بالصفات فهل يكتب به أم
لا؟ قال قوم: لا يكتب به، وهو أصحهما عندهم، لأنه قد يشبه الثوب فلا يدري هل
هو الذي شهد به عنده أم لا، وقال بعضهم: يكتب به إليه ويضبط العين بصفاتها،
فإذا كان عبدا فوصل إليه الكتاب دفع العبد إلى المدعي وختم في رقبته بالرصاص،
وبعث به إلى الكاتب وكفله من الذي دفعه إليه.
125

فإذا وصل إليه نظرت: فإن كان هو الثوب بعينه سلمه إليه وأقر يده عليه، وإن
لم يكن هو الثوب كان على الكفالة به، وعليه رده إلى المكتوب إليه، وعليه جميع
مؤونته ولا يزول الضمان عنه حتى يرده إلى من قبضه منه، وعليه أجرة مثله مدة كونه
عنده لأنه قبضه بغير حق.
ولا تقبل شهادة النساء في كتاب قاض إلى قاض، لأن النساء يقبلن فيما كان
مالا أو المقصود به المال، ولا يطلع عليها الرجال كالولادة والاستهلال والعيوب
تحت الثياب والرضاع عندهم، وليس هاهنا واحد منها، ولأنها بمنزلة شهادة على
شهادة، ولا مدخل لهن في الشهادة على الشهادة.
إذا كتب قاض إلى قاض كتابا وأشهد على نفسه بذلك فتغيرت حال الكاتب لم
يخل من أحد أمرين: إما أن يتغير حاله بموت أو عزل أو بفسق.
فإن كان تغير حاله بموت أو بعزل لم يقدح ذلك في كتابه، سواء تغير ذلك قبل
خروج الكتاب من يده أو بعده، وقال قوم: إذا تغيرت حاله سقط حكم كتابه إلى
المكتوب إليه، وقال بعضهم: إن تغيرت حاله قبل خروجه من يده سقط حكمه،
وإن كان بعد خروجه من يده لم يسقط حكم كتابه.
وأما إن تغيرت حاله بفسق نظرت: فإن كان الفسق بعد أن وصل كتابه وقبله
المكتوب إليه وعمل به وحكم فلا يقدح فيه، لأنه فسق بعد حصول الحكم، وإن
كان الفسق قبل أن يحكم المكتوب إليه به لم يقبله ولم يحكم به، لأنه بمنزلة شاهد
الأصل إذا فسق قبل أن يقيم شاهد الفرع الشهادة، فإنهما لا يقيمان كذلك هاهنا،
هذا إذا تغيرت حال الكاتب.
فأما إذا تغيرت حال المكتوب إليه بموت أو بفسق أو عزل وقام غيره مقامه،
فوصل الكتاب إلى من قد قام مقامه فإنه يقبله ويعمل به، وقال قوم: لا يعمل به غير
المكتوب إليه لأن المكتوب إليه غيره.
وجملته - وهو الأصل فيه - أن الكاتب إذا كتب وأشهد على نفسه بما كتب
126

فهو أصل، والذي تحمل الشهادة على كتابه فرع له، فهو كالأصل وإن لم يكن
أصلا في الحقيقة، وقال من خالف: الحاكم فرع والأصل من شهد عنده، هذا
الكلام إذا كان كل واحد منهما قاضيا من قبل الإمام، أو من قبل قاض من قبل
الإمام، وإن لم يكن أحدهما من قبل الآخر.
فأما إن كان الكاتب قد كتب إلى من هو من قبله لم يخل الكاتب من أحد
أمرين: إما أن يكون هو الإمام أو غيره.
فإن كان الكاتب هو الإمام فتغيرت حال الإمام بموت أو عزل، فإذا وصل كتابه
إلى خليفته عمل به وحكم بما فيه، لأن من ولاه الإمام لا ينعزل بموت الإمام ولا
يتغير حاله، لأنه إذا ولاه فإنما ولاه ناظرا للمسلمين فينعقد له القضاء، ولا يملك
الإمام عزله ما دام ناظرا على السداد، وإذا كان ناظرا للمسلمين لم ينعزل بموت
الإمام، لأنه ليس من قبل الإمام.
والذي يقتضيه مذهبنا أن الإمام إذا مات ينعزل النائبون عنه إلا أن يقرهم الإمام
القائم مقامه، فأما بالعزل أو الفسق فلا يصح على مذهبنا لكونه معصوما، وإن كانت
هذه الفروع ساقطة عنا لما بيناه من أنه لا يجوز كتاب قاض إلى قاض.
وإن كان الكاتب غير الإمام وهو قاض، كتب إلى خليفته كتابا ثم مات
الكاتب أو عزل ثم وصل الكتاب إلى خليفته قال قوم: يعمل به كما لو كان الكاتب
هو الإمام، وقال آخرون: لا يعمل به، وهو الأقوى عندهم لأنه إذا مات انعزل بموته
بدليل أن له عزله متى شاء، ويفارق الإمام لأنه لو أراد عزله لم يكن له فكذلك لا
ينعزل بموته، والقاضي لو أراد عزل من هو من قبله كان له، فكذلك إذا مات انعزل
بموته، هذا إذا كان المكتوب إليه في موضع ولايته.
وأما إن لم يكن في موضع ولايته، مثل أن كان قاضي الكوفة بالبصرة فوصل إليه
كتاب بالبصرة، لم يعمل به لأنه في غير موضع الولاية كالعامي، بدليل أنه لا يصح أن
يكتب كتابا من ذلك المكان بحكم ولا بشهادته، ولو ترافع إليه خصمان من أهل
ولايته لم يكن له النظر بينهما، ولو ترافعا إلى حاكم في موضع ولايته حكم بينهما
127

وإن كانا من أهل ولاية غيره، فالاعتبار بمكان الولاية لا بأهل الولاية.
وجملته أن الحاكم إذا كان في موضع ولايته فكل من ترافع إليه حكم بينهما من
أي موضع كانوا، وإذا لم يكن في موضع ولايته حيث حصل كان حينئذ على ما جعل
إليه، وكذلك لو أراد أن يولي حاكما من قبله لم ينعقد له القضاء إلا أن يوليه
في موضع ولايته، وجملته أنه في غير موضع ولايته كالعامي لا يتصرف تصرف
القضاة بوجه.
فإن اجتمع قاضيان في غير بلد ولايتهما، مثل أن اجتمع قاضي بغداد وقاضي
الكوفة بالبصرة، فهما كالعاميين، فإن أخبر أحدهما صاحبه بحكم حكم به أو
بشهادة ثبتت عنده، كان وجود هذا وعدمه سواء لا يعمل أحدهما على قول غيره، بل
يكونان كشاهدين أخبر أحدهما صاحبه بما عنده.
فإن اجتمعا في ولاية أحدهما مثل أن اجتمع قاضي الكوفة وقاضي البصرة
بالبصرة وأخبر كل واحد منهما صاحبه بخبر، فما أخبر به قاضي الكوفة لا يعمل به
قاضي البصرة، لأن الأخبار منه في غير موضع ولايته، وإن كان المخبر قاضي البصرة
صار قاضي الكوفة عالما بذلك لأنه قد أخبره به قاض في موضع ولايته، وكأنه قد
علم بالشئ بعد التولية في غير موضع ولايته، فإذا عاد قاضي الكوفة إلى الكوفة صار
عالما بذلك، فهل له أن يقضي بعلمه؟ فيه قولان.
إذا كتب الحاكم كتابا إلى حاكم فنسي اسم نفسه أو نسي العنوان لم يضر ذلك
إذا كان الشهود يضبطون ما شهدوا به، لأن المعول على ما يشهدون به دون الكتاب،
فلو ضاع الكتاب فأقاموا الشهادة حكم بها من غير كتاب.
إذا حضر عند الحاكم رجل فادعى على غائب حقا سمع الحاكم دعواه لأنه
يحتمل ما يدعيه، فإن أقام بينة سمعها الحاكم وكتب بما سمع بلا خلاف، لأن
بالناس حاجة إلى ذلك لأنه يتعذر عليه أن يسافر بالبينة لتشهد له في ذلك البلد،
وإن خرج وحده لم يقبل منه.
128

فإذا سمعها فسأل المدعي القاضي أن يقضي له على الغائب بما ثبت عنده،
كان له أن يقضي عليه خلافا لمن خالف فيه، وإنما يقضي بشرطين: عدالة الشهود
مع يمين المدعي.
أما العدالة فلا بد منها، فإن عرفهما عدلين وإلا بحث، فإذا عرفهما عمل
عليها.
فإذا شهد له عدلان استحلفه لجواز أن يكون قد قبض الحق ولا علم بذلك
الشهود، فلهذا يستحلف مع بينته، وهكذا كل من أقام البينة على من لا يعبر عن
نفسه لم يحكم الحاكم حتى يستحلفه مع بينته، وهو القضاء على الصبي والميت
والغائب.
وصفة اليمين أن يحلف: ما قبضت هذا الحق، ولا شيئا منه، ولا برئ لي
منه، ولا من شئ منه، وإن حقي لثابت عليه إلى اليوم، هذا هو الأحوط، فإن
اقتصر على أن يحلف أن حقه لثابت أجزأه.
فإذا حلفه وحكم له على الغائب لم يخل من أحد أمرين: إما أن يقدر الحاكم
على استيفاء الحق أو لا يقدر.
فإن قدر نظرت: فإن كان الحق عينا قائمة كالدار والدابة والثوب أعطاه حقه،
وإن كان دينا نظرت: فإن كان في ماله من جنس الدين قضاه منه، وإن لم يكن من
جنسه باعه الحاكم بجنس الدين وأعطاه من جنس حقه، كما يفعل في الحاضر إذا
ثبت الحق عليه إن أعطاه، وإلا كلفه البيع، فإن لم يفعل عزره، فإن لم يفعل باع
القاضي عليه ماله في ذمته، كذلك هاهنا.
فإن لم يقدر الحاكم أن يعطيه حقه وسأل المحكوم له القاضي أن يكتب له
كتابا بما حكم له، فقدم المحكوم عليه قبل كتب الكتاب عليه أو بعده، الباب واحد
فالحاكم يحضره ويعرفه: أن فلانا ادعى عليك كذا وكذا، وأقام البينة به وحلفته
وحكمت له عليك بالحق، فإن اعترف به فلا كلام غير أنه يكلفه الإقباض، وإن أنكر
الحق لم يلتفت إليه.
129

فإن قال قد قبضه حقه قال له: أقم البينة، فإن لم يأت بها كلفناه الخروج منه،
فإن قال: فاستحلفوه لي أنه ما قبضه مني، قلنا: قد استحلفناه لك، فإن قال: فلي
بينة بالقضاء أو بجرح الشهود شهود، أجل ثلاثا فإن أتى بذلك وإلا كلف القضاء،
هذا إذا قدم.
فأما إن لم يقدم وسأله كتب الكتاب بما ثبت عنده إلى الحاكم، كتب له كتابا
وصفة الكتاب أن يقول: حضرني فلان بن فلان فادعى على فلان بن فلان، - ويرفع
في نسبه إلى الموضع الذي لا يشاركه غيره فيه، ويذكر القبيلة والصناعة، فإنه أقوى
في بابه، وأبعد في الاحتياط والاشتراك - فسمعت دعواه وأتى بينة فشهدت له بما
يدعيه فلان وفلان، واستحلفته وحكمت له بالحق، ويعطيه الكتاب ويشهد على
نفسه على ما فصلناه.
فإذا قدم إلى ذلك البلد سلم الكتاب إلى الحاكم، فإذا ثبت عنده استدعاه
الحاكم، فإن اعترف بالحق كلفه الخروج منه، وإن أنكر عرفه الحاكم أنه قد حكم
عليه به، فإن قال: قضيته، لم يقبل منه إلا بالبينة، وإن قال: فأحلفوه لي أنه ما
قبض، قلنا: قد استحلفناه، فإن قال: فلي بينة بالقضاء أو بجرح الشهود، أجل
ثلاثا، فإن أتى بذلك وإلا كلف الخروج من الحق، هذا كله إذا أقر المدعى عليه بأنه
هو المكتوب عليه.
فأما إن أنكر أن يكون هو وقال: لست هذا المذكور، فالقول قوله مع يمينه إلا
أن يقيم المحكوم له البينة أنه هو، فإن أقام البينة أنه هو أو قال ابتداء: أنا هو، الباب
واحد، ولكنا فرضنا أنه قال: أنا هو غير أن المحكوم عليه غيري وهو فلان فإنه
سميي وبهذه الصفات، نظرت في البلد:
فإن لم يكن سواه بهذه الصفات قلنا له: الظاهر أنه أنت ولا أحد حكم به عليه
غيرك، فيحكم به عليه.
وإن وجد في البلد بهذه الصفة لم يخل من أحد أمرين: إما أن يكون ذلك الغير
حيا أو ميتا.
130

فإن كان حيا أحضره وعرفه القصة، فإن قال: صدق وأنا الذي عليه الحق،
كلف الخروج منه، وإن قال الآخر: لا حق علي، قلنا للمحكوم له: ألك بينة تفرق
بين الرجلين؟ فإن أقام البينة حكمنا له، وإن لم يقم كتب المكتوب إليه إلى الكاتب
كتابا وعرفه ما وقع من الإشكال ليحضر شهوده ويذكر مزية لأحدهما يتميز بها عن
صاحبه، فإن وجد الحاكم مزية كتب بها إليه وحكم عليه وإن لم يجد مزية لأحدهما
وقف الأمر حتى ينكشف، هذا إذا كان حيا.
وأما إن كان من هو بهذه الصفة ميتا لم يخل من أحد أمرين: إما أن يكون قد
عاصر المحكوم له أو لم يعاصر.
فإن لم يكن عاصره قلنا للمحكوم عليه: ليس هاهنا سواك من عليه الحق.
وإن كان قد عاصره ويمكن أن يكون عامله نظرت: فإن كان الحكم وقع قبل
وفاة الميت فالحكم كما لو لم يكن ميتا، فالإشكال قائم، وإن كان الحكم بعد وفاة
الميت فعلى وجهين:
أحدهما: يقف الحكم لوقوع الإشكال فيه حتى يزول.
والثاني: يكون الحي هو المحكوم عليه، لأن الظاهر أن الحكم انصرف إلى
الحي منهما.
فإذا ثبت هذا فكل موضع كلف الخروج من الحق فقال المحكوم عليه للحاكم:
اكتب لي محضرا بما جرى حذرا أن يلقاني هذا المحكوم له في تلك البلدة فيطالبني
بالحق مرة أخرى، قال قوم: عليه أن يكتب له حذرا مما قاله ويستوفي منه الحق
ثانيا، وقال آخرون: ليس عليه أن يكتب له لأن الحاكم إنما يكتب بتثبيت حكم أو
بحكم حكم به، ولم يفعل شيئا من هذا.
وقولهم: لا يأمن، غلط، بل يأمن فيه لأنه إذا قضاه الحق كان على القابض أن
يشهد على نفسه بقبضه، لأنه حق يثبت له بالبينة، وليس له قبضه حتى يشهد على
نفسه.
وجملته أن كل من كان عليه حق فامتنع من إقباضه حتى يشهد القابض على
131

نفسه بالقبض، فهل يجب ذلك عليه أم لا؟ قد ذكرناه في الوكالة ونذكره هاهنا وهو
أنك تنظر فيه: فإن كان الحق ثبت عليه بغير بينة لم يجب على القابض الإشهاد، لأن
الأصل براءة ذمته ومتى طولب بالحق حلف وكان بارا، وإن كان الحق ثبت عليه
بالبينة لم يجب عليه إقباضه حتى يشهد القابض على نفسه بقبضه حذرا أن يطلبه مرة
أخرى.
وكل موضع قضي الحق وكان عليه به كتاب عند القابض بحقه لم يجب على
القابض تسليم الكتاب إليه لأنه ملكه، ولأنه لا يأمن أن يخرج ما قبضه مستحقا
فيحتاج أن يرجع بالبدل على الأصل، فإن لم يكن معه حجة وقف حقه، وهكذا
قولنا في المشتري للعقار إذا شهد على البائع بالبيع وطالبه بكتاب الأصل لم يجب
عليه أن يعطيه، لأنه حجته عند الدرك على ما فصلناه.
فصل: في ذكر القاسم:
روى مجمع بن حارثة أن النبي عليه السلام قسم خيبر على ثمانية عشر سهما و
قد روي أنه قسمها على ستة وثلاثين سهما، ولا تناقض فيه لأن النبي عليه السلام
فتح نصف خيبر عنوة ونصفها صلحا، فما فتحه عنوة فخمسه لأهل الخمس وأربعة
أخماسه للغانمين عندهم، وعندنا لجميع المسلمين، وما فتحه صلحا فعندنا هو
لرسول الله صلى الله عليه وآله خاصة، وعندهم هو فئ يكون لرسول الله صلى الله
عليه وآله ينفق منه على نفسه وعياله، وهذا مثل ما عندنا، فمن روى قسمها على
ثمانية عشر سهما أراد ما فتحه عنوة ومن روى على ستة وثلاثين سهما أراد الكل
نصفها فئ ونصفها غنيمة.
وروي أن النبي عليه السلام قسم غنائم بدر بشعب من شعاب الصفراء قريب
من بدر.
وروت أم سلمة قالت: اختصم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله رجلان في
مواريث وذكر الحديث إلى أن قال كل واحد منهما لصاحبه: قد وهبت حقي منك،
132

فقال النبي عليه وآله السلام: اقتسما واستهما، وليحل كل واحد منكما صاحبه،
فدل ذلك على جواز القسمة، وعليه إجماع الأمة.
وروي أنه كان لعلي عليه السلام قاسم يقال له عبد الله بن يحيى، وكان رزقه
من بيت المال.
إذا ثبت جواز القسمة، فالقاسم يفتقر إلى الصفات التي يفتقر إليها كاتب
الحاكم، وهو أن يكون عدلا، والعدل هو البالغ العاقل الحر الثقة، فإن كان عبدا أو
مدبرا قال قوم: لم يجز، لأنه ليس بعدل، وعندنا هو عدل فلا يمتنع أن يكون
قاسما، ولا بد أن يكون حاسبا، لأن عمله بالحساب، فهو في القاسم كالفقه في
الحاكم.
فإذا ثبت هذا نظرت: فإن نصبه الحاكم للقسمة فإذا عدل السهام وأقرع كانت
القرعة حكما يلزم القسمة به، هذا إذا نصبه الحاكم فأما إن تراضيا الشريكان برجل
فقسم بينهما جاز أن يكون عدلا وفاسقا وعبدا وحرا، لأنهما لو تراضيا بأنفسهما
صح ذلك، فبأن يصح أن تراضيا بغيرهما أولى، وذلك أن الاعتماد عليهما لا عليه.
فأما إن تحاكما إلى رجل فقالا: قد جعلناك حكما علينا فأقسم، فلا بد أن يكون
عدلا على ما بيناه، فإذا قسم بينهما فبما ذا يلزم قسمته يبني عليه.
إذا تراضيا بثقة من أهل العلم حكما بينهما فحكم بينهما فبما يلزم الحكم؟ قال
قوم: يلزم بنفس الحكم كالحاكم سواء، وقال آخرون: بالحكم والرضا به بعده
كذلك القاسم مثله، وهل يجزئ قاسم واحد بينهما أم لا؟ جملته أنه يجوز الاقتصار
على قاض واحد ولا بد في التقويم من مقومين، وأما الخرص فقال قوم: يجزئ
خارص واحد، وقال آخرون: لا بد من خارصين، وهو الأحوط.
وأما القاسم فينظر فيه: فإن كانت القسمة لا تفتقر إلى تقويم بل يجزئ تعديل
السهام، أجزأ قاسم واحد، وإن كان فيها تقويم ورد فلا بد من قاسمين لأنه تقويم
فافتقر إلى مقومين، هذا الكلام في صفة القسام والعدد.
وأما الأجرة فله أن يأخذ الأجرة على القسمة لما روينا عن علي عليه السلام أنه
133

كان له قاسم يقال له عبد الله بن يحيى وكان رزقه من بيت المال.
وكل عمل جاز أن يفعله الغير عن الغير تبرعا، جاز بعقد إجارة، كالخياطة و
البناء، وكل ما لا يجوز أن يفعله الغير عن الغير ولكنه إذا فعله عن نفسه عاد نفعه
إلى الغير، جاز أخذ الرزق عليه ولا يجوز أخذ الأجرة كالأذان والإقامة والإمامة و
القضاء والخلافة، وكل ما لا يجوز أن يفعل الغير عن الغير وإذا فعله من نفسه لم
يعد نفعه إلى الغير لم يجز أخذ الرزق عليه، ولا أخذ الأجرة كصلاة الفرض، وصلاة
التطوع، وحجة الفرض.
فإذا ثبت هذا، فإن على الإمام أن يرزقه من بيت المال لأنه من المصالح، فإن
كان في بيت المال مال استأجره أو رزقه ليقسم على المسلمين، وإن لم يكن في
بيت المال مال أو كان وكان هناك ما هو أهم كسد الثغور وتجهيز الجيوش ونحو
هذا، فإن أهل المالك يستأجرونه، ثم ينظر فيه:
فإن استأجره كل واحد منهما بما ينفقان عليه جاز قليلا كان أو كثيرا، وإن
استأجراه بعقد واحد وأجرة واحدة، كانت الأجرة عند قوم مقسطة على الأنصباء،
فإذا كان لأحدهما السدس والباقي للآخر كانت الأجرة كذلك، وقال آخرون: الأجرة
على عدد الرؤوس لا على الأنصباء، والأول أقوى عندنا.
وإذا كان الملك بين اثنين أو بين جماعة فدعا بعضهم إلى القسمة وامتنع
الآخرون فلا يخلو من ثلاثة أحوال: إما أن لا يستضر بها واحد منهم، أو يستضر بها كل
واحد منهم، أو يستضر بها بعضهم دون بعض.
فإن لم يستضر بها واحد منهم، وهذا إنما يكون في الضياع، لأن ضيعة هي مائة
جريب إذا أفرز كل عشرة منها كان المفرز والمشاع سواء، فمتى دعا واحد منهم إلى
القسمة وأبي الباقون أجبر الممتنع منهم عليها، لأن من كان له ملك كان له أن
يتسبب إلى ما يفيده الانتفاع الكامل والتصرف التام فيه فإذا أفرزه ملك الانتفاع
بغراس وزرع وبناء وما شاء من غير توقف ولا منازع، وإذا كان حقه مشاعا لم يملك
هذا، فلذلك كان له المطالبة بها وأجبر الممتنع عليها.
134

وأما إن كان فيها ضرر على الكل، وهذا إنما يكون في الدور والعقار و
الدكاكين الضيقة، ونحو هذا، فإن القسمة فيها ضرر، والضرر عند قوم أن لا ينتفع
بما أفرز له، ولا يراعى نقصان قيمته وهو قول الأكثر وهو الأقوى عندي، وقال
بعض المتأخرين: إن الضرر نقصان قيمة سهمه بالقسمة فمتى نقص بالقسمة فهو
الضرر، وهو قوي أيضا، وإذا استضر الكل بها لم يجبر الممتنع عليها، وقال قوم:
يجبر والأول مذهبنا.
وأما إن كان يستضر بها بعضهم دون بعض، مثل أن كانت الدار بين اثنين
لواحد العشر وللآخر الباقي واستضر بها صاحب القليل دون صاحب الكثير، لم
يخل المطالب من أحد أمرين: إما أن يكون هو المنتفع أو المستضر.
فإن كان هو المنتفع، قالوا: أجبرنا الممتنع عليه، وقال بعضهم: يباع لهما
ويعطي كل واحد منهما نصيبه وقال بعضهم: لا يقسم كالجوهرة، وهو الأقوى
عندي، لأنها قسمة ضرر فوجب أن لا يجبر عليها، كما لو استضر الكل.
فإذا تقرر هذا نظرت: فإن كانت بين اثنين والشقص واحد، أجبرناه عليها لأنه
لا حيلة في القسمة من غير ضرر، وإن كانت بين أربعة لواحد النصف، ولكل واحد
من الثلاثة السدس، فإذا أفرزنا لهم النصف شركة بينهم فلا ضرر عليهم، وإن أفرز
كل منهم سهمه كان عليه فيه ضرر، قلنا لهم: أنتم بالخيار بين أن تفرزوا نصيبكم
مشاعا من غير ضرر وبين أن يفرز كل واحد منكم سهمه، لأن المطالب بها لا
يستضر بأن أفرزنا للثلاثة النصف مشاعا بينهم فطالب بعضهم بالقسمة لم يجبر
الباقون عليها، لأن الكل يستضرون بها، هذا إذا كان المطالب لا يستضر بها.
وأما إذا كان المطالب هو الذي يستضر بها قال قوم: يجبر عليها، لأنها قسمة
فيها من لا يستضر بها فوجب أن يجبر الممتنع عليها كما لو كان المطالب هو الذي لا
يستضر بها، وقال آخرون: لا يجبر لأنها قسمة يستضر بها طالبها كما لو استضر بها
الكل، وهو الصحيح عندنا.
إذا كان ملك بين قوم فطلبوا القسمة لم تخل القسمة من أحد أمرين: إما أن
135

تكون قسمة لا رد فيها أو قسمة فيها رد.
فالتي لا رد فيها ما أمكن أن يفرز لكل واحد منهم حقه من المقسوم، وتسمى
قسمة الإجبار - ومعناه من امتنع منها أجبر عليها - والتي فيها رد ما لم يمكن أن يفرز
لأحدهم حقه من المقسوم حتى يرد عليه شئ من غيره، وقسمتها قسمة تراض.
فأما إن لم يكن فيها رد لم تخل من أربعة أحوال:
الأول: إما أن تتفق السهام والقسمة، مثل أن كانت بين اثنين نصفين أو بين
أربعة أرباعا وقيمة الأرض متساوية ليس بعضها خيرا من بعض فالقسمة هاهنا أن
يعدلها بالقسمة، فتجعل نصفها سهما والسهم الآخر نصفا بالمساحة، ولا تراعي
القيمة لأنك إذا أفردت نصفها بالقسمة أفاد ذلك معرفة القيمة، فإذا عدلها سهمين
أمكن إخراج الأسماء على السهام وإخراج السهام على الأسماء.
أما إخراج الأسماء على السهام، فإن يكتب اسم كل واحد منهم في رقعة ويدرج
كل رقعة في بندقة من طين أو شمع وتكون البندقتان متساويتين وزنا وقدرا،
ويطرحان في حجر من لم يحضر الكتب والإدراج، لأنه أبعد من التهمة وأسكن
لنفس المتقاسمين، ثم يعين سهما من السهمين فيقال له: أخرج بندقة على هذا
الاسم، فإذا أخرجها دفع السهم إلى صاحبها، وكان السهم الثاني للآخر.
وأما إخراج السهام على الأسماء، فإن يكتب في كل رقعة اسم سهم من السهام
ويصفه بما يتميز به عن غيره من السهام، بعلامة أو بحد ويدرج كل رقعة في بندقة
على ما وصفناه، ويجعل في حجر من لم يحضر الكتب والإدراج، ويقال له:
أخرج على اسم فلان، فإذا أخرجها ثبت ذلك السهم له، والآخر للآخر.
وإذا وقعت القرعة لزمه القسمة لأن إقراع القسام بمنزلة حكم الحاكم، والحاكم
إذا حكم بشئ لزمه حكمه، وكذلك إذا أقرع القسام لزم، فقد أمكن إخراج الأسماء
على السهام، وإخراج السهام على الأسماء، والكل واحد، هذا إذا اتفقت السهام و
القيمة.
الثاني: فأما إذا اتفقت السهام واختلفت القيمة، مثل أن كانت الأرض بينهما
136

نصفين، وقيمتها مختلفة، كلها ثلاثمائة جريب قيمة مائة جريب منها مائة، وقيمة
مائتين منها مائة فيعدلها بالقيمة، فيجعل المائة سهما والمائتين سهما، فإذا عدلهما
فالحكم في إخراج القرعة منها على ما بيناه في إخراج الأسماء على السهام أو إخراج
السهام على الأسماء على ما فصلناه، ولا فصل بينهما أكثر من أن التعديل هاهنا
بالقيمة وفي التي قبلها بالمساحة.
الثالث: تختلف السهام وتتفق القيمة، مثل أن كان لأحدهما السدس،
وللآخر الثلث، ولآخر النصف، والأرض ستمائة جريب كل جريب بدرهم فيعدلها
على ستة أسهم - على سهم أقلهم نصيبا - فيجعل كل مائة جريب سهما بالذراع دون
القيمة، فإذا عدلها كذلك كتب الأسماء في الرقاع، وكم رقعة يكتب؟ قال قوم:
يكتب ست رقاع لصاحب السدس رقعة، ولصاحب الثلث رقعتين، ولصاحب
النصف ثلاث رقاع، ثم يعين السهم الأول يقال: أخرج على هذا السهم، فإن
خرجت رقعة صاحب السدس سلم إليه السهم، ثم يقال له: أخرج أخرى، فإذا
أخرجها نظرت: فإن كان لصاحب الثلث سلم إليه السهم الثاني والثالث، وسلم
إلى صاحب النصف الرابع والخامس والسادس، ولا يحتاج إلى إخراج بندقة بعد
الثانية، لأنه لم يبق إلا صاحب النصف، هذا إذا كانت الثانية لصاحب الثلث.
فإن كانت الثانية لصاحب النصف سلم إليه الثاني والثالث والرابع، وبقى
سهمان لصاحب الثلث، على ما بيناه، هذا إذا خرجت الأولى لصاحب السدس.
فأما إن خرجت الأولى لصاحب الثلث أخذ السهم الأول والثاني، وقلنا:
أخرج أخرى، فإن خرجت لصاحب السدس أخذ السهم الثالث، وبقيت ثلاثة أسهم
لصاحب النصف، وإن خرجت الثانية لصاحب النصف أخذ الثالث والرابع
والخامس وبقى سهم لصاحب السدس، هذا إذا خرجت الأولى لصاحب الثلث.
فأما إذا خرجت الأولى لصاحب النصف أخذ الأول والثاني والثالث، ونظرت
في الأخرى: فإن خرجت لصاحب السدس أخذ الرابع وبقى سهمان لصاحب
الثلث، وإن خرجت لصاحب الثلث أخذ الرابع والخامس، وبقى السادس
137

لصاحب السدس.
وقال بعضهم: يجزئ ثلاث رقاع لأنه إنما تخرج القرعة مرتين ويكتفي بها عن
الثالث، فإذا أمكن الاقتصار فلا معنى للتطويل، والأول أقوى لأن كل من كان
سهمه أكثر كان حظه أوفر، وله مزية على صاحب الأقل، فإذا كتب لصاحب
النصف ثلاث رقاع كان خروج قرعته أسرع وأقرب، فإذا كتب له واحدة كان خروج
قرعته وقرعة صاحب السدس سواء، فلهذا قيل يكون له أكثر من رقاع غيره، والثاني
أيضا قوي لأنا فرضنا أن القيمة متساوية، فلا فائدة في ذلك غير التقديم والتأخير،
وذلك لا فائدة فيه، فهذا إخراج الأسماء على السهام.
فأما إخراج السهام على الأسماء، فلا يجوز هاهنا لأمرين:
أحدهما: إذا كتبت السهام، وأخرجت سهما على اسم أحدهم، ربما خرج
الثاني والخامس لصاحب السدس، فيفرق نصيب شريكه في موضعين، لأنك تضم
الأول إلى ما بعد الثاني، وتضم الرابع إلى ما بعد الخامس، فإذا أفضي إلى أن يتفرق
سهم بعضهم في موضعين لم يجز إخراج السهام على الأسماء.
والثاني: إذا أخرج قرعة ربما خرجت قرعة صاحب النصف على السهم الثالث
والرابع فيكون له معه سهمان آخران، فلو قال: لي السهمان بعد الثالث، قال
شريكاه: بل هما قبل الثالث، فيفضي إلى الخصومة، وموضع القسمة لرفع
الخصومة، فلا يجوز أن يوضع على ما يفضي إلى الخصومة.
الرابع: وهو إذا اختلفت السهام والقيمة، مثل أن كان لأحدهما السدس،
وللآخر الثلث وللآخر النصف، والأرض ستمائة جريب، وقيمتها تختلف، فإنه
يعدل هاهنا ستة أسهم على ما فصلناه بالقيمة، فيجعل قيمة كل سهم مائة، ثم يخرج
الأسماء على السهام على ما فصلناه في التي قبلها بلا فصل بينهما أكثر من كيفية
التعديل، فإن التعديل في التي قبلها بالمساحة وتعديل هذه بالقيمة، هذا الكلام في
القسم الأول.
فأما القسم الثاني فهو الذي فيه رد - ومعناه ما قلناه -، وهو أن بعضهم لا
138

يستوفي حقه من المقسوم حتى يعطي شيئا يرد عليه من غيره، مثل أن كانت أرض
قيمتها مائة وفيها شجرة أو بئر قيمتها مائتان، فإذا جعلت الأرض بينهما كانت ثلث
المقسوم فيضم إليها خمسين يردها من يخرج البئر له لتكون بينهما نصفين، وهذه
قسمة التراضي، ومعناه لا يقسم إلا بتراضيهما، فأما الإجبار فلا، فإن فيها بيعا وشراء
فإن الذي يأخذ الخمسين قد باع نصيبه من الشجرة، واشتراه من يحصل له الشجرة،
فلا يجبر البائع على البيع ولا المشتري على الشراء، ويفارق هذه التي لا رد فيها،
لأنها لا بيع ولا شراء، وإنما هو تعديل السهام، فلهذا وقع الإجبار عليها.
فإذا عدلها بسهم أمكن إخراج الأسماء على السهام وإخراج السهام على
الأسماء، فإذا تراضيا به وأخرجت القرعة فهل يلزم بخروج القرعة أم لا؟ قال بعضهم:
يلزم، وقال قوم: لا يلزم بخروج القرعة، وهو الأقوى لأن القرعة تفيد معرفة البائع
منهما من المشتري وقبل القرعة لا يعلم هذا، فإذا علم بها البائع من المشتري
وعلمناه من الذي يأخذ البئر ويرد خمسين قلنا: الآن قد بان ذلك الرجل، فلا يلزم
القسمة إلا بتراضيهما ويفارق هذا قسمة الإجبار لأنه لا بيع فيها ولا شراء، فلهذا
لزمت بالقرعة، وهذه فيها بيع وشراء فلم يلزم بها، وأيضا لما لم يعتبر التراضي فيها
في الابتداء فكذلك في الانتهاء، وليس كذلك هاهنا، لأنه اعتبر التراضي في
ابتدائها، وكذلك في انتهائها.
إذا كانت دار بينهما لها علو وسفل، فدعا أحدهما صاحبه إلى القسمة نظرت:
فإن دعا إلى قسمة العلو والسفل ليكون لكل واحد منهما بعض السفل وبعض العلو
أجبر الآخر عليه لأن البناء في الأراضي كالغراس فيها، ولو طلب أحدهما قسمة
الأرض بغراسها أجبر الآخر عليها، فأما إن طلب أحدهما أن يجعل السفل سهما
والعلو سهما ويقرع بينهما ليكون لأحدهما السفل وللآخر العلو، لم يجبر الممتنع
عليها، لأن العلو مع السفل، بدليل أنه يتبع الأرض في الأخذ بالشفعة، ولو أفرد
بعضه بالبيع فلا شفعة، ولأنه لو طلب أحدهما قسمة البناء دون العرصة لم يجبر
الآخر عليه، ولو طلب أحدهما قسمة العرصة التي لا بناء فيها أجبر الآخر عليها، فإذا
139

كان العلو تبعا لم يجز أن يجعل التابع سهما والمتبوع سهما لأنا نجعل التابع
متبوعا، وهذا لا سبيل إليه، ولأن السفل والعلو كالدارين المتلاصقتين.
وإن كان بينهما داران متلاصقتان فطلب أحدهما أن يجعل إحديهما سهما و
الأخرى سهما ويقرع بينهما لم يجبر الممتنع عليها، ولأن من ملك شيئا ملك قراره
أبدا وملك هواء الملك أبدا، بدليل أن له أن يحفر القرار كما يحب ويختار وله أن
يبني في الهواء أبدا إلى السماء، فلو جعلنا لأحدهما العلو قطعنا السفل عن الهواء،
وقطعنا العلو عن القرار، والقسمة إفراز حق، وليس هذا إفراز حق وإنما هو نقل
حق بحق.
فإذا ثبت أنه لا إجبار، فإن تراضيا جاز، لأن السفل والعلو بمنزلة دارين
متجاورتين، ولو تراضيا في المتجاورتين على هذا جاز كذلك العلو والسفل، فأما إن
طلب أحدهما أن يقسم السفل بينهما على الانفراد، ثم العلو بينهما على الانفراد
يجبر الممتنع عليها.
وإن كان بينهما أرض فيها زرع فطلب أحدهما القسمة فإما أن يطالب بقسمة
الأرض أو الزرع أو قسمتها معا.
فإن طلب قسمة الأرض دون غيرها أجبرنا الآخر عليها على أي صفة كان الزرع
حبا أو قصيلا أو سنبلا قد اشتد، لأن الزرع في الأرض كالمتاع في الدار، وكون
المتاع في الدار لا يمنع القسمة فالزرع مثله.
وأما إن طالب قسمة الزرع وحده لم يجبر الآخر عليه، لأن تعديل الزرع بالسهام
لا يمكن.
وأما إن طلب قسمتها مع زرعها لم يخل الزرع من ثلاثة أحوال: إما أن يكون
بذرا أو حبا مستترا أو قصيلا.
فإن كان حبا مدفونا لم تجز القسمة، لأنا إن قلنا القسمة إفراز حق فهو قسمة
مجهول ومعلوم فلا يصح، وإذا قلنا بيع لم يجز لمثل هذا.
وإن كان الزرع قد اشتد سنبله وقوي حبه فالحكم فيه كما لو كان بذرا
140

وقد ذكرنا.
وإن كان قصيلا أجبرنا الممتنع عليها، لأن القصيل فيها كالشجر فيها، ولو كان
فيها شجر قسمت شجرها كذلك هاهنا.
إذا ادعى أحد المتقاسمين أنه غلط عليه في القسمة، وأعطي دون حقه، لم
تخل القسمة من أحد أمرين: إما أن تكون قسمة إجبار أو تراض.
فإن كانت قسمة إجبار، وهو أن يكون الحاكم نصب قاسما يقسم بينهما، لم
تقبل دعواه لأن القاسم أمين، فلا يقبل قوله عليه فيما طريقه الخيانة، ولأن الظاهر
أنها وقعت على الصحة فلا يقبل قول من يدعي الفساد.
فإن قال: فأحلفوه لي أني لا أستحق في يده فضل كذا، حلفناه، لأنه يحتمل
ما يدعيه، وإن أتى بالبينة من أهل الخبرة بالقسمة بما يدعيه سمعها الحاكم، لأن
البينة أولى من قوله، فإذا ثبت ما يدعيه حكمنا بالبطلان، لأنه إفراز حق، وقد بان أنه
خالف النص.
وإن كانت القسمة تراضيا كالعلو لأحدهما والسفل للآخر، أو كان فيها رد لم
تخل من أحد أمرين: إما أن اقتسما بأنفسهما أو يقسم بينهما قاسم الحاكم.
فإن اقتسما بأنفسهما لا يلتفت إلى قول المدعي، لأنه إن كان مبطلا سقط
قوله، وإن كان محقا فقد رضي بترك هذه الفضلة له، فلا معنى لرجوعه فيها.
وإن كان القاسم بينهما قاسم الحاكم، فمن قال: يلزم بالقرعة، قال: الحكم
فيها كقسمة الإجبار، وقد مضى، ومن قال: لا يلزم إلا بتراضيهما بعد القرعة
فالحكم كما لو تراضيا من غير حاكم.
إذا كانت يدهما على ضيعة ثلاثين جريبا فاقتسماها نصفين فبان ثلثها مستحقا
فإن المستحق يتسلم حقه.
وأما القسمة فلا يخلو المستحق من أحد أمرين: إما أن يكون معينا أو مشاعا.
فإن كان معينا نظرت: فإن حصل في سهم أحدهما بطلت القسمة لأن الإشاعة
141

عادت إلى حق شريكه، وذلك أن القسمة تراد لإفراز حقه عن حق شريكه، فإذا كان
بعض ما حصل له مستحقا كان حقه باقيا في حق شريكه، فأما إن وقع المستحق في
نصيبهما معا، نظرت: فإن وقع منه مع أحدهما أكثر مما وقع مع الآخر بطلت القسمة
أيضا لما مضى، وإن كانا فيها سواء من غير فضل، أخذ المستحق حقه وينصرف
وكانت القسمة في قدر الملك الصحيح صحيحة، لأن القسمة لإفراز الحق، وقد
أفرز كل واحد منهما حقه عن حق شريكه، هذا إذا كان المستحق معينا.
وأما إن كان مشاعا في الكل بطلت في قدر المستحق ولم تبطل فيما بقي،
وقال قوم: تبطل فيما بقي أيضا والأول مذهبنا، والثاني أيضا قوي لأن القسمة تميز
حق كل واحد منهما عن صاحبه، وقد بان أنه على الإشاعة.
والعلة الجيدة في ذلك أنهما اقتسماها نصفين، وثلثها لثالث غائب، ومن
قسم ما هو شركة بينه وبين غيره بغير حضوره كانت القسمة باطلة، ويفارق هذا البيع
لأن لكل واحد من الشريكين أن يبيع نصيبه بغير إذن شريكه، هذا إذا بان البعض
مستحقا أو وديعة أو عارية أو بإجارة.
فأما إن مات وخلف على ولديه ضيعة فاقتسماها نصفين، وكان على الميت
دين قد تعلق بتركته، فهذه مبنية على أصل: وهو إذا تعلق الدين بالتركة فباعها
الوارث هل يصح البيع أم لا؟ قال قوم: باطل لأنه باع ما تعلق حق الغير به كما
لو رهنه ثم باعه، وقال آخرون: لا يبطل لأن الحق الذي تعلق بالتركة بغير اختيار،
فلهذا صح البيع.
وهذا أصل: إذا تعلق الحق بعين ماله ثم باعه، فإن كان تعلقه باختيار المالك
بطل البيع، وإن كان بغير اختياره فعلى قولين مثل مسألتنا، وكذلك إذا باع ماله وقد
وجبت فيه الزكاة، وكذلك إذا جنى عبده ثم باعه فالكل على قولين، والأقوى عندي
أنه لا يصح البيع، لأن التركة لا تستحق إلا بعد أن يقضي الدين لقوله تعالى: " من
بعد وصية توصون بها أو دين " فيكون باع ما لا يملك.
فإذا ثبت هذا فمن قال: القسمة إفراز حق، كانت صحيحة، وإذا قيل: بيع،
142

فعلى قولين، ومذهبنا أن القسمة إفراز حق وليست ببيع، فعلى هذا تصح
القسمة.
فمن قال: القسمة باطلة، فلا كلام ومن قال: صحيحة، قال: قيل للوارث إن
قضيتم الحق من غير التركة استقرت القسمة، وإن لم تقضوه من غيرها نقضنا
القسمة، وقضينا الدين منها، هذا إذا كان عليه دين.
فأما إن اقتسماها وهناك وصية نظرت: فإن كانت الوصية بشئ بعينه فالحكم
فيه كما لو بان فيها مستحق بعينه، وإن كانت الوصية بشئ مشاع فهو كما لو بان
المستحق مشاعا وقد مضى، فإن لم تكن في شئ بعينه ولا مشاعا كقوله: أعطوا
فلانا مائة، وتصدقوا على فلان بألف، فالحكم فيه كما لو مات وعليه دين
وقد مضى.
إذا كان بينهما أنواع من الحبوب حنطة وشعير وذرة ودخن وباقلاء ونحو
ذلك، فطلب أحدهما أن يقسم كل صنف على حدته، وقال الآخر: بل يقسم
بعضها في بعض بالقيمة يجعل الحنطة والذرة سهما، والدخن والعدس سهما
بالقيمة، قدمنا قول من طلب أن يقسم كل صنف على حدته، وأجبرنا الآخر عليها،
لأن القسمة إفراز حق لإزالة الضرر، وذلك حاصل إذا قسم كل صنف على حدته،
فأما إذا جعل الكل واحدا وقسم لم يحصل المقصود له في كل صنف من ملكه،
وكان هذا بيع حنطة بشعير فلا يجبر عليه، فإن تراضيا به جاز، لكن من يقول: إن
القسمة بيع، يقول: لا بد من التقابض قبل التفرق.
ومتى كان لهما ملك أقرحة كل قراح منفرد عن صاحبه ولكل واحد منهما طريق
ينفرد به، فطلب أحدهما قسمة كل قراح على حدته، وقال الآخر: لا بل بعضها في
بعض كالقراح الواحد، قسمنا كل قراح على حدته ولم يقسم بعضها في بعض، سواء
كان الجنس واحدا مثل أن كان الكل نخلا أو الكل كرما، أو أجناسا مختلفة الباب
واحد، وسواء كانت متجاورة أو متفرقة وكذلك الدور والمنازل، هذا عندنا وعند
جماعة.
143

وقال بعضهم: إن كانت متجاورة قسم بعضها في بعض، وإن كانت متفرقة
كقولنا، وقال قوم: إن كان الجنس واحدا قسم بعضه في بعض، وإن كان أجناسا
كقولنا، فإن تراضيا عليه جاز لأنه بمنزلة البيع.
وكل قسمة افتقرت إلى التراضي ابتداء فهل تفتقر إلى التراضي انتهاء أو هو بعد
القرعة؟ قال بعضهم: تفتقر، وقال غيره: لا تفتقر، والأول أقوى، سواء كان فيها رد
أو لا رد فيها، هذا إذا كانت الأقرحة متفرقة فينفرد كل واحد منهما بطريق.
فأما إن كان القراح واحدا وهو ما كان طريقه واحدا، فإنه يقسم بعضه في
بعض وإن كثر وعظم واختلفت أجناسه بالشجر وغيرها، لأنه ليس فيه أكثر من أن
بعضه أعلى ثمنا وأجل قيمة من بعض.
وهذا الاختلاف لا يمنع الإجبار كالدار إذا كانت بينهما وبعضها أكثر قيمة من
بعض، وكذلك القرية تختلف قيمة أقرحتها وتقسم كلها كالقراح الواحد، ويفارق
هذا إذا كانت الأقرحة متجاورة ولكل قراح طريق ينفرد به، لأنها أملاك متميزة، بدليل
أنه إذا بيع سهم من قراح لم يجب الشفعة فيه بالقراح المجاورة له.
وليس كذلك إذا كان القراح واحدا، وله طريق واحدة، لأنه ملك مجتمع بدليل
أنه لو بيع بعضه وجب الشفعة فيه بما بقي، وأصل هذا وجوازه على الشفعة فكل ما
بيع بعضه يوجب فيه الشفعة فهو الملك المجتمع، وكل ما إذا بيع بعضه لم يجب
الشفعة لمجاوره كانت أملاكا متفرقة.
فإن كان بينهما عضائد متصلة صفا واحدا - وهي الدكاكين الضيقة التي لا
يمكن قسمة كل واحد منها -، فطلب أحدهما قسمة بعضها في بعض، قال قوم:
يجبر الآخر عليه لأنها مجتمعة في مكان واحد، فهي كالدار الواحدة ذات بيوت،
وكالخان ذات البيوت فإنها يقسم قسمة إجبار، وقال قوم: لا يجبر على ذلك، لأن
كل واحد منها منفرد ويقصد بالسكنى ولكل واحد منها طريق مفردة لها، فجرت
مجرى الدور المتجاورة، وتفارق الدار الواحدة لأن جميعها يقصد بالسكنى والطريق
إليها واحد، فلهذا قسمت قسمة إجبار، والعضائد بخلافه، وهذا القول أقوى
144

عندنا.
المطعومات ضربان: جامد ومائع.
فالجامد ضربان: ما بلغ حد الادخار وما لم يبلغ.
فما بلغ حد الادخار الحبوب والتمور ونحو هذا، فكل هذا يجوز بيع بعضه
ببعض إذا كان الجنس واحدا مثلا بمثل وقسمته جائزة، ومتى طلبها أحدهما أجبر
الآخر عليها، لأنه إذا قسم بينهما تحقق كل واحد منهما وصوله إلى حقه قدرا وقيمة.
ومن قال: القسمة إفراز حق، قال: جازت قسمة هذا كيلا ووزنا، ومن قال
القسمة بيع، قال: لم يجز إلا كيلا لأن بيع بعضه ببعض لا يجوز إلا كيلا كذلك
القسمة، ومن قال: بيع، قال: لا يجوز التفرق قبل القبض، هذا فيما بلغ حد
الادخار.
فأما إذا لم يبلغ حد الادخار فهو على ضربين: ماله حال يدخر عليها وما ليس
له حال يدخر عليها، فالرطب الذي يجئ منه تمر والعنب الذي يجئ منه زبيب
لا يجوز بيع بعضه ببعض رطبا إذا كان الجنس واحدا، وأما قسمته فعلى القولين،
فمن قال: إفراز حق أجاز، ومن قال بيع لم يجز، وأما ما ليس له حال ادخار وهو
العنب الذي لا يجئ منه زبيب والرطب الذي لا يجئ منه تمر، فهل يجوز بيع
الجنس بعضه ببعض أم لا؟ فعلى القولين، وكذلك السفرجل والرمان والتفاح ونحو
ذلك كله على القولين: أحدهما يجوز لأن معظم منفعته حال رطوبته كاللبن، والثاني
لا يجوز لأنها فاكهة رطبة كالرطب الذي يجئ منه تمر، فمن قال: لا يجوز بيع،
بعضه بيع قال: الحكم فيه كالرطب الذي يجئ منه تمر، وقد مضى، ومن قال:
يجوز ببعض بعضه، فالحكم فيه كالمطعوم الذي بلغ حال الادخار وقد
مضى، وعندنا أن بيع جميعه بعضه ببعض جائز، وكذلك قسمته، لأن المنع منه
يحتاج إلى دليل.
وأما المائع فعلى ضربين: ما مسته النار وما لم تمسه النار.
145

فما لم تمسه النار فهو كالعصير وخل العنب واللبن الحليب، فكل هذا يجوز
بيع بعضه ببعض مثلا بمثل، إذا كان الجنس واحدا.
وأما ما مسته النار فعلى ضربين: ما قصد به التصفية وما به عقد، فأما ما قصد
به التصفية كالعسل والسمن فالحكم فيه كالحكم في الذي لم تمسه النار، وكل ما
أجزنا بيعه أجزنا قسمته، وأما ما مسته النار لعقد أجزائه كالدبس والرب ونحو هذا،
فلا يجوز بيع بعضه ببعض إذا كان الجنس واحدا، وأما القسمة فمن قال: بيع
لم يجز أيضا، ومن قال: إفراز حق أجازه، وعندنا يجوز بيع بعضه ببعض مثلا
بمثل، وكذلك قسمته لأن الأصل جوازه.
فأما الثياب فإن كان بينهما ثوب واحد لم يخل من أحد أمرين: إما أن ينقص
بالتخريق والقطع أو لا ينقص.
فإن كان مما لا ينقص إذا قطع بعضه كالثوب الغليظ الذي كان الذرع منه
منفصلا ومتصلا سواء، فالحكم فيه كالأرض يجوز قسمته إن تساوت أجزاؤه وكان
بينهما نصفين، قسمناه نصفين، وإن اختلفت أجزاؤه قسمناه بالقيمة كالأرض سواء.
فأما إن كان مما ينقص إذا قطع كالدبيقي والقصب ونحو هذا فإنه لا يقسم
بينهما، لأنه ينقص بالقسمة، وهذا يدل على أن الضرر هو نقصان القيمة أو من عدم
الانتفاع.
وأما إن كان بينهما ثياب كثيرة فالحكم فيها وفي الأواني والخشب والأبواب
والأساطين والعبيد واحد، وكل عينين يضمن كل واحدة بالقيمة، فإذا طلب
أحدهما قسمته قال قوم: يجبر الآخر عليه، وهو الأقوى، وقال بعضهم: لا يجبر
الممتنع عليها، لأنهما عينان يضمنان بالقيمة كالدارين المتلاصقين، والأول
أصح، لأن اختلاف قيمة هذا الجنس الواحد ليس بأكثر من اختلاف قيمة الدار
الكبيرة والقربة.
وهذا الاختلاف لا يمنع من الإجبار على القسمة، ويفارق الدارين، لأن كل
واحدة منهما يمكن إفرادها بالقسمة وليس كذلك هاهنا لأنه لا يمكن قسمة كل
146

واحد على الانفراد فلهذا قسم بعضه في بعض.
وأصل هذه المسألة ما رواه عمران بن حصين أن رجلا أعتق في مرضه ستة
مماليك له ولا مال له غيرهم فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وآله فجزأهم ثلاثة
أجزاء فأعتق اثنين وأرق أربعة، وقال قوم: العبيد تساوت أجزاؤها فلهذا عدلهم
بالسهام، فعلى هذا يجبر الممتنع في مسألتنا، وهو الأقوى عندنا، وقال من منع
منه: إنما فعل النبي عليه السلام ذلك لمزية الحرية، فعلى هذا لا مزية في مسألتنا،
فلا يجبر أحدهما على القسمة.
إذا كانت يد رجلين على ملك فسألا الحاكم أن يقسمه بينهما نظرت: فإن أقاما
البينة عنده أنه ملكهما قسمه بينهما وإن لم يكن لهما بينة غير اليد ولا منازع هناك
قال قوم: يقسمه بينهما، وقال آخرون: لا يقسمه، وسواء كان ذلك مما ينقل
ويحول أو لا ينقل ولا يحول، وسواء قالا: ملكناه إرثا أو بغير إرث، وقال بعضهم:
إن كان مما ينقل ويحول قسمه بينهما، وإن كان مما لا ينقل فإن قالا بالميراث بيننا
لم يقسم، وإن قالا غير ميراث قسمه بينهما، والأول أقوى عندنا.
القسمة ضربان: قسمة إجبار وقسمة تراض.
فإن كانت قسمة إجبار نظرت في القاسم: فإن كان قاسم الإمام لزمت بالقرعة،
لأن قرعة القاسم كحكم الحاكم لأنه يجتهد في تعديل السهام كما يجتهد الحاكم في
إطلاق الحق، وإن كان القاسم رجلا ارتضوا به حكما وقاسما فالحكم فيه كالتراضي
بحاكم يحكم بينهما.
ولو تراضيا بحاكم يحكم بينهما، بما ذا يلزم الحكم؟ قال قوم: بمجرد الحكم،
وقال آخرون: بالتراضي بعد الحكم كذلك هاهنا، قال بعضهم: يلزم بالقرعة، وقال
غيره: بالتراضي بعد القرعة، وهو الأقوى عندنا في الموضعين.
وإن كانا هما اللذان توليا ذلك بينهما من غير قاسم، فعدلا وأقرعا فإنها لا تلزم
إلا بالتراضي بعد القرعة، لأنهما تقاسما من غير قاسم، هذا الكلام في قسمة
الإجبار.
147

فأما قسمة التراضي وهي التي فيما رد أو لا رد فيها، مثل أن تراضيا أن يكون
السفل لأحدهما والعلو للآخر، فهل يلزم بالقرعة أم لا؟ قال بعضهم: يلزم كقسمة
الإجبار، وقال آخرون: لا يلزم بالقرعة، لأن القرعة هاهنا ليعرف البائع الذي يأخذ
الرد، والمشتري الذي يدفع الرد، لأنا نجهل هذا قبل القرعة، فإذا تميز هذا بالقرعة
حينئذ اعتبرنا التراضي بعد القرعة على البيع والشراء، هذا هو الأقوى، وإن نصبا
حكما فالحكم على ما مضى، وإن كان بأنفسهما فالحكم على ما مضى.
فصل: فيما على القاضي في الخصوم والشهود:
على الحاكم أن يسوي بين الخصمين في الدخول عليه، والجلوس بين يديه،
والنظر إليهما، والإنصات إليهما والاستماع منهما والعدل في الحكم بينهما.
روت أم سلمة أن النبي عليه وآله السلام قال: من ابتلي بالقضاء بين الناس
فليعدل بينهم في لحظه وإشارته ومقعده فلا يرفعن صوته على أحدهما بما لا يرفع
على الآخر.
وكتب بعض الصحابة إلى قاضيه كتابا طويلا فقال فيه: واس بين الناس في
وجهك ومجلسك، وعدلك، حتى لا ييأس ضعيف من عدلك ولا يطمع شريف
في خيفك.
وإنما عليه أن يسوي بينهما في الأفعال الظاهرة، فأما التسوية بينهما بقلبه من
حيث لا يميل إلى أحدهما، ولا يرى الحظ له دون غيره، فغير مؤاخذ به ولا محاسب
عليه، لقوله تعالى: " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل
الميل فتذروها كالمعلقة ".
وأما موضع الجلوس فإنه يجلسهما بين يديه ولا يكون أحدهما أقرب إليه من
الآخر، روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله قضى أن يجلس الخصمان بين يدي
القاضي، هذا كله إذا استويا في الدين مسلمين أو مشركين.
فأما أن يكون أحدهما مسلما والآخر مشركا، قال بعضهم: يرفع المسلم على
148

المشرك في المكان، لما روي أن عليا عليه السلام رأى درعا مع يهودي فعرفها وقال:
هذه درعي ضاعت مني يوم الجمل، فقال اليهودي: درعي ومالي وفي يدي،
فترافعا إلى شريح وكان قاضي علي عليه السلام فلما دخلا عليه قام شريح من
موضعه وجلس علي في موضعه وجلس شريح واليهودي بين يديه فقال علي
عليه السلام: لولا أنه ذمي لجلست معه بين يديك، غير أني سمعت النبي عليه السلام
يقول: لا تساووهم في المجالس، وهذا هو الأولى.
إذا جلس الخصمان بين يديه فلا ينهرهما - يعني لا يصيح عليهما في
غير موضعه - فلا يتمكن ذو الحجة من إيراد حجته على وجهها، ولا يتعنت شاهدا ولا
يتعقبه، - والتعنت أن يفرق الشاهدين وهما من أهل السر والضبط والقول
السديد -، فلا يفعل هذا بهما، لأن فيه منقصة عليهما وقدحا في رأيهما، - ومعنى
لا يتعقبه أي لا يداخله في الشهادة - ولا يتعقبه في الألفاظ عند إقامة الشهادة بل
يدعه حتى ينتهي ما عنده على ما شهد به.
إذا جلس الخصمان بين يديه لم يكن له أن يلقن أحدهما ما فيه ضرر على
خصمه، ولا يهديه إليه، مثل أن يقصد الإقرار فيلقنه الإنكار، أو يقصد اليمين
فيلقنه ألا يحلف، وكذلك في الشهادة إذا أحس منه التوقف في شهادته لم يكن له
أن يشير عليه بالإقدام عليها، وإذا أحس منه الإقدام عليها لا يلقنه التوقف عنها، لأن
عليه أن يسوي بينهما فيما يجد السبيل إليه، فإذا لقن واحدا منهما فقد ظلم الآخر
وأفضي إلى إيقاف حقه، هذا فيما يتعلق بحقوق الآدميين.
فأما ما يتعلق بحقوق الله، فإنه يجوز التلقين فيها والتنبيه على ما يسقطها، لما
روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقن ما عز بن مالك حين اعترف بالزنى،
فقال: لعلك قبلتها لعلك لمستها، ولأن هذه الحقوق إذا ثبتت باعترافه سقطت
بإنكاره.
وإذا جلسا بين يديه جاز أن يقول: تكلما - بمعنى يتكلم المدعي منكما -، أو
يصرح بهذا فيقول: يتكلم المدعي منكما، أو يسكت الحاكم ليقول القائم على رأسه
149

لهما ذلك، لأنهما قد نهيا عن الابتداء بالكلام حتى يأذن لهما فيه، وإن سكت ولم
يقل شيئا حتى يكون الابتداء منهما بالكلام جاز لأنهما للكلام حضرا.
ولا يقول لواحد منهما: تكلم، لأنه إذا أفرده بالخطاب كسر قلب الآخر، ومتى
بدأ أحدهما بالكلام بإذن أو بغير إذن وجعل يدعي على صاحبه، منع صاحبه عن
مداخلته لأنه يفسد عليه نظام الدعوى.
وأقل ما على الحاكم أن يمنع كل واحد منهما أن ينال من عرض صاحبه، لأنه
جلس للفصل بين الناس والإنصاف، وأقل ما عليه أن لا يمكن أحدهما من الظلم
والحيف.
ولا يجوز له أن يضيف أحد الخصمين دون صاحبه إما أن يضيفهما معا أو
يدعهما معا، لما روي أن رجلا نزل بعلي عليه السلام فأدلى بخصومته فقال له علي:
ألك خصم؟ فقال: نعم، قال تحول عنا فإني سمعت رسول الله
صلى الله عليه وآله يقول: لا تضيفوا أحد الخصمين إلا ومعه خصمه.
والقاضي بين المسلمين والعامل عليهم يحرم على كل واحد منهم الرشوة، لما
روي أن النبي عليه السلام قال: لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم، وهو حرام
على المرتشي بكل حال، وأما الراشي فإن كان قد رشاه على تغيير حكم أو إيقافه
فهو حرام، وإن كان لإجرائه على واجبه لم يحرم عليه أن يرشوه كذلك لأنه يستنقذ
ماله فيحل ذلك له، ويحرم على آخذه لأنه يأخذ الرزق من بيت المال، وإن لم يكن
له رزق قال لهما: لست أقضي بينكما حتى تجعلا لي رزقا عليه، حل ذلك له حينئذ
عند قوم، وعندنا لا يجوز بحال.
فأما الهدية فإن لم تكن بمهاداته عادة حرم عليه قبولها، والعامل على
الصدقات كذلك، لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: هدية العمال غلول، وفي
بعضها هدية العمال سحت.
وروى أبو حميد الساعدي قال: استعمل النبي عليه السلام رجلا من الأسد يقال
له أبو البنية - وفي بعضها أبو الأبنية - على الصدقة فلما قدم قال: هذا لكم وهذا
150

أهدي لي، فقام النبي عليه السلام على المنبر فقال: ما بال العامل نبعثه على أعمالنا
يقول: هذا لكم وهذا أهدي لي، فهلا جلس في بيت أبيه أو في بيت أمة ينظر يهدي له
أم لا؟ والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منها شيئا إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته
إن كان بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تنعر، ثم رفع يده حتى رأينا عقرة إبطيه ثم
قال: اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت.
فإن قيل: أليس قد قال النبي عليه السلام: لو دعيت إلى ذراع لأجبت ولو
أهدي إلي كراع لقبلت؟ قلنا: الفصل بينه وبين أمته أنه معصوم عن تغيير حكم
بهدية، وهذا معدوم في غيره، هذا إذا أهدي له من لم يجر له بمهاداته عادة.
فأما إن كان ممن جرت عادته بذلك، كالقريب والصديق الملاطف نظرت: فإن
كان في حال حكومة بينه وبين غيره أو أحس بأنه يقدمها لحكومة بين يديه حرم عليه
الأخذ كالرشوة سواء، وإن لم يكن هناك شئ من هذا فالمستحب أن يتنزه عنها، هذا
كله إذا كان الحاكم في موضع ولايته.
فأما إن حصل في غير موضع ولايته فأهدي له هدية فالمستحب له أن لا يقبلها،
وقال بعضهم: يحرم عليه.
فكل موضع قلنا: لا يحرم عليه قبولها، فلا كلام، وكل موضع قلنا: يحرم
عليه، فإن خالف وقبل فما الذي يصنع؟ فإن كان عامل الصدقات، قال قوم: يجب
عليه ردها، وقال آخرون: يجوز أن يتصدق عليه بها، والأول أحوط.
وأما هدية القاضي قال قوم: يضعها في بيت المال لتصرف في المصالح،
وقال آخرون: يردها على أصحابها، وهو الأحوط عندنا.
إذا حضره مسافرون ومقيمون نظرت: فإن سبق المسافرون قدمهم لأنه لما قدم
السابق فالسابق من أهل البلد فكذلك المسافر بل هو أولى، وإن وافوا معا أو تأخر
المسافرون، فإن كان بهم قلة من حيث لا يضر تقديمهم بأهل البلد، فهو بالخيار بين
أن يقدمهم أو يفرد لهم يوما يفرع من حكوماتهم فيه، لأن المسافر على جناح السفر
151

وشرف الرحيل، يكثر شغله وتزدحم حوائجه، فلهذا قدم، فأما إن كانوا مثل
المقيمين أو أكثر كأيام الموسم بمكة والمدينة كانوا والمقيمون سواء، لأن في
تقديمهم إضرارا بأهل البلد، وفي تأخيرهم إضرارا بهم، فكانوا سواء فصاروا كما لو
كانوا كلهم مقيمين.
قد ذكرنا أن الحاكم يجلس للقضاء في موضع بارز للناس في رحبة أو صحراء أو
موضع واسع، إلا من ضرورة من مطر أو غيره فيجلس في بيته أو في المسجد.
وذكرنا أنه إذا أراد أن يجلس في مجلسه للقضاء قدم إليه ثقة من عنده ليحفظ من
جاء أولا ويضبط: قد جاء فلان أولا ثم فلان ثم فلان، على هذا أبدا، فإذا حضر
الحاكم قدم، الأول فالأول لأنه لا يمكنه أن يحكم بين الكل دفعة واحدة ولا بد أن
يقدم واحدا واحدا، ولا يمكن أن يقدم واحدا لموضعه في نفسه، ولا لأجل
حكومته، فلم يبق إلا أنه يعتبر السابق فيكون الحق له، كما قلنا في مقاعد الطرقات
والأسواق والماء والمصانع والمعادن ونحوها، فإنه يقدم السابق منهم إليها فالسابق،
قال صلى الله عليه وآله: مني مباح من سبق، فجعل السابق أحق، هذا إذا جاؤوا
واحدا بعد واحد.
فأما إن جاؤوا معا نظرت: فإن كان العدد قليلا يمكن الإقراع بينهم، أقرع بينهم
فمن خرجت قرعته قدمناه، وإن كثروا أو تعذرت القرعة، كتب الحاكم أسماءهم في
رقاع وجعلها بين يديه ومد يده فأخذ رقعة بعد رقعة كما يتفق لأن القرعة قد تعذرت.
فإذا قدم رجلا بالسبق أو القرعة أو بالرقعة حكم بينه وبين خصمه، فإذا فرع
صرفه فقال: قم حتى يتقدم من بعدك، فإن قال الأول: فلي حكومة أخرى، لم
يلتفت إليه وقال: قد حكمت بينك وبين خصمك بحكومة فإما أن تنصرف أو تصبر
حتى أفرع من الناس، لأنه لو قضي بينه وبين كل من يخاصمه أفضي إلى أن يستغرق
المجلس لنفسه، فلهذا لا يزاد على واحدة.
فإذا تقدم غيره فإن شاء ادعى على المدعى عليه أولا، وإن شاء على المدعي
الأول، وإن شاء ادعى المدعى عليه أولا على المدعي الأول فإنه يحكم بينهما، لأنا
152

إنما نعتبر الأول فالأول في المدعي وأما في المدعى عليه فلا.
فإذا فرع وبقى هناك واحد نظر بينه وبين خصمه، فإن كان له حكومات كثيرة
نظر فيها كلها لأنه لا مزاحم له فيها، اللهم إلا أن يكون الأول قد جلس صابرا حتى
يفرع من الناس، فحينئذ إذا حكم بين الأخير وبين خصمه حكومة واحدة، قدم الأول
لأنه لهذا جلس.
فإن حضر نفسان فادعى أحدهما على صاحبه، فقال المدعى عليه: أنا المدعي وهو
المدعى عليه، لم يلتفت الحاكم إليه، وقال له: أجب عن دعواه فإذا
فرع من حكومتك وكان لك كلام أو دعوى فاذكر.
فإن حضرا معا وادعيا معا كل واحد على صاحبه من غير أن يسبق أحدهما،
فالذي رواه أصحابنا أنه يقدم من يكون على يمين صاحبه، وقال قوم: يقرع بينهما،
ومنهم من قال: يقدم الحاكم من شاء، ومنهم من قال: يصرفهما حتى يصطلحا،
ومنهم من قال: يستحلف كل واحد منهما لصاحبه، وبعد ما رويناه القرعة أولى.
وإن كان لجماعة على رجل حقوق من جنس واحد أو أجناس، فوكلوا من
ينوب عنهم في الخصومة فادعى الوكيل عليه الحقوق، فإن اعترف فلا كلام، وإن
أنكر وكانت هناك بينة حكم عليه بها، وإن لم يكن بينة فالقول قوله مع يمينه.
فإذا أراد كل واحد من الجماعة أن يستحلفه على الانفراد كان له لأن اليمين حق
له، فكان له أن ينفرد باستيفائه، وإن قالت الجماعة: قد رضينا منه بيمين واحدة عن
الكل لكنا، قال قوم: يستحلفه لأنه لما صح أن تثبت الحقوق عليه بالبينة الواحدة
صح أن تسقط الدعوى باليمين الواحدة، وقال آخرون: لا يجوز أن يقصر الحاكم
منه على يمين واحدة، بل يستحلفه لكل واحد منهم يمينا لأنها حقوق الآدميين،
ولا يراد الزجر والردع فكان اليمين لكل واحد أبلغ في الزجر والردع، والأول أقوى
عندنا لأن اليمين حق لهم فإذا رضوا بيمين واحدة فينبغي أن يكتفى بها.
إذا استعدى رجل عند الحاكم على رجل لم يخل المستعدى عليه من
أحد أمرين: إما أن يكون حاضرا أو غائبا.
153

فإن كان حاضرا اعتدى عليه وأحضره، سواء علم بينهما معاملة أو لم يعلم،
وهو الأقوى عندنا، وليس في ذلك ابتذال لأهل الصيانات والمروءات فإن عليا
عليه السلام حضر مع يهودي عند شريح، وحضر عمر مع أبي عند زيد بن ثابت ليحكم
بينهما في داره، وحج المنصور فحضر مع جمالين مجلس الحكم لحلف كان
بينهما.
وقال بعضهم: إذا كان من أهل الصيانات لم يحضره الحاكم إلى مجلس
الحكم بل يستدعيه إلى منزله ويقضي بينه وبين خصمه فيه، وإن لم يكن من أهل
الصيانات أحضره مجلس الحكم.
فإذا ثبت أنه تعدى عليه فالكلام فيما تعدى به:
جملته أنه ينبغي أن يكون عند القاضي في ديوان حكمه ختوم من طين قد طبعها
بخاتمه يبعث مع الخصم إليه فإن حضر وإلا بعث بعض أعوانه ليحضر، فإن حضر
وإلا بعث بشاهدين يشهدان على امتناعه، فإن حضر وإلا استعان بصاحب الحرب
وهو صاحب الشرطة، هذا إذا كان المستعدى عليه حاضرا.
فأما إن كان غائبا لم يخل من أحد أمرين: إما أن يكون غائبا في ولاية هذا
الحاكم أو في غير ولايته.
فإن كان غائبا في غير ولايته مثل أن كان الحاكم ببغداد فغاب إلى البصرة،
والبصرة في غير ولايته، فإنه يقضي على غائب وفيه خلاف.
وإن كان غائبا في ولايته، مثل أن غاب إلى موضع نظر هذا القاضي وولايته
نظرت: فإن كان له في موضع غيبته خليفة كتب إليه وبعث بخصمه إليه ليحكم
بينهما، وإن لم يكن له خليفة نظرت: فإن كان هناك من يصلح أن يحكم بينهما
كتب إليه وجعل النظر إليه بينهما، وإن لم يكن له في موضع نظره خليفة ولا كان
هناك من يصلح أن يقضي بينهما، قال لخصمه: حرر دعواك عليه، فإذا حررها
أعدى عليه.
والفرق بين أن يكون المستعدى عليه حاضرا فيحضره الحاكم وإن لم يحرر
154

الدعوى عليه، وبين أن يكون غائبا فيكلفه تحرير الدعوى واضح، وهو أنه إذا كان
حاضرا لم يكن عليه كثير مشقة بالحضور فلهذا أحضره، وليس كذلك إذا كان غائبا
لأن عليه مشقة في حضوره فربما حضر وليس مع المدعي دعوى صحيحة فلهذا قلنا
لا يحضره حتى يحرر الدعوى.
فإذا ثبت هذا فمتى حرر الدعوى أحضره وإن بعدت المسافة، وقال بعضهم:
إن كان من مسافة يرجع فيها إلى وطنه ليلا أحضره، وإلا لم يحضره، وقال قوم: إن
كان على مسيرة يوم وليلة أحضره وإلا تركه، وقال قوم: إن كان على مسافة لا يقصر
فيها الصلاة أحضره وإلا لم يحضره والأول أقوى، هذا إذا كان المستعدى عليه
رجلا.
فأما إن كان امرأة نظرت: فإن كانت برزة فهي كالرجل، وإن كانت مخدرة بعث
إليها من يقضي بينها وبين خصمها في دارها، - والبرزة هي التي تبرز لقضاء حوائجها
بنفسها، والمخدرة التي لا تخرج كذلك - والأصل في البرزة والمخدرة في الشرع أن
العامرية اعترفت عند النبي عليه السلام بالزنى فرجمها وقال في الأخرى: وأغديا أنيس
إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها، فكانت العامرية برزة والأخرى
مخدرة.
فإذا ثبت هذا فمتى حضر قيل له: ادع الآن، فإذا ادعى عليه لم تسمع الدعوى
إلا محررة، فأما إن قال: لي عنده ثوب أو فرس أو حق، لم تسمع دعواه، لأن دعواه
لها جواب، فربما كان بنعم فلا يمكن للحاكم أن يقضي به عليه، لأنه مجهول.
قالوا: أليس الإقرار بالمجهول يصح؟ هلا قلتم أن الدعوى المجهولة تصح،
قلنا: الفصل بينهما أنه إذا أقر بمجهول لو كلفناه تحرير الإقرار ربما رجع عن إقراره،
فلهذا ألزمناه المجهول به، وليس كذلك في مسألتنا لأنه إذا ردت الدعوى عليه
ليحررها لم يرجع، فلهذا لم تسمع إلا معلومة، هذا كله ما لم يكن وصية.
فأما إن كانت وصية سمع الدعوى فيها، وإن كانت مجهولة والفصل بينهما
وبين سائر الحقوق، أن تمليك المجهول بها يصح، فصح أن يدعي مجهولة، وليس
155

كذلك غيرها، لأن تمليك المجهول به لا يصح، فلهذا لم تقبل الدعوى به إلا
معلومة.
فإذا ثبت هذا نظرت: فإن حرر الدعوى فلا كلام، وإن لم يحررها ولم يحسن
ذلك، قال بعضهم: للحاكم أن يلقنه بكيفيتها لأنه لا ضرر على صاحبه في تلقينه،
وقال آخرون: ليس له ذلك لأنه حق له، وهو الأقوى عندي لأنه يكسر قلب خصمه
بذلك.
فإذا ثبت أن الدعوى لا تكون إلا محررة فالكلام في تحريرها لم يخل ما يدعيه
من أحد أمرين: إما أن يكون أثمانا أو غيرها.
فإن كانت أثمانا فلا بد من ثلاثة أشياء تكون بها معلومة، وهو أن يذكر القدر
والجنس والنوع، فالقدر ألف، والجنس دراهم، والنوع راضية أو عزية، فإن كان
خلاف في صحاح أو مكسرة فلا بد من أن يقول صحاحا أو مكسرة، لأن التفاوت كثير
في كل هذا.
قالوا: أليس لو باع ثوبا بألف مطلقا انصرف إلى نقد البلد؟ هلا قلتم يسمع
الدعوى مطلقا وينصرف إلى نقد البلد؟
قلنا: الفصل بينهما أن الدعوى إخبار عما كان واجبا، وذلك يختلف في وقت
وجوبه باختلاف الأزمان والبلدان، فلهذا لم تسمع منه إلا محررة وليس كذلك الشراء
لأنه إيجاب في الحال، فلهذا انصرف إلى نقد البلد كقيم المتلفات، فوزان الدعوى
من الشراء أن يكون في البلد نقود مختلفة فحينئذ لا يصح أن يطلق الثمن ولا بد أن
يكون موصوفا، هذا إذا كانت أثمانا.
فأما إن كانت من غير الأثمان لم يخل من أحد أمرين: إما أن يكون عينا قائمة
أو هالكة.
فإن كانت عينا قائمة نظرت: فإن كانت مما يمكن ضبطها بالصفات كالحبوب
والثياب ضبطها وطالب بها، وإن ذكر القيمة كان تأكيدا، وإن لم يذكرها جاز، لأن
الاعتماد على ضبط الصفات وإن كانت العين مما لا يمكن ضبط صفاتها كالجواهر
156

ونحوها ذكر قيمتها.
وأما إن كانت تالفة نظرت: فإن كان لها مثل كالحبوب والأدهان وصفها و
طالب بها، لأنها تضمن بالمثل، وإن لم يكن لها مثل كالعبيد والثياب، فلا بد من
ذكر القيمة، وإن كان التالف سيفا محلى فإن كان بالذهب قومه بالفضة، وإن كان
بالفضة قومه بالذهب، وإن كان محلى بهما قومه بما شاء منهما، لأنه موضع حاجة.
كل موضع تحررت الدعوى هل للحاكم مطالبة المدعى عليه بالجواب من غير
مسألة المدعي أم لا؟ قال قوم: لا يطالبه بالجواب بغير مسألة المدعي، لأن الجواب
حق المدعي، فليس للحاكم المطالبة به من غير مسألته، كنفس الحق، وهو
الصحيح عندنا، وقال قوم: له مطالبته به من غير مسألة المدعي لأن شاهد الحال
يدل عليه، لأن الإنسان لا يحضر خصمه إلى الحاكم ليدعي عليه وينصرف من غير
جواب وهو قوي أيضا.
فإذا طالبه بالجواب بمسألة أو غير مسألة فالمطالبة أن يقول له: ما تقول فيما
يدعيه؟ فإذا قال: ذلك له، لم يخل المدعى عليه من ثلاثة أحوال: إما أن يقر أو ينكر
أو لا يقر ولا ينكر.
الأول: فإن أقر بالحق لزمه، لأنه لو قامت عليه به بينة لزمه، فبأن يلزمه باعترافه
أولى.
فإذا ثبت أنه يلزمه لم يكن للحاكم أن يحكم عليه به، إلا بمسألة المقر له به،
لأن الحكم عليه به حق له، فلا يستوفيه إلا بأمره كنفس الحق، والحكم أن يقول:
ألزمتك ذلك أو قضيت عليك به، أو يقول: أخرج له منه، فمتى قال إحدى الثلاثة
كان حكما بالحق، فإذا حكم به لزمه فإن سأله المدعي أن يكتب له به محضرا حجة
له في يده بحقه، فعل ذلك على ما فصلناه في المحاضر.
الثاني: وأما إن أنكر فقال: لا حق لك قبلي، فهذا موضع البينة، فإن كان
المدعي لا يعرف أنه موضع البينة كان للحاكم أن يقول له: ألك بينة؟ فإن كان عارفا
بأنه وقت البينة فالحاكم بالخيار بين أن يسكت أو يقول له: ألك بينة؟
157

فإذا قال: ألك بينة؟ لم يخل من أحد أمرين: إما أن لا يكون له بينة أو له بينة.
فإن لم يكن له بينة عرفه الحاكم أن لك يمينه، فإذا عرف ذلك لم يكن للحاكم
أن يستحلفه بغير مسألة المدعي، لأن اليمين حق له، فليس له أن يستوفيه إلا
بمطالبته كنفس الحق، فإن لم يسأله فاستحلفه من غير مسألة لم يعتد باليمين لأنه
أتى بها في غير وقتها، فإذا لم يعتد بها أعادها عليه بمسألة المدعي.
فإذا عرض اليمين عليه لم يخل من أحد أمرين: إما أن يحلف أو ينكل.
فإن حلف أسقط الدعوى، وليس للمدعي أن يستحلفه به مرة أخرى في هذا
المجلس ولا في غيره، اللهم إلا أن يكون له بينة عليه فحينئذ يأتي بالبينة.
فإذا ثبت أنه يسقط الدعوى، فإن سأله الحالف أن يكتب له محضرا بما جرى
عليه كي لا يدعيه مرة أخرى فعليه أن يكتب له ذلك حجة في يده.
وإن لم يحلف ونكل عن اليمين، قال له الحاكم: إن حلفت وإلا جعلتك
ناكلا، ورددت اليمين على خصمك فيحلف ويستحق عليك، يقول هذا له ثلاثا،
فإن حلف فقد مضى، وإن لم يحلف رددنا اليمين على المدعي فيحلف ويثبت له
الحق، فإن سأل الحاكم أن يكتب له بحقه محضرا بما جرى فعل ذلك، هذا إذا لم
يكن بينة.
فإن كانت له بينة لم يخل من أحد أمرين: إما أن تكون حاضرة أو غائبة.
فإن كانت حاضرة لم يقل له الحاكم أحضرها لأنه حق له فله أن يفعل ما يرى،
فإذا حضرا لم يسألهما الحاكم عما عندهما حتى يسأله المدعي ذلك، لأنه حق له
لئلا يتصرف فيه بغير أمره.
فإذا ثبت أنه لا بد من سؤال المدعي للاستماع منهما، فإن الحاكم لا يقول
لهما: اشهدا، لأنه أمر وهو لا يأمرهما، ولكنه يقول: تكلما إن شئتما، من كان
عنده كلام فليذكر إن شاء، فإذا قالا ما عندهما لم يخل من أحد أمرين: إما أن يكون
ما أقاماه من الشهادة فاسدا أو صحيحا.
فإن كان فاسدا مثل أن قالا: بلغنا أن له عليه ألفا أو قالا: سمعنا بذلك، قال
158

له: زدني في شهودك، فيرد شهادتهما بذلك.
وإن شهدا عنده بالحق شهادة صحيحة لم يحكم الحاكم له بها حتى يسأله
الحكم بها، فإذا سأله بحث عن حال الشهود، فإن كانوا فساقا وقف الأمر حتى يأتي
بالبينة، وإن كانوا عدولا قال الحاكم للمدعى عليه: قد عدلا عندي هل عندك جرح؟
فإن قال: نعم، أنظره لجرح الشهود ثلاثا، فإن لم يأت بجرح أو قال: لا جرح
عندي، لم يحكم حتى يسأل المدعي أن يحكم له بذلك.
فإذا سأله استحب للحاكم أن يقول للمدعى عليه: قد ادعى عليك كذا وشهد
عليك به كذا وكذا وأنظرتك جرح الشهود فلم تفعل وهو ذا حكم عليك، ليبين له
أنه حكم بحق، فإذا قال هذا حكم عليه بالبينة ولم يستحلف المدعي مع بينته،
وقال بعض من تقدم: لا يحكم له بالبينة حتى يستحلفه معها لأنها لو كانت على
صبي أو مجنون أو ميت أو غائب استحلف معها كذلك هاهنا، والأول أصح، هذا
إذا كانت البينة حاضرة.
فأما إن كانت البينة غائبة قال له الحاكم: ليس لك ملازمته ولا مطالبته بالكفيل
ولك يمينه أو ترسله حتى تحضر البينة، وقال قوم: له ملازمته ومطالبته بالكفيل
حتى يحضر البينة، والأول أصح، والثاني أحوط لصاحب الحق.
الثالث: وهو إذا سكت أو قال: لا أقر ولا أنكر، قال له الحاكم ثلاثا: إما
أجبت عن الدعوى وإلا جعلناك ناكلا ورددنا اليمين على خصمك، وقال قوم:
يحبسه حتى يجيبه بإقرار أو بإنكار، ولا يجعله ناكلا فيقضي بالنكول والسكوت -
وقوله: لا أقر ليس بنكول -، والأول يقتضيه مذهبنا، والثاني أيضا قوي.
إذا أراد الإمام أن يولي قاضيا نظرت: فإن وجد متطوعا ولاه ولا يولي من يطلب
عليه رزقا.
روى عثمان بن أبي العاص قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله حين أمرني
على الطائف أن لا أتخذ مؤذنا يأخذ على الأذان أجرا.
159

فإن لم يجد متطوعا كان له أن يولي القاضي ويرزقه من بيت المال.
وروي أن عليا عليه السلام ولى شريحا وجعل له كل سنة خمسمائة درهم،
وكان عمر قبله قد جعل له كل شهر مائة درهم.
وروي أن الصحابة أجروا لأبي بكر كل يوم درهمين، وروي كل يوم شاتين شاة
بالغداة وشاة بالعشي، وألف درهم في كل سنة، فلما ولى عمر قال: لا يكفيني
ذلك، فأضعفوه له فجعلوا له في كل يوم أربع شياه وفي كل سنة ألفي درهم.
فعلى هذا يجوز للقاضي والقاسم وكاتب القاضي وصاحب الديوان وصاحب
بيت المال والمؤذنين أن يأخذوا رزقا من بيت المال وإن فعلوا ذلك احتسابا كان
أفضل وأفضل، من ترك ذلك المؤذن.
ويجوز أن يأخذ الجعل من يكيل للناس ويزن لهم ويعلمهم القرآن والنحو
وما يتأدبون به من الشعر، وما ليس فيه مكروه، وأما ما يجوز أن يستأجر عليه وما لا
يجوز فقد ذكرناه في غير موضع.
وجملته أن كل عمل جاز أن يفعله الغير عن الغير تبرعا جاز أن يفعله بعقد
إجارة كالخياطة والبناء، وكل عمل لا يفعله الغير عن الغير وإذا فعله عن نفسه عاد
نفعه إلى الغير جاز أخذ الرزق عليه دون الأجرة كالقضاء والخلافة والإمامة والإقامة
والأذان والجهاد، وقالوا: لا يجوز أخذ الأجرة عليه، وأجاز أصحابنا ذلك، وأجاز
قوم أخذ الأجرة على القضاء وهو فاسد عندنا.
وكل ما لا يفعله الغير عن الغير وإذا فعله عن نفسه لم يعد نفعه إلى الغير لم
يجز أخذ الأجرة عليه ولا أخذ الرزق كالصلوات المفروضات والتطوع وكذلك
الصيام.
فإذا ثبت أنه يأخذ الرزق فإنه يأخذه من بيت المال لأنه معد للمصالح، وهذا
منها، ويجعل له مع الرزق شيئا لقراطيسه التي يكتب فيها المحاضر والسجلات،
لأن ذلك من المصالح، وفيه فوائد يحفظ به الوثائق ويتذكر به الشاهد شهادته،
والحاكم حكمه، ويرجع بالدرك على من يرجع بالدرك عليه.
160

وإن لم يكن في بيت المال مال أو كان هناك ما هو أهم منه قال الحاكم لمن
ثبت له الحق: إن اخترت أن تأتي بكاغذ أكتب فيه المحضر أو السجل والشهادة
فافعل ولا أكرهك عليه لأنه وثيقة لك، فإن أراد ذلك كان الكاغذ على من له الحجة
من المدعي والمدعى عليه، كما قلنا في كتاب الشراء يكون على المشتري لأنه
حجته على البائع، فكان عليه دون البائع كذلك هاهنا.
[القضاء على الغائب]
إذا حضر رجل عند الحاكم فادعى على غائب حقا سمع الحاكم دعواه لجواز
صدقه في ما يدعيه، كما لو كان حاضرا، فإن أقام البينة بما يدعيه سمعها الحاكم،
فإن سمعها لم يخل المدعي من أحد أمرين: إما أن يسأله القضاء بما ثبت عنده أو لا
يسأله.
فإن لم يسأله وقال: قد اقتصرت على هذا القدر اكتب به إلى حاكم البلد الذي
فيه الغائب كتابا، كتب له، فإن عرف عدالتهما كتب بعدالتهما، وإن لم يعرف كتب
وقال: حضرني فلان بن فلان فادعى على فلان بن فلان كذا وكذا، وأقام به
شاهدين فلانا وفلانا، ليكون المكتوب إليه هو الباحث عن عدالتهما فيفعل هذا كل
ذلك بلا خلاف.
وأما إن سأله أن يقضي له على هذا الغائب بما ثبت عنده أجابه إلى ذلك بعد
أن يستحلفه عن حقه الذي شهد الشاهدان أنه ثابت إلى وقتنا هذا، فإذا حلف حكم
عليه وكتب به كتابا، وهكذا قولهم في القضاء على الصبي والمجنون والميت
الكل واحد، لأن كل واحد لا يعبر عن نفسه، فلو كان الغائب حاضرا أكثر ما يفعله أن
يدعي ما يسقط الحق وقد استحلفناه له أن حقه باق، وهكذا لو لم يكن غائبا لكنه
هرب من مجلس الحكم، فإنه يحكم عليه لأنه غير مقدور عليه كالغائب.
فأما إن كان حاضرا في مجلس الحكم فليس له أن يقضي عليه بغير علمه، لأنه
إذا ادعى عليه يقدر أن يسأله عن الجواب، فإن أقام البينة يمكن الجرح المطلق فيقف
161

الحكم به فلهذا لم يقض عليه.
وأما إن كان حاضرا في البلد غير ممتنع من الحضور فهل له أن يقضي عليه وهو
غائب عن مجلس الحكم أم لا؟ قال قوم: له ذلك، لأنه غائب عن مجلس الحكم،
والصحيح أنه لا يقضي عليه لأنه مقدور على إحضاره، والقضاء على الغائب إنما
جاز لموضع الحاجة وتعذر إحضاره.
فالقضاء على الغائب يجوز عندنا في الجملة وعند جماعة، وقال بعضهم:
أقضي عليه ولو كان خلف حائط، وقال جماعة: لا يجوز القضاء على الغائب حتى
يتعلق الحكم بخصم حاضر شريك أو وكيل له، والحاكم عندهم يقول: حكمت
عليه بعد أن ادعى على خصم ساع له الدعوى عليه، على موافقة منهم، فالحكم
يضع هذه الدعوى ولا أصل لها ليصح الحكم عليه بأنه فاسد في الأصل.
وتحقيق هذا أن القضاء على الغائب جائز بلا خلاف، لكن هل يصح مطلقا من
غير أن يتعلق على حاضر أم لا؟ عندنا وعند جماعة يجوز وعندهم لا يجوز.
فإذا ثبت أن القضاء على الغائب جائز، فإذا سمع الحاكم البينة عليه ثم حضر
نظرت:
فإن كان حضوره قبل الحكم بها عليه، قال له الحاكم ما جرى: وهو أن فلان
بن فلان ادعى عليك كذا وأقام به البينة فلانا وفلانا وسمعتها، وعرفت عدالتهما
فما قولك؟ فإن اعترف فلا كلام، وإن أقام البينة على القضاء والإبراء، ثبت وبرئ،
وإن جرح الشهود لم يحكم عليه بفاسقين، وإن سأل أن يؤخره في الجرح ويؤجله به
أجله ثلاثا فإن أتى بجرح وإلا حكم عليه.
وأما إن حضر وقد حكم عليه، عرفه ذاك أيضا، فإن قال: حكمت بالحق
فلا كلام، وإن أتى ببينة بالقضاء والإبراء سمعت وبرئ، وإن جرح الشهود لم يقبل
منه حتى يكون مقيدا، - وهو أن الفسق كان موجودا حين الحكم أو قبله، ولا يقبل
مطلقا لجواز أن يكون الفسق بعد الحكم فلا يقدح فيه -، ويفارق هذا قبل الحكم
حين قبلنا الجرح مطلقا لأنه متى ثبت الفسق وقف الحكم بشهادتهما، وإن قال:
162

أجلوني في جرحهم، أجلناه فإن أتى بالجرح وإلا فقد نفذ الحكم.
فإذا ثبت هذا فالكلام في الحقوق التي يقضى بها على غائب وما لا يقضى،
وجملته أن الحقوق على ثلاثة أضرب: حق للآدميين محض، وحق له محض وحق
لله يتعلق به حق لآدمي، فإن كان لآدمي كالدين ونحو ذلك قضي به عليه، وإن كان
لله كالزنا واللواط وشرب الخمر لا يقضى عليه بها، لأن القضاء على الغائب احتياط
وحقوق الله لا يحتاط لها لأنها مبنية على الإسقاط والتخفيف، وحقوق الآدميين
بخلاف ذلك، وأما ما كان حقا لله يتعلق به حق لآدمي، فهو السرقة يقضي عليه
بالغرم دون القطع.
شهادة الزور معصية كبيرة من أعظم الكبائر روى خريم بن فاتك قال: صلى
رسول الله صلى الله عليه وآله صلاة الصبح فلما انصرف قام قائما فقال: عدلت
شهادة الزور بالإشراك بالله ثلاث مرات ثم تلا قوله تعالى: فاجتنبوا الرجس من الأوثان
واجتنبوا قول الزور.
روي عنه عليه السلام أنه قال: إن شاهد الزور لا يزول قدماه حتى يتبوأ مقعده من
النار.
ويجب بها التعزير والشهرة إذا تحقق ذلك وإنما يعلم ذلك قطعا بإقراره بذلك
أو بأن يشهد شاهدان عند الحاكم أن فلانا فجر بفلانة مع الزوال يوم الفطر بالكوفة،
أو قتل فلانا في هذا الوقت بالكوفة، وكان المشهود عليه في هذا الوقت بحضرة
الحاكم ببغداد، فيعلم القاضي قطعا أنهما كذبا عليه، وإنما شهدا بالزور فأما فيما
تعارضت به البينتان مثل أن شهدا عنده بذلك، وشهد آخران أن المشهود عليه كان
في ذلك الوقت بالبصرة أو بخراسان، فلا يعلم الصادق منهما، أو كان الشاهدان
فاسقين أو كافرين أو عبدين فردت شهادتهما لذلك، ولم يعلم كذبهما، فكل هذا لا
يوجب تعزيرا ولا عقوبة لجواز أن يكونا صادقين فيما شهدا به، لكنها ردت لمعنى في
الشاهد.
فإذا ثبت ذلك قطعا فالعقوبة التعزير والشهرة، والتعزير يكون بما دون الحد.
163

روي عنه عليه السلام أنه قال: لا يبلغ بالحد في غير حد، وهو إلى اجتهاد
الإمام يعزره بحسب ما يراه ممن وجب عليه من القوة والضعف، فإن كان ممن لا
يحتمل الضرب أصلا حبسه أو وبخه وقرعه وينبغي أن يشهر ويظهر للناس ليشيع
فيهم ويعرف به في الموضع الذي يعرف فيه، فينادى عليه فيه إما في سوقه أو محلته
أو مسجده أو قبيلته بحسب ما يكون معروفا في هذه المواضع.
فإذا أتى به رسول الحاكم إلى هذا المكان قال: أنا رسول الحاكم إليكم ويقول:
وجدنا هذا شاهد زور فاعرفوه، فهذا قدر شهرته، ولا يحلق رأسه ولا يركب ولا
يطاف به ولا ينادي هو على نفسه، وفيه خلاف، وقد روي في أخبارنا أنه يركب
وينادى عليه.
إذا ترافع نفسان إلى رجل من الرعية فرضيا به حكما بينهما وسألاه أن يحكم
لهما بينهما جاز، وإنما يجوز أن يرضيا بمن يصلح أن يلي القضاء وهو أن يكون من
أهل العدالة والاجتهاد والكمال، على ما شرحناه من صفة القاضي، لأنه رضي به
قاضيا فأشبه قاضي الإمام، ولا فصل بين أن يرضيا به في بلد فيه حاكم سواه أولا
حاكم فيه الباب واحد، لأنه إذا كان ذلك إليهما في بلد لا قاضي به كذلك في بلد به
قاض.
فإذا ثبت أنه جائز فإذا نظر بينهما فمتى يلزم حكمه في حقهما؟ قال قوم:
بالرضا بما حكم به بعد حكمه، وقال آخرون: يلزم حكمه بما يلزم به حكم الحاكم
وهو إذا أمضاه هو عليهما لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: من حكم بين اثنين
تراضيا به فلم يعدل بينهما فعليه لعنة الله، فلو لا أن حكمه بينهما يلزم، ما تواعده
باللعن عند الجور.
وفي هذا المعنى قوله تعالى: " ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه "،
فلو لا أنه مما إذا أظهره لزم، ما لحقه الوعيد بكتمانه.
وقال عليه السلام: من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار،
فلو لا أن علمه يلزم إذا أظهره ما لحقه الوعيد إذا كتمه.
164

فمن قال: لا يلزم بمجرد الحكم، كان لكل واحد منهما الخيار ما لم يتراضيا به
بعد حكمه فإذا تراضيا في ذلك الوقت لزم حكمه، وهو الأقوى عندي، لأن عليه
إجماعا.
ومن قال: يلزم بمجرد حكمه، فعلى هذا إذا شرع فيه وقبل أن يكمله فهل
لأحدهما الامتناع منه قبل إكماله؟ قال بعضهم: له الامتناع، لأنه امتنع قبل حكمه،
وقال آخرون: ليس له الامتناع كالحاكم، ولأنه يفضي إلى أن لا يصح هذا، فإنه متى
علم أحدهما أنه يحكم بما لا يؤثره امتنع وانصرف.
فإذا ثبت أنه سائغ جائز ففي الناس من قال: يجوز في كل الأحكام إلا أربعة
النكاح والقذف واللعان والقصاص، لأن لهذه الأحكام مزية على غيرها فلم يملك
النظر فيها إلا الإمام أو من إليه النظر، وقال آخرون: يصح في الكل لأن كل من كان
له أن يحكم في غير الأربعة جاز فيها كالمولى، وعموم الأخبار تقتضي ذلك.
إذا ترافع إلى القاضي خصمان فادعى أحدهما على صاحبه حقا فأنكر، وعلم
الحاكم صدق ما يدعيه المدعي، مثل أن كان عليه دين يعلمه الحاكم أو قصاص
ونحو ذلك فهل له أن يقضي بعلمه أم لا؟ قال قوم: لا يقضي بعلمه، وقال آخرون:
له أن يحكم بعلمه، وفيه خلاف، ولا خلاف أنه يقضي بعلمه في الجرح والتعديل،
بدليل أنه لو علم الجرح وشهدوا عنده ترك الشهادة وعمل بعلمه، ولأنه لو لم يقض
بعلمه أفضي إلى إيقاف الأحكام أو فسق الحكام.
لأنه إذا طلق الرجل زوجته بحضرته ثلاثا ثم جحد الطلاق كان القول قوله مع
يمينه، فإن حكم بغير علمه وهو استحلاف الزوج وتسليمها إليه فسق، وإن لم يكن
يحكم له وقف الحكم، وهكذا إذا أعتق الرجل عبده بحضرته ثم جحد، وإذا
غصب من رجل ماله ثم جحد يفضي إلى ما قلناه.
والذي يقتضيه مذهبنا ورواياتنا أن للإمام أن يحكم بعلمه، وأما من عداه من
الحاكم فالأظهر أن لهم أن يحكموا بعلمهم، وقد روي في بعضها أنه ليس أن يحكم
بعلمه لما فيه من التهمة.
165

للإمام أن يولي القضاء في الموضع الذي هو فيه وفي غيره، سواء أطاق النظر
فيه بنفسه أو لم يطقه، بلا خلاف.
روي أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال لبعض
أصحابه: اقض بينهما فقال: أقضي بينهما وأنت هاهنا؟ فقال: اقض بينهما تمام
الخبر.
وروي أن رجلين كانا يختصمان عند رسول الله صلى الله عليه وآله فأتى
علي عليه السلام فقاما إليه فأعرض عنهما لمكان رسول الله صلى الله عليه وآله
فقال النبي لعلي: أيسرك أن تقضي بينهما؟، فقضى بينهما.
وروي أن رجلين أتيا النبي عليه السلام فقال أحدهما: إن لي حمارا ولهذا بقرة
وإن بقرته قتلت حماري، فقال لأبي بكر: اقض بينهما، فقال أبو بكر: لا ضمان على
البهائم، فقال لعمر اقض بينهما، فقال مثل ذلك، فقال لعلي عليه السلام: اقض
بينهما، فقال علي: أكانا مرسلين؟ قالا: لا، قال: أكانت البقرة مشدودة والحمار
مرسلا؟ قالا: لا، قال أكان الحمار مشدودا والبقرة مرسلة؟ قالا: نعم، قال: على
صاحب البقرة الضمان.
قال المخالف: إنما قضى علي عليه السلام بذلك لأن يد صاحبها عليها فلهذا
ضمنه وعلى ما قضى به أبو بكر وعمر لم يكن يد صاحبها عليها فلا ضمان، وعليه
الإجماع لأن شريحا تولى القضاء من قبل عمر وبعده لعثمان، وبعده لعلي عليه
السلام وتولى بعده أيضا، وقيل إنه بقي في القضاء سبعين سنة.
فأما من ولاه الإمام القضاء فهل لهذا القاضي أن يولي من قبله من يقوم مقامه؟
جملته أنه إذا ولى الإمام قاضيا فالمستحب له أن يجعل إليه أن يولي من يرى من قبله
لأنه قد لا يطيق النظر بنفسه فيكون له فسحة فيه.
فإذا ثبت هذا نظرت: فإن ولاه وجعل إليه أن يولي فذلك إليه، وإن منعه من
ذلك لم يكن له التولية، وإن أطلق نظرت فيما ولاه: فإن كان موضعا يقدر أن ينظر
166

فيه بنفسه، مثل أن ولاه بلدا من البلاد كالكوفة وواسط والبصرة، قال قوم: ليس له أن
يستخلف من ينوب عنه، لأنه ينظر عن إذن فوجب أن لا يستخلف فيما ينظر فيه
بنفسه كالوكيل ليس له أن يوكل فيما ينظر فيه بنفسه، وقال آخرون: له ذلك لأن الإمام
إذا ولاه صار ناظرا للمسلمين لا عن الإمام، ولكن على سبيل المصلحة، فيكون في
هذا البلد في حكم الإمام في كل بلد، فإذا كان كالإمام وجب أن يولي من ينوب عنه
في موضع نظره.
ويفارق الوكيل لأنه ينظر في حق موكله بدليل أن له عزله متى شاء، وليس
كذلك في مسألتنا لأنه ينظر للمسلمين على سبيل المصلحة لا عن الإمام، بدليل أنه
ليس للإمام عزله ما كان على الثقة والاجتهاد، والأول عندي أقوى، هذا إذا كانت
ولايته ما يقدر أن ينظر فيه بنفسه.
فأما إن كانت ولايته قدرا لا يمكنه أن ينظر فيها بنفسه فله أن يولي من ينوب عنه
في الجملة، لأنه إذا كان مما لا ينهض فيه بنفسه فقد أذن في الاستخلاف عرفا
وعادة، فهو كالوكيل إذا وكل فيما لا يطيق النظر فيه بنفسه، أو فيما لا يعمل بنفسه
في العرف والعادة، كالنداء على الثوب وحمل المتاع من مكان إلى مكان فإنه
يستخلفه فيه، كذلك هاهنا.
فإذا ثبت أن له ذلك، فكم القدر الذي له أن يستخلف فيه؟ فعلى مذهب من
أجاز الاستخلاف قال: له أن يستخلف في كل ما إليه، ومن لم يجز الاستخلاف فيما
يطيقه قال: يستخلف في القدر الذي لا يقدر أن ينظر فيه بنفسه.
فإذا ثبت ذلك فكل موضع قلنا له ذلك فإذا فعل وحكم خليفته بشئ فكتب إليه
لزمه العمل به لأنه كتاب قاض إلى قاض، وكل موضع قلنا ليس له أن يستخلف،
فإن خالف واستخلف فإذا ترافع إليه نفسان فقضى بينهما فالحكم فيه كما لو تراضى
به نفسان فحكم بينهما، وليس بحاكم فإنه جائز، وبما ذا يلزم؟ على ما مضى.
فمن قال: ينفذ حكمه، فهو كالحاكم إذا كتب بما حكم به عمل على كتابه
وبعد حكمه، ومن قال: لا ينفذ حكمه، لم يلتفت إلى كتابه ولم يعمل عليه.
167

والقاسم والحاكم فيما يخبران به سواء، لكن نفرضها في الحاكم.
فإذا أخبر الحاكم بحكم قد حكم به لم يخل من أحد أمرين: إما أن يكون قبل
العزل أو بعده.
فإن كان قبل العزل فقال: حكمت لفلان بكذا أو أقر فلان عندي لفلان بكذا أو
شهد عندي شاهدان لفلان بكذا فحكمت بذلك، كان قوله مقبولا فيما أخبر به، فإن
أخبر به حاكم ثبت عند الحاكم بقوله ما أخبره به وإن شهد شاهدان عند حاكم بما
قال، ثبت عنده ذلك وعمل عليه وأنفذه وأمضاه إن كان ثبت عنده بالبينة، وإن
كان الحاكم المقر أخبر به حاكما غيره، فمن قال: الحاكم يحكم بعلمه أمضاه، ومن
قال: لا يقضي بعلمه، لم يمضه، وجملته أن مسموع القول مقبول الخبر فيما قال
وأخبر به، وفيه خلاف.
فإذا ثبت هذا فإن الحاكم فيما يخبر به غيره بمنزلة المفتي والمستفتي، إذا أفتى
عالم عاميا بشئ كان فرضه ما أفتاه يعمل به ويعتمد عليه، كذلك هاهنا، هذا فيما
يخبر به قبل عزله، والذي يقتضيه مذهبنا أنه لا يجب على القاضي الأخير أن، يعمل
بقوله أصلا لأنه لا دليل عليه.
فأما إن أخبره به بعد عزله وعزاه إلى حال ولايته لم يقبل ذلك منه، ولا يحكم
بقوله وحده، لأن كل من لم يملك الشئ لم يملك الإقرار به، كمن باع عبده ثم أقر
أنه أعتقه أو باعه بعد أن باعه فالكل لا يقبل منه، لأنه لا يملكه فلا يملك الإقرار به.
فإذا ثبت أنه لا يقبل قوله وحده، فهل يكون قوله بمنزلة شاهد واحد شهد به
حتى إذا شهد معه غيره عند حاكم آخر ثبت شهادتهما؟، قال قوم: لا يقبل أصلا، و
قال بعضهم: يكون كالشاهد الواحد وإن كان على فعله كشهادة المرضعة، والأول
أصح عندنا لأنها شهادة على فعله، كما لو قال: ابتعته من زيد لم يقبل منه.
ويفارق المرضعة لأنه ليس فيما تذكره تزكية نفسها، بدليل أن ما ذكرته يصح من
فاسقة وعدل وحرة ومملوكة، فلهذا قبل قولها، وليس كذلك في مسألتنا لأن فيما
أخبر به تزكية نفسه، لأن تحت قوله: أنا حكمت - أي أنا أمين ثقة فيما أخبرت به -
168

ولأنه ليست شهادتها على فعل نفسها، فإن الحكم الذي يتعلق بالرضاع غير فعلها،
وهو حصول اللبن في جوف الصبي بدليل أنه لو شرب منها وهي نائمة لنشر الحرمة،
وهاهنا شهادة على فعل نفسه، وعندنا أن شهادة المرضعة لا تقبل أصلا، فسقط ما
قالوه، هذا إذا قال بعد العزل: حكمت بكذا.
فأما إن قال: أقر فلان لفلان بكذا، قبل وكان شاهدا لأنه إخبار عن فعل غيره
لا عن فعل نفسه، فأما إن قال بعد العزل: حكم حاكم نافذ الحكم على ذلك بكذا،
قال بعضهم: يكون شاهدا لأنه شهد على فعل غيره، وقال آخرون: لا يقبل لجواز
أن يكون إخبارا عن حكم نفسه، لكنه أبهمه ولم يفسر، وهو الأقوى.
وجملته أن فيما يخبر به بعد عزله ثلاث مسائل: إن قال: حكمت، لم يقبل
وهل يكون به شاهدا؟ فعلى وجهين. وإن قال: أقر فلان عندي بكذا، كان
شاهدا واحدا، وإن قال: حكم به حاكم، فعلى وجهين أقواهما أنه لا يقبل في
الموضعين.
كل من لا تقبل شهادته لم يصح حكمه له، وهم الوالدون آباؤه وأمهاته وإن
علوا، وولده وولد ولده ذكرا كان أو أنثى وإن سفلوا، وقال بعضهم: يجوز ذلك
ويصح، وهو الذي يقتضيه مذهبنا، فأما من عدا العمودين من أقاربه فالحكم لهم
صحيح كالشهادة.
إذا ترافع إليه نفسان وكان الحكم بينهما واضحا لا إشكال فيه، لزمه أن يقضي
بينهما، ويستحب أن يأمرهما بالمصالحة ويتحللهما التأخير، فإن أخرا فذلك وإن
أبيا إلا المناجزة حكم بينهما، وإن كان حكمها مشكلا أخره إلى البيان، ولا حد له
غير ظهور الحكم وبيان الحق وإن قدمه لم يجز لأن الحكم قبل البيان ظلم
والحبس بالحكم بعد البيان ظلم.
فإن كان بين القاضي وبين بعض رعيته حكومة نظرت: فإن كان الإمام حاضرا
ترافعا إليه، وإن كان في غير بلده نظرت: فإن كان البلد ذا جانبين كبغداد ولكل
جانب حاكم، عبره مع خصمه إلى حاكم الجانب الآخر ليقضي بينهما، لأنه إذا عبر
169

إليه كان كالعامي، فإن لم يكن البلد كذلك نظرت: فإن كان لهذا القاضي مستخلف
فيها مضى إليه وإن كان له مستخلف ترافعا إليه، قالوا: وهذا يدل على أن
المستخلف ناظر المسلمين، وليس هو في حقه كالوكيل.
170

كتاب الشهادات
قال الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه "
الآية، ومعناه إذا تبايعتم بدين لأن المداينة لا تكون إلا في البيع، وقوله " فاكتبوه " أي
أشهدوا، ثم ذكر الشهادة في ثلاثة مواضع فيها فقال: " واستشهدوا شهيدين من
رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان " ثم أمر بالإشهاد على التبايع فقال
" وأشهدوا إذا تبايعتم " ثم توعد على كتمانها فقال: " ولا تكتموا الشهادة ومن
يكتمها فإنه آثم قلبه " فلو لا أنها حجة ما توعد على كتمانها.
وفي هذا المعنى ما روي عنه عليه السلام أنه قال: من سئل عن علم فكتمه
ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار.
وقال تعالى: " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم
ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد
ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم " فأمر بجلد القاذف ثم رفع عنه الجلد بتحقيق
قذفه بالشهادة في ذلك، ثم قال: " ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا " دل على أن غير الفاسق
مقبول الشهادة، ثم قال: " إلا الذين تابوا " يعني تقبل شهادتهم.
وقال تعالى: " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء " إلى قوله " وأشهدوا ذوي عدل
171

منكم " ومعنى قوله " فإذا بلغن أجلهن " يعني قاربن البلوغ لأنه لا رجعة بعد بلوغ
الأجل.
وروي أن سعدا قال: يا رسول الله أرأيت إن وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتى
آتي بأربعة شهداء؟ فقال رسول الله: نعم، وفي بعضها قال: كفى بالسيف شا...،
أراد أن يقول شاهدا فلم يقل لئلا يكون ذريعة لقتل الناس بعضهم بعضا.
وروى ابن عباس أن النبي عليه السلام سئل عن الشهادة فقال: ترى الشمس
على مثلها فاشهد أو دع.
إذا تقرر ذلك، فالكلام في ذكر أقسام الحقوق منها، وجملته أن الحقوق
ضربان: حق لله، وحق لآدمي.
فأما حق الآدمي فإنه ينقسم في باب الشهادة ثلاثة أقسام.
أحدها: لا يثبت إلا بشاهدين ذكرين، وهو ما لم يكن مالا ولا المقصود منه
المال ويطلع عليه الرجال، كالنكاح، والخلع، والطلاق، والرجعة، والتوكيل،
والوصية إليه، والوديعة، والجناية الموجبة للقود، والعتق، والنسب، والكتابة، وقال
بعضهم: يثبت جميع ذلك بشاهد وامرأتين، وهو الأقوى إلا القصاص.
والثاني: ما يثبت بشاهدين وشاهد وامرأتين وشاهد ويمين، وهو كل ما
كان مالا أو المقصود منه المال، فالمال القرض، والغصب، والمقصود منه المال
عقود المعاوضات، البيع والصرف، والسلم، والصلح، والإجارات، والقراض،
والمساقاة، والرهن، والوقوف، والوصية له، والجناية التي توجب المال عمدا كانت
أو خطأ كالجائفة وقتل الحر عبدا ونحو ذلك.
والثالث: ما يثبت بشاهدين وشاهد وامرأتين وأربع نسوة، وهو الولادة
والرضاع والاستهلال والعيوب تحت الثياب، وأصحابنا رووا أنه لا تقبل شهادة
النساء في الرضاع أصلا وليس هنا ما تقبل فيه شهادة النساء على الانفراد إلا هذه.
فأما حقوق الله فجميعها لا مدخل للنساء ولا للشاهد مع اليمين فيها، وهي
على ثلاثة أضرب:
172

الأول: ما لا يثبت إلا بأربعة وهو الزنى واللواط وإتيان البهائم، وروى أصحابنا
أن الزنى يثبت بثلاثة رجال وامرأتين وبرجلين وأربع نسوة.
والثاني: مالا يثبت إلا بشاهدين، وهو الردة والسرقة وحد الخمر والقتل في
المحاربة.
والثالث: ما اختلف فيه، وهو الإقرار بالزنى فإنه قال قوم: لا يثبت إلا بأربعة
كالزنا، وقال آخرون: يثبت بشاهدين كسائر الإقرارات، وهو الأقوى عندي، وليس
عندنا عقد من العقود من شرطه الشهادة أصلا وعند الفقهاء كذلك إلا النكاح وحده.
وقال داود: الشهادة واجبة على البيع لقوله تعالى " وأشهدوا إذا تبايعتم " ولقوله
عليه السلام: ثلاثة لا يستجاب لهم دعوة من باع ولهم يشهد، ورجل دفع ماله إلى
سفيه، ورجل له امرأة ويقول اللهم خلصني منها ولا يطلقها، وعندنا الآية والخبر
محمولان على الاستحباب.
والمندوب إليه ضربان: ندب قربة وندب إرشاد، فالقربة صلاة التطوع و
صدقة التطوع وصوم التطوع، وكل عبادة يتطوع بها فإنه لا عوض له بتركها، وأما
الإرشاد فالإشهاد على البيع فإنه إذا تركه فقد ترك التحفظ على عقد لا يستدرك فإنه إذا
ترك التحفظ بها حين البيع فمتى كان هناك حدث يفتقر إلى الشهادة لم يستدرك ما
فاته.
إذا قال لعبده: إن قتلت فأنت حر، فهلك السيد واختلف الوارث والعبد،
وأقام الوارث البينة أنه مات حتف أنفه وأقام العبد البينة أنه مات بالقتل، قال قوم:
يتعارضان ويسقطان ويسترق العبد، وقال قوم: بينة العبد أولى لأن موته قتلا يزيد
على موته حتف أنفه، لأن كل مقتول ميت وليس كل ميت مقتول، فكان الزائد أولى
ويعتق العبد، وعندنا يستعمل فيه القرعة فمن خرج اسمه حكم ببينته.
إذا قال لعبده: إن مت في رمضان فأنت حر، وقال لآخر: إن مت في شوال
فأنت حر، فمات السيد واختلف العبدان، فأقام صاحب رمضان البينة أنه مات في
173

رمضان وأقام صاحب شوال البينة أنه مات في شوال، قال قوم: تعارضا ورق
العبدان، لأن موته في رمضان ضد موته في شوال، وقال قوم: بينة رمضان أولى لأن
معها زيادة وهو أنه يخفى على بينة شوال موته في رمضان، ولا يخفى على بينة
رمضان موته في شوال، فكان صاحب، رمضان أولى، ويعتق، وعندنا مثل الأول
يستعمل القرعة.
إذا قال لعبده: إن مت من مرضي هذا فأنت حر، ثم قال لآخر: إن برأت منه
فأنت حر، ثم هلك السيد واختلف العبدان فأقام أحدهما البينة أنه برأ من مرضه، و
أقام الآخر البينة أنه مات، تعارضتا الأولتين لأن موته منه ضد برئه منه، لا مزية
لأحدهما على الآخر، فتعارضتا، ويفارق البينتين الأولتين لأن مع إحدى البينتين
زيادة على ما مضى، وعندنا تستعمل فيها القرعة فإن خرجت بينة من قال إنه مات
من مرضه عتق العبد لأنه مدبر وقد عتق بموته، وإن خرج اسم من قال إنه برأ لم
يعتق واحد منهما، لأن من خرج اسمه قد علق عتقه بصفة، وذلك لا يصح عندنا
فاسترق العبدان.
إذا ادعى حقا هو مال أو المقصود منه المال فأنكر المدعى عليه نظرت: فإن
أتى المدعي بشاهدين أو بشاهد وامرأتين حكم له بذلك، لقوله تعالى: " فإن لم
يكونا رجلين فرجل وامرأتان " وأراد بذلك الأموال لأن أول الآية يدل عليه، وإن أتى
بأربع نسوة لم يحكم له بذلك إجماعا، وإذا شهدت امرأتان وأضاف إليهما يمين
المدعي في الأموال، حكم به عندنا وعند جماعة مثل الشاهد واليمين، وقال
أكثرهم: لا يحكم به.
إذا ادعى على رجل عند حاكم حقا وأقام المدعي بما يدعيه شاهدين فحكم
الحاكم له بشهادتهما، كان حكمه تبعا لشهادتهما، فإن كانا صادقين كان حكمه
صحيحا في الظاهر والباطن، سواء كان في عقد أو في رفع عقد أو فسخ عقد أو كان
مالا عندنا وعند جماعة، وفيه خلاف.
فإذا تقرر هذا فادعى زوجية امرأة فقال: هذه زوجتي، وحكم الحاكم بها
174

بشهادة زور كانت حلالا في الظاهر دون الباطن، ولهذه الزوجة أن تتزوج بغيره في
الباطن وتحل للثاني في الباطن، وهي حرام على الأول في الباطن، فإن وطئها الأول
مع العلم بذلك كان زانيا وعليه الحد وإن كانت عالمة بذلك فهي كهو.
وإن ادعت على زوجها أنه طلقها ثلاثا ولم يكن طلقها، فحكم الحاكم بذلك
عليه بشاهدي زور، كانت حلالا له في الباطن دون الظاهر، فمتى ظفر بها حلت
له، ويكره أن يتبعها ظاهرا خوفا عليه أن يشاهد معها بعد الطلاق فتحل به العقوبة.
تقبل شهادة النساء على الانفراد في الولادة والاستهلال والعيوب تحت الثياب
كالرتق والقرن والبرص، فأما في الرضاع فقد روى أصحابنا أنه لا تقبل شهادتهن،
وقال قوم: لا تقبل شهادتهن في الرضاع منفردا بل تقبل شهادة رجلين أو شاهد و
امرأتين، وكذلك قالوا في الاستهلال، وقال آخرون: تقبل شهادتهن في الرضاع
منفردا.
فإذا ثبت أنهن يقبلن في هذه المواضع، فعندنا لا يقبل أقل من أربع نسوة في
جميع ذلك، وبه قال جماعة، وقال قوم: يثبت بشهادة اثنين منهن، وقال
بعضهم: يثبت الرضاع بشهادة المرضعة، وقال بعضهم: تثبت الولادة في الزوجات
بامرأة واحدة، القابلة أو غيرها ولا يثبت بها ولادة المطلقات، وعندنا تقبل شهادة
واحدة في ربع الميراث وفي الاستهلال وكذلك في الوصية في ربع الوصية واثنتين
في نصف الميراث ونصف الوصية، وثلاث في ثلاث وأربع في الجميع.
فصل: في شهادة القاذف:
إذا قذف الرجل رجلا أو امرأة فقال: زنيت أو أنت زان، لم يخل من أحد
أمرين: إما أن يحقق قذفه أو لا يحققه.
فإن حققه نظرت: فإن كان المقذوف أجنبيا حققه بأحد أمرين: إما أن يقيم
البينة أنه زنا أو يعترف المقذوف بالزنى، وإن كان المقذوف زوجته فإنه يحقق قذفه
بأحد ثلاثة أشياء البينة أو اعترافها أو اللعان، فمتى حقق قذفه وجب على المقذوف
175

الحد، وبان أنه لم يكن قاذفا ولا حد عليه ولا ترد شهادته ولا يفسق.
وأما إن لم يحقق قذفه، فقد تعلق بقذفه ثلاثة أحكام: وجوب الجلد، ورد
الشهادة والتفسيق لقوله " والذين يرمون المحصنات " إلى قوله " وأولئك هم
الفاسقون ".
فإن تاب القاذف لم يسقط الجلد بالتوبة، وزال فسقه بمجرد التوبة بلا خلاف،
وهل تسقط شهادته فلا تقبل أبدا أم لا؟ فعندنا وعند جماعة لا تسقط بل تقبل بعد
ذلك، وعند قوم لا تقبل، وأما كيفية التوبة فجملتها أنه إذا قذفه تعلق بقذفه ثلاثة
أحكام: الجلد، ورد الشهادة، والفسق الذي يزول به ولايته على الأطفال والأموال
ويرد به شهادته.
ثم لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يحقق قذفه أو لا يحققه.
فإن حقق القذف إما بالبينة أو باعتراف المقذوف إن كان غير زوجته أو بهما أو
باللعان إن كانت زوجته، فمتى حقق القذف فلا جلد عليه، وهو على العدالة
والشهادة، لأنه قد صح قذفه وثبت صحة قوله، وأما المقذوف فقد ثبت زناه بالبينة
أو اللعان أو الاعتراف فيقام عليه الحد.
وأما إن لم يحققه فالحد واجب عليه، ورد الشهادة قائم، والفسق بحاله.
والكلام بعد هذا فيما يزيل ذلك عنه، أما الحد فلا يزول عنه إلا بأحد أمرين:
استيفاء أو إبراء، وأما الفسق والشهادة فهما يتعلقان بالتوبة، والتوبة باطنة
وحكمية.
والباطنة توبته فيما بينه وبين الله وهي تختلف باختلاف المعصية.
وجملته أن المعصية لا تخلو من أحد أمرين: إما أن يجب بها حق، أو لا
يجب.
فإن لم يجب بها حق مثل أن قبل أجنبية أو لمسها بشهوة أو وطئها فيما دون
الفرج فتوبته هاهنا الندم على ما كان والعزم على أن لا يعود، فإذا فعل هذا فقد تاب
لقوله تعالى: " والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم
176

ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة
من ربهم " فإذا أتى بالاستغفار وترك الإصرار صحت توبته وغفر الله ذنبه.
وأما إن كانت المعصية مما يجب بها حق لم تخل من أحد أمرين: فإما أن
يكون حقا على البدن أو في مال.
فإن كانت في مال كالغصب والسرقة والإتلاف، فتوبته الندم على ما كان،
والعزم على أن لا يعود، والخروج من المظلمة بحسب الإمكان فإن كان موسرا بها
متمكنا من دفعها إلى مستحقها خرج إليه منها، فإن كانت قائمة ردها وإن كانت
تالفة رد مثلها إن كان لها مثل وقيمتها إن لم يكن لها مثل، وإن كان قادرا غير أنه لا
يتمكن من المستحق لجهله به أو كان عارفا غير أنه لا يقدر على الخروج إليه منها
فالتوبة بحسب القدرة، وهو العزم على أنه متى تمكن من ذلك فعل، وكذلك إذا
منع الزكاة مع القدرة عليها فهي كالدين والمظالم وقد بيناه، هذا إذا كانت المعصية
حقا في مال.
فأما إن كانت المعصية حقا على البدن، لم تخل من أحد أمرين: إما أن يكون
لله أو للآدميين.
فإن كان للآدميين وهو القصاص وحد القذف، فالتوبة الندم على ما كان
والعزم على أن لا يعود، والتمكين من الاستيفاء من حد أو قصاص كالأموال سواء.
وأما إن كان حقا لله كحد الزنى والسرقة وشرب الخمر لم يخل من أحد أمرين:
إما أن يكون مشتهرا أو مكتوما.
فإن كان مكتوما لا يعلم به الناس ولم يشتهر ذلك عليه، فالتوبة الندم على
ما كان، والعزم على أن لا يعود، والمستحب له أن يستر على نفسه ويكون على
الكتمان لقوله عليه السلام: من أتى من هذه القاذورات شيئا فليستره بستر الله فإن من
أبدى لنا صفحته أقمنا عليه حد الله، وقال صلى الله عليه وآله لهزال بن
شرحبيل حين أشار إلى ماعز بن مالك أن يعترف بالزنى: هلا سترته بثوبك يا هزال؟
فإن خالف وجاء واعترف بذلك لم يحرم ذلك عليه لما روي أن العامرية
177

وماعز بن مالك اعترفا عند النبي عليه السلام بالزنى، فلم ينكر ذلك بل رجم كل
واحد منهما.
وأما إن كان مشتهرا شائعا في الناس، فالتوبة الندم على ما كان، والعزم على أن
لا يعود، وأن يأتي الإمام ويعترف به عنده ليقيم عليه الحدود.
والفصل بينهما أنه إذا لم يكن مشتهرا كان في ستره فائدة وهو ألا يشتهر ولا
يضاف إليه، وليس كذلك هاهنا لأنه إذا كان مشتهرا ظاهرا فلا فائدة في ترك إقامته
عليه، وعندي أنه يجوز له أن يستتر به ولا يعترف، بل يتوب فيما بينه وبين الله ويقلع
عما كان، ويتوفر على أعمال الصالحات لعموم الخبر الذي تقدم، هذا كله في
حدود الله قبل أن يتقادم عهدها أو تقادم عهدها، وقيل: لا يسقط بتقادم العهد،
فأما من قال يسقط بتقادم العهد فلا يعترف بذلك بحال، لأنه لا حد عليه فمتى اعترف
كان اعترافا بغير حق، هذا الكلام في التوبة الباطنة.
وأما الكلام في التوبة الحكمية - وهي التي تقضي له بها بالعدالة وقول الشهادة
- فلا تخلو المعصية من أحد أمرين: إما أن يكون فعلا أو قولا.
فإن كانت فعلا كالزنا والسرقة واللواط والغصب وشرب الخمر، فالتوبة
هاهنا أن يأتي بالضد مما كان عليه وهو صلاح عمله لقوله تعالى: " إلا من
تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات " فإذا ثبت
أنها صلاح عمله فمدته التي تقبل بها شهادته سنة، ومن الناس من قال: يصلح
عمله ستة أشهر.
وأما إن كانت المعصية قولا لم تخل من أحد أمرين: إما أن يكون ردة أو
قذفا.
فإن كان ردة فالتوبة الإسلام وهو أن يأتي بالشهادتين " أشهد أن لا إله إلا الله
وأشهد أن محمدا رسول الله " وأنه برئ من كل دين خالف دين الإسلام، فإذا فعل
هذا فقد صحت توبته وثبتت عدالته، وقبلت شهادته، ولا يعتبر بعد التوبة مدة
يصلح فيها عمله، لأنه إذا فعل هذا فقد أتى بضد المعصية.
178

وأما إن كانت المعصية قذفا لم تخل من أحد أمرين: إما أن يكون قذف سب
أو قذف شهادة.
فإن كانت قذف سب فالتوبة إكذابه نفسه، لما روي عن النبي عليه السلام في
قوله تعالى: " وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا " قال النبي
صلى الله عليه وآله: توبته إكذابه نفسه، فإذا تاب قبلت شهادته.
فإذا ثبت أن التوبة إكذابه نفسه، واختلفوا في كيفيته، قال قوم: أن يقول
القذف باطل حرام ولا أعود إلى ما قلت، وقال بعضهم: التوبة إكذابه نفسه وحقيقة
ذلك أن يقول: كذبت فيما قلت، وروي ذلك في أخبارنا، والأول أقوى لأنه إذا
قال: كذبت فيما قلت، ربما كان كاذبا في هذا لجواز أن يكون صادقا في الباطن وقد
تعذر عليه تحقيقه فإذا قال القول باطل حرام، فقد أكذب نفسه وقوله: لا أعود إلى
ما قلت فهو ضد ما كان منه.
فإذا ثبتت صفة التوبة فهل تفتقر عدالته التي تقبل بها شهادته إلى صلاح العمل
أم لا؟ قال قوم: مجرد التوبة يجزئه، وقال قوم: لا بد من صلاح العمل، وهو الأقوى
لقوله " إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا " فمن قال: لا يفتقر إلى صلاح العمل،
فلا كلام، ومن قال: يفتقر إليه، فصلاح العمل مدة سنة على ما مضى، هذا الكلام
في قذف السب.
وأما قذف الشهادة، فهو أن يشهد بالزنى دون الأربعة فإنهم فسقة، وقال قوم:
يحدون، وقال آخرون: لا يحدون، فالتوبة هاهنا أن يقول: قد ندمت على ما كان
مني ولا أعود إلى ما أتهم فيه ولا يقول ولا أعود إلى ما قلت، لأن الذي قاله شهادة
فيجزئه أن يقول: لا أعود إلى ما أتهم فيه، فإذا قال هذا زال فسقه وثبتت عدالته
وقبلت شهادته، ولا يراعى صلاح العمل.
والفرق بين هذا وبين قذف السب هو أن قذف السب ثبت فسقه بالنص وهذا
بالاجتهاد عندهم.
ويجوز للإمام عندنا أن يقول: تب أقبل شهادتك، وقال بعضهم: لا أعرف
179

هذا، وإنما قلنا ذلك لأن النبي صلى الله عليه وآله أمر بالتوبة.
فصل: في التحفظ في الشهادة:
لا يجوز للشاهد أن يشهد حتى يكون عالما بما يشهد به حين التحمل وحين
الأداء لقوله تعالى: " ولا تقف ما ليس لك به علم " وقال تعالى " إلا من شهد بالحق
وهم يعلمون ".
وروى ابن عباس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله عن الشهادة فقال:
هل ترى الشمس؟ قال: نعم، قال: على مثلها فاشهد أو دع.
فإذا ثبت هذا فالكلام فيما يصير به عالما فيشهد، يقع العلم له من وجوه ثلاثة
سماعا أو مشاهدة أو بهما، فإذا ثبت ذلك فالكلام في فصل فصل.
أما ما يقع له به مشاهدة، فالأفعال كالغصب والسرقة والقتل والقطع والرضاع
والولادة واللواط والزنى وشرب الخمر، فله أن يشهد إذا علم بالمشاهدة ولا يصير
عالما بذلك بغير مشاهدة.
فأما ما يقع العلم به سماعا فثلاثة أشياء: النسب والموت والملك المطلق.
الأول: أما النسب فإذا استفاض في الناس أن هذا فلان بن فلان صار متحملا
للشهادة له بالنسب لأن الولد يلحق بأبيه استدلالا فصح أن يحتمل الشهادة به
استدلالا، ولأنه لا يمكنه التوصل إلى معرفته قطعا فصار عالما متحملا للشهادة
بالاستفاضة.
فإذا ثبت هذا فمتى استفاض في الناس ذلك صار متحملا للشهادة بالنسب،
وأقل ما يتحمل به الشهادة أن يسمع عدلين فصاعدا يقولون ذلك، فإذا شهدا بذلك
فهو شهادة ابتداء، ولا يشهد به من حيث الشهادة على الشهادة، لأنه لا يقول:
أشهدني فلان وفلان بكذا وكذا، فأما إن سمع الرجل يقول: هذا ابني، والابن
ساكت أو قال رجل: هذا أبي، والأب ساكت، صار متحملا لأن سكوته في العادة
سكوت رضا بذلك معترف به.
180

الثاني: وأما الموت فكذلك يتحملها بالاستفاضة لأن أسباب الموت كثيرة
مختلفة، فإذا سمع الناس يقولون قد مات فلان صار شاهدا بموته.
فإذا ثبت هذا فأقل ما يستفيض به عنه أن يسمعه من عدلين، فإذا سمع ذلك من
عدلين صار متحملا لها يشهد شهادة نفسه، لا أنه يشهد على شهادة غيره.
الثالث: وأما الملك المطلق فكذلك إذا استفاض في الناس أن هذا ملك فلان
من دار أو دابة أو عبد أو ثوب صار شاهدا بذلك، لأن أسباب الملك كثيرة مختلفة
يملك بالشراء والهبة والغنيمة والأحياء والإرث، فلهذا صار به شاهدا بالاستفاضة
كالموت والنسب سواء، فإذا سمعه من عدلين فصاعدا أجزأه وصار شاهدا بنفسه
لأنه يؤديها عن غيره.
فإذا ثبت هذا فإنما يشهد بالملك المطلق بالاستفاضة دون سببه، فلا يقول ملكه
بالشراء أو بالهبة أو بالإحياء أو غنيمة، لأن هذه الأسباب لا يشهد بها بالاستفاضة،
ولهذا لا يصح أن يعزى ملك إليها، إلا الميراث فإنه يصح أن يعزيه إلى سببه
بالاستفاضة لأن سببه الموت، والموت يثبت بالاستفاضة والإرث يقع به، فلهذا صح
أن يعزيه إليه بالاستفاضة والإرث يقع به، فلهذا صح أن يعزيه إليه بالاستفاضة.
فأما إن كان في يده دار يتصرف فيها مطلقا من غير منازع بالهدم والبناء والإجارة
والإعارة وغير ذلك، فيسوع للشاهد أن يشهد له باليد بلا إشكال، وأما بالملك
المطلق فلا تخلو المدة من أحد أمرين: إما أن تكون طويلة أو قصيرة.
فإن كانت طويلة مرت عليه السنون على صورة واحدة من غير منازعة، قال
بعضهم: يشهد له بذلك لأن عرف العادة قد تقرر أن من تصرف مطلقا من غير منازع
كان متصرفا في ملكه، وقال غيره: إن البينة تشهد له باليد والتصرف وأما بالملك
مطلقا فلا، لأن اليد تختلف فيكون مستعير أو مستأجر أو مالك أو وكيل أو أمين أو
وصي والتصرف واحد فإذا اختلفت الأيدي وأحكامها لم يجز أن يشهد بالملك
المطلق، ولأن اليد لو كانت ملكا لوجب إذا حضرا عند الحاكم فقال المدعي: أدعي
دارا في يد هذا، أن لا تسمع دعواه لأنه قد اعترف بالملك له، فلما سمعت دعواه
181

ثبت أن اليد لا تدل على ملك، ولا يكون ملكا.
فأما إن كانت المدة قصيرة كالشهر والشهرين ونحو ذلك، فإنه لا يشهد له
بالملك لأن الزمان قصير على هذه الصورة يتفق كثيرا، فلا يدل على ملك، ويفارق
هذا الزمان الطويل لأنه في العرف أنه في ملك.
فأما الشهادة باليد فلا شبهة في جوازها، وقال بعضهم: يشهد له بالملك
وقال: لأنه لما صح أن يشهد على بيع ما في يده صح أن يشهد له بالملك، وروى
أصحابنا أنه يجوز له أن يشهد بالملك كما يجوز له أن يشتريه ثم يدعيه ملكا له.
وأما ما يحتاج إلى سماع وإلى مشاهدة، فهو كالشهادة على العقود كالبيع
والصرف والسلم والصلح والإجارات والنكاح ونحو ذلك، لا بد فيها من مشاهدة
المتعاقدين، وسماع كلام العقد منهما، لأنه لا يمكن تحمل الشهادة قطعا إلا
كذلك، فإنه يزيد على الأفعال، فإنه يفتقر إلى سماع كلام العقد، فإن عرفهما
بأعيانهما وأسمائهما وأنسابهما أو لا يعرفهما بذلك فاستفاض عنده نسبهما بعدلين
وأكثر صح أن يشهد عليهما حاضرين وغائبين - إن حضرا بالمشاهدة وإن غابا
بالاسم والنسب - وإن عرفهما بأعيانهما دون الاسم والنسب جاز أداؤها حاضرين
ولا يجوز إذا كانا غائبين لأنه لا يعرف عين الغير.
فأما النكاح والوقف والولاء والعتق فهل يصح تحملها بالاستفاضة كالملك
المطلق والنسب؟ قال قوم: تثبت كلها بالاستفاضة، لأن في أزواج النبي صلى الله
عليه وآله وسلم خديجة وعائشة ثبتت الزوجية لهما بالاستفاضة، فكذلك هاهنا ولأن
الوقف يبني على التأبيد فلا يبقى من يشهد به من الواقف، فبنى حاجة إلى الشهادة به
بالاستفاضة وإلا بطلت الوقوف وهذا الذي يقتضيه مذهبنا.
وقال قوم: لا يثبت، وقالوا إنما تثبت أزواج النبي صلى الله عليه وآله بالتواتر
فما شهد بالاستفاضة والتواتر يوجب العلم فهو كالشهادة بأن في الدنيا مكة، وهذا
صحيح، وأما الوقوف فإن الحاكم يجدد كتبها كلما مضت مدة تفانى فيها الشهود،
فإنه يثبت بالشهادة على الشهادة فلا يخاف بطلان الوقف، وهذا لا يصح على
182

مذهبنا لأن الشهادة على الشهادة لا تجوز عندنا، وإنما يجوز دفعة واحدة، فعلى
هذا يؤدي إلى بطلان الوقف.
فمن قال: لا يثبت بالاستفاضة، فلا كلام، ومن قال: يثبت بالاستفاضة، فإنما
يشهد ويقول: هذه زوجة فلان، ولا يشهد بالعقد، ويقول: هذا وقف فلان، ولا
يشهد بالعقد، وكذلك الولاء والعتق على هذا التفصيل.
وليس لأحد أن يقول أن الشهادة بالاستفاضة ليست شهادة بعلم، وقد قلتم: لا
يجوز أن يشهد إلا بما يعلم قلنا: إنما أردنا في هذا القسم غالب الظن دون القطع
الذي يحصل مع المشاهدة.
وأما ما يتحمل الشهادة عليه بالمشاهدة - وهي الأفعال - فإن الأعمى لا يتحمل
الشهادة عليها لأنها تتحمل بالمشاهدة ولا مشاهدة للأعمى وهو إجماع.
وأما ما يتحمل الشهادة فيه بالسماع - وهو النسب والموت والملك المطلق -
فإن الأعمى يشهد بها لأنها لا تفتقر إلى سماع من غير مشاهدة، وقال قوم: لا تقبل
شهادته.
وأما ما يفتقر إلى سماع ومشاهدة - وهي شهادة العقود كلها - فإن شهادة
الأعمى لا تصح فيها كالبيوع والصرف والسلم والإجارة والهبة والنكاح ونحو
ذلك وفي هذا المعنى الشهادة على الإقرار وفيه خلاف، والذي يقتضيه مذهبنا أنه
تقبل شهادته إذا كانت حاسة سمعه صحيحة وحصل له العلم بغير المشاهدة.
وأما الكلام في فروع شهادة الأعمى فجملته أنه إذا تحمل الشهادة على الأفعال
أو العقود وهو صحيح ثم عمي، فإن كان تحملها على الأعيان مثل أن شهد على
عين إنسان بذلك وهو لا يعرف اسمه ونسبه لم يجز له الأداء لأنه لا يقدر أن يؤديها
على تلك العين، وإن كان شهد بحملها على الاسم والنسب جاز أن يؤديها على
ذلك بعد العمى.
وهكذا إذا كانت يده في يدي رجل وهو يبصر فعمي ويده في يده وهو عارف
باسمه ونسبه صح أن يتحمل الشهادة عليه وهو أعمى، بأن يقرب فاه من أذن
183

الأعمى فيقر بحق فيتحمل الشهادة عليه وهو أعمى ويؤديها وهو أعمى، وكذلك
شهادة المضبوط وهو أن يمسك برأس رجل ويقرب فاه إلى أذنه فيقر بحق فلا يفارقه
حتى يأتي به الحاكم فيقول له: هذا أقر لفلان بكذا وكذا، وكذلك يقبل في الترجمة
إذا كان حاضرا عنده فتخاصم إليه نفسان لا يعرف لغتهما فإنه يترجم عند الحاكم
والترجمة شهادة، فهذه أربع مسائل تقبل شهادته فيها.
وأما النسب والموت والملك المطلق، فقال قوم: يصح أن يتحمل الشهادة
وهو أعمى ويؤديها وهو أعمى، لأن الاعتماد فيها على السماع والأعمى يسمع،
وقال بعضهم: هذا غلط، لأنه وإن كان التحمل بالاستفاضة والاستفاضة تثبت
بالسماع لكنه إذا سمع لا يدري هل سمع من ثقة أو من غير ثقة أو من مسلم
أو من غير مسلم؟ والأول أقوى عندي لأنه قد يعرف الثقة والإسلام من غير
مشاهدة.
تخرج من هذا أن الأعمى يصح منه التحمل والأداء وهو أعمى، ويصح منه
الأداء دون التحمل وهو ما ذكرناه فقد صحت شهادة الأعمى في الجملة، وقال
جماعة: لا يصح منه التحمل ولا الأداء بحال.
وأما الأخرس فيصح منه التحمل بلا خلاف، لأنه يفتقر إلى العلم دون النطق،
فأما الأداء فقال قوم: لا يصح، وقال آخرون: تصح شهادته، وهو الذي يقتضيه
مذهبنا.
فإذا ثبت هذا فكل جهة صح أن يتحمل الشهادة بها صح أن يحلف عليها، فإذا
شاهد قاتل أبيه صح أن يحلف عليه، وإذا شاهد ولده باع ثم مات الولد صح أن
يحلف عليه، وكذلك النسب والموت والملك المطلق.
وقد يصح أن يحلف فيما لا تسوع فيه الشهادة، وهو إذا وجد بخطه دينا على
غيره وقد نسيه وهو يعلم أنه لا يكتب إلا حقا، ساع له أن يحلف وبمثله لا يسوع له
أن يشهد، كذلك إذا وجد في روزنامج أبيه دينا على غيره وهو يعلم أنه لا يكتب إلا
حقا ساع له أن يحلف ويستحق، وبمثله لا يشهد، والذي يقتضيه مذهبنا أنه لا
184

يجوز أن يحلف على ذلك.
فصل: فيما يجب على المؤمن من القيام بالشهادة:
الكلام في هذا الباب في فصلين: في تحمل الشهادة وفي أدائها.
أما التحمل فإنه فرض في الجملة، فمن دعي إلى تحملها على نكاح أو بيع أو
غيرهما من دين أو عقد لزمه التحمل لقوله تعالى: " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " ولم
يفرق، ولقوله تعالى: " ولا يضار كاتب ولا شهيد ".
تأول أهل التفسير لهذا الكلام ثلاث تأويلات.
فقال ابن عباس: معناه لا يضر الشاهد والكاتب لمن يدعوه إلى تحملها، ولا
يحتج عليه بأن لي شغلا أو خاطب غيري فيها، ومنهم من قال: معناه لا يضر
الشاهد بمن يشهد له فيؤدي غير ما يتحمل ولا يغير الكاتب لمن يكتب له فيكتب
غير ما قيل له، ومنهم من قال: معناه لا يضر بالشاهد والكاتب من يستدعيه فيقول
له دع أشغالك واشتغل بحاجتي.
فإذا ثبت أن التحمل فرض على الجملة فإنه من فروض الكفايات إذا قام به
قوم سقط عن الباقين، كالجهاد والصلاة على الجنائز ورد السلام، وقد يتعين
التحمل وهو إذا دعي لتحملها على عقد نكاح أو غيره أو على دين، وليس هناك
غيره، فحينئذ يتعين التحمل عليه كما يتعين في الصلاة على الجنازة والدفن ورد
السلام.
فأما الأداء فإنه في الجملة أيضا من الفرائض لقوله تعالى: " ولا تكتموا الشهادة
ومن يكتمها فإنه آثم قلبه " وقال " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " وهذه يمكن أن
يستدل بها على وجوب التحمل وعلى وجوب الأداء، وهي بوجوب الأداء أشبه، فإنه
سماهم شهداء ونهاهم عن الآباء إذا دعوا إليها، وإنما يسمى شاهدا بعد تحملها.
وهو من فرائض الكفايات إذا كان هناك خلق قد عرفوا الحق وصاروا به
شاهدين، فإذا قام به اثنان سقط الفرض عن الباقين كالصلاة على الجنائز، وقد يتعين
185

الفرض فيه، وهو إذا لم يتحمل الشهادة إلا اثنان أو تحملها خلق ولم يبق منهم إلا
اثنان، تعين عليهما الأداء كما لو لم يبق من فرض الميت إلا من يطيق الدفن، فإنه
يتعين الفرض عليهم.
فإذا ثبت هذا فالكلام في بيان فرائض الأعيان والكفايات.
وجملته أنه لا فصل بين فرائض الأعيان والكفايات ابتداء، وأن الفرض يتوجه
على الكل في الابتداء، لأنه إذا زالت الشمس توجهت الظهر على الكل، وإذا مات
في البلد ميت توجه فرض القيام به على الكل، وإنما يفترقان في الثاني، وهو أن
ما كان من فرائض الأعيان إذا قام به قوم لم يسقط عن الباقين مثل الظهر، وكذلك
الزكاة والصوم وغيرهما من فرائض الأعيان، وفروض الكفايات إذا قام بها قوم سقط
الفرض عن الباقين، لأن المقصود دفن الميت، فإذا دفن لم يبق وجوب دفنه بعد دفنه
على أحد.
يجوز قبول شهادة العبيد عندنا في الجملة على كل أحد، إلا على ساداتهم
سواء شهدوا على حر أو عبد، مسلم أو كافر، بقليل أو كثير، وقال قوم: لا يقبل
بحال وفيه خلاف.
لا خلاف أن شهادة أهل الذمة لا تقبل على المسلم، إلا بما يتفرد به أصحابنا في
الوصية خاصة في حال السفر عند عدم المسلم، فأما قبول شهادة بعضهم على
بعض، فقال قوم: لا تقبل بحال لا على مسلم ولا على مشرك اتفقت ملتهم أو
اختلفت، وفيه خلاف، ويقوى في نفسي أنه لا تقبل بحال لأنهم كفار فساق، ومن
شرط الشاهد أن يكون عدلا.
كل من خالف مذهب الحق من سائر الفرق المخالفة، فإنا لا نقبل شهادتهم،
وفي أصحابنا من كفر الجميع، وفيهم من كفر بعضا وفسق بعضا، وليس هاهنا
موضع تفصيله.
وقال بعضهم: أهل الأهواء على ثلاثة أضرب: كفار وفساق وعدول، فالكفار
186

من قال بخلق القرآن وجحد الرؤية وقال بخلق الأفعال، فهؤلاء كفار لا تقبل
شهادتهم، ويرثهم المسلمون ولا يرثونهم، وفساق وهم الذين يسبون السلف فلا
تقبل شهادتهم، وعدول وهم أهل البغي.
فمن كان من الصحابة باغيا فهو على عدالته وقبول شهادته، لكنه اجتهد
فأخطأ فله أجر، وأهل العدل على العدالة اجتهدوا فأصابوا فلهم أجران، وقد قلنا
ما عندنا.
وأما البغاة فعندنا كفار وقد بيناه في قتال أهل البغي.
فصل: في الحكم بالشاهد الواحد مع اليمين:
عندنا يجوز القضاء بالشاهد الواحد مع يمين المدعي، وبه قال جماعة وأباه
آخرون، وقال بعضهم: الترتيب ليس شرطا بل هو بالخيار، إن شاء حلف قبل
شاهده وإن شاء بعده كالشاهدين من شاء شهد قبل صاحبه والصحيح أنه على
الترتيب يشهد له شاهد ثم يحلف.
فإذا ثبت جواز ذلك فالكلام بعده فيما يقضي بها فيه ومالا يقضي.
وجملته كل ما كان مالا أو المقصود منه المال فإنه يثبت بالشاهد واليمين،
فالمال القرض والغصب والدين وقضاء الدين وأداء مال الكتابة، وأما المقصود
منه المال فعقود المعاوضات كالبيع والصرف والسلم والصلح والإجارة والقراض
والمساقاة والهبة والوصية والجناية التي توجب المال كالخطأ وعمد الخطأ وعمد
يوجب المال كما لو قتل ولده أو عبد غيره أو أجافه أو قطع يده من وسط الساعد، كل
هذا يثبت باليمين مع الشاهد.
فأما ما لم يكن مالا ولا المقصود منه المال، كالنكاح والخلع والطلاق
والرجعة والقذف والقصاص والقتل الموجب للقود والنسب والعتق والولاء
والتدبير والكتابة والتوكيل والوصية إليه والوديعة عنده، كل هذا لا يثبت بالشاهد
واليمين وكذلك الرضاع والولادة والاستهلال والعيوب تحت الثياب لما روي أن
187

رسول الله صلى الله عليه وآله قال: استشرت جبرئيل في القضاء باليمين مع الشاهد
فأشار علي بذلك في الأموال لا يعدو ذلك.
فأما الوقف فقال قوم: يثبت بالشاهد واليمين، وقال آخرون: لا يثبت بناء على
من ينتقل الوقف إليه، فمن قال: ينتقل إلى الله قال: لا يثبت إلا بشاهدين كالعتق،
ومن قال: ينتقل إلى الموقوف عليه قال: هذا يثبت بشاهدين وشاهد وامرأتين
وشاهد ويمين المدعي، وهو الذي يقتضيه مذهبنا.
وكل موضع قلنا يقضى بالشاهد مع اليمين فإذا أقام المدعي شاهدا واحدا فهو
بالخيار بين أربعة أشياء: أن يحلف معه أو يقيم شاهدا آخر أو امرأتين أو يرفض
شاهده ويستحلف المدعى عليه.
فإن اختار أن يحلف معه لم يحلف حتى يثبت عنده عدالته، وإن اختار أن
يأتي بشاهد آخر لم يبحث عن العدالة حتى يكمل عدد شهوده، وكذلك إن أتى
بامرأتين وإن قال: لست أختار اليمين مع الشاهد، ولا ضم غيره إليه وأختار
مطالبة المدعى عليه باليمين، كان له ذلك، فإذا اختار الاستحلاف نظرت:
فإن اختار أن يسترد ما بذله ويحلف هو لم يكن له لأن من بذل اليمين لخصمه
لم يكن له أن يستردها بغير رضاه، كيمين الرد إذا بذلها المدعى عليه للمدعي لم يكن
له أن يستردها إلى نفسه بغير رضاه.
وإن اختار أن يقيم على ذلك ويستحلف المدعى عليه كان له، فإذا فعل هذا
لم يخل المدعى عليه من أحد أمرين: إما أن يحلف أو ينكل.
فإذا حلف أسقط دعوى المدعي.
وإن لم يحلف فقد نكل وحصل له مع المدعي نكول وشاهد، وهل يقضى
بنكوله مع شاهد المدعي؟ فعندنا أنه لا يحكم به عليه، وبه قال جماعة، وقال
بعضهم: يحكم عليه بالنكول، مع موافقته أن القضاء بالنكول إذا لم يكن مع المدعي
شاهد لا يجوز.
فإذا تقرر أنه لا يقضى عليه بالنكول، فهل يرد اليمين على المدعي أم لا؟ قال
188

قوم: لا يرد عليه لأنها يمين بذلها لخصمه، فإذا عفا عنها لم تعد إلى باذلها كيمين
المدعى عليه إذا بذلها للمدعي ثم عفا عنها، فإنها لا تعود إلى باذلها، وقال آخرون:
يرد إليه، وهو الأصح عندنا، لأن هذه غير تلك، فإن هذه يمين الرد يقضى بها في
الأموال وغيرها، وتلك يمينه مع الشاهد لا يقضى بها في غير الأموال، وسببها غير
سبب تلك، فإن سببها نكول المدعى عليه.
فمن قال: لا يرد عليه، حبس المدعى عليه حتى يحلف أو يعترف، ومن قال:
يرد ردها، فإن حلف ثبت حقه، وإن لم يحلف انصرف.
إذا ادعى جماعة على رجل أن أبانا مات وخلف دينا عليك ألفا أو ادعوا عليه
أن فلانا الميت قد أوصى لنا بوصية وهي ألف درهم في يديك، فهما مسألتان:
الأولى ادعوا دينا لأبيهم عليه، وأنهم قد ورثوه، والثانية ادعوا وصية عنده وأنهم
يستحقونها وأقاموا شاهدا واحدا، كان لهم أن يحلفوا معه، لأنه مال.
ثم ينظر فيه: إن حلف الكل مع شاهد قضي لهم بذلك، وإن كان دينا كان بينهم
على فرائض الله، لأنهم ورثوه عن أبيهم، وإن كان الحق وصية كانت بالسوية لأنها
عطية والعطايا بالسوية، إلا أن يكون الموصي فاضل بينهم فيكون على تفضيلها، هذا
إذا حلف الكل.
فأما إن حلف بعضهم، مثل أن كانا أخوين فحلف أحدهما فإنه يستحق ما
حلف عليه يتفرد به لا يشاركه أخوه فيه، ومن لم يحلف سقط حقه، فهذا الناكل لا
يشارك الحالف فيما حلف عليه، لأنه إذا كان لهما بالحق شاهد واحد ملك كل واحد
منهما أن يحلف معه ويستحق، فإذا لم يحلف البعض فقد أدحض حجته وأسقط
حقه، فلا يشارك الحالف فيما استحقه بيمينه.
وإن كان أحدهما معتوها أو صبيا فإن وليه يدعي له ولا يحلف لأنه ليس من
أهل اليمين ولا يحلف عنه وليه لأن الأيمان لا تدخلها النيابة، فيتوقف حقه، فإن
عقل المعتوه أو بلغ الصبي حلف وثبت حقه، وإن مات قام وارثه مقامه حلف
واستحق.
189

إذا مات وخلف وارثا وللميت دين على رجل، ولقوم على الميت دين، وهناك
وصية قد أوصى بها تستحق من تركته وأقام وارثه شاهدا واحدا بدين أبيه، كان له أن
يحلف مع الشاهد، لأنه يقوم مقام أبيه بعد وفاته، ولو كان أبوه حيا حلف مع شاهده
وثبت دينه، كذلك وارثه يحلف مع الشاهد ويثبت حقه.
فإذا ثبت حقه كان ذلك في تركة الميت وتعلق حق الغرماء بها، فيكون الوارث
بالخيار بين أن يقضي دين أبيه من عين التركة أو من غيرها، فإن قضاه من غيرها كانت
له، وإن قضى من عينها كان الباقي له، فإن كان هناك وصية كانت من الثلث
بعد الدين.
فإن لم يحلف الوارث مع الشاهد، قال قوم: للغرماء أن يحلفوا، وقال آخرون:
ليس لهم ذلك، وهو الصحيح عندنا، فمن قال: لهم أن يحلفوا قال: لأن كل حق
إذا ثبت صار إليه كان له أن يحلف عليه، كالوارث فإنه لو حلف صار له كذلك
الغريم مثله.
وإنما قلنا: إنه ليس لهم أن يحلفوا، لأنه إذا ثبت كان ثبوته للميت يرثه ورثته
عنه، بدليل أنه لو كانت التركة عبدا وأهل شوال كانت فطرته على ورثته، وكان لهم
أن يقضوا الدين من عين التركة ومن غيرها، وإنما يتعلق حق الغرماء بالتركة كما
يتعلق حق المرتهن بالرهن، فإذا كان ثبوته لغيرهم لم يجز أن يحلف يمينا يثبت بها
مالا لغيره، فإن الإنسان لا يثبت بيمينه مالا لغيره، وهذا أصل.
إذا تنازع المتداعيان حقا إذا ثبت تعلق به حق لثالث، فمتى لم يحلف من إليه
اليمين، هل للثالث أن يحلف؟ على قولين: أصحهما عندنا ليس له، ولهذا نظائر
منها أن الراهن إذا وطئ جاريته المرهونة فأحبلها.
فإن كان بإذن المرتهن خرجت من الرهن، ويقتضي مذهبنا أنها لا تخرج من
الرهن.
وإن كان بغير إذنه فعلى قولين: فمن قال: تخرج، فلا كلام، ومن قال: لا
تخرج واختلفا، فقال الراهن: الوطء بإذنك أيها المرتهن، وقال: بغير إذني، فالقول
190

قوله، فإن حلف برئ وكانت على الراهن، وإن نكل رددنا اليمين على الراهن
يحلف وتخرج من الرهن، فإن لم يحلف الراهن فهل تحلف الجارية أم لا؟ على
قولين، لأن لها به تعلقا وهو ثبوت حرمة الحرية لها بذلك، وهذا على مذهبنا
لا يصح لأنها بالوطئ لا تخرج من الرهن بحال، لأنها مملوكة ولم يثبت لها
حرية بوجه.
إذا مات وخلف تركة وعليه دين انتقلت تركته إلى ورثته، سواء كان الدين وفق
التركة أو أكثر أو أقل منها، وتعلق حق الغرماء بالتركة والدين باق في ذمة الميت
كالرهن يتعلق بالعين والدين في ذمة الراهن، وللوارث أن يقضي الدين من عين
التركة ومن غيرهما، كما للراهن ذلك في الرهن.
وقال بعضهم: إن كان الدين يحيط بالتركة لم ينتقل إلى وارثه، وكانت مبقاة
على حكم ملك الميت، فإن قضي الدين من غيرها ملكها الوارث الآن، وإن كان
الدين محيطا ببعض التركة لم ينتقل قدر ما أحاط الدين به منها إلى ورثته، وانتقل
إليهم ما عداه.
وقال قوم: إن كان الدين محيطا بالتركة لم ينتقل إلى الورثة، وإن لم يكن
محيطا بها انتقلت كلها إلى الورثة.
وفائدة الخلاف فوائد المال ونماؤه، فمن قال: انتقلت التركة إلى الورثة، كان
النماء للورثة لا حق للغرماء فيها، كالثمرة والنتاج وكسب العبد ونحو ذلك، ومن
قال: لا تنتقل التركة إليهم تعلق الحق بالنماء كما هو متعلق بالأصل.
وهكذا لو أهل هلال شوال وفي التركة عبد، فمن قال: انتقل إليهم فزكاة
الفطرة عليهم، ومن قال: لم ينتقل إليهم فزكاة الفطرة في التركة.
فمن قال ينتقل إلى الوارث قال: لأنه لو لم ينتقل إلى الوارث بالموت، لوجب إذا
خلف تركة ودينا وابنين فمات أحد الابنين وخلف ابنا ثم قضى الدين بعد موت
الابن، أن تكون التركة للابن الموجود دون ولد الابن الميت لأن الانتقال تجدد الآن،
فلما لم يختلف أن التركة تكون بين ابن الصلب وابن الابن، ثبت أن ابن الابن ورث
191

حق أبيه، ألا ترى أن الميت لو خلف بنين وبنات كان نصيب أبيهم وهو الابن الميت
للذكر مثلا حظ الأنثى فثبت بذلك أن الملك انتقل إلى الورثة، والأقوى عندي أن
ينتقل إلى الورثة ما يفضل عن مال الغرماء لقوله " من بعد وصية يوصي بها أو دين ".
إذا ادعى على رجل أنه سرق نصابا من حرز مثلا فأقام به شاهدا واحدا حلف
مع شاهده ولزم الغرم دون القطع لأن السرقة توجب شيئين غرما وقطعا، والغرم يثبت
بالشاهد واليمين دون القطع.
ومثال هذا على مذهب الخصم لو ادعى على رجل أنه غصب منه عبدا فأنكر
وحلف بطلاق زوجته وعتق عبده ما غصب منه شيئا، فأقام المدعي شاهدا واحدا
وحلف مع شاهده، حكم على الغاصب بالغرم دون الطلاق والعتق، وأما القتل فإن
كان يوجب مالا فإنه يثبت بالشاهد واليمين عمدا كان أو خطأ وإن كان عمدا يوجب
القود وعند قوم يوجب الدية.
إذا رمى رجلا بسهم فأصابه ثم نفذ عنه فأصاب آخر فقتله، فالثاني خطأ لأنه
أخطأ في فعله وفي قصده، فعلى هذا يثبت بالشاهد مع اليمين لأنه يوجب المال
فقط، وأما الأول فهو عمد محض لأنه عمد في فعله وقصده، فينظر فيه:
فإن كان قتلا يوجب المال مثل أن قتل ولده أو عبدا لغيره أو قتل مسلم كافرا أو
قطع يده من نصف الساعد أو كانت الجناية جائفة، يثبت باليمين مع الشاهد لأنه لا
يوجب إلا المال ويكون اليمين واحدة كسائر الأموال.
وإن كان قتلا يوجب القود فهو مدع لقتل العمد، ومعه شاهد واحد، والشاهد
في الدم لوث يحلف من شاهده خمسين يمينا، ويجب القود عندنا، وعند قوم
تجب الدية على ما بيناه.
إذا كان في يد رجل جارية وابنها، فادعى عليه رجل فقال: هذه الجارية أم
ولدي، وهذا ولدي منها استولدتها في ملكي، فهو حر الأصل ثابت النسب مني،
فقد ادعى هذا الرجل في الجارية أمرين: أحدهما أنها مملوكته، والثاني أنها أم
ولده، وتعتق بموته، وادعى في ولدها أمرين: أحدهما النسب، والثاني الحرية.
192

فأما الجارية، فإذا أقام شاهدا واحدا حلف مع شاهده، وقضي له بالجارية
لأن أم الولد مملوكته، بدليل أن له استخدامها والاستمتاع بها وإجارتها وتزويجها،
وإذا قتلها قاتل كان له قيمتها، فإذا كانت مملوكة قضينا له بها باليمين مع الشاهد
كالأمة القن، فإذا حكمنا له بها حكمنا بأنها أم ولده تعتق بوفاته باعترافه بذلك لا
بالشاهد واليمين، وذلك أنا حكمنا له بها ملكا ثم اعترف بذلك، فكان في ملكه
فلهذا نفذ اعترافه فيه، هذا عند المخالف وعندنا يثبت ملكه لها ولا ينعتق بموته،
إلا أن تحصل في نصيب ولدها فتنعتق عليه.
وأما الولد فهل يقضى له بالشاهد واليمين؟ قال قوم: لا يقضى له به، وهو
الأولى، وقال آخرون: يقضي له به، وإنما قلنا لا يقضى له به، لأنه ادعى نسبا و
حرية والنسب والحرية لا يثبت بالشاهد واليمين، فمن قال: يقضى له به، تسلمه
وكان ابنه حر الأصل لا ولاء عليه، وأمه أم ولد، تعتق بوفاته، ومن قال: لا يقضى له
به، على ما اخترناه، كان في يد من هو في يده، إن ذكر أنه ولده كان على ما قال، و
إن قال: مملوكي، كان على ما قال.
من وقف وقفا على قوم انتقل ملكه عن الواقف، وإلى من ينتقل؟ قال قوم: إلى
الموقوف عليه، وهو الذي يقتضيه مذهبنا، وقال قوم: ينتقل إلى الله لا إلى مالك.
فإذا ثبت ذلك فادعى على رجل أنه وقف عليه هذه الدار وقفا مؤبدا وأقام به
شاهدا واحدا فهل يثبت بالشاهد واليمين أم لا؟ فمن قال ينتقل إلى الموقوف عليه
قال: يثبت بالشاهد واليمين، لأنه نقل ملكا من مالك إلى مالك، ومن قال: ينتقل
إلى الله لا إلى مالك، قال: لا يثبت إلا بشاهدين، لأنه إزالة ملك إلى الله كالعتق.
وإنما قلنا: أنه ينتقل إلى الموقوف عليه، لأن جميع أحكام الملك باقية عليه
بحالها بدليل أنه يضمن باليد وبالقيمة ويتصرف فيه، وعند أصحابنا يجوز بيعه
على وجه.
ولو أقام شاهدا أن أباه تصدق بهذه الدار صدقة محرمة موقوفة عليه وعلى
أخوين له فمن حلف منهم ثبت حقه وصار ما بقي ميراثا.
193

وإنما نفرض إذا كانت مع البنين غيرهم، لأنه لو لم يكن غيرهم يثبت الدار وقفا
عليهم بلا يمين، فإذا تقرر ذلك لم يخل من ثلاثة أحوال: إما أن يحلف الكل، أو لا
يحلفوا، أو يحلف بعضهم دون بعض.
فإن حلف الكل حكمنا بأن الدار وقف عليهم من الواقف.
وإن لم يحلف واحد منهم، فالظاهر أن الدار ميراث لجماعة ورثتهم، فإن كان
عليه دين ولا شئ له غيرها قضي منها، وإن كان هناك وصية أخرجت من الثلث بعد
الدين، فإن فضل فضل بعدها أو لم يكن هناك دين ولا وصية، فالحكم في الكل
وفي الفاضل من الدين والوصية واحد، أن نصيب البنين يصير وقفا عليهم باعترافهم
بذلك ونصيب بقية الورثة طلق، لأن قول البنين لا يقبل على الميت أنه وقفها عليهم،
ولكن إذا صار نصيبهم إليهم حكمنا بأنه وقف عليهم بإقرارهم.
وإن حلف واحد وأبي الآخران فنصيب من حلف وقف على ما ادعاه،
وما حصل بعده يخرج منه الدين والوصية ثم يكون ما فضل ميراثا، فمن ادعى الوقف
صار وقفا على ما اعترف به ومن لم يدع الوقف كان نصيبه ميراثا طلقا.
وأما إن خلف ثلاثة بنين لا وارث له غيرهم، فادعوا أن أباهم وقفها عليهم،
حكمنا بها وقفا لأنه إقرار في حقهم ولا حاجة بهم إلى شهادة.
فإن خلف ثلاثة بنين وادعوا دارا في يد أجنبي وأنها وقف عليهم وأنها في يده
غصب بغير حق غصبها منهم، وأقاموا شاهدا واحدا حلفوا معه - لأنهم ادعوا
الغصب وغصب الوقف يصح، والغصب يثبت بالشاهد واليمين، فلهذا حلفوا - فإذا
حلفوا سلمت الدار إليهم، فإن قيل: يثبت الوقف باليمين والشاهد، كانت الدار
وقفا عليهم من الواقف، ومن قال: لا يثبت بالشاهد واليمين، كانت وقفا عليهم
بإقرارهم في ملكهم أنه وقف.
وهكذا إن ادعى غلاما في يد رجل فقال: هذا الغلام كان عبدي فأعتقته وأنت
تسترقه بغير حق وهو حر والولاء لي عليه، وأقام بذلك شاهدا واحدا، حلف مع
شاهده واستنقذه من يده، فإذا صح أن يستنقذه بالشاهد واليمين حكمنا بأنه حر
194

وأن له عليه الولاء، لأنه معترف في حق نفسه.
وأما إن مات وخلف ثلاثة بنين ومات عمرو وخلف ابنا وفي يده دار، فادعى
واحد من البنين على ابن عمرو فقال: هذه الدار التي في يدك وقفها أبوك علي وعلى
أخوي، فأنكر ذلك فأقام شاهدا واحدا فإنه يحلف معه ثم لا يخلو من ثلاثة أحوال:
إما أن يحلف الكل أو لا يحلف واحد منهم أو يحلف بعضهم دون بعض.
فإن حلف الكل كانت وقفا عليهم من عمرو، وإن لم يحلفوا فهي ميراث لوارث
عمرو، وإن حلف واحد منهم كان ثلثها وقفا عليه وحده، والثلثان ميراثا لوارث عمرو.
إذا خلف ثلاثة بنين وبنات وزوجة وأبوين، فادعى أحد البنين أن هذه الدار
وقفها أبونا علي وعلى أخوي صدقة محرمة، فإذا انقرضوا فعلى أولادهم ثم على
الفقراء والمساكين، فصدقه الأخوان وكذبه بقية الورثة، وأقاموا شاهدا واحدا كان
لهم أن يحلفوا مع الشاهد على ما اخترناه ولا يخلو من ثلاثة أحوال: إما أن يحلفوا
أو لا يحلفوا أو يحلف بعضهم دون بعض، والتفريع على فصل فصل.
فإن حلفوا حكمنا بأن الدار وقف عليهم، وتكون بينهم بالسوية، فإذا انقرض
الثلاثة لم يخل من أحد أمرين: إما أن ينقرضوا دفعة واحدة أو واحدة بعد واحد.
فإن انقرضوا دفعة واحدة انتقل الوقف إلى البطن الثاني، لأن الواقف هكذا
شرطه، وأنه على الترتيب، وهل يفتقر البطن الثاني إلى اليمين أم لا؟ الصحيح أنه لا
يفتقر إليه، وقال بعضهم: لا يصير وقفا على البطن الثاني إلا بيمين لأن البطن الثاني
يأخذ الوقف من الواقف لا من البطن الأول، فهو كالأول لا بد له من يمين ولأنه لو قال:
وقف على أولادي وأولاد أولادي، ولم يرتب، لم يدخل ولد الولد بغير يمين، كذلك
إذا رتب، والأول أصح لأمرين:
أحدهما: أنه يثبت الوقف بالشاهد واليمين، فإذا ثبت فلا يحتاج إلى بينة مرة
أخرى، كما لو ادعى دارا وأقام شاهدا فحلف مع شاهده يثبت الدار له، فإن مات
كان لوارثه بغير يمين، فإذا ثبت هذا وانقرض البطن الثاني أو لم يكن بطن ثان، كان
للفقراء والمساكين فلا خلاف أنه لا يمين عليهم، لأنهم لا ينحصرون، ولكن ما حكم
195

الوقف؟ فمن قال: تصير وقفا على البطن الثاني بغير يمين، قال: كذلك على الفقراء
والمساكين، ومن قال: يفتقر إلى اليمين، قال: في المساكين وجهان: أحدهما
يبطل الوقف لأنه إنما يثبت بيمين فإذا لم يمكن بطل، والثاني يصير وقفا عليهم بغير
يمين، لأنه موضع ضرورة، فإذا تعذرت اليمين سقط حكمها ويثبت الوقف، هذا
الكلام إذا انقرضوا دفعة واحدة.
فأما إذا انقرضوا واحدا بعد واحد، فإذا مات أحد البنين صار نصيبه إلى أخويه،
فإذا مات الثاني صار الكل إلى الثالث، ولا يكون للبطن الثاني شئ ما بقي من
الأول واحد، لأنه هكذا رتب، وهل يفتقر الأخوان إلى اليمين بعد موت الأول؟ فمن
قال: يصير وقفا على البطن الثاني بغير يمين قال: هذا أولى، لأنهم أثبتوا الوقف
بأيمانهم، ومن قال: يحلف البطن الثاني فهاهنا على وجهين: أحدهما يحلفان
أيضا لأن الوقف صار إليهم من غيرهم، وأشبه البطن الثاني، والوجه الثاني:
لا يمين، لأنهم قد حلفوا مرة على تثبيته فلا معنى لإحلافهم مرة أخرى، ويفارق
البطن الثاني لأنه ما حلف قط، فلهذا استحلفناهم.
فإذا انقرض الثالث انتقل إلى البطن الثاني، والحكم في اليمين على ما مضى،
هذا الكلام إذا حلف الكل.
فأما إذا لم يحلف واحد منهم، فالدار ميراث على الورثة، فإن كان هناك دين
بدئ بالدين ثم بالميراث وإن كان هناك وصية فالوصية ثم الميراث، فإن فضل فضل
أو لم يكن هناك دين ولا وصية فالحكم في الكل وفي الفضل واحد يكون الكل
ميراثا.
فمن ادعى الوقف صار نصيبه من الميراث وقفا لاعترافه به، ومن لم يدع الوقف
فنصيبه طلق يتصرف فيه كيف شاء، فإذا انقرض البنون صار نصيبهم من الميراث وقفا
على البطن الثاني بغير يمين، لأنه ثبت وقفا على البطن الأول بغير يمين، فلم يفتقر
البطن الثاني إلى اليمين، هذا الحكم في نصيب من اعترف بالوقف وادعاه.
فأما نصيب من لم يدع ذلك فطلق، فإن قال البطن الثاني: نحن نحلف على
196

ما لم يحلف عليه آباؤنا وننتزع بقية الدار من بقية الورثة ليصير الكل وقفا علينا، قال
قوم: لا يحلفون لأنهم تبع لآبائهم وإذا لم يحلف المتبوع لم يحلف التابع، وقال
آخرون: يحلفون وينتزع بقية الدار من أيديهم ويبطل تصرفهم فيه، لأن البطن الثاني
كالأول لأن الوقف صار إليه عن الواقف ثم كان للأول أن يحلف مع الشاهد، فكذلك
لوارثه، ولأنا لو قلنا لا يحلف البطن الثاني جعلنا للبطن الأول إفساد الوقف على
البطن الثاني، وهذا لا سبيل إليه وهذا الوجه أقوى عندي.
فمن قال: لا يحلف كان نصيب البنين ملكا طلقا، ومن قال: يحلفون، حلفوا
وصارت الدار كلها وقفا.
فأما إن حلف واحد منهم دون الأخوين، فنصيب من حلف وقف عليه، والباقي
ميراث بين الآخرين وبقية الورثة، غير أن نصيب الأخوين وقف باعترافهما، ونصيب
من بعدهما طلق على ما قلناه.
فإن مات الحالف لم يخل من أحد أمرين: إما أن يموت قبل موت أخويه
أو بعده.
فإن مات بعد موتهما فنصيبهما على البطن الثاني وقف بغير يمين، لأنهما ما
حلفا، وإنما ثبت باعترافهما، وأما نصيب الحالف فيصير للبطن الثاني، وهل
يحلف البطن الثاني؟ على ما مضى من الخلاف.
وإن مات الحالف قبل موت الأخوين، فإلى من ينتقل نصيبه منهما؟ فيه ثلاثة
أقوال:
قال قوم: يصير إلى أخويه، لأنه لا يمكن رده إلى البطن الثاني لبقاء البطن
الأول، ولا إلى أقرب الناس إلى الواقف لأنهما أقرب إلى الواقف، فكان لهما دون
الكل، فعلى هذا يحلف الأخوان أم لا؟ على وجهين، ولا شاهد على البطن الثاني
كما بينا في المسألة قبلها، لأن الأخوين كانا قد حلفا مرة فلهذا رجع إلينا لما انتقل
إليهما، وهاهنا ما حلف الأخوان قط فلهذا كانت اليمين على الوجهين كالبطن
الثاني سواء.
197

وقال بعضهم: ينتقل إلى أقرب الناس إلى الواقف، لأنه لا يمكن رده على
الأخوين وهو البطن الأول، لأنهما قد رداه، ولا يمكن رده إلى البطن الثاني لبقاء
البطن الأول فلم يبق غير أقرب الناس إلى الواقف، فعلى هذا متى انقرض أقربهم إليه
انتقل إلى البطن الثاني، وهل يحلف البطن الثاني أم لا؟ على ما مضى من الوجهين.
وقالت الفرقة الثالثة: ينتقل إلى البطن الثاني لأن الأول قد رده ولا يمكن رده إلى
أقرب الناس إلى الواقف، لأن البطن الأول باق فلم يبق إلا البطن الثاني، وهذا القول
أقوى عندي من غيره.
إذا خلف ثلاثة بنين وغيرهم من الورثة، فادعى أحد البنين أن أباه وقف هذه
الدار عليه وعلى أخويه وعلى أولادهم ما توالدوا وتناسلوا، فشرك بين البطن الأول
والثاني ومن بعدهم، ولم يرتب بطنا بعد بطن، فإذا ادعى ذلك وأقام شاهدا واحدا
وصدقه أخواه لم يخل من أحد أمرين: إما أن يكون هناك بطن ثان أو لا يكون.
فإن كان هناك بطن ثان، مثل أن كان هناك ولد ولد، لم يستحق مع البطن الأول
شيئا من الوقف حتى يحلف كأحد البنين، لأن ولد الولد يتلقى الوقف من الواقف
بلا واسطة، فلم يكن له شئ من الوقف بغير يمين، كالبطن الأول.
وتحقيقه إنا لا نقضي بالدعوى والشاهد الواحد بغير يمين، ولا نعطي بمجرد
الدعوى حتى يحلف مع شاهده، ويفارق المسألة قبلها، حيث قلنا يصير إلى البطن
الثاني بغير يمين على المذهب الصحيح، لأن بين الواقف وبين الثاني واسطة يثبت
الوقف بيمينه، فلهذا لم يفتقر البطن الثاني إلى اليمين وليس كذلك في هذه المسألة،
لأنه يتلقى الوقف من الواقف بلا واسطة، فلهذا لم يكن بد من اليمين، فإذا ثبت هذا
فإن حلف ولد الولد كان كأحد الثلاثة يكون له ربع الوقف، هذا إذا كان له حين
الوقف ولد ولد بالغ.
فأما إن لم يكن له حين الوقف ولد ولد ثم ولد له، أو كان وكان ممن لا يصح
أن يحلف لصغر أو جنون الباب واحد، فإنه يعزل لولد الولد ربع الغلة من الوقف،
لأنهم قد اعترفوا له بذلك، ويدهم عليه فنفذ إقرارهم فيه، وذلك الذي يعزل لا
198

يسلم إلى وليه حتى يبلغ فيحلف لأنه إذا كان الشاهد واحدا لم يأخذ أحد منهم شيئا
حتى يحلف مع شاهده.
قالوا: هلا قلتم يسلم ربع الغلة إلى وليه لأنهم قد اعترفوا له بذلك كما لو كانت
الدار في يد ثلاثة فاعترفوا بربعها لصبي لزم الإقرار ودفع الربع إلى وليه؟ قلنا: الفصل
بينهما من وجهين:
أحدهما: إذا كانت الدار في أيديهم فاعترفوا بربعها لصبي كان اعترافا في حق
أنفسهم فيما هو في الظاهر ملكهم، فلهذا سلم الربع إلى وليه، وليس كذلك في
مسألتنا لأنهم اعترفوا في حق الغير وهو البطن الثالث ومن تولد بعدهم.
والثاني: إذا أقروا كان إقرارا فيما لزمهم في حق أنفسهم، فلهذا ثبت ولزمهم
دفعه إلى وليه، وليس كذلك في مسألتنا لأنه إقرار على الغير وهو الميت الواقف فلا
يثبت ذلك بقولهم.
فإذا ثبت أن الربع يعزل، فإذا عزلناه فلا يخلو من ثلاثة أحوال: إما أن يبلغ
فيحلف أو يرد أو يموت.
فإن حلف مع شاهده أخذ ما وقف له لأنه قد حلف مع شاهده.
وإن لم يحلف، رد الربع بين الثلاثة بالسوية.
وإن مات قام وارثه مقامه وحلف وأخذ المعزول فإذا أخذ المعزول عادت الغلة
إلى القسمة على الإخوة الثلاثة لأنه ما بقي من يشاركهم فيه، والمسألة إذا كان وارث
الميت غير ولده لأنه لو كان ولده دخل معهم في الوقف كأحدهم.
فإن كانت بحالها فعزلنا الربع ثم مات واحد من الإخوة الثلاثة فإنا نعزل له مكان
الربع ثلثا لأنهم كانوا أربعة فعادوا إلى ثلاثة، فإذا عزل ذلك ففيه ما ذكرناه من
المسائل الثلاث إما أن يحلف أو يرد أو يموت.
فإن بلغ وحلف أخذ كل المعزول الربع إلى حين وفاة الثالث والثلث من بعد
وفاته لأنه قد بان أنه كان الكل له وإن رد ولم يحلف فالكلام في الربع إلى وفاة الثالث
والثالث من بعد وفاته أما الربع فينقسم على ورثة الأخ الميت والأخوين الحيين، لأن
199

لأن الميت لو كان باقيا كان الربع بينهم بالسوية فقام وارثه معهما مقامه، فيكون لوارث
الميت ثلث الربع ولأخويه ثلثاه وأما الثلث من حين مات الثالث فإنه يرد على
الأخوين الحيين وحدهما دون وارث أخيهما، لأنه لو لم يكن هذا الصغير كان نصيب
الميت بينهما، فإذا رد الصبي الثلث فكأنه لم يكن فيكون الثلث بينهما.
وأما إن مات الصبي وخلف وارثا، حلف وارثه واستحق الكل لأنه يقوم
مقامه.
فإن قيل: الثلاثة إذا اعترفوا بالربع للصبي كيف يعود إليهم ما اعترفوا به لغيرهم؟
قلنا: الإقرار ضربان: مطلق ومعزي إلى سبب، فإذا عزي إلى سبب فلم يثبت
السبب عاد إلى المقربة كقولهم: مات أبونا وخلف لزيد بثلث ماله فرد ذلك زيد،
فإنه يعود على من اعترف بذلك، وكذلك من اعترف لغيره بدار في يده فلم يقبلها
الغير عادت إلى المقر كذلك هاهنا.
فصل: في موضع اليمين:
الأيمان تغلظ بالمكان والزمان والعدد واللفظ، ووافقنا فيه قوم وخالفنا
آخرون، وكذلك فيهم من خالف في المكان والزمان دون العدد واللفظ، فقال يحلفه
الحاكم حيث توجهت عليه اليمين ولا يعتبر الزمان ولا المكان، والخلاف معه في
هل هو مشروع أم لا؟ فعندنا وعند جماعة هو مشروع، وعنده بدعة.
فإذا تقرر هذا فإنه يغلظ في كل بلد بأشرف بقعة فيه، فإن كان بمكة فبين الركن
والمقام، وإن كان بالمدينة فعلى منبر رسول الله عليه السلام، وإن كان في بيت
المقدس فعند الصخرة، وإن كان بغير هذه البلاد ففي أشرف موضع فيه، وأشرف
بقاع البلاد الجوامع والمشاهد عندنا.
فأما التغليظ بالزمان فمشروع لقوله تعالى: " تحبسونهما من بعد الصلاة
فيقسمان بالله " وقيل في التفسير: يعني بعد صلاة العصر، وقال صلى الله عليه وآله:
ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم رجل بايع إمامه فإن
200

أعطاه وفي له به، وإن لم يعطه خانه ورجل حلف بعد العصر يمينا فاجرة ليقطع بها
مال امرئ مسلم.
فإذا ثبت أنها تغلظ بالمكان والزمان نظرت في الحق: فإن كان مالا أو
المقصود منه المال، فالذي رواه أصحابنا لا تغلظ إلا بالقدر الذي يجب فيه القطع،
وقال قوم: لا تغلظ إلا بما تجب فيه الزكاة، وقال آخرون: تغلظ بالقليل والكثير، وإن
كان الحق لم يكن مالا ولا المقصود منه المال فإنه يغلظ فيه قليلا كان أو كثيرا.
وأما التغليظ بالعدد ففي القسامة يحلف خمسين يمينا ويغلظ بالعدد في
اللعان بلا خلاف.
وأما اللفظ فيغلظ به أيضا عند الأكثر يقول " والله الذي لا إله إلا هو، عالم
الغيب والشهادة الرحمان الرحيم، الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية " أو ما
يجري مجراه.
فالتغليظ بالعدد شرط بلا خلاف، وأما بالأزمان فعلى وجه الاستحباب
بلا خلاف، وأما المكان فقال قوم: هو شرط كالعدد، وقال آخرون: ليس بشرط
كالزمان، وهو الصحيح عندنا.
وأما أصناف الحالفين فينظر:
فإن كان الحالف رجلا مسلما فاليمين على ما وصفناه.
وإن كان الحالف امرأة فهي على ضربين: مخدرة وغير مخدرة فإن لم تكن
مخدرة وهي التي تبرز في حوائجها، فإن كانت طاهرة استحلفها في المكان
الشريف، كالرجل، وإن كانت حائضا فعلى باب المسجد لأنه لا يجوز للحائض أن
تدخل المسجد، وإن كانت مخدرة استخلف الحاكم من يقضي بينها وبين
خصمها في بيتها، فإذا توجهت اليمين عليها فهي كالبرزة في التغليظ بالمكان، فإن
كانت طاهرا فيستحلفها فيه، وإن كانت حائضا فعلى باب المسجد.
فأما المملوك إذا ادعى على سيده أنه أعتقه، فالقول قول السيد مع يمينه، فإن
كانت قيمة العبد القدر الذي يغلظ بالمكان غلظ به، وإن كانت أقل لم يغلظ لأنه
201

استحلاف على مال، لأنه يحلف على استيفاء ملكه بالرق وهو مال، فإن حلف
السيد فلا كلام وإن نكل ردت على العبد فيغلظ عليه في المكان قلت قيمته أو
كثرت، لأنه يحلف على العتق والحرية فهي يمين على ما ليس بمال ولا المقصود
منه المال.
ولا يجلب رجل إلى مكة والمدينة ليستحلف بل يستحلفه الحاكم في الموضع
الشريف في مكانه، فإن امتنع بجند أو لعز استحضره الإمام ليستحلفه في المكان
الأشرف اللهم إلا أن يكون بالقرب من موضعه، وقيل: بلد الإمام قاض يقدر عليه
فيستحضره ذلك القاضي ويستحلفه في المكان الأشرف.
وقد قلنا: أنه إذا كان بمكة يستحلفه بين الركن والمقام، فإن كانت عليه يمين
أنه لا يحلف بين الركن والمقام حلفه في الحجر، فإن الحجر مكان شريف، فإن
كان عليه يمين أنه لا يحلف في الحجر حلف عن يمين المقام بين المقام وبين
الحجر، وإن كانت عليه يمين أنه لا يحلف في هذا المكان أيضا حلفه بالقرب من
البيت في غير هذا المكان، وقال قوم: يستحلفه فيه وإن كان في استحلافه حنث
في يمينه كما لو حلف أنه لا يحلف فتوجهت عليه اليمين حلف، وإن كان في
استحلافه حنث، وهذا إنما يقوله من يقول: إن التغليظ بالمكان شرط، وأما على ما
قلناه من أنه مستحب فلا يلزم ذلك، لأنه لا فائدة في إلزامه ما يحنث.
المشرك إذا توجهت عليه اليمين نظرت:
فإن كان يهوديا غلظ عليه باللفظ، فيقول " والله الذي أنزل التوراة على موسى "
لما روي أن النبي عليه السلام حلف يهوديا فقال: قل والله الذي أنزل التوراة على
موسى. وأما المكان فإنه يستحلف في المكان الشريف عنده وهو الكنيسة لأنه
يعظمها كما يعظم المسلم المسجد.
وإن كان نصرانيا حلف " والله الذي أنزل الإنجيل على عيسى " لأنك لو اقتصرت
على " والله " ربما اعتقده عيسى، فإذا قلت الذي أنزل الإنجيل على عيسى لم يمكنه
ذلك الاعتقاد، وأما المكان ففي البيعة لأنه مكان شريف عنده.
202

وإن كان مجوسيا حلف " والله الذي خلقني ورزقني " لئلا يتناول بالله وحده النور
فإنه يعتقد النور إلها، فإذا قال: خلقني ورزقني، زال الإبهام والاحتمال، وأما المكان
فقال قوم: لا يغلظ عليه، لأنه لا يعظم بيت النار وإنما يعظم النار دون بيتها،
ونقول: فإن كانوا يعظمون بيت النار فهو كالكنيسة يغلظ عليهم بها.
وإن كان وثنيا معطلا أو كان ملحدا يجحد الوحدانية لم يغلظ عليه باللفظ
واقتصر على قوله " والله " فإن قيل: كيف حلفته بالله وليست عنده يمينا؟ قلنا ليزداد
إثما ويستوجب العقوبة.
فصل آخر
الحالف لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يحلف على فعل نفسه أو فعل غيره،
فإن حلف على فعل نفسه كانت على البت والقطع نفيا كانت أو إثباتا، وإن كانت
على فعل غيره نظرت: فإن كانت على الإثبات كانت على القطع وإن كانت على النفي
كانت على العلم، وإن اختصرت ذلك قلت: الأيمان كلها على القطع إلا ما كانت
على النفي على فعل الغير فإنها على العلم.
بيان ذلك: أما التي على الإثبات على فعل نفسه، فيمين الرد واليمين مع
الشاهد والتي على النفي على فعل نفسه فيمين المدعى عليه فيما يتعلق به، مثل أن
يدعي عليه دينا فيحلف على القطع أو يدعي عليه أنك أبرأتني عن الحق الذي لك
قبلي، فأنكر فإنه يحلف على البت، وإن كان على النفي لأنها على فعل نفسه.
وأما الإثبات على فعل الغير، مثل أن يدعي أن لأبيه على فلان ألفا فإنه يحلف
على النفي على القطع وأما على النفي على فعل الغير مثل أن يدعي أن له على أبيه
ألفا فأنكر فيحلف على العلم - لا أعلم أن لك على أبي ذلك - أو يدعي أن أباه أتلف
عليه كذا وكذا يحلف أنه لا يعلم ذلك، هذا عندنا وعند الأكثر.
وقال بعض من تقدم: اليمين كلها على العلم، وقال بعضهم: كلها على
البت، فإذا ثبت هذا نظرت: فإن استحلفه الحاكم على القطع فيما يجب عليه أن
203

يحلف على العلم، انصرف إلى العلم وأجزأه.
إذا ادعى على رجل حقا فقال: لي عليك ألف درهم، فقال قد أبرأتني أو قد
برئت إليك منها، فتحت هذا اعتراف بالألف، وادعى البراءة منه، ويكون
المدعي مدعى عليه، وكيف يحلف؟ قال قوم: يحلف ما اقتضاه ولا شئ منه ولا اقتضى له
ولا شئ منه ولا أحال به ولا بشئ منه ولا أبرأه ولا عن شئ منه، ولا اقتضى له
مقتض بغير أمره فأوصله إليه وإن حقه لثابت ولا اقتضى له مقتض فأوصله إليه وإن
ادعى أنه قد أبرأه منه أو قد أحال به لم يحلف المدعى عليه على أكثر من الذي ادعاه
عليه، لأنه ما ادعى عليه غيره.
وإن كانت الدعوى مبهمة فقال: ما له قبلي حق أو قد برئت ذمتي من حقه،
احتاج إلى هذه الألفاظ كلها حتى يأتي بجميع جهات البراءة، ومن الناس من قال:
أي شئ، ادعى فإن المدعى عليه يحلف ما برئت ذمتك من ديني، فإذا قال هذا
أجزأه لأنها لفظة تأتي على كل الجهات، فإن الذمة إذا كانت مشغولة بالدين أجزأه أن
يقول: ما برئت ذمتك من حقي، وهذا القدر عندنا جائز كاف، والأول عندنا أحوط و
آكد، وأما قوله: إن حقي لثابت، فلا خلاف أنه ليس بشرط.
إذا ادعى عليه حقا في ذمته أو عينا في يده، فقال: أقرضتك، أو قال:
غصبتني، لم يخل الجواب من أحد أمرين: إما أن يكون مبهما أو يعين ما ادعاه.
فإن كان مبهما مثل أن قال: لا تستحق علي شيئا، كان الجواب صحيحا ولم
يكلف الجواب فيقال له: أجب عن الدعوى، لأن قوله لا تستحق علي شيئا يأتي
على المراد، ويكون اليمين على ما أجاب يحلف لا تستحق علي شيئا، لأنه إذا
كانت الدعوى غصبا ربما كانت على ما ادعاه ولكن الغاصب ملك ذلك بشراء أو
هبة أو غير ذلك، فإن كلف أن يحلف ما غصبتني فقد ظلمناه، لأنه لا يقدر عليه
لأنه قد كان منه الغصب، ومتى اعترف أنه غصب لم يقبل قوله إنه ملك ما غصبه
منه، فإن كلفه أن يحلف ما غصبت، ظلمه وإن قال: غصبته وقد ملكته ظلمته، لأنه
لا يقبل منه، فإذا نفى الاستحقاق، ثبت جميع ما طلبه.
204

وإن كان الجواب بعد الدعوى ما غصبته شيئا فكيف يحلف؟ قال قوم: يحلف
إنك لا تستحق علي شيئا كما لو كان الجواب مبهما لما مضى، وقال قوم: يحلف ما
غصبت لأنه لو لم يعلم أنه يقدر أن يحلف كذلك ما أجاب كذلك، فلهذا استحلفناه
على ما أجاب.
إذا ادعى رجل حقا على ابن رجل ميت لم تقبل دعواه إلا أن يدعي الحق
ويدعي موت الأب وأنه خلف في يديه تركة لأنه إن لم يمت الأب فلا حق له على
ابنه، وإن مات ولم يخلف تركة فلا حق له عليه أيضا، فلا بد من دعوى الثلاثة أشياء:
فإذا ادعى الموت فالقول قول الابن، لأن الأصل أن لا موت، وإذا ادعى التركة
فلا تقبل دعواه مطلقا حتى يقيد ذلك فيقول: خلف في يديك تركة مبلغها كذا وكذا،
فإذا قدر ذلك وادعى فالقول قول المدعى عليه مع يمينه أنه ما خلف شيئا، فإن ثبت
الموت وثبت أنه خلف تركة فحينئذ تسمع دعواه بالحق عليه، ويكون القول قول الابن
أنه لا يعلم أن له على أبيه حقا.
إذا حلف قبل استحلاف الحاكم له لم يعتد باليمين ويعاد عليه بدلالة ما روي
أن ركانة أتى النبي عليه السلام فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وآله طلقت امرأتي
البتة، فقال: ما أردت بالبتة؟ قال: واحدة، قال: ما أردت بها إلا واحدة؟ فقال: والله
ما أردت بها إلا واحدة، فقال: والله ما أردت بها إلا واحدة؟ فقال: والله ما أردت بها
إلا واحدة فأعاد عليه اليمين حيث حلف قبل أن يستحلف.
قالوا في هذا الخبر عشرة فوائد:
إحداها: يجوز الاقتصار على مجرد الاسم.
والثانية: يدل على جواز حذف واو القسم لأنه روي في بعضها أن النبي عليه
السلام قال له: قل ما أردت بها إلا واحدة.
والثالثة: أن اليمين قبل الاستحلاف لا تصح.
والرابعة: أن الطلاق الثلاث لا يقع بقوله أنت بتلة، خلافا لمالك لأن النبي
205

عليه السلام ردها إليه.
والخامسة: أن الثلاث لو أراده لوقع خلافا لنا، وهذا ليس فيه دلالة عليه لأنه لا
يمتنع أنه يكون حلفه أنه أراد الطلاق لأن الطلاق لا بد فيه من النية عندنا.
والسادسة: أنه يقع بهذه الكناية طلقة رجعية خلافا لمن قال: يقع بائنة، لأن
النبي عليه السلام ردها عليه في الحال.
والسابعة: أنه يستحلف في الطلاق خلافا لمن قال: إنه لا يستحلف.
والثامنة: أن المرجع في الكناية إلى قول المطلق ونيته لأن النبي عليه السلام
رجع إليه.
والتاسعة: أن الصفات والمصادر إذا أريد بها الطلاق وقع، لأن النبي
عليه السلام قال له: ما أردت بالبتة؟، فلو لا أنه إذا أراد بها الطلاق وقع لما سأله ذلك
والبتة صفة.
والعاشرة: إن الإشهاد على الرجعة ليس بشرط لأن النبي عليه السلام ردها ولم
ينقل أنه أشهد على ذلك، وهذا ليس بشئ، لأن النبي عليه السلام من أعظم
الشهود فليس في ذلك دلالة عليه، وإن كان مذهبنا أن الشهادة ليست شرطا، وقد
ذكرنا هذه الوجوه وإن كانت على مذهبنا غير صحيحة أكثرها، لأن الكنايات لا يقع
بها الطلاق أصلا ليعرف ما قالوه.
إذا ادعى مالا أو غيره فإنه ينظر: فإن كان مع المدعي بينة فهي مقدمة على يمين
المدعي، لأن البينة حجة من غير جهة المدعي فتنتفي التهمة عنها واليمين حجة من
جهته فتلحقها التهمة، فإن أقام المدعي البينة حكم له، وإن لم تكن معه بينة حلف
المدعى عليه ويقدم يمينه على يمين المدعي لأن جنبته أقوى فإنه مدعى عليه،
والأصل براءة ذمته فإن حلف أسقط المطالبة عن نفسه، وإن لم يحلف ونكل عن
اليمين لم يحكم عليه بنكوله، خلافا لمن قال: إنه يحكم عليه، ولا يستثبت أيضا
لأجل تركه اليمين بل ترد اليمين على المدعي فيحلف، ويحكم له.
ثم ينظر: فإن حلف حكم له، وإن نكل استثبت وسئل عن تركه الحلف، فإن
206

قال: لأن لي بينة أقيمها، أو قال: أنظر في حسابي وأتحقق ما أحلف عليه، أخر،
فإذا حلف بعد ذلك حكم له، وإن قال: تركت الحلف ولست أختاره، فقد سقطت
اليمين عن جنبته، فلا يعود إليه إلا أن يدعي ثانيا في مجلس آخر، وينكل المدعى
عليه عن اليمين، فترد اليمين على المدعي.
والفرق بينهما أنه إذا قال: لست أختار الحلف، فقد أسقط اليمين عن جنبته
فلم يعد إليه إلا بسبب آخر، ونكول ثان، وإذا قال: أخرتها لأنظر في حسابي وأنتظر
إقامة بينتي، فلم يسقط اليمين، وإنما أخرها فلم يسقط اليمين عن جنبته، وجاز له
الحلف بعد ذلك.
والفرق بين المدعى عليه حيث قلنا إذا نكل عن اليمين لا يستثبت، وبين
المدعي حيث قلنا أنه إذا ترك اليمين استثبت، أن المدعى عليه إذا استثبت وأنظر
وقف الحكم بذلك، والمدعي إذا استثبت وأنظر لم يقف الحكم لأنه ليس هناك حق
لغيره من حلف وغيره حتى يقف باستثباته، هذا في دعوى المال والطلاق والنكاح
وغير ذلك.
المدعى عليه إذا حلف ثم أقام المدعي بعد ذلك بينة بالحق فعندنا لا يحكم له
بها ولا تسمع، وبه قال ابن أبي ليلى وأهل الظاهر، وقال الباقون: تسمع ويحكم
بها، فإذا ثبت هذا، فإن كان قال حين استحلف المدعى عليه: حلفوه فإن بينتي
غائبة لا يمكن إقامتها، ثم حضرت البينة وأقامها حكم له بها بلا خلاف، وإن كان
قال: ما لي بينة حاضرة ولا أقيمها فحلفوه، فلما حلف أقام البينة حكم له بها أيضا
ويكون غرضه ربما ينزجر عن الحلف فيقر بالحق ويستغني عن تكلف إقامة البينة أو
يريد أن يحلفه ثم يقيم البينة ليبين كذبه، وإن كان قال: ليس لي بينة وكل بينة تشهد
لي كاذبة، فحلف المدعى عليه ثم أقام البينة فإنه يحكم له بها عند من قال بذلك.
وقال بعضهم: لا يحكم له لأنه قد جرح بينته، ومنهم من قال: إن كان هو الذي
أقام البينة بنفسه والإشهاد عليه لا تسمع بينته لأنه كان يعلم أن له بينة وقد جرحها،
وإن كان غيره تولى ذلك سمعت منه، والصحيح عندهم أنه تسمع البينة على كل
207

حال لأنه قد يكون له بينة فنسيها.
وقد قلنا: إن عندنا أنه لا يحكم له ببينته بحال إذا حلفه إلا أن يكون أقام البينة
على حقه غيره، ولم يعلم هو أو يكون نسيها فإنه يقوى في نفسي أنه تقبل بينته، فأما
مع علمه ببينته فلا تقبل بحال.
وأما إذا أقام شاهدا واحدا وقد حلف المدعى عليه وحلف معه، فإنه يحكم له
أيضا عندهم، لأن الشاهد واليمين في المال يجري مجرى شاهدين، وعندنا أنه لا
تقبل بينته ولا يحلف مع شاهده، لأنه أضعف من شاهدين.
فأما إذا نكل المدعى عليه عن اليمين وثبت للمدعي حق الاستحلاف، فلم
يحلف وأسقطه عن جنبته، ثم جاء بعد هذا بشاهد واحد وأراد أن يحلف معه قال
قوم: له ذلك، وقال آخرون: ليس له ذلك كما لو أقام ابتداء شاهدا واحدا ولم يحلف
معه، فردت اليمين على المدعى عليه فنكل عنها ولم يحلف، فهل يرد اليمين على
المدعي فيحلف مع الشاهد ثانيا؟ على قولين، والأقوى عندي أنه ليس له ذلك لأنه
أسقط حق نفسه من الاستحلاف فلا يعود إليه إلا بدليل.
المدعى عليه إذا نكل عن اليمين انتقلت اليمين إلى جنبة المدعي، فإن قال
المدعى عليه: ردوا علي اليمين لأحلف، لم يكن له، لأن اليمين كانت في جنبته
فأسقطها وانتقلت إلى جنبة غيره، فصارت حقا لغيره فلا يعود إليه، كما أن اليمين لما
كانت في جنبته لم يكن للمدعي أن يحلف المدعى عليه.
إذا ادعى عليه رجل حقا بجهة خاصة بأن يقول: غصبني على كذا أو اشتريت
منه كذا أو أودعته كذا، فإن قال: لا حق له على فإنه يحلف على ذلك، ولا يحلف أنه
ما غصب وما أودع، فإن قال: ما غصبت ولا أودعت، قال قوم: يحلف عليه، وقال
آخرون: يحلف على أنه لا حق له عليه.
فصل: في النكول عن اليمين:
من ادعى مالا أو غيره ولا بينة فتوجهت اليمين على المدعى عليه، فنكل
208

عنها، فإنه لا يحكم عليه بالنكول، بل يلزم اليمين المدعي فيحلف ويحكم له بما
ادعاه، وبه قال جماعة.
وقال بعضهم: إن كان ذلك فيما يحكم فيه بشاهد وامرأتين وبشاهد ويمين يرد
فيه اليمين على المدعي وما لا يحكم بذلك فيه لا يرد اليمين، بل يحبس المدعى عليه
حتى يحلف أو يعترف.
وقال قوم: إن كان ذلك في المال كرر على المدعى عليه ثلاثا ثم يحكم عليه
بالمال، وإن كان من القصاص لا يحكم عليه بالنكول، بل يحبس حتى يقر أو
يحلف.
وقال بعضهم: يحكم عليه بالدية دون القود، وإن كان ذلك في النكاح والنسب
فإنه لا يستحلف في هذه الحقوق فإن كان معه بينة حكم له وإن لم يكن معه بينة
سقطت المطالبة، وقد قلنا إن مذهبنا الأول.
ذكر بعضهم أن خمس مسائل يحكم فيها بالنكول.
الأولى: إذا كان للرجل مال فحال عليه الحول فطالبه الساعي بزكاته، فقال: قد
بعته وانقطع حوله ثم اشتريت واستأنفت الحول فيه ولم يحل الحول بعد، فالقول
قوله مع يمينه، فإن حلف فلا شئ عليه، وإن لم يحلف يحكم بنكوله وألزم الزكاة،
وعندنا أن القول قوله ولا يمين عليه ولا يحكم بنكوله.
الثانية: إذا كان له مال فحال عليه الحول فطالبه الساعي بزكاة فقال: قد دفعت
الزكاة إلى ساع غيرك، فالقول قوله مع يمينه، فإن حلف فلا شئ عليه وإن لم يحلف
لزمته الزكاة وحكم بنكوله، وعندنا أن هذه مثل الأولى والقول قوله ولا يمين عليه.
الثالثة: إذا كان له ثمار فخرصت عليه وضمن الزكاة ثم ادعى أنها نقصت عما
خرصت عليه، فالقول قوله، فإن حلف أخذت الزكاة منه على ما ذكره، وإن نكل
أخذت الزكاة منه بالخرص، وعندنا أن هذه مثل الأوليين القول قوله ولا يمين عليه.
الرابعة: الذمي إذا غاب ثم قدم بعد حلول الحلول عليه وقال: كنت قد
أسلمت قبل حلول الحول، فلا جزية علي، فالقول قوله، فإن حلف سقطت الجزية
209

وإن لم يحلف قضي بنكوله ولزمته الجزية، وعندنا أن القول قوله ولا يمين عليه لأنه لو
أسلم بعد حلول الحول سقطت عنه الجزية عندنا.
الخامسة: إذا وقع غلام من المشركين في الأسر فوجد وقد أنبت وادعى أنه
عالج نفسه حتى أنبت وأنه لم يبلغ، فالقول قوله، فإن حلف حكم أنه لم يبلغ،
ويكون في الذراري وإن نكل حكمنا بنكوله وأنه بالغ فيجعل في المقاتلة، وعندنا أن
الذي يقتضيه مذهبنا أن يحكم فيه بالبلوغ بلا يمين، لأن عموم الأخبار أن الإنبات
بلوع يقتضي ذلك وما ذكروه قوي.
وفيهم من قال: إن جميع هذه المواضع لا يحكم فيها بالنكول، وإنما يحكم
بسبب آخر، لأن رب المال إذا ادعى حكما يتعلق بالزكاة، فالقول قوله مع يمينه في
ذلك، فإن كانت دعواه لا تخالف الظاهر فاليمين مستحبة إن حلف جاز وإن لم يحلف
جاز، وإن كانت الدعوى تخالف الظاهر، منهم من قال: اليمين مستحبة فعلى هذا
فهو مثل الأول، ومنهم من قال: اليمين واجبة، وقال: إن حلف سقطت الزكاة، وإن
لم يحلف لزمته الزكاة، لا بنكوله لكن بالظاهر.
ففي المسائل التي ذكرناها الثلاثة دعوى رد الظاهر، فإن قيل: اليمين واجبة،
كان الامتناع منها يوجب خلاف الظاهر، يحكم له بالظاهر لا بالنكول، كما قلنا في
الرجل إذا قذف زوجته فإن الحد يلزمه، وله إسقاطه باللعان، فإن لا عن سقط الحد
عنه، وإن لم يلاعن لزمه الحد بقذفه لا بنكوله، وهكذا في الجزية كانت قد وجبت
عليه في الأصل وما ادعى من الإسلام لا يعلم إلا أنه يمكن ما ادعاه، فالقول قوله مع
يمينه إما واجبة أو مستحبة، فمن قال: واجبة وامتنع، وجبت الجزية بالظاهر
المتقدم، وهكذا الإنبات الظاهر أنه أنبت بغير علاج، وأنه بلوع أو دلالة على البلوغ
فإذا ادعى أنه ليس ببلوغ ولا دلالة عليه، فقد ادعى خلاف الظاهر، فمتى لم يحلف
حكم عليه بالظاهر لا بالنكول، وهذا قد سقط عنا لما بيناه.
ذكرت ثلاث مسائل لا يمكن رد اليمين فيها:
إحداها: أن يموت رجل ولا يخلف وارثا مناسبا، فالمسلمون ورثته، فوجد
210

الحاكم في روزنامجة دينا له على رجل أو شهد شاهد واحد بذلك فأنكر من عليه
الدين، فالقول قوله مع يمينه، فإن حلف سقط الحق وإن لم يحلف لم يمكن رد
اليمين، لأن الحاكم لا يمكنه أن يحلف عن المسلمين، والمسلمون لا يتأتى منهم
الحلف لأنهم لا يتعينون ثم قال بعضهم: يحكم بالنكول ويلزمه الحق لأنه موضع
ضرورة، وقال آخرون: - وهو الصحيح عندهم - أنه يحبس حتى يحلف أو يقر.
والذي يقتضيه مذهبنا أنه يسقط هذا لأن ميراث هذا للإمام، وعندنا أنه لا يجوز
أن يحلف أحد عن غيره ولا بما لا يعلمه، فلا يمكنه اليمين مع أن الإمام لا يحلف
فيحبس المدين حتى يعترف فيؤدي أو يحلف وينصرف.
الثانية: إذا مات رجل وأوصى إلى رجل فادعى الوصي على الورثة أن أباهم
أوصى بشئ للفقراء والمساكين، فأنكروا ذلك، فالقول قولهم، فإن حلفوا سقطت
الدعوى، وإن نكلوا لم يمكن رد اليمين، لأن الوصي لا يجوز أن يحلف عن غيره
والفقراء والمساكين لا يتعينون، ولا يتأتى منهم الحلف، فما الذي يفعل؟ قال قوم:
يحكم بالنكول ويلزم الحق، لأنه موضع ضرورة، وقال آخرون: يحبس الورثة حتى
يحلفوا أو يعترفوا وهو الذي نقوله.
الثالثة: إذا مات رجل وخلف طفلا وأوصى إلى رجل بالنظر في أمره فادعى
الوصي دينا على رجل فأنكر، فإن حلف سقطت الدعوى، وإن لم يحلف فلا يمكن
رد اليمين على الوصي، لأنه لا يجوز أن يحلف عن غيره فيتوقف إلى أن يبلغ الطفل
ويحلف، ويحكم له، وهو الذي يقتضيه مذهبنا.
كل حق إذا ادعى وجب الجواب عن الدعوى فيه، فإنه يستحلف المدعى عليه
فيه ويرد اليمين، سواء كان ذلك في الأموال أو غيرها، فالأموال لا خلاف فيها بين من
قال برد اليمين، وأما غيرها من النكاح والطلاق والعتق والنسب فحكمها حكم
الأموال عند قوم، وقال بعضهم: إن كان مع المدعي شاهد واحد حلف له المدعى
عليه، وإن لم يكن معه شاهد لم يحلف، وقال قوم: لا يستحلف على هذه الحقوق
بحال، فإن كان مع المدعي بينة حكم له بها، وإن لم يكن معه بينة لم يلزم المدعى
211

عليه اليمين.
والذي نقوله إن هذه الأشياء على ضربين: إما مال أو المقصود منه المال أم لا.
فما كان مالا أو المقصود منه المال، فعلى المدعي البينة فإن عدم البينة لزم
المدعى عليه اليمين، فإن لم يحلف رد اليمين على المدعي، فإن نكل سقطت
الدعوى.
وإن كانت الدعوى غير المال ولا المقصود منه المال من الأشياء التي تقدم
ذكرها، فإن على المدعي البينة، فإن عدمها فعلى المدعى عليه اليمين، فإن لم
يحلف لا يرد اليمين على المدعي، ولا يحلف أيضا مع شاهد واحد، وإن كان له
شاهد وامرأتان حكم له بذلك.
إذا ادعى على العبد حق فإنه ينظر:
فإن كان حقا يتعلق ببدنه كالقصاص وغيره فالحكم فيه مع العبد دون السيد،
فإن أقربه لزمه عند المخالف، وعندنا لا يقبل إقراره ولا يقتص منه ما دام مملوكا، فإن
أعتق لزمه ذلك، وأما إن أنكر فالقول قوله، فإن حلف سقطت الدعوى، وإن نكل
ردت اليمين على المدعي فيحلف ويحكم بالحق.
وإن كان حقا يتعلق بالمال كجناية الخطأ وغير ذلك، فالخصم فيه السيد،
فإن أقربه لزمه، وإن أنكر فالقول قوله، فإن حلف سقطت الدعوى وإن نكل ردت
اليمين على المدعي فيحلف ويحكم له بالحق.
وأما حقوق الله فعلى ضربين: حق لا يتعلق بالمال، وحق يتعلق بالمال.
فأما مالا يتعلق بالمال كحد الزنى وشرب الخمر وغير ذلك فلا تسمع فيه
الدعوى، ولا يلزم الجواب ولا يستحلف لأن ذلك مبني على الإسقاط إلا أن يتعلق
بشئ من هذه الحقوق حق لآدمي، فإنه تسمع الدعوى فيه ويستحلف عليه، مثل أن
يقذف رجلا بالزنى فيلزمه الحد، وإنما يسقط عنه بتحقيق زنا المقذوف فإن ادعى عليه
أنه زنا لزمه الإجابة عن دعواه ويستحلف على ذلك فإن حلف سقطت الدعوى ولزم
القاذف الحد، وإن لم يحلف ردت اليمين فيحلف ويثبت الزنى في حقه ويسقط عنه
212

حد القذف، ولا يحكم على المدعي عليه بحد الزنى، لأن ذلك حق لله محض،
وحقوق الله المحضة لا تسمع فيها الدعوى، ولا يحكم فيها بالنكول ورد اليمين.
وأما حق الله المتعلق بالمال فهو القطع في السرقة فينظر: فإن كان قد وهب
المسروق منه إذا كان قد أتلفه وأبرأه من قيمته فلا تسمع الدعوى فيه ولا يستحلف عليه
لأنه لم يبق لآدمي حق، وإنما بقي القطع وهو حق لله تعالى محض، فلا تسمع
الدعوى فيه ولا يستحلف عليه، وإن لم يكن أبرأه من الغرم ولا وهب منه سمعت
دعواه، لأجل حقه ويستحلف الخصم عليه، فإن حلف سقطت الدعوى، وإن نكل
ردت اليمين على المدعي، فيحلف ويحكم بالغرم ولا يحكم بالقطع لأنه حق لله
محض.
فصل: في من تقبل شهادته ومن لا تقبل:
لا يجوز للحاكم أن يقبل إلا شهادة العدول، فأما من ليس بعدل فلا تقبل
شهادته لقوله تعالى: " وأشهدوا ذوي عدل منكم ".
والعدالة في اللغة أن يكون الإنسان متعادل الأحوال متساويا وأما في الشريعة
هو من كان عدلا في دينه عدلا في مروءته عدلا في أحكامه.
فالعدل في الدين أن يكون مسلما ولا يعرف منه شئ من أسباب الفسق، وفي
المروءة أن يكون مجتنبا للأمور التي تسقط المروءة مثل الأكل في الطرقات ومد
الرجل بين الناس، ولبس الثياب المصبغة وثياب النساء وما أشبه ذلك، والعدل في
الأحكام أن يكون بالغا عاقلا عندنا، وعندهم أن يكون حرا، فأما الصبي والمجنون
فأحكامهم ناقصة فليسوا بعدول بلا خلاف، والعبد كذلك عندهم، وعندنا رقه لا
يؤثر في عدالته.
فإذا ثبت هذا فمن كان عدلا في جميع ذلك قبلت شهادته، ومن لم يكن عدلا
لم يقبل ذلك، فإن ارتكب شيئا من الكبائر، - وهي الشرك والقتل والزنى واللواط
والغصب والسرقة وشرب الخمر والقذف وما أشبه ذلك -، فإذا فعل واحدة من هذه
213

الأشياء سقطت شهادته، فأما إن كان مجتنبا للكبائر مواقعا للصغائر فإنه يعتبر
الأغلب من حاله، فإن كان الأغلب من حاله مجانبته للمعاصي، وكان يواقع ذلك
نادرا قبلت شهادته، وإن كان الأغلب مواقعته للمعاصي واجتنابه لذلك نادرا لم
تقبل شهادته، وإنما اعتبرنا الأغلب في الصغائر لأنا لو قلنا إنه لا تقبل شهادة من أوقع
اليسير من الصغائر، أدى ذلك إلى أن لا تقبل شهادة أحد لأنه لا أحد ينفك من
مواقعة بعض المعاصي.
فأما أهل الصنائع الدنيئة كالحارس والحجام والزبال والقيم وما أشبه ذلك،
فإذا كانوا عدولا في أديانهم، قال قوم: لا تقبل شهادتهم، لأن من استجاز لنفسه
هذه الصنائع سقطت مروءته ولم تقبل شهادته، وقال آخرون: وهو الأصح عندنا أن
شهادتهم تقبل لقوله تعالى: " إن أكرمكم عند الله أتقيكم "، وأما الحائك فحاله أحسن
من حال هؤلاء، فمن قبل شهادة أولئك قبل شهادته، ومن لم يقبل قال بعضهم:
تقبل شهادته، وهو الأقوى عندي، وقال آخرون: لا تقبل.
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: أكذب الناس الصباغون
والصواغون، واختلفوا في تأويل هذا، فقيل: أراد به أنهم أكذب الناس، لأنهم
يخلفون المواعيد ويقولون غدا نعطي وبعد غد، فيكذبون في ذلك، وقيل: أراد أنهم
يقولون مالا يفعلون، فإن الصباغ يقول أصبغ هذا فاختيا وليس يصبغه كذلك، وإنما
يصبغ مثله والصائغ يقول أصوع هذا طائرا وإنما يصوع مثله فلا ترد شهادة هؤلاء
لأجل صنائعهم، ولكن إن تكرر منهم الكذب وكثر، فسقوا بذلك وسقطت
شهادتهم، وإن كان قليلا لم يؤثر في الشهادة.
قد ذكرنا أنه لا تقبل إلا شهادة العدل المسلم وإسلامه يثبت بأحد ثلاثة أشياء:
إما أن يعرف ذلك الحاكم منه أو تقوم بينة بذلك أو يقر هو بأنه مسلم، وأما العدالة
فيحتاج أن تثبت عنده عدالته في الظاهر والباطن، على ما ذكرناه فيما قبل، ولا يقتصر
في معرفة ذلك على الظاهر، ومن راعى الحرية قال: يحتاج أن يثبت عنده معرفتها
ظاهرا وباطنا، ولا يقتصر في معرفة ذلك على الظاهر، وإن أقر الشاهد أنه حر لم
214

يقبل ذلك ولا يحكم بحريته بإقراره.
كل من يجر بشهادته نفعا إلى نفسه أو يدفع ضررا عنها، فإن شهادته لا تقبل،
فالجار إلى نفسه هو أن يشهد الغرماء للمفلس المحجور عليه أو يشهد السيد لعبده
المأذون له في التجارة، والوصي بمال الموصي، والوكيل بمال الموكل والشريك،
والدافع عن نفسه هو أن تقوم البينة على رجل بقتل الخطأ فشهد اثنان من عاقلة
الجاني فجرح الشهود أو قامت البينة بمال على الموكل وعلى الموصي فشهد الوكيل
والوصي بجرح الشهود، فلا تقبل الشهادة في هذه المواضع وما شاكلها، لقوله
عليه السلام: لا يجوز شهادة خصم ولا ظنين - وهو المتهم -، وهؤلاء متهمون.
لا تقبل شهادة عدو على عدوه، والعداوة ضربان: دينية ودنيوية.
فالدينية لا ترد بها الشهادة مثل عداوة المسلم للمشركين، لا ترد بها شهادتهم،
لأنها عداوة في الدين وهي طاعة وقربة بل هي واجبة، وهكذا عداوة الكفار
للمسلمين لا ترد شهادتهم بها إنما ترد لفسقهم وكفرهم لا للعداوة، ألا ترى أنا نرد
شهادتهم بعضهم على بعض ولبعض وإن لم يكن هناك عداوة، وهكذا شهادة أهل
الحق لأهل الأهواء تقبل لأنهم يعادونهم في الدين.
وأما العداوة الدنيوية فإنها ترد بها الشهادة عند قوم، مثل أن يقذف رجل رجلا
ثم يشهد المقذوف على القاذف، أو ادعى رجل أن فلانا قطع عليه وعلى رفيقه
الطريق ثم شهد عليه فإن شهادته لا تقبل، وهكذا إذا شهد الزوج على زوجته بالزنى،
فإن شهادته لا تقبل، وما أشبه هذه من المواضع التي تعلم بحكم العادة أنه يحصل
فيها تهمة للشاهد.
وقال قوم: العداوة لا ترد بها الشهادة بحال، والأول أقوى عندنا، وأما شهادة
العدو لعدوه فإنها تقبل لأن التهمة معدومة كما لو شهد الوالد على ولده.
شهادة الوالد لولده وولد ولده وإن نزلوا، عندنا تقبل، وعندهم لا تقبل،
وكذلك شهادة الولد لوالده وجده وجداته وإن علوا، تقبل عندنا وعندهم لا تقبل
لأجل التهمة، فأما إن شهد الولد على والده فعندنا لا تقبل بحال وعندهم إن شهد
215

بحق لا يتعلق بالبدن كالمال والنكاح والطلاق وغيره قبل لانتفاء التهمة وإن شهد
عليه بحق يتعلق ببدنه كالقصاص وحد الفرية، قال قوم: لا تقبل، وقال آخرون -
وهو الأصح عندهم -: أنها تقبل.
إذا أعتق الرجل عبدا ثم شهد المعتق لمولاه، فإن شهادته تقبل، وقال بعضهم:
لا تقبل، والأول أصح.
من كان الغالب من حاله السلامة والغلط نادر منه، قبلت شهادته، وإن كان
الغالب الغلط والغفلة، والسلامة نادرة لم تقبل، لأنا لو قبلنا ذلك أدى إلى قبول
شهادة المغفلين ولو لم تقبل إلا ممن لا يغلط، أدى إلى أن لا نقبل شهادة أحد لأن
أحدا لا يخلو من ذلك، فاعتبرنا الأغلب.
تقبل شهادة كل واحد من الزوجين للآخر، وبه قال جماعة، وقال قوم: لا
تقبل، وقال بعضهم: تقبل شهادة الزوج لزوجته ولا تقبل شهادة الزوجة لزوجها.
تقبل شهادة الصديق لصديقه بكل حال سواء كان بينهما ملاطفة أو لم يكن،
وقال بعضهم: إن كان بينهما ملاطفة وهدية لا تقبل.
كل من خالف الحق قد بينا أنه لا تقبل شهادته، سواء كان ممن يكفر أو يفسق
وسواء كان فسقه على وجه التدين أو على غير وجه التدين، ومن وافق الحق لا تقبل
شهادته إلا إذا كان عدلا لا يعرف بشئ من الفسق، وقال قوم: من كان فاسقا على
وجه التدين به فلا ترد شهادته، وإنما يرد من فسق بأفعال الجوارح من الزنى واللواط
وشرب الخمر والقذف وغير ذلك.
وقال قوم: أهل الأهواء على ثلاثة أضرب: من يكفر، ومن يفسق ولا يكفر،
ومن يخطأ ولا يفسق، فمن لا يفسق فهو المخالف في الفروع، فهؤلاء لا ترد
شهادتهم لأجل هذا الخلاف، ومن يفسق ولا يكفر فهو من يشتم الصحابة
كالخوارج والروافض، فهؤلاء لا تقبل شهادتهم، ومن يكفر فهو من قال بخلق القرآن
والرؤية، ومنهم من قال: هؤلاء يستتابون فإن تابوا وإلا ضربت رقابهم.
الخطابية لا تقبل شهادتهم عندنا بحال، وقال بعضهم: هم يعتقدون أن الكذب
216

حرام لا يجوز، لكن يرون أن إذا حلف لهم أخ لهم في الدين أن له دينا على غيره جاز
حينئذ أن يشهد له بذلك، وهذا عندنا لا يجوز بحال.
من يرى إباحة دم رجل وماله فإذا شهد عليه لم تقبل شهادته لأنه يشهد بالزور،
ومن يشتم غيره على سبيل العناد والمعصية، ردت شهادته، وإن كان متدينا به لم ترد
شهادته، قال قوم: كل من ذهب إلى شئ بتأويل محتمل لم ترد شهادته به، من
ذلك من شرب النبيذ، قال: نحده ولا ترد شهادته، وكذلك من استحل سفك
الدماء وإتلاف الأموال بتأويل محتمل لا ترد شهادته كالبغاة، وكل من اعتقد شيئا
بتأويل باطل ردت شهادته مثل من سب السلف، من الخوارج وأمثالهم، وكذلك
من كفر، وعندنا أن كل هؤلاء إذا أخطؤوا وسلكوا غير طريق الحق فلا تقبل شهادتهم،
فأما من يختلف من أصحابنا المعتقدين للحق في شئ من الفروع التي لا دليل عليها
موجبا للعلم، فإنا لا نرد شهادتهم بل نقبلها.
اللاعب بالشطرنج عندنا لا تقبل شهادته بحال، وكذلك النرد والأربعة عشر،
وغير ذلك من أنواع القمار، سواء كان على وجه المقامرة أو لم يكن.
وقال بعضهم: من لعب به لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يلعب بعوض أو
بغيره.
فإن لعب بعوض نظرت: فإن كان قمارا وهو أن يخرج كل واحد منهما شيئا
على أن من غلب كان المخرج كله له، فهو القمار وأكل المال بالباطل، ترد به
شهادته، وإن كان العوض غير قمار وهو على معنى النضال والمسابقة على الخيل
مثل أن يخرج العوض أحدهما فيقول: إن غلبتني فهو لك وإن غلبتك فلا شئ لك
ولا لي، فهذا لا ترد به شهادته.
فأما إن كان بغير عوض، فإما أن يترك الصلاة أو لا يترك.
فإن ترك الصلاة حتى يخرج وقتها، فإن كان عامدا فقد فسق بترك الصلاة لا
باللعب بالشطرنج، لأن فعل هذا فسق وإن كان لتشاغله بصلاة النافلة، وإن كان
ترك الصلاة بغير عمد مثل أن فاته وقت الصلاة لتشاغله بها ولم يعلم ذلك، فإن كان
217

هذا مرة واحدة لم ترد شهادته وإن كان الخطأ موضوعا عنه، وإن تكرر هذا منه فسق
وردت شهادته.
وإن كان محافظا على صلاته مداوما عليها في أوقاتها وإنما يتشاغل بها في غير
أوقاتها لم يحرم ذلك عليه غير أنه مكروه، وقال بعض التابعين - وهو سعيد بن المسيب
وسعيد بن جبير -: أنه مباح طلق، وذكر أنه كان يلعب به استدبارا ومعناه أن يولي ظهره
ويقول بما ذا أدفع فإذا قالوا له: ادفع بكذا، يقول: فادفع أنت بكذا.
وأما اللعب بالحمام فإن اقتناها للأنس بها وطلب فائدتها من فراخ ونقل الكتب
من بلد إلى بلد لم يكره ذلك، لما روي أن رجلا شكا إلى رسول الله الوحدة فقال:
اتخذ زوجا من الحمام، وإن اقتناها للعب بها وهو أن يطيرها في السماء ونحو هذا،
فإنه مكروه عندنا، وعندهم هو مثل الشطرنج سواء، وقد مضى ذكره.
الشراب ضربان: خمر وغير خمر.
فالخمر عصير العنب الذي لم تمسه النار ولا خالطه ماء، وهو إذا اشتد
وأسكر، فإذا كان كذلك فمتى شرب منه ولو قطرة واحدة مع العلم بالتحريم حددناه
وفسقناه ورددنا شهادته بلا خلاف، وإن باعها وأخذ ثمنها فسق وردت شهادته لقوله
عليه السلام: لعن الله الخمر ولعن بائعها، فأما إن اتخذ الخمر قال قوم: لا ترد
شهادته بذلك لأنه قد يغيرها إلى غير ذلك بأن يخللها أو يقلبها، وهذا قوي، وإن كان
الأظهر في الروايات يقتضي تفسيقه إذا قصد به اتخاذ الخمر.
فأما غيرها من المسكرات وهو ما عمل من تمر أو زبيب أو عسل أو ذرة،
جملته كل ما مسته نار أو طرح فيها ماء، فإذا اشتد وأسكر، فإن شرب منه حتى يسكر
ردت شهادته بلا خلاف، لأنه مجمع على تحريمه، وإن شرب منه اليسير الذي لا
يسكر حددناه وفسقناه ورددنا نحن شهادته، وقال من وافقنا في التحريم والتفسيق:
إنا لا نرد شهادته، وسواء شربه من يعتقد إباحته أو تحريمه، وفيهم من قال مثل ما
قلناه، وجملته أن عندنا حكمه حكم الخمر سواء.
فأما ما لا يسكر من الأشربة وهو عصير العنب قبل أن يشتد، وكذلك ما عمل
218

من تمر وغيره قبل أن يسكر فكله حلال، ولا يكره شربه، وأما الخليطان والمنصف
فقد كره شربهما قوم، - والمنصف ما عمل من تمر ورطب، والخليطان ما عمل من
بسر ورطب -، لما روي عن النبي أنه نهى عن المنصف والخليطين، وعندي
لا كراهية في ذلك ما لم يكن مسكرا.
قد بينا أن سائر أنواع القمار من النرد والأربعة عشر حكمه حكم الشطرنج يفسق
به وترد به شهادته، والأربعة عشر تسمى " الجرة " - وهي قطعة من خشب يحفر فيها
ثلاثة أسطر فيجعل في تلك الحفر شئ من الحصى الصغار ونحوها يلعبون بها
" والقرق " وقال أهل اللغة: هي القرقة، ويقال لها بالفارسية " سدرة " - وهي دائرة
مربعة يخط فيها خطان كان كالصليب ويجعل على رؤوس الخط حصى يلعبون بها -.
الغناء من الصوت ممدود، ومن المال مقصور كما أن الهواء من الجو ممدود و
من النفس مقصور، فإذا ثبت هذا فالغناء عندنا محرم يفسق فاعله، وترد شهادته،
وقال بعضهم: هو مكروه، فأما ثمن المغنيات فليس بحرام إجماعا لأنها تصلح لغير
الغناء من الاستمتاع بها وخدمتها، ومن قال: الغناء مباح، استدل بما روي عن
عائشة أنها قالت: كانت عندي جاريتان تغنيان فدخل أبو بكر فقال: من قرر الشيطان
في بيت رسول الله صلى الله عليه وآله؟ فقال النبي عليه السلام: دعها فإنها أيام
عيد، وقال عمر: الغناء زاد الراكب، وكان لعثمان جاريتان تغنيان من الليل، فإذا
جاء وقت السحر قال: أمسكا فهذا وقت الاستغفار، قالوا: وهذا كله محمول على
نشيد الأعراب مثل الحداء وغير ذلك، وعندنا أن هذه أخبار آحاد لا يلتفت إليها وفعل
من لا يجب اتباعه، وقد قلنا: إن عندنا ترد به شهادته.
وقال بعضهم فيها ثلاث مسائل:
أحدها: إذا اتخذ الغناء صناعة يؤتى عليه ويأتي له، ويكون منسوبا إليه مشهورا
به - والمرأة كذلك -، ردت شهادتهما، لأنه سفه وسقوط مروءة، ولو كان لا ينسب
نفسه إليه وإنما يعرف أنه يطرب في الحال فيترنم فيها ولا يؤتى لذلك ولا يأتي له ولا
يرضى به لم تسقط شهادته وكذلك المرأة.
219

الثانية: إذا اتخذ الرجل غلاما أو جارية مغنيين، فإن كان يجتمع عليهما
ويغشاهما الناس فهذا سفه ترد به شهادته، وهو في الجارية أكثر، لأن فيه سفها
ودناءة، وإن كان لا يجتمع عليهما ولا يغشاهما الناس كره ذلك له، ولم ترد
شهادته، لأنه لم تسقط مروءته.
الثالثة: إذا كان يغشى بيوت الغناء ويغشاه المغنون للسماع منه، فإن كان في
خفية لم ترد شهادته، وإن كان ذلك منه مستعلنا به ظاهرا فإن قل ذلك منه لم ترد به
شهادته وإن كان ذلك منه كثيرا ردت شهادته، لأنه سفه وترك مروءة.
وجملته عندهم أن الأصوات على ثلاثة أضرب: مكروه ومحرم ومباح.
فالمكروه صوت المغني والقصب معا، لأنه وإن كان بآلة فهو تابع للصوت
والغناء، فلهذا كان مكروها، وهو عندنا حرام من الفاعل والمستمع ترد به شهادتهما.
وأما المحرم وهو صوت الأوتار والنايات والمزامير كلها، فالأوتار العود
والطنابير والمعزفة والرباب فالنايات والمزامير معروفة، وعندنا كذلك محرم ترد شهادة
الفاعل والمستمع.
روي أن النبي صلى الله عليه وآله قال: إن الله حرم على أمتي الخمر والميسر
والمرز والكوبة والقنين - فالمرز شراب الذرة، والكوبة الطبل، والقنين البربط -،
والتفسير في الخبر.
وروى محمد بن علي المعروف بابن الحنيفة عن علي عليه السلام أن النبي
عليه وآله السلام قال: إذا كان في أمتي خمس عشرة خصلة حل بهم البلاء: إذا
اتخذوا الغنيمة دولة والأمانة مغنما، والزكاة مغرما، وأطاع الرجل زوجته، وجفا
أباه، وعق أمه، ولبسوا الحرير، وشربوا الخمر، واشتروا المغنيات والمعازف،
وكان زعيم القوم أرذلهم وأكرم الرجل السوء خوفا منه، وارتفعت الأصوات في
المساجد، وسب آخر هذه الأمة أولها، وفي بعضها ولعن آخر هذه الأمة أولها، فعند
ذلك يرقبون ثلاثا: ريحا حمراء وخسفا ومسخا.
فإذا ثبت أن استماعه محرم إجماعا فمن استمع إلى ذلك فقد ارتكب معصية
220

مجمعا على تحريمها، فمن فعل ذلك أو استمع إليه عمدا ردت شهادته.
وأما المباح فالدف عند النكاح والختان، لما روى ابن مسعود أن النبي
عليه السلام قال: أعلنوا النكاح، واضربوا عليها بالغربال - يعني الدف - وروي أنه
عليه السلام قال: فصل ما بين الحلال والحرام الضرب بالدف عند النكاح، وعندنا أن
ذلك مكروه غير أنه لا ترد به شهادته، فأما في غير الختان والعرس فمحرم.
وأما الحداء وهو الشعر الذي تحث به العرب الإبل على الإسراع في السير،
فهو مباح وهو ممدود لأنه من الأصوات كالدعاء والنداء والثغاء والرغاء، وفيه لغتان
" حداء وحداء " والضم أقيس لأن أوائل الأصوات مضمومة كالدعاء والثغاء والخوار،
والكسر جائز كالغناء والنداء، وإنما قلنا إنه مباح لما رواه ابن مسعود قال: كان مع
رسول الله صلى الله عليه وآله ليلة نام في الوادي حاديان، وروي عن عائشة أنها
قالت: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله في سفر وكان عبد الله بن رواحة جيد
الحداء وكان مع الرجال، وأنجشة مع النساء فقال النبي صلى الله عليه وآله لعبد الله
ابن رواحة: حرك بالقوم، فاندفع يرتجز فتبعه أنجشة فاعتنقت الإبل فقال عليه السلام
لأنجشة: رويدك رفقا بالقوارير، يعني النساء.
وروي أن النبي صلى الله عليه وآله كان في سفر فأدرك ركبا من تميم معهم
حاد، فأمره بأن يحدو وقال: إن حادينا نام آخر الليل، فقالوا: يا رسول الله نحن أول
العرب حداء بالإبل، قال: وكيف؟ قالوا: كانت العرب تغير بعضها على بعض فأغار
رجل منا على إبل فاستاقها فتبددت الإبل، فغضب على غلامه فضربه بالعصا
فأصابت يده، فنادى وا يداه وا يداه فجعلت الإبل تجتمع، فقال له: هكذا فقل - يعني
قل وا يداه - فقال، والنبي يضحك، فقال: من أنتم؟ قالوا: من مضر، فقال رسول الله
صلى الله عليه وآله: ونحن من مضر، فكيف كنتم أول العرب؟ فانتسب رسول الله
صلى الله عليه وآله تلك الليلة حتى بلغ بالنسب إلى مضر، وضحك النبي
عليه السلام من قولهم نحن أول العرب حداء، ثم قالوا: نحن من مضر، فقال النبي صلى
الله عليه وآله: ونحن أيضا من مضر فكيف كنتم أول العرب حداء؟
221

فأما الكلام في الشعر فهو مباح أيضا، ما لم يكن فيه هجو ولا فحش، ولا
تشبيب بامرأة لا يعرفها، ولا كثرة الكذب على كراهية رواها أصحابنا في ذلك.
روى عمرو بن الشريد عن أبيه قال: أردفني رسول الله صلى الله عليه وآله فقال:
هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شئ؟ قال: قلت، نعم، قال: هيه، قال:
فأنشدته بيتا، فقال: هيه، فأنشدته حتى بلغت مائة بيت - هيه معناه الحث
والاستزادة، وأصله إيه فقلبت الهمزة هاء فقيل هيه، وإذا وقفت قل هيه من غير
تنوين، فإذا وصلت قلت إيه حديثا وإذا كففت وزجرت قلت إيها، وإذا تعجبت
قلت واها - فهي أربع كلمات: إيه استزادة، وإيها كف وزجر، وويها إغراء، وواها
تعجب.
وروى جابر بن سمرة قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وآله أكثر من
مائة مرة وكان أصحابه ينشدون الأشعار ويذكرون أخبار الجاهلية قديما.
وروي أن النبي عليه السلام أنشد بيت طرفة بن العبد:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك من لم تزود بالأخبار
فقال بعض الحاضرين الشعر: ويأتيك بالأخبار من لم تزود، فقال: ما لي
والشعر؟ وما للشعر ولي؟ فالنبي عليه وآله السلام ما أنكر على القائل إنشاد الشعر.
فإذا ثبت أنه مباح فقد روي كثير مما سمعه النبي عليه السلام ولم ينكره، فمن
ذلك ما روي أن النبي عليه السلام لما هاجر إلى المدينة استقبله فتيان المدينة و
أنشدوا:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
ومر رسول الله صلى الله عليه وآله ببعض أزقة المدينة فسمع جواري لبني
النجار ينشدون:
نحن جوار من بني النجار يا حبذا محمد من جار
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: وأنا أحبكن.
222

وروي أنه كان في وليمة فسمع عجوزا تنشد:
أهدى لنا أكبشا تنيخ في المربد زوجك ذا في الندي يعلم ما في غد
فقال النبي عليه السلام: سبحان الله لا يعلم ما في غد إلا هو.
ومر مالك بن أنس بباب قوم فسمع رجلا ينشد:
أنت أختي وأنت حرمة جاري وحقيق علي حفظ الجوار
أنا للجار إذ يغيب عنا حافظ للمغيب في الأسرار
ما أبالي أكان للباب ستر مسبل أم بقي بغير ستار
فدفع مالك الباب وقال: علموا فتيانكم مثل هذا الشعر.
وسئل بعضهم هل يجوز للرجل أن يتزوج امرأة ويصدقها شعرا؟ فقال: إن كان
كقول الشاعر:
يود المرء أن يعطي مناه ويأبى الله إلا ما أرادا
يقول المرء فائدتي ومالي وتقوى الله أفضل ما استفادا
جاز.
يستحب لمن يقرأ القرآن أن يحسن به صوته قدر الإمكان، لما روى البراء بن
عازب أن النبي عليه السلام قال: حسنوا القرآن بأصواتكم، وروي عنه عليه السلام
أنه قال: ما أذن الله بشئ كإذنه لنبي حسن الترنم بالقرآن.
وروي أن النبي عليه السلام سمع عبد الله بن قيس يقرأ - يعني أبا موسى
الأشعري - فقال: لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير داود، وقال أبو موسى: وقال لي
رسول الله: لو رأيتني وأنا أسمع قراءتك، فقلت لو علمت أنك تسمعني لحبرته
تحبيرا.
وروي عنه عليه السلام أنه قال: ليس منا من لم يتغن بالقرآن، وقيل في أحد
تأويلاته - يعني يحسن صوته -، وقيل معناه يستغني به من غنى المال.
فإذا ثبت هذا فالمستحب أن يأتي به حدرا بترتيل وحزن فيه لقوله تعالى: " ورتل
القرآن ترتيلا " فأما الترنم بأن يزمزم به فهو مباح.
223

فأما من قرأ بالألحان نظرت: فإن كان يبين الحروف ولا يدغم بعضها في بعض
فهو مستحب وإن كان يدغم بعض الحروف في بعض ولا يفهم ما يقول، كره ذلك.
إذا أحب الرجل قومه وعشيرته فهو من المندوبات إليها والمرغوب فيها، لقوله
عليه السلام: تهادوا تحابوا، فأمر بذلك، وقال عليه السلام: لا تحاسدوا ولا تدابروا
ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانا وروي أنه عليه السلام آخى بين أصحابه، وقوله
تعالى " إنما المؤمنون إخوة " دليل عليه.
فأما العصبية فإن يبغض الرجل لأنه من بني فلان فهذا ممنوع منه، فإذا حصل
هذا في نفسه فإن أبغضه بقلبه وأضمرها ولم يشتهر بها فلا شئ عليه ولا يرد شهادته
وإن تظاهر بها ودعا إليها وتألف عليها ولم يكن منه سب ولا قول الفحش فيهم فهو
عدو لهم ترد شهادته عليهم، فإن ذكر فحشا ووقع في السب فهو فاسق مردود
الشهادة في حق كل أحد، لأنه أتى ما أجمع المسلمون على تحريمه.
إذا أنشأ الرجل شعرا وأنشده نظرت: فإن لم يكن فيه هجو ولا فحش ولا كذب
كان مباحا على كراهية فيه عندنا، وقد مضى لقوله عليه السلام: إن من الشعر لحكمة
وإن من البيان لسحرا ثبت أنه مباح وقوله تعالى " والشعراء يتبعهم الغاوون " المراد به
من يكذب منهم لقوله جلت عظمته " ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا
يفعلون " فأما غيرهم فلا بأس عليهم، لقوله تعالى " إلا الذين آمنوا وعملوا
الصالحات ".
فإذا ثبت هذا فإن كان كذلك لا ينتقص المسلمون ولا يؤذيهم، وإذا مدح لم
يكذب لم ترد شهادته، وإن كان يمدح الناس ويأخذ على المدح ويكثر الكذب
فيه، فإذا منعوه ذكر الوقيعة فيهم وكذلك إذا غضب وقع فيهم، وكان ذلك علانية
ظاهرا كذبا محضا، ردت شهادته، وإن تشبب بامرأة ووصفها في شعره نظرت: فإن
كانت ممن لا يحل له وطؤها ردت شهادته، وإن كانت ممن تحل له كالزوجة والأمة
كره ولم ترد شهادته، وإن تشبب بامرأة مبهما ولم تعرف كره ولم ترد شهادته لجواز أن
تكون ممن تحل له، والشاعر المستهتر أن يقذفها بنفسه فيقول: فعلت بها كذا، ولم
224

يكن فعل، وإن كان قد فعل فهو الابتهار.
فأما هجو المشركين فمباح لأن النبي صلى الله عليه وآله قال لحسان: واهجهم
وجبرئيل معك، وقال لحسان: أهج قريشا فإن الهجو أشد عليهم من رشق النبل،
وقال له: اهجهم وشف واشتف، فثبت أن هجوهم مباح.
شهادة ولد الزنى إذا كان عدلا مقبولة عند قوم في الزنى وفي غيره، وهو قوي، لكن
أخبار أصحابنا تدل على أنه لا تقبل شهادته وكذلك كل من أتى معصية فحد فيها ثم
تاب وأصلح فشهد بها قبلت، وقال بعضهم: لا تقبل شهادة ولد الزنى، وكل من حد
في معصية لا أقبل شهادته بها كالزاني والقاذف وشارب الخمر، متى حد واحد منهم
بشئ من هذا ثم شهد به، لم تقبل شهادته، والأول مذهبنا.
شهادة البدوي مقبولة على القروي والبلدي وشهادة القروي مقبولة على البلدي
والبدوي وشهادة البلدي مقبولة على البدوي والقروي، كل هؤلاء تقبل شهادة
بعضهم على بعض عندنا، وعند الأكثر، وقال بعضهم: لا أقبل شهادة البدوي
على الحضري إلا في الجراح.
إذا شهد صبي أو عبد أو كافر عند الحاكم فردهم ثم بلغ الصبي وأعتق العبد
وأسلم الكافر، فأعادها قبلت، ولو شهد بالغ مسلم بشهادة فبحث عن حاله فبان
فاسقا ثم عدل فأقامها بعينها قبلت شهادته عندنا، وعند الأكثر لا تسمع، ولا يحكم
بها، وفيه خلاف.
إذا سمع الشاهد رجلا يقر بدين فيقول: لفلان علي ألف درهم، صار السامع له
شاهدا بالدين سواء قال المقر: اشهد علي بذلك، أو لم يقل، وكذلك إذا شاهد رجلين
تعاقدا عقدا كالبيع والصلح والإجارة والنكاح وغير ذلك، وسمع كلام العاقد صار
شاهدا بذلك، وكذلك الأفعال كالغصب والقتل والإتلاف يصير به شاهدا.
وكذلك إذا كان بين رجلين خلف في حساب فحضرا بين يدي شاهدين
وقالا لهما: قد حضرنا لنتصادق فلا تحفظا علينا ما يقر به كل واحد منا لصاحبه، ثم
225

حصل من كل واحد منهما إقرار لصاحبه بالدين، صارا شاهدين، ولا يلتفت إلى
تلك المواعدة، والحكم في الإقرار والعقود والإتلاف واحد بلا خلاف لأن الشاهد
بالحق من علم به، فمتى علمه صار شاهدا به.
وأما شهادة المختبئ فمقبولة عند قوم، وهو إذا كان على رجل دين يعترف به
سرا ويجحده جهرا فاحتال صاحب الدين فخبأ له شاهدين يريانه وهو لا يراهما ثم
جاراه فاعترف به وسمعا وشهدا به صحت الشهادة، وهو مذهبنا، وخالف فيه
شريح فقط.
إذا مات رجل وخلف تركة وابنين فادعى أجنبي دينا على الميت، فإن اعترف
الابنان به استوفي من حقهما معا، وإن اعترف أحدهما دون أخيه فإن كان المعترف
عدلا فهو شاهد للمدعي، وإن كان مع المدعي شاهد آخر شهدا له بالحق وحكم
له به واستوفى الدين من حقهما، وإن لم يكن معه شاهد آخر، نظرت: فإن حلف مع
شاهده ثبت الدين، وإن لم يحلف أو لم يكن المعترف عدلا كان له نصف الدين
في حصة المقر عندنا وعند جماعة، وقال قوم: يأخذ جميع الدين من نصيب
المقر.
فإن خلف ابنين وتركة فادعى أجنبي أن أباهما أوصى له بثلث ماله، فاعترف
أحدهما وأنكر الآخر، فإن كان المقر عدلا وكان مع المدعي شاهد آخر، شهدا
معا بما ادعاه، وكان له ثلث التركة، وإن لم يكن معه شاهد سواه، فإن حلف مع
شاهده ثبت له ثلث التركة أيضا، وإن لم يحلف أو لم يكن المقر عدلا ثبت له نصف
الثلث في حصة المقر عندنا وعند الأكثر، ووافق في الوصية من خالف في الدين.
فصل: في الشهادة على الشهادة:
الشهادة على الشهادة جائزة لقوله تعالى " واستشهدوا شهيدين من رجالكم "
ولم يفصل، فإذا ثبت جوازها لم يخل الحق من أحد أمرين: إما أن يكون لله
أو للآدميين.
226

فإن كان لآدمي ثبت بالشهادة على الشهادة سواء كان الحق مما لا يثبت إلا
بشاهدين كالنكاح والخلع والطلاق والرجعة والقذف والنسب والقصاص والكتابة،
أو مما يثبت بشاهدين أو شاهد وامرأتين أو شاهد ويمين، وهو ما كان مالا أو
المقصود منه المال أو كان مما يثبت بالنساء وحدهن وهو مما لا يطلع عليه
الرجال كالولادة والرضاع عندهم والعيوب تحت الثياب والاستهلال، وقال بعضهم:
لا يثبت بالشهادة على الشهادة.
وإن كان حقا لله وهو حد الزنى واللواط والقطع في السرقة وشرب الخمر قال
قوم: لا يثبت بالشهادة على الشهادة، وهو مذهبنا، وقال بعضهم: يثبت.
فإذا ثبت هذا فالكلام في فصلين: في كيفية التحمل وكيفية الأداء.
أما التحمل وهو أن يصير شاهد الفرع متحملا لشهادة شاهد الأصل فإنه يصح
بأحد أسباب ثلاثة:
أحدها: الاسترعاء، وهو أن يقول شاهد الأصل لشاهد الفرع: أشهد أن لفلان
بن فلان على فلان بن فلان ألف درهم فاشهد على شهادتي، فهذا هو الاسترعاء.
الثاني: أن يسمع شاهد الفرع شاهد الأصل يشهد بالحق عند الحاكم فإذا سمعه
يشهد به عند الحاكم صار متحملا لشهادته.
الثالث: أن يشهد الأصل بالحق ويعزيه إلى سبب وجوبه، فيقول: أشهد أن
لفلان بن فلان على فلان بن فلان ألف درهم من ثمن ثوب أو عبد أو دار أو ضمان أو
دين أو إتلاف ونحو هذا، فإذا عزاه إلى سبب وجوبه صار متحملا للشهادة.
فأما إن لم يكن هناك استرعاء ولا سمعه يشهد به عند الحاكم ولا عزاه إلى سبب
وجوبه مثل أن سمعه يقول: أشهد أن لفلان بن فلان على فلان بن فلان ألف درهم،
فإنه لا يصير بهذا متحملا للشهادة على شهادته لأن قوله: أشهد بذلك، ينقسم إلى
الشهادة بالحق ويحتمل العلم به على وجه لا يشهد به، وهو أن يسمع الناس
يقولون: لفلان على فلان كذا وكذا، وقف التحمل لهذا الاحتمال فإذا استرعاه أو شهد
به عند الحاكم أو عزاه إلى سبب وجوبه زال الإشكال.
227

فأما الكلام في الأداء فإن يأتي به على صفة التحمل.
فإن كان التحمل بالاسترعاء أبانه، فقال: أشهد أن فلان بن فلان الشاهد شهد
على فلان بن فلان لفلان بن فلان بكذا، وقال لي: اشهد على شهادتي.
وإن كان التحمل بأن سمعه عند الحاكم قال: أشهد أن فلان بن فلان الشاهد
شهد بكذا وكذا عند الحاكم.
فإن كان التحمل بأن عزاه إلى سبب وجوبه أبانه فقال: أشهد أن فلان بن فلان
الشاهد لفلان بن فلان على فلان بن فلان بألف درهم من جهة كذا وكذا.
فإذا أتى بها كذلك سمعها الحاكم وحكم بها، فإن أخل بشئ من هذا لم يحكم
بها.
إذا قال شاهد الأصل لشاهد الفرع: أنا أشهد أن لفلان بن فلان على فلان بن
فلان كذا وكذا، فاشهد أنت بها عليه، لم يكن شاهد الفرع شاهدا بالحق، ولا
شاهدا على شهادة الأصل، لأن شاهد الأصل ما استرعاه، فإذا لم يكن هناك استرعاء
لم يصر شاهدا على شهادة الأصل، ولا يكون شاهدا بالحق لأنه إنما يصير متحملا
للشهادة بالحق بأن يعلم به باعتراف من عليه الحق، فأما بقول شاهد الأصل له:
اشهد به، فلا يصير عالما به، ولهذا لم يكن شاهدا بالحق.
فأما بيان الموضع الذي تقبل شهادة الفرع، ويعمل الحاكم بها، فجملته أنه لا
يقضي بشهادة الفرع حتى يتعذر على الأصل إقامتها، فأما إن كان شاهد الأصل
موجودا قادرا على أداء شهادة نفسه، فالحاكم لا يقضي بشاهد الفرع لأنه إذا كان
الأصل حاضرا بحث عن حاله وحده، فلو سمع الفرع افتقر إلى البحث عن حاله
وحال الأصل، فلا معنى للبحث عن حال اثنين مع الاقتصار على واحد.
فأما إن تعذرت شهادة الأصل بأن مات الأصل سمع من الفرع، وقضي بشهادته
وإن مرض الأصل فكذلك أيضا لأن على الأصل مشقة في الحضور، وإن كان غائبا
فما القدر من المسافة التي تقبل فيها شهادة الأصل؟ قال قوم: ما يقصر فيها الصلاة،
فإن كان أقل من ذلك لم تسمع من الفرع وقال بعضهم: إن كان على مسافة يمكنه
228

أن يحضر لإقامتها ثم يعود إلى منزله فيبيت فيه لم تسمع من الفرع، وإن كان أكثر من
ذلك فالاعتبار عندنا بالمشقة، فإن كان عليه مشقة في الحضور حكم بشهادة الفرع
وإن لم يكن عليه مشقة لم يحكم، وهو قريب مما قاله القائل الأخير لأنه إذا لم يبت
في منزلة شق عليه.
فإن سمع الحاكم من الفرع والأصل مريض أو غائب ثم قدم الغائب وبرأ
المريض، لم يخل من أحد أمرين: إما أن يكون بعد حكم الحاكم أو قبله. فإن
كان بعد حكمه لم يقدح ذلك في حكمه لأن حكمه قد نفذ قبل حضور
الأصل.
وإن كان قبل حكم الحاكم بشهادة الفرع لم يحكم الحاكم بشهادة الفرع، لأنه
إنما يحكم بالفرع لتعذر الأصل، فإذا حضر زالت العلة.
وإن سمع الحاكم من الفرع في الموضع الذي يسوع له أن يسمع ويحكم
بشهادته، ثم تغيرت حال الأصل، كان الحكم فيه كما لو سمع من الأصل نفسه ثم
تغيرت حاله، فإن عمي الأصل أو خرس حكم بشهادة الفرع لأن الأصل لو شهد ثم
عمي أو خرس حكم بشهادته، وإن فسق الأصل لم يحكم بشهادة الفرع لأنه لو سمع
من الأصل ثم فسق لم يحكم بشهادته، لأن الفرع تثبت شهادة الأصل فإذا فسق
الأصل لم يبق هناك ما يثبته.
قال قوم: لا مدخل للنساء في الشهادة على الشهادة سواء كان الحق مما يشهد
فيه النساء كالأموال ونحوها أو يثبت بالنساء على الانفراد كالولادة والاستهلال أو لا
مدخل للنساء فيه كالنكاح والخلع.
وقال آخرون: إن كان الحق مما لشهادة النساء فيه مدخل كالأموال ونحوها كان
للنساء مدخل في الشهادة على الشهادة، وإن لم يكن للنساء فيه مدخل وهو
القصاص وحد القذف لم يكن لهن فيه مدخل، والأول أحوط عندنا والثاني أقوى.
إذا شهد شاهد الفرع على شهادة الأصل لم يخل من ثلاثة أحوال: إما أن يسميا
الأصل ويعدلاه أو يعدلاه ولا يسمياه أو يسمياه ولا يعدلاه.
229

فإن سمياه وعدلاه تثبت عدالته وشهادته، لأنهما عدلان، فإذا ثبتت شهادة
الأصل بقولهما ثبتت صفته وتزكيته وعدالته بقولها.
وإن عدلاه ولم يسمياه لم يحكم بقولهما، وقال ابن جرير: يحكم
بذلك، والأول أصح عندنا.
وأن سمياه ولم يعدلاه سمع الحاكم هذه الشهادة، وبحث عن عدالة الأصل،
فإن ثبتت عدالته حكم، وإلا وقف، وقال قوم: لا تسمع هذه الشهادة أصلا لأنهما
ما تركا تزكيته إلا لريبة، والأول أصح عندنا.
إذا ادعى عبدا في يد رجل فشهد له شاهد أنه غصبه وشهد آخر أنه أقر بالغصب
لم يحكم بهذه الشهادة، لأنها لم تتفق على فعل واحد، لأن الشهادة بالغصب
غير الشهادة بالإقرار، لكن له أن يحلف مع أيهما شاء ويحكم له، وإن كانت بحالها
فشهد أحدهما أنه غصبه، وشهد الآخر أنه ملكه، لم يحكم بها أيضا لما مضى، وله
أن يحلف مع أيهما شاء، فإن كانت بحالها فشهد شاهدان، أنه أخذه من يده،
قبلناهما ورددناه إلى يده، لأن الشاهدين أثبتا اليد فحكمنا بما شهدا فإذا صار إلى
يده كان كل واحد منهما على حجته إن كانت له.
فأما إن كان في يد رجل جارية فوطئها واستولدها فادعى مدع أنها له غصبها
منه، وأقام بذلك شاهدين، لم تخل الجارية في يده من أحد أمرين: إما أن يدعي
أنه وطئها بحق أو لا يدعي ذلك.
فإن لم يدع ذلك بل اعترف بالغصب رددنا الجارية إلى المدعي، وعلى
الغاصب أرش ما نقصت في يده بولادة أو غيرها وأجرة مثلها للمدة التي بقيت في
يده، وعلى الغاصب الحد، لأنه قد اعترف أنه غاصب، فأما المهر فإن كانت مكرهة
وجب مهر مثلها عليه، وإن طاوعته قال قوم: يجب المهر، وقال آخرون: لا يجب،
والذي رواه أصحابنا في مثل هذه أن عليه عشر قيمتها إن كانت بكرا ونصف عشر
قيمتها إن كانت ثيبا، وأما الولد فمملوك لأنه من زنا ولا يلحق نسبه ويرده إلى
230

المدعي مملوكا.
وأما إن ادعى من في يديه أنه وطئها بحق في ملك يمين أو زوجية رددناها إلى
المدعي وأرش النقص وأجرة المثل على ما مضى ولا حد عليه، لأنه قد ادعى شبهة
وعليه مهر المثل، لأنه قد اعترف أنه وطئ بشبهة، والولد حر الأصل، ونسبه لاحق
به وعليه قيمته يوم سقط حيا.
فإن شهدا على رجل أنه غصب هذا العبد من زيد فقال: صدقا وقد اشتريته من
زيد، فالقول قول زيد مع يمينه أنه ما باعه إياه لأنه قد اعترف له به، وقامت البينة به و
ادعى عليه الشراء، والأصل أنه ما باعه.
وإن هلكت جارية في يد رجل فشهد عليه شاهدان أنها غصب من زيد
ووصفاها بما تتصف به، ثبت أنه غاصب وعليه القيمة فيرجع إلى الشاهدين، فإن
شهدا بقيمتها حكمنا بذلك عليه، وإن مات الشاهدان قبل الشهادة بالقيمة، فالقول
قول الغاصب في قدر قيمتها إذا ذكر ما يمكن أن يكون قيمة جارية لأنه غارم، وإن
ذكر ما لا يمكن أن يكون قيمة جارية مثل أن قال: قيمتها نصف درهم، لم يلتفت إليه
لأنه كاذب، ويقال للمدعي: كم قيمتها؟ فإن ذكر قلنا للغاصب: قد ادعى عليك
أن قيمتها كذا وكذا فإن حلفت وإلا حلف المدعي واستحق.
قد ذكرنا أن شهادة العدو على عدوه لا تقبل، فإن شهدا عليه فسمعها الحاكم
ثم إن المشهود عليه قذف الشاهدين قبل الحكم بشهادتهما، حكم بشهادتهما عليه،
لأن الاعتبار بالعداوة حين الشهادة دون حال الحكم به، ولو قلنا: لا نحكم بشهادته،
أفضي إلى أن لا يحكم على أحد بشهادة غيره، لأنه متى شهد عليه بحق فإن المشهود
عليه يقذف الشاهد فتسقط شهادته فإذا أفضي إلى هذا سقط ولم ترد هذه الشهادة.
العدد الذي تثبت به شهادة الأصل، جملته أن الحقوق على ضربين: حق لله،
وحق لآدمي.
فحقوق الآدميين على ثلاثة أضرب: ما لا يثبت إلا بشاهدين، وهو كل ما لم
231

يكن مالا ولا المقصود منه المال ويطلع عليه الرجال، كالنكاح والطلاق والخلع
والرجعة والقصاص والقذف والعتق والنسب، وما كان مالا أو المقصود منه المال
يثبت بشاهدين وشاهد وامرأتين، وشاهد ويمين، وما لم يكن مالا ولا المقصود
منه المال ولا يطلع عليه الرجال يثبت بشهادة شاهدين وشاهد وامرأتين
وأربع نسوة عدول، وهو الولادة والاستهلال والعيوب تحت الثياب والرضاع
عندهم.
وحقوق الله على ثلاثة أضرب: ما يثبت بشاهدين كالسرقة وشرب الخمر وما لا
يثبت إلا بأربعة الزنى واللواط، وما اختلف فيه فالإقرار بالزنى، قال قوم: يثبت
بشاهدين، وقال آخرون: بأربعة.
فإذا ثبت هذا وكان حق للآدميين قد شهد به شاهدان مما لا يثبت إلا بهما
كالقصاص أو يثبت بهما وبغيرهما ولكن شهد به اثنان، فإذا شهد شهود الفرع على
شهادة شهود الأصل، ففيها ثلاث مسائل:
الأولى: شهد شاهدان على شهادة أحدهما وآخران على شهادة الآخر تثبت
شهادة الأصل بذلك بلا خلاف.
الثانية: شهد شاهد على شهادة أحدهما وآخر على شهادة الآخر لم تثبت بهذه
الشهادة ما شهدا به عندنا، وفيه خلاف.
الثالثة: شهد شاهدان على شهادة أحدهما ثم شهدا هما على شهادة الآخر، فأما
شهادة الأول فقد ثبتت، وتثبت عندنا شهادة الآخر، وقال بعضهم: لا تثبت شهادة
الآخر.
وأصل المسألة ما حكم شهود الفرع؟ قال قوم: يقومون مقام الأصل في إثبات
الحق، فعلى هذا لا تثبت شهادة الآخر إلا بآخرين، وقال آخرون: تثبت بشهادتهم
شهادة شهود الأصل فعلى هذا تثبت شهادة الآخر بالأولين وكذلك شهادة الآخر تثبت
بشهادتهما، وهو الصحيح عندنا.
وبقى الكلام في التفريع، فإذا كان الحق لآدمي وشهد شاهدان، فبكم تثبت
232

شهادتهما؟ فمن قال: شاهد الفرع يثبت بهما شهادة الأصل قال: تثبت شهادتهما
بشاهدين، ومن قال: شاهد الفرع يقوم مقام شاهد الأصل، فعلى هذا لا تثبت
شهادتهما إلا بأربعة شهود شاهدان على شهادة أحدهما، وآخران على شهادة الآخر،
وإن ثبت الحق بشاهد وامرأتين فبكم تثبت شهادة الثلاثة؟ فعلى قول الأول تثبت
شهادتهم بشهادة اثنين، وعلى قول الثاني تثبت شهادة الثلاثة بستة شهود، وإن كان
شاهد الأصل أربع نسوة فعلى قول الأول تثبت شهادتهن بشهادة اثنين، وعلى قول
الآخر بثمانية شهود.
فأما حقوق الله، فقد قلنا: إنها لا تثبت عندنا بالشهادة على الشهادة، ومن
قال: تثبت، نظرت: فإن كان الحق يثبت بشهادة شاهدين فالحكم على ما مضى في
حقوق الآدميين، فما يثبت بشهادة اثنين فعلى قول الأول بشهادة اثنين وعلى قول
الآخر بأربعة شهود، وإن كان الحق مما لا يثبت إلا بأربعة شهود، فعلى قول الأول
تثبت شهادتهم بشهادة اثنين، وعلى قول الآخر بثمانية رجال، وفيهم من قال: بستة
عشر شهود.
فخرج من ذلك في الشهادة على الشهادة في الزنى خمسة أقوال: أحدها - وهو
الصحيح عندنا - أنه لا يثبت بالشهادة على الشهادة، والثاني يثبت بشاهدين، و
الثالث بأربعة، والرابع بثمانية، والخامس بستة عشر.
وإن كان إقرارا بالزنى يثبت عند قوم بما يثبت به شرب الخمر، وقد مضى، وعند
آخرين بما يثبت به الزنى وقد مضى، وعندنا لا يثبت الإقرار بالزنى بالشهادة على
الشهادة فلا يثبت الزنى بالشهادة على الشهادة حتى يشهد أربعة شهود.
فإذا ثبت ذلك وشهد أربعة على إقراره بالزنى أو على رجل أو عليهما معا فلا حد
عليهم حتى يسألهم الحاكم عن ثلاثة أشياء: بمن زنا، وكيف زنا، وأين زنا؟
أما المسألة بمن زنا، لأن ماعزا لما اعترف عند النبي صلى الله عليه وآله بالزنى
أربعا قال له: الآن أقررت به، بمن؟ ولأن الشاهد قد يعتقدها محرمة عليه، ويجب
عليه الحد بوطئها ويكون بخلاف ذلك بأن تكون زوجته أو تكون جارية بينه وبين
233

شريكه، فلهذا وجبت المسألة، وأيضا فقد يعتقد الزنى فيما ليس بزنى، فإن في الناس
من يعتقد أن الاستمتاع زنا، فإذا سألهم فإن قالوا: بأجنبية، يحد بوطئها فقد ثبت
الزنى، وإن ذكروا وطء شبهة فلا حد، وإن ذكروا لواطا بغلام أو امرأة قال قوم: هو
كالزنا، وقال آخرون: يقتل، وهو مذهبنا وفيه خلاف.
فإن ذكروا أنه أتى بهيمة، فعندنا فيه التعزير، وقال قوم: هو كاللواط، فمن قال:
هو كاللواط، لم يثبت إلا بأربعة، ومن قال: فيه التعزير، منهم من قال: يثبت
بشاهدين وهو الذي نقوله، ومنهم من قال: بأربعة.
وإن ذكروا أنه استمنى، فالاستمناء محرم لقوله تعالى: " والذين هم لفروجهم
حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم " وهذا ليس بواحد منهما، ثم قال:
" فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون " وهذا من وراء ذلك، وقال عليه السلام:
ملعون سبعة، ذكر منهم ناكح نفسه، فإن كان جاهلا بالتحريم عرفناه ونهيناه، فإن
عاد عزرناه.
فأما مسألة كيف زنا؟ فلأنه مجمع عليه، ولأن من الناس من لا يعرف كيفية
الزنى، فإنهم قد يصرحون بالزنى فيما لا يجب به الحد لقوله عليه السلام: العينان
تزنيان، والرجلان تزنيان والفرج يصدق ذلك ويكذبه، ولأن في الناس من يعد الوطء
فيما دون الفرج زنا يوجب الحد، فإذا سأله عن كيفيته فإن صرحوا بالزنى وهو أن يقولوا
رأينا منه ذلك يدخل في الفرج مثل الميل في المكحلة، وأثبتوه حتى تغيب الحشفة،
فإذا صرحوا بهذا فقد وجب الحد.
فإن جاء أربعة ليشهدوا عليه بالزنى فشهد ثلاثة وعرض الرابع فقال: رأيته على
بطنها أو رأيت ذاك منه فوق فرجها، فلا حد على المشهود عليه، لأن العدد ما تكامل
ولا حد على من عرض، لأنه ما صرح بالزنى، والثلاثة قال قوم: يحدون، وقال آخرون:
لا يحدون، فمن قال: لا حد، قبل الشهادة، ومن قال: عليهم الحد، قال: تقبل
أخبارهم دون الشهادة، لقصة أبي بكرة لأنه جلد وردت شهادته، وقبل خبره، والأقوى
عندنا أنه لا يقبل خبره ولا شهادته.
234

إذا شهد الأربعة بالزنى ثم مات واحد منهم قبل أن يستفسره فلا حد على المشهود
عليه، لأن الميت قد كان يجوز أن يفسره بما لا حد فيه ولا على الثلاثة لأنه قد كان
يجوز أن يفسره بما فيه حد.
وإذا شهدوا كلهم بالزنى ثم فسروا بما لا حد فيه، فلا حد على المشهود عليه
وعليهم الحد وإذا حضروا فعرضوا بالزنى ولم يصرحوا به فلا حد على واحد
منهم.
وأما المسألة عن المكان الذي زنا فيه، فلأن الشهادة قد تكمل على مكان
واحد فيجب الحد ولا تكمل على مكان واحد فلا يجب الحد، فلا يد من المسألة
فإذا سأل فإن اتفقوا على مكان واحد، فقالوا: في هذا المكان، أو قالوا: في مكان
واحد، وجب الحد، وإن قالوا: في مكانين بأن قالوا في بيتين فلا حد بلا خلاف،
وإن قالوا: في بيت واحد، إلا أن بعضهم قال: في هذه الزاوية، وبعضهم
في الأخرى، فلا حد أيضا على المشهود عليه، وفيها خلاف وهي مسألة الزوايا.
إذا شهد الشهود عند الحاكم بحق حد أو غير حد فسمع الشهادة، ثم ماتوا قبل
الحكم بها، ثم ثبتت عدالتهم عنده كان له أن يحكم بها، لأن الاعتبار بالعدالة
الموجودة حين الأداء، بدليل أنه إذا سمع الشهادة وكان عارفا بالعدالة حكم عقيب
استماعها، وهذا موجود بعد الموت.
فإن كانت بحالها ولم يموتوا لكن خرسوا حكم بها أيضا، لما مضى بلا خلاف
وإن عموا قبل الحكم بها كان مثل ذلك، وقال قوم: إذا عموا لم يحكم بشهادتهم
لأن العمى عنده كالفسق، والأول مذهبنا.
إذا أقام المدعي عند الحاكم بينة بما ادعاه، وعرف الحاكم عدالتها، قال
الحاكم للمشهود عليه: قد ادعى عليك ما ادعاه وأقام البينة به وثبتت العدالة، فإن
كان عندك ما يقدح في عدالة الشهود فقد مكنتك منه - لأن ذلك حق له - فإن قال:
أنظرني، أنظره اليومين والثلاثة ولا يزيد عليه، فإن انقضت ثلاثا ولم يأت بشئ
حكم عليه، لأن الحق قد وضح، وإن أتى بالجرح لم يقبله إلا مفسرا لأن الناس
235

يختلفون فيما يوجب التفسيق.
الحقوق ضربان: حق لآدميين، وحق لله تعالى.
فإن ادعى حقا لآدمي كالقصاص وحد القذف، والمال واعترف به أو قامت به
البينة، لم يجز للحاكم أن يعرض له بالرجوع عنه، ولا بالجحود، لأنه لا ينفعه ذلك،
لأنه إذا ثبت باعترافه لم يسقط برجوعه، وإن كان قد ثبت بالبينة لم يسقط عنه
بجحوده.
وإن كان حقا لله كحد الزنى والسرقة وشرب الخمر، فإن كان ثبوته عند الحاكم
بالبينة لم يعرض له بالرجوع، لأن الرجوع لا ينفعه، وإن كان ثبوته باعترافه، فإن كان
المعترف من أهل العلم والمعرفة بأن له الجحود والإنكار، وأنه إذا ثبت باعترافه
سقط برجوعه، لم يعرض له بالرجوع، لأنه قد اعترف على بصيرة، وإن كان من أهل
الجهالة مثل أن كان قريب عهد بالإسلام، أو كان في طرف بادية من جفاة العرب
الذين لا يعرفون ذلك، ساع للحاكم أن يعرض له بما يرجع عن اعترافه، لكنه لا
يصرح له بالرجوع، فإن فيه تلقين الكذب، وإنما قلنا بجوازه لأن ماعزا لما اعترف قال
له النبي عليه السلام: لعلك قبلتها لعلك لمستها، وروي أن سارقا أقر عنده قال له:
أسرقت أم لا؟
فإذا ثبت هذا نظرت فيما اعترف به: فإن كان اعترف بالزنى قال: لعلك قبلتها
لعلك لمستها، وإن كان بالشرب قال: لعله لم يكن خمرا لعله لم يكن مسكرا، وإن
كان بالسرقة، قال له: ما أخالك سرقت، لعلك سرقت من غير حرز، فإذا عرض له
بذلك، فإن أقام على الإقرار، استوفى الحق منه، وإن رجع، فإن كان الرجوع عن
الزنى وشرب الخمر سقط الحد، وإن كان بالسرقة سقط القطع دون الغرم لأنه حق
لآدمي.
إذا شهد شاهدان على رجل أنه سرق كبشا فشهد أحدهما أنه سرق غدوة، و
شهد الآخر أنه سرق ذلك الكبش عشية، لم تثبت سرقته بهذه الشهادة، لأنها لم
236

تكمل على سرقة واحدة، وله أن يحلف مع أي الشاهدين شاء، ويستحق ولا يجب
القطع، وهكذا لو شهد أحدهما أنه سرق مع الزوال كبشا أسود، وشهد الآخر أنه
سرق في ذلك الوقت كبشا أبيض لم تثبت هذه الشهادة، لأنها لم تكمل على سرقة
واحدة ويحلف مع أيهما شاء ويستحق ولا قطع لما مضى.
وإن كانت المسألة بحالها، وكان مكان كل شاهد شاهدان، شهد اثنان أنه
سرق كبشا غدوة، وشهد آخران أنه سرق ذلك الكبش عشية، تعارضت البينتان
وسقطتا، وعندنا يستعمل القرعة، وهكذا لو شهد اثنان أنه سرق مع الزوال كبشا
أسود، وشهد آخران أنه سرق مع الزوال في ذلك الوقت كبشا أبيض، تعارضت
البينتان، لأنه لا يجوز أن يسرق كبشا أسود وكبشا أبيض كل واحد منهما على
الانفراد في زمان واحد، فتعارضت البينتان.
وأما إن كان بالضد، وكانت السرقة مطلقة في زمانين أو كان الزمان مطلقا في
سرقتين، مثل أن شهد أحدهما أنه سرق كبشا بكرة وشهد آخر أنه سرق كبشا عشية
ولم يقل ذلك الكبش، أو شهد أحدهما أنه سرق كبشا أسود وشهد آخر أنه سرق كبشا
أبيض، ولم يقولا مع الزوال، فهما كبشان في الظاهر وسرقتان في وقتين فيكون له بكل
كبش شاهد، ويحلف مع كل واحد منهما ويستحق ذلك، إن ادعاه، وإن لم يدع
إلا واحدا منهما حلف مع أحدهما واستحق ذلك.
فإن كان بحالها فكان مكان كل شاهد شاهدان، فشهد اثنان أنه سرق كبشا بكرة
وشهد آخران أنه سرق كبشا عشية، فقد ثبت له بكل كبش شاهدان، وكذلك إن شهد
شاهدان أنه سرق كبشا أسود وشهد آخران أنه سرق كبشا أبيض ثبت له بكل كبش
شاهدان، مع ذلك، ويقطع لأنه إذا أطلقا فالظاهر أن كل اثنين شهدا بكبش مفرد،
فلما أمكن الاستعمال استعملناه ولم يتعارضا.
ويفارق التي قبلها، وهي إذا كانت السرقة واحدة في زمانين أو الزمان واحدا في
سرقتين، لأن الاستعمال هناك لا يمكن فلهذا تعارضتا.
فإن شهد شاهد أنه سرق كبشا وشهد الآخر أنه سرق كبشين، وكانت الشهادة
237

مطلقة، ثبت له كبش بشاهدين وكبش بشاهد ويحلف معه، ويستحق.
فإن كانت بحالها، وكان مكان كل شاهد شاهدان، ثبت له كبش بأربعة
شهود، وكبش بشاهدين، ولا تعارض هاهنا لأن الشهادة مطلقة يمكن استعمالها و
هكذا في الإقرار.
إذا شهد شاهدان على إقراره بألف، وشهد آخر بألف وخمسمائة، يثبت له
ألف بشاهدين وخمسمائة بشاهد واحد، يحلف معه ويستحق.
فإن كانت بحالها وكان مكان كل شاهد شاهدان، ثبت له ألف بأربعة شهود،
وخمسمائة بشاهدين، فإن كانت في البيع، فإن شهد شاهد أنه باعه هذا العبد
بألف، وشهد آخر أنه باعه بألفين في زمان واحد، لم يثبت عقد واحد بشاهدين،
لأن العقد الواحد في زمان واحد لا ينعقد بثمنين مختلفين، وله أن يحلف مع أيهما
شاء.
وإن كانت بحالها، وكان مكان كل شاهد شاهدان، شهد اثنان أنه باعه بألف،
وشهد آخران أنه باعه بعينه في ذلك الوقت بألفين، تعارضتا وسقطتا عندهم، و
عندنا استعملت القرعة، لأنه لا يصح أن يعقد عقدان في زمان واحد، هذا إذا كانت
بينة ببيع واحد.
فأما إن شهد شاهد أنه باعه عبدا أسود بألف وشهد آخر أنه باعه عبدا أبيض
بألفين، فهما بيعان يحلف مع كل واحد منهما، ويستحق إن ادعاهما، وإن لم يدع
إلا واحدا حلف واستحق.
وإن كان مكان كل شاهد شاهدان، ثبت له بيعان كل بيع بشاهدين، ولا حاجة
إلى اليمين.
إذا شهد شاهدان أحدهما أنه سرق ثوبا قيمته ثمن دينار، وشهد الآخر أنه سرق
ذلك الثوب بعينه، وقيمته ربع دينار ثبت ثمن الدينار بشاهدين، لأن الذي أثبت
الثمن عرفه وشهد به، والذي أثبت الربع شهد مع الأول بالثمن وانفرد بزيادة ثمن
آخر، فثبت ثمن بشهادتهما وثمن آخر بشاهد واحد، ويحلف معه ويستحق.
238

فإن شهد اثنان أنه سرق ثوبا قيمته ثمن دينار، وشهد آخران أنه سرق ذلك
الثوب بعينه وقيمته ربع دينار، ثبت الثمن بشهادة أربعة، وسقط الثمن الآخر، وقال
قوم: يثبت عليه ربع دينار، وهو الأقوى عندي، فمذهب الأول أن يأخذ أبدا بالأقل،
والآخر بالزائد.
إن شهد شاهدان أنه قذف فلانا بكارة، وشهد آخران أنه قذفه عشية أو شهد
أحدهما أنه قذفه يوم الخميس، وشهد آخر أنه قذفه يوم الجمعة، أو شهد أحدهما
أنه قذفه بالكوفة، وشهد الآخر أنه قذفه بالبصرة، لم يثبت بهما القذف، لأن
شهادتهما لم تكمل على قذف واحد، لأنهما قذفان، فإن قذف الغداة غير قذف
العشي ولا يتعلق بهذه الشهادة حكم، ولا يجوز أن يحلف مع أحدهما، لأن القذف
لا يثبت باليمين مع الشاهد، ويكون القول قول المدعى عليه مع يمينه، فإن حلف
برئ.
وإن كانت بحالها وكان مكان كل شاهد شاهدان في المسائل الثلاث، فهما
قذفان كل قذف بشاهدين، وقد توالى قذفان، قال قوم: يحد حدا واحدا، وقال
آخرون: يحد حدين، والأول أقوى.
فإن شهد أحدهما أنه قتله بكرة وشهد الآخر أنه قتله عشيا، أو شهد أحدهما أنه
قتله يوم الخميس وشهد الآخر أنه قتله يوم الجمعة، أو شهد أحدهما أنه قتله بالكوفة
وشهد الآخر أنه قتله بالبصرة، لم يثبت هذا القتل، لأن الشهادة لم تكمل على قتل
واحد، وليس له أن يحلف مع أحدهما على إثباته لأن القتل لا يثبت بالشاهد
واليمين، فإن كان مكان كل شاهد شاهدان في المسائل الثلاث تعارضتا، والحكم ما
تقدم عندهم يسقط، وعندنا تستعمل القرعة لأن الإنسان لا يقتل مرتين ولا في
بلدين.
إن شهد شاهد أنه طلقها بكرة وشهد الآخر أنه طلقها عشيا، لم يثبت الطلاق
بشهادتهما، لأن شهادتهما لم تكمل على طلاق واحد، فإن كان مكان كل شاهد
شاهدان، ثبتت طلقتان كل طلقة بشاهدين، إلا أن على مذهبنا لا تقع الثانية لما بيناه
239

في الطلاق، وهكذا الحكم إذا كانت الشهادة على تعليق الطلاق بالصفة مثل أن
يشهد أحدهما أنه قال: إن دخلت الدار فأنت طالق، وشهد الآخر أنه قال: إن أكلت
الخبز فأنت طالق، فالحكم على ما مضى، وعندنا لا يقع ذلك أصلا.
إذا شهد شاهد وقال: أقر عندي بكرة أنه قذفه، وقال الآخر: إنه أقر عندي
عشيا أنه قذفه، أو قال أحدهما: أقر عندي يوم الخميس أنه قذفه، وقال آخر: أقر
عندي يوم الجمعة أنه قذفه، أو قال أحدهما: أقر عندي بالكوفة أنه قذفه، وقال
آخر: أقر عندي بالبصرة أنه قذفه، ثبت القذف بشهادتهما لأن الإقرار وإن كان في
زمانين فالظاهر أنه إخبار عن قذف واحد، ولهذا ثبت بشهادتهما.
فإن شهد أحدهما وقال: أقر عندي بالفارسية أنه قذفها، وقال الآخر: أقر
عندي بالعربية أنه قذفها، ثبت القذف بشهادتهما على ما مضى، لأن الإقرار بلغتين
إخبار عن قذف واحد فهو كالإقرار في زمانين أو في مكانين.
إذا شهد عليه شاهد أنه قال: القذف الذي كان مني كان بالعربية، وشهد الآخر
أنه قال: القذف الذي كان مني كان بالعجمية، قال قوم: لا يثبت القذف، لأنه
إخبار عن قذفين فلم تكمل شهادتهما على قذف واحد، وقال آخرون: يثبت القذف
عليه لأنه قد أقر بالقذف وقوله بعد هذا كان بالفارسية أو كان بالعربية إسقاط منه
لإقراره بالقذف فلا يلتفت إليه، وهذا القول أقوى عندي.
إذا شهد شاهدان عند الحاكم بحق وكانا عدلين حين الشهادة ثم فسقا لم يخل
من أحد أمرين: أما أن يفسقا قبل الحكم بشهادتهما أو بعد الحكم بشهادتهما.
فإن فسقا قبل الحكم بشهادتهما، لم يحكم بتلك الشهادة، وقال قوم: يحكم
بشهادتهما، وهو الأقوى عندي.
فإن كانت بحالها، فلم يحكم بشهادتهما حتى مات المشهود له، فورثاه، لم
يحكم بشهادتهما، لأنه لو حكم حكم لهما بالمال بشهادتهما ولا يجوز أن يحكم
للشاهد بشهادته.
فأما إن فسقا بعد الحكم وقبل الاستيفاء، نظرت فيما حكم به: فإن كان حقا هو
240

المال أو المقصود منه المال من حقوق الآدميين، لم ينقض حكمه لأن الحكم قد
نفذ، وإن كان حقا لله كحد الزنى والسرقة وشرب الخمر، لم يستوفه، لأن الحدود تدرأ
بالشبهات، وحدوث الفسق شبهة، ويفارق المال لأن المال لا يسقط بالشبهة، وإن
كان حد قذف أو قصاص استوفي عندنا، لأنه حق لآدمي كالمال، وقال قوم: لا
يستوفى لأنه حد كحد الزنى.
إذا صار الرجل ممن تحل له الصدقة، حلت له المسألة، وإذا سأل وأخذ لم
ترد شهادته، لأنه محتاج، وليس فيه سقوط مروءة فإن كان طول عمره أو أكثره يسأل
الناس وهو غني بغير ضرورة ولا معنى من المعاني، ويشكو الحاجة ويأخذ، ردت
شهادته لأنه أكثر الكذب وأخذ حراما، ولو كان هذا منه دفعات ردت شهادته.
فأما إذا أعطي من غير مسألة نظرت: فإن كان صدقة تطوع حلت له غنيا كان أو
فقيرا فلا ترد شهادته، لأنه أخذ حلالا، وإن كانت صدقة فرض فإن كان فقيرا وأخذ
قدر ما يجوز له الأخذ لم ترد شهادته، وإن كان غنيا فإن كان جاهلا بتحريمها مثل أن
كان قريب عهد بالإسلام أو من جفاة العرب، لم ترد شهادته، لأنه لم يقدم على
معصية مع العلم بها، وإن كان عالما ردت شهادته، لأنه أخذ مالا يحل له، فهو
كالغاصب.
فصل: في الرجوع عن الشهادة:
إذا شهد الشهود عند الحاكم بحق فعرف عدالتهم، ثم رجعوا لم يخل من ثلاثة
أحوال: إما أن يرجعوا قبل الحكم، أو بعده وقبل القبض، أو بعد الحكم والقبض
معا.
فإن رجعوا قبل الحكم لم يحكم بلا خلاف، إلا أبا ثور فإنه قال: يحكم به،
والأول أصح.
وإن رجعوا بعد الحكم وقبل القبض نظرت: فإن كان الحق حدا لله كالزنا
والسرقة وشرب الخمر، لم يحكم بها لأنها حدود تدرأ بالشبهات، ورجوعهم
241

شبهة وإن كان حقا لآدمي يسقط بالشبهة، كالقصاص وحد القذف لم يستوف
لمثل ذلك.
وأما إن رجعوا بعد الحكم وبعد الاستيفاء، أيضا لم ينقض حكمه بلا خلاف،
إلا سعيد بن المسيب والأوزاعي، فإنهما قالا: ينقض، والأول أصح.
فإذا ثبت أن الحكم لا ينقض، فإن المستوفي قد قبض، فلا اعتراض عليه، وما
الذي يجب على الشهود؟ لا يخلو المستوفي منه من ثلاثة أحوال: إما أن يكون
إتلافا مشاهدة، كالقتل والقطع، أو حكما كالطلاق والعتق، أو لا مشاهدة ولا حكما
كنقل المال من رجل إلى آخر، وإن شئت قلت: لا يخلو أن يكون إتلافا أو في حكم
الإتلاف أو خارجا عنهما.
فإن كان إتلافا كالقتل والقطع في السرقة وغيرها، ففيها مسائل:
إن قالت الشهود: أخطأنا كلنا فلا قود وتجب الدية مخففة في أموالهم لأنها لا
تثبت إلا بالاعتراف، وإن قالوا: عمدنا كلنا وقصدنا أن يقطع أو يقتل، فعليهم
القود، وفيها خلاف، وإن قالوا: عمدنا كلنا وقصدنا غير أنا لم نعلم أن الحاكم
يقتله بذلك، وكانوا من أهل الجهالة، فهو عمد الخطأ عليهم الدية مغلظة مؤجلة في
أموالهم.
وإن قال اثنان: عمدنا كلنا، وقال الآخران: أخطأنا كلنا، فالقود على من
قال: عمدنا، لأنهما اعترفا بما يوجب القود، وعلى الآخرين نصف الدية، لأنهما ما
اعترفا بما يوجب القود، غير أن عندنا إن قتلهما أولياء المقتول لزمهم أن يردوا
دية كاملة على أولياء المقتولين مع نصف الدية المأخوذة يقتسمون ذلك بينهم
نصفين، وإن قتلوا واحدا منهما ردوا نصف الدية على أوليائه ويلزم المعترف الآخر
بالعمد ربع دية أخرى لهم، ولم يقل بذلك أحد.
فإن قال اثنان: عمدنا كلنا، وقال آخران: عمدنا وأخطأ الآخران، فعلى من
قال: عمدنا كلنا، القود، ومن قال: عمدنا وأخطأ الآخران قال قوم: عليهما القود،
لأنهما اعترفا بالعمد واعترف الآخران بالعمد، فكان الكل عمدا فلهذا وجب القود،
242

وقال بعضهم: لا قود عليهما لأنهما اعترفا بما لا يوجب القود، والأول أصح عندنا،
والحكم في القصاص والرد على ما قلناه.
وأما إذا شهدوا بما هو في حكم الإتلاف وهو العتق والطلاق ثم رجعوا:
أما إذا شهدوا بالعتق فحكم الحاكم بعتق العبد، ثم رجعا فعليهما قيمة العبد
لسيده، لأنهما أتلفا ماله بغير حق، فكان عليهما الضمان، كما إذا قتلاه، ولا فصل
بين أن يتعمدا بذلك وبين أن يكون منهما على سبيل الخطأ فإن الضمان في الحالين
سواء لأن إتلاف الأموال بالعمد والسهو سواء.
وأما إن شهدا بالطلاق ثم رجعا لم يخل من أحد أمرين: إما أن يكون قبل
الدخول أو بعده.
فإن كان بعد الدخول فعليهما مهر مثلها عند قوم، وقال آخرون: لا ضمان
عليهما، وهو الأقوى عندي، لأن الأصل براءة ذمتهما.
وإذا شهدا بالطلاق قبل الدخول ثم رجعا فإن الحكم لا ينقض، وعليهما
الضمان عند قوم وكم يضمنان؟ قال قوم: كمال المهر مهر المثل، ومنهم من قال:
نصف المهر، وهو الأقوى، ومن قال بهذا منهم من قال: نصف مهر المثل، ومنهم
من قال: نصف المسمى، وهو الأقوى عندنا، منهم من قال: إن كان المهر مقبوضا
لزمهما كمال المهر وإن لم يكن مقبوضا لزمهما نصف المهر، والفصل بينهما إذا كان
مقبوضا غرمه كله لا يسترد شيئا منه لأنه معترف لها به لبقاء الزوجية بينهما فلما حيل
بينهما رجع بكله عليهما، وليس كذلك إذا كان قبل القبض، لأنه لا يلزم إلا إقباض
نصفه، فلهذا رجع بالنصف عليهما، وهذا قوي.
فأما إذا لم يكن إتلافا مشاهدة ولا حكما، وهو أن يشهدا بدين، وحكم بذلك
عليه ثم رجعا فهل عليهما الضمان للمشهود عليه أم لا؟ قال قوم: لا ضمان عليهما،
وقال آخرون: عليهما الضمان، وكذلك قالوا في من أعتق عبدا في يده أو وهبه وأقبضه
ثم ذكر أنه كان لزيد فهل عليه قيمته لزيد؟ على قولين لأنه أقر به له بعد أن فعل ما
حال بينه وبينه بغير حق، والأقوى عندي أن عليهما الضمان للمشهود عليه،
243

وكذلك يلزم القيمة للمعتق لعبده لمن أقر له به.
فمن قال: لا ضمان فلا كلام، ومن قال: عليهما الضمان نظرت: فإن ثبت حق
بشاهدين فإن رجعا معا ضمناه نصفين، وإن رجع أحدهما ضمن النصف، وإن كان
ثبوته بشاهد وامرأتين فرجعوا معا فعليهم الضمان على الرجل النصف وعلى المرأتين
النصف لأنهما نصف البينة، فإن رجعت إحديهما فعليها ربع المال، وإن رجعتا
دونه فعليهما نصف المال، وإن رجع دونهما فعليه نصف الدية.
وإن كان ثبوته بثلاثة رجال، فإن رجعوا كلهم، فالضمان عليهم أثلاثا، وإن
رجع واحد منهم، قال قوم: عليه الثلث كما لو رجع الكل فعلى كل واحد الثلث، و
قال آخرون: لا ضمان عليه، لأنه قد بقي بعد رجوعه من يثبت الحق بقوله، فعلى هذا
إن رجع بعده آخر كان عليه وعلى الأول نصف المال على كل واحد منهما الربع فإن
رجع الثالث صار على كل واحد منهم الثلث.
وإن كان ثبوته برجل وعشر نسوة، فإن رجع الكل فعلى الرجل السدس، وعلى
كل واحدة منهن نصف السدس، وقال قوم: على الرجل النصف، وعليهن
النصف، لأن الرجل نصف البينة فيضمن نصف المال، والأول أقوى.
فإذا تقرر هذا فإن رجعت واحدة من النساء، منهم من قال: على من رجع
نصف السدس وإن رجع الرجل فعليه سدس المال كما لو رجعوا كلهم، ومنهم من
قال: إن رجعت واحدة فلا شئ عليها وكذلك إن رجع منهن إلى ثمان لأنه قد بقي
من يثبت الحق بقوله، فإن رجعت التاسعة فعليها وعلى من رجع قبلها ربع المال،
لأنه قد رجع ربع الشهادة، فإن رجعت العاشرة فعليها وعلى من رجع قبلها
نصف المال، فإن رجع الرجل فعليه وعليهن كل المال بالسوية عليه السدس، وعلى
كل واحدة منهن نصف السدس، وعلى هذا أبدا.
وكل موضع رجع فيه الشهود نظرت: فإن ذكروا أنهم أخطؤوا فلا تعزير على
واحد منهم، وكل موضع ذكروا أنهم تعمدوا، فإن كان الواجب قصاصا فلا تعزير،
لأنه يدخل في استيفاء القصاص، وإن كان الواجب مالا فعليهم التعزير، لأنهم
244

اعترفوا أنهم شهدوا بالزور، وشاهد الزور يعزر.
إذا حكم حاكم بشهادة شاهدين، ثم بان له أنه حكم بشهادة من لا يجوز له
الحكم بشهادته، نظرت: فإن بان أنه حكم بشهادة كافرين، نقض الحكم
بلا خلاف، وكذلك عندهم أن كانا عبدين، وإن بان أنهما فاسقان نظرت: فإن كان
الفسق بعد الحكم أو قامت البينة عنده بالجرح مطلقة من غير تاريخ لم ينقض
حكمه، لأنه يحتمل أن يكون الفسق بعد الحكم ويحتمل أن يكون قبله فلا ينقض
حكمه بأمر محتمل، وأما إن كانت بينة الجرح مؤرخة، فإن كان الفسق منهما قبل
الحكم وقامت البينة عنده أنهما شربا الخمر أو قذفا حرا قبل الحكم بشهادتهما
بيوم، قال قوم: ينقض الحكم، وهو مذهبنا، وقال آخرون: لا ينقضه.
فمن قال: لا ينقضه، فلا كلام، ومن قال: ينقضه، فكل موضع قلنا ينقضه فإن
بان له الفسق أو الرق عندهم، الباب واحد، فلا يخلو ما حكم به من أحد أمرين: إما
أن يكون حكم بإتلاف أو في مال.
فإن حكم بإتلاف كالقصاص والرجم فلا قود هاهنا، لأنه عن خطأ الحكم،
وأما الدية فإنها على الحاكم، وقال قوم: الضمان على المزكين، وروى أصحابنا أن
ما أخطات الحكام فعلى بيت المال.
فمن قال: الدية على الحاكم، قال: لا فصل بين أن يكون الحاكم مكن
المشهود له من القتل فقتل وبين أن يكون تقدم إلى من قتله بأمره، الباب واحد، وقال
بعضهم: ينظر، فإن كان الذي باشر القتل هو الولي فالضمان على الولي، وإن كان
الإمام قتله أو تقدم بقتله فقتله رجل من قبله فالضمان على الإمام، والأول أصح،
ومن قال: يلزم الحاكم الدية، منهم من قال: يلزم على عاقلته، ومنهم من قال:
يلزم ذلك في بيت المال، وهو مذهبنا.
فأما إن حكم بالمال نظرت: فإن كانت عين المال باقية استردها، وإن كانت
تالفة فإن كان المشهود له هو القابض وكان موسرا غرم ذلك، وإن كان معسرا ضمن
245

الإمام حتى إذا أيسر رجع الإمام عليه والفرق بين هذا وبين الدية أن الحكم إذا كان
بالمال حصل في يد المشهود له ما يضمن باليد فلهذا كان الضمان عليه وليس كذلك
القتل، لأنه ما حصل في يد المشهود له ما يضمن باليد، لأن ضمان الإتلاف ليس
بضمان اليد فلهذا كان على الإمام.
إذا شهد أجنبيان أنه أعتق سالما وهو الثلث في مرضه، وشهد وارثان أنه أعتق
غانما وهو الثلث، في مرضه، قال قوم: يعتق من كل واحد منهما نصفه، والذي
نقوله: أنه ينظر في ذلك: فإن علم السابق منهما أعتق ورق الآخر، وإن لم يعلم
السابق أقرع بينهما، فمن خرج اسمه أعتق ورق الآخر، هذا إذا كان في مرضه على
قول من يقول من أصحابنا إن العتق في المرض من الثلث، أو كانت المسألة مفروضة
في الوصية.
ومن قال: هو من أصل المال عتقا جميعا، وكذلك إن قامت البينة أنه فعل
ذلك في حال الصحة، ومتى كان العتق لهما في حال واحدة نفذ العتق فيهما معا،
إن كان في حال الصحة أو كان في حال المرض وقلنا: أنه من أصل المال، ومتى
قلنا: إنه من الثلث أقرع بينهما، فمن خرج اسمه أعتق ورق الآخر، هذا إذا كانت قيمة
كل واحد منهما ثلث ماله.
فأما إن اختلف القيمتان فكانت قيمة أحدهما ثلث ماله وقيمة الآخر سدس
ماله، فإذا أقر عنا بينهما مع تساوي القيمة أقرعنا هاهنا، فإن خرجت القرعة لمن
قيمته الثلث عتق ورق الآخر كله، وإن خرجت القرعة لمن قيمته السدس عتق كله
وكملنا الثلث من الآخر فيعتق من الآخر نصفه، ومن قال: يعتق من كل واحد نصفه
مع تساوي القيمة القيمة قال: يعتق من كل واحد منهما هاهنا ثلثاه، لأن ثلثي الثلث
وثلثي السدس وثلث جميع المال يصح من ثمانية عشر، هذا إذا كانت البينتان
عادلتين.
فأما إن كانت إحديهما عادلة والأخرى فاسقة، فإن كانت الأجنبية فاسقة
والوارثة عادلة، سقطت الأجنبية، وعتق الذي شهدت له الوارثة، لأنه يخرج من
246

الثلث ولا شاهد غير الوارثة، وإن كانت الأجنبية عادلة والوارثة فاسقة، نظرت في
الوارثة:
فإن لم تطعن في الأجنبية بحال عتق الذي شهدت له الأجنبية كله، لأنه لا يمكن
معارضته بالوارثة، لكون الوارثة فاسقة، فكأنه لا شاهد غير الأجنبية، وأما الذي
شهدت الوارثة بعتقه فلا تقبل شهادتهما به، ولكن شهادتهما بعتقه إقرار على أنفسهما
فيعتق منه نصفه، لأن الوارثة تقول البينتان صحيحتان، وكان الواجب أن يعتق من كل
واحد منهما نصفه، ولم يقبل قولهما من حيث الشهادة فيه فينفذ في المشهود به
بالشهادة، ونفذ في نصف الذي اعترفتا به، هذا على قول الذي يقول يعتق من كل
واحد منهما نصفه، ولم تطعن الوارثة في الأجنبية.
فأما إن طعنت فيها فقالت: كذبت الأجنبية ما أعتق غير الذي شهدنا به، لم يقبل
قول الوارث على الأجنبية لأنها تنفي ما أثبتته الأجنبية، فيعتق من شهدت به الأجنبية
كلها، ويعتق من شهدت به الوارثة كلها، لأنها تقول: ما أعتق غير هذا الواحد وهو
ثلث المال، فيعتق كله، والذي شهدت به الأجنبية باطل.
والفصل بين هذه وبين التي قبلها أن الوارثة ما طعنت في الأجنبية في الأولى
فلهذا عتق من الذي شهدت به نصفه، وليس كذلك هاهنا لأن الوارثة طعنت في
الأجنبية وذكرت أنه ما أعتق إلا من شهدنا به فلهذا عتق كله.
إذا شهد أجنبيان أنه أوصى بعتق سالم وقيمته ثلث المال، وشهد وارثان، أنه
رجع عن هذا وأوصى بعتق غانم وقيمته ثلث المال، وكانت الأجنبية عادلة، لم
تخل الوارثة من أحد أمرين: إما أن تكون فاسقة أو عادلة.
فإن كانت فاسقة فلا تزاحم الأجنبية لأنها لا تعارضها، فلا يثبت رجوعه عن
الوصية لسالم، فيعتق سالم، كله، والوارثة وإن لم تكن عادلة فقد اعترفت بعتق
غانم، ومن أقر بشئ لزمه في نفسه، ويكون سالم كالمغصوب من التركة، ويبقى
ثلثاها فيعتق من غانم بقدر ثلث ما بقي، وهو ثلثا غانم لأن ثلثي غانم ثلث جميع
ما بقي.
247

بيانه: التركة ثمانية عشر غصب منها سالم، وقيمته ستة بقي اثنا عشر قيمة
غانم منها ستة، ثلثاها أربعة فيكون أربعة من اثني عشر، وذلك ثلث الاثني عشر،
فيعتق من غانم ثلثاه ورق ثلثه، هذا إذا كانت الوارثة فاسقة.
فأما إن كانت عادلة حكمنا بالرجوع عن عتق سالم، لأن الوارثة عادلة فلا تجر
نفعا ولا تدفع ضررا، وأرققنا سالما وأعتقنا غانما، هذا إن اتفقت القيمتان.
فأما إن اختلفت نظرت: فإن كانت قيمة سالم أقل من قيمة غانم، فالحكم فيه
كما لو كانت القيمتان متساويتين، لأن الوارثة شهدت هاهنا بما يضرها، وهو أنه رجع
عن الوصية بالقليل إلى الوصية بالكثير وقد مضى، وأما إن كانت قيمة غانم أقل من
قيمة سالم مثل أن كانت قيمة سالم الثلث وقيمة غانم السدس فالوارثة متهمة في
رجوعها عن الزيادة على قيمة غانم وهو السدس، لأنها تجر إلى نفسها نفعا بقدر
سدس المال، فردت شهادتهما في نصف سالم لأجل التهمة، وهل ترد فيما بقي منه
أم لا؟ قال قوم: ترد، والآخرون قالوا: لا ترد.
وهذا أصل: كل شهادة ردت في بعض ما شهدت به لأجل التهمة، هل ترد
فيما بقي أم لا؟ على قولين، كما لو شهدا أنه قذف أمهما وأجنبية ردت لأمهما، وهل
ترد للأجنبية أم لا؟ على قولين كذلك هاهنا، ردت شهادتهما في نصف سالم، وهل
ترد فيما بقي أم لا؟ على قولين، الصحيح عندنا أنها لا ترد ولا في نظائرها، فأما
شهادتهما لأمهما فلا ترد عندنا، لكن نفرض المسألة أنها ماتت وورثاها، فإنها ترد
حينئذ، فمن قال: ترد في الكل، قال: فإن كان الوارثة فاسقة فلا يحكم برجوعه عن
عتق سالم، فيعتق كله، ويعتق كل غانم، لأن قيمته سدس المال، وسدس كل
المال أقل من ثلث ما بقي، ونحن نحكم بالوصية بثلث ما بقي، فبأن نحكم بأقل من
ثلث ما بقي أولى وأحرى، فيعتق كل سالم وكل غانم.
إذا شهد أجنبيان أنه أوصى بعتق سالم وقيمته ثلث المال، وشهد وارثان أنه
أوصى بعتق غانم وقيمته ثلث المال وفقدنا التاريخ، أقرعنا بينهما، فمن خرج
قرعته عتق، ورق الآخر، فإن كانت بحالها فشهد أجنبيان أنه أوصى لعمرو بثلث ماله،
248

وشهد وارثان أنه أوصى لزيد بثلث ماله وفقدنا التاريخ، عندنا مثل الأولى يقرع
بينهما وعندهم يقسم المال بينهما نصفين.
والفصل بينهما أن القصد من العتق تكميل أحكام المعتق وبعتق بعضه لا
يكمل أحكامه، فلهذا أقرع بينهما، وليس كذلك المال لأن القصد منه نفع الموصى
له، فإذا قسم بينهما انتفعا به فلهذا لم يقرع بينهما.
فإن شهد أجنبيان أنه أوصى لزيد بثلث ماله وشهد وارثان أنه أوصى بثلث ماله
لعمرو ورجع عن الوصية لزيد، وشهد آخران أنه رجع عن الوصية لعمرو وأوصى
بثلث ماله لخالد، قبلناها كلها، وصح الرجوع في حق زيد وعمرو، وثبت الثلث
لخالد، وإن كانت بحالها فشهد أجنبيان أنه أوصى بثلث ماله لزيد، وشهد وارثان أنه
رجع عنها وأوصى بثلث ماله لعمرو، وشهد آخران أنه رجع عن إحدى الوصيتين،
سقطت الثالثة لأنها لم تعين ما شهدت به، فهو كما لو شهدا أن هذه الدار لأحد
هذين لم يحكم بها كذلك هاهنا، فإذا سقطت الثالثة حكمنا بالثانية، وأن الثلث
لعمرو.
إذا شهد شاهدان أنه أوصى بثلث ماله لزيد وشهد آخران أنه أوصى بثلث ماله
لعمرو وشهد آخران أنه رجع عن إحدى الوصيتين سقطت الثالثة، لما ذكرناه، و
قسمنا الثلث بين زيد وعمرو، ويكون وجود الثالثة وعدمها سواء، وعندنا يقرع بين
الأولين.
إذا شهد شاهدان أنه أوصى لزيد بثلث ماله، وشهد شاهد واحد أنه أوصى
بثلث ماله لعمرو، وقال عمرو: أحلف مع شاهدي ليكون الثلث بيننا، فهل يزاحم
الشاهدين بشاهد ويمين أم لا؟ قال قوم: يحلف ويزاحم ويساويه، لأن الشاهد
واليمين في الأموال بمنزلة الشاهدين، وقال آخرون: لا يساويه لأن الشاهد واليمين
أضعف من شاهدين، لأن الشاهد وحده لا يقوم بنفسه حتى يضم إليه غيره،
والشاهدان قائمان بأنفسهما فلا يعارضهما به.
فمن قال: لا يعارضهما، حكم بالثلث لزيد وحده، ومن قال: يعارضهما،
249

حلف عمرو مع شاهده وكان الثلث بينهما نصفين، وعلى مذهبنا يقرع بينهما إذا
عدم التاريخ، فإن خرج اسم صاحب الشاهدين أعطي الثلث، وإن خرج اسم
صاحب الشاهد الواحد حلف معه وأخذ الثلث.
إذا شهد شاهدان أنه أوصى لزيد بثلث ماله، وشاهد أنه رجع عن الوصية لزيد
وأوصى لعمرو بثلث ماله، كان لعمرو أن يحلف مع شاهده ويستحق الثلث وحده
دون زيد، بلا خلاف بيننا وبين من خالف في الأول، لأن الشاهد واليمين هاهنا ما
زاحم الأولين ولا يعرض لهما، وإنما أثبت رجوع الموصي عن وصيته، والرجوع عن
الوصية يثبت بالشاهد واليمين، لأن المقصود منه المال، وليس كذلك في التي
قبلها لأن الشاهد واليمين زاحم الشاهدين وساواهما، فلهذا كان الشاهدان أولى منه
على أحد القولين.
إذا ادعى عبد على سيده أنه أعتقه فأنكر فأتى العبد بشاهدين فشهدا له
عند الحاكم بذلك ولم يعرف الحاكم عدالتهما، فقال له العبد: فرق بيننا حتى نبحث
عن العدالة، قال قوم: يفرق بينهما، وقال آخرون: لا يفرق، والأول أقوى لأن العبد
قد فعل ما يجب عليه، لأنه أتى ببينة كاملة، وإنما بقي ما ليس عليه من البحث عن
حال الشهود، ولأن الظاهر العدالة حتى يظهر الجرح، ولأن المدعي قد يكون أمة
فإذا لم يفرق بينهما لم يؤمن أن يواقعها، فلهذا فرق بينهما، فإذا فرق بينهما جعل عند
ثقة وأوجر وأنفق عليه من كسبه، فإن فضل فضل جمع، فإن صحت حريته سلم
الفضل إليه، وإن ثبت رقه رد إلى مولاه وسلم الفضل إلى مولاه، هذا إذا أتى
بشاهدين.
فإن أتى بشاهد واحد وقال: لي شاهد آخر قريب وأنا آتيك به، قال قوم:
يفرق، وقال آخرون: لا يفرق، لأنه لم يأت بالبينة التامة.
وكذلك كل حق لا يثبت إلا بشاهدين كالنكاح والطلاق والقصاص ونحو ذلك
إن أتى بشاهدين حبسنا له خصمه، وإن أتى بشاهد واحد فهل يحبس خصمه حتى
يأتي بآخر؟ على القولين، هذا إذا كان الحق لا يثبت إلا بشاهدين.
250

فأما إن كان مما يثبت بشاهد وامرأتين وبشاهد ويمين، نظرت: فإن أتى
بشاهدين ولم يعرف عدالتهما، وقال: احبسه لي حتى يعدلا، حبسناه، فإن أتى
بشاهد واحد، وقال: احبسه لي حتى آتي بآخر، منهم من قال على قولين
كالقصاص والنكاح، ومنهم من قال: يحبس لا محالة، وهو الأقوى عندي لأن
الشاهد مع اليمين حجة في الأموال، لأنه يحلف ويستحق فلهذا حبسناه وليس
كذلك في العتق والقصاص، لأن الشاهد الواحد ليس بحجة، فلهذا لم نحبسه.
فكل موضع حبسناه بشاهدين فلا يزال في الحبس حتى يتبين عدالتهما أو
جرحهما، وكل موضع حبس بشاهد واحد لم يحبس أبدا، ويقال للمشهود له: إن
جئت بعد ثلاث وإلا أطلقناه.
251

كتاب الدعاوي والبينات
روى ابن عباس أن النبي عليه السلام قال: البينة على المدعي واليمين على
المدعى عليه، وروى مثل ذلك عمرو بن عمر وعبد الله بن عمر، وروى أبو هريرة أن
النبي عليه السلام قال: البينة على المدعي، واليمين على من أنكر.
وروت أم سلمة أن النبي عليه وآله السلام قال: إنما أنا بشر مثلكم وإنكم
تختصمون إلي ولعل بعضهم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على
نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشئ من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة
من النار.
والمدعي في اللغة: من ادعى الشئ لنفسه، سواء ادعى شيئا في يده أو شيئا
في يد غيره أو في ذمة غيره، والمدعي في الشرع: من ادعى شيئا على غيره في يده أو
في ذمته، فإن كان الشئ في يده فادعاه فلا يقال له في الشرع مدع.
وأما المدعى عليه فمن ادعى عليه شئ في يده أو في ذمته فهو المدعى عليه
لغة وشرعا.
وقد يكون كل واحد منهما مدعيا ومدعى عليه وهو إذا اختلف المتبايعان في
قدر الثمن فالبائع يقول: بعتكه بألف وما بعتك بخمسمائة، والمشتري يقول: بعتني
253

بخمسمائة وما بعتني بألف.
فإذا ثبت ذلك فالبينة حجة المدعي يحقق ما يدعيه، واليمين حجة المدعى
عليه يحقق بها ما ينكره وينفيه للخبر الذي تقدم.
وروى الأعمش عن شقيق أبي وائل عن الأشعث قال: كان بيني وبين يهودي
أرض فجحدني عليها فقدمته إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال: ألك بينة؟ قال:
فقلت: لا، قال لليهودي: أتحلف؟ قلت: إذن يحلف ويذهب بمالي، فنزل قوله
تعالى " إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا... الآية "، فسن رسول الله
صلى الله عليه وآله بهذا حجة كل واحد منهما.
وأما الكلام في استعمال الحكم بينهما.
فإذا ادعى رجل حقا واستعدى الحاكم عليه أحضره الحاكم، سواء علم بينهما
معاملة أو لم يعلم، وقال بعضهم: إن علم بينهما معاملة أعدى عليه وأحضره وإن لم
يعلم ذلك فإنه لا يعدي عليه، فإن كان المدعى عليه من أهل الصيانات والمروءات
صانه الحاكم عن البذلة فلا يحضره مجلس حكمه بل يحضره إلى داره ويجمع بينه
وبين خصمه، ويقضي بينهما هناك، وليس فيه ابتذال.
فإذا حضر وادعى الحق فإن اعترف به ألزمه وإن أنكر، لم يخل المدعي من
أحد أمرين: إما أن يكون معه بينة أو لا بينة معه، فإن كان معه بينة فهو أولى من يمين
المدعى عليه، ومقدمة عليها، وإن لم يكن معه بينة، فالقول قول المدعى عليه،
هذا إذا ادعى عينا في يديه أو دينا في ذمته.
فأما إن كانت يدهما معا عليها كالدار هما فيها، والتصرف بينهما عليها ولا بينة
لواحد منهما، حلف كل واحد منهما لصاحبه وكانت بينهما، لما روي أن رجلين
تنازعا دابة ليس لأحدهما بينة فجعلها النبي صلى الله عليه وآله بينهما، والخبر
محمول على أنه حلف كل واحد منهما لصاحبه.
وإذا تنازعا عينا يد أحدهما عليها، وأقام كل واحد منهما بينة سمعنا بينة كل
واحد منهما، وقضينا لصاحب اليد، سواء تنازعا ملكا مطلقا يتكرر أو لا يتكرر،
254

فالمطلق - كل ملك كان إذا لم يذكر أحدهما سببه -، وما يتكرر - كآنية الذهب
والفضة والصفر والحديد -، يقول كل واحد منهما: ملكي صيغ في ملكي، وهذا
يمكن أن يصاع في ملك كل واحد منهما، وكذلك ما يمكن نسجه مرتين كالصوف
والخز وما لا يتكرر سببه كثوب قطن وإبريسم، فإنه لا يمكن أن ينسج مرتين وكذلك
النتاج لا يمكن أن تولد الدابة مرتين، وكل منهما يقول: ملكي نتج في ملكي،
فالكل واحد عند هذا القائل، وفيه خلاف.
ومذهبنا الذي تدل عليه أخبارنا ما ذكرناه في " النهاية "، وهو أنه إذا شهدا
بالملك المطلق ويد أحدهما عليها، حكم لليد، وكذلك إن شهدا بالملك المقيد
لكل، واحد منهما، ويد أحدهما عليها، حكم لمن هو في يده.
وقد روي أنه يحكم لليد الخارجة وإن كانت أيديهما عليها فهو بينهما نصفان
وإن كانت أيديهما خارجتين أقرع بينهما فمن خرج اسمه حكم له به مع يمينه إن
كانت الشهادة بالملك مطلقا، وإن كان مقيدا قسم بينهما نصفين، وإن كان
لأحدهما بالملك المطلق وللآخر بالملك المقيد حكم للذي شهدا له بالمقيد.
فإذا ثبت أن بينة الداخل تسمع في الجملة، فالكلام فيه كيف تسمع؟ أما بينة
الخارج فإذا شهدت بالملك المطلق سمعت وإن شهدت بالملك المضاف إلى سببه
فأولى أن تقبل، وأما بينة الداخل، فإن كانت بالملك المضاف إلى سببه، قبلناها،
وإن كانت بالملك المطلق، قال قوم: لا يسمعها، وقال آخرون: مسموعة، والأول
مذهبنا، لأنه يجوز أن تكون شهدت بالملك لأجل اليد، واليد قد زالت ببينة
المدعي.
فإذا تقرر هذا، فكل موضع سمعنا بينة الداخل، قضينا للداخل بلا خلاف،
وقال قوم: يستحلف مع ذلك، وقال آخرون: لا يستحلف، وهو الأقوى، وأصل
ذلك تعارض البينتين، فإن منهم من قال: يسقطان، ومنهم من قال: يستعملان.
فمن قال: يسقطان، لم يحكم له إلا باليمين، لأنهما إذا تعارضتا سقطتا
فيكونان كأنه لا بينة لواحد منهما ولأحدهما اليد، فكان القول قوله مع يمينه.
255

ومن قال: يستعملان، فلا شئ عليه، لأنا نقضي له بالبينة، وذلك لأنهما
تعارضتا وانفرد أحدهما باليد، فقد مناها على بينة الخارج باليد، فقضينا له بها،
فلهذا قلنا: لا شئ عليه.
فأما إذا تنازعا عينا لا يد لواحد منهما عليها، وأقام أحدهما شاهدين والآخر
أربعة شهود، روى أصحابنا أنه يرجح بكثرة الشهود والتفاضل في العدالة فيقدم،
وقال قوم: لا ترجيح بالعدد ولا بالتفاضل في العدالة.
وأما إن كان لأحدهما شاهدان وللآخر شاهد وامرأتان، فلا ترجيح عندنا وعند
الأكثر، وقال من وافقنا في الأولى: إنه يرجح به الشاهدان.
وأما إن كان لأحدهما شاهدان وللآخر شاهد واحد، وقال: أحلف مع
شاهدي وأساويه، قال قوم: يساويه، وقال آخرون: لا يساويه، وهو الأصح عندنا،
وهكذا لو كان مع أحدهما شاهد وامرأتان، ومع الآخر شاهد، وقال: أحلف مع
شاهدي، الباب واحد، عندنا يرجح الشاهدان، والشاهد والمرأتان على الشاهد
واليمين، وقال قوم: لا يرجح.
إذا شهد له بما يدعيه شاهدان، فقال المشهود عليه: أحلفوه لي مع شاهديه،
لم يحلفه عندنا وعند الأكثر، وفيه خلاف، فإن كانت بحالها فشهد له شاهدان
بالحق فقال المشهود عليه: صدقا غير أني ملكت ذلك منه، أو قال: أبرأني منه أو
قضيته إياه، حلفناه له، لأن هذه دعوى أخرى، وهو أنه يدعي أنه برئ من الحق،
فيكون القول قول المدعى عليه، هذا كله إذا كان المشهود عليه ممن يعبر عن نفسه.
فأما إن كان ممن لا يعبر عن نفسه كالصبي والغائب والميت، فإنا نستحلفه
مع شاهديه، لأنه لو عبر عن نفسه أمكن أن يذكر ما يجب به اليمين على المشهود
له، فلهذا حلفناه احتياطا.
لا تصح الدعوى إلا معلومة في سائر الحقوق، إلا الوصية، فإنه يصح أن تدعي
مجهولة، فيقول: أوصى لي بخاتم أو بثوب أو عبد أو بمال، لأنه لما صح أن يوصي
256

بمجهول ويقبل ويملك المجهول، صح له أن يدعيها مجهولة، وتفارق سائر
الحقوق لأنه لما لم يصح العقد على مجهول ولا يملك المجهول لم تصح الدعوى
مجهولة.
فإذا ثبت أن الدعوى فيما عدا الوصية لا تصح إلا معلومة، فإذا ادعى معلوما
فهل يفتقر إلى الكشف بعد هذا أم لا؟ ينقسم ثلاثة أقسام: ما لا يفتقر إلى كشف،
وما لا بد فيه من كشف، وما اختلف فيه.
فأما ما لا يفتقر إلى كشف، فالأملاك المطلقة، مثل أن يدعي الدين والعين
مثل الدابة والدار والعبد والثوب، فإذا قال: لي كذا وكذا، سمعناها ولم يكلفه
الحاكم أن يكشف عن أسباب الملك، لأن جهات الملك وأسبابه تكثر وتتسع من
الإرث والهبة والغنيمة والشراء والأحياء وغير ذلك، فإذا كلف الكشف كان عليه فيه
المشقة لأنه قد يخفى ذلك السبب.
وأما ما لا بد فيه من الكشف، وهو إذا ادعى القتل، فقال: قتل هذا وليا لنا،
كلف الكشف، فيقول: صف لنا القتل عمدا أو خطأ، فإذا قال: عمدا، قال: صف
العمد، فإذا وصفه قال: قتله وحده أو معه غيره، وقد شرحناه في الجنايات، لأنه
من الأمور التي لا تتدارك بعد فواتها فلهذا كشف عنها.
وأما ما اختلف فيه، فهو النكاح، فإذا ادعى نكاحا فهل يفتقر إلى الكشف أم
لا؟ قال قوم: لا يقبل حتى يقول نكحتها بولي وشاهدي عدل، وقال قوم: لا يفتقر
إلى الكشف، سواء ادعى الزوجية، فقال: هذه زوجتي، أو ادعى العقد فقال:
تزوجت بها، فإذا قال هذا أجزأه وإن لم يكشف عن هذا القول، وهو الأقوى عندنا،
وقال قوم: إن كانت الدعوى عقد نكاح كان الكشف شرطا وإن كانت الدعوى
الزوجية لم يفتقر إلى الكشف.
فإذا ثبت هذا فكل موضع حكمنا بصحة الدعوى لزمها الجواب، فإن أقرت له
حكمنا بها له، وإن أنكرت فالقول قولها مع يمينها، وقال قوم: لا يمين عليها،
والأول مذهبنا، فإن حلفت فذاك، وإن نكلت رددنا اليمين عليه، فيحلف
257

ويستحقها، هذا إذا ادعى الرجل الزوجية.
فأما إن ادعت المرأة الزوجية نظرت:
فإن ذكرت مع ذلك حقا من حقوق الزوجية كالمهر والنفقة كانت مدعية، وهل
يلزمها الكشف؟ على ما مضى من الثلاثة الأوجه معا في الرجال.
وإن لم تذكر حقا من حقوق الزوجية نظرت: وإنما أطلقت، فقالت: هذا
زوجي، أو قالت: تزوجني، قال قوم: ليست دعوى، ولا يجب الجواب عنها لأن
قولها هذا زوجي إقرار بذلك واعتراف بالزوجية له، ومن أقر بحق لا يلزم المقر له
الجواب، وقال آخرون: - وهو الصحيح عندنا -، أن الدعوى صحيحة ويلزمه
الجواب، لأن إطلاق قولها هذا زوجي أو هذا تزوجني تحته ادعاء لحقوق الزوجية،
فلهذا صحت الدعوى فمن قال: ليست بدعوى، فلا كلام، ومن قال: الدعوى
صحيحة، فهل يفتقر إلى الكشف؟ على ما مضى من الطرق الثلاث.
فكل موضع حكمنا بصحة الدعوى، فعلى الزوج الجواب، فإن اعترف
فلا كلام، وإن أنكر فالقول قوله مع يمينه، فإن حلف برئ، وقوله ليست زوجتي لا
يكون طلاقا، وإن لم يحلف ردت اليمين عليها فتحلف وتثبت الزوجية.
وأما الكلام في دعوى ما عداه من العقود كالبيع والصلح والإجارة ونحو
ذلك، قال قوم: لا يفتقر إليه، وهو الأصح عندي، وقال آخرون: لا بد من
الكشف، لأنه لا يملك إلا بجهة واحدة كالنكاح، فمن قال: يفتقر إلى الكشف،
فالكشف أن يقول: تعاقدنا بثمن معلوم جائزي الأمر وتفرقنا بعد القبض عن تراض
منا، ومن قال: لا يفتقر إليه أجزأه أن يقول: بعته هذا العبد بألف أو اشترى مني هذا
العبد بألف، وكذلك اشتريت وابتعت واحد، ومن قال: البيع لا يفتقر إلى
الكشف، قال: إن كان البيع غير جارية فالحكم كذلك، وإن كان جارية، منهم من
قال: لا يفتقر إلى الكشف كسائر الأشياء، وهو الصحيح عندنا، ومنهم من قال:
لا بد من الكشف لأنه عقد يستباح به البضع، فأشبه النكاح.
الدعوى في الكفالة بالنفس والنكول ورد اليمين كهي في الأموال، وقد بينا أن
258

الكفالة بالنفس قال قوم: هي صحيحة، وقال آخرون: هي غير صحيحة، والأول
مذهبنا.
فصل: في تعارض البينتين:
جملته أن التعارض إنما يكون بأن يشهد كل واحد منهما بضد ما تشهد به
الأخرى، لا يرجع إحديهما على الأخرى، من ذلك إذا شهد شاهدان أن هذه الدار
لزيد، وشهد آخران أن هذه لعمرو تعارضتا لأن الدار لا يجوز أن تكون كلها ملكا
لكل واحد منهما، ومنه إذا شهد شاهدان أنه باع هذا العبد من زيد بألف عند
الزوال، وشهد آخران أنه باعه من عمرو بألف في ذلك الوقت، فهما متعارضتان،
لأن عقد البيع مع كل واحد منهما في زمان واحد محال.
فإذا تعارضتا فمذهبنا أنه يستعمل فيه القرعة، فمن خرج اسمه حكم له به، وقال
قوم: يسقطان معا، وفيهم من قال: يقرع، على ما قلناه، وقال قوم: يوقف أبدا،
وقالت فرقة رابعة: يقسم بينهما.
إذا قال: أكريتني هذه الدار شهر رمضان بمائة، وقال المكري: بل أكريتك
هذا البيت منها هذا الشهر بمائة، فالمسألة اختلاف المتكاريين في قدر المكري،
وهي مصورة في دار بعينها، لأنه إن أبهم الدار لم تصح الدعوى فإذا ثبت أنه اختلاف
المتكاريين فاختلافهما كاختلاف المتبايعين، واختلاف المتبايعين يقع من وجوه:
يختلفان في قدر الثمن دون المبيع، يقول: بعتني هذا العبد بألف، فيقول: بل
بألفين، ويختلفان في قدر المبيع دون الثمن، فيقول: بعتني هذين العبدين بألف،
فيقول: بل هذا العبد وحده بألف، ويختلفان في جنس الثمن فيقول: بألف درهم،
ويقول: بل بألف دينار، ويختلفان في الأجل وفي مدة الخيار.
وكله، اختلاف المتبايعين واختلاف المتكاريين يقع بأربعة أوجه:
في قدر المكري فيقول: أكريتني الدار شهر رمضان بمائة، فيقول: بل هذا
البيت منها بمائة، ويختلفان في قدر الكري فيقول: أكريتها بمائة، فيقول:
259

بمائتين، ويختلفان في الجنس فيقول: بمائة درهم، ويقول: بمائة دينار، و
يختلفان في المدة فيقول: في شهرين بمائة، فيقول: شهرا بمائة.
فإذا وقع الاختلاف على ما ذكرناه لم يخل من ثلاثة أحوال: إما أن لا يكون هناك
بينة أو يكون مع أحدهما بينة أو مع كل واحد منهما بينة.
فإن لم تكن بينة أصلا فقد اختلفا بغير بينة، فلا يخلو: إما أن يتخالفا بعد المدة
أو عقيب العقد أو في أثنائها.
فإن تخالفا بعد انقضاء المدة فلا يقال في الفسخ شئ لأن المدة قد فنيت،
ولكن يسقط المسمى ويجب على المكتري أجرة المثل لأن المعقود عليه هو المنفعة
وقد هلك في يديه، وتعذر عليه الرد، فكان عليه رد البدل، وهو أجرة المثل، كما
قلناه في المتبايعين، إذا تخالفا والسلعة تالفة، يسقط المسمى وعلى المشتري
القيمة.
وإن تخالفا عقيب العقد، قال قوم: ينفسخ العقد بنفس التخالف، وقال
آخرون: بالتخالف وحكم الحاكم، فمن قال: ينفسخ بالتخالف، وقع الفسخ ظاهرا
وباطنا، ومن قال: بحكم الحاكم منهم من قال: يقع ظاهرا لا باطنا، وهو
الصحيح، لأن حكم الحاكم لا يحيل الشئ عما هو عليه في الباطن، وقال قوم:
ينفسخ ظاهرا وباطنا، وإذا وقع الفسخ أخذ المكري داره والمكتري أجرته.
وإن كان التخالف في أثناء المدة انفسخ فيما بقي من المدة، على ما فصلناه و
أخذ المكري ما بقي من المنفعة، ورد على المكتري المسمى، وعليه أجرة المثل
للمكري لما مضى من المدة، لأن ذلك القدر هلك في يديه، هذا إذا لم تكن بينة.
فأما إن كان مع أحدهما بينة حكمنا له على صاحبه لأن بينة المدعي مقدمة
على يمين المدعى عليه.
وإن كان مع كل واحد منهما بينة فلا يخلو من أربعة أحوال: إما أن تكونا
مطلقتين، أو إحديهما مطلقة والأخرى مؤرخة أو مؤرختين تاريخا واحدا أو مؤرختين
تاريخين مختلفين.
260

فإن كانتا مطلقتين، قالت كل واحدة منهما: العقد وقع على شهر رمضان، ولم
تذكرا وقت العقد - هذا هو الإطلاق - فالحكم في المطلقتين، وإذا كانت إحديهما
مؤرخة أو مؤرختين تاريخا واحدا مثل أن شهدت كل واحدة منهما بأن العقد وقع مع
غروب الشمس من شعبان فينظر فيما اختلفا فيه: فإن كان الاختلاف في جنس الأجرة
فهما متعارضتان، لأنه لا يمكن أن يكتري الدار شهر رمضان عقدين صحيحين
أحدهما بدينار والآخر بدرهم، فتعارضتا.
وإن كان الاختلاف في قدر المكري أو الكري أو المدة فالحكم في هذه
الأقسام الثلاثة واحد، قال قوم: هما متعارضتان، وقال آخرون: يكون الأخذ بالزائد
أولى، لأنها أثبتت ما شهدت به الأولى وانفردت بالزيادة، فكان الزائد أولى، كما لو
شهد شاهدان بألف وآخران بألفين، كان الأخذ بالزائد أولى، والأول أصح لأن الثاني
غلط من قائله، لأن التعارض في البيت لا بد منه إذا فرضنا في البيت والدار لأنه إن
كان التاريخ واحدا فمحال أن يقع العقد على البيت وحده، وعلى الدار كلها في
زمان واحد دفعتين.
وإن كان العقد على الكل أولا فإذا أكراه البيت ثانيا فالعقد الثاني على البيت
باطل، لأنه قد اكترى ما اكتراه، وإن كان العقد على البيت أولا فإذا عقد على الدار
بعده فالبيت دخل في العقد على كلها، فكان العقد الثاني على البيت باطلا فهما في
البيت متعارضتان.
ويفارق الألف والألفين، لأن من شهد بألف لا يعارض من شهد بألفين لجواز
الصدق فيهما، فلهذا لم يقع التعارض، فأثبتنا الألف بأربعة والألف الزائد
بشاهدين، وليس كذلك هاهنا لأن العقد على البيت مرتين شهرا واحدا محال،
فلهذا تعارضتا.
فإذا ثبت أنهما متعارضتان قال قوم: يسقطان، وقال قوم: يستعملان، وهو
مذهبنا، فمن قال: يستعملان، منهم من قال: يقرع بينهما، وبه نقول، ومنهم من
قال: يوقف، ومنهم من قال: يقسم، فالوقف لا يمكن هاهنا لأن العقود لا تقف،
261

ولا يمكن القسمة لأن العقد لا ينقسم، فليس غير القرعة على ما اخترناه، فمن خرجت
قرعته حكمنا له.
وهل يحلف أم لا؟ قال قوم: يحلف، وهو الذي تشهد به رواياتنا، وقال قوم:
لا يحلف، وهو مبني على حكم القرعة، فمنهم من قال: يقدم بينته بالقرعة،
ويحكم له بالبينة فعلى هذا لا يمين لأن الحكم بالبينة، وقال آخرون: يرجح قوله
بالقرعة لأنا قدمنا بينته بالقرعة فكانت القرعة كانفراده باليد، متى تنازعا شيئا يد
أحدهما عليه، كان القول قول صاحب اليد مع يمينه، فكذلك صاحب القرعة،
فعلى هذا يحلف أن بينتي لصادقة فيما شهدت لي به.
وأما القسم الرابع وهو إذا كانتا بتأريخين مختلفين شهدت إحديهما أن العقد
مع غروب الشمس من آخر شعبان، وشهدت الأخرى أن العقد مع غروب الشفق من
أول ليلة من رمضان فلا تعارض هاهنا، فإن تقدمت بينة المكتري فقد صح العقد على
كلها وعليه الأجرة المسماة فإن شهدت بينة المكري أنه أكراه هذا البيت منها بعد
ذلك، كان العقد الثاني باطلا على البيت، لأنه قد اكتراه مع الدار هذا الشهر، فلا
يصح أن يكتريه وحده هذا الشهر، فبطل الثاني وصح الأول وإن كان السابق العقد
على البيت صح وإذا اكترى الدار كلها بعد هذا كان العقد الثاني على البيت باطلا و
فيما بقي من الدار يكون صحيحا عندنا وعند قوم، وقال قوم: يبطل فيما بقي
متنازعا مبنيا على تفريق الصفقة.
إذا ادعى دارا في يدي رجل فقال المدعى عليه: ليست بملك لي وإنما هي
لفلان، فلم يخل فلان من أحد أمرين: إما أن يكون مجهولا أو معروفا، فإن كان
معروفا لم يخل من أحد أمرين: إما أن يكون حاضرا أو غائبا، فإن كان حاضرا لم
يخل الحاضر المقر له من أحد أمرين: إما أن يقبل الإقرار أو يرده، فإن قبله فقال:
صدق الدار لي وملكي، حكمنا له بالملك، لأنه قد أقر له بها من هي في يده،
والظاهر أن ما في يده ملكه وإقراره في ملكه نافذ صحيح.
فإذا حكمنا بها للمقر له، قلنا للمدعي: قد دارت خصومتك إليه، فلا يخلو
262

المدعي من أحد أمرين: إما أن يكون معه بينة أو لا بينة معه.
فإن كانت له بينة بأن الدار له، حكمنا له بها، لأن بينته أولى من يد المدعى
عليه.
وإن لم يكن معه بينة فالقول قوله مع يمينه، لأن الظاهر أن ما في يده ملكه،
فإن لم يحلف ونكل عنها حلف المدعي واستحق، فإن حلف أسقط دعوى
المدعي، واستقرت الدار في يديه.
فإن قال المدعي: فأحلفوا لي المقر الذي ادعيت عليه أولا أنه لا يعلم أنها
ملكي، قال قوم: يجب عليه اليمين، وقال آخرون: لا يجب عليه، بناء على مسألة
وهي إذا قال: هذه الدار لزيد لا بل لعمرو، سلمت إلى زيد، وهل يغرمها لعمرو؟
على قولين، كذلك هاهنا لو اعترف بها للمدعي بعد أن أقر بها لغيره، هل عليه الغرم
أم لا؟ على قولين.
فمن قال: لو اعترف لزمه الضمان، قال: عليه اليمين لأنه لما لزمه الغرم مع
الإقرار، لزمته اليمين مع الإنكار، وقال قوم: لا يحلف لأنه لا فائدة فيها، لأن أكثر
ما فيه أن يعترف خوفا من اليمين ولو اعترف لا شئ عليه، فلما لم يلزمه الغرم مع
الإقرار، لم يلزمه اليمين مع الإنكار، وهذا الذي يقوى في نفسي، هذا الكلام إذا قبل
ما أقر له به.
فأما إن رد الإقرار ولم يقبله، فالمدعى عليه قد أقر بها لغيره، فنفى أن يملكها
والمقر له بها قد ردها، والمدعي لا بينة معه، فما الذي يصنع فيها؟
قال قوم: تكون بمنزلة اللقطة يحفظها السلطان لصاحبها حتى إذا أقام البينة
بأنها له سلمها إليه، لأن المقر لا يدعيها، والمقر له لا يقبلها والمدعي لا بينة له
فليس غير أن تحفظ لمالكها
وقال قوم: تدفع إلى المدعي لأن المقر لا يدعيها، والمقر له بها قد ردها،
فلم يبق من يدعيها غير المدعي، فوجب أن تدفع إليه، وهذا ضعيف لأنه يفضي
إلى تسليمها إليه بمجرد دعواه، وهذا لا سبيل إليه.
263

وقال قوم: يقال له: نفيت أن تكون لك، وقد ردها المقر له، فإما أن تقر بها
لمعروف تكون الخصومة فيه معه، أو تدعيها لنفسك فتكون الخصومة معك، وإلا
جعلناك ناكلا، وحلف المدعي واستحق، والأول أصح الأقوال عندنا.
فأما إن أقر بها لغائب معروف لم يخل المدعي من أحد أمرين: إما أن يكون له
بينة أو لا بينة له.
فإن لم يكن له بينة، لم يقض على الحاضر، لأنه يقول: ليست لي وإنما هي
للغائب، ولا على الغائب لأنه لا حجة مع المدعي، فليس غير أن يقف الأمر حتى
يقدم الغائب، فتكون الخصومة معه، فأما إن قال المدعي: فأحلفوا لي هذا المقر أنه
لا يعلم أنها لي، فهل يحلف؟ على ما مضى.
وإن كان مع المدعي بينة لم يخل المقر من أحد أمرين: إما أن يكون له بينة أو
لا بينة له.
فإن لم يكن له بينة قضينا بها للمدعي لأن بينته أولى من يد الغائب والحاضر،
وهل يحلف مع البينة أم لا؟ قال قوم: يحلف معها، لأنه قضاء على الغائب بدلالة
أن المقر أقر بها له، والقضاء عليه بعد الاعتراف بها للغائب لا يصح، ثبت أنه قضاء
على غائب، وقال قوم: يقضى له بالبينة بغير يمين لأن هذا قضاء على حاضر لأن
الشئ في يده، فالظاهر أنها ملكه، وهو الأقوى، هذا إذا لم يكن مع المقر بينة.
فأما إن كانت معه بينة فإن الحاكم يسمعها منه في حق نفسه، لا في حق
الغائب، ويسمع بينة المدعي، ويقضي للمدعي بالبينة، ويستحلفه معها، لأن بينة
المقر أنها للغائب أسقطت أن تكون للمقر، فلهذا كان القضاء على الغائب،
واستحلفناه.
قالوا: فإذا كنتم سمعتم بينة الغائب ثبت له يد وبينة، وللمدعي بينة بلا يد،
فكيف لم تقضوا ببينة الداخل؟ قلنا: إنما نقضي بالبينة إذا شهدت لمن يدعي الحق،
فأما إذا شهدت لمن لا يدعي الحق، لم نحكم له بها، وهكذا نصنع بكل بينة
شهدت بحق لمن لا يدعيه، كما لو حضر شاهدان قسمة مال المفلس، فقالا:
264

نشهد بأن هذا العبد لفلان، وفلان لا يدعيه، لم يحكم بذلك، وهكذا لو حضرا
قسمة التركة بين الورثة وشهدا بأن هذا العبد لفلان وفلان لا يدعيه، لا يقضى
له بها.
قالوا: فإذا لم يحكم بها لم يسمعها؟ قلنا له: فيه فوائد منها أن تزول التهمة عن
المقر، والثاني أن يسقط اليمين عن المقر إذا قال المدعي: أحلفوه، والثالث يحلف
المدعي مع بيته لأن البينة أخلصت القضاء على الغائب، هذا كله إذا كانت في يد
المقر وديعة أو عارية.
فأما إن كانت في يده بعقد إجارة ادعاها وأقام البينة بها، فهل نقضي بالإجارة له
على الغائب وبالدار للغائب؟ قال بعضهم: نقضي بذلك، لأنا إنما لا نقضي
للغائب بهذه البينة إذا لم يكن فيها حق للحاضر على الغائب، فأما إذا كان فيها حق
لحاضر قضينا بمقتضاها فتكون الدار إجارة في يده والملك للغائب، وقال آخرون:
لا نقضي بذلك لأنه إنما يصح الإجارة على الغائب بعد ثبوت الملك، والملك ما
ثبت، فكيف تثبت الإجارة؟
فإذا ثبت هذا فكل موضع قضينا بها للمدعي فقال للقاضي: اكتب لي محضرا
بما جرى كتب:
" بسم الله الرحمن الرحيم حضر القاضي فلان بن فلان وأحضر معه فلان بن
فلان فادعى دارا في يديه فاعترف بها المدعى عليه لغائب معروف فلان بن فلان،
فأقام البينة وأقام المدعي البينة فقضي على الغائب ببينته ويمينه، وجعل كل ذي حجة
على حجته "، فإذا قدم الغائب نظرت: فإن أقام البينة قضينا له بالدار، وأبطلنا
الحكم السابق بها للمدعي، لأن مع الغائب يدا وبينة، فكانت بينة الداخل أولى،
وإن لم يقم البينة كان الحكم على ما كان عليه، فإن قال المحكوم له: زد في
محضري ذلك، زاد فيه " وحضر الغائب فلم يأت ببينة ". فهذا إذا كان الاعتراف بها
لمعروف.
فأما إذا كان الاعتراف بها لمجهول، قال قوم: يقال له: إقرارك بها لمجهول
265

عدو لك عن الجواب فإما أن تعترف بها لمعروف تدور الخصومة إليه أو تدعيها لنفسك
فتكون الخصومة بينكما، فإن فعلت وإلا جعلناك ناكلا فحلف المدعي واستحق،
وقال آخرون: يقال له: ليس هذا جوابا فإما أن تعترف بها لمن يقبلها وإلا جعلناك
ناكلا، ولا يقال له: أو تدعيها لنفسك، لأنه قد أقر بها لغيره وأنكر أن تكون لنفسه
فلا يقبل قوله أنها لنفسه.
إذا كانت الدار في يدي رجل فتداعاها رجلان قال أحدهما: الدار التي في
يديك لي أو دعتكها، وأقام البينة، وقال الآخر: هذه الدار التي في يديك لي
آجرتكها، وأقام البينة، قال قوم: هما متعارضتان، لأن التنازع في الملك، وقد
شهدت كل واحدة منهما بالملك في الحال لكل واحد منهما وهذا محال فتعارضتا،
وإذا تعارضتا قال قوم: يسقطان، وقال قوم: يقرع بينهما، وهو مذهبنا، وقال
بعضهم: يقسم بينهما، وكل ذلك ممكن هاهنا، لأن التنازع وقع في الملك.
إذا تنازعا دارا أيديهما عليها معا، وأقام كل واحد منهما البينة أنها له، فيد كل
واحد منهما على نصفها، وقد ادعاها كلها وأقام البينة فيد أحدهما على نصفه وله
بينة بكلها فالبينة تشهد بالنصف ويده عليه، وهي بينة الداخل، وتشهد له بالنصف
الآخر ويد صاحبه عليه وهي بينة الخارج، وهكذا حكم صاحبه، فكل واحد منهما
له بينة الخارج والداخل فكانت يد كل واحد منهما على نصفها بمنزلة أن تنازعا دارا يد
أحدهما عليها، وأقام كل واحد منهما بينة فإنا نقضي لصاحب اليد بالدار، وهل
يحلف أم لا؟ من قال: تعارضتا كذلك هاهنا يحلف كل واحد منهما لصاحبه،
ويكون الدار بينهما، ومن قال: يستعملان، لم يحلف أحدهما لصاحبه، لأنا قدمنا
بينته بيده.
إذا ادعى دارا في يد رجل فقال: هذه الدار التي في يديك لي وملكي، فأنكر
المدعى عليه فأقام المدعي البينة أنها كانت في يديه أمس أو منذ سنة سواء، فهل
تسمع هذه البينة أم لا؟ قال قوم: هي غير مسموعة، وقال آخرون: مسموعة ويقضي
266

للمدعي، ولا فصل بين أن تشهد البينة له بالملك أمس، وبين أن تشهد له باليد
أمس، والصحيح عندنا أن هذه الدعوى غير مسموعة.
فمن قال: هي مسموعة، حكم بالدار للمدعي، ومن قال: غير مسموعة، فلا
بينة مع المدعي فيكون القول قول المدعى عليه مع يمينه، هذا إذا لم يعلم سبب يد
المدعى عليه.
فأما إذا علمت سبب يد المدعى عليه، فقالت البينة: نشهد أنه كان في يده،
وأن الذي هو في يده أخذه منه أو غصبه إياها أو قهره عليها، فحينئذ يقضى للمدعي
بالبينة لأنها شهدت له بالملك، وسبب يد الثاني، فلهذا حكمنا عليه بذلك،
ويفارق إذا لم يشهد بسبب يد الثاني، لأن اليد إذا لم يعرف سببها دل على الملك،
فلا تزال بأمر محتمل، فبان الفصل بينهما.
إذا تنازعا دارا في يد رجل فادعى أحدهما فقال: هذه الدار غصبتني عليها،
وأقام البينة بذلك، وقال الآخر: الدار لي أقر لي بها، وأقام البينة بذلك، حكمنا
بها للمغصوب منه لأنها شهدت له بالملك، وأن الدار في يده غصب، والتي
شهدت على الإقرار بها كان إقراره بدار مغصوبة، فلا ينفذ إقراره فيها فيدفع الدار
إلى المغصوب منه، ولا يغرم المدعى عليه شيئا للذي شهد له بالإقرار، لأنه ما
حال بينه وبينها، وإنما حالت البينة بينه وبين الدار، فلأجل ذلك لم يلزمه
شئ
فصل: في الدعوى في الميراث:
إذا مات رجل وخلف ابنين مسلما ونصرانيا، فادعى المسلم أن أباه مات
مسلما وإن التركة له وحده، وأقام به شاهدين، وادعى النصراني أن أباه مات نصرانيا
وأن التركة له، وأقام شاهدين، فعندنا أن التركة للمسلم، سواء مات مسلما أو
نصرانيا فلا يتقدر عندنا التعارض في البينتين.
وعندهم لا يخلو الميت من أحد أمرين: إما أن يعرف له أصل دين أو لا يعرف له
267

ذلك.
فإن عرف له أصل دين مثل أن كان نصرانيا لم تخل البينتان من أحد أمرين: إما
أن تكونا مطلقتين أو مقيدتين.
فإن كانتا مطلقتين مثل أن شهدت إحديهما أنه مات على النصرانية، وشهدت
الأخرى أنه مات على الإسلام، كانت بينة المسلم أولى، وسقطت الأخرى ويحكم
بالتركة للمسلم وحده، لأن أصل دينه النصرانية والإسلام انتقال عن ذلك الأصل،
فقد شهدت بزيادة على الأخرى.
وإن كانتا مقيدتين مثل أن شهدت إحديهما أنه فارق الدنيا ناطقا بكلمة
النصرانية، وشهدت الأخرى أنه فارق الدنيا ناطقا بكلمة الإسلام، فهما متعارضتان،
لأنه لا يجوز أن ينطق بكلمة الكفر وكلمة الإسلام في زمان واحد.
وفي المتعارضتين قال قوم: يسقطان، وقال آخرون: يستعملان، فمن قال
يسقطان قال: القول قول النصراني مع يمينه ما مات أبوه مسلما وتكون التركة كلها له،
لأن الأصل النصرانية، ومن قال: يستعملان، إما بالقرعة، أو الإيقاف أو القسمة،
فإذا أقرع من خرج اسمه فهل يحلف؟ على قولين، ومن قال: يوقف، أوقف حتى
ينكشف الأمر، ومن قال: يقسم، قسم التركة بينهما، وقال بعضهم: لا تقسم التركة
بحال، لأنه لا يمكن أن يرثاه معا، لأنه إن مات مسلما لا يرثه الكافرون وإن مات
كافرا لا يرثه المسلم، وقال بعضهم: التي شهدت بالإسلام أولى لأنها شهدت
بإسلام عرفته بأمر خفي على الأخرى، وهذا إنما يتم في المطلقتين وأما في
المقيدتين فلا يصح.
فأما إذا لم يعرف له أصل دين فلا فصل هاهنا بين أن تكونا مطلقتين أو مقيدتين
في أنهما متعارضتان، لأنه إذا لم يعرف له أصل دين لا تكون التي شهدت بالإسلام
انفردت بزيادة بل وقع التساوي بحيث لا ترجيح لأحدهما على الآخر فهما متعارضتان
فإما أن تسقطا ويكون كأنه لا بينة هناك، وينظر في التركة: فإن كانت في يد الغير
كان أحق بها، لأنه لا حجة لواحد منهما بها، وإن كان في يد أحدهما فالقول قوله
268

مع يمينه، والآخر مدع، وإن كان يدهما معا عليها حلف كل واحد منهما على
إسقاط دعوى صاحبه، وتكون بينهما، ومن أقرع فهل يحلف من خرج اسمه؟ على
قولين، ومن قال: يوقف، أوقفها حتى يزول الإشكال، ومن قال: يقسم، قسمها
بينهما.
فأما دفنه والصلاة عليه فإنه يصلى عليه وينوي الصلاة عليه إن كان مسلما،
سواء عرف له أصل دين أو لم يعرف له مطلقتين كانتا أو مقيدتين، لأنه إذا أشكل
الإسلام علينا حكم الإسلام في الصلاة عليه كما لو اختلط موتى المسلمين بموتى
المشركين، وأما الدفن ففي مقابر المسلمين لما قررناه.
إذا ادعيا دارا في يد غيرهما وأقام كل واحد منهما بينة أنها له، تركت في يد
الذي هي في يده، والقول قوله مع يمينه.
فإن قالوا: هلا زالت يده عنها بهذه البينة لأنهما وإن تعارضتا في غير عين
الملك فقد أجمعتا على أنها ليست ملكا لمن هي في يده؟ قلنا: إذا لم يعين البينة
طالب الحق سقط، كما لو شهدت أن هذه الدار لأحد هذين الرجلين فإنها تسقط
لأنها ما عينت المشهود له، فإن أقر بها من هي في يديه، لأحدهما، سلمت إليه، لأن
الظاهر أن ما في يده ملكه، وهل يحلف أم لا؟ على قولين، بناء على غرمه، ولو
قال: هي لهذا لا بل لهذا، فإنه على قولين، فمن قال: يلزم الغرم مع الإقرار، لزمته
اليمين مع الإنكار ومن قال: لا يلزمه الغرم مع الإقرار، لم يلزمه اليمين مع الإنكار.
وأما إن أقر بها لأحدهما ثم رجع، فقال: بل لهذا، فهل يغرم؟ على قولين،
كقوله هذه الدار لزيد لا بل لعمرو، هل يغرمها لعمرو؟ على قولين، وإن قال: هي
لهما معا، فقد أقر لكل واحد منهما بالنصف، وهل يلزمه اليمين لكل واحد منهما
في النصف أم لا؟ على ما مضى من القولين، ويقوى في نفسي أنه لا يمين عليه، ولا
غرم في المسائل كلها لأن الأصل براءة الذمة.
رجل مات مسلما وخلف ابنين وتركة، فقال أحدهما: كنت مسلما حين مات
أبي، فقال له أخوه: صدقت وأنا أيضا كنت مسلما حين مات أبي، فقال له أخوه:
269

بل أسلمت أنت بعد وفاته فالتركة كلها لي، فالقول قول المتفق على إسلامه لأنه قد
ثبت إسلامه حين وفاة أبيه واختلفا في إسلام الآخر، هل كان قبل وفاته أو بعد وفاته؟
فكان القول قول المتفق على إسلامه لأن الأصل الكفر حتى يعلم زواله، ويكون يمينه
لا يعلم أن أخاه أسلم قبل موت أبيه، لأنها على النفي على فعل الغير.
فإن كانت بحالها ولم تكن في الكفر وكان ذلك في الرق فمات الرجل حرا و
خلف ابنين، فقال أحدهما: كنت حرا حين مات أبي، فقال له الآخر: صدقت و
كنت أيضا أنا قد أعتقت قبل موت أبي فالتركة بيننا، كان القول قول المتفق على حريته
لأن الأصل رق الآخر حتى يعلم زوال رقه، هذا إذا اتفقا على إسلامه واختلفا في
إسلام أنفسهما.
فأما إن اتفقا على وقت إسلامهما واختلفا في وقت موته، وهو أن أحدهما
أسلم في غرة شعبان وأسلم آخر في غرة رمضان وأسلم الأب ومات، واختلفا،
فقال من أسلم في غرة شعبان: مات أبي في شعبان قبل إسلامك أيها الأخ فالميراث
كله لي، وقال الآخر: بل مات في رمضان فالميراث بيننا، فالقول قول من يدعي
موته في رمضان ويكون الميراث بينهما نصفين، لأن الأصل الحياة حتى يعلم
زوالها.
ولو هلك رجل وخلف أبوين كافرين وابنين مسلمين، ثم اختلفوا، فقال
الأبوان: مات ولدنا على الكفر فالتركة لنا، وقال الابنان: بل مات مسلما
فالميراث لنا.
عندنا أن التركة للولدين المسلمين على كل حال، وعندهم فيها قولان:
أحدهما: أن القول قول الأبوين لأن الأبوين إذا كانا كافرين فولدهما كافر قبل
بلوغه تبعا لأبويه، فإذا بلغ فالأصل أنه على كفره حتى يعلم إيمانه.
والثاني: يوقف، فإن الولد إذا بلغ وأبواه كافران احتمل أن يكون على أصل
كفره، واحتمل أن يكون جدد إسلاما بنفسه، فإذا احتمل الأمرين معا وقف الأمر
حتى زال الإشكال والأول أقوى عندهم.
270

رجل مات وخلف ابنين كافرين وزوجة وأخا مسلما، فقال الابنان: مات
كافرا فالميراث لنا، وقالت الزوجة والأخ: بل مات مسلما فالميراث لنا، عندنا أن
الميراث للمسلم منهم، ويسقط الكافر على كل حال، وعندهم أن هذه المسألة
مثل التي في أول الباب فلا يخلو إما أن يكون له أصل دين يعرف به أو لا يعرف، فإن
عرف أصل دينه وأنه كان كافرا... على شرح ما مضى.
إذا ادعى رجل دارا في يدي رجل فقال: هذه الدار التي في يديك كانت لأبي
وقد ورثتها أنا وأخي الغائب منه، وأقام بذلك بينة لم يخل من أحد أمرين: إما أن
تكون البينة من أهل الخبرة الباطنة والمعرفة المتقادمة أو لا تكون كذلك.
فإن كانت من أهل الخبرة الباطنة والمعرفة المتقادمة، وقد شرحناه في الإقرار،
وهي أن تكون البينة خبيرة بباطن أمره، ولو كان له ولد عرفاه، والخبرة المتقادمة حتى
لا يخفى عليها قديم أمره وجديدة، فإذا كانت كذلك فقالت: نعلم ذلك، وأنهما
وارثاه لا نعرف له وارثا سواهما، أو قالا: لا وارث له سواهما واحد، فإن القطع يعود
إلى العلم كقولهما: لا نعرف، يعود إلى أن لا نعلم ذلك، فإذا شهدا بذلك انتزعناها
ممن هي في يده، وسلمنا إلى الحاضر نصفها، والباقي في يدي أمين الحاكم حتى
يعود الغائب.
وقال قوم: يؤخذ من المدعى عليه نصيب الحاضر ويقر الباقي في يدي من
هو في يده حتى يحضر الغائب، وهو الأقوى عندي، هذا إذا كانت الدعوى دارا أو
عقارا.
فأما إن كانت عينا ينقل ويحول كالثياب والحيوان، فالحكم فيها كالعقار
سواء، وإن كانت الدعوى دينا قضي به للأخوين، ودفع إلى الحاضر حقه منه،
والباقي قال قوم: يقبض كالعين، وقال آخرون: لا يقبض منه، وهو الصحيح
عندنا، ومن وافق هاهنا وخالف في العين قال: لأن الأحوط للغائب تركه في ذمته
لأنه لا يتلف، ويفارق العين لأنها أمانة حيث حصلت، فلهذا نقلت عن يده ولا
نحتاج نحن إلى هذا على ما قلناه لأنا قد سوينا بين المسألتين.
271

ومن قال ينزع من يده قال: يسلم نصف الغائب إلى أمين، فإن كان له أجرة جعلت
أجرته للغائب، وإن لم يكن له حفظ لصاحبه، فإذا ثبت هذا ودفعنا إلى
الحاضر نصيبه لم نطالبه بضمين، لأنا قد حكمنا له بالحق، فلا يؤخذ منه ضمين.
فإذا ثبت هذا وقدم الغائب نظرت: فإن ادعى ما حكمنا له به تسلمه، وإن ذكر
أنه لا حق له فيه، رددنا ما قضينا به له على من قضينا عليه به، هذا إذا كانت البينة من
أهل الخبرة.
فأما إن لم تكن من أهل الخبرة الباطنة ولا المعرفة المتقادمة فقالا: هذان
وارثاه، لا نعرف له وارثا سواهما، أو كانت من أهل الخبرة لكنها قالت: هذان وارثاه،
أو قالا: هما ابناه، ولم يقولا: لم نعلم له وارثا سواهما، فالحكم في هذه المسائل
الثلاث واحد، وهو أنا ننتزع الدار ممن هي في يده، لأنه قد ثبت أنها للميت
موروثة، ولا نعطي الحاضر منها شيئا لجواز أن يكون هناك وارث سواهما فلا يدفع إليه
شئ حتى يبحث الحاكم في البلدان التي طرقها الميت ودخلها وينادي أن فلانا
مات هل تعرفون له ولدا؟ فإذا انتهى إلى حد لو كان له وارث ما خفي أقيم هذا البحث
مقام خبرة الشهود، وتقادم معرفتهم به، ويدفع إلى الحاضر حقه ونصيب الغائب
على ما بيناه من الخلاف.
وإذا دفع إلى الحاضر نصف المشهود به، قال قوم: لا يؤخذ منه ضمين، وقال
آخرون: يؤخذ، وهو الأقوى، لأنه ربما ظهر له وارث آخر فعلى هذا يكون ضمان
الأعيان جائزا، لأن الضامن يضمن ما في يده من العين، ويكون الضمان بمجهول لا
يعرفه الضامن جائزا لأن قدر ما يضمنه لمن يبين مجهول.
فإن كان معهما ذو فرض كالزوج والزوجة والأم فلا يخلو من أحد أمرين: إما أن
يكون في المسألة الأولى أو الثانية.
فإن كان في الأولى أعطي ذو الفرض فرضه وكان الباقي بعد الفرض على
ما مضى، أعطي الحاضر نصف ما بقي، وما بقي للغائب على ما مضى، ولا يؤخذ
منه ضمين هاهنا، لأن البينة كاملة.
272

وإن كان ذو الفرض في المسألة الثانية أعطيناه اليقين، فأعطينا الزوج الربع و
الأم السدس والزوجة ربع الثمن لجواز أن يظهر له ثلاث نسوة غيرها، فتعطى هذا
القدر ولا يؤخذ به ضمين، لأنها ما أخذت ما يشاركها فيه غيرها، ولا يعطي الابن
الحاضر شيئا حتى يبحث عنه فإذا بحث عنه أكمل للزوجة الثمن، وأعطي الحاضر
نصف ما بقي، وكان الباقي للغائب على ما مضى، وهل يؤخذ من الزوجة ضمين
بما كملناه لها من الثمن ومن الابن ضمين بما قبضه؟ على ما مضى من الخلاف،
هذا إذا كان المدعي وارثا لا يحجب عن الميراث وهو الابن.
وأما إن كان المدعي يحجب عن الميراث ومن يحجب عنه معروف ابن الابن
يحجبه الابن، والأخ يحجبه الابن، وابن الأخ يحجبه الأخ، والجد يحجبه الأب،
والعم يحجبه الأخ، فنفرض المسألة إذا كان المدعي أخاه وفيه إذا ادعاه وحده فإنه
أسهل.
فإذا مات رجل فادعى رجل أنه أخي وأنا وارثه لا وارث له غيري، وأقام
البينة بذلك لم يخل من أحد أمرين: إما أن تكون البينة كاملة أو غير كاملة،
فالكاملة إذا كانت عارفة بالباطن والمعرفة المتقادمة، وغير الكاملة إذا كانت غير
عالمة بذلك.
فإن كانت كاملة فإن لم يكن معه ذو فرض أعطينا الأخ جميع ماله، وإن كان
معه ذو فرض أعطي سهمه كاملا فيعطى الزوج النصف، والزوجة الربع، والأم الثلث
ولا يأخذ منهم ضمينا كما قلناه في الابن سواء، لأن البينة قد أثبتت أنه لا وارث له
سوى هؤلاء.
وأما إن لم تكن البينة كاملة، فإن لم يكن معه ذو فرض لم يعط الأخ شيئا حتى
يبحث في البلدان التي طرقها على صفة لو كان له وارث ما خفي، فحينئذ يدفع التركة
إلى الأخ، وهل يؤخذ منه الضمين أم لا؟ على ما مضى في الابن، فمن قال: يؤخذ
من الابن الضمين فهاهنا أولى، ومن قال: لا يؤخذ، فعلى وجهين، وعلى ما قلناه
يؤخذ على كل حال الضمين، وأما إن كان هناك ذو فرض أعطي اليقين قبل البحث،
273

فتعطى الأم السدس عندنا كاملا، وعندهم معولا، والزوج له الربع كاملا وعندهم
معولا والزوجة لها ربع الثمن كاملا، وعندهم معولا، وإنما قلنا: نعطيه قبل
البحث، لأن هذا القدر يستحقه قطعا وكل من أخذ هذا المقدار لا يؤخذ منه
ضمين، لأن أحدا لا يزاحمه فيه، فإذا بحث الحاكم فلم يعرف له وارثا غير هؤلاء،
أعطى الأم حقها وكمل المقدر وفي كل ذي فرض فرضه، وهل يؤخذ الضمين إذا
كمل من الأخ؟ على ما مضى.
ولو كان المدعي هو الابن وأنه وارثه فقامت البينة بأنه ابنه، وما زادت عليه
بحث الحاكم عن وارث سواه، فإذا لم يجد ذلك سلم التركة إليه، ولو كان مكانه أخ
فشهدت البينة بأنه أخوه ولم تزد فبحث الحاكم فلم يقف له على وارث، قال
بعضهم: لا يعطي شيئا حتى تشهد البينة الكاملة أنه لا وارث له سواه، والفصل بين
الأخ والابن أن البنوة إذا حصلت فلا بد من الميراث مع سلامة الحال، والأخ قد
يسقط مع سلامة الحال، فلهذا لم يسقط وهذا قوي.
إذا كانت امرأة لها ابن وأخ وزوج فماتت وابنها، واختلف الأخ والزوج فقال
الزوج: ماتت الزوجة أولا فورثتها أنا وابني ثم مات ابني فصار الكل لي، وقال الأخ:
بل مات الابن أولا فورثته أنت وأختي ثم ماتت الأخت بعد هذا فتركتها بيننا نصفين،
فإن كان مع أحدهما بينة قضينا له بما يدعيه، وإن لم تكن مع أحدهما بينة فإنه لا
يورث أحدهما من صاحبه، لأن الوارث لا يرث شيئا حتى يتحقق حياته حين موت
مورثه، وهاهنا ما تحققنا، فلا يرث الابن من أمه، ولا الأم من ولدها، فالوجه أن
يقسم تركة الميت كأنه لا ولد لها، فتكون تركتها بينه وبين أخيها نصفين، وتكون تركة
الابن كأنه مات ولا أم له، فتكون تركته لأبيه دون غيره.
هذا لا خلاف فيه وفي مسألة الغرقى خلاف عندهم، مثل هذا، وعندنا يورث
بعضهم من بعض.
إذا خلف زوجة وابنا وهناك أمة واختلف الولد والزوجة، فقال الولد: الأمة
ميراث بيننا، وأقام به بينة، وقالت الزوجة: الأمة لي أصدقنيها أبوك، وأقامت البينة
274

بذلك، قضينا لها بذلك، وطرحنا بينة الابن، لأن بينة الزوجة انفردت بزيادة خفيت
على بينة الابن، وهو أنها أثبتت ما جهلته بينة الابن، فكانت أولى، كرجل خلف
دارا فادعى رجل أن الميت باعه إياها وأقام البينة بذلك، وقال ابنه: خلفها ميراثا
وأقام بذلك بينة كانت بينة المشتري أولى لأنها انفردت بزيادة.
فصل: في الدعاوي في وقت دون وقت:
إذا تنازعا عينا من الأعيان عبدا أو دارا أو دابة فادعى أحدهما أنها له منذ سنتين
وادعى الآخر أنها له منذ شهر وأقام كل واحد منهما بينة، أو ادعى أحدهما أنها له
منذ سنتين، وقال الآخر: هي الآن ملكي، وأقام كل واحد منهما بينة بما يدعيه
الباب واحد، ولا فصل بين أن يدعي أحدهما ملكا قديما، والآخر ملكا في
الحال، وبين أن يدعي كل واحد منهما قديم الملك وأحدهما أقدم.
فإذا ثبت أنه لا فصل بينهما لم تخل العين المتنازع فيها من أحد أمرين: إما أن
تكون في يد ثالث أو في يد أحدهما.
فإن كانت في يد ثالث قال قوم: هما سواء، وقال آخرون: التي شهدت بقديم
الملك أولى، وهو الأقوى عندنا.
فمن قال: التي شهدت أولى، حكم بها، وأثبت الملك له منذ أول الوقت،
إلى وقت الشهادة، وما كان من فائدة أو نتاج أو ثمرة طول هذه المدة، فهو للمشهود
له بالملك، لأنا حكمنا بأن الملك له هذه المدة، فكان نماؤه له.
ومن قال: هما سواء، قال: هما متعارضتان فإما أن يسقطا أو يستعملا، فإذا
سقطتا كان وجودهما وعدمهما سواء، وقد تداعيا دارا في يد ثالث ولا حجة
لأحدهما، فإن أنكرها فالقول قوله مع يمينه، وإن أقر بها لأحدهما، ثم قال: لا بل
للآخر، سلمت إلى الأول، وهل يغرم للثاني؟ على قولين، وإن أقر بها لأحدهما فهل
يحلف للآخر؟ على قولين، فمن قال: يغرم مع الإقرار له، قال: يحلف مع الإنكار،
ومن قال: لا يغرم مع الإقرار، قال: لا يحلف مع الإنكار، وإن أقر بها لهما
275

نصفين، فهل يحلف للآخر على النصف الذي أقر به بعده؟ على قولين.
ومن قال: يستعملان، قال: إما أن يقرع أو يوقف أو يقسم، فإذا أقرع فهل
يحلف مع القرعة؟ على قولين، ومن قال: يوقف، أوقف، ومن قال: يقسم،
قسمت بينهما لأن المتنازع فيه مال.
إذا تنازعا دابة فقال أحدهما: ملكي، وأطلق وأقام بها بينة، وقال الآخر:
ملكي نتجتها، وأقام بذلك بينة، منهم من قال: على قولين كقديم الملك، أحدهما
بينة النتاج أولى وهو مروي في أحاديثنا، والثاني هما سواء.
وهكذا كل ملك تنازعاه فادعاه أحدهما مطلقا وادعاه الآخر مضافا إلى
سببه مثل أن قال: هذه الدار لي، وقال الآخر: اشتريتها، أو قال أحدهما:
هذا الثوب لي، وقال الآخر: بل لي نسجته في ملكي، أو هذا العبد لي، وقال
الآخر: بل لي غنمته أو ورثه، الباب واحد، والكل كالنتاج، والنتاج أولى وأقوى
من قديم الملك، لأن من شهد بالنتاج نفى أن يكون ملكا قبله لأحد، ومن شهد
بقديم الملك لم يشهد بنفي الملك قبله عن غيره، فكان أقوى، هذا كله إذا كانت في
يد ثالث.
وأما إن كانت الدار في يد أحدهما وأقام أحدهما بقديم الملك والآخر
بحديثه، نظرت: فإن كانت الدار في يدي من شهدت له بقديم الملك، فالدار له،
لأن معه ترجيحين بينة قديمة ويدا، وإن كانت في يد حديث الملك، قال قوم:
لصاحب اليد، ولا أنظر إلى قديم الملك وحديثه، وقال آخرون: قديم الملك
أولى من اليد، وهو الذي تدل عليه أخبارنا لأن البينة أقوى من اليد، وكذلك ما
رجح بالبينة أقوى مما رجح باليد، ولأن صاحب اليد مدعى عليه، والمدعي من له
البينة بقديم الملك فكان أولى للخبر.
ومن قال: اليد أولى، قال: لأن البينة بقديم الملك لم تسقط بها اليد، كرجل
ادعى دارا في يد رجل وأقام البينة أنها كانت له أمس لم يزل اليد بها، كذلك هاهنا،
وقال بعضهم: صاحب اليد أولى وإن وافق في أن بينة الخارج أولى، لأنه قال: لا
276

أقبل بينة الداخل إذا لم تفد إلا ما يفيد يده، وهذه قد أفادت أكثر مما يفيده وهو
إثبات الملك له منذ شهر، واليد لا تفعل ذلك.
بائع ومشتريان إذا تنازعا دارا فقال أحدهما: هذه الدار لي اشتريتها من خالد
ابن عبد الله بمائة، وقال الآخر: أنا اشتريتها منه بمائة ونقدته الثمن، وأقام كل
واحد منهما بينة بما يدعيه، فهما في الظاهر متعارضتان، لأن كل واحد منهما يدعي
في الحال أنها ملكه، وأما في الشراء فلا تعارض بينهما لأنه يحتمل أن يكون
أحدهما اشتراها منه ثم ملكها البائع ثم باعها من الآخر، فالتعارض من حيث المنازعة
في ملكها في الحال، فأما في سبب الملك فلا تعارض.
فإذا ثبت هذا لم تخل البينتان من أحد أمرين: إما أن تكونا مؤرختين بتأريخين
مختلفين أو غير ذلك.
فإن كانتا بتأريخين مختلفين شهدت إحديهما أنه اشتراها منه في شعبان،
وشهدت الأخرى أنه اشتراها في رمضان، كانت بينة شعبان أولى، لأن ملكه قد زال
عنها في شعبان، فكان بيعه في رمضان باطلا لأنه باع ملك غيره فيقضي بها له،
ويكون للآخر عليه اليمين.
وأما إن لم تكونا بتأريخين مختلفين، فلا فصل بين أن تكونا مطلقتين أو
إحديهما مطلقة والأخرى مؤرخة أو كانتا بتأريخين متفقين في زمان واحد، فالحكم
في هذا الفصل واحد، فلا يخلو الدار من أحد أمرين: إما أن يكون في يد أحدهما أو
يكون في يد البائع.
فإن كانت يد أحدهما عليه فصاحب اليد أولى لأنهما متعارضتان، ومع
أحدهما يد، كما لو تنازعا دارا مطلقا ويد أحدهما عليها، وأقام كل واحد منهما بينة
فإن البينة بينة الداخل.
وإن كانت الدار في يد البائع نظرت: فإن اعترف البائع لأحدهما بما يدعيه
فقال له: بعتك، فهل يقدم بذلك بينة المقر له أم لا؟ قال قوم: يقدم بينة بذلك لأن
البائع يقول للمقر له: الدار لك ويدي عليها نائبة عنك، فإذا كانت نائبة عنه كان يد
277

المقر له بها عليها فلهذا قدمنا بينته، وقال قوم: لا يقدم بذلك بينته لأنه قد ثبت أن
يده ليست يد مالك باعترافه لأنه قد باع بثبوت البينة عليه بذلك، بدليل أنا ننتزع الدار
من يديه بالقرعة أو الوقف أو القسمة، فإذا لم تكن يده يد مالك لم يؤثر إقراره بالملك
لأحدهما، ويفارق إذا كانت يد أحدهما عليه لأن يده تدل على الملك، فلهذا
قدمناه، وهذا هو الأقوى عندي.
فمن قال: يقدم بينة المقر له، قضى بالدار له، ورجع الآخر عليه بالدرك -
أعني في أخذ الثمن -، ومن قال: لا يقدم بينته بالاعتراف أو لم يعترف البائع
لأحدهما بما يدعيه، بل قال: لا أعلم لمن هي منكما، فهما متعارضتان، قال قوم:
يسقطان، وقال آخرون: يستعملان.
فمن قال: يسقطان، قال: كأنه لا بينة لواحد منهما، ويد البائع عليها،
فإن أنكر ذلك فالقول قوله لأن الأصل أن لا بيع، وإن أقر بذلك لأحدهما ثم
أقر للآخر سلمت إلى الأول، وهل يغرم للثاني؟ على قولين، وإن أقر لأحدهما و
أنكر للآخر فهل يحلف للآخر؟ على ما مضى من القولين، وإن أقر لهما معا قضينا
لكل واحد منهما بنصف، وهل يحلف لكل واحد منهما في النصف أم لا؟ على
قولين.
ومن قال: يستعملان، إما أن يقرع أو يوقف أو يقسم، ومن قال: يقرع
بينهما، - وهو مذهبنا - أقرع، فمن خرجت قرعته فهل يحلف أم لا؟ على قولين
أصحهما عندنا أن يحلف، ومن قال: يوقف، لم يقف هاهنا لأنهما تنازعا عقدا،
ومن قال: يقسم، حكم بأنها بينهما نصفان، فيكون لكل واحد منهما الخيار لأنه
ادعى الكل وأقام البينة بذلك فلم يسلم له إلا النصف.
فإذا ثبت أنه بالخيار لم يخل من ثلاثة أحوال: إما أن يختارا الإمساك أو الفسخ
أو يختار أحدهما الفسخ.
فإن اختارا الإمساك كانت بينهما نصفين على كل واحد منهما نصف المسمى،
ويرجع على البائع بنصف المسمى.
278

وإن اختارا الفسخ رجع كل واحد منهما على البائع بكمال الثمن.
وإن اختار أحدهما الفسخ نظرت: فإن اختار ذلك قبل أن يختار الآخر
الإمساك، يوفر كل الدار عليه لأنه يدعي الكل، وإنما زاحمه الآخر على نصفها، فإذا
زالت المزاحمة يوفر الكل عليه، وإن كان الفسخ بعد أن اختار الآخر تملك النصف
لم يتوفر النصف الآخر عليه، لأن الحاكم قد قضى له بنصفها دون النصف الآخر فلا
يعود إليه.
بائعان ومشتريان: إذا قال: هذه الدار لي اشتريتها من زيد بن عبد الله بمائة
ونقدته الثمن، وقال الآخر: اشتريتها من عمرو بن خالد بمائة ونقدته الثمن، وأقام
كل واحد منهما البينة بما يدعيه، فهما متعارضتان، لأنهما يشهدان بالملك لكل
واحد منهما، فلا يخلو من أحد أمرين: إما أن تكون الدار في يد أحد المشتريين أو
لا تكون.
فإن كانت في يد أحدهما قضينا له بالدار لأن معه بينة ويدا، فهي بينة الداخل
فقضينا له بالدار.
وأما إن كانت في يد أحد البائعين فاعترف به، فهل يرجح بينة مشتريه بذلك أم
لا؟ قال بعضهم: يرجح لأنها يد ثابتة، وقال الأكثر: لا يرجح، لأن يده لا توافق
البينة، فإن البينة أزالت يده فلا يرجح، وهو الصحيح عندنا، فمن قال: يرجح قضى
له بها ورجع الآخر على بائعه بالدرك لأنه ما سلم له ما ادعاه، ومن قال: لا يرجح
بقوله، فلا فصل بين أن تكون الدار في يد ثالث أو في يد أحد البائعين، فإنهما
متعارضتان فإما أن يسقطا أو يستعملا.
فمن قال: يسقطان، قال: القول قول من الدار في يده، فإن أنكر حلف لهما
وإن أقر لأحدهما ثم للآخر سلمت إلى الأول، وهل يغرم للآخر؟ على قولين، وإن
أقر لأحدهما وجحد الآخر، فهل يحلف لمن جحده؟ على قولين، فمن قال: يلزمه
الغرم مع الإقرار، قال: لزمه اليمين مع الإنكار، ومن قال: لا يلزمه الغرم مع الإقرار،
لم يلزمه اليمين مع الإنكار، وهو الأقوى عندنا في المسائل كلها لأن الأصل براءة
279

الذمة، وإن أقر بها لهما جعل لكل واحد منهما نصفها، وهل يحلف لكل واحد
منهما على غرم النصف الآخر الذي أقر به لصاحبه؟ على قولين.
ومن قال: يستعملان، إما بالقرعة أو بالإيقاف أو القسمة، فإذا أقرع بينهما فمن
خرجت قرعته فهل يحلف؟ على قولين أحوطهما عندنا أن يحلف، ومن قال:
يوقف، لم يقف هاهنا، لأنه عقد، ومن قال: يقسم، قسم وكان لكل واحد منهما
الخيار في المقام على العقد والفسخ، لأن الصفقة تبعضت عليه، لأنه ادعى الكل
فحصل في يده النصف.
فإن اختارا الإمساك أمسكا، وكان لكل واحد منهما أن يرجع على بائعه بنصف
الثمن لأن البينة قد قامت عليه بقبض الكل وبنفي الكل وما حصل في يد مشتريه إلا
النصف فيرد عليه نصف الثمن.
وإن اختارا الفسخ فسخا، ورجع كل واحد منهما على بائعه بكل الثمن لأن
المبيع لم يسلم له، ولا حصل له القبض منه.
وإن فسخ أحدهما دون صاحبه انفسخ في حقه، وعاد ما وقع الفسخ فيه إلى
بائعه، ورجع المشتري عليه بكل الثمن، ولا يعود هذا النصف إلى المشتري الآخر،
سواء وقع الفسخ قبل اختياره النصف أو بعد اختياره له، لأن الذي وقع فيه الفسخ لم
يرجع إلى بائع من لم يفسخ، وإنما رجع إلى من لا يدعيه فلم يتوفر عليه.
فإن كانت المسألة بحالها لكن كل واحد منهما ادعى الملك والشراء، ودفع
الثمن وقبض الدار، وأقام البينة بذلك، فالحكم فيها على ما مضى حرفا بحرف إلا
في فصل واحد وهو الدرك.
كل موضع قلنا في التي قبلها يرجع بكل الثمن إذا لم يسلم شئ، ويرجع
بنصف الثمن إذا سلم له النصف، فإنه في هذه لا يرجع بحال بشئ من الثمن.
والفصل بينهما أنه إذا لم يعترف بقبض المبيع لم يلزمه من ثمنه إلا بقدر ما
حصل مقبوضا وما قبض شيئا فلا يلزمه، وليس كذلك هاهنا، لأنه قد اعترف بقبض
المبيع واستقر الثمن عليه أكثر ما فيه أن يغتصب منه بعد ما قبضها، فلا يرجع على
280

بائعها بدركها، فبان الفصل بينهما.
مشتر وبائعان: صورتها عبد في يد رجل تنازع فيه نفسان، قال أحدهما: العبد
اشتريته مني بألف، وقال الآخر: اشتريته مني بألف، وأقام كل واحد منهما البينة
بما يدعيه لم تخل البينتان من ثلاثة أحوال: إما أن تكونا بتأريخ واحد أو بتأريخين
مختلفين أو مطلقتين.
فإن كان التاريخ واحدا مثل أن شهد اثنان أنه ابتاعه من زيد مع الزوال بألف
وشهد آخران أنه ابتاعه من عمر ومع الزوال من ذلك اليوم بألف فهما متعارضتان،
لأن العبد الواحد لا يصح أن يكون ملكا لكل واحد منهما، ويبيعه كل واحد منهما
من رجل واحد، في زمان واحد بعقد انفرد به، فثبت أنهما متعارضتان فإما أن تسقطا
أو تستعملا.
فمن قال: تسقطان، فكأنه لا بينة مع واحد منها، وكل واحد منهما يدعي على
المشتري أنه منه اشتراه، فإن أنكر فالقول قوله مع يمينه، وسقطت دعوى كل واحد
منهما، وإن أقر لأحدهما فقال: صدقت بينتك اشتريته منك، لزمه كل الثمن وعليه
أن يحلف للبائع الآخر، لأنه لو اعترف له أنه منه اشتراه لزمه الثمن فلما لزمه الثمن مع
الإقرار لزمته اليمين مع الإنكار، وإن أقر لهما معا، فقال: لقد ابتعته من كل واحد
منكما، لزمه الثمنان معا لأنه قد اعترف لكل واحد منهما بما يدعيه.
ومن قال: تستعملان إما بالقرعة أو الإيقاف أو القسمة، فإن أقرع فمن خرجت
قرعته حكم له بها وهل يحلف؟ على قولين أحوطها عندنا أن يحلف ويحلف الآخر
لأن دعواه البيع عليه قائمة، وكان عليه أن يحلف، ومن قال: يوقف، لم يقف لأن
العقود لا توقف، ومن قال: يقسم قسم الثمن من البائعين بنصفين، فإذا قسم الثمن
عليهما فليس للمشتري خيار الفسخ، لأن الصفقة ما تبعضت عليه، لأن العقد سلم
له كله ولا فصل بين أن يسلم له من بائع واحد أو بائعين.
وإن كان التاريخ مختلفا فأقام أحدهما أنه اشتراه في شعبان، وأقام الآخر أنه
اشتراه في رمضان، لزمه الثمنان معا وحكمنا بصحة العقد لأنه يمكن أن يشتريه من
281

أحدهما في شعبان ثم من الآخر في رمضان، لأنه يشتريه من الأول ثم يشتريه
البائع الثاني منه ثم يبيعه منه، فلهذا لزمه الثمنان، كما لو ادعت أنه تزوجها يوم
الأربعاء بألف، ويوم الخميس بألف، وأقامت البينة على كل واحد من العقدين
فعليه المهران معا لجواز أن يكونا وقعا معا على الصحة، وهو أنهما نكاحان بينهما
خلع.
وإن كانتا مطلقتين أو إحديهما مطلقة والأخرى مقيدة فهما سواء قال قوم:
يصح العقدان ويلزمه الثمنان معا لجواز أن يكونا في وقتين مختلفين فيصح العقدان
معا كما لو كان التاريخ مختلفا، وقال آخرون: يتعارضان لجواز أن يكونا في وقت
واحد فيتعارضان. ويجوز أن يكونا في وقتين فيصحان معا والأصل براءة الذمة فلذا
تعارضتا.
إذا كان عبد في يد رجل فادعى على مولاه أنه أعتقه وادعى آخر على مولاه أنه
باعه منه، وأقام كل واحد منهما البينة بما ادعاه لم تخل البينتان من أحد أمرين: إما
أن تكونا مؤرختين بتأريخين مختلفين أو غير ذلك.
فإن كانتا بتأريخين مختلفين، مثل أن شهدت إحديهما في شعبان، والأخرى
في رمضان من هذه السنة، فالسابقة ثابتة، والمتأخرة ساقطة، لأنه إن كان قد أعتقه
في شعبان لم يصح بيعه في رمضان، وإن كان قد باعه في شعبان لم يصح عتقه في
رمضان لأنه أعتقه بعد زوال ملكه عنه.
وإن كان تاريخهما واحدا أو كانتا مطلقتين أو إحديهما مطلقة والأخرى مقيدة
الباب واحد، نظرت في العبد: فإن كان في يد المشتري قدمنا بينته لأنها بينة
الداخل، وإن كان العبد في يد البائع فأقر للمشتري فقال: منك بعته، فهل تقدم بينة
المشتري بقول البائع؟ قال قوم: تقدم لأنه قد اعترف أن يده نائبة عن يد المشتري،
وقال آخرون - وهو الأصح عندنا -: أنها لا تقدم بقول البائع، لأن سبب يده معروفة
بأنها غير مالكة لأن البينة قد شهدت بأنه لا يملك، فإذا لم تكن له بينة سقط
الترجيح، فمن قال: تقدم بينة المشتري، قدمها وسقط العتق، ومن قال: لا تقدم،
282

على ما اخترناه، أو قال البائع: لا أعلم عين السابق منكما، أو كان العبد في يدي
ثالث، الحكم فيها كلها أنهما متعارضتان، وقال بعضهم: بينة العبد أولى، لأن يده
على نفسه، وهذا ليس بصحيح، لأنه لا تكون يده على نفسه، بدليل أنهما لو تنازعا
عبدا لا يد لواحد منهما عليه، فأقر بنفسه لأحدهما، لم يرجح ذلك بقوله، فلو كانت
يده على نفسه لسمع هذا، وقال بعضهم: تكون يد الحر على نفسه، وقال آخرون:
لا تكون يد العبد ولا يد الحر على نفسه، لأن اليد إنما تثبت على مال أو ما في معناه
والحر ليس كذلك.
فإذا ثبت أنهما متعارضتان فإما أن تسقطا أو تستعملا.
فمن قال تسقطان، قال: كأنه لا بينة هاهنا، ويكون القول قول السيد، فإن
أنكر حلف لكل واحد منهما، للمشتري: ما بعت، وللعبد: ما أعتقت، وإن اعترف
لأحدهما فكأنه اعترف للمشتري حكمنا بالشراء والملك له، ولم يحلف للعبد، لأنه
لا يلزم الغرم للعبد مع الإقرار بدليل أنه لو اعترف فقال: قد كنت أعتقتك قبل البيع،
لم يقبل قوله، ولم يضمن للعبد شيئا، ولو اعترف بعتق العبد أولا لم يضمن للمشتري
شيئا، لأنه معترف أن المبيع هلك قبل القبض والبيع بطل بالتلفظ وسقط الثمن
عن المشتري، فلا غرم له عليه فلما لم يلزمه الغرم مع الإقرار، لم يلزمه اليمين
مع الإنكار.
وهذه ثلاث مسائل: وهو إذا تنازعا شراء وعتقا، فأقر لأحدهما لم يحلف
للآخر، فإن كان المشتري واحدا والبائع اثنين فأقر أنه اشتراه من أحدهما حلف
للبائع الآخر، لأنه لما لزمه الغرم مع الإقرار كذلك اليمين مع الإنكار، وإن كان البائع
واحدا والمشتري اثنين فأقر لأحدهما هل يحلف للآخر؟ على قولين، كما أنه لو
اعترف لأحدهما بعد الأول هل يغرم؟ على قولين.
وأصل هذا كلما لزمه الضمان مع الإقرار، لزمه اليمين مع الإنكار، وكل من لا
ضمان عليه مع الإقرار، فلا يمين عليه مع الإنكار.
ومن قال: يستعملان، إما بالقرعة أو الإيقاف أو القسمة، فمن قال: بالقرعة
283

أقرع، فمن خرج اسمه حكم له به، وهل يحلف؟ على قولين أحوطهما عندنا
اليمين، ومن قال: يوقف، لم يقف لأن العقد لا يوقف، ومن قال: يقسم، قسمه
فجعل نصفه عبدا للمشتري، ونصفه حرا ويكون المشتري بالخيار بين الإمساك
والفسخ، لأن الصفقة تبعضت عليه، فإن فسخ عتق كله لأنه إنما زاحمنا العبد
في حقه وعتقه لحق المشتري، فإذا أسقط المشتري حقه عتق كله، وإن اختار الإمساك
ثبت له نصفه، وعليه نصف الثمن، وهل يقوم نصيب المشتري على البائع فيعتق
كله أم لا؟ نظرت: فإن كان البائع معسرا استرق الذي في نصيب المشتري، وإن كان
موسرا فعلى قولين:
أحدهما: لا يقوم عليه، لأن عتق نصفه وقع بغير اختيار البائع، لأنه يقول: ما
أعتقته والبينة ألزمتني ذلك، كما لو ورث نصف عبده فيعتق عليه لا يقوم عليه الباقي.
والثاني: يقوم عليه ويعتق كله لأنه قد ثبت بالبينة أنه باشر عتقه كله باختياره،
فلهذا قومنا عليه ما بقي.
إذا ادعى جارية في يد غيره، فقال: هذه لي، وأقام بذلك بينة حكمنا له بها
لأنها شهدت له بملك مطلق، وإن ادعى أنها أمته ولدت في ملكه، حكمنا له بها
لأنها أقوى، فإنها شهدت بالملك مضافا إلى سببه، فإن شهدت بأن هذه بنت أمته
فلانة، ولم تزد على هذا، لم يحكم له بها، لأنها قد تكون بنت أمته، ولا تكون
مملوكة له، لأنها قد تسبق ملك الأم وهو أنها تلدها ثم تملك الأم دون ولدها، وعلى
مذهبنا يحتمل أن تكون تزوجت بحر فيكون الولد حرا.
وهكذا لو شهدت بأن هذه الثمرة ثمرة نخلة فلان لم يحكم لفلان بالثمرة لأن
وجود الثمرة قد يسبق ملك النخلة، وهو أنها تثمر ثم تملك النخلة، وإذا شهدت
بأنها بنت أمة فلان ولدتها في ملكه أو هذه الثمرة ثمرة نخلة فلان أثمرت في ملكه
حكم له بها.
قالوا: كيف حكمتم له بهذه الشهادة وهي شهادة في التحقيق بملك سابق،
لأنها ما شهدت بالملك في الحال، وإنما شهدت بالملك حال الولادة؟ وقد قلتم
284

لو شهدت بأن هذا العبد كان له أمس لم يقبل.
قيل: قد قال بعضهم: إذا شهدت بالملك أمس حكمت بها، وقال قوم: لا
يسمع، ومنهم من قال: لا يسمعها بالملك أمس ويسمعها إذا شهدت بالولادة.
والفصل بينهما أنها إذا شهدت بالملك فهو أصل في نفسه غير تابع لغيره، فإذا
لم يشهد بالملك في الحال لم يثبت الملك حين التنازع، فلهذا لم يسمع، وليس
كذلك هاهنا، لأنها شهدت بنماء ملك، فكان الظاهر أن نماء ملكه له، فهو كما
نقول: إذا قامت البينة له بأن الملك له منذ عشر سنين كانت فائدته من حين الشهادة
وكان له، كذلك هاهنا، وإن شهدت أن هذا الغزل من قطن فلان، قال بعضهم:
قضينا بالغزل له.
ويفصل بين هذه المسألة وبينه إذا شهدت بأن هذه الأمة بنت أمة فلان، حيث
قلنا لا يقضى له بالولد، لأن قوله: هذا الغزل من قطن فلان، معناه المغزول قطن
فلان وعينه وذاته كان منفوشا فاجتمع، كقوله: هذا الدقيق من حنطة فلان، كان
معناه هذا الدقيق حنطة فلان كان مجتمعا فتفرق، فلهذا قضينا بالغزل وليس كذلك
إن شهدت بأن هذه الأمة بنت أمة فلان، لأن هذه البنت ليست هي الأم، وإنما هي
غيرها، فلهذا لم يحكم له بها، ولأنه إذا قال: هذا الغزل من قطن فلان، لم يسبق
الغزل القطن، فلهذا حكمنا له به، وليس كذلك هاهنا، لأن الولد قد يسبق الأم فلهذا
لم يحكم له بولدها.
إذا كان في يده طفل لا يعبر عن نفسه مجهول النسب، فادعاه مملوكا له حكم
له به، لأنه لا يعبر عن نفسه كالبهيمة والثوب، فإن بلغ هذا الطفل في يده فأنكر أن
يكون مملوكا له لم يلتفت إليه، لأنا قد حكمنا بأنه عبده.
فإن كانت بحالها وكانت يده عليه يتصرف فيه بالاستخدام وغيره، ولم يسمع منه
أنه مملوكه، فبلغ هذا الطفل في يده فادعى أنه حر لم يقبل قوله، لأن اليد التي كانت
عليه ظاهرها الملك، وهو مستدام مستصحب على ما كان، فلا تزال يده عنه
بدعواه.
285

فإذا ثبت أنه مملوكه أقررناه في يديه، فإن جاء رجل فادعى نسب هذا المملوك
فقال: هذا ابني، لم يلحق نسبه به لأن فيه إضرارا بسيده، وهو أن النسب متى ثبت
كان مقدما في الميراث على الولاء، وقد يعتقه السيد، ويكسب مالا فيموت، فيكون
ميراثه لمناسبه دون مولاه.
فإذا لم يلحق نسبه، فإن أقام المدعي بنسبه بينة حكمنا بأنه ابنه ويكون على
ما هو عليه في يد مولاه، لأنه لا يمتنع أن يكون نسبه ثابتا من حر، ويكون مملوكا
للغير، لأنه قد يتزوج مملوكة فيكون ولده منها مملوكا، عندنا بالشرط وعندهم
بلا شرط، وقد يسبي صغيرا فيقدم والده مسلما فيستحلفه، اللهم إلا أن يكون
المدعي عربيا فإنه لا يسترق عند بعضهم العربي، فعلى هذا تزال عنه يد مولاه و
يتسلمه أبوه.
فإن كان مجهول النسب بالغا فادعاه رجل مملوكا، فإن أجابه إلى ما ادعاه وأقر
بذلك له، حكم بأنه مملوكه، وإن أنكر ذلك، فالقول قوله، لأن الأصل الحرية، فإن
تنازعه نفسان فادعى كل واحد منهما أنه عبده، وأقاما بذلك بينة فهما متعارضتان،
فإن أقر هذا المتنازع فيه لأحدهما بما يدعيه، وقال: أنا مملوك هذا، لم تقبل بينته
باعترافه، لأنه لا يدله على نفسه، لأنه إن كان حرا لم يصح إقراره بالعبودية، وإن
كان مملوكا فلا يد له على نفسه.
فأما إن كان مميزا عاقلا لكنه غير بالغ، فادعاه رجل مملوكا وأنكر الصبي
ذلك، وامتنع، ولم نعرف سبب يد المدعي، غير أننا رأيناهما الآن يتنازعان ذلك،
قال قوم: لا يقضى له به لأنه يعرب عن نفسه كالبالغ، ومنهم من قال: يقضى له به
لأنه لا حكم لكلامه، كالطفل الذي لا يتكلم، والأول أقوى عندنا لأن الأصل
الحرية.
إذا كانت دار في يد رجل لا يدعيها لنفسه، فتنازع فيها نفسان فقال أحدهما:
كلها لي، وأقام بذلك بينة، وقال الآخر: نصفها لي، وأقام بذلك بينة، خلص لمن
له البينة بكلها نصفها، لأن له بذلك بينة، ولا يدعيه أحد، وتعارضت البينتان في
286

النصف الآخر، فإما أن تسقطا أو تستعملا.
فمن قال: تسقطان، فكأنه لا بينة لواحد منهما في ذلك، ولكن البينة التي
شهدت له بالكل قد سقطت في النصف، وقال قوم: يسقط في النصف الآخر كما لو
شهدت به، فردت للتهمة في نصفه، فإنه يرد في النصف الآخر، وقال آخرون: لا
يرد، وهو الصحيح عندنا، لأن الشهادة ما ردت هاهنا للتهمة، وإنما سقطت
للتعارض، وهذا لا يسقطها لأنا إذا قلنا تستعملان قسمنا بينهما فأعطينا كل واحد
منهما نصف ما شهدت له به، فلا يقال تسقط البينة لأنا لم نقبلها في الكل مع أنا قد
بينا فيما تقدم أن الشهادة إذا ردت في البعض للتهمة لم ترد في البعض الذي لا تهمة
فيه عندنا.
ومن قال: تستعملان إما بالقرعة أو الإيقاف أو القسمة، فعندنا أنه يقرع، فمن
خرجت قرعته قدمناه، وهل يحلف؟ على قولين أحوطهما عندنا اليمين، ومن قال:
توقف، وقفها لأنه مال، ومن قال: يقسم، قسم النصف بينهما نصفين فيصير لمن
ادعى الكل ثلاثة أرباعها، ولمن ادعى النصف ربعها.
إذا كانت الدار في يد ثلاثة فادعى أحدهم النصف، والآخر الثلث، والآخر
السدس، فإن جحد بعضهم بعضا كانت بينهم أثلاثا عند قوم، وهذا غلط عندنا لأنه
لا يجوز أن يدعي واحد سدسا فيقضي له بثلثها، اللهم إلا أن نفرض أن صاحب
النصف يقول: لي نصفها ويدي على كلها النصف منها لي والنصف وديعة لفلان
الغائب، وقال صاحب الثلث: يدي على كلها والثلث منها لي والباقي وديعة
لفلان الغائب، وقال صاحب السدس: يدي على كلها السدس لي منها والباقي
لفلان الغائب.
فحينئذ يقضى بها أثلاثا، لأن صاحب النصف يده على ثلثها، وهو يدعي ما يد
صاحبه عليه، فلا يقبل قوله، وصاحب الثلث يده على ثلثها، وهو يدعي ما يد
صاحبه عليه فلا يقبل قوله، وصاحب السدس يده على الثلث وهو يدعي السدس
ويقر بالباقي للغير فيقبل قوله، لأن من أقر بشئ في يديه قبل قوله وأقر الباقي في
287

يديه، فعلى هذا تصح المسألة.
فإن كانت بحالها ولم يجحد بعضهم بعضا، فهي بينهم على ما اتفقوا عليه،
وإن كانت بحالها وأقام كل واحد منهم البينة، على قدر ما يدعيه منها ملكا، أقام
صاحب النصف البينة أن له نصفها، وأقام صاحب الثلث البينة أن له ثلثها، وأقام
صاحب السدس البينة أن له سدسها، فإنا نعطي صاحب الثلث الثلث، لأن له بذلك
بينة ويدا فكان أولى من بينة من لا يد له، ويعطي صاحب النصف الثلث، لأن له
بالثلث يدا وبينة ونعطي صاحب السدس سدسه، لأن له به بينة ويدا، وبقى هناك
سدس في يدي صاحب السدس، ولا بينة له به، وصاحب النصف يدعي السدس
وله بينة بلا يد، فإنه يدفع ذلك السدس كله إلى صاحب النصف، فيصير له النصف
الذي ادعاه، لأن له بينة، وصاحب السدس له يد بلا بينة، فكان صاحب النصف
أحق به، هذا هو الأقوى عندنا.
وقال قوم: يعطي صاحب النصف منه النصف، فيكون في يديه ثلث ونصف
سدس ويقر نصف سدس الباقي في يدي صاحب السدس، فيكون في يديه سدس
ونصف سدس، لأن صاحب النصف قضينا له بالثلث، لأن له به يدا وبينة، وبقى
الثلثان من الدار في يد صاحب الثلث، وصاحب السدس نصفين، فصار في يد كل
واحد منهما ثلثها، وصاحب النصف يدعي السدس عليهما معا بدليل أنه لو أنكره
حلف له كل واحد منهما، فإذا كان كذلك فصاحب الثلث يدعي عليه نصف
السدس مما في يديه وله به بينة ويد، ولصاحب النصف به بينة بغير يد، فكان
صاحب الثلث أحق به، فاستقر لصاحب الثلث الثلث، وقد بقي من دعواه نصف
سدس هو في يدي صاحب السدس وله بما يدعيه بينة ولصاحب السدس عليه يد
بغير بينة فكانت بينته أولى من يد صاحب السدس، فيقضي به له، ويبقى في يد
صاحب السدس سدسه الذي هو ملكه، ونصف سدس يده عليه، ولا يدعيه أحد
عليه ويده عليه، فيقبل اعترافه به، لمن اعترف له به.
دار في يد اثنين فادعى أحدهما الثلث، وأقام بذلك بينة، وادعى الآخر الكل
288

وأقام بذلك بينة، قضينا لمدعي الثلث بما ادعاه لأن له بقدر ما ادعاه بينة ويدا
وقضينا لمدعي الكل بالثلثين، لأن يده على النصف، وله به بينة، ويدعي
السدس الذي هو تمام الثلثين في يد صاحب الثلث، وله به بينة، ولصاحب الثلث
على السدس يد، فكانت البينة أولى من يده وهو لا يدعيه وإنما يده عليه، فلو كانت
يده عليه وهو يدعيه كانت البينة أولى من يده ودعواه، فبأن تكون أولى من يده
أولى.
دار في يد أربعة أنفس ادعى أحدهم الكل، والآخر الثلثين،
والآخر النصف والآخر الثلث، فإن لم يكن هناك بينة بوجه حكمنا لكل واحد منهم بربعها، وهو
القدر الذي عليه يده، وما زاد عليه مما يدعيه يد غيره فيكون القول قول المدعى عليه
مع يمينه، فيحلف كل واحد منهم لصاحبه بما يدعيه عليه، وتسقط دعواه، ويكون
لكل واحد الربع، فإن كان لكل واحد منهم بينة بما يدعيه قضينا لكل واحد منهم
بربعها أيضا، لأن لكل واحد منهم يدا على ربعها، وبينة بما عليه يده، وبينته ويده
أولى من بينة غيره بلا يد، فالحكم فيه إذا كانت في أيديهم ولا بينة لواحد منهم أو مع
كل واحد بينة سواء وقد بيناه.
فإن كانت بحالها لكنها في يد خامس، فأقام كل واحد منهم بينة بما يدعيه
خلص لمدعي الكل الثلث بلا منازع، لأن له بينة وأحد لا يدعيه عليه، لأن أكثر من
يدعي الثلثين، فلهذا كان له الثلث، وبقى الكلام في الثلثين، فيقع التعارض في
ثلاث مواضع فتتعارض بينة مدعي الكل ومدعي الثلثين في السدس الذي بين
النصف والثلثين، وهو القدر الذي لا يدعيه صاحب الثلث ولا صاحب النصف،
ويتعارض مدعي الكل ومدعي الثلثين ومدعي النصف، في السدس الذي بين
الثلث والنصف، لأن صاحب الثلث لا يدعيه، وتتعارض كل البينات وهي أربع في
الثلث الذي ادعاه صاحب الثلث، فإن كل واحد من الأربعة يدعيه وقد أقام
بينة به.
وتحقيق هذا أن التعارض فيما يقع الاجتماع على مداعيه، والغير لا يدعيه فإن
289

تعارضت البينتان إما أن تسقطا أو تستعملا.
فمن قال: تسقطان قال: كأنه لا بينة هناك، فيسلم لمدعي الكل الثلث، لأن
أحدا لا ينازعه فيه، وبقى الثلثان يقال لمن هو في يده: ما تقول؟ فإن ادعاه لنفسه
فالقول قوله مع يمينه، وإن أقر بها لواحد منهم، فهل يحلف للباقين؟ على قولين،
فإن أقر لكل واحد منهم بما يدعيه، فهل يحلف لصاحبه بقدر ما أقر به؟ على
ما مضى من القولين.
ومن قال: تستعملان إما بالقرعة أو الإيقاف أو القسمة، فمن قال: يوقف،
أوقفه، ومن قال: يقسم، قسم، وتصح القسمة من ستة وثلاثين سهما لمدعي الكل
الثلث بلا منازع اثنا عشر سهما ويقسم السدس الذي بين النصف والثلثين بين مدعي
الكل ومدعي الثلثين نصفين، وهو ستة لصاحب الكل ثلاثة، ولصاحب الثلثين
ثلاثة، يصير مع صاحب الكل خمسة عشر، ثم يقسم السدس الذي بين النصف
والثلث بين ثلاثة، بين مدعي الكل ومدعي الثلثين ومدعي النصف، لكل واحد
منهم سهمان، فيكون مع صاحب الكل سبعة عشر سهما ثم يقسم الثلث الباقي وهو
اثنا عشر سهما بين الأربعة أرباعا لكل واحد منهم ثلاثة.
فيصير مع مدعي الكل عشرون سهما، ثلث الأصل اثنا عشر سهما، ونصف
السدس الذي بين النصف والثلثين ثلاثة، وثلث السدس الذي بين النصف والثلث
سهمان، وربع الثلث الباقي ثلاثة، فاستكمل عشرين سهما.
ويحصل لصاحب الثلثين ثمانية أسهم، نصف السدس الذي بين النصف
والثلثين ثلاثة وثلث السدس الذي بين النصف والثلث سهمان، وربع الثلث الباقي
ثلاثة أسهم يصير معه ثمانية أسهم.
ويحصل لمدعي النصف خمسة أسهم، ثلث السدس الذي بين النصف
والثلث سهمان، وربع الثلث الباقي ثلاثة يصير خمسة.
ويحصل لمدعي الثلث ثلاثة أسهم وهو ربع الثلث الباقي يكمل ستة وثلاثين
سهما.
290

ومن قال: بالقرعة - على ما نذهب إليه - أقرع، ويكون الإقراع في ثلاثة مواضع
في السدس الذي بين النصف والثلثين، إقراع بين مدعي الكل والثلثين، وإقراع في
السدس الذي بين النصف والثلث بين ثلاثة بين مدعي الكل والثلثين والنصف، لأن
مدعي الثلث لا يدعيه ويكون الإقراع في الثلث الباقي بين الأربعة، لأن الكل يدعيه،
فمن خرجت قرعته قدمناه، وهل يحلف مع قرعته أم لا؟ على قولين أصحهما عندنا
أن يحلف، وقد تخرج القرعة كلها لصاحب الكل على ما يتفق.
إذا شهد شاهدان أن هذه الدار لفلان منذ سنة، وشهد آخران أنها في يد فلان
رجل آخر، قال قوم: - وهو الصحيح - بينة الملك أولى من بينة اليد، لأن من شهد له
بالملك أثبت ملكا له ومن شهد باليد يحتمل أن تكون يد عارية أو وديعة فكانت التي
شهدت بالملك أولى.
إذا ادعى رجل دابة في يدي رجل وأقام شاهدين أنها ملكه منذ ثلاث سنين
فنظر الحاكم فإذا الدابة ليس لها سنتان سقطت الشهادة لأنه قد عرف كذبها
قطعا.
إذا شهد شاهدان أن هذه الدار ملك لزيد وشهد آخران أن عمروا اشتراها من
زيد، فالدار لعمرو لأن بينة زيد أثبت له ملكا مطلقا وبينة عمرو أخبرت بزيادة خفيت
على بينة زيد، وهو الشراء لأن من شهد بالملك أطلق الشهادة على ظاهر ما عرفه،
وخفي عليها البيع، ومثل هذا إذا خلف رجل جارية وزوجة وابنا فتنازع الابن
والزوجة في هذه الجارية، فقال الابن إن أباه خلفها تركة وأقام بذلك بينة وأقامت
المرأة البينة أن أباه أصدقها إياها، فإن بينة الزوجة أولى، لأنها شهدت بما خفي على
بينة الابن، لأنها شهدت على ظاهر الملك وخفي عليهم ما عرفه شهود الزوجة من
حدوث البيع فكانوا أولى.
إذا ادعى رجل دارا في يد زيد فأنكر زيد ذلك وأقام المدعي البينة أنه اشتراها
من عمرو نظرت في البينة: فإن شهدت للمدعي أن عمروا باعه إياها وهي ملك عمرو
يومئذ أو شهدت بأن عمروا باعها من المدعي وسلمها إليه أو شهدت بأنها ملك
291

المدعي اشتراها من عمرو، قضينا بها للمدعي، وأسقطنا يد زيد من هذه الأقسام
الثلاثة لأنها إن شهدت أن عمروا باعه إياه أو هي ملكه، فقد ثبت ملكها للمدعي
حتى يعلم زواله، وهكذا لو شهدت بأنه تسلمها منه، لأن الظاهر أنها حصلت في يد
المدعي حتى يعلم كيف زالت، وهكذا إن شهدت بأنها ملك المدعي اشتراها من
عمرو، فهذا أوكد، لأنها شهدت بالملك وسبب الملك.
قالوا: فهذه الشهادة للمدعي حقيقتها شهادة بأنها كانت ملكه فكيف قبلناها؟
قيل: الفصل بينهما أنه إذا قامت البينة أنه ابتاعها من عمرو فكانت ملك عمرو يومئذ
ففي ضمن هذا أنه تملكها عنه ولا يعلم زوال ملكه عنها، فهو كما لو قطعت
فقالت: ولا نعلم زوال ملكه عنها، وليس كذلك إذا قال: كانت ملكا لفلان لأن هذا
اللفظ لا يقتضي استدامة الملك إلى حين ما شهدت فأما إن شهدت بينة المدعي
بأن عمروا باعها منه أو وقفها على فلان، لم يحكم له بالملك بذلك، لأن الإنسان
قد يفعل فيما ليس بملك له، فلا يزيل الملك عن يد المدعى عليه بأمر متوهم
مظنون.
إذا قال: لفلان علي ألف درهم وقد قضيتها، فقد اعترف بألف وادعى قضاءها
فلا يقبل قوله في القضاء، لأنه قد أقر بألف وادعى قضاءها فقبل قوله فيما عليه دون
ماله، وقال قوم: يقبل منه لأنه لما ثبت بقوله صح أن يسقط بقوله، كقوله له: علي
مائة إلا تسعين، فإن الاستثناء يقبل منه كذلك والأول أصح عندنا.
فإذا تقرر هذا، فإذا ادعى على غيره مائة فقال: قضيتك منها خمسين فقد
اعترف بها، لأنه لا يقول قضيتك خمسين إلا عما لزمه وحصل به في ذمته ولكنه
وصل بإقراره القضاء، فهل يقبل منه؟ على قولين: أحدهما - وهو الصحيح - أنه لا
يقبل، والثاني يقبل، فأما الكلام في الخمسين الباقية، فلا يكون مقرا بها، لأن قوله:
قضيتك منها خمسين، يحتمل قضيتك مما ادعيت، ويحتمل قضيتك مما علي
خمسين، فإذا احتمل الأمرين لا يلزمه، لأنا لا نلزمه حقا بالشك.
فإن اختلف المكري والمكتري في شئ من الدار المكراة نظرت: فإن كان
292

متصلا بها كالأبواب والدرجة والأساطين الطوابيق، فالكل للمكري وإن كان مما
ينقل ويحول كالأثاث والأواني وما ينقل فالكل للمكتري، لأن العادة أن الإنسان
إنما يكري داره فارغة عن رحله وقماشه، فأما الرفوف فيها، فإن كانت مسمرة فهي
للمكري كالدرجة والسلم المستمرة، وإن لم تكن مستمرة، وإنما وضعت على أوتاد
قال قوم: حلف كل واحد منهما لصاحبه وكانت بينهما، لأن أحدهما ليس بأولى بها
من صاحبه، فإن العادة لم تجر أن المكري يحول مثل هذا عن الدار والعادة جارية أن
مثل هذا يفعله المكتري لنفسه، فلا مزية لأحدهما على الآخر فكانت بينهما، كما لو
كانت معا في جوف الدار فتنازعاها.
فإن تنازعا مسناة بين نهر لرجل وضيعة لآخر، فقال رب النهر: المسناة لي فناء
نهري تجمع ماء النهر إليه وتمنعه أن يخرج عنه، وقال رب الضيعة: بل المسناة لي
ترد الماء عن ضيعتي وهي حاجز بيني وبين نهرك، حلف كل واحد منهما لصاحبه
وكانت بينهما لأن كل واحد منهما ينتفع بها من وجه، وهي تجاور ملكهما، فهو
كما لو تنازع صاحب العلو والسفل في السقف الذي هو سماء السفل وأرض العلو
فإنه بينهما لأن كل واحد منهما ينتفع به من وجه كذلك هاهنا.
فإن تنازعا دارا يدهما عليها، فقال كل واحد منهما: الدار كلها لي، حلف كل
واحد منهما لصاحبه على ما يدعيه وجعلت بينهما نصفين.
إذا تنازعا دارا يدهما عليها فقال كل واحد منهما: كله مالي، وكل واحد إنما
يدعي ما يدي صاحبه عليها، فيحلف على ما يدعيه وهو النصف، ولا يحلف على
الكل وإن كان في دعواه الكل لأن مقتضاه دعوى النصف، فهو كرجل ادعى نصف
دار في يد رجل، فالقول قول المدعى عليه في نصفها، ولا يحلف على أكثر منه،
كذلك هاهنا، لا يحلف على ما لا يد له عليه.
فإن تنازعا عمامة يد أحدهما على ذراع منها وباقيها في يد الآخر، حلف كل
واحد منهما لصاحبه، وكانت بينهما نصفين، لأن لكل واحد منهما عليها يدا بدليل
أن من يده على القليل لو كان باقيها مطروحا على الأرض فادعاها غيره، كان القول
293

قوله، ثبت أن لكل واحد منهما يدا عليه بالسوية، وإن كان ما في يد أحدهما أكثر،
فهو كما لو تنازعا دارا وهما فيها وأحدهما في صفة كبيرة والآخر في صفة صغيرة
كانت بينهما سواء.
فإن غصب رجل من رجل دجاجة فباضت بيضتين، واحتضنتها هي أو غيرها
بنفسها أو بفعل الغاصب، فخرج منها فرخان، فالكل للمغصوب منه، وقال
بعضهم: إن باضت عنده بيضتين واحتضنت الدجاجة واحدة منهما، ولم يعرض
الغاصب لها كان للمغصوب منه ما يخرج منها، ولو أخذ الأخرى فوضعها هو تحتها
أو تحت غيرها ثم خرج منها فروخ كان الفروخ للغاصب وعليه قيمته، والأول أصح
عندنا.
فإن ادعى على رجل ألفا فأنكر فأقام المدعي بينة فقال المدعى عليه: صدقت
البينة هي علي إلى أجل، لم يقبل قوله، لأنه حق ثبت عليه بالبينة فلا يتغير بقوله،
ويفارق هذا ما ثبت باعترافه، لأنه ثبت باعترافه فصح أن يسقط بقوله كالاستثناء،
وفرق بين ما ثبت بالبينة عليه وبين ما ثبت بقوله، ألا ترى أن البينة لو قامت عليه
بألف فقال: هي علي إلا تسعمائة، لم يقبل منه استثناؤه؟ ولو ابتدأه بذلك من عنده
معترفا فقال: علي الألف إلا تسعمائة، ثبت ما استثناه وكان فصل ما بينهما الإقرار
والبينة.
ولو قال: لفلان علي ألف درهم قضيتها، قد بينا أنها على قولين أصحهما أنه لا
يقبل قوله في القضاء، وإن قال: له على ألف إلى أجل، منهم من قال: على قولين
أيضا، ومنهم من قال: يقبل منه التأجيل على كل حال.
والفصل بينهما أن قوله قضيتها يدفع كل ما أقر به، فلهذا لم يقبل قوله، وليس
كذلك قوله إلى أجل لأنه ما دفع ما اعترف به، وإنما وصفه بالأجل فقبل قوله، وهو
الأقوى عندي.
إذا كان في يد رجلين صغير مجهول النسب فادعيا أنه ملكهما حكم لهما به لأن
يدهما عليه كالثوب والشاة، وإن كان كبيرا فادعياه مملوكا فالقول قوله لأنه الأصل
294

الحرية - وهو ظاهر الدار -، فإن حلف برئ، وإن اعترف بأنه مملوك لهما فهو
بينهما نصفين وإن اعترف بأنه مملوك لأحدهما كان مملوكا لمن اعترف له بنفسه،
وقال قوم: إذا اعترف أنه مملوك لأحدهما كان مملوكا لهما، لأنه ثبت أنه مملوك
باعترافه ويدهما عليه فكان بينهما، والأول أصح عندنا.
إذا تنازع اثنان دارا في يد ثالث فقال أحدهما: ملكي، وهي في يديه
بعقد إجارة، وقال الآخر: ملكي، وهي في يديه وديعة أو عارية، وأقام كل واحد
منهما بينة بما ادعاه فهما متعارضتان في رقبة الملك والمنافع، فإما أن يسقطا أو
يستعملا.
فمن قال: يستعملان قال: إما أن يقرع بينهما أو يوقف أو يقسم بينهما، وكل
ذلك ممكن هاهنا لأنه ملك.
ومن قال: يسقطان، فكأنه لا بينة لواحد منهما، فالقول قول من الدار في يده،
فإن حلف أسقط دعواهما.
إذا ادعى ثوبا في يد الغير وأقام البينة أن هذا الثوب من غزل غزل من قطن
فلان المدعي، حكمنا به له، لأن الثوب عين القطن وذاته، وإنما تغيرت صفته،
فهو كما لو شهد له اثنان أن هذا الكبش حمل فلان قبلت لأنه عين الحمل لكنه تغير
لكبره، فإذا ثبت أنه له أخذ الثوب ثم ينظر فيه: فإن كان قيمته أكثر من قيمة الغزل فلا
شئ له، لأنها آثار زاد بها من فعله، فلا شئ له على فعله، وإن كانت قيمة غزله
أكثر من قيمته ثوبا فعليه ما نقص من قيمة الغزل بالنسج لأن على الغاصب ضمان ما
نقص من الغصب بفعله.
إذا تنازعا دارا يد أحدهما عليها، فأقام من هي في يديه البينة أنها ملكه وأقام
الخارج البينة أنها ملكه وأنه أو دعه إياها أو آجرها، فالبينة بينة الخارج، لأن اليد له،
فإن بينته أثبتت أن يد من هي في يديه نائبة مناب يد الخارج، وقائمة مقامه، فاليد
له، فكانت بينة صاحب اليد أولى، كما لو أقام الخارج البينة أنها له وأنه غصبه إياها
كان عليه ردها كذلك هاهنا.
295

رجل ادعى دارا في يد رجل فأنكر، فأقام المدعي بينة أنها ملكه منذ سنة فجاء
آخر فادعى أنه اشتراها من المدعي منذ خمس سنين، حكمنا بزوال يد المدعى عليه
ببينة المدعي، لأن بينة أولى من يده، ثم ينظر في بينة المدعي الثاني، وهو المشتري
من المدعي الأول كيف شهدت له؟ فإن شهدت بأنه اشتراها من الأول وهي ملكه،
حكم بها للمشتري الثاني، وهو المدعي الثاني، لأن بينة المدعي أسقطت يد
المدعى عليه وصارت اليد للمدعي، ولأن المدعي ببينة أثبت ملكه منذ سنة، ولا
ينفي أن يكون الدار ملكا له قبل السنة، وقد شهدت بينة المشتري أن المدعي باعها
يوم باعها وهي ملكه، فكلا البينتين أثبت الملك للمدعي، ثم نقلته عنه بينة المشتري
إلى المشتري، فكانت ملكا للمشتري.
فإن كانت بحالها وشهدت بينة المشتري بأن المدعي باعها حين باعها، وكان
متصرفا تصرف الملاك، فالحكم على ما مضى في التي قبلها كما لو شهدت بأنه باع
ملكه، لأن الظاهر أن ما في يديه له.
فإن كانت بحالها ولم تشهد بينة المشتري بملك ولا يد، لكن تشهد بالشراء
فقط، فالحكم أيضا على ما مضى، ويحكم بها للمشتري أيضا، وقال قوم: يقر في
يد المدعي، ولا يقضى بها للمشتري، لأن البينة إذا لم تشهد بغير البيع المطلق، لم
يدل على أنه باع ملكه، ولا أنها كانت في يديه حين باع، لأنه قد يبيع ملكه وغير
ملكه وهذا قوي أيضا.
رجلان تنازعا شاة مسلوخة فقال كل واحد منهما: كلها لي، وفي يد أحدهما
منها الرأس والجلد والسواقط، وفي يد الآخر ما بقي منها، وأقام كل واحد بينة بما
يدعيه، حكمنا لكل واحد منهما بقدر ما في يديه منها، لأن له بما في يديه منها اليد
والبينة، وله بما في يد صاحبه بينة بلا يد، وكانت بينة الداخل في كل واحد منهما
أولى، وقال قوم: أقضي لكل واحد منهما بما في يد صاحبه، لأنه خارج وبينة
الخارج أولى وهو الأليق بمذهبنا، هذا إذا كان التداعي مطلقا.
فإن كانت بحالها، وكان التداعي نتاجا فقال كل واحد منهما: ملكي نتجت
296

في ملكي، وأقام كل واحد بينة بما يدعيه حكمنا لكل واحد منهما بما في يديه،
كالتي قبلها سواء، وهذه وفاق.
رجلان في يد كل واحد منهما شاة فادعى كل واحد منهما على صاحبه أن الشاة
التي في يديك ملكي نتجتها الشاة التي في يدي ولم يدع أحدهما الشاة التي يده
عليها، وأقام كل واحد منهما البينة بما يدعيه، فهما متعارضتان في النتاج، لأنه لا
يجوز أن تكون كل واحدة من الشاتين نتجت الأخرى وغير متعارضتين في الملك لأنه
لا يمتنع أن تكون الشاة التي يدعيها في يد الآخر ملكه، وأمها غير ملكه، لأنه قد
يوصي له بولدها فإذا وضعته كان الولد ملكه وأمه غير ملكه، وإذا لم يقع التعارض
في الملك حكمنا لكل واحد منهما بما شهدت له بينته، ودفعنا إلى كل واحد منهما
الشاة التي في يد صاحبه، كما لو ادعى كل واحد منهما شاة في يدي صاحبه
مطلقا، وأقام البينة بما يدعيه، فإنا نقضي لكل واحد منهما بما شهدت له بينته
كذلك هاهنا.
فإن كانت بحالها فقال كل واحد منهما: الشاتان لي معا فالتي في يدي ملكي
والتي في يديك ملكي نتجتها شاتي هذه، وأقام البينة بذلك، فهما متعارضتان في
الملك والنتاج معا، أما النتاج فلأنه لا يجوز أن تكون كل واحدة منهما نتجت
الأخرى، وأما الملك فلأنه لا يجوز أن تكون الشاتان معا ملكا لكل واحد منهما،
فتعارضتا وقد حصل لكل واحد منهما بما يدعيه اليد والبينة معا، فيقضي لكل واحد
منهما بالشاة التي في يديه.
رجل في يده شاتان سوداء وبيضاء تنازعهما نفسان، فادعى أحدهما أن
الشاتين معا لي، وأن البيضاء نتجت السوداء، وادعى الآخر أنهما له وأن السوداء
نتجت البيضاء، فهما متعارضتان في الملك، لأنه لا يجوز أن تكون الشاتان معا ملكا
لكل واحد منهما في الحال، وفي النتاج لأنه لا يجوز أن تكون كل واحدة منهما
نتجت الأخرى، وإذا تعارضتا وفيهما يدان فإما أن تسقطا أو تستعملا.
فمن قال: تسقطان، فكأنه لا بينة لواحد منهما، فإن أنكر المدعى عليه حلف
297

لهما، وإن اعترف لهما أو لأحدهما وأقر الآخر أو جحد الآخر فالحكم على ما مضى
غير مرة.
ومن قال: تستعملان، إما بالقرعة أو الوقف أو القسمة، فمن أقرع - وهو مذهبنا
- فمن خرجت قرعته هل يحلف؟ على قولين أقواهما عندنا أن يحلف، ومن قال:
تقسم قسمت بينهما نصفين، ومن قال: توقف، أوقف.
إذا ادعى زيد شاة في يدي عمرو فأنكر وأقام زيد البينة أن الشاة له وملكه
حكمنا له بها لأن بينته أولى من يد عمرو، فإن أقام عمرو البينة بعد هذا أن الشاة ملكه
نقض الحكم وردت الشاة إلى عمرو لأن عمرا كانت له اليد ولزيد بينة بغير يد، وقد
ظهر أنه كان لعمرو مع يده بينة، فظهر أن بينة عمرو الداخل، وبينة زيد الخارج،
وبينة الداخل أولى، فلهذا قضي بها لعمرو دون زيد.
زيد ادعى شاة في يد عمرو فأنكر عمرو، فأقام زيد البينة أنها ملكه، وأقام عمرو
البينة أن حاكما من الحكام حكم بها له على زيد وسلمها إليه، قال بعضهم: ينظر
في حكم ذلك الحاكم الذي حكم بها لعمرو على زيد، كيف وقع؟
فإن قال عمرو: لي وكانت في يد زيد فأقمت البينة أنها ملكي فقضي لي بها
عليه، لأنه إنما كان له بها يد دون البينة، نقض حكمه به لعمرو، وردت إلى زيد،
لأنه قد بان أنه كان لزيد يد وبينة ولعمرو بينة بلا يد فهي كالتي قبلها سواء.
وإن قال عمرو: أقمت بها بينة وأقام زيد بها بينة، وكانت بينتي عادلة وبينة
زيد فاسقة، فردها بالفسق، وقضى بها لي عليه، وقد أعاد زيد تلك الشهادة، لم
يتغير بنقض الحكم هاهنا، لأنه قد حكم بها لعمرو بالبينة العادلة، وقد أعاد زيد
شهادة الفاسق، والفاسق إذا ردت شهادته في مكان وفي قضية ثم عدل وشهد وأعاد
تلك الشهادة لم تقبل منه للتهمة كذلك هاهنا.
وإن بان للحاكم أن زيدا أقام البينة العادلة بما في يده وعمرو أقام بما في يد
زيد فقضي بها لعمرو على زيد، لأنه كان يذهب مذهب من يحكم لليد الخارجة،
لم ينقض حكمه بها لعمرو عندنا لأنه هو الحق، وعند بعضهم لأنها مسألة اجتهاد،
298

وما نفذ الحكم فيه بالاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد.
وإن بان للحاكم الثاني أن الأول سمع بينة عمرو فلما أتاه زيد بالبينة، قال له
الحاكم: لا أسمع بينتك لأني قد سمعت بينة عمرو بها، فإذا سمعت البينة لأحد
الخصمين لم أسمع من الآخر بينة، فقضى لعمرو على هذا الترتيب، نقض حكمه بها
لعمرو، لأنه خالف الإجماع لأن أحدا لا يقول أنا لا أسمع البينة من كل واحد من
المتداعيين.
فإن كانت بحالها فلم يعلم الثاني على أي وجه حكم الأول بها لعمرو، على
الفصل الأول أو الثاني أو الثالث أو الرابع، قال بعضهم: ينقض حكمه لأنه يحتمل
ما يوجب نقض الحكم، وقال آخرون: لا ينقض حكمه، وهو الأقوى لأنه إذا ثبت
عند الثاني أن الأول حكم بها لعمرو على زيد، فالظاهر أنه على الصحة حتى يعلم
غيره فلا ينقض حكمه بأمر محتمل.
ادعى زيد عبدا في يد خالد فأنكر، فأقام البينة به وقضى الحاكم له به، فقدم
عمرو فأقام البينة أن العبد له فقد حصل لزيد بينة فيما سلف، وبينة لعمرو في
الحال، فهل يتعارضان أو يحتاج زيد إلى إعادة بينة لتعارضها؟
فمن قال: بينة قديم الملك أولى، قال: فقد تعارضتا ولا يحتاج زيد إلى إعادة
بينته لأنا إذا قلنا قديم الملك أولى، حكمنا بأن الملك له في الحال، ولم يزل كذلك
منذ سنة، وقد حصلت المقابلة حين التنازع، فلهذا تعارضتا.
ومن قال: هما سواء قال: هاهنا على قولين: أحدهما تعارضتا من غير أن يعيد
زيد بينته وهو الأقوى عندنا، لأن معنى قولنا سواء - تساويا في الشهادة حين التنازع
-، ولم يعرض لما مضى فلا حاجة بها إلى الإعادة وقال قوم: لا يعارضها حتى يعيد
الشهادة، لأن المعارضة هي المقابلة حين التنازع ولا مقابلة حين التنازع فلهذا قيل
لا بد من الإعادة.
إذا ادعى زيد عبدا في يد رجل فأنكر المدعى عليه، فأقام زيد البينة أن هذا
العبد كان في يديه بالأمس، أو كان ملكا له بالأمس، فهل يقضى له بهذه البينة أم لا؟
299

قال قوم: لا يقضى بها، وقال قوم: يقضى بها، وهو الأقوى، كما قلناه في قديم
الملك سواء، فإذا شهدت أنه كان ملكا له أمس فعلى هذين القولين، وهكذا لو
شهدت بأن هذه الشاة ولدتها شاة فلان أو هذا الغزل مغزول من قطن فلان، وهذه
التمرة أخرجتها نخل فلان، وهذه الحنطة أنبتتها أرض فلان، كان كله كقولها وهذه
الدار كانت لفلان وقد مضى، هذا إذا أقام البينة المدعي أنه كان في يده أمس.
فأما إن أقر المدعى عليه أنه كان في يد المدعي أمس، فهل يلزمه هذه الإقرار،
وينتزع العبد من يديه إلى يد المقر له أم لا؟ قال بعضهم: يبني على قيام البينة له باليد
أمس، فإذا قلنا يقضى بالبينة ألزمناه الإقرار، وانتزعناه من يده إلى المقر له، ومن
قال: لا يقضى له بهذه البينة، قال: في الإقرار وجهان: أحدهما لا يلزمه إقراره أيضا،
لأن إقراره باليد أمس كقيام البينة باليد أمس، وقال آخرون: يلزمه الإقرار وينتزع العبد
من يده.
فعلى هذا الفصل بين قيام البينة باليد أمس وبين الإقرار باليد واضح، وذلك
أن قيام البينة بأن له يد أمس دليل على اليد أمس، وكون العبد في يد المدعى عليه
يدل الظاهر أنه لم يزل كان في يده فتعارضت اليدان أمس، وبقيت اليد المشاهدة
الآن على العبد، فلهذا كان الحكم له، وليس كذلك الإقرار بأن يد المدعي كانت
عليه أمس، لأنه إذا اعترف بهذا لا يثبت له يد بالأمس منفردة بالملك، وقطع المقر
أن يكون له يد أمس فكانت يد المقر له قائمة غير منازع فيها أمس فيرد الشئ إليها حتى
يعلم كيف زال عنها، هذا إذا كان الإقرار له باليد أمس.
فأما إن كان الإقرار له بالملك أمس، فقال: كان هذا العبد الذي في يدي
ملكك أمس، لزمه الإقرار، وينتزع العبد من يديه، ويدفع إلى المقر له به، والفصل
بين الإقرار بالملك وبين البينة بالملك بالأمس قد مضى بين الإقرار باليد وبين البينة
باليد، وبقى الكلام في الفصل بين الإقرار باليد وبين الإقرار بالملك، حيث قلنا
يلزم إقراره بالملك وفي الإقرار باليد على وجهين.
والفصل بينهما أن الإقرار باليد إثبات يد له عليه بالأمس، واليد على الشئ
300

ينقسم إلى الملك وإلى غيره، كيد وديعة أو عارية أو إجارة أو غصب، فإذا كانت اليد
منقسمة ويد المدعى عليه قائمة الآن عليه، فلا يزيل يد المشاهدة على الملك بيد
ماضية منقسمة، فلهذا تسقط اليد بالأمس، لأنه إذا اعترف أنه كان ملكا له أمس لم
ينقسم الملك إلى غيره، ويده الآن قائمة، واليد منقسمة، فيحكم أنه ملكه أمس
وأنه لم يزل فلا يسقط ملك أمس بيد قائمة الآن، فيقسم لأن إلى ملك وغير ملك،
فبان الفصل بينهما.
فصل: في ذكر دعوى الولد:
إذا اشترك اثنان في وطء امرأة في طهر واحد، وكان وطأ يصح أن يلحق به
النسب، وأتت به لمدة يمكن أن يكون من كل واحد منهما، فاشتراكهما في هذا
الوطء يكون بأحد أسباب ثلاثة:
أحدها: أن يكون وطء شبهة من كل واحد منهما، وهو أن يكون لكل واحد
منهما زوجة فيجد على فراشه امرأة فيطأها معتقدا أنها زوجته.
والثاني: أن يكون نكاح كل واحد منهما فاسدا،. وطئها أحدهما في نكاح
فاسد ثم تزوجت بآخر نكاحا فاسدا فوطئها.
والثالث: أن يكون وطء أحدهما في نكاح صحيح والآخر في نكاح فاسد، وهو
أن يطأ زوجته ثم يطلقها فتتزوج نكاحا فاسدا فيطأها الثاني.
فأما مدة الإمكان، فإن يأتي به من حين وطء كل واحد منهما لمدة يمكن أن
يكون منه، وهو أن يكون بين الوطء والوضع ستة أشهر فصاعدا إلى تمام أكثر مدة
الحمل وهي عندنا تسعة أشهر، وعند قوم أربعة سنين، وعند آخرين سنتان.
فإذا تقرر عن المسألة فاتت بالولد فإنه لا يلحق بهما، ويقرع بينهما عندنا فمن
خرج اسمه ألحق به، وقال قوم: يرى القافة، فمن ألحقته به لحق به، وانقطع نسبه
عن الآخر، وإن ألحقته القافة بهما أو لم تلحقه بواحد منهما أو أشكل الأمر عليها أو
لم يكن قافة ترك حتى يبلغ فينسب إلى من يميل طبعه إليه منهما، وقال قوم: يلحقه
301

بهما معا، ومنهم من قال: يلحق بأبين نسبا، حتى قالوا: إذا تداعى رجلان حر وعبد
أو مسلم وكافر أو أب وابن أحدهما بنكاح والآخر بوطئ شبهة، فلا يلحق بهما بل
بالأكمل منهما دون الأنقص.
إذا وطئ السيد أمته فباعها قبل أن يستبرئها، فوطئها المشتري قبل أن يستبرئها
فاتت بولد، فإنه يلحق بالأخير على ما رواه أصحابنا، وقال قوم: هي مثل الأولى،
وهما فيه سواء، وقال بعضهم، مثل ذلك إلا إذا كان وطء أحدهما في نكاح صحيح
والآخر في نكاح فاسد، فإن صحيح النكاح أولى، لأن النكاح مزية على غيره، فكان
إلحاقه بصاحبه أولى.
فإذا ثبت أنه لا فرق بين الفراشين فلا فصل بين أن يكون المتنازعان حرين
مسلمين، أو عبدين، أو كافرين، أو مختلفين حرا وعبدا أو مسلما وكافرا أو أبا وابنا،
فإن جميع هذه المسائل يقتضي مذهبنا القرعة ولا ترجيح، ومن قال: بالقافة، قال:
مثل ذلك، وقال قوم: الحر أولى من العبد، والمسلم أولى من الكافر.
فإذا ثبت أنه لا مزية لأحدهما فإذا تنازعه اثنان يمكن أن يكون من كل واحد
منهما، فإن كان مع أحدهما بينة ألحق به، لأن بينته أولى من دعوى خصمه، فإذا
الحق نسبه به بالبينة ألحقناه دينا، وإن كان كافرا، لأنه قد ثبت أنه ولد على فراش
كافر، فإن لم يمكن بينة فمن قال: بالقافة وألحقته بأحدهما، فإن ألحقته بالمسلم
فهو مسلم، وإن ألحقته بالكافر، لحقه نسبا لا دينا.
والفصل بين البينة والقافة هو أن القافة لا مدخل لها في إثبات الأديان فلهذا لم
يلحقه بها دينا، فإن ألحقته القافة بهما أو لم تلحقه بواحد منهما أو لم يكن قافة أو
أشكل الأمر، ترك حتى يبلغ فينتسب إلى من يميل طبعه إليه منهما، فإذا فعل هذا
لحق به نسبا.
فأما الدين فإن المرجع إلى اللقيط، فإن قال: أنا مسلم، كان مسلما، وإن
قال: أنا كافر، قال قوم: يقر على كفره، ومتى الحق نسبه بأحدهما بقول القافة أو
بالانتساب، ثم رجع القافة أو رجع هو لم ينقض ما حكم به، والذي يقتضيه مذهبنا
302

أنه يقرع بينهما في ذلك أجمع فإذا خرج اسم أحدهما ألحق به دينا ونسبا لأن الدين
يتبع النسب، ولا يستأنف القرعة دفعة ثانية، فيختلف الحال.
ومن قال: بالقائف، قال: لا بد أن يكون القائف عالما بالقيافة ثقة حرا ذكرا، أما
العلم فلأن يعمل به، فهو كالفقه للحاكم، والثقة والعدالة، فإنه موضع حكم خوفا
من أن يلحقه بغير أبيه، والحرية والذكورة فلأنه حاكم فيه والمرأة والعبد لا يليان
الحكم، ويعتبر معرفته بالقيافة باختباره بأن يجعل ولد بين عشرين رجلا ليس فيهم أبوه
ثم يريه ذلك فإن لم يلحقه بأحدهم جعلناه في عشرين غيرهم فيهم أبوه، فإذا ألحقه
بأبيه وتكرر هذا منه، حكمنا بأنه قائف، وإنما اعتبر التكرار لأن المرة الواحدة قد
تكون اتفاقا من غير علم بالشأن.
فإن حكم بالشبه فالشبه ضربان: جلي وخفي، فإن اتفق لأحدهما الشبهان
الجلي والخفي، مثل أن تنازعه أبيض وأسود، وكان المولود أسود، وكان بالأسود
أشبه ألحق به دون الآخر، وإن كان يشبه أحدهما الشبه الخفي ويشبه الآخر الشبه
الجلي قال بعضهم: يلحقه بالظاهر الجلي، ويترك الخفي، كالقياس والنص،
وقال آخرون: يعمل بالخفي دون الجلي كالعموم بالقياس، فالجلي كالعموم والخفي
كالقياس.
وهذا يتصور في موضعين: إذا قال القائف: معي شبه جلي وخفي فبأيهما
أقضي أو يكون الولد أسود وقد تنازعه أسود وأبيض، فعلى ما مضى من الوجهين،
وهذا يسقط عنا لما قدمناه.
الأسباب التي تلحق بها الأنساب بالرجال والنساء:
أما لحوقه بالرجل فإنه يلحق به بفراش منفرد، ودعوة منفردة، وفراش مشترك
ودعوة مشتركة، أما الفراش المنفرد فإن ينفرد بوطئها ويكون الوطء وطأ يلحق به
النسب، وأما الدعوة المنفردة فإن يدعي مجهول النسب وحده لا ينازعه فيه غيره،
وأما الفراش المشترك فقد صورناه في أربع مواضع.
فإذا نازعوه هكذا الحق بأحدهم بالبينة أو القرعة عندنا أو بالقيافة والانتساب
303

عندهم، وإن كانت الدعوة مشتركة ألحقناه بأحدهما بالبينة أو القرعة، وعندهم
بالقيافة أو الانتساب، هذا الكلام في الرجل.
فأما المرأة فمن قال: لا دعوة لها، لم يلحق بها الولد إلا بالبينة فقط، فأما
بالانتساب أو بالقافة فلا، ومن قال: لها دعوة سواء كان لها زوج أو لا زوج لها،
قيل: إذا لم يكن لها زوج فالحكم فيها كالرجل سواء من الدعوة المنفردة وغيرها
والقافة والبينة والانتساب سواء كالرجل لا يختلفان حرفا بحرف، والذي يقتضيه
مذهبنا أن المرأة لها دعوة ويلحق الولد بها بالبينة وبدعواها إذا كان ذلك ممكنا ومتى
تداعتاه امرأتان أقرع بينهما كالرجل سواء.
الناس ضربان: عرب وعجم، فالعجم من عدا العرب من أي جيل كانوا كالترك
والهند والفرس والأرمن والزنج والحبش، فالكل سواء، فإذا ثبت هذا، فمتى
حصل واحد منهم مسلما في دار الإسلام فحصوله على ثلاثة أوجه:
أحدها: يسلم في بلده ثم يدخل إلينا.
والثاني: يدخل مشركا بأمان ثم يسلم عندنا.
والثالث: أو يعقد الذمة ثم يسلم عندنا، فإذا ثبت هذا فحصل عندنا مسلما
على ما فصلناه، فادعى نسب مجهول النسب في دار الإسلام فقال: هذا اللقيط نسبه
لا حق بي، لم يخل المدعي من أحد أمرين: إما أن يكون حرا لا ولاء عليه أو
عليه ولاء.
فإن لم يكن لأحد عليه ولاء لحق نسب الطفل بدعوته، سواء ادعاه ولدا أو أخا أو
عما، لأنه مجهول النسب استلحقه من يمكن أن يكون منه من غير إلحاق ضرر به
فوجب أن يلحق به كالمسلم الأصلي في دار الإسلام.
وإن كان على المدعي ولاء مثل أن كان مملوكا فأعتق ونحو هذا لم يخل من
أحد أمرين: إما أن يستلحق من يلحق نسبه بغيره أو غير ذلك.
فإن استلحق من يلحق نسبه بغيره مثل أن استلحق أخا أو عما لم يلحق به لأن
في إلحاقه إدخال ضرر على غيره، وهو أن لمولاه عليه ولاء يرثه به فإذا استلحق أخا
304

حجب مولاه عن الميراث بالولاء فلذا لم يلحق نسبه بدعوته.
قالوا: أليس لو استلحق الرجل ولدا وله أخ لحق الولد به، وإن كان بثبوت
نسب الولد يحجب أخاه هلا قلتم يثبت نسب أخيه وإن كان فيه حجب مولاه؟
قلنا: الفصل بينهما أن الولاء نتيجة الملك مستفاد به، فلما لم يمكن إسقاط
ملك مولاه لم يملك إسقاط نتيجة ملك مولاه، وليس كذلك النسب لأنه ليس بملك
ولا نتيجة ملك، فلذا ثبت نسبه وإن حجب به أخاه، هذا إذا استلحق من يلحق
بغيره.
فأما إن استلحق من يلحق به، وهو أن يستلحق ولدا فقال: هذا ابني، قال
قوم: لا يثبت نسبه، لأن فيه إسقاط إرث مولاه بالولاء كالأخ وقال آخرون: يثبت نسبه
ويسقط إرث مولاه بالولاء ويرثه ابنه بالبنوة.
والفصل بينه وبين الأخ أن به ضرورة إلى استلحاق الولد، لأن نسبه منه لا يثبت
بغيره، وليس كذلك الأخ لأن نسبه قد يثبت بدعوة غيره، وهو الأب ولأنه لما ملك
أن يستحدث ولدا ملك أن يستلحق ولدا، وليس كذلك الأخ لأنه لما لم يملك أن
يستحدث أخا لم يملك أن يستلحق أخا، والذي يقتضيه مذهبنا أنه يقبل قوله في
الموضعين، ويثبت النسب لعموم ما رووه من أمر الحميل.
فصل: في متاع البيت إذا اختلف فيه الزوجان:
إذا اختلف الزوجان في متاع البيت فقال كل واحد منهما: كله لي، نظرت: فإن
كان مع أحدهما بينة قضي له بها لأن بينته أولى من يد الآخر، وإن لم يكن مع
أحدهما بينة فيد كل واحد منهما على نصفه، يحلف كل واحد منهما لصاحبه ويكون
بينهما نصفين، وسواء كانت يدهما من حيث المشاهدة، أو من حيث الحكم وسواء
كان مما يصلح للرجال دون النساء كالعمائم والطيالسة والدراريع والسلاح، أو
يصلح للنساء دون الرجال كالحلي والمقانع وقمص النساء أو يصلح لكل واحد
منهما كالفرش والأواني، وسواء كانت الدار لهما أو لأحدهما أو لغيرهما، وسواء
305

كانت الزوجية باقية بينهما أو بعد زوال الزوجية، وسواء كان التنازع بينهما أو بين
ورثتهما أو بين أحدهما وورثة الآخر، وفيها خلاف.
وقد روى أصحابنا أن ما يصلح للرجال للرجل وما يصلح للنساء فللمرأة وما
يصلح لهما يجعل بينهما وفي بعض الروايات أن الكل للمرأة وعلى الرجل البينة،
لأن من المعلوم أن الجهاز ينقل من بيت المرأة إلى بيت الرجل، والأول أحوط.
إذا كان لرجل على رجل حق فوجد من له الحق مالا لمن عليه الحق فهل له أن
يأخذ حقه منه بغير إذن من عليه الحق أم لا؟ لا يخلو من عليه الحق من أحد أمرين:
إما أن يكون باذلا لما عليه أو مانعا.
فإن كان معترفا باذلا له لم يكن لمن له الحق الأخذ منه، لأن لمن عليه الحق
أن يقضيه من أي ما له شاء، فلو أجزنا له أن يأخذ بغير إذنه أسقطنا هذا الخيار،
فإن خالف وأخذ كان عليه رده لأنه أخذ مال غيره بغير حق فكان عليه رده
كالغاصب.
فأما إذا كان مانعا، إما بأن يجحد الحق ظاهرا وباطنا أو يعترف به باطنا
ويجحده ظاهرا أو يعترف به ظاهرا ويجحده باطنا، ويمنعه لقوته وأنه لا يمكن
استيفاء الحق منه، فمتى كان بهذه الصفة كان له أن يأخذ من ماله بقدر حقه عندنا،
وقال بعضهم: ليس له ذلك إلا في النقود مثل الدراهم والدنانير فأما في غير الأثمان
فلا، هذا إذا كان من عليه الحق مانعا ولا حجة لمن له الحق.
فأما إن كان له بحقه حجة، وهي البينة عليه ولا يقدر على إثبات ذلك
عند الحاكم والاستيفاء منه، فهل له أخذه بنفسه أم لا؟ قال قوم: ليس له لأنها جهة
تملك استيفاء حقه بها منه فلم يكن له الأخذ بنفسه بغير رضاه، كما لو كان باذلا، وقال
آخرون: له ذلك لأن عليه مشقة في إثباته عند الحاكم ومغرمة في استيفائه فكان له
الأخذ، وهو الذي تقتضيه عموم أخبارنا في جواز ذلك.
وكل موضع قلنا: له الأخذ، فأخذ فإن كان من جنس حقه كالأثمان وماله مثل
كالحبوب والأدهان أخذ ذلك وملكه بالأخذ، كما لو دفعه من عليه الحق إليه بنفسه،
306

وإن كان من غير جنسه لم يكن له أن يتملكه بنفسه ولكن يباع بجنس الحق ومن
الذي يبيع؟ قال بعضهم: الحاكم لأن له الولاية عليه، وقال آخرون: يحضر
عند الحاكم ومعه رجل واطأه على الاعتراف بالدين والامتناع من أدائه، والأقوى
عندنا أن له البيع بنفسه لأنه يتعذر عليه إثباته عند الحاكم والذي قالوه كذب يتنزه
عنه.
فإذا ثبت ذلك فأخذ من له الحق عينا للبيع، فإن باع فلا كلام، وإن هلكت
العين في يده قبل البيع قال قوم: يكون من ضمان من عليه الدين لأن هذه العين
قبضت لاستيفاء الدين من ثمنها وكانت أمانة عنده كالرهن، وقال آخرون: عليه
ضمانه لأنه قبضها بغير إذن مالكها لاستيفاء الحق من ثمنها فهو كما لو قبض الرهن
بغير إذن الراهن، والأول أليق بمذهبنا، فمن قال: لا ضمان عليه قال: له أن يأخذ
غيرها من ماله، ومن قال: عليه ضمانها قال: صار في ذمته قيمتها وله في ذمة المانع
الدين فإن كان الجنس واحدا كان قصاصا ويترادان الفضل.
307

نزهة الناظر
في الجمع بين الأشباه والنظائر
تأليف
المحقق يحيى بن سعيد الحلي
309

فصل
[مواضع لا تقبل فيها شهادة النساء]
لا تقبل شهادة النساء في ثمانية عشر موضعا:
النكاح على ما ذكره الشيخ في الثالث من الخلاف في كتاب الشهادات
والمبسوط في كتاب الشهادات والشيخ المفيد في المقنعة وسلار في الرسالة وابن
إدريس، وقد روي أخبار صحيحة بأنه إذا كان معهن رجل أنها تقبل، وستأتي في
آخر الفصل.
والطلاق، والخلع، والرجعة، والظهار، والإيلاء، والعتق، والنسب
والرضاع، ورؤية الهلال جاء بها خبر صحيح، والوكالة، والوصية في كونه
وصيا، والجناية الموجبة للقود، وروى الحسين بن سعيد بن جميل بن دراج وابن
حمران عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: يجوز شهادة النساء في القتل فحمله
الشيخ على الدية دون القود.
والردة، والحد في السرقة، والحد في شرب المسكر، والحد في القذف،
والحد في الزنى منفردات عن الرجال، فإن شهد ثلاثة رجال وامرأتان عليه بالزنى
وجب الرجم إن كان محصنا، فإن كان غير محصن وجب عليه مائة جلدة، فإن
شهد بذلك رجلان وأربع نسوة وجب عليه مائة جلدة سواء كان محصنا أو غير
311

محصن، فإن شهد رجل واحد وست نساء وجب على كل واحد منهم ثمانون
جلدة حد المفتري.
وتقبل شهادتهن منفردات عن الرجل في خمسة مواضع: الدين، والعذرة
وعيوب النساء، وميراث المستهل، والوصية في إخراج شئ من المال لا في
الولاية.
والأخبار المشار إليها:
الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي، عن أبي عبد الله
عليه السلام أنه سئل عن شهادة النساء في النكاح؟ قال: تجوز إذا كان معهن
رجل.
أحمد بن محمد، عن الحسين بن محبوب، عن محمد بن الفضيل، عن
أبي الحسن عليه السلام مثله.
الحسين بن سعيد، عن محمد بن الفضيل، عن أبي الصباح الكناني، عن أبي
عبد الله عليه السلام قال: قال علي عليه السلام: شهادة النساء تجوز في النكاح.
فصل
[الذين لا يقبل إقرارهم]
لا يقبل إقرار سبعة إنسان: العبد، والصبي، والمجنون، والأبله الشديد البله،
والمكره، والمبذر، والمفلس إذا أقر بالمال الذي تعلق به حق غرمائه، والراهن إذا
أقر بالرهن لمن عدا المرتهن فإن أقر به المرتهن صح إقراره، ومن أقر به فرارا من
دين عليه، ومن أقر بما لا يملك فإن انتقل إليه لزمه ذلك الإقرار ووجب عليه
تسليمه لمن أقر به أو لا، ومن أقر بدين في حال مرضه ومات، ومن أصحابنا من لم
يصحح إقراره وجعله من الثلث كالوصية، ومنهم من صحح إقراره وجعله من
أصل المال، وهو الصحيح.
312

فصل
[من يسمع قوله]
ثمانية عشر القول قولهم: من هلك ما في أيديهم من الأمانات لمن يكون
عليه، أو يتصرفون عن إذنه مع اليمين ما لم يفرطوا، والحاكم، وأمين الحاكم،
والأب، والجد، والوصي، والوكيل، والمستعير، والمستودع والمستأجر،
والراعي، والشريك، والمضارب، والمزارع، والمساقي، والسمسار، والوزان،
والناقد، والمنادي.
فصل
[مواضع يقبل قول المدعي فيها من غير يمين]
يقبل قول المدعي من غير يمين في ثمانية وعشرين شيئا:
من أقام الدليل القاطع على صدقه وأنه لا يدعي إلا حقا يقبل دعواه في كل
ما يدعيه، والأب، والجد، والحاكم، وأمينه، والوصي في النفقات على من هو
تحت ولايتهم ما لم يدعوا شيئا تمنع العادة منه، ومن يدعي أنه لا زكاة عليه، ومن
ادعى أنه أخرج زكاته إلى مستحقها، ومن ادعى أنه عزل زكاة ماله وهلكت، ومن
ادعى كنزا وجد في دار كانت له بعد بيعها، ومن وجد عنده طعام في زمان
الاحتكار فادعى أنه اشتراه لقوته، ومن ادعى عليه بشئ تقتضي العادة بخلافه
فأنكره.
ومن ادعى على غيره شيئا فأنكره المدعى عليه ونكل عن اليمين ألزم الحق
ولا يمين على المدعي على أصح القولين، وبه قال الشيخ أبو جعفر في النهاية
والمفيد في المقنعة وسلار في الرسالة، وذهب الشيخ أبو جعفر في المبسوط في
باب النكول عن اليمين وفي الثالث من الخلاف في كتاب الدعاوي إلى أنه: لا
يحكم عليه بالنكول بل يلزم اليمين المدعي فيحلف على ما ادعاه، وهو اختيار ابن
إدريس.
313

ومن أعطى غيره زيادة على حقه وادعى بعد ذلك أنه غلط، والصبي والصبية
إذا ادعيا البلوغ، ومن طلقت ثلاثا وتزوجت زوجا ثانيا ودخل بها ثم مات
وادعت أنه وطأها قبل قولها وحلت للزوج الأول، وإذا ادعت المرأة الحيض أو
الطهر أو انقضاء العدة بهما، والظئر إذا جاءت بالولد فأنكره أهله وادعت أنه
ولدهم واشتبه الأمر فيه، ومن أقر بالسرقة مرة واحدة ثم أنكر ألزم بالسرقة دون
القطع، ومن أخرج من حرز مالا فأخذه وادعى أن صاحب المال أعطاه إياه فلم
يوافقه أخذ ماله ولا قطع على المخرج ولا يمين، ومن أقر بحد يوجب الرجم ثم
أنكره قبل إنكاره.
ومن قامت عليه البينة بالزنى فادعى الإكراه، ومن زنى وهو قريب عهد
بالإسلام وادعى الجهالة، وإذا لاط السيد بمملوكه فادعى المملوك أن السيد
أكرهه على ذلك، وإذا ساحقت المرأة جاريتها وادعت الجارية أن مولاتها أكرهتها
على ذلك درئ عن الجارية الحد، وإذا وجد رجل يجامع امرأة فادعيا الزوجية
وأمكن ذلك، وإذا وجد رجلان أو رجل وغلام أو رجل وامرأة في إزار واحد
فادعيا أن البرد أحوجهما إلى ذلك، ومن أنكر دعوى من ادعى عليه بأنه قذفه.
314

تبصرة المتعلمين
في أحكام الدين
للشيخ جمال الدين أبي منصور الحسن بن سديد الدين
يوسف بن زين الدين علي بن محمد مطهر الحلي المشتهر بالعلامة الحلي
والعلامة على الإطلاق
647 - 726 ه‍. ق
315

كتاب القضاء والشهادات
وفيه فصول:
الأول: في صفات القاضي:
ولا بد أن يكون: مكلفا مؤمنا عدلا عالما ذكرا طاهر المولد ضابطا. ولا
يكفيه فتوى العلماء، ولا بد من إذن الإمام، وينفذ قضاء الفقيه مع الغيبة إذا جمع
الصفات.
ويستحب الإعلان بوصوله، والجلوس وسط البلد مستدبر القبلة، والسؤال
عن الحجج والودائع وأرباب السجن وموجبه، وأن يفرق الشهود مع التهمة،
ومخاوضة العلماء.
ويكره القضاء مع شغل القلب بالغضب والجوع والعطش والهم والفرح
وغيرها، واتخاذ حاجب وقت القضاء، وتعيين قوم للشهادة، والشفاعة إلى الغريم
في إسقاطه حقه.
ويقضي الإمام بعلمه، وغيره به في حقوق الناس، وإذا انتفى العلم حكم
بالشهادة مع علمه بعدالة الشهود أو التزكية وتسمع مطلقة بخلاف الجرح، ومع
التعارض يقدم الجرح.
وتحرم الرشوة، ويجب إعادتها وإن حكم بالحق، وإذا التمس الغريم إحضار
خصمه أجابه، إلا المرأة غير البرزة أو المريض فينفذ إليهما من يحكم بينهما.
317

الفصل الثاني: في كيفية الحكم:
وعليه أن يسوي بين الخصمين في الكلام والسلام والمكان والنظر
والإنصات والعدل في الحكم، ويجوز أن يكون المسلم قاعدا أو أعلى منزلا
والكافر أخفض أو قائما.
ولا يلقن الخصم، ولو بدر أحدهما بالدعوى قدمه فيها، ولو ادعيا دفعة سمع
من الذي على يمين خصمه.
فإن أقر خصمه ألزمه إن كان كاملا مختارا، فإن امتنع حبسه مع التماس
خصمه، ولو طلب المدعي إثبات حقه أثبته مع معرفته باسمه ونسبه، أو بعد معرفة
عدلين أو بالحلية.
ولو ادعى الإعسار وثبت أنظر، وإن لم يثبت ألزم بالبينة إذا عرف له مال، أو
كان أصل الدعوى مالا، وإلا قبل قوله مع اليمين، وإن جحد طلبت البينة من
المدعي، فإن أحضرها حكم له، وإلا توجهت له اليمين، فإن التمسها حلف المنكر.
ولا يجوز إحلافه حتى يلتمس المدعي، فإن تبرع أو أحلفه الحاكم لم يعتد
بها وأعيدت مع التماس المدعي، فإن نكل ردت على المدعي وثبت حقه إن
حلف، وإن نكل بطل، وإن رد اليمين حلف المدعي فإن نكل بطلت دعواه، وإذا
حلف المنكر لم يكن للمدعي المقاصة، ولا تسمع بينته بعد اليمين إلا أن يكذب
نفسه.
ولو كان الدين على ميت احتاج المدعي مع البينة إلى يمين على البقاء
استظهارا.
ولو سكت المنكر لآفة توصل إلى معرفة إقراره أو إنكاره، ولا يكف
المترجم الواحد، وإن كان عنادا حبس حتى يجيب.
الفصل الثالث: في الاستحلاف:
ولا يجوز بغير أسماء الله تعالى، ولو كان إحلاف الذمي بدينه أردع جاز.
318

ويستحب الوعظ والتخويف والتغليظ في نصاب القطع فما زاد بالقول
والمكان والزمان، ويكفي: والله ما له قبلي كذا.
ويمين الأخرس بالإشارة، ولا يحلف إلا في مجلس القضاء مع المكنة،
واليمين على القطع إلا في نفي فعل الغير فإنها على نفي العلم، ولو ادعى المنكر
الإبراء أو الإقباض انقلب مدعيا.
ولا يمين في حد، ولا مع عدم العلم، ولا ليثبت مالا لغيره، وتقبل الشهادة
مع اليمين إذا بدأ بالشهادة وعدل، في الأموال والديون، لا في الهلال والطلاق
والقصاص.
وإذا شهد بالحكم عدلان عند آخر أنفذه الحاكم الثاني ما لم يناف
المشروع.
الفصل الرابع: في المدعي:
ولا بد أن يكون مكلفا مدعيا لنفسه أو لمن له الولاية عنه ما يصح تملكه وله
انتزاع العين، أما الدين فكذا مع الجحد وعدم البينة ومع عدم البذل، ولو ادعى
ما لا يد لأحد عليه قضي له به مع عدم المنازع، ويحكم على الغائب مع البينة
ويباع ماله في الدين، ولا يدفع إلا بكفيل.
ولو تنازع اثنان ما في يدهما فلهما بالسوية، ولكل إحلاف صاحبه، ولو
كان في يد أحدهما فللمتشبث مع اليمين، ولو كانت في يد ثالث فهي لمن صدقه
وللآخر إحلافه، فإن صدقهما تساويا ولكل إحلاف صاحبه، وإن كذبهما أقرت
في يده.
ولو تداعى الزوجان متاع البيت قيل: للرجل ما يصلح له وللمرأة ما يصلح
لها، وما يصلح لهما بينهما، وقال في المبسوط: إذا لم تكن بينة ويدهما عليه فهو
لهما، ولو تعارضت البينتان قضي للخارج إلا أن تشهد بينة المتشبث بالسبب، ولو
شهدتا بالسبب فللخارج، ولو تشبثا قضي لكل بما في يد صاحبه فيكون بينهما
319

بالسوية، ولو كان في يد ثالث قضي للأعدل فالأكثر عددا، وإن تساويا أقرع
فيحلف من تخرجه القرعة، فإن امتنع أحلف الآخر، فإن امتنعا قسم بينهما.
الفصل الخامس: في صفات الشاهد:
وهي ستة: البلوغ وكمال العقل والإيمان والعدالة وانتفاء التهمة وطهارة
المولد.
وتقبل شهادة الصبيان في الجراح مع بلوع العشر وعدم الاختلاف وعدم
الاجتماع على المحرم.
وتقبل شهادة أهل الذمة في الوصية مع عدم المسلمين، ولا تقبل شهادة
الفاسق إلا مع التوبة، ولا شهادة الشريك لشريكه فيما هو شريك فيه، ولا
الوصي فيما له الولاية فيه، وكذا الوكيل، ولا العدو، ولا شهادة الولد على الوالد،
ويجوز العكس، وتقبل شهادة كل منهما لصاحبه، وكذا الزوجان.
ولا تقبل شهادة المملوك على مولاه، وفي غيره قولان، ولو أعتق قبلت له
وعليه، ولو شهد من تحملها مع المانع بعد زواله قبلت.
ولا تقبل شهادة المتبرع، ولا شهادة النساء في الهلال والطلاق والحدود،
وتقبل مع الرجال في الحقوق والأموال، وتقبل شهادتهن بانفرادهن في العذرة
وعيوب النساء الباطنة وشهادة القابلة في ربع ميراث المستهل، وامرأة واحدة في
ربع الوصية.
الفصل السادس: في بقية مسائل الشهادات:
الأولى: لا يحل للشاهد أن يشهد إلا مع العلم، ولا يكفي رؤية الخط مع عدم
الذكر وإن أقام غيره، ويكفي في الشهادة بالملك مشاهدته متصرفا فيه.
ويثبت بالسماع: النسب والملك المطلق والوقف والزوجية. ولو سمع
الإقرار شهد وإن قيل له: لا تشهد.
320

الثانية: لا يجوز للشاهد كتمان الشهادة مع العلم وانتفاء الضرر غير
المستحق، ولو دعي للتحمل وجب على الكفاية، ولا يشهد على من لا يعرفه إلا
بمعرفة عدلين، ويجوز له النظر إلى وجه امرأة للشهادة.
الثالثة: تقبل الشهادة على الشهادة في الديون والأموال والحقوق لا الحدود،
ولا يكفي أقل من عدلين على أصل، ولو شهد اثنان على كل واحد من الأصلين
قبلت، وإنما تقبل مع تعذر حضور شاهد الأصل، ولو أنكر الأصل ردت الشهادة
مع عدم الحكم، ولا تسمع الشهادة الثالثة في شئ أصلا.
الرابعة: إذا رجع الشاهدان قبل الحكم بطل، وإن كان بعده لم ينقض
وغرمهما، ولو ثبت تزويرهما استعيدت العين، فإن تلفت أو تعذر الاستعاذة ضمن
الشهود.
ولو قال شهود القتل بعد القصاص: أخطأنا، غرموا، وإن قالوا: تعمدنا،
اقتص منهم أو من بعضهم ويرد البعض ما وجب عليهم، فإن فضل شئ أتمه
الولي، ولو قال بعضهم ذلك رد عليه الولي ما يفضل عن جنايته، واقتص منه إن
كان عمدا وأخذ منه ما قابل فعله من الدية إن قال: أخطات.
ولو شهدا بسرقة فقطعت يد المشهود عليه ثم قالا: أوهمنا والسارق غيره،
غرما دية اليد، ولا يقبل قولهما على الثاني.
الخامسة: يجب شهرة شاهد الزور وتعزيره بما يراه الإمام رادعا.
321

إرشاد الأذهان
للشيخ جمال الدين أبي منصور الحسن بن سديد الدين يوسف بن زين الدين
علي بن محمد مطهر الحلي المشتهر بالعلامة الحلي والعلامة على الإطلاق
647 - 726 ه‍. ق
323

كتاب القضاء
وفيه مقاصد:
الأول: في صفات القاضي وآدابه:
وفيه مطلبان:
الأول:
يشترط فيه: البلوغ، والعقل، والإيمان، والعدالة، وطهارة المولد، والعلم،
والذكورة، والضبط، والحرية، على رأي، والبصر على رأي، والعلم بالكتابة على
رأي، وإذن الإمام أو من نصبه، ولو نصب أهل البلد قاضيا لم تثبت ولايته، ولو
تراضى خصمان بواحد من الرعية وحكم بينهما لزمه الحكم، ويشترط فيه ما شرط
في القاضي المنصوب عن الإمام، وفي حال الغيبة ينفذ قضاء الفقيه من علماء
الإمامية الجامع لشرائط الفتوى.
والقضاء واجب على الكفاية، ويستحب للقادر عليه، ويتعين إن لم يوجد
غيره، ويتعين تقليد الأعلم مع الشرائط.
ولا ينفذ حكم من لا تقبل شهادته - كالولد على والده، والعبد على مولاه،
والخصم على عدوه - ولا حكم من لم يستجمع الشرائط، وإذا اقتضت المصلحة
توليته لم يجز، ولو تجدد مانع الانعقاد انعزل كالجنون والفسق.
وللإمام ونائبه عزل جامع الشرائط لمصلحة لا مجانا، وينعزل بموت الإمام
325

والمنوب، ويجوز نصب قاضيين في بلد يشتركان في ولاية واحدة، أو يختص
كل بطرف، ولو شرط اتفاقهما في كل حكم لم يجز، فإن تنازع الخصمان في
الترافع قدم اختيار المدعي، وإذا أذن له في الاستخلاف جاز، وإلا فلا، إلا مع
الأمارة كاتساع الولاية.
وتثبت الولاية بشاهدين وبالاستفاضة، ولا يجب قبول قوله من دونهما وإن
حصلت الأمارة، ولو كانت الدعوى على القاضي في ولايته رفع إلى خليفته.
المطلب الثاني: في الآداب:
يستحب سكناه في وسط البلد، والإعلام بقدومه، والجلوس بارزا مستدبر
القبلة واستعلام حال بلده من أهله، والبدأة بأخذ الحجج من المعزول والودائع
والسؤال عن سبب الحبس - وإحضار غرمائهم، والنظر في صحة السبب وفساده،
ولو لم يظهر لأحدهم غريم بعد الإشاعة أطلقه - وعن أولياء الأيتام - واعتماد ما
ينبغي من عزل أو ضم أو تضمين أو إبقاء - وعن أمناء الحكم والضوال، وبيع ما
يراه منها، وتسليم المعرف حولا إلى ملتقطه إن طلبه، وإحضار العلماء حكمه
ليرجع إذا نبهوه على الغلط، فإن أتلف خطأ فالضمان على بيت المال، ويعزر
المتعدي من الغريمين إن لم يرجع إلا به.
ويكره: الحاجب وقت القضاء، والقضاء وقت الغضب، والجوع،
والعطش، والغم، والفرح، والوجع، ومدافعة الأخبثين، والنعاس، وأن يتولى
البيع والشراء لنفسه، والحكومة، والانقباض، واللين، وتعيين قوم للشهادة، وأن
يضيف أحد الخصمين، والشفاعة في إسقاط أو إبطال، وتوجه الخطاب إلى
أحدهما، والحكم في المساجد دائما على رأي - ولا يكره متفرقا - وأن يعنت
الشهود العارفين الصلحاء، وإن ارتاب فرق بينهم. وتحرم عليه الرشوة، ويأثم
الدافع إن توصل بها إلى الباطل، وعلى المرتشي إعادتها، فإن تلفت ضمن.
326

المقصد الثاني: كيفية الحكم:
وإذا حضر الخصمان بين يديه سوى بينهما في السلام والكلام والقيام
والنظر وأنواع الإكرام والإنصات والعدل في الحكم. ولا تجب التسوية في الميل
القلبي، ولا بين المسلم والكافر، فيجوز إجلاس المسلم وإن كان الكافر قائما.
ويحرم عليه تلقين أحد الخصمين وتنبيهه على وجه الحجاج.
ويسمع من السابق بالدعوى، فإن اتفقا فمن الذي عن يمين صاحبه، ولو
تضرر أحدهما بالتأخير قدمه، ولو تعدد الخصوم بدأ بالأول فالأول، وإن وردوا
دفعة أقرع، وإذا اتضح الحكم وجب، ويستحب الترغيب في الصلح، وإن أشكل
أخر إلى أن يتضح.
ولو سكتا استحب أن يقول: ليتكلم المدعي، أو يأمر به إن احتشماه.
وإذا عرف الحاكم عدالة الشاهدين حكم بعد سؤال المدعي، وإلا طلب
المزكي، ولا يكفي معرفته بالإسلام، ولا البناء على حسن الظاهر، ولو ظهر
فسقهما حال الحكم نقضه، ويسأل عن التزكية سرا.
ويفتقر المزكي إلى المعرفة الباطنة المفتقرة إلى تكرر المعاشرة، ولا يجب
التفصيل، وفي الجرح يجب التفسير على رأي، ولو اختلف الشهود في الجرح
والتعديل قدم الجرح، فإن تعارضتا وقف.
وتحرم الشهادة بالجرح إلا مع المشاهدة أو الشياع الموجب للعلم، ومع
ثبوت العدالة يحكم باستمرارها، ولو طلب المدعي حبس المنكر إلى أن يحضر
المزكي لم يجب، ولا تثبت التزكية إلا بشهادة عدلين، وكذا الترجمة.
ويجب في كاتب القاضي العدالة والمعرفة، ويستحب الفقه.
وكل حكم ظهر بطلانه فإنه ينقضه، سواء كان الحاكم هو أو غيره، وسواء
كان مستند الحكم قطعيا أو اجتهاديا، ولا يجب تتبع حكم السابق إلا مع علم
الخطأ، فإن زعم الخصم البطلان نظر فيه، ولو ادعى استناد الحكم إلى فاسقين
وجب إحضاره، وإن لم يقم المدعي بينة، فإن اعترف ألزمه، وإلا فالقول قوله في
327

الحكم بشهادة عدلين على رأي مع يمينه.
ويحرم عليه أن يتعتع الشاهد بأن يداخله في التلفظ بالشهادة أو يتعقبه، بل
يكف حتى يشهد، فإن تلعثم صبر عليه، ولو توقف لم يجز له ترغيبه في الإقامة،
ولا تزهيده فيها، ولا إيقاف عزم الغريم عن الإقرار، إلا في حقوقه تعالى.
وإذا سأل الخصم إحضار خصمه مجلس الحكم أجيب مع حضوره وإن لم
يحرر الدعوى، ولا يجاب في الغائب إلا مع التحرير، ولو كان في غير ولايته
أثبت الحكم عليه، وإن كانت امرأة برزة كلفت الحضور، وإلا أنفذ من يحكم
بينهما.
ويكتب ما يحكم به في كتاب، ولا يجب عليه دفع القرطاس من ماله بل
يأخذه من بيت المال أو الملتمس.
ولو اعتقد تحريم الشفعة مع الزيادة لم يحل له أخذها بحكم من يعتقدها،
لكن لا يمنعهم من الطلب بناء على معتقده.
ولا يحل له أن يحكم بما يجده مكتوبا بخطة من دون الذكر - كالشهادة -
ولو كان الخط محفوظا عنده وأمن التزوير.
ولو شهد شاهدان بقضائه ولم يذكر فالوجه القضاء، ولو تمكن المدعي من
انتزاع عينه ولو قهرا فله ذلك من دون الحاكم مع انتفاء الضرر.
ولو كان الدعوى دينا والغريم باذل مقر لم يستقل من دون تعيينه أو تعيين
الحاكم مع المنع، ولو كان جاحدا وهناك بينة ووجد الحاكم فالأقرب جواز
الأخذ من دونه، ولو فقدت البينة أو تعذر الحاكم جاز الأخذ إما مثلا أو بالقيمة،
فإن تلفت العين قبل بيعها، قال الشيخ: لا ضمان، ولو كان المال وديعة كره
الأخذ على رأي، ولو ادعى ما لا يد لأحد عليه فهو أولى.
ولو انكسرت سفينة، فما أخرجه البحر فلأهله، وما أخرج بالغوص
فلمخرجه.
328

المقصد الثالث: في الدعوى:
وفيه مطالب:
الأول: في تحقيق الدعوى والجواب:
يشترط في المدعي التكليف، وأن يدعي لنفسه أو لمن له ولاية عليه - كالأب
والجد والوصي والوكيل والحاكم وأمينه - ما يصح تملكه وإن كان مجهولا
لازما.
فلا تسمع دعوى الهبة مجردة عن دعوى القبض، ولا دعوى أن هذه بنت
أمته، أو ضم: ولدتها في ملكي، ما لم يصرح بدعوى ملكية البنت، ولا تسمع
البينة إلا بذلك، وكذا: هذه ثمرة نخلتي، ولو أقر الخصم بذلك لم يحكم عليه،
ويحكم لو قال: هذا الغزل من قطنه أو الدقيق من حنطته، ولو قالت: هذا زوجي،
كفى في دعوى النكاح من غير توقف على ادعاء حقوقها.
ولو ادعى علم المشهود له بفسق الشاهدين أو الحاكم أو الإقرار أو أنه قد
حلف ففي اليمين إشكال لأنه ليس عين الحق بل ينتفع فيه، وليس له تحليف
الشاهد والقاضي وإن نفعه تكذيبهم أنفسهم، وتسمع الدعوى بالدين المؤجل،
ولا تفتقر الدعوى إلى الكشف، إلا في القتل، فلو ادعى فرسا سمعت، وهل يشترط
الجزم، أم يكفي الظن؟ إشكال.
ولو أحاط الدين بالتركة فالمحاكمة إلى الوارث فيما يدعيه للميت، فإذا ادعى
وسأل المدعي المطالبة بالجواب طولب الخصم، فإن اعترف ألزم بأن يقول
الحاكم: حكمت أو قضيت أو أخرج من حقه مع التماس المدعي، وإلا ثبت
الحق، ولو طلب أن يكتب عليه أجيب إن عرفه الحاكم أو عرفه عدلان، وله أن
يشهد بالحلية ويطالب السيد بجواب القصاص والأرش لا العبد.
فإن ادعى الإعسار وعرف صدقه بالبينة أو اعتراف خصمه أنظر حتى يوسع
الله تعالى عليه، وإلا طولب بالبينة إن كان له مال ظاهر، أو كان أصل الدعوى
مالا وإلا حلف، وإن أنكر طولب المدعي بالبينة، فإن قال: لا بينة لي، وطلب
329

إحلاف المنكر أحلف وبرئ، ويأثم لو أعاد المطالبة.
ولا يحل له المقاصة، فإن رد أو نكل حلف المدعي، فإن نكل بطل حقه،
ولو حلف المنكر من غير مسألة المدعي الإحلاف وقعت لاغية وإن كانت بأمر
الحاكم، ولو أقام المدعي بينة بعد إحلاف الخصم لم تسمع وإن لم يشرط سقوط
الحق باليمين أو نسيها، نعم لو أكذب الحالف نفسه طولب وقوصص.
ولو امتنع المنكر من اليمين والرد قال له الحاكم: إن حلفت وإلا جعلتك
ناكلا ثلاثا، فإن حلف وإلا أحلف المدعي على رأي، وقضي عليه بالنكول على
رأي، ولو بذل المنكر يمينه بعد النكول لم يلتفت إليه، وإن قال المدعي: لي بينة
وأحضرها سألها الحاكم إن التمس المدعي، فإن وافقت الدعوى وسأل المدعي
الحكم حكم بها إن عرف العدالة، وإن خالفت الدعوى طرحها.
ولو أقر الخصم بعدالة الشاهدين لم يجب التزكية، وإلا احتيج إلى عدلين
يزكيان الشهود، ولا يقتصر المزكيان على العدالة، بل يضمان إليها أنه مقبول
الشهادة، لاحتمال الغفلة.
ولو قال: لا بينة لي، ثم أحضرها سمعت، ولو ادعى المنكر الجرح أنظر
ثلاثة أيام، فإن تعذر حكم، ولا يستحلف المدعي مع البينة، إلا أن تكون الشهادة
على ميت أو صبي أو مجنون أو غائب، فيستحلف على بقاء الحق استظهارا يمينا
واحدة وإن تعدد الوارث.
ويكفي اليمين مع الشاهد الواحد عنها، ولا يجب التعرض في اليمين لصدق
الشهود، وللمشهود عليه الامتناع من التسليم حتى يشهد القابض وإن ثبت
باعترافه، ولا يجب على المدعي دفع الحجة، ولا على البائع دفع كتاب الأصل.
ولو قال: إن البينة غائبة خير بين الصبر والإحلاف، ولا يجب الكفيل، وإن
سكت المنكر عنادا حبس حتى يجيب، وإن كان لآفة توصل الحاكم إلى إفهامه،
فإن احتاج إلى المترجم وجب عدلان، وإن قال: هو لفلان اندفعت الحكومة عنه
وإن كان المقر له غائبا.
330

ويجاب المدعي لو طلب إحلافه على عدم العلم بملكيته، فإن نكل أغرم،
ولو أقر لمجهول لم تندفع الحكومة حتى يبين، فإن أنكر المقر له حفظها الحاكم.
المطلب الثاني: في الاستحلاف:
وفيه بحثان:
الأول: في الكيفية:
ولا يصح اليمين إلا بالله تعالى وإن كان كافرا، نعم لو رأى الحاكم
إحلاف الذمي بما يقتضيه دينه أردع جاز.
ويستحب: الوعظ والتخويف والتغليظ في الحقوق كلها وإن قلت، إلا المال
فلا يغلظ على أقل من نصاب القطع، ولا يجبر الحالف على التغليظ.
وهو قد يكون باللفظ، مثل: والله الطالب الغالب الضار النافع المدرك
المهلك الذي يعلم من السر ما يعلمه من العلانية ونحوه، وبالمكان: كالمساجد،
وبالزمان: كيوم الجمعة والعيدين وبعد العصر.
ويحلف الأخرس بالإشارة، ولا يستحلف أحد إلا في مجلس الحكم، إلا
المعذور والمرأة غير البرزة، وإنما يحلف على القطع، إلا على نفي فعل الغير،
فإنها على نفي العلم، ويحلف على نفي الاستحقاق إن شاء، وإن حلف على نفي
الدعوى جاز، ولا يجبر عليه وإن أجاب به، ولو قال: لي عليك عشرة، فقال: لا
تلزمني العشرة، حلف أنها لا تلزمه ولا شئ منها، ولا يكفيه الحلف على أنه لا
تلزمه عشرة، فإن اقتصر كان ناكلا فيما دون العشرة، وللمدعي أن يحلف على
عشرة إلا شيئا إلا في البيع، كما لو ادعى أنه باعه بخمسين فحلف أنه باعه لا
بخمسين، لم يمكنه الحلف على الأقل.
البحث الثاني: في الحالف:
وهو: إما المنكر أو المدعي.
331

فالمنكر يحلف مع عدم البينة لا مع إقامتها، في كل موضع يتوجه الجواب
عن الدعوى فيه، ولو أعرض المدعي عن البينة والتمس اليمين، أو قال: أسقطت
البينة وقنعت باليمين، جاز وله الرجوع، ولا يمين على الوارث، إلا مع ادعاء علمه
بموت مورثه وبالحق وبتركه مالا في يده، ولو ادعى على المملوك فالغريم مولاه
في المال والجناية، ولا يمين في حد، ويحلف منكر السرقة لإسقاط الغرم، ولو
نكل حلف المدعي وألزم المال لا القطع، ويصدق الذمي في ادعاء الإسلام قبل
الحول، والحربي في الإنبات بعلاج - لا بالسن - ليخلص من القتل على إشكال.
وأما المدعي فيحلف في أربعة مواضع: إذا رد المنكر عليه الحلف، وإذا
نكل، وإذا أقام شاهدا واحدا بدعواه، وإذا أقام لوثا بالقتل. ولو بذل المنكر اليمين
بعد الرد قبل الإحلاف، قال الشيخ: ليس له ذلك إلا برضا المدعي، ولو ادعى
المنكر الإبراء أو الإقباض انقلب مدعيا ولا يحلف إلا مع العلم، ولا ليثبت مال
غيره، فلو أقام غريم الميت أو المفلس شاهدا حلف الوارث أو المفلس وأخذ
الغريم، ولا يحلف الغريم، ولو أقام المرتهن شاهدا بملكية الرهن حلف الراهن.
المطلب الثالث: في القضاء على الغائب:
يقضى على الغائب عن مجلس الحكم - مسافرا كان أو حاضرا، تعذر
الحضور عليه أو لا على رأي - في حقوق الناس لا في حقوقه تعالى، ويقضى في
السرقة بالغرم دون القطع، ولو ادعى الوكيل على الغائب وأقام بينة فلا يحلف،
بل يسلم المال بكفيل، ولو قال الحاضر لوكيل الغائب المدعي: أبرأني موكلك
أو سلمته فالأقرب إلزامه ثم يثبت دعواه.
ولو حكم على الغائب ثم أنهى حكمه إلى حاكم آخر أنفذه، بشرط أن يشهد
عدلان على صورة الحكم وسمعا الدعوى على الغائب وإقامة الشهادة والحكم بما
شهدا به، ويشهدهما على الحكم، ولو لم يحضر الواقعة وأشهدهما بأن فلانا ادعى
على فلان الغائب بكذا، وأقام بكذا، أو أقام فلانا وفلانا وهما عدلان، فحكمت
332

بكذا عليه، ففي الحكم إشكال أقربه القبول، وكذا لو أخبر الحاكم الأول الثاني
بذلك.
ولو كان الخصم حاضرا وسمع الشاهدان الدعوى والإنكار والشهادة،
وحكم الحاكم عليه بها وأشهدهما على حكمه أنفذه الثاني لا أنه يحكم بصحته في
نفس الأمر، ولو أثبت الحاكم الأول بشهادة الشاهدين ولم يحكم به لم ينفذ الثاني
ذلك، فلو مات الأول أو عزل لم يقدح في العمل بحكمه بخلاف الفسق، ولو
سبق الإنفاذ لم يغير، ولو قال: ما في هذا الكتاب حكمي، لم ينفذ، ولو قال المقر
أشهدتك على ما في القبالة وأنا عالم به، فالأقرب الاكتفاء حتى إذا حفظ الشاهد
القبالة وشهد على إقراره جاز.
ويجب أن يذكر في الحكم المحكوم عليه متميزا باسمه ونسبه، بحيث يتميز
عن غيره، فإن أقر المسمى أنه المشهود عليه ألزم، وإن أنكر وأظهر المساوي في
النسب، فإن اعترف أنه الغريم أطلق الأول وإلا وقف الحاكم، ولو كان ميتا
وقضت الأمارة ببراءته لم يلتفت إليه، وإلا وقف الحاكم حتى يبين.
ولو كانت الشهادة بالحلية المشتركة فالقول قول المنكر، ولو كان
الاشتراك نادرا قدم قول المدعي مع اليمين، ولو أنكر كونه مسمى بذلك الاسم
حلف عليه، ولو حلف على أنه لا يلزمه شئ لم يقبل، ولو أنهى الأول سماع البينة
لم يكن للآخر أن يحكم.
وإذا حكم بالغائب، فإن كان دينا أو عقارا يعرف بالحد لزم، وإن كان
عبدا أو فرسا وشبهه ففي الحكم على عينه إشكال ينشأ من جواز التعريف بالحلية
كالمحكوم عليه، ومن احتمال تساوي الأوصاف، فيكلف المدعي إحضار
الشهود إلى بلد العبد ليشهدوا على العين، ومع التعذر لا يجب حمل العبد، فإن
حمله الحاكم لمصلحة وتلف قبل الوصول أو بعده ولم يثبت المدعي دعواه ضمن
قيمة العبد وأجرته ومؤونة الإحضار والرد، ويحتمل مع حكم الحاكم بالصفة
إلزام المدعي بالقيمة، ثم يسترد إن ثبت ملكه، ولو أنكر وجود مثل هذا العبد في
333

يده افتقر المدعي إلى البينة، فإن أقامها حبس المنكر حتى يحضره، أو يدعي التلف
فيحلف.
المقصد الرابع: في متعلق الاختلاف:
وفيه فصول:
الأول: فيما يتعلق بالأعيان:
إذا تداعيا عينا في يدهما ولا بينة حكم لهما مع التحالف وبدونه، ويحلفان
على النفي، فإذا حلف أحدهما ونكل الآخر أحلف الأول على الإثبات وأخذ
الجميع، ولو نكل الأول الذي عينه القاضي بالقرعة حلف الثاني يمين النفي
للنصف الذي في يده، ويمين الإثبات للذي في يد شريكه، وتكفي الواحدة
الجامعة بينهما، ولو تشبث أحدهما خاصة حكم له مع اليمين.
ولو كانت في يد ثالث حكم لمن يصدقه مع اليمين، ولو صدقهما فلهما
ويحلفان، ولو دفعهما أقرت في يده بعد يمينه.
ولو أقام أحدهما بينة حكم له، ولو أقام كل بينة، فإن أمكن التوفيق وفق
وإلا تحقق التعارض، فإن كانت العين في يدهما قضي لهما، وإن كانت في يد
أحدهما قضي للخارج على رأي إن شهدتا بالملك المطلق أو بالسبب، ولو
شهدت إحديهما بالسبب فهي أولى، ولو كانت في يد غيرهما قضي لأعدلهما، فإن
تساويا فلأكثرهما، فإن تساويا أقرع وحلف الخارج، فإن امتنع أحلف الآخر
وأخذ، وإن نكلا قضي لهما.
والشاهدان كالشاهد والمرأتين، وهما أولى من الشاهد واليمين، ولو تداعيا
زوجية أقرع مع البينتين، والشهادة بقديم الملك أولى من الشهادة بالحادث،
وبالأقدم أولى من القديم، وبالملك أولى من اليد، وبسبب الملك أولى من
التصرف.
ولو شهدت بملكه في الأمس لم تسمع حتى يقول: وهو ملكه في الحال، أو
334

لا أعلم زواله، ولو قال: لا أدري زال أم لا، لم يقبل، أما لو قال: هو ملكه بالأمس
اشتراه من المدعى عليه، أو أقر له به، أو غصبه المدعي، أو استأجر منه قبل، ولو
شهد بالإقرار الماضي ثبت وإن لم يتعرض ببقاء الملك في الحال، ولو قال
المدعى عليه: كان ملكك بالأمس انتزع من يده، ولو شهد أنه كان في يده
بالأمس ثبتت اليد وانتزعت من يد الخصم على إشكال، ولو ادعى ملكية الدابة منذ
مدة فدلت سنها على أقل قطعا أو ظاهرا سقطت بينته.
ولو ادعى رقية مجهول النسب الصغير الذي في يده حكم له، فلو بلغ وأنكر
أحلف، ولو كان كبيرا فأنكر أحلف وحكم بالحرية، ولو سكت جاز ابتياعه وإن
لم يقر على إشكال، ولو ادعاه اثنان فاعترف لهما قضي عليه، وإن اعترف
لأحدهما حكم له.
ولو تداعيا ثوبين في يد كل واحد منهما أحدهما وأقاما بينة حكم لكل منهما
بما في يد الآخر، ولو أقام بينة بعين في يد غيره انتزعت له، فإن أقام الذي كانت
في يده بينة أنها له لم يحكم له على رأي، أما لو ادعى ملكا لاحقا فالوجه القضاء
له.
ولو تداعى الزوجان متاع البيت حكم لذي البينة، فإن فقدت حلف كل
لصاحبه وحكم لهما، سواء كانت الدار لهما أو لأحدهما، وسواء كانت الزوجية
باقية أو لا على رأي، وحكم للرجل بما يصلح له، وللمرأة بما يصلح لها، ويقسم
بينهما ما يصلح لهما على رأي.
الفصل الثاني: في العقود:
لو ادعى أنه استأجر الدار بعشرة، وادعى المؤجر أنه آجره بعشرين واتحد
الوقت، فالقول قول المستأجر مع يمينه، فإن أقاما بينة حكم ببينة المؤجر على
رأي، وبالقرعة على رأي للتعارض، ولو تقدم تاريخ أحدهما بطلت الأخرى.
ولو قال: استأجرت الدار بعشرة، فقال: بل آجرتك البيت بها، واتفق
335

تاريخ أقرع سواء أقاما بينة أو لا، ولو تقدم تاريخ البيت حكم بإجارته بأجرته،
وبإجارة الدار بالنسبة من الأجرة.
ولو ادعى كل منهما الشراء من المتشبث وإيفاء الثمن وأقاما بينة حكم
للسابق، ولو اتفقا حكم للأعدل، فالأزيد، فمن تخرجه القرعة مع يمينه، ولا يقبل
قول البائع لأحدهما، ويعيد الثمن على الآخر، ولو امتنع الخارج بالقرعة من
اليمين أحلف الآخر وأخذ، ولو امتنعا قسمت ويرجع كل بنصف الثمن، ولكل
خيار الفسخ، فإذا فسخ أخذ الثمن وأخذ الآخر العين.
ولو ادعيا شراء ثالث من كل منهما وأقاما بينة، فإن اعترف لأحدهما قضي
له عليه بالثمن، وإن اعترف لهما قضي بالثمنين أيضا، وإن أنكر واختلف التاريخ،
أو كان مطلقا قضي بالثمنين أيضا، وإن اتفق أقرع، ويقضي للخارج مع يمينه،
فإن نكل أحلف الآخر، فإن نكلا قسم الثمن بينهما.
ولو ادعى شراءه من زيد وإقباض الثمن، وادعى آخر شراءه من عمرو
والإقباض، وأقاما بينة متساوية في العدالة والعدد والتاريخ، أحلف من تخرجه
القرعة وقضي له، فإن نكل أحلف الآخر، فإن نكلا قسم بينهما ورجع كل على
بائعه بنصف الثمن، ولو فسخا صح ورجعا بالثمنين، ولو فسخ أحدهما لم يكن
للآخر أخذ الجميع.
ولو أقام العبد بينة بالعتق، وأقام آخر بينة بالشراء واتحد الزمان أقرع، فإن
امتنعا من اليمين تحرر نصفه والآخر للمدعي، فإن فسخ عتق أجمع، وفي السراية
إشكال ينشأ من قيام البينة بمباشرة العتق، ومن الحكم بالعتق قهرا.
ولو ادعى شراء ما في يد الغير من آخر، فإن شهدت بينته بالملكية له أو
للبائع بالتسليم انتزعت له، وإلا فلا على رأي.
ولو أقام بينة بإيداع ما في يد الغير منه، وآخر بينة باستئجار القابض منه،
أقرع مع التساوي.
ولو قال: غصبني، وقال الآخر: أقر لي بها، وأقاما بينة حكم للمغصوب منه
336

ولا ضمان.
الفصل الثالث: في الميراث:
لو ادعى ابن المسلم تقدم إسلامه على موت أبيه وصدقه الآخر وادعى لنفسه
ذلك، فأنكر الأول أحلف على نفي العلم بتقدم إسلام أخيه على موت أبيه وأخذ
المال، وكذا المملوكان لو أعتقا واتفقا على تقدم عتق أحدهما على الموت واختلفا
في الآخر، أما لو أسلم أحدهما في شعبان والآخر في رمضان، فادعى المتقدم سبق
الموت على رمضان والآخر التأخر فالتركة بينهما.
ولو ادعى ما في يد الغير أنه له ولأخيه الغائب بالإرث وأقام بينة كاملة، فإن
شهدت بنفي وارث غيرهما سلم إليه النصف، ولو لم تشهد بنفي الوارث سلم إليه
النصف بعد البحث والتضمين، وبقى النصف الآخر في يد الغير، أو سلمه الحاكم
من ثقة.
ولو ادعت الإصداق وادعى الولد الإرث وأقاما بينة حكم للزوجة.
ولو أقام كل من العبدين الثلث بينة بعتق المريض له أقرع.
ولو شهد أجنبيان بالوصية بعتق غانم، ووارثان بالوصية بعتق سالم
والرجوع عن غانم، فالتهمة هنا تدفع شهادة الورثة، والوجه عتق الأول وثلثي
الثاني.
الفصل الرابع: في نكت متفرقة:
البينة المطلقة لا توجب تقدم زوال الملك على ما قبل البينة، فلو شهد على
دابة فنتاجها قبل الإقامة للمدعى عليه، والثمرة الظاهرة على الشجرة كذلك
والجنين.
وهل إذا أخذ من المشتري بحجة مطلقة ترجع على البائع؟ إشكال، فإن
قلنا به، فلو أخذ من المشتري الثاني رجع الأول أيضا، والوجه عندي عدم
337

الرجوع إلا إذا ادعى ملكا سابقا على شرائه.
ولو ادعى ملكا مطلقا، فذكر الشاهد الملك وسببه لم يضر، فلو أراد
الترجيح بالسبب وجب إعادة البينة بعد دعوى السبب، ولو ذكر الشاهد سببا
آخر سوى ما ذكره المدعي، تناقضت الشهادة والدعوى، فلا تسمع على أصل
الملك.
ولو أقام بينة على ميت بعارية عين أو غصبيتها كان له انتزاعها من غير يمين.
ولو أقام كل من مدعي الجميع والنصف بينة وتشبثا فهي لمدعي الجميع،
ولو خرجا فلمدعي الجميع النصف والآخر يقرع، ويحلف الخارج بالقرعة، فإن
نكل أحلف الآخر، فإن نكلا قسم، فيحصل للمستوعب ثلاثة الأرباع.
ولو ادعى آخر الثلث وتشبثوا ولا بينة فلكل الثلث، وعلى الثاني والثالث
اليمين للمستوعب، وعلى المستوعب والثالث اليمين للثاني، وإن أقاموا بينة خلص
للمستوعب الربع بغير منازع والثلث الذي في يد الثاني والربع بما في يد
الثالث، ويبقى نصف السدس للخارج بالقرعة من المستوعب والثاني، فإن نكلا
قسم بينهما، فيحصل للمستوعب عشرة ونصف، وللثاني أحد ونصف، ولا شئ
للثالث.
ولو ادعى أحد الأربعة الجميع والثاني الثلثين والثالث النصف والرابع
الثلث، وخرجوا وأقاموا بينة، فللمستوعب الثلث، ويقرع بينه وبين الثاني في
السدس، فإن نكلا قسم، ويقرع بينهما وبين الثالث في سدس آخر، فإن نكلوا
قسم بينهم، ويقرع بين الأربعة في الباقي، فإن نكلوا قسم، فيحصل للمستوعب
عشرون وللثاني ثمانية وللثالث خمسة وللرابع ثلاثة.
ولو تشبثوا ولا بينة فلكل الرابع، ويحلف الجميع للجميع، ولو أقاموا بينة
سقط اعتبارها بالنظر إلى ما في يده، ويفيد فيما يدعيه مما في يد الغير، فيجمع بين
كل ثلاثة على ما في يد الرابع، فللمستوعب من الثاني عشرة، ويقرع بينه وبين
الثالث في ستة، فإن نكلا قسم بينهما، ويقرع بين المستوعب والرابع في اثنين،
338

فإن امتنعا من اليمين قسم بينهما، وللمستوعب ستة من الثالث، ويقارع الثاني في
عشرة، فيقسم بعد النكول، ويقارع الثالث في اثنين ويحلف الخارج، فإن نكل
فالآخر، وإن نكلا قسم بينهما، وللمستوعب من الرابع اثنان، ويقارع الثاني في
عشرة، فيقسم بعد النكول، ويقارع الثالث في ستة، فيقسم بعد النكول، وللثاني
مما في يد المستوعب عشرة، وللثالث ستة، وللرابع اثنان، فيكمل للمستوعب
النصف، وللثاني سدس وتسع، وللثالث سدس، وللرابع سدس الثلث.
ولو خرج المبيع مستحقا فله الرجوع على البائع، فإن صرح في نزاع
المدعي بملكية البائع فلا رجوع على إشكال.
ولو أحبل جارية بحجة ثم أكذب نفسه، فالولد حر والجارية مستولدة وعليه
قيمتها والمهر وقيمة الولد للمقر له، ويحتمل أن الجارية للمقر له إن صدقته.
ولو قال المدعي: كذبت شهودي، بطلت بينته لا دعواه.
المقصد الخامس: في الشهادات:
وفيه مطالب:
الأول: في الصفات:
وفيه فصلان:
الأول: في الشروط العامة:
يشترط في الشاهد ستة أمور:
الأول: البلوغ، فلا تقبل شهادة الصبي وإن راهق إلا في الجراح بشرط بلوع
عشر سنين فصاعدا، وعدم تفرقهم في الشهادة، واجتماعهم على المباح.
الثاني: العقل، فلا تقبل شهادة المجنون، وتقبل ممن يعتوره حال إفاقته،
وكذا معتاد السهو والتغفل لا تقبل شهادته إلا إذا علم أنه في موضع لا يحتمل
الغلط.
339

الثالث: الإيمان، فلا تقبل شهادة غير المؤمن وإن كان مسلما، ولا تقبل
شهادة الذمي ولا على مثله، إلا في الوصية مع عدم العدول.
الرابع: العدالة، وهي هيئة راسخة في النفس تبعث على ملازمة التقوى،
وتزول بمواقعة الكبائر التي أوعد الله عليها النار - كالقتل والزنى واللواط
والغصب - وبالإصرار على الصغائر أو في الأغلب، ولا تقدح الندرة، فإن الإنسان
لا ينفك منها.
والمخالف في الفروع إذا لم يخالف الإجماع تقبل شهادته، وكذا أرباب
الصنائع الدنيئة والمكروهة كالحائك والحجام والزبال والصائغ وبائع الرقيق
واللاعب بالحمام من غير رهان.
وترد شهادة اللاعب بآلات القمار كلها - كالنرد والشطرنج والأربعة عشر
وإن قصد الحذق - وشارب الخمر، وكل مسكر، والفقاع، والعصير إذا غلى وإن
لم يسكر قبل ذهاب ثلثيه، وسامع الغناء - وهو مد الصوت المشتمل على
الترجيع المطرب وإن كان في قرآن - وفاعله، والشاعر الكاذب أو الذي يهجو
به مؤمنا أو تشبب بامرأة معروفة غير محللة، ومستمع الزمر والعود والصنج
والدف إلا في الأملاك والختان خاصة - وجميع آلات اللهو، والحاسد،
وباغض المؤمن ظاهرا، ولابس الحرير من الرجال والذهب، والقاذف قبل
التوبة، وحدها الإكذاب معه أو التخطئة مع الصدق ظاهرا، ولو صدقه المقذوف
أو أقام بينة فلا فسوق، ويجوز اتخاذ الخمر للتخليل.
الخامس: طهارة المولد، فترد شهادة ولد الزنى وإن قلت.
السادس: ارتفاع التهمة، ولها أسباب:
أحدها: أن يجر إلى نفسه نفعا أو يدفع ضررا، كشهادة الشريك لشريكه
فيما هو شريك فيه، وصاحب الدين للمحجور عليه، والسيد للمأذون، والوصي
340

فيما هو وصي فيه، أو أن فلانا جرح مورثه قبل الاندمال، أو العاقلة بجرح شهود
الجناية، أو الوكيل والوصي بفسق الشهود على الموكل والموصي، ولو شهد
بمال لمورثه المجروح أو المريض قبل، ولو شهدا لرجلين بوصية فشهدا
للشاهدين بأخرى من التركة قبل الجميع.
وثانيها: العداوة الدنيوية، وتتحقق بالفرح على المصيبة والغم بالسرور، أو
بالتقاذف، أما الدينية فلا تمنع، وتقبل شهادة العدو لعدوه، ولو شهد بعض
الرفقة لبعض على قاطع الطريق لم تقبل للتهمة، أما لو قالوا: عرضوا لنا وأخذوا
أولئك قبلت.
ومنها دفع عار الكذب، فلو تاب الفاسق لتقبل شهادته لم تقبل، وقال
الشيخ: تقبل لو قال: تب أقبل شهادتك، وترد شهادة المتبرع قبل السؤال
للتهمة إلا في حقوقه تعالى والمصالح العامة على إشكال، ولا يصير بالتبرع
مجروحا، ولو أخفى نفسه ليشهد قبلت، ولا يحمل على الحرص.
ومنها: مهانة النفس كالسائل في كفه إلا نادرا، والماجن ومرتكب ما لا يليق
من المباحات بحيث يسخر به وتارك السنن أجمع.
والنسب لا يمنع الشهادة وإن قرب كالوالد للولد وبالعكس، والزوج
لزوجته وبالعكس، والأخ لأخيه، وكذا تقبل شهادة النسيب على نسيبه إلا الولد
على والده خاصة على رأي، والصداقة لا تمنع الشهادة وإن تأكدت الملاطفة،
وتقبل شهادة الأجير والضيف.
الفصل الثاني: في الشروط الخاصة:
وهي خمسة:
الأول: الحرية، فلا تقبل شهادة المملوك على مولاه، وتقبل له ولغيره، وعلى
غيره على رأي، وكذا المدبر والمكاتب المشروط والمطلق قبل الأداء، ولو أدى
البعض قال الشيخ: تقبل بنسبة ما تحرر، ولو أعتق قبلت على مولاه، ولو أشهد
341

عبديه على حمل أمته أنه ولده وأنه أعتقهما ومات فملكهما غيره، فردت شهادتهما
ثم أعتقا فأقاما بها، قبلت ورجعا عبدين، لكن يكره للولد استرقاقهما.
الثاني: الذكورة، فلا تقبل شهادة النساء في الحدود مطلقا إلا في الزنى، ولو
شهد ثلاثة رجال وامرأتان ثبت الرجم على المحصن، ولو شهد رجلان وأربع
نسوة ثبت الجلد عليه خاصة، ولا تقبل لو شهد رجل وست نساء أو أكثر.
ولا تقبل أيضا في الطلاق والخلع والوكالة والوصية إليه والنسب والأهلة،
والأقرب قبول شاهد وامرأتين في النكاح والعتق والقصاص.
وأما الديون والأموال - كالقرض والقراض والغصب وعقود المعاوضات
والوصية له والجناية الموجبة للدية والوقف على إشكال - فتثبت بشاهد وامرأتين،
وبشاهد ويمين.
وأما الولادة والاستهلال وعيوب النساء الباطنة والرضاع على إشكال فتقبل
فيه شهادتهن وإن انفردن.
وتقبل في الديون والأموال شهادة امرأتين ويمين، ولا تقبل شهادتهن
منفردات وإن كثرن، وتقبل شهادة الواحدة في ربع ميراث المستهل وربع
الوصية من غير يمين، وشهادة امرأتين في النصف وهكذا، ولا تقبل شهادة ما دون
الأربع فيما تقبل فيه شهادتهن منفردات.
الثالث: العدد، ولا تقبل شهادة الواحد إلا في هلال رمضان على رأي، أما
الزنى واللواط والسحق فلا يثبت بدون أربع، ويثبت ما عدا ذلك من الجنايات
الموجبة للحد وكل حقوقه تعالى بشاهدين خاصة، وكذا الطلاق والخلع
والوكالة والوصية إليه والنسب والأهلة والجرح والتعديل والإسلام والردة
والعدة.
الرابع: العلم، وهو شرط في جميع ما يشهد به إلا النسب والملك المطلق
342

والموت والنكاح والوقف والعتق والولاية، فقد اكتفي في ذلك بالاستفاضة:
بأن تتوالى الأخبار من جماعة من غير مواعدة، أو تشتهر حتى يقارب العلم، قال
الشيخ: ولو شهد عدلان صار السامع شاهد أصل لأن ثمرة الاستفاضة الظن، ولا
يجوز للشاهد بالاستفاضة الشهادة بالسبب كالبيع والهبة، نعم لو عزاه إلى
الميراث صح.
الخامس: حصول الشرائط العامة في الشاهد وقت التحمل في الطلاق خاصة، ولا
يشترط في غيره، فلو شهد الصغير والكافر والعبد والفاسق، ثم زالت الموانع
فأقاموا بها، سمعت في غيره، وكذا لو شهدوا به مع سماع عدلين، ثم أقاموا بعد
زوال المانع، سمعت وإن كانت قد ردت أولا، ولو ردت شهادة الولد على والده
ثم أعادها بعد موته سمعت.
المطلب الثاني: في مستند الشهادة:
وهو العلم - إلا ما استثني - إما بالمشاهدة فيما يفتقر إليها، وهو الأفعال
كالغصب والقتل والرضاع والزنى واللواط والولادة، وتقبل في ذلك شهادة
الأصم والأخرس إذا عرفت إشارته، فإن جهلت اعتمد الحاكم على عدلين عارفين
بها، ويثبت الحكم بشهادته أصلا لا بشهادتهما فرعا.
وإما السماع والبصر معا فيما يفتقر إليهما، كالأقوال الصادرة عن المجهول
عند الشاهد مثل العقود، فإن السمع يفتقر إليه لفهم اللفظ، والبصر لمعرفة المتلفظ.
وإما السماع وحده، كالأقوال الصادرة عن المعلوم عند الشاهد، فإن الأعمى
تقبل شهادته إذا عرف صوت المتلفظ بحيث لا يعتريه الشك، ولو لم يعرفه
وعرفه عدلان عنده فكالعارف، وكذا لو شهد على المقبوض، وتقبل شهادته على
شهادة غيره وعلى ما يترجمه للحاكم.
343

ومجهول النسب يشهد على عينه، فإن مات أحضر مجلس الحكم، فإن دفن
لم ينبش وتعذرت الشهادة، ويجوز كشف وجه المرأة للشهادة.
ثم الشاهد إن عرف نسب المشهود عليه رفعه إلى أن يتخلص عن غيره،
ويجوز أن يشهد بالحلية الخاصة أو المشتركة نادرا، وإن جهله افتقر إلى معرفين
ذكرين عدلين، ويكون شاهد أصل لا فرعا عليهما.
لو سمع رجلا يستلحق صبيا أو كبيرا ساكتا غير منكر لم يشهد بالنسب
وإذا اجتمع في الملك اليد والتصرف بالبناء والهدم والإجارة وشبه ذلك بغير
منازع جازت الشهادة بالملك المطلق، وهل تكفي اليد في الشهادة بالملك
المطلق؟ الأقرب ذلك، ويشهد بالإعسار مع الخبرة بالباطن وقرائن الأحوال
كصبره على الجوع والضر في الخلوة.
المطلب الثالث: في الشاهد واليمين:
ويثبت بذلك كل ما كان مالا أو المقصود منه المال، كالمعاوضات
والبيع والهبة، والجناية الموجبة للدية كالخطأ وشبهه، وقتل الوالد ولده،
والهاشمة، وفي النكاح والوقف إشكال.
ولا يثبت بذلك الحدود، ولا الخلع والطلاق والرجعة والعتق والتدبير
والكتابة والنسب والوكالة والوصية إليه وعيوب النساء.
ويشترط الشهادة أولا وثبوت عدالة الشاهد، فلو حلف قبل ذلك وجبت
إعادتها بعده.
وهل يتم القضاء بالشاهد أو باليمين أو بهما؟ إشكال، تظهر فائدته في
الرجوع.
ولو أقام الجماعة شاهدا بحقهم، أو بحق مورثهم، أو بوصية الميت لهم، فمن
حلف استحق نصيبه خاصة، ولو كان فيهم صغير أو مجنون أخر نصيبه حتى
يحلف بعد رشده، ولا يؤخذ من الخصم، أو يحلف وارثه لو مات قبله، ولو أخر
344

العاقل اليمين كان لوارثه الحلف والآخذ بعد موته، وفي وجوب إعادة الشهادة
إشكال، أما لو نكل لم يكن لوارثه الحلف، ولو كان في الورثة غائب حلف إذا
حضر من غير إعادة الشهادة، وكذا إذا بلغ الصبي.
ولو أقام شاهدين استوفى نصيب المجنون والصبي الذي لم يدع، ويؤخذ
نصيب الغائب إن كان عينا، أو يوضع في يده إن رأى الحاكم ذلك، ولو
استوفى الحاضر حصته في الدين لم يساهمه الغائب، وإن كان عينا ساهمه.
وإذا ادعيا أن أباهما أوقف عليهما وقف تشريك ثبت الوقف بشاهد ويمين،
فإن نكل أحدهما لم يستحق واستحق الآخر، فإذا ماتا فنصيب الحالف لا يستحقه
البطن الثاني بغير يمين، ونصيب الناكل للبطن الثاني إن حلفوا، ولو نكلا معا
حلف البطن الثاني إذا ماتا، فلو حلف الأولاد الثلاثة ثم صار لأحدهم ولد صار
أرباعا فيوقف له الربع، فإن حلف بعد بلوغه أخذ، وإن امتنع قال الشيخ:
يرجع إلى الثلاثة، ولو مات أحدهم قبل بلوغه عزل له الثلث من حين الموت، فإن
حلف أخذ الجميع، وإلا كان الربع إلى حين الوفاة لورثة الميت والأخوين،
والثلث من حين الوفاة للأخوين، وفيه نظر.
ولو ادعيا وقف الترتيب كفت يمينهما عن يمين البطن الثاني.
ولو ادعى بعض الورثة الوقف حلف مع شاهده وثبت، فإن نكل كان
نصيبه طلقا في حق الديون والوصايا، فإن فضل له شئ كان وقفا ونصيب
الباقين طلقا، ولو نكل البطن الأول عن اليمين كان للبطن الثاني الحلف.
ولو ادعى عبدا في يد غيره وأنه أعتقه لم تثبت بالشاهد واليمين، ولو أقام
شاهدا بقتل العمد كان لوثا وجاز إثبات دعواه بالقسامة لا باليمين الواحدة، ولو
ادعى في جارية وولدها أنها مستولدة حلف مع الشاهد وثبت ملك المستولدة
وعتقت عند موته بإقراره، ولا يثبت نسب الولد وحريته.
المطلب الرابع: في الشهادة على الشهادة:
345

والنظر في أمور أربعة:
الأول: المحل:
فيثبت في حقوق الناس وإن كانت عقوبة كالقصاص، أو غير عقوبة
كالطلاق والعتق والنسب، أو مالا كالقرض، أو عقد معاوضة كالبيع، وما لا
يطلع عليه الرجال كعيوب النساء الباطنة والولادة والاستهلال، وفي حد السرقة
والقذف خلاف، ولا يثبت في غيرهما من الحدود إجماعا، ويثبت الإقرار باللواط
والزنى بالعمة والخالة أو وطء البهيمة بشاهدين والشهادة على الشهادة لا لإثبات
الحد، بل لانتشار حرمة النكاح، وتحريم الأكل في المأكولة، ووجوب بيع
غيرها.
الثاني: الاسترعاء:
وأكمله أن يقول شاهد الأصل: اشهد على شهادتي أنني أشهد بكذا، ودونه أن
يسمعه يشهد عند الحاكم، وأدون منه أن يسمعه يقول: اشهد لفلان على فلان
بكذا بسبب كذا، ففي هذه الصورة يجوز التحمل، ولو لم يذكر السبب لم يجز،
ولو قال: عندي شهادة مجزومة لفلان فكالسبب، وله أن يقول في الأولى:
أشهدني على شهادته، وفي البواقي: شهدت على شهادته، أو أشهد أن فلانا شهد.
الثالث: العدد:
ويشهد على كل واحد شاهدان، ولو شهد الاثنان على شهادة كل واحد
منهما، أو شهد الأصل مع آخر على شهادة الأصل الثاني، أو شهد الاثنان على
أزيد من اثنين، أو كان الأصل شاهدا وامرأتين، أو أربع نساء فيما يجوز، فشهد
الاثنان على كل واحد منهم قبل، وهل تقبل شهادة النساء على الشهادة فيما يقبل
فيه شهادتهن خاصة - كالعيوب الباطنة والاستهلال -؟ فيه نظر.
346

الرابع: في شرط الحكم بها:
ولا تسمع شهادة الفرع إلا عند تعذر شاهد الأصل، إما لمرض أو غيبة،
والضابط المشقة، ولا بأس بموت شاهد الأصل وغيبته ومرضه وجنونه وتردده
وعماه، ولو طرأ فسق أو عداوة أو ردة طرحت، ولو أنكر الأصل طرحت على
رأي، ولو حكم بشهادة الفرع ثم حضر الأصل لم تقدح مخالفته ولا غرم،
ويشترط تسمية الأصل لا التعديل، فإن عدله أو عرف الحاكم العدالة حكم وإلا
بحث، وليس عليه أن يشهد على صدق شاهد الأصل.
المطلب الخامس: في الرجوع:
وهو: إما عن شهادة العقوبة، أو البضع، أو المال.
الأول: العقوبة:
فإن رجع قبل القضاء لم يقض، ووجب حد القذف إن شهد بالزنى، ولو
قال: غلطنا، احتمل سقوطه، ولو لم يصرح بالرجوع بل قال للحاكم: توقف،
ثم عاد وقال: اقض، فالأقرب القضاء، وفي وجوب الإعادة إشكال.
وإن رجع بعد القضاء وقبل الاستيفاء نقض الحكم سواء كان حدا لله
تعالى أو لآدمي، ولو رجع بعد استيفاء القصاص اقتص منه إن قال: تعمدت، وإلا
أخذ منه الدية، ولو اختلفا فعلى العامد القصاص وعلى المخطئ الدية، وللولي قتل
الجميع مع تعمدهم ودفع ما فضل عن دية صاحبه إليهم، وقتل البعض ودفع
فاضل دية صاحبه، وعلى الباقي من الشهود الإكمال بعد إسقاط حق المقتولين.
ولو رجع أحد الاثنين خاصة فعليه نصف الجناية، وإن اقتص الولي دفع
نصف الدية، وإلا أخذ النصف ولا سبيل على الآخر.
ولو رجع أحد شهود الزنى بعد الرجم وقال: تعمدت، ولم يوافقه الباقون
اقتص منه خاصة، ويدفع الولي إليه ثلاثة أرباع الدية.
ولو رجع ولي القصاص المباشر فعليه القصاص خاصة، ولو رجع المزكي
347

فلا قصاص وعليه الدية، ولو قال الشاهد: تعمدت ولكن لم أعلم أنه يقتل بقولي،
فالأقرب الدية، أما لو ضرب المريض ضربا يقتل مثله دون الصحيح ولم يعلم
بالمرض فالقصاص، ولو ثبت أنهم شهدوا بالزور نقض الحكم، فإن قتل اقتص
من الشهود.
ولو رجع شاهدا الإحصان فالأقرب التشريك، وهل يجب الثلث أو
النصف؟ إشكال، ولو رجع أحد شهود الزنى أو أحد شاهدي الإحصان ففي قدر
الرجوع إشكال.
الثاني: البضع:
إذا رجعا عن الطلاق قبل الحكم بطلت وبقيت الزوجية، ولو رجعا بعده لم
ينقض وغرما نصف المسمى إن لم يدخل، ولو دخل فلا غرم، ولو رجع الرجل
وعشر النسوة عن الشهادة بالرضاع المحرم فعلى الرجل السدس وعلى كل
امرأة نصف سدس.
الثالث: المال:
ولو رجعا قبل الحكم بطلت، ولو رجعا بعده لم ينقض وإن لم يستوف أو
كانت العين قائمة على رأي، ويغرم الشهود، ولو رجع الرجل والمرأتان فعلى
الرجل النصف وعلى كل امرأة ربع، ولو كن عشر نسوة فعلى الرجل السدس
وعلى كل امرأة نصف سدس، ولو شهد ثلاثة ورجع واحد فالوجه الرجوع عليه
بالثلث، ولو ثبت تزويرهم استعيدت العين، ولو تعذر غرم الشهود، ولو ظهر
كونهما عبدين أو كافرين أو صبيين بطل القضاء، ولو كان في قتل وجب الدية
على بيت المال.
المطلب السادس: في اتحاد الشهادة:
348

يشترط توارد الشاهدين على شئ واحد معنى، فلو قال أحدهما: غصب،
والآخر: انتزع قهرا، ثبت الحكم، ولو اختلفا معنى كأن يشهد أحدهما بالبيع
والآخر بالإقرار به لم يصح، وله أن يحلف مع أيهما شاء، ولو شهدا بالسرقة في
وقتين لم يحكم سواء اتحدت العين أم لا، وكذا لو اختلفا في عين المسروق أو
اختلفا في قدر الثمن في المبيع، وله الحلف مع من شاء، ولو شهد له مع كل
واحد شاهد ثبت الثمن الزائد، ولو شهد أحدهما بإقرار ألف والآخر بإقرار ألفين في
زمان واحد فكذلك، وإن تعدد ثبت ألف بهما، وحلف مع شاهد الألفين على
الزيادة إن شاء، وكذا لو شهد أحدهما بأن قيمة المسروق درهم والآخر درهمان
ثبت الدرهم بهما وحلف مع الآخر، ولو شهد أحدهما بالقذف أو القتل غدوة
والآخر عشية لم يحكم.
المطلب السابع: في مسائل متعددة:
الشهادة ليست شرطا في شئ من العقود سوى الطلاق، ويستحب في
النكاح والرجعة والبيع، والحكم تبع لها، فلو كانت كاذبة في نفس الأمر لم
يحل للمشهود له الأخذ ما لم يعلم صحة الدعوى أو يجهل كذب الشاهدين.
والإقامة بالشهادة واجبة على الكفاية إلا مع الضرر غير المستحق، وكذا
التحمل.
ولو مات الشاهدان قبل الحكم حكم بها، ولو جهل العدالة زكيا بعد
الموت، ولو فسقا بعد الإقامة قبل الحكم حكم بها إلا في حقوقه تعالى.
ولو شهدا لمورثهما فمات قبل الحكم لم يحكم، ولو حكم ثم جرحا مطلقا
لم ينقض، ولو عين الجارح الوقت وكان متقدما على الشهادة نقض وإلا فلا،
ولو كان الحكم قتلا أو جرحا فالدية على بيت المال وإن كان المباشر الولي مع
إذن الحاكم، ولو حكم ولم يأذن ضمن الولي الدية، ولو كان مالا رده، ولو تلف
ضمنه القابض.
349

ولو شهد وارثان أنه رجع عن الوصية لزيد بالوصية لعمرو، فالوجه عدم
القبول خلافا للشيخ، ولو شهد أجنبي بالرجوع عما أوصى به لزيد إلى عمرو
حلف عمرو مع شاهده وإن ثبتت الأولى بشاهدين إذ لا تعارض، ولو سأل العبد
التفرقة حتى يزكي شهود عتقه، أو سأل مقيم شاهد بالمال حبس الغريم حتى
يكمل، قال الشيخ: أجيبا، وفيه نظر.
350

تلخيص المرام
في معرفة الأحكام
للشيخ جمال الدين أبي منصور الحسن بن سديد الدين
يوسف بن زين الدين علي بن محمد مطهر الحلي المشتهر بالعلامة الحلي
والعلامة على الإطلاق
647 - 726 ه‍. ق
351

كتاب القضاء والشهادات
وفيه فصول:
الأول:
يشترط في القاضي البلوغ والعقل والذكورة والإيمان والعدالة وطهارة
المولد والعلم، ولا يكفيه الاستفتاء والضبط، قيل: والكتابة والبصر والحرية.
وفي النائب إذن الإمام من نصبه لا أهل البلد، ويلزم حكم من تراضى به
الخصمان ولا يشترط رضاهما بعد الحكم ويشترط فيه ما شرط.
ومع غيبته (عليه السلام) ينفذ قضاء الفقيه الجامع لشرائط الفتوى،
والعادل عنه معاقب، ويجب على الإمام نصب قاض في كل بلد، وتجب متابعته،
ويقاتلون لو امتنعوا، ويجوز تعددها فيه مشتركين أو منفردين على رأي، وهو
واجب على الكفاية، ولو لم يعلم به الإمام وجب عليه إعلامه، ولا يجوز أن يبذل
مالا ليليه، ويستحب للواثق من نفسه بالقيام بشرائطه ولا يعدل عن الأفضل على
رأي، ويجوز الاستخلاف مع الإذن أو الإطلاق والأمارة الدالة عليه وإلا فلا.
ويجوز لمن لم يتعين عليه أخذ الرزق من بيت المال ولمن تعين عليه مع
عدم الكفاية، ولا يجوز من المتحاكمين مطلقا إلا على رأي، في صورة عدم التعيين
وحصول الضرورة، ويجوز لكاتبه والمترجم وصاحب الديوان ووالي بيت المال
وكيال الناس والوزان والمعلم للقرآن والآداب والمؤذن والقاسم الأخذ من بيت
المال، لا للشاهد.
353

وتثبت ولايته والنسب والملك المطلق والموت والنكاح والوقف والعتق،
بالاستفاضة، ومع عدمها يشهد الإمام أو النائب على الولاية شاهدين، ولا يجب
قبول قوله مع عدمهما وإن حصلت الأمارة.
وينعزل لو حدث به ما يمنع الانعقاد وإن لم يشهد الإمام على عزله، ويجوز
عزله لمصلحة، وفي الجواز اقتراحا نظر أقربه الثبوت، والأقرب انعزاله بموت
الإمام لا بموت المنوب على رأي، قيل: ويجوز نصب فاقد الشرائط للمصلحة.
وكل من لا تقبل شهادته لا ينفذ حكمه كالابن والعبد والخصم، ولا يحكم
لمن لا تقبل له شهادة.
ويستحب النداء بقدومه مع عدم الانتشار، والسكنى في أوسط البلد،
وجلوسه في موضع بارز، والبدأة بأخذ ما في يد المعزول من الحجج والودائع،
وصلاة التحية في المسجد، لو حكم فيه، والجلوس مستدبر القبلة على قول،
والسؤال عن أهل السجن والنداء بحضور غرمائهم، والسؤال عن الموجب فإن
ثبت وإلا أشاع أمره فإن ظهر الخصم وإلا أطلقه، ولو قال: لا خصم لي أشاع
وأطلق بعد اليمين على رأي، والسؤال عن الأوصياء واعتماد ما يجب من تضمين أو
إنفاذ أو استبدال أو إسقاط ولاية أو ضم مشارك، فإن ظهر فسوق الوصي
بالتفريق على المتعين لم يضمن به وعلى المجهولين يضمن، والنظر في أمناء
الحكم الحافظين لأموال اليتامى والمحجور عليهم والودائع، وفي اللقط فيبيع
مخوف التلف وما يحصل به ضرر، ويسلم إلى الملتقط ما عرفه حولا إن كان في
يده ويستبقي مثل الجواهر، وإحضار أهل العلم حكمه لينبهوه لو أخطأ
ويستوضح المبهم، ولو أتلف خطأ فالضمان في بيت المال، ويعرف المخطئ
الخطأ بسهولة، فإن عاد أدبه.
ويكره اتخاذ الحاجب وقت القضاء، وجعل المسجد مجلسا له دائما على
رأي، والقضاء حالة الغضب، ومساويه، وأن يتولى البيع والشراء لنفسه
والحكومة، واستعمال الانقباض واللين وتعيين الشهود، وقيل: يحرم.
354

ويقضي الإمام بعلمه مطلقا وغيره في حقوق الناس وفي حقوقه تعالى على
الأصح، ولا يفتقر إلى من يشهد الحكم قيل: ويحبس الغريم مع البينة إلى أن
يثبت العدالة، وينقض الأول إذا تبين الخطأ، سواء كان حكمه أو حكم غيره،
ولا يجب تتبع حكم السابق إلا إذا ادعى الغريم الخطأ، ولو ادعى الحكم بشهادة
فاسقين وجب إحضاره إن لم يقم بينة، فإن اعترف ألزم، ولو قال: لم أحكم إلا
بشهادة عدلين، قيل: يلزم إلا مع البينة، ولو ادعى على القاضي ترافعا إلى الإمام،
وإن لم يكن وكان في غير ولايته ترافعا إلى قاضي تلك البقعة وإلا رافعه إلى
خليفته.
ولا يقبل المترجم الواحد، ويجب أن يكون الكاتب بالغا عاقلا مسلما بصيرا،
ويحكم الحاكم إن عرف العدالة ويطرح إن عرف الضد، ولو جهل بحث،
ولا يكتفى بالإسلام على الأصح، ولا حسن الظاهر، ولو حكم بالظاهر فتبين
الفسوق حالة الحكم نقض.
وينبغي السؤال عن التزكية سرا ويفتقر إلى المعرفة الباطنة، ويقبل فيها
الإطلاق، ولا بد في الجرح من التعيين على رأي، فلو قال: زنا أو لاط، لم يكن
قاذفا، ولو تعارضا قدم الجرح، وقيل: توقف، ولا يشهد بالجرح إلا مع
المشاهدة أو الشياع الموجب للعلم، ويحكم باستمرار العدالة إلى أن يظهر المنافي
على رأي، ولو قال: إن شهد فلان أجزت شهادته، فشهد، لم يلزم إذا كان فاسقا.
وينبغي تفريق الشهود ويكره مع الوثوق بهم، ولا يجوز له أن يتعتع الشاهد
ولا يرغبه في الإقدام لو وقف ولا يزهده فيها، ولا يوقف عزم الغريم عن الإقرار إلا
في حقوقه تعالى، ويكره تخصيص أحدهما بالضيافة.
وكل موضع تجب فيه كتابة المحضر فإن دفع ثمن القرطاس من بيت
المال أو من الملتمس وجبت ولا يجب على الحاكم.
وتحرم الرشوة، ويأثم الدافع للتوصل إلى الباطل ويجوز إلى الحق، ويجب
على الآخذ الإعادة ولو تلفت ضمنها، والهدية من غير المعتاد حرام ومنه الحكم
355

رشوة.
ولو التمس الخصم إحضار غريم أحضر وإن لم يحرر الدعوى، ويفتقر مع
الغيبة إلى التحرير إن كان في بعض ولايته ولا خليفة، وإن كان في غيرها أثبت
الحكم عليه بالحجة، وكذا المرأة إلا أن تكون متخدرة فيبعث الحاكم إليها نائبا.
ولا عبرة بكتاب قاض إلى آخر، ولو شافهه بالحكم أو الإنفاذ أو الإمضاء قال
الشيخ: لا يقبل، أما بالثبوت فكذا قطعا، ولو شهدت البينة بالحكم وبإشهاده
إياهما على حكمه فالأولى القبول في حقوق الناس فينفذه الثاني، لا أنه يحكم
بصحته، ولو لم يحضرا الحكم وحكي الصورة وأشهدهما على الحكم فالأولى
القبول، ولو كان حكما على غائب وحضرا الدعوى وإقامة الشهادة والحكم
وأشهدهما به قبل، وإن لم يحضرا وأشهدهما بالصورة فالأولى القبول، ولو
أشهدهما أنه حكم بمضمون الكتاب ولم يقرأه عليهما لم يصح، وكذا إشهاد
الشخص على نفسه بالملك والوصية على كتاب مدرج، ولو تغيرت حال الأول
بعزل أو موت لم يقدح، ولو تغيرت بفسق لم يعمل بحكمه ويقر ما سبق إنفاذه
على الفسق ولا اعتبار بتغير المكتوب إليه، بل كل من قامت عنده البينة بحكم
الأول عمل به، ولو عزل فأخبره بالحكم وعزاه إلى وقت ولايته لم يقبل ولا يكون
بمنزلة شاهد، وكذا لو قال: حكم به حاكم نافذ الحكم، أما لو قال: أقر عندي
كان شاهدا.
ولا يجوز أن يلقن أحد الخصمين ولا أن يهديه لوجوه الحجاج، ويسوي
بينهما في الجلوس والسلام والنظر والكلام والإنصات مع التساوي في الإسلام
أو الكفر، ويجوز أن يكون المسلم قاعدا أو أعلى منزلة بخلاف الذمي، ولا يجب
التساوي في الميل القلبي، ويعدل في الحكم، ويستحب أمرهما بالكلام مع
السكوت أو أمر المدعي، ويكره التخصيص بالخطاب، ويستحب إجلاسهما
ويجوز قيامهما.
ويلزم الحكم مع الوضوح والوقف مع عدمه إلى أن يتضح، ويستحب
356

الترغيب في الصلح ويبدأ أولا فأولا، ولو اجتمعوا أقرع، وقيل: تكتب الأسماء
ويسترها ويحكم للخارج ويعيد بعد الفراع وينظر في أمر غيره، وإن قال: لي
أخرى مع غيره، لم يقدم الثانية، ولا يسمع دعوى المنكر حتى يفرع من
الحكومة، ولو بدر أحدهما فهو أولى ولو اتفقا سمع من الذي عن يمين صاحبه،
ويستوي المسافر والحاضر ويقدم المتضرر بالتأخير، ويكره للحاكم الشفاعة في
إسقاط أو إبطال.
الثاني:
لا تسمع الدعوى المجهولة، كفرس على رأي، ويقبل الإقرار المجهول ويلزم
التفسير، وتسمع الدعوى بالوصية المجهولة واشترط قوم الجزم، ولا يفتقر إلى
الكشف إلا في القتل ومع تمام الدعوى يطالب الغريم بالجواب إن طلبه المدعي،
وعرف بأنه: الذي يترك لو ترك الخصومة.
قيل: وهو غير جامع بالإبراء والإقباض وهو خطأ، وبأنه الذي يدعي
خلاف الظاهر وهو دائر إلا في دعوى الإقرار على إشكال، فإن أقر ألزم إن كان
جائز التصرف ولو جهل بحث، ولا يحكم عليه إلا بمسألة المدعي، وله أخذ ما أقر
به إن كان عينا قهرا ما لم يؤد إلى فساد من دون إذن الحاكم، ولو كان دينا وبذل
لم يستقل بالأخذ، ويتخير في جهة القضاء ولو منع عين الحاكم، ولو جحد
وثبتت البينة عند الحاكم والوصول إليه ممكن جاز الأخذ، ولو فقدت البينة أو
تعذر الوصول إلى الحاكم أخذ المجانس، إلا في الوديعة على رأي، وغير
المجانس بالقيمة، ويجوز له بيعه بالمساوي وقبض ماله، ولو تلف قبل البيع قال
الشيخ: لا ضمان.
ولو التمس الحجة عليه لم يكتب إلا بعد المعرفة باسمه ونسبه أو يشهد
عدلان بذلك، ولو شهدا بالحلية جاز، ولو ادعى الإعسار وظهر فقره أنظر.
ولو أقام المدعي بينة بالمال المجهول لم تقبل ولو عينت وصدق قبلت، ولو
357

قال: ليس لي، ولم يبين قضي منه فإن بين وكذب المقر له بطل، وإن صدق بينته
قيل: قضي له، ولو فقدت فالأولى التكذيب، ولو أنكر طولب المدعي بالبينة
وجوبا مع الجهل وجوازا مع عدمه، فإن فقدت عرفه استحقاق اليمين، ولا يحلفه
إلا مع سؤاله، فيعيد لو تبرع هو أو الحاكم مع الالتماس، فإن حلف سقطت
الدعوى ولا يحل للغريم مقاصته وإن كذب، ولا معاودة المطالبة ولا تسمع دعواه
وإن أقام بينة على رأي، أو شاهدا وبذل اليمين، وتحل المقاصة والمطالبة لو
أكذب نفسه، وإن رد لزم المدعي اليمين فإن نكل سقطت ولو بذلها المنكر بعد
الرد قبل الحلف قيل: ليس له ذلك إلا برضا المدعي.
ولو ادعى جماعة على واحد بحق لكل واحد وأقاموا وكيلا وطلب منه يمينا
واحدة، أجزأت، وإن لم يحلف المنكر ولم يرد قال الحاكم: إن حلفت
وإلا جعلتك ناكلا، ويستحب التكرار ثلاثا فإن أصر قضى بالنكول على رأي، ولو
بذل بعده لم يلتفت، ولو حضرت البينة لم يسألها الحاكم ما لم يلتمس المدعي،
ولو أقيمت لم يحكم إلا بالتماس بعد المعرفة بالعدالة، ويسأل المدعي الخارج
وينظر لو سأله ثلاثا، فإن تعذر حكم.
ولا يحلف المدعي مع البينة إلا في الميت، فيستحلف على بقائه في ذمته
قيل: وفي الصبي والمجنون والغائب، ويدفع الحاكم قدر الحق من مال الغائب
بعد التكفيل، ولو ذكر المدعي غيبة بينته خيره الحاكم بين الإنظار والإحلاف،
وليس له ملازمته ولا مطالبته بكفيل، وإن سكت المنكر عنادا ألزم بالجواب
ويحبس حتى يبين على رأي، وإن كان لآفة توصل إلى تعريفه الجواب بالإشارة
المفيدة لليقين.
ويحكم على الغائب عن مجلس الحكم وإن كان حاضرا في البلد على رأي
ويقضى على الغائب في حقوق الناس خاصة، ولو اشتمل عليهما قضي بالمختص،
ولو طالب وكيل الغائب فادعى الغريم التسليم ولا بينة، فالأولى الإلزام.
ولا يصح الحلف إلا بالله وإن كان كافرا أو مجوسيا على رأي، ويجوز
358

إحلاف الذمي بما يراه أردع، ويستحب الوعظ والتخويف والتغليظ بالقول
والمكان والزمان في الحقوق كلها وإن قلت عدا المال فإنه لا تغليظ فيما قل عن
نصاب القطع ولا يجبر الحالف عليه، ولو ادعى العتق غلظ على السيد إن بلغ
المقدار وإلا فلا، ولو رد غلظ على العبد مطلقا، ويحلف الأخرس بالإشارة، وروي
كتابة اليمين والأمر بالشرب فإن امتنع ألزم، ولا يستحلف الحاكم إلا في مجلس
قضائه، إلا لعذر كالمريض والمرأة غير البرزة.
وإنما يتوجه اليمين على المنكر والمدعي مع الرد والنكول على رأي،
والشاهد الواحد بشرط الشهادة أولا وثبوت العدالة فيلغو لو حلف قبلهما،
ويختص بالمال أو ما كان المقصود منه المال، وفي النكاح إشكال، والأولى في
الوقف القبول.
أما الخلع والطلاق والرجعة والعتق والتدبير والكتابة والنسب والوكالة
والوصية إليه والحدود وعيوب النساء فلا.
ولو ادعى ملكية الجارية واستيلادها حلف مع الشاهد وثبتت الملكية دون
الولد، ويحكم بصيرورتها أم ولد بإقراره، ولو ادعى عبدا ذكر إنه أعتقه حلف على
رأي، ويقبل في جناية الخطأ وعمد الخطأ وقتل الوالد والحر وكسر الأعضاء
والجائفة والمأمومة والوصية له والبيع والإجارة وما أشبه ذلك مما كان مالا أو
المقصود منه المال، ولو ادعى العمد كان الشاهد لوثا ويوجب القسامة على
المدعي.
ويحلف كل واحد من المتعددين مع الواحد، ويثبت نصيب الحالف دون
الممتنع، ولا يحلف ليثبت حق غيره، فيحلف الوارث مع شاهد المورث دون
الغريم، والراهن دون المرتهن، وفي توجهها على المقر له إذا أقام شاهدا بشراء
المقر من الأجنبي نظر، ولو كان البعض مولى عليه انتظر بنصيبه زوال الولاية،
فإن حلف أخذ وإلا فلا، وإن مات حلف وارثه.
ولو ادعى بعض الورثة وقف المورث عليهم وعلى نسلهم حلفوا مع
359

شاهدهم وإلا حكم بالميراث، ويكون فاضل نصيب المدعي عن الديون والوصايا
وقفا، ويثبت نصيب الحالف دون الممتنع، فيقضي من الباقي الديون والوصايا،
والفاضل ميراث، ولو امتنعوا فللأولاد الحلف إن ادعوا الترتيب، ولو مات
الحالف فالأولى انتقال ما حلف عليه إلى البطن الثاني لا إلى الباقي من الأول
لتكذيبهم، ولا إلى الأقرب، ولا بد من يمين البطن الثاني إن ادعى الأولون
التشريك فيوقف الثلث لولد أحد الأخوين من حين وجوده، فإن حلف بعد
البلوغ أخذ، وإلا عاد عليهما على إشكال، ولو مات أحدهما قبل البلوغ عزل
النصف من حين الموت، وقد كان له الثلث إلى حين الوفاة، فإن حلف أخذ
الجميع، وإلا كان الثلث إلى حين الوفاة لورثة الميت والآخر، والنصف من حين
الوفاة للمتخلف على إشكال، ولو ادعوا الترتيب كفت يمين البطن الأول.
والحلف على القطع دائما إلا على نفي فعل الغير فإنه على نفي العلم،
ويكتفى بالحلف على نفي الاستحقاق، وإن أجاب بنفي الدعوى، ولو ادعى المنكر
الإبراء أو الإقباض انقلب مدعيا، فيكتفى من المدعي باليمين على بقاء الحق
ولا يلزم نفي ذلك، وكل ما يتوجه فيه الجواب يتوجه فيه اليمين، ويقضى بالنكول
على المنكر على رأي، ولا يتوجه على الوارث إلا مع دعوى العلم بموت المورث
وإنه ترك في يده مالا، وثبوت الحق ويحلف في الطرفين على نفي العلم.
ولو ادعى على المملوك بجناية أو مال فالغريم المولى، ولا تسمع الدعوى
بالحد مع عدم البينة ولا يتوجه اليمين فيها ولا دعوى غير المكلف وغير المالك
إلا مع الولاية ولا ما لا يتملك، ولا دعوى الهبة والرهن على رأي، إلا بعد ادعاء
الإقباض، ولا أن هذه بنت أمته، ولو قال: ولدتها في ملكي، ولا تسمع البينة به
ما لم يصرح بملكية البنت، وكذا لو قال: ثمرة نخلتي، ولا يحكم على المقر ذي
اليد بذلك، بخلاف ما لو قال: هذا الغزل من قطنه أو الطحين من حنطته، ويثبت
في السرقة لإسقاط المال. ولو حلف المدعي ثبت دون الحد،
ولو طلب المدعي اليمين بعد إسقاط
360

البينة قيل: ليس له الرجوع إليها، ولو ادعى صاحب النصاب الإبدال أو النقصان
في الخرص، أو الذمي الإسلام قبل الحول قبل بغير يمين، ولو ادعى الحربي
الإنبات بعلاج لم يقبل إلا بالبينة، ولو شهد واحد بدين لمن ليس له وارث، قيل:
يحبس المنكر حتى يحلف أو يقر، ولو ادعى الوصي أن الميت أوصى للفقراء مع
الشاهد قيل: يحبس الوارث حتى يقر أو يحلف، ولو مات من عليه الدين
المستوعب فلا انتقال، وهو على حكم مال الميت وينتقل الفاضل في غيره،
وللوارث فيهما المحاكمة على ما يدعيه لمورثه.
ولا يجب على المدعي دفع الحجة مع الوفاء ولا على البائع دفع كتاب
الأصل، وللمشهود عليه الامتناع من التسليم حتى يشهد القابض وإن لم يكن
شاهد، ولو أقر المحكوم عليه أنه هو المشهود عليه ألزم، ولو أنكر فالقول قوله إن
كانت الشهادة بوصف مشترك غالبا مع اليمين، وإن كان الاشتراك نادرا
فالقول قول المدعي، ولو ادعى المشارك في الاسم والنسب كلف إبانته، فإن
كان حيا واعترف أطلق الأول وإلا وقف حتى يتبين، وإن كان ميتا فكذلك إلا
أن يحصل ما يشهد بالبراءة، كعدم المعاصرة.
وفي توجه اليمين على المدعي بنفي علم فسوق الحاكم أو الشهود نظر،
ولا يثبت بالنكول ولا اليمين المردودة ويتوجه في دعوى النكاح، وتثبت بالنكول
على رأي، ويحكم للمدعي بما لا يد لأحد عليه، وروي إنه إذا انكسرت سفينة في
البحر فلأهله، وما أخرج بالغوص فهو للمخرج.
الثالث:
يشترط في القاسم الإيمان والعدالة والمعرفة بالحساب، ولا تشترط العدالة
مع التراضي ولا الإسلام، ويستحب للإمام نصبه، وتمضي قسمته بنفس القرعة
ولا يشترط رضاهما بعدها، وقيل: ويشترط في غير المنصوب، ويجزئ الواحد إذا
لم يكن رد، ومعه الاثنان إلا مع الرضا، والأجرة من بيت المال ومع الغيبة أو
361

القصور فعلى المتقاسمين بالحصص إن لم يستأجراه أو أطلقا، وإن عين كل واحد
لزم.
ويجبر الممتنع على قسمة المتساوي الأجزاء مع المطالبة كيلا أو وزنا
متساويا أو متفاضلا، وغير المتساوي مع عدم الضرر المشترك والمختص به
على رأي ويتحقق بعدم الانتفاع وقيل: بنقصان القيمة، وإذا انتفى الرد والضرر
فالقسمة قسمة إجبار، وإلا فقسمة تراض، ويقسم الثوب إن لم ينقص بالقطع،
والثياب والعبيد بعد التعديل بالقيمة قسمة إجبار، ويقسم الحاكم إذا سأل
الشركاء بمجرد التصرف على رأي، ولو اقتسما ولم يخرجا مجازا أو شربا
لأحدهما وهناك درب مسلوك أو شرب نافذ صحت وإلا فسخت.
فإن تساوت الحصص قدرا وقيمة عدلت على السهام، ويتخير في الإخراج
على الأسماء بأن يكتب كل قسم في رقعة ويسترها ويخرج على اسم أحدهم أو
على السهام بأن يكتب الأسماء ويخرج على السهم، فمن خرج اسمه فله السهم
المخرج عليه.
وإن تساوت قدرا خاصة عدلت قيمة وألغي القدر.
وإن تساوت قيمة خاصة سويت على الأقل نصيبا ويكتب بعدد الشركاء
ويجعل للسهام أول وثان وهكذا إلى الأخير، باختيار المتقاسمين، ومع التعاسر
فالقاسم ثم يخرج الأسماء على السهام لا العكس، فلصاحب النصف مثلا الثلاثة
الأول ثم يخرج فلصاحب الثلث الباقيان والمتخلف لصاحب السدس وكذا
العكس.
ولو اختلفت السهام والقيمة سويت السهام بالتقويم وميزت على قدر الأقل
وأقرع، ولو تضمنت ردا افتقرت إلى رضاهما، وإذا اتفقا عليه وعدلت السهام قيل:
لا يلزم بنفس القرعة.
ويجبر الممتنع لو طلب نصيبه من العلو والسفل مع التعديل وانتفاء
الضرر، ولو طلب الانفراد بأحدهما أو قسمة كل واحد منهما منفردا فلا، ويجبر لو
362

طلب قسمة الأرض دون الزرع، ولو طلب قسمة الزرع بعد الظهور قيل: لا يجبر
وقبله لا تصح قيل: وكذا في السنبل، ويجبر لو طلب قسمة كل واحد من
القرحان المتعددة وإن تجاوزت واختلفت مع تكثر الطريق بانفراده والحبوب
المختلفة، ولا يجبر لو طلب قسمتها بعضا في بعض.
ويقسم القراح الواحد وإن اختلفت أشجار إقطاعه كالدار المتسعة، ولا تقسم
الدكاكين المتجاورة بعضا في بعض إلا بالرضا، وتقسم القرية كالقراح الواحد
وإن اختلفت قيمة أقرحتها، ولو ادعى الغلط أبطلت مع البينة وله اليمين إن فقدها
وادعى العلم، ولو ظهر استحقاق البعض بطلت إن كان معينا مع أحدهما أو كان
فيهما إلا بالسوية، فلو نقص بناؤه أو قلع غرسه فلا رجوع، ولو تساويا صحت،
ولو كان مشاعا بطلت على الأصح، ولو ظهر العيب فالأولى أن له الفسخ أو
الأرش، ولو ظهر الدين بعد القسمة وقام به الورثة لزمت، وإلا نقضت وقضي
الدين.
ولا يجبر أحد الشريكين على المهاياة، ولو اقتسما الدار فالأولى إنه ليس
لأحدهما منع جريان الميزاب المتقدم على سطحه إلا مع الشرط، وتصح قسمة
الولي.
الرابع:
يقضى بالعين المتنازع فيها مع عدم البينة لمن كانت في يده مع اليمين،
ولو تشبثا فلهما مع التحالف على رأي، ولو خرجا فللمصدق، ولو قال: هي لهما،
تساويا مع التحالف، ولو كذبهما أقرت في يده، ومع تعارض البينتين يقضى
لهما، وإن تشبثا أطلقتا أو ذكرتا السبب، لكن مع الإطلاق يقضى لكل بما في يد
صاحبه، وللخارج إن تشبث أحدهما إن شهدتا بالمطلق أو السبب على رأي، ولو
أطلقت بينة الخارج قضي للمتشبث تكرر السبب أو لا على رأي، ولو خرجا
فلأعدلهما فإن تساويا فلأكثرهما عددا فإن تساويا فلمن تخرجه القرعة مع اليمين،
363

وإن امتنع حلف الآخر وأخذ، وإن نكلا اقتسما، فيعول على قدر المدعيين.
ويتعارض الشاهدان مع الشاهد والمرأتين لا مع الشاهد واليمين، ولا الشاهد
والمرأتان مع الشاهد واليمين، والواحد مع ثلاث نسوة، أولى من رجلين.
والاقتسام مع الإمكان، لا في مثل الزوجة والولد، ولو تعارضت في قدر
المهر فإشكال.
وتقدم شهادة القديم بالملك، والأقدم على الحادث، والقديم بالملك على
اليد، وبالسبب على التصرف، ولو ادعى أحد الخارجين جميع الدار والآخر
النصف وأقاما بينة، فالأولى عدم العود وأعطي المستوعب النصف وأقرع في
الباقي، فيعطى لمن تخرجه مع اليمين، ولو امتنعا اقتسماه نصفين، ولو تشبثا قضي
بالجميع لمدعيه.
ولو ادعى ثالث الثلث ولا بينة مع المتشبث فلكل الثلث، ويحلفان
للمستوعب والثالث، والمستوعب للثاني، ومع البينة فللمستوعب ثلاثة أرباع
ما في يده وجميع ما في يد الثاني وثلاثة أرباع ما في يد الثالث، وللثاني ربع ما في
يد المستوعب ويتقارعان في ربع الثالث ويقضى للخارج مع اليمين ويقسم لو
امتنعا ولا شئ للثالث، ولو ادعى الثاني الثلثين والثالث النصف والرابع الثلث مع
التشبث ولا بينة، فلكل ربع مع التحالف، ومع البينة والخروج يقضى
للمستوعب بالثلث ويقارع الثاني في السدس ويتقارعان مع الثالث في السدس
أيضا، ويتقارع الجميع في الثلث ويقضى لمن خرجت له مع اليمين، ولو نكل
قسم ما يقرع فيه بين المتنازعين في كل مرتبة بالسوية، ومع التشبث يأخذ
المستوعب نصف ما في يد الثاني ونصف تسعة ويقارع الثالث في ثلثه فيعطى
للخارج مع اليمين ولو امتنعا قسم بينهما، ويقارع الرابع في تسعة فيحلف أو
يرد أو يقسم ويأخذ من الثالث ثلث ما في يده، ويقارع الثاني في نصفه ونصف
تسعة فيحلف الخارج أو يرد أو يقسم، ويقارع الرابع في تسعة فالحلف أو
القسمة، ويأخذ من الرابع تسع ما في يده ويقارع الثاني في النصف ونصف
364

التسع والثالث في الثلث، ويأخذ الثاني من المستوعب نصف ما في يده ونصف
تسعة، والثالث ثلثه، والرابع تسعة، ولو ادعى أحد المتشبثين النصف والثاني
الثلث والثالث السدس، قضي لكل بما يدعيه، وكذا مع البينة.
ولو تداعى الزوجان متاع البيت، قضي لذي البينة، ومع العدم فله ما يصلح
للرجال ولها ما يصلح لهن والمشترك يقسم على رأي، اشتركت الدار أو
اختصت.
ولو ادعى أبو الميتة عارية بعض ما في يدها كلف البينة، ولو ادعى شيئا فقال
الغريم: هو لفلان، فلا خصومة، فإن طلب المدعي إحلافه على عدم العلم بملكيته
فالأولى الإجابة، فإن امتنع أو رد غرم على رأي، ولو أنكر فلان حفظها الحاكم،
ولو جهل المقر له ألزم البيان.
ولو أقاما بينة بإجارة الدار التي في يد غيرهما له وإيداعها، تعارضتا وأقرع
مع التساوي، ولو ادعى ما في يد الغير وأقام بينة بسبق اليد أو بسبق الملك
فالأولى السماع في الملك، ولو شهدت للمدعي بغصبية المتشبث أو استئجاره منه
سمعت إجماعا، ولو قال: غصبتني، وقال آخر: أقر لي به، مع البينة، قضي
للمغصوب ولا ضمان.
ولو اختلفا في قدر الأجرة ولا بينة بعد الانقضاء، تحالفا ووجب أجرة المثل،
ولو كان قبله تحالفا وفسخ، وفي الأثناء ينفسخ فيما بقي.
ويجب عن التالف أجرة المثل ولو أقاما بينة عمل بالمتقدم، ويتعارضان لو
اتحدتا أو اختلفتا أو إحداهما فيقرع، وقيل: يقضي ببينة المؤجر، ولو ادعى
استئجار الدار وقال المؤجر: آجرتك بيتا، أقرع، وقيل: القول قول المؤجر، ولو
أقاما بينة يحكم للأقدم، لكن إن تقدمت بينة البيت حكم بإجارته بأجرته، وباقي
الدار بالنسبة من الأجرة، ومع الاتفاق يتعارضان.
ولو ادعيا شراء ما في يد الثالث، أقرع مع التساوي بينة وتاريخا أو أطلقتا
التاريخ أو إحديهما، ولا يقبل قول البائع ويغرم لغير الآخذ، ولو نكلا قسمت
365

ورجعا بالنصيب، والأولى أن لهما الفسخ، ولو فسخ أحدهما أخذ الآخر الجميع
لزوما على إشكال إن كان اختياره بعد اختيار الآخر للفسخ، وإلا فالنصف.
ولو ادعيا ابتياعه منهما وأقاما بينة ألزم بالثمنين إن اختلف التاريخ أو أطلقتا،
ومع الاتحاد يتعارضان فيقرع ويحلف الخارج ويقضى له، ولو امتنعا قسم.
ولو ادعيا شراءه من اثنين كل واحد من واحد وقبض الثمن وأقاما بينة
متساوية قضي بالقرعة فيحلف من خرجت له، ولو نكلا عن اليمين قسم ورجع
كل على بائعه بنصف الثمن، ولهما الفسخ والرجوع بالثمن، ولو فسخ أحدهما
فليس للآخر أخذ الجميع سواء كان في يد أحد البائعين أو ثالث، ولو كان في يد
أحد المشتريين قضي له على رأي، وكذا لو ادعى كل منهما الملك والشراء
ودفع الثمن وقبض المثمن وأقام بينة، إلا في الدرك وكل موضع قلنا في تلك:
إنه يرجع بالكل أو البعض، لا يرجع هنا بشئ.
ولو ادعى شراء مدعي العتق وأقاما بينة قضي للسابق، ومع الاتفاق بالقرعة
واليمين، فإن امتنعا قيل: يكون نصفه حرا ونصفه لمدعيه فيرجع بنصف الثمن،
ولو فسخ عتق، والأقرب التقويم على البائع، ولو أقام كل من الداخل والخارج
بينة بالشراء من صاحبه قضي للداخل إن شهدتا بالقبض وإلا فللخارج، ولو وقتتا
قضي للمتأخر.
ولو أقام بينة بشراء ما في يد الغير وأقامت بينة بالتزويج منه عليه أقرع
وقضي للخارج مع اليمين، ولو امتنعا قسم ويتخير المشتري دون الزوجة ولها
مثل النصف أو نصف القيمة، ولو أقام بينة ببيع الوالدة في زمن الحمل وأقام
المشتري بالشراء متقدما على أقله، فالأقرب أن البينة بينة المشتري.
ولو ادعى ما في يد آخر وأخذه بالبينة، ثم أقام الآخر بينة أنه له قيل: ينقض
الحكم ويعاد، ولو أقاما بينة على ما في أيديهما قضي لكل بما في يد صاحبه.
ولو ادعى رقية الصغير المجهول قضي له مع اليد، فلو بلغ وأنكر لم يلتفت
إليه، والقول قول الكبير والمميز لو أنكرا، ولو ادعاه اثنان فاعترف لهما قضي لهما
366

ويختص بمن خصص، ولو أقام بينة بملكيته منذ مدة فدلت السن على القلة قطعا
أو غالبا سقطت.
ولو ادعى ملكية ما في يد غيره منذ سنة ببينة، فأقام آخر بينة بشرائها من
المدعي منذ خمس قضي للمشتري بها إن شهدت أنه اشترى ما هو في ملك البائع
أو أنه ملك المشتري أو شهدت بتصرف البائع تصرف الملاك، ولو شهدت
بالشراء مطلقا فالأقرب أنه كذلك.
ولو ادعى شراء ما في يد زيد من عمرو وشهدت بينة بالملكية له أو للبائع أو
بالتسليم قضي له، وإلا فلا، ولو ادعى مائة، فقال: قبضتك خمسين منها، ألزم بما
ادعى قضاءه بعد اليمين لا بغيره، ولو ادعى تغاير الدين المقر به مرتين، طولب
بالبينة، أما مع اختلاف السبب أو اختلافه جنسا فالقول قوله.
ويقضى للمكري بالمتصل كالأبواب وللمكتري بما ينقل، ويقضى بالمسناة
لصاحب النهر والضيعة مع اليمين وعدم البينة والامتناع.
وتقديم بينة مدعي إصداق المورث على بينة إرثه، ولو ادعى الأخ سبق موت
الولد، والزوج سبق موتها قضي لذي البينة، ومع العدم لا توارث، وتركة الابن
لأبيه وتركة الزوجة بينهما، ولو صدق أحد من ولدي المسلم أخاه على سبق
إسلامه على موت أبيه وادعى المساواة، فأنكر، فالقول قول المتفق عليه مع اليمين
على نفي العلم، وكذا العتق، ولو اتفقا على اختلاف زماني الإسلام وادعى المتقدم
تقدم إسلامه عليه والمتأخر تأخره عنه اقتسما، ولو ادعى الحاضر من الأخوين
انتقال ما في يد الغير بالإرث عن أبيه، وأقام بينة كاملة، أخذ النصف ولا يلزم
بضامن والباقي يكون مع الأول على رأي، ويؤخر التسليم لو لم تكن كاملة،
ويبحث الحاكم مستظهرا ثم يسلم النصف ويضمن، ولو كان ذا فرض أعطي
نصيبه كملا مع العلم بعدم الوارث، واليقين أن لو كان وارث مع عدمه، ويتم
مع البحث ويضمن، ولو كان محجوبا أعطي مع الكاملة، ومع عدمها بعد
البحث والضامن.
367

ولو قال: إذا مت قبلا فأنت حر، فأقام بينة بالقبل، قورع مع بينة الورثة
بالموت، وكذا لو علقه بزمان وأقاما بينة على الموت فيه والتقدم أو التأخر، ولو
أقام بينة برقية الجارية أو أقرت بالغة وادعت المرأة حريتها وأنها بنتها، حكم له،
ولو كانت صغيرة أو لا تقر له، نزعت من يده، فإن أقامت المرأة بينة سلمت إليها
وإلا تركت.
الخامس:
يشترط في الشاهد البلوغ والعقل والإيمان والعدالة وعدم التهمة، وطهارة
المولد على رأي، وتقبل شهادة الصبي بعد بلوغه، وقبله: في الجراح مع
الاجتماع على المباح وبلوع العشر، وشهادة المجنون حال إفاقته، ويجب فيه
وفي غالب السهو الاستظهار، وشهادة الذمي خاصة في الوصية مع عدم العدول.
ولا تشترط الغربة، وقيل: تقبل شهادة كل ملة على ملتهم، ولا تقدح
الصغائر في العدالة مع عدم الإصرار، وتقدح الكبائر والإصرار على ترك
المندوبات المعلوم منه التهاون.
وترد شهادة المخالف في الأصول قلد أو اجتهد، لا المخالف في الفروع من
المعتقدين ما لم يخالف الإجماع، كالقائل بالقياس والاستحسان، ولا يفسق وإن
أخطأ.
ولا تقبل شهادة القاذف قبل التوبة وحدها الإكذاب مع الكذب والتخطئة
مع عدمه، واشتراط قوم في الإصلاح زيادة على الاستمرار، ولا يرد لو أقام بينة أو
صدق.
وترد شهادة اللاعب بالنرد والشطرنج والأربعة عشر والخاتم وغيرها من
آلات اللهو والقمار، وإن قصد الحذق، والشارب للمسكر والفقاع والعصير إذا
غلا من نفسه أو بالنار وإن قلت إلا أن يذهب ثلثاه، وما يتخذ من التمر والبسر
حلال إذا لم يسكر، ويجوز اتخاذ الخمر للتخليل، ومد الصوت بالترجيع
368

واستماعه في قرآن وغيره، والحسد، وبغضة المؤمن، ولبس الحرير للرجال في
غير الضرورة والحرب لا الاتكاء عليه والافتراش، والتحلي بالذهب لهم، والرهان
على الحمام لا اتخاذها للأنس، وإنفاذ الكتب والفرجة والتطيير، وعمل الشعر إذا
كان كذبا أو هجاء مؤمن أو تشبيبا بمعروفة غير محللة له فسوق، ويكره الإكثار
من الشعر، والزمر والعود والصنج وغيره من آلات اللهو يحرم استعماله وسماعه،
ويكره الدف في الأملاك والختان.
ولا ترد شهادة مكروه الصنعة، وترد شهادة السائل في كفه إلا إذا وقع ندرة
والمتبرع إلا في حقوقه تعالى والمصالح العامة، وشهادة المنتفع بها كالشريك
فيما هو شريك فيه، والمدين إذا شهد للمحجور عليه، والسيد للمأذون والوصي
فيما يتعلق به.
وجرح العاقلة شهود الجناية، وجرح الوكيل والوصي شهود المدعي على
موليهما، وشهادة الوكيل لموكله فيما هو وكيل فيه وتقبل في غيره، ولو عزل
قبلت في الجميع ما لم يكن أقامها فردت أو نازع.
وترد شهادة العدو في الدنيوية لا الدينية وإن لم يفسق بها، وشهادة بعض
المأخوذين على الآخذين، وتقبل لو شهد لعدوه أو لنسيبه وإن قرب، أو عليه إلا
الولد على والده على رأي، أو لزوجته، أو لزوجها مع الضميمة، واشترط قوم في
الجميع، ولصديقه ومستأجرة ووصيفه وسيده لا عليه على رأي، وكذا المدبر
والمشروط قيل: ولو أدى المطلق قبلت بمقداره.
ولو ردت الشهادة في البعض للتهمة لم ترد في الباقي، ولو اختلف الورثة
في القسمة فشهد المقاسمان بها لم تقبل إن كانا بجعل، ولو تحمل كافرا أو فاسقا
أو عبدا ثم أقام بعد الزوال قبلت، وكذا الابن بعد موت أبيه، ولو أقامها أحدهم
وردت، ولو تاب لتقبل لم تقبل وينقض الحكم لو تبين المانع حالة الحكم لا
المتجدد، ولو شهدا وماتا حكم، وكذا لو زكيا بعد الموت، ولو فسقا قبل
الحكم حكم إلا في حقوقه تعالى، ولو انتقل المشهود به إليهما بالإرث عن المشهود له لم
369

يحكم، ولو رجعا قبل الحكم لم يحكم، وبعد الحكم والاستيفاء والتلف لا نقض
ويضمنان، ولو فقد الأخير فالأولى عدم النقض ولو فقد الأخيران نقض في حقه
تعالى، وفي غيره إشكال.
ولو رجعوا في موجب القصاص، اقتص منهم إن اعترفوا بالتعمد وإلا فعليهم
الدية، ولو افترقوا فرق الحاكم وللولي قتل الجميع ورد الفاضل عن دية صاحبه
في العمد، وقتل البعض ويرد الباقون قدر جنايتهم.
ولو قال أحد الأربعة في الزنى: تعمدنا، وصدقه الباقون فللولي القتل ورد
الفاضل، وقتل واحد ويؤدي الباقي تكملة ديته بعد وضع نصيب المقتول، وقتل
أكثر ويؤدي الأولياء الفاضل عن دية صاحبهم والباقي ما يعوز بعد وضع نصيب
المقتولين، ولو كذبوه لم يمض إلا في حقه.
ولو قالوا: تعمدنا غير إنا لم نعلم إن شهادتنا تقبل، أو علمنا القبول ولم نعلم
أنها تقبل بذلك، فهو عمد الخطأ، ولو حكم بالعتق بشهادتهما ورجعا ضمنا،
تعمدا أو أخطئا، ولو ثبت تزويرهم نقض واستعيد، ومع التعذر يغرم الشهود،
وفي القتل يقتص منهم كالاعتراف، ولو باشر الولي واعترف بالتزوير اقتص منه
خاصة.
ولو رجعا في الطلاق بعد الدخول فلا ضمان، وقبله النصف، وقيل: به مع
عدم القبض وإلا فبالجميع ويتساويان في الضمان لو رجعا، ويضمن أحدهما
النصف لو رجع، ولو رجع مع المرأتين ضمن النصف وهما الباقي، ومع
العشرة قيل: السدس.
ولو رجع الثلاثة ضمنوا، ولو انفرد أحدهم قيل: يضمن الثلث، وكذا لو
رجع ثمان نسوة من العشرة فعلى كل واحدة نصف السدس.
ولو رجع المزكيان بعد الحكم ضمنا، ولا ينقض الحكم لو شهدوا بالجرح
مطلقا ولا بعد الشهادة قبل الحكم، ولو قدموا على الشهادة نقض، ومع النقض
الدية في بيت المال وإن باشر الولي مع إذن الحاكم ويضمن لو لم يأذن وإن كان
370

بعد الحكم، ويستعاد المال مع البقاء وإلا غرم المشهود له، ومع إعساره قيل:
يضمن الحاكم ويرجع مع الإيسار.
ولا بد من توارد الشهود على المعنى، فلا تقبل لو شهد أحدهما بالبيع والآخر
بالإقرار به بل يحلف مع أحدهما، ولا إذا شهدا بالفعل في وقتين، ولا إذا شهد
أحدهما بسرقة دينار والآخر بدرهم، ولو حلف مع أحدهما أو تعارضت البينتان
بسرقة عين في الزمان ثبت ولا قطع، ولو تكثرت العين ثبتتا، ولو شهد أحدهما
ببيع شئ بدينار والآخر بدينارين واتحد الزمان تعارضا وحلف مع أحدهما، ولو
شهد مع كل آخر ثبت الديناران بشاهديه.
ولو شهد أحدهما بالنكاح بألف والآخر بألفين فإن كان المدعي الزوج
سقطا وإلا حلفت المرأة مع أحدهما، ولو شهد بإقرار ألف والآخر بألفين ثبت
الألف بهما والأخرى بالآخر واليمين، ولو شهد مع كل آخر ثبت الألف بالأربع
والأخرى باثنين، وكذا في قيمة المسروق.
ولو شهد واحد بالإقرار بلغة والآخر بغيرها قبلت، ولو شهدا بعتق واحد
وآخران أو الورثة، أن العتق لغيره وقيمة كل الثلث عتق السابق ومع الجهل
يقرع، ومع الاتفاق تاريخا فكذلك، ومع الاختلاف يعتق المقروع، فإن ساوى
أو نقص صح وأكمل من الآخر وإلا فبقدره، ولو كانت الورثة فسقة ولا تكذيب
عتق ما شهد به الأجنبيان، ومع التكذيب يعتق الأول، والوجه أنه يعتق أيضا ثلثا
ما شهد به الورثة.
قيل: ولو شهد العدلان من الورثة بالرجوع عن الوصية الثانية لزيد بعدلين
إلى عمرو قبلت، ولو شهدا بالرجوع عن وصية عتق غانم الثلث إلى سالم الثلث
قبلت مع العدالة لا مع الفسوق ويعتق من سالم ثلثاه، ولو شهد لعمرو واحد
بالرجوع حلف وأخذ من زيد، ولو أوصى بمنفردين فشهد عدلان برجوعه عن
أحدهما قيل: لا يقبل لعدم التعيين، كما لو شهد لزيد أو لعمرو، ولو أقام مدعي
العتق بينة تفتقر إلى البحث قيل: يفرق مع سؤاله، وكذا يحبس الغريم مع إقامة
371

شاهد إذا ادعى الآخر.
ولا تجوز الشهادة إلا مع العلم المستند إلى المشاهدة، كالأفعال، ولا يعول
على خطه وإن شهد الثقة، وبالخلاف قول، وتقبل شهادة الأصم.
ويكفي السماع، في النسب والموت والملك المطلق والنكاح والوقف
والعتق والولاء، ويشترط فيه التواتر على رأي، وقيل: يكفي عدلان فيصير
السامع شاهد أصل، ولا يشهد بالسبب إلا أن يكون إرثا ولا يفتقر في الملك إلى
مشاهدة التصرف، ولو عارضه يد متصرفة فالترجيح لليد، وقيل: لو سمع قول:
هذا ابني أو أبي، للكبير مع السكوت شهد بالرضا، ويشهد للمتصرف بالملك
المطلق والأولى الشهادة لذي اليد به، قيل: لو صح لم يسمع: الدار التي في يده
لي، كما لا يسمع: ملكه لي، وهو ضعيف للمنع من الملازمة والفرق التصريح
بالملك في الثاني والنقض بسماع: الدار التي في تصرفه لي، ولو شهدا بالدار
المعروفة قبلت وإن جهلا الحدود، ويجوز أن يشهدا بالبيع وإن لم يعرفاه مع علم
المتبايعين.
وتكره الشهادة على المخالف، وتقبل شهادة الأخرس بالإشارة ومع الجهل
يفتقر إلى مترجمين عارفين بها ولا يكونان فرعين، وتقبل شهادة الأعمى فيما لا يفتقر
إلى البصر، ويجوز له التحمل مع العلم بالصوت.
ولا تقبل في الزنى واللواط والسحق إلا أربعة رجال والأصح قبول شاهدين
في البهائم، ويثبت الزنى خاصة بثلاثة وامرأتين وبرجلين وأربع، ويثبت بالآخر
الجلد خاصة، والأقرب أن الإقرار كالأصل.
وما عدا ذلك من الموجب للحد يثبت بشاهدين لا بشاهد وامرأتين ولا بشاهد
ويمين ولا النساء، وكذا الطلاق والخلع والوكالة والوصية إليه والنسب ورؤية
الأهلة، والأولى ثبوت القصاص والعتق والنكاح بشاهد وامرأتين وتثبت بذلك.
وبشاهد ويمين الديون والأموال وعقد المعاوضة والوصية له والجناية
الموجبة للدية والوقف.
372

وتثبت بشهادة الرجال والنساء منفردات ومنضمات الولادة والاستهلال
وعيوب النساء الباطنة، وفي الرضاع خلاف.
ويقبل شاهد وامرأتان في الديون والأموال، وشهادة امرأتين مع اليمين،
ولا تقبل شهادتهن على الانفراد وإن كثرن، وتقبل شهادة الواحدة في ربع ميراث
المستهل وربع الوصية والاثنين في النصف وهكذا، وما تقبل فيه شهادتهن
منفردات لا يثبت بأقل من أربع.
والحكم تبع للشهادة، فلا يستبيح المشهود له إلا مع العلم بصحتها أو
الجهل، وليست شرطا في شئ من العقود، إلا الطلاق والخلع والظهار، ويستحب
في النكاح والرجعة والبيع، ويجب أداؤها على الكفاية إلا مع الضرر غير
المستحق، وكذا التحمل على الأصح.
وتقبل الشهادة على الشهادة في حقوق الناس، كالقصاص والطلاق
والنسب والعتق والقرض والعقد وعيوب النساء والولادة والاستهلال، لا الحدود،
وإن اشتركت كالسرقة والقذف على خلاف فيهما، ولا تقبل الثالثة ولا بد من اثنين
على واحد، ويجوز اتحادهما وأن يكون أحدهما أحد الأصلين أو يكون اثنان على
جماعة أو على رجل وامرأتين أو على النساء.
وأعلى مراتب التحمل: أشهد على شهادتي، أنني أشهد على فلان، ودونه
سماع الشهادة عند الحاكم ودونه أن يسمعه يقول: أنا أشهد، ويذكر السبب ولو
لم يذكر لم يتحمل، فيشهد في الأول: أشهدني على شهادته، وفي الثاني: أشهد أن
فلانا شهد عند الحاكم، وفي الثالث: إن فلانا شهد، ويذكر السبب.
ولا يقبل الفرع إلا مع تعذر الأصل بالمرض وشبهه، والغيبة وضابطها
اعتبار المشقة بالإحضار، ولو أنكر الأصل طرحت على رأي، أما لو حكم ثم
حضرا وأنكر لم ينقص، ولو رجع الأصلان ففي تضمينهما نظر، ولو فسق الأصل
لم يحكم بالفرع، وتقبل شهادة النساء فرعا فيما تقبل فيه شهادتهن خاصة على
إشكال، وإذا سمي الفرعان الأصل وعدلاه أثبت وإلا بحث عنه، ولو عدلاه ولم
373

يسمياه لم تقبل.
وتقبل الشهادة على الشهادة في الإقرار باللواط والزنى بالعمة والخالة ووطء
البهيمة وشهادة الاثنين ويثمر انتشار الحرمة ووجوب البيع.
374

الدروس الشرعية
للشهيد السعيد محمد بن جمال الدين مكي العاملي
" الشهيد الأول "
734 - 786 ه‍. ق
375

كتاب القضاء
وهو ولاية شرعية على الحكم في المصالح العامة من قبل الإمام.
ويشترط في القاضي المنصوب البلوغ، والعقل، والذكورة وإن كان
تحكيما، والإيمان، والعدالة، وطهارة المولد، وأن يغلب حفظه نسيانه، والكتابة،
والبصر على الأصح، والحرية، وانتفاء الخرس، أما الصمم فلا يمنع من القضاء
مطلقا.
والاستقلال بالإفتاء بأن يعلم المقدمات السبع، الكلام، والأصول، والنحو،
واللغة والتصريف، وشرائط الحد، والبرهان، أو اختصاصه بقوة قدسية يأمن معها
الغلط.
ويعلم الأصول الأربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع ودلالة العقل، فيعلم من
الكتاب والسنة خمسة وعشرين: الأمر، والنهي، والعموم والخصوص، والإطلاق
والتقييد، والإجمال والبيان، والناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، والظاهر
والمأول، وقضية الألفاظ، وكيفية الدلالة، ومقاصد الألفاظ، والمتواتر والآحاد،
والمسند والمرسل والمقطوع، وحال الرواة، وتعارض الأدلة، وقوة الاستخراج.
ويكفي في الكتاب معرفة الآيات المتعلقة بالأحكام، وهي فوق خمسمائة آية،
ولا يشترط حفظها، بل فهم مقتضياتها، واستحضارها متى شاء.
ويكفي في السنة الإخلاد إلى أصل مصحح عنده رواه عن عدل بسند
377

صحيح متصل عن العدول إلى الإمام.
والإحاطة بمسائل الإجماع، لئلا يفتي بما يخالفه، وإنما يصير إلى دلالة
الأصل عند تعذر دليل سمعي.
ويجتزئ الاجتهاد على الأصح، ولا يشترط علمه بالقياس، لعدم حجيته
عندنا، إلا منصوص العلة عند بعضنا.
وما كان المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به، وليس معرفة التفريع
الذي ذكره الفقهاء شرطا لعدم تقييده به، نعم ينبغي له الوقوف على مأخذها لأنه
أعون له على التفريع.
ثم القضاء قسمان:
أحدهما:
قضاء التعميم، وهو مشروط بإذن الإمام خصوصا أو عموما، ويعبر عن
التولية بقوله: وليتك الحكم، واستنبتك فيه، واستخلفتك وقلدتك، ورددت
إليك الحكم، وفوضت إليك، وجعلت إليك.
وبصيغة الأمر مثل: أحكم بين الناس بما أراك الله.
ولو علق التولية على شرط بطلت.
ويجب على الإمام نصب قاض في كل صقع، وعلى الناس الترافع إليه، فلو
امتنعوا من تمكينه أو من الترافع إليه عند الخصومة، قوتلوا حتى يجيبوا، وإذا عين
حدا، تعين، وإلا فقبوله واجب على الكفاية، ولو لم يعلم به الإمام أعلم بنفسه، لأنه
من أعظم أبواب الأمر بالمعروف، ولو لم يوجد سوى واحد تعين، ولو وجد غيره
ففي استحباب تعرضه للولاية نظر، من حيث الخطر وعظم الثواب إذا سلم،
والأقرب ثبوته لمن يثق من نفسه بالقيام به.
ولا يجوز له بذل مال ليليه، ولا يكاد يتحقق للعادل، نعم لو بذله لبيت المال
ففي جوازه تردد، ولا ريب في جوازه للجائر الواثق بمراعاة الشرائط. ولو خاف
على نفسه الخيانة لم يسقط القيام لتمكنه من تركها، نعم لو وجد غيره فالتفويض
378

إليه أولى.
ويجوز تعدد القضاة إما بالتشريك أو بالتخصيص بمحلة أو نوع من
القضاء، ولو شرط اتفاقهما في الأحكام، ففيه نظر من تضيق موارد الاجتهاد ومن
أنه أوثق في الحكم، وخصوصا عندنا، لأن المصيب واحد، ومع التشريك يتخير
المتنازعون، ولو تنازع المدعي والمدعى عليه، قدم المدعي لأنه الطالب.
وفي غيبة الإمام ينفذ قضاء الفقيه الجامع للشرائط، ويجب الترافع إليه،
وحكمه حكم المنصوب من قبل الإمام خصوصا، ولو تعدد فكتعدد القضاة، نعم
يتعين الترافع إلى الأعلم، فإن تساويا فالأورع، ولو كان أحدهما أعلم والآخر
أورع رجح الأعلم، لأن ما فيه من الورع يحجزه عن التهجم على الحرام ويبقى
علمه لا معارض له.
وتثبت ولاية القاضي بسماع التولية من الإمام، أو بشهادة عدلين، أو
الاستفاضة، ويثبت بها أيضا الملك المطلق والموت والنسب والوقف والنكاح
والعتق، وهل يشترط فيها العلم أو متأخمته، أو يكفي غلبة الظن؟ أوجه.
ولا يقبل قول القاضي بمجرده، وإن شهد له القرائن، وفي الاكتفاء بالخط مع
أمن التزوير، احتمال، لاعتماد الخلق على قول ولاة رسول الله صلى الله عليه وآله
بمجرد الكتاب، " حتى تحرص واحد فصعق فصار حممة "، ولم يأمر لهم
بالإشهاد، ولأن الحجة لا تقام عند حاكم وإلا دار، فالاعتماد على ما يحصل معه
الظن الغالب.
ثانيهما:
قضاء التحكيم، وهو سائغ وإن كان في البلد قاض، ويلزم الخصمين
المتراضيين به حكمه، حتى في العقوبة، وهل يشترط رضاهما بعد الحكم؟
الأقرب لا، ولا ينقض حكمه فيما لا ينقض فيه حكم غيره، ويشترط استجماع
الشرائط، ولو رجع أحدهما عن تحكيمه قبل حكمه، وإن كان في أثنائه، لم ينفذ
حكمه.
379

ولا يتعدى حكمه المتراضيين، فلا يضرب الدية على عاقلة المدعى عليه،
ولا يستثني من التحكيم النكاح والقصاص واللعان والقذف لفقد المخصص.
درس [1]:
ينعزل القاضي بطريان مانع من القضاء، كالجنون والفسق والإغماء
والنسيان الغالب، ولا يعود بزواله.
وبموت الإمام وسقوط ولاية المنوب إذا كان منصوبا عنه.
وبعزل المولي إياه لمصلحة لا اقتراحا، على قول ضعيف، ويشترط علمه
بالعزل.
وينعزل بعزله نوابه في المصالح، وفي جواز تعليق العزل وجه ضعيف.
ولا يقبل قوله بعد العزل في الحكم، ولو شهد مع آخر بأن هذا حكم به
قاض، قبل ظاهرا، وإن علم إرادة نفسه بطل، ولو ادعى على المعزول رشوة أو
جور أو كذب، حلف على الرشوة وعلى نفي الجور، وإن قال المدعي: حكم على
بشهادة فاسقين، ولا بينة، ففي ترجيح قوله وجهان، من باب تعارض الأصل
والظاهر، وقطع في المبسوط بأنه يكلف البينة.
ولا ينفذ حكم من لا تجوز شهادته، كالخصم على خصمه في هذه الحكومة أو
في غيرها، والولد على والده، والعبد على سيده في قضاء التحكيم.
ويرتزق القاضي من بيت المال مع الحاجة، أو مع عدم تعيينه عليه على
كراهية وكذا الكاتب والقاسم والمترجم ومعلم القرآن والآداب والمدرس
وصاحب الديوان والكيال والوزان ووالي بيت المال والعدل المرصد للشهادة،
وليس له أخذ أجرة على القضاء وإقامة الشهادة، وإن لم يتعين عليه، نعم لو
احتاج إلى مؤونة في سفره لإقامتها جاز أخذها، إذ لا يجب عليه ذلك، ولو أخذ
القاضي الجعل من المتحاكمين مع الضرورة وعدم التعيين، ففيه قولان، والمنع
أشبه، فإن جوزناه ففي جواز تخصيص أحدهما به، أو جعله على المدعي أو
380

التشريك بينهما نظر، من الشك في أنه تابع للعمل أو للمنفعة الحاصلة، ولو
جعل على المحق منهما ظاهرا أو المبطل، فالإشكال أقوى.
فروع متفرقة:
الأول: لو قال المدعي على المعزول: حكم على بشهادة فاسقين ولم يذكر
أخذ المال، فالأقرب السماع، وحينئذ لو صدقه القاضي ففي غرمه وجهان، من
استقرار السبب ومن عدم قرار الجناية، ولو صدق الغريم فلا غرم قطعا.
الثاني: لو حاسب الصارف الأمناء ففضل في يد أحدهم فضلة، فادعى إنها
أجرة، قررها المعزول، فلا أثر لتصديقه، ويرد الزائد على أجرة المثل، وفي
تصديق الأمين في استحقاق أجرة المثل نظر، من أنه مدع، ومن أن الظاهر أنه
لا يعمل مجانا، ولو لم يثبت عمله فلا استحقاق قطعا.
الثالث: لو عادت ولاية القاضي بعد زوالها وسماع البينة، وجب استعادتها
وإن قصر الزمان، بخلاف ما لو سمعها ثم خرج عن محل ولايته، ثم عاد.
الرابع: لو حضر الإمام في بقعة وتحوكم إليه، فله رد الحكم إلى غيره
إجماعا، فإن النبي صلى الله عليه وآله كان يرد الحكم إلى علي عليه السلام في
مواضع، وكذا يجوز لمن أذن له في الاستخلاف، ولو فحوى كسعة المعاملة.
الخامس: هل يجوز تولية المفضول مع وجود الأفضل؟ جوزه قوم، بخلاف
الإمامة العظمى، لأن ما يفوت من مريد الفضل فيها لا مستدرك له، والقاضي
يكتفي بمراقبة الإمام، والوجه المنع حسما لمادة التخطي مع منع الآية من ذلك
على الإطلاق.
السادس: لا ينعقد قضاء المرأة لإطباق السلف على المنع منه، وتجويز قضائها
في مورد شهادتها لا أصل له.
السابع: لا حكم للوالي من قبل الظالم، وإن كان الظالم صاحب شوكة، نعم
يجوز الترافع إليه، للضرورة، ويستبيح المحق ما حكم له به مع علمه بإصابة
381

الحق، ولو جهل وكان الحكم على من يعتقده فالأقرب حله، لقولهم
عليه السلام: امضوا في أحكامهم، ومن دان بدين قوم لزمه حكمه.
درس [2]:
في آداب القضاء.
وهي إما مستحبة، وهي عشرون:
الأول: قصد المسجد الجامع حين قدومه، وصلاة ركعتين فيه، كما يستحب
لكل قادم إلى بلد، ويسأل الله التوفيق والعصمة والإعانة.
الثاني: النزول في وسط البلد ليتساوى ورود الخصوم إليه.
الثالث: أن يبدأ بأخذ ديوان الحكم من المصروف وما فيه من الوثائق
والمحاضر - وهي نسخ ما ثبت عند الحاكم -، والسجلات - وهي نسخ ما يحكم
به -.
الرابع: أن يتعرف من أهل البلد ما يحتاج إلى معرفته من مراتب الناس في
العلم والصلاح وغيرها، ثم يشيع مقدمه فيواعد الناس يوما لقراءة عهده،
ليتوفروا على سماعه.
الخامس: أن يبدأ كما يقدم بالمحبوسين، فمن حبس بظلم أو في تأديب ثم
أدبه، أطلقه، ومن ذكر إنه محبوس بحق أقر، ومن أنكر الحق سأل عن خصمه فإن
عينه أحضره، فإن اعترف بالظلم أطلقه، وإن زعم أن الأول حبسه لثبوت حقه
عنده، فعليه البينة إن لم يصدق الغريم، وإن لم يعين خصما فإن قال: لي خصم لا
أعرفه أقر، وإن قال: لا خصم لي أشيع حاله بالنداء، فإن لم يظهر أطلق وإن قال:
حبست ظلما، فالأقرب أنه لا يسمع منه لأنه قدح في الأول، بل يشاع حاله ثم
يطلق بعد إحلافه على البراءة، قاله الشيخ، وهو حسن، وهل يلزم بكفيل في
الموضعين؟ احتمال، ولو ذكر خصما غائبا وذكر أنه مظلوم، فالأقرب إخراجه
والمراقبة أو التكفيل.
382

السادس: أن ينظر في أموال الأطفال والمجانين، فيعتمد ما يجب من تضمين،
أو إسقاط ولاية لكمال المولى عليه، أو جناية الوالي، أو إنفاذ وصيته، وكذا ينظر
في الأوصياء على إخراج الحقوق، فمن خالف وصية أبطل تصرفه، ولو فسق
استبدل به، ولو أنفذ شيئا في حال فسقه لم يمض، إلا ما كان من الوصية لمعين
فأوصله إليه، أو إلى من يقوم مقامه، ولو كان غير معين، كالفقراء ضمن، كما لو
أوصله أجنبي، وكذا يضمن من تصرف في وقف مسجد أو مشهد، وليس أهلا،
وإن صرفه في مصلحة.
وينظر في أمناء الحكم، ويعتمد معهم ما يجب من إقرار أو إمضاء أو إعانة
لحافظي أموال الطفل والمحجور والغائب، والوصايا العامة.
وينظر في اللقط والضوال، فيبيع ما هو عرضة للتلف وما تستوعب نفقته
قيمته، ويحفظ ما عداه أو يدفعه إلى الملتقط.
ولا يحكم في أثناء هذه الأمور لأن الحبس عقوبة، وحاجات الأطفال
والغياب ناجزة، نعم لو حفت الحكومة فصلها في الأثناء، وإلا فوضها إلى غيره،
ويبدأ بالأهم فالأهم من ذلك.
السابع: أن يتروى في ترتيب الكتاب والمزكين والمترجمين، وليكن الكاتب
عدلا منزها عن الطمع، وفي حكم المترجم المسمع إن كان القاضي أصم، أو
بعض المتداعيين.
وتشترط العدالة في الجميع، ويشترط العدد في المزكي، ولا يشترط في
الكاتب، وفي اشتراط العدد في المترجم والمسمع وجهان، من حيث أنها شهادة،
ومن أنه لو غير لاعترض عليه الخصمان، وحينئذ يمكن أن يشترط حيث لا يمكن
فيهما التغيير، إما لعدم معرفتهما بلغة المترجم، أو لكونهما أصمين، والأقرب
التعدد مطلقا.
الثامن: أن يجلس للقضاء في الفضاء، ليسهل الوصول إليه، ولو كان
المسجد واسعا وجلس فيه، ففي الكراهية أوجه، ثالثها الكراهة إن اتخذه دائما.
383

فإذا دخله صلى التحية ثم جلس مستدبرا ليكون الخصوم مستقبلي القبلة،
وربما قيل: يستقبل، لقولهم عليه السلام " أفضل المجالس ما استقبل به القبلة ".
التاسع: أن يخرج متجملا في أحسن هيئة، ثم يجلس وعليه السكينة والوقار،
من غير انبساط يجرئ الخصوم ولا انقباض يمنع من اللحن بالحجة، خاليا من
شواغل القلب كالغضب والجوع والعطش، وغلبة الفرح والغم، والوجع،
ومدافعة الأخبثين، وغلبة النعاس، ولو قضى مع وجود هذه نفذ.
العاشر: أن يحاضر العلماء للتنبيه على المأخذ والخطأ، لا للتقليد، وإن ضاق
الوقت.
الحادي عشر: أن يحضر في مجلسه عدول يشهدون على المقر وعلى حكمه.
الثاني عشر: أن يرغب في الصلح، فإن أبيا أنجز الحكم، فإن اشتبه أرجا حتى
يتبين، وعليه الاجتهاد في تحصيله.
الثالث عشر: أن يفرق بين الشهود إذا ارتاب بهم أو كان لا قوة عندهم،
ويعظهم، ويكره ذلك في أهل الفضل.
الرابع عشر: أن يعرض المقر بموجب الحمد لله بالكف والتأويل، كما فعل
النبي صلى الله عليه وآله ب‍ " ماعز ".
الخامس عشر: أن يجلس الخصمان بين يديه، ويجوز قيامهما لا قيام أحدهما، إلا
مع كفره وإسلام الآخر.
السادس عشر: أن لا يتخذ حاجبا وقت القضاء، لنهي النبي صلى الله عليه وآله،
ولا يتولى البيع والشراء لنفسه، ولا يحضر وليمة الخصوم، ولا يرتب شهودا.
السابع عشر: إذا ورد عليه خصمان فسكتا، استحب أن يقول لهما: تكلما، أو
ليتكلم المدعي منكما، أو يأمر من يقول ذلك، ويكره تخصيص أحدهما
بالخطاب.
الثامن عشر: أن لا يشفع في إسقاط حق أو إبطال دعوى، ولا يضيف أحد
الخصمين، ويستحب عيادة المرضى، وشهود الجنائز كغيره، وأبلغ.
384

التاسع عشر: أن يجتهد على التسوية بين الخصمين في الميل القلبي، إن أمكن.
العشرون: أن يسأل عن التزكية سرا، لأنه أبعد من التهمة، وإذا مضت مدة على
المزكي يمكن تغيره فيها، استحب تجديد السؤال، ولا يقدر بستة أشهر.
درس [3]:
وأما الواجبة فثلاثة عشر:
الأول: إعداء المستعدي على الحاضر وإن لم يحرر دعواه، ولم يعلم بينهما
معاملة، نعم لو كان غائبا حرر الدعوى.
ويجب على المطلوب الحضور أو التوكيل، ولو كان في غير ولايته أثبت
الحكم عليه وأشهد، كما يأتي إن شاء الله تعالى، ولو كانت امرأة غير برزة، بعث
إليها من ينوبه في الحكم إن لم يوكل، فإن ثبت عليها يمين بعث أمينه ومعه
شاهدان لإحلافها.
ولو امتنع الخصم من الحضور جاز الحكم عليه، ولو رأى تعزيره جاز،
والمعزول كغيره وإن كان الأولى تحرير الدعوى قبل طلبه.
الثاني: التسوية بين الخصمين المتساويين في الإسلام والكفر، في النظر
والإنصات والإجلاس والإكرام والعدل في الحكم، ويجوز رفع المسلم على
الذمي في المجلس، كما فعل علي عليه السلام في مجلس شريح.
الثالث: أن يقدم السابق من المتزاحمين في الورود، إلا مع ضرورة أحدهم
كالمستوفز والمسافر والمرأة، ولو تساووا في الورود أقرع فيقدم السابق بخصومة
واحدة.
الرابع: أن يسمع ممن ابتدر الدعوى من الخصمين، فإن تساويا في البدار
سمع من صاحب اليمين، ونقل فيه الشيخ الإجماع ثم قوى القرعة، ونقل عن
العامة إحلافهما وصرفهما حتى يصطلحا، ويتخير الحاكم في التقديم.
385

فرع:
لو تزاحم الطلبة عند مدرس، فإن كان ذلك العلم مما لا يجب تعليمه تخير،
وإلا قدم الأسبق، فإن تساووا أقرع، ولو جمعهم على درس واحد جاز مع تقارب
إفهامهم، وإلا فلكل صنف درس.
الخامس: أن يزجر من تعدى سنن الشرع في مجلسه برفق، فإن انتهى وإلا
انتقل إلى الأخشن، ولو افتقر إلى التعزير فعل، ولو كان الحق للحاكم استحب له
العفو ما لم يؤدي إلى فساد.
السادس: أن لا يلقن أحد الخصمين ما فيه ضرر على خصمه، ولا يهديه للحجة،
ولا يثبط عزم المقر في حق الآدمي.
السابع: أن لا يرتشي، فيجب إعادتها، ولو تلفت فبدلها، ويحرم أيضا على
الخصم إلا أن يتوصل إلى الحق بها، ولا يمكن بدونه.
الثامن: أن لا يتعتع الشاهد، ولا يتعقب كلامه ليستدرجه.
التاسع: أن يحكم إذا التمس المحكوم له ذلك، وكان قد ثبت موجبه،
فيقول: حكمت أو قضيت أو أنفذت أو أمضيت أو ألزمت، وقيل: يكفي ادفع إليه
ماله، أو أخرج إليه من حقه، أو يأمره بأخذ العين أو بيعها.
ولا يكفي أن يقول: ثبت عندي أو إن دعواك ثابتة، فيجوز نقضه عند
عروض قادح، بخلاف الأول.
العاشر: أن ينقض الحكم إذا علم بطلانه، سواء كان هو الحاكم أو غيره،
وسواء أنفذه الجاهل به أم لا.
ويحصل ذلك بمخالفة نص الكتاب، أو المتواتر من السنة أو الإجماع، أو
خبر واحد صحيح غير شاذ، أو مفهوم الموافقة، أو منصوص العلة عند بعض
الأصحاب، بخلاف ما تعارض فيه الأخبار وإن كان بعضها أقوى بنوع من
المرجحات، أو ما يعارض فيه عموما الكتاب أو المتواتر أو دلالة الأصل، إذا
تمسك الأول بدليل مخرج عن الأصل فإنه لا ينقض.
386

ولا يجب عليه تتبع الأحكام الماضية منه ولا من غيره، نعم لو ادعى خصم
موجب الخطأ، وجب النظر فيه.
وينبغي أن يجمع بحضرته قضايا اليوم ثم الأسبوع ثم الشهر ثم السنة
ويكتب عليها تاريخها، ثم يختم على كل قمطير بخاتم ليأمن التغيير.
الحادي عشر: أن يكتب على المقر حجة إذا التمس خصمه، وكان معروفا أو
معرفا أو محلى، وثمن القرطاس من بيت المال، فإن تعذر فعلى الملتمس، وكذا
يجب كتابة حجة الحكم والمحضر.
الثاني عشر: أن يجبر المحكوم عليه على الخروج من الحق إن أبطأ، ولو ادعى
الإعسار ولم يكن له أصل مال ولا أصل الدعوى مالا، حلف وأطلق، وإلا حبس
حتى يثبت إعساره بالبينة المطلعة على دخيلته، أو تصديق الخصم، ولو كان له
مال ظاهر أمر ببيعه، فلو امتنع فللحاكم إجباره على بيعه، وأن يبيع عنه.
الثالث عشر: أن يسأل عن البينة عند الإنكار، فإن ادعاها جاز له أمره
بإحضارها، مقيدا بمشيئته إن لم يعلم الخصم ذلك، وإلا تركه ورأيه، فإذا
أحضرها لم يسألها إلا بالتماس المدعي، وليقل: من كان عنده شهادة ذكرها إن
شاء، ولا يأمرهما، فإن اتفقا وطابق الدعوى وكان يعلم عدالتهما، حكم مع
التماس المدعي، وقيل: يجوز من غير طلبه، ولكن يجب أن يعرض على الخصم
جرحهما إن كان يعلمه، فإن استمهل أجل ثلاثا ثم يحكم مع عدم حضور
الجارح.
وإن جهل الحاكم حال البينة، طلب التعديل من المدعي، وإن قال: لا بينة
لي عرفه أن له اليمين، فإن طلب إحلافه أحلفه، وإلا فلا.
درس [4]:
يقضي الإمام بعلمه مطلقا، وغيره في حقوق الناس، وفي حقوق الله تعالى
قولان، أقربهما القضاء، ولو علم فطلب البينة فإن فقدها المدعي فعل حراما، وإن
387

وجدها ففي جواز إلزامه بها ليدفع عنه التهمة نظر.
ولا فرق بين كون العلم حاصلا في زمان ولايته ومكانها، أو غيرهما،
ولا يحكم بوجود خطه إذا لم يذكر الواقعة، سواء وجد خطه بحكمه أو بشهادة،
ولو علم أمن التزوير.
أما الرواية فيجوز التعويل على ما كتبه إذا أمن، وكذا ما قرأه على الأهل إذا
علم صحة النسخة، وإن لم يتذكر، لأن الرواية يكفي فيها الوثوق.
والحكم والشهادة تعبد، ومن ثم قبلت رواية المرأة والعبد في موضع لا تقبل
فيه شهادتهما.
ولو شهد عنده عدلان بقضائه ولما يتذكر، فالأقوى. جواز القضاء كما لو
شهدا عند غيره، ووجه المنع إمكان رجوعه إلى العلم لأنه فعله بخلاف شهادة
اثنين على حكم غيره، فإنه يكفي الظن تنزيلا لكل باب على الممكن فيه، ومن ثم
لم يجز إقامة الشهادة المنسية بشهادة عدلين بشهادته، وكذا لو نسي الرواية
وحفظها راويه فإنه يروي عن نفسه بواسطة، فيقول: حدثني عني كما نقل عن
سهيل بن أبي صالح إنه قال: حدثني ربيعة عني أني حدثته عن أبي هريرة حديث
القضاء بالشاهد واليمين.
ولا تسمع الدعوى على القاضي بالحكم عند قاض آخر، سواء كان قد عزل
أو لا، فليس له إحلافه لو أنكر، كما لا يحلف الشاهد لو ادعى عليه التحمل،
ولا يجوز للقاضي الحكم بظنه من غير بينة.
فائدة:
من منع من قضاء القاضي بعلمه استثنى صورا أربعا:
الأولى: تزكية الشهود وجرحهم.
الثانية: الإقرار في مجلس القضاء وإن لم يسمعه غيره.
الثالثة: العلم بخطأ الشهود يقينا، أو كذبهم.
388

الرابعة: تعزير من أساء أدبه في مجلسه، وإن لم يعلمه غيره، لأنه من ضرورة
إقامة أبهة القضاء.
وألحق بعضهم خامسا.
الخامسة: وهو أن يعلم فيشهد مع آخر فإنه لا يقصر عن شاهد.
تنبيه: الاستزكاء مع جهل القاضي بالشهود واجب، ولو سكت عنه الخصم، لأنه
حق لله تعالى.
ولا يتوقف الاستزكاء على طعن الخصم، وفي سقوطه بإقراره بعدالة الشهود
وزعمه أنهم زكوا وجهان، للمؤاخذة بقوله، وإنه حق لله، والأول قوي.
ويشترط تعريف المزكي باسم الشاهد ونسبه، والمتداعيين لجواز أن يكون
بينه وبين المدعي شركة، أو بينه وبين المنكر عداوة، ولا يشترط تعريف قدر
المال، إلا أن يقول بجواز شهادة ولد الزنية في اليسير.
وصفة المزكي كالشاهد، فلو جهل استزكي مسترسلا، ثم إن نصب حاكما
في الجرح والتعديل كفى وحده، وإلا فاثنان، ولا بد في التعديل من الخبرة
الباطنة المتكررة، ويكفي في الجرح المرة، ويجب التعيين فيه، لا في التعديل
لعدم انحصار سبب العدالة واختلاف الناس في الجرح.
وليقل المزكي: هو عدل مقبول الشهادة أو علي ولي، فرب عدل لا تقبل
شهادته كالتقي المغفل.
ولا يصير قاذفا بتعيين الزنى للحاجة، ولا يكفي خط المزكي وإن أشهد عليه،
ولو تعارض الجرح والتعديل قدم الجرح لاستناده إلى اليقين، نعم لو تكاذبا
صريحا فالأقرب التوقف، ولا يكفي في الجرح والعدالة التسامع إلا مع اليقين.
389

فرع:
لو ارتاب القاضي بعد التزكية فرق الشهود وسألهم عن مشخصات القضية،
فإن اتفقوا ولم يجد مطعنا، قضى وإن بقيت الريبة لأنه منتهى الإمكان، وليس له
القضاء مع الريبة من غير بحث.
تتمة:
لا يتغير الشئ عما هو عليه بحكم الحاكم لمن علمه، فلو حكم بشاهدي زور
على عقد أو فسخ أو طلاق أو نكاح لم يستبيحا المحكوم به، ولا يحل للعالم
بكذبهما موافقة الحكم، وعلى المرأة الامتناع لو علمت التزوير، فإن أكرهها أثم
دونها، ولها التزويج بغيره بعد العدة، وللرجل إتيانها إذا كان محكوما عليه
بطلاقها، وإن تزوجت بغيره بعد العدة.
390

كتاب الدعاوي وما يتبعها
المدعي هو الذي يخلى وسكوته، أو يخالف الأصل أو الظاهر، والمنكر
بإزائه.
والفائدة في مثل دعوى الزوج تقارن الإسلام قبل المسيس، والمرأة تعاقبه،
فعلى الظاهر الزوج مدع، وعلى التخلية هي، لأنها لو سكتت لم يعرض لها
الزوج واستمر النكاح والزوج لا يخلى، وكذا على مخالفة الأصل.
وفي دعوى الزوج الإنفاق مع اجتماعهما وإنكارها.
ودعوى الودعي الرد مقبولة، تحصيلا للرغبة في الإيداع وإن كان مدعيا
بكل وجه.
وكل دعوى ملزمة معلومة فهي مسموعة، فلا تسمع دعوى الهبة من دون
الإقباض، وكذا الرهن عند مشترطه فيهما، ولا البيع من دون قوله: ويلزمك
تسليمه إلي، لجواز الفسخ بخيار المجلس وشبهه.
وأولى بعدم السماع دعوى العقود الفاسدة، ولا يشترط ذكر الصحة ولا
التعرض لأركان البيع والنكاح، بأن يقول: تزوجتها، بإيجاب وقبول صادرين
من أهلهما، ولا لعدم المفسد.
أما القود فلا بد من التفصيل للخلاف في أسبابه وعظم خطره.
ولا تسمع الدعوى المجهولة كشئ أو ثوب، بل يضبط المثلي بصفاته،
391

والقيمي بقيمته، والأثمان بجنسها ونوعها وقدرها، وإن كان البيع وشبهه ينصرف
إطلاقه إلى نقد البلد، لأنه إيجاب في الحال وهو غير مختلف، والدعوى إخبار عن
الماضي وهو مختلف.
أما دعوى الوصية فإنها تسمع مع الجهالة.
وفي صحة دعوى الإقرار وجهان، من نفعه لو صدقه وعدم إيجابه حقا، فإن
قلنا به صح مع الجهالة، ولا إشكال في سماع الإقرار المجهول حذرا من رجوعه
لو ألزم بالتحرير، بخلاف الدعوى، ولا يحرم تلقين التحرير لأن فيه تحقيق
الدعوى، خلافا للمبسوط لأن فيه كسر قلب خصمه، وأما الجزم فالإطلاق محمول
عليه، فلو صرح بالظن أو الوهم، فثالث الأوجه السماع فيما يعسر الاطلاع عليه،
كالقتل والسرقة، دون المعاملات، ولا يحلف المدعي هنا برد ولا نكول ولا مع
شاهد.
ولو ادعى على مورثه دينا، لم يسمع حتى يدعي موته وعلمه بالحق وأنه
ترك مالا في يد الوارث، ولو أنكر المال في يده حلف على البت، ولو أنكر
الموت أو الحق ولا بينة، حلف على نفي العلم إن ادعاه عليه، ولو أثبت المدعي إنها
كانت ببينته قضي بها.
ولا بد من كمال المدعي ودعواه لنفسه أو موكله أو موصيه أو لمولى عليه
بقرابة أو وصاية أو حكم أو أمانة، ويدعي الحاكم للغائب.
ولا تسمع دعوى المسلم خنزيرا ولا خمرا، غير محترمة، ولا يمين مع البينة إلا
بتقديم دعوى كإبراء أو بيع أو حكم على ميت أو غائب أو مولى عليه.
ولو ادعى فسق الحاكم أو الشهود وعلمه به، فالأقرب عدم السماع، وإن
تقع في الحق للفساد، وإنه ليس حقا لازما، ولا يثبت بالنكول ولا يمين الرد، وأولى
منه بطلان الدعوى على الحاكم أو الشاهد بالكذب أو الفسق، ولو توجهت
اليمين عليه فقال: أحلفني، فليحلف على نفيه، فثالث الأوجه السماع مرة واحدة
حذرا من التسلسل.
392

درس [1]:
يجوز لصاحب العين مع الغير انتزاعها قهرا ما لم يثر فتنة، وإن لم يأذن
الحاكم ولم يثبت عنده.
أما الدين فإن كان على منكر أو مقر غير باذل فكالعين وإن أمكن إثباته عند
الحاكم على الأقوى، أما المقر الباذل فلا يجوز الأخذ بدون تعيينه، لتخيره في
جهات القضاء.
فرع:
لو كان مثل الحق بحضرته وطالب الغريم، فاستمهل حتى يأتي ببذله، فإن
أدى إلى المطل التحق بغير الباذل، وإن قصر الزمان ففي إلحاقه به تردد، من
الوجوب على الفور ومن التسامح بمثل هذا.
وإذا جازت المقاصة أخذ من جنس ماله، فإن تعذر فمن غيره بالقيمة،
والأقرب تخيره بين تملكه بالقيمة وبين البيع، ولو تعذر الأخذ إلا بزيادة عن الحق
جاز وكان الزائد أمانة عند الفاضل، ولو تلف قدر حقه قبل البيع لم يضمن عند
الشيخ، واحتمل الفاضلان الضمان.
والمروي عدم جواز الأخذ من الوديعة، وحمل على الكراهية.
ومن ادعى ما لا يد لأحد عليه قضي له به، لرواية منصور ابن حازم، عن
الصادق عليه السلام: في الكيس بين جماعة فيدعيه أحدهم، ولو انكسرت سفينة
ففي رواية الشعيري عنه عليه السلام: ما أخرج البحر فهو لأهله، وبالغوص فهو
لمخرجه، وحملها ابن إدريس على يأسهم منه، فهو كالبعير يترك من جهد،
وبعضهم على الإعراض عنه.
ولا تسمع دعوى هذه بنت أمتي، ولو قال: ولدتها في ملكي، وكذا لا تسمع
البينة بذلك حتى يقول: هي ملكي وكذا البينة، وكذا ثمرة نخلتي، بخلاف هذا
الدقيق من حنطتي، والعزل من قطني، والدجاجة من بيضتي، والفرق الاتصال
هنا.
393

وتسمع دعوى الدين المؤجل، والضمان المؤجل، والتدبير، والاستيلاد وإن
لم يثبت كمال أثرها في الحال.
ولو ادعى العبد حرية الأصل، حلف مع عدم اشتهار حاله بالرقية كتكرر
بيعه في الأسواق، ولو ادعى العتق، حلف السيد.
ويجوز شراء الرقيق وإن لم يعرف بالرقية عملا بالظاهر، ولو احتيج إلى
الترديد في الدعوى فالأقرب جوازه، كمن دفع إلى دلال ثوبا قيمته خمسة ليبيعه
بعشرة فأنكره، فله أن يقول: لي عنده عشرة إن باع، أو خمسة إن تلف، أو ثوب
إن كان باقيا.
ولو ادعي على العبد فالغريم المولى وإن كانت الدعوى بمال، ولو أقر العبد
تبع به، ولو كان بجناية وأقر العبد فكذلك.
ولو أقر المولى خاصة لم يقتص من العبد، ويملك المجني عليه منه بقدرها،
ويلزم من هذا وجوب اليمين على العبد لو أنكر الملزوم لسماع الدعوى عليه
منفردا.
درس [2]:
في جواب الدعوى يطالب المدعى عليه بعد التحرير والتماس المدعي
مطالبته بالجواب:
وصحح الشيخ: إنه لا يطالبه من دون التماسه، لأن الجواب حق المدعي،
ثم قوى جوازه مراعاة للعرف، فيقول: ما تقول فيما يدعيه؟ فإن سكت لآفة توصل
إلى فهمه، وإن سكت عنادا، أو قال: لا أجيب، ففي المبسوط قضية المذهب أن
يقال له ثلاثا: إما أجبت عن الدعوى وإلا جعلتك ناكلا وأحلفت المدعي.
واختار في النهاية: حبسه حتى يجيب، وقواه في المبسوط.
وإن أقر ألزم بالحق، فإن التمس المدعي الحكم، حكم عليه بعد الوثوق
بكمال المقر، فيقول: ألزمتك ذلك، أو قضيت عليك به، أو أخرج له منه.
394

فإن التمس كتابة محضر عليه فعل بعد المعرفة به، أو شهادة معرفين، أو
قناعته بالحلية، حذرا من تواطئ الغريمين على نسب لغيرهما.
وقيل: يجوز الحكم وإن لم يلتمس إما للعرف، وإما لأنه حق قد تعين
للحاكم فوجب إظهاره.
ولو ارتاب الحاكم بالمقر توقف حتى يتبين، وإن أنكر الغريم الحق قال
الحاكم للمدعي: ألك بينة؟ ولو كان عارفا بأنه موضع المطالبة بالبينة فللحاكم
السكوت، فإن قال: لا بينة لي عرفه أن له يمينه، فيستحلفه باذنه، ولو تبرع بها أو
استحلفه الحاكم من دون التماس المدعي، أو بالعكس لغت، فإذا حلف سقطت
الدعوى وحرمت المقاصة وإن كان المدعي محقا، إلا أن يكذب نفسه بعد، ولا
تسمع بينته فيما بعد على الأصح، وفي المبسوط: تسمع، ذكره في فصل " فيما
على القاضي والشهود "، وفي موضع آخر لا تسمع، وفصل ثالثا بسماعها مع عدم
علمه بها أو نسيانه، واختاره الحلبي وابن إدريس، وجنح إليه في المختلف،
وقال المفيد: تسمع إلا مع اشتراط سقوطها، وفي النهاية: لا تسمع أصلا، واختاره
الفاضلان لصحيحة ابن أبي يعفور، عن الصادق عليه السلام وإن أقام خمسين
قسامة.
وللحالف كتابة محضر بيمينه بعد المعرفة أو الحلية، وإن امتنع من اليمين
قيل: يقضى بنكوله، والأقوى رد اليمين على خصمه.
ويستحب أن يقول له الحاكم ثلاثا: إن حلفت وإلا جعلتك ناكلا ورددت
اليمين، والواجب مرة.
ولو قضى بنكوله من غير عرض، فادعى الخصم الجهل بحكم النكول، ففي
نفوذ القضاء إشكال من ظهور عذره وتفريطه.
ولو سكت بعد العرض له عليه، قضي عليه ولو رجع قبل حلف المدعي
فالأقرب جوازه، ولو منعناه فرضي المدعي بيمينه فله ذلك.
وهل للمدعي إلزام المنكر بإحضار المال قبل اليمين؟ قطع به الحلبي، وفي
395

المختلف لا نص فيه وقوى تقديم اليمين.
ولو امتنع المدعي عن اليمين سقطت دعواه في هذا المجلس وقيل: أبدا،
وهو قوي، إلا أن يأتي ببينة ولو استمهل أمهل، بخلاف المنكر فإنه لا يمهل.
وحلف المدعي كإقرار الخصم، فلا ينفذ على غيره، وقيل: كالبينة، وهو
بعيد، والفائدة في مثل إنكار الوكيل العيب ونكوله عن اليمين فيحلف المدعي،
فإن جعلناها كالبينة ملك رده على الموكل، وإن جعلناها كالإقرار فلا.
تنبيه:
قد لا يمكن رد اليمين على المدعي.
كما إذا ادعى وصي يتيم مالا له على آخر فأنكره ونكل عن اليمين.
وكما إذا ادعى الوصي على الوارث إن الميت أوصى للفقراء أو بخمس أو
زكاة أو حج فأنكر الوارث ونكل.
فحينئذ يحبس المنكر حتى يحلف أو يقر، وفي اليتيم يؤخر حتى يبلغ
ويحلف، ويمكن القضاء بالنكول هنا ومثله.
لو قام شاهدا بدين لميت وارثه الإمام فإن حلف الإمام غير مشروع، بل
يحبس الخصم أو يقضى عليه، وإن قال: لي بينة، فللحاكم أمره بإحضارها، إن
كان لا يفهم إنه موضع الأمر، فإذا حضرت لم يسألها الحاكم إلا بعد سؤال
المدعي، ثم لا يقول: اشهدا، بل من كان عنده كلام ذكره إن شاء، فإن أجابا
بالفاسد أطرح، كقولهما: بلغنا أن له عليه، وإن قطعا بالحق وطابق الدعوى
بحث عن عدالتهما، فإن علمها طلب من الخصم الجرح، فإن استمهله أنظر ثلاثا،
وإن قال: لا جرح عندي: حكم بسؤال المدعي.
ويستحب له أن يقول للغريم: أدعي عليك بكذا ويشهد به هذان، وأنظرتك
جرح الشهود فلم تفعل وها أنا أحكم عليك، فلو طلب يمينه مع البينة لم تجب،
إلا مع تقديم دعوى صحيحة كإيفاء أو إبراء.
396

ولو كانت الدعوى على غائب أو ميت أو غير مكلف استحلف، ولو قال لي
بينة غائبة، ضرب له الحاكم أجلا لإحضارها وكفل لخصمه، فيخرج عن الكفالة
بمضي المدة، قاله الشيخان، وليس له حبسه، وفي المبسوط والخلاف: ليس له
إلزامه بكفيل، ومنع ابن حمزة من زيادة المدة على ثلاثة.
درس [3]:
في القضاء على الغائب:
يقضى عليه في الجملة سواء بعد أو قرب، ولو كان في المجلس لم يقض
عليه إلا بعد علمه.
وفي المبسوط: لا يقضى على الحاضر في البلد إذا لم يمتنع عن الحضور، ثم
هو على حجته إذا حضر، فلو ادعى فسق الشهود كلف البينة على الفسق حال
الشهادة أو حال الحكم، ولو ادعى قضاء أو إبراء أقام به البينة وإلا أحلف المدعي.
ولا يشترط تعلق الحكم بحاضر كوكيل أو شريك عندنا، وإنما يقضى في
حقوق الناس لا في حقوق الله تعالى، لأن القضاء على الغائب احتياط، وحقوق
الله تعالى مبنية على التخفيف لغناه.
ولو اشتمل على الحقين، كالسرقة، قضي بالمال دون القطع.
ولا بد من اعتراف الغائب أنه المحكوم عليه، أو قيام البينة بذلك، فلو أنكر
وكان الوصف منطبقا على غيره أو يمكن فيه المشاركة غالبا حلف، وإلا ألزم،
وكذا لو كان المشارك له في الوصف ميتا ودل تاريخ موته على براءته، ولو
اشتبه الحال وقف الحكم.
ولو كان المحكوم به غائبا، ميز العقار بالحد، وفي مثل الحيوان والقماش
نظر، بين تميزه بالصفات التي يعسر اجتماعها في غيره، كتحلية المحكوم عليه،
وبين ذكر القيمة خاصة وبين سماع البينة خاصة، فلعل المتشبث يحمله إلى بلد
الشهود، ولو امتنع لم يجبر إلا أن يتعذر انتقال الشهود إليه ويرى الحاكم صلاحا
397

في حمله أو بيعه على المدعي، فإن تلف قبل الوصول ضمن وإن لم يشتره، وكذا
لو تلف بين يدي الحاكم ولم تثبت دعواه، ويضمن أجرته أيضا، وحينئذ للمتشبث
الامتناع إلا بكفيل على العين أو القيمة.
فرع:
لو أنكر المدعى عليه وجود هذا المدعي به عنده فالقول قوله، إلا مع البينة أو
نكوله وحلف المدعي، فيحبس المدعى عليه حتى يحضر، أو يدعي تلفه فيحلف
ويغرم.
تتمة:
لا عبرة بكتاب قاض إلى قاض وإن ختم.
ولو أخبر أحدهما الآخر بالحكم أنفذه، ولو اقتصر على قوله: ثبت عندي لم
ينفذ، ولو أشهد شاهدين على حكمه حضرا الواقعة، أو صورها لهما فشهدا عند آخر
أنفذه.
ولا بد من كون الأول باقيا على العدالة ولا يقدح موته ولا عزله، أما المنفذ إليه
فتعيينه لغو، بل يجب على كل حاكم الإنفاذ وإن كان الأول باقيا على الشرائط.
فرع:
لو اقتصر القاضي على صفة مشتركة غالبة " كأحمد بن محمد " فأقر واحد
إنه المعنى بحكمه ألزم، وقيل: لا، لأنه قضاء مبهم فيبطل من أصله، وهو بعيد.
درس [4]:
في اليمين وهو مطلبان:
398

الأول:
محلها مجلس الحكم، إلا مع العذر كالمريض وغير البرزة، فيأذن الحاكم
في إحلافه حيث يمكن.
وشرطها توجه دعوى صحيحة ومطابقة الدعوى والإنكار، والأقرب جواز
أن يأتي المنكر بالأعم، وإن أجاب بالأخص ووقوعها بعد التماس الخصم،
وعرض القاضي وتوليه الإحلاف، إلا مع العذر.
وشرط الحالف البلوغ، فلو ادعى الصبي الاحتلام صدق من غير يمين، وإلا
دار، إلا أن يكتفي بإمكان البلوغ في اليمين، وكذا لو ادعى الأسير الإنبات بعلاج
فلا يمين.
ولو أوقع منبت عقدا فادعى الاستنبات ليفسده، فالأقرب عدم السماع إلا
ببينة، لمخالفة الظاهر، والفرق مراعاة الشبهة هناك لمكان القتل.
والعقل والاختيار والقصد وأن لا تكون الدعوى بما يوجب حدا.
وقال الشيخ: لو طلب القاذف يمين المقذوف على عدم الزنى أجيب، فيثبت
الحد إن حلف وإلا فلا، وهو حسن لتعلقه بحق الآدمي ونفي اليمين في الحد إذا لم
يتعلق به حق آدمي ومنكر السرقة يحلف لمكان المال ويتوجه اليمين في إنكار
النسب والنكاح والعتق والرجعة.
ولا يشترط في الحالف العدالة، بل ولا الإسلام ولا الذكورة، وإنما يحلف
من لو أقر بالحق ألزم، فلو ادعى على الموصي دين أو على الموكل والتمس حلف
الوصي أو الوكيل لم يجز.
ولو أنكر الغريم وكالة مدعيها، وكان الحق عينا لم يحلف، ولو كان دينا
فوجهان، أقربهما عدم الحلف، لأنه لا يؤمر بتسليم لا ينتفع به، وكذا لو ادعى عليه
إحالة غريمه فأنكر، ويحتمل هنا اليمين لوجوب التسليم لو أقر، لتعلقه بحق
المدعي، فلا يترك لتجويز ظلم المحيل.
والحلف أبدا على القطع، ففي فعل نفسه نفيا وإثباتا وفعل غيره إثباتا
399

لا يكفي نفي العلم، وكذا جناية ماشيته التي فرط في حفظها على قول.
وفي نفي فعل غيره ونفي جناية عبده يحلف على عدم العلم، وضابط العلم
ما لا ريب فيه، فلا يكفي وجود خطه ولا خط مورثه وإن ظن، والنية للمحق منهما
فيوازي من ألزمه المبطل باليمين، وتبطل لو استثنى فيها.
ولو اختلف رأي الحاكم والحالف فالمعتبر الحاكم ظاهرا وباطنا، وإن
كان المحكوم عليه مجتهدا على الأقرب.
الثاني:
الحالف إما منكر، أو مدع مع الرد أو النكول أو اللوث في الدم أو مع
الشاهد الواحد أو مع الشاهدين في الميت وشبهه.
ولو أعرض المدعي عن بينته أو عن شاهده وطلب إحلاف المنكر صح،
سواء كان قد سمعها الحاكم أو لا، فلو رجع فالظاهر الجواز ما لم يحلف المنكر،
ومنعه الشيخ كيمين الرد لو بذلها ثم استردها، وفي الأصل منع، ولو نكل
المنكر والحالة هذه ردت اليمين على المدعي قطعا، إذ ليست ما بذله، بل هي يمين
الرد فلا يلزم من سقوط تلك على قول الشيخ سقوط هذه، وليس الإعراض طعنا
في الشهود.
ولو صرح بكذبهم فطعن، فالأقرب عدم بطلان دعواه، والفائدة في إقامة
المنكر شاهدا على الطعن فأنكر، فعلى البطلان يحلف معه لا على الصحة، لأن
الطعن لا يثبت بالشاهد واليمين وإسقاط الدعوى يثبت بهما.
ولا يمين على الوارث إلا أن يدعي عليه العلم بالحق، أو بموت المورث وأن
في يده مالا له، وفي الأول يحلف على نفي العلم، وفي الأخير على البت.
ولا يمين لإثبات مال الغير وفيما له به تعلق نظر، كغريم الميت إذا قام له
شاهد بدين، والمرتهن إذا قام شاهد بملك الراهن وامتنع من اليمين من النفع
ومن ثبوت الملك أولا للغير.
وإذا حلف الورثة أو الموصى لهم، قسم بينهم على الاستحقاق لا على
400

الأيمان، ولو نكل بعضهم فلا نصيب له، ويؤخر نصيب غير الكامل حتى يكمل،
فإن مات فلوارثه.
ولا يجوز الاقتصار على يمين واحدة من المنكر مع تعدد المدعي، فإن رضوا
بالواحدة، ففي جوازه نظر من حيث إنه لا يزيد عن إسقاط الحق ومن اقتضاء
الدعوى اليمين، والأصل عدم التداخل، والقولان نقلهما ابن إدريس.
ولا يمين على منكر حولان الحول، أو بقاء النصاب أو مدعي إخراج الزكاة،
أو نقص الخرص المعتاد، أو ادعى الإسلام قبل الحول ليسلم من الجزية.
والتركة بحكم مال الميت المديون عند الشيخ في المبسوط والخلاف،
لقوله تعالى " من بعد وصية يوصي بها أو دين " وقيل: يملكها الوارث، وإلا لبقيت
بغير مالك.
ولم يشارك ابن الابن عمه لو مات أبوه بعد جده قبل إيفاء الدين.
والفائدة في بيعها قبل الإيفاء، وفي التعلق بالنماء بعد الموت والزكاة، لا في
المحاكمة والتخيير في جهة القضاء، فإنهما ثابتان على القولين ولو لم يستوعبها
الدين انتقل الفاضل عن الدين إليهم على القولين.
ولا يمين إلا بالله، وهو كاف إلا في المجوسي فيضيف إليه مثل " خالق النور
والظلمة " إماطة لتأويله.
ويجوز الحلف بالأسماء الخاصة ك‍ " الرحمن ".
ولا يجوز الحلف بغير الله وأسمائه كالكتب المنزلة والأنبياء والأئمة عليهم
السلام، وفي تحريمه في غير الدعوى نظر من الخبر والحمل على الكراهة.
أما الحلف بالطلاق والعتق والكفر والبراءة فحرام قطعا.
ويستحب التغليظ في الحقوق مطلقا، إلا المال فيشترط بلوغه نصاب القطع.
فبالقول: " والله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الطالب الغالب الضار
النافع المدرك المهلك، الذي يعلم من السر ما يعلمه من العلانية ".
وبالمكان كالكعبة والمقام والأقصى تحت الصخرة والمساجد في
401

المحراب.
والزمان كالجمعة والعيدين وبعد العصر.
والكافر يغلظ عليه بمعتقده، ولو امتنع الحالف من التغليظ لم يجبر، ولو
حلف على عدمه ففي انعقاد يمينه نظر، من اشتمالها على ترك المستحب ومن
توهم اختصاص الاستحباب بالحاكم.
وحلف الأخرس بالإشارة، وفي رواية محمد بن مسلم عن الصادق عليه
السلام: إن عليا عليه السلام كتب صورة اليمين على نحو ما سلف من التغليظ في
صحيفة، ثم خلطه وأمره بشربه، فامتنع فألزمه الدين، وفيه دلالة على القضاء
بالنكول.
درس [5]:
في الشاهد واليمين، وفيه بحثان:
الأول:
يثبت القضاء بالشاهد واليمين عن النبي صلى الله عليه وآله، وعلي
عليه السلام.
ومحله المال، أو ما غايته المال، كالدين، وعقد المعاوضة، وجناية الخطأ،
وشبيه العمد، وقتل الحر العبد، والمسلم الكافر، والأب ابنه، والمنقلة، والمأمومة،
والجائفة.
وفي النكاح أوجه، ثالثها ثبوته بهما إن كان المدعي المرأة.
والأقرب في الوقف الثبوت، إذا كان على معين لانتقاله إليه، على الأقوى.
وفي العتق قولان، وينحسب " أي ينجر " عليه التدبير والكتابة والاستيلاد.
نعم لا يقبل في الطلاق والخلع والرجعة والقذف والقصاص والولاء
والولادة وعيوب الرجل والمرأة.
ولو اشتمل الحق على الأمرين ثبت المال، كالسرقة، ولو ادعى إنه رمى زيدا
402

عمدا فقتله، ونفذ السهم إلى عمرو ثبت عمرو.
وفي الهاشمة التابعة للموضحة نظر، من الشك في تغاير الفعلين.
فروع أربعة:
الأول: لو قال الخارج: هذا العبد كان ملكي فحررته، فشهد له عدل، ففي
حلفه قولان، يلتفتان إلى ثبوت العتق بذلك، أو إن المدعي به في الحال مال.
الثاني: لو ادعى استيلاد أمة في يد الغير، وأقام عدلا، حلف وملكها وثبت لها
الاستيلاد بإقراره، ولا يثبت نسب الولد، فإن ملكها يوما ومات عتقت من نصيبه.
الثالث: لو أقام شاهدا على خلعها، حلف لأن غايته المال، بخلاف ما لو
أقامت عليه شاهدا بالخلع.
الرابع: قال الفاضل: لو باع عينا، فادعيت، فصدق المتبايعان مدعيها وأقاما
شاهدا ببيعها من البائع، حلف البائع، فإن امتنع حلف المشتري.
ويشترط تقدم الشهادة والتعديل على اليمين، والقضاء بهما على الأقوى،
فيغرم الشاهد النصف لو رجع.
وفي اكتفاء ولد الناكل من الورثة بالشهادة السابقة وجهان، ولا إشكال في
اكتفاء الغائب بها، وكذا الصبي والمجنون، وفي عدم اكتفاء الغائب من الموصى
لهم بها، لانفصال ملكهم، بخلاف الورثة فإن الملك يثبت أولا للمورث وهو
واحد، ولو أحضر الوارث شاهدا آخر، قطع الفاضل: بوجوب إعادة الشهادة
لأنها دعوى جديدة، ويشكل بعدم اشتراط اجتماع الشهود هنا.
ولو حلف الحاضر من الورثة أقر نصيب الغائب في يد المنكر في وجه،
وانتزعه الحاكم في آخر ثم الغائب إذا حلف شارك الأول في العين دون الدين.
ويشكل بالفتوى إن الشريك في الدين يأخذ نصيبه من شريكه.
403

فرع:
لو أقام الحاضر أو الكامل شاهدين أخذ نصيبه، ونصيب الباقي يأخذه
الحاكم عينا كان أو دينا، لثبوت الحق وكونه وليا للغائب وغير الكامل، وربما
توجه في الدين إبقاؤه في ذمة المدعى عليه وفيه بعد.
البحث الثاني: في اللواحق:
لو أقام بعض الورثة شاهدا بالوقف عليهم وعلى نسلهم حلفوا، فإن امتنعوا
حكم بنصيبهم وقفا بإقرارهم، إلا مع مصادفة الدين المستوعب، إلا أن يقضوه،
وكذا الوصية، ويحكم بنصيب الآخرين ميراثا.
ولو حلف بعض ثبت نصيب الحالف وقفا، والباقي طلق بالنسبة إلى الدين
والوصية.
ثم البطن الثاني لا يمين عليهم إن كان مرتبا، وإن كان تشريكا حلفوا، إن
حصل لهم علم بالتسامع الذي لا يبلغ الحاكم وشبهه " كالحضور " وقيل: إن
المرتب كذلك، لأن الأخذ من الواقف، ولو نكل البطن الأول حلف الثاني في
الموضعين، وربما قيل: ببطلان حقهم في وقف الترتيب بناء على إنهم يأخذون
من البطن الأول وقد بطل حقهم بالنكول.
ولو أثبت إخوة ثلاثة وقف تشريك، فوجد لأحدهم ولد، فله الربع إن
كمل وحلف، وإن نكل عاد إلى الإخوة عند الشيخ، لأنه بامتناعه كالمعدوم،
ورد باعتراف الإخوة بأنهم لا يستحقونه، فيحتمل صرفه إلى الناكل، ومنع
بعضهم من رده إلى المدعى عليه لأنه أخذ منه بحجة شرعية، ويشكل بأن قاعدة
اليمين مع الشاهد ينفيه.
ولو مات أحد الإخوة قبل كماله، عزل له فوق الربع نصف سدس منذ
موته، فإن حلف أخذ وإلا ففيه الأوجه.
ويثبت بالشاهد الواحد في قتل العمد اللوث، فيحلف المدعي، إلا أن الأيمان
عدد القسامة، ولا فرق بين شهادة العدل الواحد والمرأتين هنا، فيثبت بهما مع
404

اليمين ما يثبت به، وربما قيل: لا يثبت بالمرأتين واليمين وهو متروك.
درس [6]:
في تقابل الدعوى في الأملاك.
لو تداعيا عينا متشبثين ولا بينة حلفا واقتسماها، وكذا لو نكلا، وإلا فهي
للحالف، فإن كان قد حلف يمين النفي حلف بعد نكول الآخر للإثبات، وإلا
حلف يمينا جامعة تقدم فيها النفي أو الإثبات.
ولو تشبث أحدهما حلف، وإلا حلف الخارج وانتزعها.
ولو خرجا فذو اليد من صدقه الثالث وعليه اليمين للآخر، فإن امتنع حلف
الآخر وأغرم، ولو صدقهما فهي لهما بعد حلفهما أو نكولهما، ولهما إحلافه إن ادعيا
علمه، ولو أنكرهما حلف ولو قال: هي لأحدكما ولا أعرفه، احتمل القرعة
واليمين، ولو كان لأحدهما بينة فهي له في الصور كلها.
وإن أقاما بينتين وخرجا، فهي للأعدل شهودا، فإن تساووا فالأكثر مع
اليمين قاله ابن بابويه والشيخ في النهاية، ومع التساوي القرعة واليمين، فإن
امتنع حلف الآخر وأخذ، فإن امتنعا قسمت نصفين، وإن تشبثا فهي لهما، وإن
خرج أحدهما قال أكثر القدماء: يرجح بالعدالة والكثرة، ومع التساوي
الخارج أخذا من رواية أبي بصير ومنصور عن الصادق عليه السلام.
وإن تشبث أحدهما، واختلف قولا الشيخ، ففي الخلاف الخارج أولى
مطلقا، وفي التهذيب إن شهدت بينة الداخل بالسبب فهي أولى ولو شهدت بينة
الخارج بالسبب.
ورواية إسحاق بن عمار أن عليا عليه السلام قضى لداخل مع يمينه، ولو
قضينا ببينة الداخل ففي وجوب اليمين قول للفاضل، ولم يوجبها في المبسوط
بناء على أن البينتين لا تتساقطان.
واختلف في ترجيح تقديم الملك على اليد، فأثبته في المبسوط ونفاه في
405

الخلاف محتجا بالإجماع، على أن صاحب اليد أولى، ولو شهدت بينة الخارج
بسبق يده ولم يتعرض للملك له، اختلف قول الشيخ في الكتابين، فتارة رجح
ذا اليد الآن، وتارة رجح من سبقت له اليد، والثاني خيرة المختلف، ويتفرع عليه
ما لو ادعى الخارج شراء العين من آخر ببينة، فإن شهدت للبائع بالملك فهو
كقديم الملك، وإن شهدت له بالتسليم فهو كقديم اليد، ولو لم يتعرض للملك
والتسليم لم تسمع قولا واحدا.
ولو أمكن التوفيق بين الشهود فلا تعارض، ويتحقق التعارض بين الشاهدين و
الشاهد والمرأتين، لا الشاهد واليمين.
وفي فصل الرجوع عن الشهادة من المبسوط، لو تقابل الشاهدان والشاهد
واليمين في الوصية بالثلث لاثنين أقرع، وهو صريح في التعارض والحكم
بالقسمة فيما يتصور فيه الشركة، بخلاف النكاح والنسب فحينئذ تكفي القرعة
في تحقق الحكم.
ولو أوجبنا اليمين فامتنعا، خرجا عن المدعى به، وإذا انتزع الملك ببينة
مطلقة، حكم بتقديم ملك صاحبها على الشهادة بأقل زمان لا غير، فعلى هذا
لا يرجع المشتري على البائع، وتكون الثمرة والحمل للمدعى عليه.
فروع:
الأول: الأقرب سماع بينة الداخل للتسجيل وإن لم يكن خصم، وكذا لدفع
اليمين عنه، كما في دعوى الودعي الرد فإنها مقبولة بيمينه ومع ذلك تسمع بينته
لدفع اليمين.
الثاني: لو شهدت بينة الخارج بالملك وبينة الداخل بالشراء من الخارج
فلا تعارض، فتعمل ببينته، نعم تزال يده قبل إقامتها لو كانت غائبة، كما تزال يد
مدعي هبة العين، وكما يؤمر مدعي الإبراء بتسليم الدين ثم يثبت الإبراء، أما لو
كانت البينة حاضرة سمعت قبل إزالة اليد وقبل التسليم.
406

الثالث: لو تشبثا فادعى أحدهما الكل والآخر النصف، حلف الأول
واقتسماها، ولو خرجا أقرع بينهما في النصف مع اليمين، ولو امتنعا فللموعب
ثلاثة الأرباع، وللآخر الربع.
وقال ابن الجنيد: يقسم على ثلاثة إذا تشبثا، سواء أقاما بينة أو لا، نظرا إلى
العول، وكذا في أمثالها من الفروض، وبه أفتى الفاضل في المختلف، لأن
المنازعة وقعت في أجزاء غير متعينة ولا مشار إليها، فهي كضرب الديان مع
قصور المال في المفلس والميت.
الرابع: لو تشبث مدعي الكل والنصف والثلث ولا بينة فهي أثلاث، ويحلفان
للموعب، ويحلف الموعب وذو الثلث لذي النصف، ولا يحلفان لذي الثلث.
ولو تعارضت بيناتهم فعلى الحكم للداخل كما قلناه وعلى الآخر لا بينة
لمدعي الثلث، وينزع من يده للموعب ثلاثة أرباعه، ويقارع ذا النصف في ربعه،
ويقسم مع النكول والثلث الذي في يده للموعب، ولذي النصف ربع ما في يد
الموعب، وتصح من أربعة وعشرين ثم تطوي إلى ثمانية.
الخامس: لو جامعهم مدعي الثلثين وأيديهم خارجة، وتعارضت بيناتهم،
فللموعب الثلث ويقارع ذا الثلثين في السدس، ويتقارعان مع ذي النصف في
سدس آخر، ويتقارع الجميع في الثلث، ومع الامتناع من اليمين يقسم، ويصح
من ستة وثلاثين، ولو فقدت البينات فكذلك، ولو أقام اثنان منهم البينة أو ثلاثة
أزيلت دعوى الفاقد ما لم يبق شئ، وقسم ما يقع فيه التعارض بعد القرعة
والنكول.
السادس: الصورة بحالها وتشبثوا، فمع عدم البينة أو تقديم الداخل يقسم
أرباعا ويحلف كل ثلاثة أيمان، ولو رضوا بيمين واحدة ففيه الخلاف، ولو قدمنا
الخارج جمع كل ثلاثة على ما في يد الرابع والفاضل عن الدعاوي للموعب،
ويقارع في المدعى به ويحلف، فإن نكل حلف الآخر، فإن نكلوا قسم، وتصح
من اثنين وسبعين، ومنه يعلم لو كانوا أزيد كالخمسة فصاعدا.
407

السابع: لو تشبث ثلاثة، فادعى أحدهم النصف والآخر الثلث والآخر
السدس، فإن صدق مدعي السدس مدعي النصف فلا نزاع، فيسلم إليه
السدس.
وإن عزاه إلى غائب، فإن أقام مدعي النصف البينة بتملك النصف، انتزع
كمال السدس من يد مدعي السدس، إن صدق مدعي النصف مدعي الثلث على
تملك الثلث، وإن كذبه انتزع من كل منهما نصف السدس، لأنه ادعى سدسا
مشاعا فليس له تخصيص أحدهما به.
وإن اعترف مدعي النصف بالسدس للغائب، وقال: إنما استولى على
سدسي مدعي الثلث، أمكن انتزاعه من مدعي الثلث إن فقد البينة، وإن كان له بينة
وتحقق التعارض، بنى على ترجيح الداخل والخارج.
درس [7]:
في العقود وفيه مسائل.
الأولى: لو ادعيا الشراء من المتشبث وإقباض الثمن وأقاما بينتين متعارضتين،
إما لاتحاد التاريخ أو لإطلاقه فيهما، أو في إحديهما مع تساويهما عدالة وعددا،
فلا عبرة بتصديق البائع هنا على الأقوى، ويقرع عند الشيخ، ويحتمل إعمالهما
فيقسم والتساقط فيحلف المدعى عليه لهما لو أكذبهما.
وعلى القرعة يرجع من لم يخرجه بالثمن إذ لا تعارض فيه، ولو نكل
الخارج عن اليمين حلف الآخر، ولو نكلا قسمت ويرجع كل منهما بنصف
الثمن، ولهما الفسخ عند الشيخ لعيب التبعيض، ولعله يرى أن التنزه عن اليمين
عذر.
ولو فسخ أحدهما فللآخر الجميع، وفيه أوجه ثالثها وهو مختار الشيخ في
المبسوط، الفرق بين كون الآخذ الأول أو الثاني، لأن القضاء للأول بالنصف إذا
لم يتعقبه فسخ يقرر ملكه عليه بحكم الحاكم، فليس له نقضه بأخذ الجميع.
408

ونعني بالأول الذي فاتحة القاضي بتسليم النصف فرضي، بخلاف ما إذا
فسخ المفاتح، فإن الثاني يأخذ الجميع قطعا، لإيجابه بينة الجميع ما لم ينازع.
والأقرب أن لكل منهما الأخذ، وفي وجوبه حينئذ احتمال من قضاء الشرع
بالقسمة، ومن زوال النزاع وهو أولى.
الثانية: عكس الأولى، تداعى اثنان بيع الدار من آخر وغرضهما الثمن منه،
فإن صدقهما قضي عليه، وإلا فالقول قوله، فإن أقاما بينتين متحدتي التاريخ أقرع،
ومع النكول يقسم الثمن بينهما على الأصح، ويحتمل القسمة ابتداء والتساقط،
ولو اختلف التاريخ قضي عليه بالثمنين.
ولو أطلقتا أو إحديهما قيل: بالتعارض، ويحتمل القضاء بالثمنين لوجوب
التوفيق بين البينتين مهما أمكن، ويمكن اختلاف التاريخ هنا، والقولان حكاهما
الشيخ ساكتا عليهما، والأقرب الثاني.
لا يقال يمكن في المسألة السابقة التوفيق مع اختلاف التاريخ فيحكم بصحة
البيعين، ويملك البائع الثمنين بأن يبيعها ثم يشتريها ثم يبيعها على الآخر، لأنا
نقول: صورة البيع ليست كافية لجواز أن يبيع مال غيره، بخلاف الشراء فإنه
لا يمكن أن يشتري مال نفسه، فشراؤه من الثاني مبطل ملكه.
الثالثة: بائعان ومشتريان، بأن ادعى كل منهما إنه اشتراها من آخر وأقبضه
الثمن وأقاما بينتين، فإن تشبثا قسمت بينهما ورجع كل على بائعه بنصف الثمن،
وإن تشبث أحدهما بنى على ترجيح الداخل أو الخارج، فيرجع المرجوح
بالثمن وإن خرجا وتكافات البينتان أقرع على الأقوى.
ومع النكول يقسم ويرجع كل على بائعه بنصف الثمن، سواء كانت في
يد أحد البائعين أو يد أجنبي، ولكل منهما الفسخ، وليس للآخر أخذ الجميع لو
فسخ أحدهما لعدم عوده إلى بائعه.
الرابعة: ادعى عبد العتق، وادعى آخر شراءه من السيد، وتكافأت بينتاهما،
فإن كان في يد المشتري فهو داخل والعبد خارج، فيجري القولان، وإن كان في
409

يد السيد احتمل التنصيف لإعمال البينتين وسقوطهما، فيحلف البائع.
وإن أعملنا إحداهما أقرع، ومع النكول يتحرر نصفه ويملك نصفه، فإن
فسخ عتق كله، وإن أمسك ففي التقويم نظر من قيام البينة بالمباشرة ومن إعمال
بينة الشراء في النصف، وهو ينفي أصل العتق، فلا يحكم بثبوت العتق بالنسبة
إلى هذا النصف، ولأنه عتق قهري لا يقال تقدم بينة العبد لأن له يدا على نفسه إن
قدمنا الداخل، وإلا قدمت بينة الشراء، لأنا نقول: إنما يصير له يد بالعتق، وإلا فهو
في يد السيد أو المشتري.
الخامسة: ادعى صاحب الدار إجارة بيت بعشرة، فقال المستأجر: إنما
اكتريت جميع الدار بعشرة ولا بينة، احتمل تقديم المؤجر للأصل والتحالف،
وهو فتوى الشيخ.
فإن كان بعد مضي المدة وتحالفا وجبت أجرة المثل على المستأجر.
وإن أقاما بينة عمل على الأسبق، فإن كان بينة الدار فلا بحث، وإن كان بينة
البيت صح العقدان، إلا أنه ينقص من العشرة نسبة ما بين البيت والدار في القيمة،
ويحتمل الحكم بصحة الإجارتين مع عدم التعارض، لأن الاستئجار الثاني يبطل
ملك المستأجر فيما سبق، فإن اتحد التاريخ أعملتا أو سقطتا أو أقرع مع اليمين.
درس [8]:
في الاختلاف في الإرث وشبهه، وفيه مسائل:
الأولى: ماتت امرأة وولدها، فادعى الزوج سبق موتها، والأخ سبق موت
ولدها، ولا بينة، فتركة الولد لأبيه، وتركة الزوجة بينهما بعد اليمينين، ولو أقاما
بينتين متكافئتين أقرع.
الثانية: لو مات مسلم عن ولدين، فادعى الكافر منهما أو الرق سبق إسلامه أو
عتقه على الموت ليشارك، وأنكره أخوه، حلف على نفي العلم إن ادعاه عليه
وجاز التركة، ولو تعين وقت الإسلام واختلفا في تقدم موت الأب عليه حلف
410

مدعي تأخر الموت، ولو أقاما بينتين متناقضتين فالقرعة، ويحتمل تقديم بينة
المسلم هنا لاشتمالها على زيادة، لأن التاريخ الآخر تتفق البينتان فيه على الموت،
ويضعف بأن بينة التأخر تشهد بالحياة في زمان بينة التقدم فتحقق التناقض،
وأضعف من هذا الاحتمال تقديم بينة التأخر بناء على أنه قد يغمى عليه في التاريخ
المتقدم، فيظن الشاهد أن موته لأنه قدح في الشاهد.
نعم لو اقتصر على الإخبار بالموت من غير ذكر لواحقه القاضية بالعلم،
توجه الاحتمال، ولا إشكال في تقديم بينة التأخر لو شهدت بتلك القرائن بأسرها،
وزادت إنه كان مغمى عليه ثم ظهرت حياته بعد ذلك حتى مات، كما أنه لا
إشكال في تقديم بينة التقدم لو شهدت أنه نبش من قبره في تاريخ التأخر ثم جعل
في منزله وأعلم بموته، إذا لم تشهد بينة التأخر بأنه كان حيا في الزمان المتخلل
بين التاريخين.
الثالثة: ادعى أجنبي شراء العين من المورث، أو الزوجة أصداقها، فادعى
الوارث الإرث وأقاما بينة، بنى على تقديم الخارج، والوجه تقديمه هنا قطعا،
لشهادة بينته بما يخفى على الأخرى، ولو كانت العين في يد أجنبي لا يدعيها
فكذلك.
أما لو تناقضا قطعا بأن يدعي الشراء في وقت بعينه، فتشهد البينة بموته قبل
ذلك، فالقرعة قوية، وكذا لو شهدت بأنه كان غائبا عن موضع دعوى العقد
بحيث لا يمكن حضوره في ذلك الوقت.
الرابعة: ادعى عينا في يد أجنبي له ولشريكه في الإرث وأقام بينة ذات خبرة
باطنة ومعرفة متقادمة، فشهدت بأنها لا تعلم وارثا غيرهما، سلمت إليهما، ولو كان
أحدهما غائبا سلم إلى المدعي نصيبه، ولو لم تكمل البينة بأن شهدت بنفي علمها
وارثا آخر، ولا خبرة لها أو لها خبرة ولم تشهد بنفي وارث آخر، لم يسلم إلى
المدعي شيئا إلا بعد البحث، بحيث لو كان وارث أظهر فيسلم مع الضمان بناء
على جواز ضمان الأعيان، والأقرب عدم الاكتفاء بالكفالة.
411

ولو كان الوارث محجوبا أعطي مع الكمال، وأرجئ لا معه، فإذا بحث دفع
إليه بضمين.
ولو كان ذا فرض أعطي الأقل، إلا مع الكمال أو البحث والضمان.
ولو صدق المتشبث المدعي على عدم وارث غيره، فلا عبرة به إن كان
المدعى به عينا على الأقوى، وإن كان دينا أمر بالتسليم، والفرق المنع من
التصرف في مال غيره لا في مال نفسه.
الخامسة: علق عتق عبده بعده بقتله، فأقام بينة به، وادعى الوارث موته ببينة،
فإن تناقضتا جزما فالقرعة، وإلا قدمت بينة القتل لأن كل قتيل ميت وليس كل
ميت قتيلا.
وقال الشيخ: يقرع للتعارض وأطلق، وابن إدريس تقدم بينة العبد للزيادة
وأطلق، وفي المختلف تقدم بينته لأنه خارج.
السادسة: خلف عبدين كل منهما ثلث ماله، فأقام كل منهما بينة بالعتق سواء
كان الشهود وراثا أو لا.
فإن علم السابق صح خاصة، وإن جهل أو علم الاقتران أقرع، وحلف
الخارج إن ادعيا السبق، وإلا حلف الآخر، وإلا تحرر نصف كل منهما، واحتمال
إعمال البينتين فيقسم كما في الأملاك باطل عندنا، للنص على القرعة في العبيد.
ولو شهدت البينتان بالسبق فالقرعة أيضا، لكن إن خرجت على من شهد له
الوارثان فلا بحث، وإن خرجت على الآخر احتمل عتق ثلثي الثاني.
السابعة: الصورة بحالها إلا أن قيمة أحدهما سدس المال، والآخر ثلثه.
فإن خرج بالقرعة الخسيس عتق كله ومن الآخر نصفه، وإلا عتق النفيس
وحده.
ولو كانت الشهادة بالوصية بالعتق فكذلك في القرعة مع جهل الحال أو
علم الاقتران.
الثامنة: شهد أجنبيان بالوصية بعتق سالم الثلث ووارثان برجوعه عنه إلى
412

غانم الثلث، احتمل القبول لخروج الثلث من يده، ولا نظر إلى أعيان الأموال
وعدمه لأنه كالخصم للمرجوع عنه، فيحتمل على هذا عتق سالم وثلثي غانم.
وكذا لو شهد لزيد عدلان بالوصية بعين فشهد وارثان أنه رجع عنها إلى
عمرو.
درس [9]:
في اللواحق.
لا يحلق الولد بأبوين فصاعدا عندنا، ولا بالقائف وخبر المدلجي مأول، وإنما
يلحق بالفراش المنفردة والدعوى المتفردة، ولو اشترك الفراش أو الدعوى
فالقرعة مع عدم البينة أو وجودها من الطرفين.
وتقبل دعوى من عليه ولاء وإن تضمن إزالة إرث المولى.
ولو تداعى الزوجان متاع البيت ففي صحيحة رفاعة عن الصادق عليه
السلام: له ما للرجال ولها ما للنساء ويقسم بينهما ما يصلح لهما، وعليها الشيخ
في الخلاف.
وفي صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج، عنه عليه السلام هو للمرأة، وعليها
وعليه الاستبصار، ويمكن حملها على ما يصلح للنساء توفيقا.
وفي المبسوط يقسم بينهما على الإطلاق، سواء كانت الدار لهما أو لا،
وسواء كانت الزوجية باقية أو لا وسواء كان بينهما أو بين الوارث، والعمل على
الأول.
ولو ادعى أبو الميتة إعارتها بعض متاعها فكغيره، وفي مكاتبة جعفر بن
عيسى: يجوز بغير بينة، وحمل على حذف حرف الاستفهام الإنكاري والحمل
بعيد والحكم أبعد.
واستحب الشيخ في المبسوط أمر الخصمين بالصلح، والحلبي يعرض
عليهما الصلح فإن أجابا رفعهما إلى من يتوسط بينهما ولا يتولاه بنفسه، لأنه نصب
413

لقطع الحكم لا للشفاعة، وقال المفيد: ليس للحاكم الشفاعة بالنظرة ولا غيرها،
بل يبت الحكم، وقطع ابن إدريس بجواز أن يشير عليهما بالصلح ويأمرهما به،
ونقل عن بعض المتفقهة منعه ونسبه إلى الخطأ، وفي التحقيق لا نزاع في المسألة.
ومنع الحلبي التوصل بحكم المخالف إلى الحق إذا كان الغريمان من أهل
الحق، ولو كان أحدهما مخالفا جاز، وظاهره أن ذلك مع إمكان التوصل
بغيره.
وحكم بوجوب إخراج المجوسين إلى الجمعة والعيدين لرواية عبد الرحمن
بن سيابة عن الصادق عليه السلام، وتوقف في وجوبه ابن إدريس لعدم تواتر
الخبر وللشك في الإجماع عليه.
واعتبر الحلبي في القاضي سعة الحلم ليدفع به سفه السفيه، والزهد، وحرم
مجالسة حكام الجور، لرواية محمد بن مسلم عن الباقر عليه السلام، ولم يجوز
الحكم بالعلم لغير المعصوم في حقوق الله تعالى، وحرم الدعوى إلا مع العلم،
فلو صرح بالتهمة أو لوح بذلك لم تسمع دعواه، وقال: ليجعل القاضي للدرس
والمذاكرة والمناظرة وقتا.
وقال الصدوقان وجماعة: تجب التسوية بين الخصمين في النظر، وهو حسن
مروي عن علي عليه السلام، واستحبه سلار والفاضل في المختلف.
وأوجب ابن الجنيد في التزكية أن يقول عدل: علي ولي، وجعله في
المبسوط أحوط.
واعتبر ابن الجنيد في تصرف الوصي على اليتيم والسفيه مراجعة الحاكم،
وربما حمل على الندب.
ولو التمس الخصم حبس خصمه بعد إقامة البينة بالحق للتعديل أجيب عند
الشيخ، وكذا لو أقام العبد بينة بالعتق وسأل التفريق حتى يعدلها أجيب عنده،
لأصالة العدالة.
وقد صرح في الخلاف بالاكتفاء بالإسلام وعدم معرفة الفسق محتجا
414

بالإجماع وبأن النبي صلى الله عليه وآله، ما كان يبحث عن الاستزكاء، وكذا
الصحابة والتابعون، وإنما أحدثه شريك بن عبد الله القاضي، ومال إليه في
المبسوط عملا بظاهر الأخبار، كمرسلة يونس عن الصادق عليه السلام إذا كان
ظاهره مأمونا جازت شهادته ولا يسأل عن باطنه.
ورواية ابن أبي يعفور: تعطي اشتراط علم العدالة، وعليه المعظم.
وأوجب ابن حمزة العمل على المعسر إذا كان له حرفة، لرواية السكوني عن
الصادق عليه السلام: إن شئتم أجروه وإن شئتم استعملوه، ورواه في النهاية
وظاهره في الخلاف عدم وجوب التكسب على المعسر، لقوله تعالى " فنظرة إلى
ميسرة " وقطع به ابن إدريس وفي المختلف اختار الأول، لأن القادر على
التكسب ليس بمعسر حتى ينظر، وهو حسن.
ولا يجب على الغريم دفع الوثيقة إلى المديون عينا كان الحق أو دينا، لأنها
حجة له، لو ظهر استحقاق المقبوض نعم يجب الإشهاد، وقال ابن حمزة: يجب
إن كان الحق دينا وجعل تولي القضاء مستحبا لمن ليس له كفاية في المعاش،
أو له كفاية ولا شهرة له بالفضل، فإن كان له كفاية وشهرة كره له.
ويقضي في الخص لصاحب المعاقد، عملا برواية جابر المشهورة في قضاء
علي عليه السلام.
ولو التمس أحد الذميين حكم الإسلام أجبر الآخر، لرواية هارون بن حمزة
عن الصادق عليه السلام.
وروى البرقي عن علي عليه السلام: إنه قال: يجب على الإمام أن يحبس
فساق العلماء، وجهال الأطباء ومغاليس الأكرياء.
415

كتاب القسمة
يستحب للقاضي نصب قاسم كامل مؤمن عدل عارف بالحساب، وإن كان
عبدا ولا يراعى في من تراضى به الخصمان ذلك، ولو اشتملت على تقويم لم يكف
الواحد، بل لا بد من العدلين، إلا مع رضي الشريكين.
وقسمة المنصوب تلزم بالقرعة وغيره، يعتبر بعدها تراضيهما في قسمة الرد
خاصة، وأجرته على المتقاسمين بالنسبة على الأقوى، إن لم يكن بيت مال.
وكل متساوي الأجزاء يجبر الشركاء على قسمته عند طلب بعضهم،
وتجوز القسمة خرصا، إذ ليست بيعا، قال الشيخ، والأحوط اعتبار خارصين.
ومختلف الأجزاء حيث لا يفحش نقص القيمة، ولا اشتمل على رد كذلك،
وإلا فهي قسمة تراض.
ولو طلب أحدهم قسمة الأعيان المتساوية الأجزاء بعضها في بعض، لم
يجبر الممتنع، بل يقسم كل نوع على حدته.
ولو أمكن تعديل الثياب والعبيد بالقسمة، قسمت قسمة إجبار، ولو تضرر
أحد الشريكين دون الآخر بالقسمة أجبر غير المتضرر بطلب الآخر دون العكس.
وفي المبسوط لا يجبر أحدهما لتضرر الطالب، وهذا حسن إن فسر التضرر
بعدم الانتفاع، وإن فسر بنقص القيمة فالأول أحسن.
والعلو والسفل في الدار يقسم بعضا في بعض، مع إمكان التعديل إجبارا،
417

ولو طلب قسمة كل على حدته لم يجبر.
وتقسم الأرض وإن كان فيها زرع ولما يقسم، ولو اقتسماه جاز إن ظهر،
وفي المبسوط لا يجوز لعدم إمكان تعديله وإن كان سنبلا، أما لو كان قصيلا فإنه
يجوز قسمته.
ولو طلبا قسمة الأرض والزرع بعضا في بعضا في بعض فلا إجبار، وكذا
القرحان المتعددة، والدكاكين المتجاورة.
وقال القاضي: إذا استوت الدور والأقرحة في الرغبات قسمت بعضا في
بعض، قال: وكذا لو تضرر بعضهم بقسمة كل على حدته جمع حقه في ناحية،
بخلاف البستان المختلف الأنواع فإنه يقسم بعضا في بعض.
وتجوز قسمة الوقف من الطلق لا الوقف وإن تعدد الواقف والمصروف،
وإذا أريد قسمة الأرض مثلا، صححت المسألة على سهامهم، ثم عدلت بالتقويم لا
بالمساحة، وجعل للسهام أول يعينه المتقاسمون، وإلا الحاكم.
وتكتب أسماؤهم لا أسماء السهام حذرا من التفريق، وتردد في المبسوط في
كتابة الرقاع بعدد الرؤوس أو بعدد السهام نظرا إلى سرعة خروج صاحب
الأكثر، وحصول الغرض.
ولو ادعى الشريك الغلط في القسمة أو في التقويم ولا بينة، حلف الآخر،
وفي المبسوط: إذا ادعى الغلط في قسمة التراضي، كاختصاص أحدهما بالعلو
والآخر بالسفل، أو كان فيهما رد وكانا قد اقتسما بأنفسهما، لم يلتفت إليه، لأنه إن
كان مبطلا فظاهر وإن كان محقا فقد رضي بترك هذه الفضلة، ويشكل بإمكان
عدم علمه بها حال القسمة، فالوجه السماع حينئذ.
قيل: ولا تقبل شهادة القاسم إن كان بأجرة، وإلا قبلت لعدم التهمة
ولا يحلف قاسم القاضي لأنه حاكم.
ولو ظهر في المقسوم استحقاق جزء مشاع نقضت، خلافا للمبسوط فإنه
تردد، ولو كان الجزء متعينا وإخراجه لا يخل بالتعديل لم تنقض، وإلا نقضت،
418

ومنه أن يلزم بسد طريقه أو مجرى مائة.
ولا يضمن أحد الشركاء درك ما يحدثه الآخر من غرس أو بناء لو ظهر
الاستحقاق.
ولو اقتسم الورثة ثم ظهر دين وامتنعوا من أدائه، نقضت القسمة ولو امتنع
بعضهم بيع نصيبه والقسمة بحالها، والوصية بجزء من المقسوم، تبطل القسمة،
بخلاف الوصية بالمال المطلق، فإنها كالدين.
والمهاياة بالزمان وبالمكان كسكنى أحدهما بيتا، والآخر آخر، جائزة
وليست لازمة، وإن استوفى أحدهما فيغرم الأجرة، ولا يجبر الممتنع عليها وإن
كانت القسمة ممتنعة، نعم ينتزعه الحاكم ويؤجره عليهما إن كان له أجرة.
وحق الاستطراق ومجرى الماء عند الإطلاق باق على ما كان عليه، وعند الشرط بحسب
الشرط حتى لو شرط سد طريق أحدهما جاز، خلافا للقاضي.
ويجبر الولي على القسمة في مواضع الإجبار وإن انتفت الغبطة للمولى عليه.
وللحاكم القسمة بين أصحاب اليد وإن لم يثبت عنده الملك، وللشيخ قول
بالمنع. نعم لا يسجل بالملك إلا مقيدا باليد، وقال ابن الجنيد: لا يقسم حتى
يشيع الحال بين الجيران، وينتظر مدة يمكن أن يحضر مدع فيها.
419

كتاب الشهادات
يجب تحمل الشهادة إذا دعي إليها على الكفاية، عند معظم الأصحاب، لقوله
تعالى: ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا، فسره الصادق عليه السلام بالتحمل، وابن
إدريس تستحب الإجابة وهو نادر.
أما الأداء فواجب على الكفاية إجماعا، ولو خاف الشاهد ضررا غير مستحق
سقط سواء كان به أو بأحد من المسلمين، وقيد في النهاية وجوب التحمل بأن
يكون أهلا لها.
والأهلية تحصل بأمور عشرة:
أولها: البلوغ، فلا تقبل شهادة غير المميز إجماعا، وتقبل شهادة بالغ العشر
في الجراح ما لم يبلغ النفس، بشرط الاجتماع على المباح وعدم تفرقهم وروي
الأخذ بأول قولهم، وقيل: تقبل شهادة بالغ العشر مطلقا.
وثانيها: العقل، ولو دار جنونه قبلت شهادته مفيقا بعد العلم باستكمال فطنته
في التحمل والأداء.
وثالثها: التفطن لمزايا الأمور، فترد شهادة المغفل والأبله ومن يغلب عليه
النسيان، إلا في الأمر الشهير الذي لا يرتاب فيه.
ورابعها: الإسلام، فلا تقبل شهادة غير الذمي من الكفار، وتقبل شهادة
بالوصية لا بالولاية عند عدم عدول المسلمين، وإن لم يكن في السفر، خلافا
421

للمبسوط وابن الجنيد والحلبي للآية، وحسنة هشام بن الحكم عن الصادق
عليه السلام.
ويشترط عدالتهم من دينهم، ويرجحون على فساق المسلمين هنا.
وأوجب الفاضل إحلاف الذمي هنا بعد العصر بصورة الآية.
وفي قبول شهادة أهل الذمة لملتهم وعليهم، خلاف أثبته الشيخ في النهاية،
لرواية سماعة، وفي الخلاف أيضا إذا ترافعوا إلينا، والأكثر على المنع، ولو
اختلفت الملتان كاليهود والنصارى لم يقبل قطعا، إلا ما رواه الصدوق عن عبيد
الله الحلبي، عن الصادق عليه السلام، من جواز شهادتهم على غير أهل ملتهم.
وخامسها: الإيمان، فلا تقبل شهادة غير الإمامي مطلقا، ويحتمل عندي
انسحاب الخلاف هنا.
ويعلم الإسلام والإيمان بالإقرار، ولا فرق في المخالف بين المقلد
والمركب، والاختلاف في الأمور السمعية غير الإجماع لا يقدح في العدالة، كما
لا يقدح في الفروع العقلية مثل الإثبات والنفي والمعاني والأحوال وبقاء
الإعراض وحدوث الإرادة.
وسادسها: العدالة، وهي هيئة نفسانية راسخة تبعث على ملازمة التقوى
والمروءة بحيث لا يلم بالكبائر ولا يصر على الصغائر.
والكبيرة كل ذنب توعد الله عليه بخصوصه بالعقاب، وعدت سبعا وهي
إلى السبعين أقرب، وقد حققناه في القواعد والصغيرة النادرة غير قادحة وإن
أمكن تداركها بالاستغفار، خلافا لابن إدريس.
ويظهر من كلام بعض الأصحاب أن الذنوب كلها كبائر نظرا إلى اشتراكها
في مخالفة أمره تعالى ونهيه، وإنما تسمى الصغائر بالإضافة إلى ما فوقها، فالقبلة
المحرمة صغيرة بالنسبة إلى الزنى وكبيرة بالنسبة إلى النظر.
ولا يضر ترك السنن إلا أن يظهر منه التهاون بها.
وأما المروءة فهي تنزيه النفس عن الدناءة التي لا تليق بأمثاله، كالسخرية،
422

وكشف العورة التي يتأكد استحباب سترها في الصلاة، والأكل في الأسواق
غالبا، ولبس الفقيه لباس الجندي بحيث يسخر منه، وبالعكس.
ولا يقدح في المروءة الصنائع الدنيئة كالكنس والحجامة والحياكة وإن
استغنى عنها.
ويفسق القاذف ما لم يلاعن أو يقيم البينة أو يصدقه المقذوف، ويزول بأن
يتوب بإكذاب نفسه ويوري باطنا إن كان صادقا، وقيل: فيه: يخطأ نفسه في
الملأ، ويضعف بأنه قذف تعريضي، وبأن الله تعالى سمى القاذف الذي لا يأتي
بالشهود كاذبا، والاستمرار على التوبة إصلاح للعمل.
واللاهي بالعود والزمر والطبل والطنبور وشبهه، فاعلا ومستمعا، وكذا
الدف بصنج وغيره إلا في الأملاك والختان فيكره المجرد عن الصنج.
وشارب المسكر خمرا أو نقيعا أو نبيذا أو فضيخا أو تبعا أو مزرا أو جعة،
وفي حكمه العصير إذا غلى واشتد ولم يذهب ثلثاه، والفقاع وإن اعتقد حله.
والمغني بمد صوته المطرب المرجع، وسامعه وإن كان في قرآن أو اعتقد
إباحته، ويجوز الحداء للإبل وشبهها.
وهاجي المؤمنين والمتغزل بالمرأة المعروفة المحرمة لا غيره من الشعر وإن
كره الإكثار منه وإظهار الحسد للمؤمن والبغضاء.
ولبس الذهب والحرير للرجال في غير الحرب.
والقمار حتى بالجوز والبيض والخاتم والنقيري الأربعة عشر، واستعمال
النرد والشطرنج وإن لم يكن فيه رهان، واتخاذ الحمام للرهان، إما للأنس وإنفاذ
الكتب فجائز، والتفرج كذلك على الأقرب وإن كره، وإن سمي لعبا وابن
إدريس جعل اللعب بها قادحا لقبحه، ورواية العلاء بن سيابة عن الصادق
عليه السلام تدفع قبحه، وفيها نص على قبول شهادته.
423

درس [1]:
وسابعها: طهارة المولد، فترد شهادة ولد الزنى ولو في اليسير على الأصح،
لأنه شر الثلاثة، وعليه معظم الأصحاب والأخبار الصحيحة، وفي المبسوط إيهام
قبول شهادته في الزنى، وفي النهاية تقبل في الشئ الدون لرواية عيسى بن عبد الله
عن الصادق عليه السلام، لا يجوز إلا في الشئ اليسير إذا رأيت منه صلاحا،
ويعارضها أكثر منها وأصح.
وليس رد شهادته لكفره كما قاله المرتضى وابن إدريس، وإنما ترد شهادته
مع تحقق حاله، فلا اعتبار بمن تناله الألسن وإن كثرت ما لم يحصل العلم.
وثامنها: انتفاء التهمة، وليس كل تهمة تدفع الشهادة بالإجماع، فإن شهادة
الصديق لصديقه والوارث لمورثه بدين مقبولة وإن كان مشرفا على التلف ما لم
يرثه قبل الحكم، وكذا تقبل شهادة رفقاء القافلة على اللصوص إذا لم يكونوا
مأخوذين ولو أخذ الجميع فشهد بعض لبعض ولم يعرضوا لذكر ما أخذ لهم في
شهادتهم، قيل: لا تقبل، والقبول قوي، وما هو إلا كشهادة بعض غرماء المديون
لبعض، وكما لو شهد الاثنان بوصية مشتركة من تركة وشهد المشهود لهما
للشاهدين بوصية منهما أيضا.
ولا ترد شهادة غرماء المديون له بمال قبل الحجر، ولا شهادة السيد لمكاتبه
في أحد قولي الفاضل.
ولو شهد الوصي بمال لليتيم فالمشهور الرد، وقال ابن الجنيد: تقبل، ودفع
بأن الوصي متهم بالولاية على المال، وفي تأثير، هذه التهمة نظر وخصوصا في مال
لا أجرة له على حفظه أو إصلاحه.
ولنذكر أسباب التهمة المعتبرة:
فمنها: ما يجر بشهادته نفعا، كالشريك فيما هو شريك فيه، إذا اقتضت
الشهادة مشاركته، والوارث بجرح مورثه لأن الدية تجب له عند الموت بسبب
هذا الجرح، فيلزم أن يكون شاهدا لنفسه، والوصي في متعلق وصيته، وغرماء
424

المفلس والميت، والسيد لعبده.
ومنها: أن يدفع ضررا كشهادة العاقلة بجرح شهود جناية الخطأ، وشهادة
الوكيل والوصي بجرح الشهود على الموكل والموصي، وشهادة الزوج بزنى
زوجته التي قذفها على خلاف.
ولو شهد لاثنين بصيغة واحدة منهم في أحدهما ففي تبعض الشهادة نظر،
من أنها واحدة ومن تحقق المقتضي في أحد الطرفين والمانع في الآخر، وهو
أقرب، وكذا كل شهادة مبعضة.
ومنها: العداوة الدنيوية وإن لم تتضمن فسقا، وتتحقق بأن يعلم من كل منهما
السرور بمساءة الآخر وبالعكس، أو بالتقاذف، ولو كانت العداوة من أحد
الجانبين، اختص بالقبول الخالي منها دون الآخر، وإلا لملك كل غريم رد
شهادة العدل عليه بأن يقذفه ويخاصمه.
ولو شهد العدو لعدوه قبلت إذا لم تتضمن فسقا.
وأما العداوة الدينية فغير مانعة لقبول شهادة المسلم على أهل الأديان،
ولا تقبل شهادة أهل البدع عندنا لخروجهم عن الأيمان، وإن اتصفوا بالإسلام، أو
لفسقهم.
ومنها: الحرص على الأداء قبل استنطاق الحاكم، فلو تبرع قبله ردت في
حق الآدمي، ولا فرق في التبرع قبل الدعوى أو بعدها، ولا يصير بالرد مجروحا
ولا ترد في حقوق الله تعالى، ولو اشترك الحق فالظاهر الرد.
وفي مثل السرقة يثبت القطع دون الغرم على تردد.
وأما الطلاق والعتاق والرضاع والخلع والعفو عن القصاص فلله فيها حق
غالب، ومن ثم لم تسقط بالتراضي، فيحتمل قبول التبرع فيها.
والوقف العام الأقرب فيه القبول، بخلاف الخاص إن قلنا بالانتقال إلى الموقوف عليه.
وفي شراء الأب وجه، لأن الغرض عتقه، ويدفعه أنه إن ثبت بغير عوض فهو
425

إجحاف بالبائع، وإن ثبت بعوض توقف على الدعوى، والفرق بينه وبين الخلع
عسر، وغايته أن العوض في الخلع غير مقصود بذاته بخلاف الثمن في شراء
الأب، ويحتمل ثبوت العوض في الخلع والثمن في العتق بشهادة التبرع تبعا
لحق الله تعالى، إذ قد ثبت تبعا مالا يثبت أصلا.
وأما احتمال ثبوت الطلاق مجردا عن العوض في الخلع فهو أبعد، ولو كان
المدعي الابن فالقبول قوي، وكذا لو كان مدعي الخلع الزوجة، وفي كون
النسب من حقوق الله تعالى احتمال، لأن الشرع أثبت الأنساب ومنع قطعها،
فهي كالعتق.
ومنها: التعيين برد الشهادة، فلو شهد المستتر بالفسق فردت، ثم تاب قبلت
في كل شئ إلا فيما رد فيه، لأن الطبيعة تبعث على إثبات الصدق بعد التعبير
بالرد فيورث تهمة، وأبلغ منه لو تاب في المجلس لتقبل الشهادة، ولو قيل:
بالقبول مع تحقق عدالته وتوبته كان وجها.
أما الفاسق المعلن فيقبل، ولو ردت شهادته إذا تاب، بل قال الشيخ رحمه
الله: يجوز أن يقال له: تب أقبل شهادتك، وهذا يتم إذا علم منه التوبة لله بقرائن
الأحوال، وفي النهاية أطلق القول بقبول شهادته أيضا إذا صار عدلا، وقال ابن
إدريس: يستثني الطلاق، وهو بناء على أنه لم يحضره شاهدا عدل، إذ لو حضراه
وماتا أو غابا فشهد الفاسق به فردت، ثم أعادها بعد العدالة سمعت، وكذا لو
فسق الشاهدان بعد الطلاق، ثم شهدا، ثم عدلا فأعاداها.
ولو شهد الكافر والصبي والعدو ثم زالت الموانع قبلت قطعا، لأن الرد
جرى بأسباب ظاهرة لا تهمة فيها.
فرع:
هل يملك الحاكم سماع شهادته هؤلاء؟ الأقرب لا مع علم المانع، لعدم
الفائدة ويحتمل أن يصغي إلى شهادة الفاسق ثم يردها زجرا له عن الفسق، إذا ظن
426

أن ذلك يؤثر فيه.
تنبيه:
ليس من التهمة البعضية، فتقبل شهادة جميع الأقرباء لأقربائهم حتى الابن
والأب، ولا تشترط الضميمة في شهادة الوالد لولده أو عليه، وكذا الأخ
والزوجان، وقيد في النهاية بضميمة عدل في الجميع، وفيه بعد.
ولا عن التهمة الاختباء للتحمل لأنه ربما كان سببا في الأمر بالمعروف، نعم
يستحب له إعلام المشهود عليه في الحال لئلا يكذبه في الملأ، فيتعرض للتعزير.
ولا شهادة البدوي على القروي وبالعكس، وخالف ابن الجنيد في المسألتين
فقال: ليس للمختبئ أن يشهد، قال: وكذا لو شرط المقر على الشاهد أن لا يشهد
امتنع من الشهادة، ومنع من قبول شهادة البدوي على القروي، إلا فيما كان
بالبادية ولم يحضره قروي، أو كان بالقتل بغير حضرة قروي.
وفي شهادة الأجير لمستأجره خلاف، فقبلها ابن إدريس، وقال: الصدوقان
والشاميان والطرابلسي والحلبي والشيخ: لا يقبل له ما دام أجيرا، لرواية العلاء
وزرعة، وفي رواية أبي بصير يكره شهادته له، وقال الفاضل: يرد مع التهمة
كشهادة الخياط والقصار لدافع الثوب إليه.
وتقبل شهادة الضعيف.
وأما السائل بكفه فالمشهور عدم قبولها، لصحيح علي بن جعفر عن أخيه،
ولموثقة محمد بن مسلم عن الباقر عليه السلام، لأنه يرضى إذا أعطي ويسخط إذا
منع، وفيه إيماء إلى تهمته، واستدرك ابن إدريس من دعته الضرورة إلى ذلك،
وهو حسن، وفي حكم السائل بكفه، الطفيلي.
وتاسعها: الحرية، واختلف فيها الأصحاب، فمنعها ابن أبي عقيل مطلقا، وابن
الجنيد إلا على العبد أو الكافر، والحلبي منعها على سيده وله، والمعظم على القبول
مطلقا، إلا على السيد جمعا بين الروايات وتوهم التهمة لمكان سلطة السيد عليه،
427

ولو تحرر بعضه قيل: تبعضت، والأقرب إنه كالقن.
وعاشرها: انتفاء تهمة العقوق، فلو شهد الولد على والده ردت عند الأكثر،
ونقل الشيخ فيه الإجماع والآية، وخبرا داود بن الحصين وعلي بن سويد يعطي
القبول، واختاره المرتضى وهو قوي، والإجماع حجة على من عرفه، وفي حكمه
الجد وإن علا على الأقرب.
درس [2]:
المعتبر باجتماع الشرائط حال الأداء إلى الحكم لا حال التحمل، فلو تحمل
ناقصا ثم كمل حين الأداء سمعت، ولو طرأ الفسق أو الكفر أو العداوة بعد الأداء
قبل الحكم لم يحكم به على الأقوى، وقال الشيخ وابن إدريس: يحكم لصدق
العدالة حال الشهادة، وللفاضل القولان.
وقيل: إن كان حقا لله لم يحكم وإلا حكم، ولو اشتمل على الحقين
كالقصاص والقذف، غلب حق الآدمي.
وفي السرقة يحكم بالمال خاصة، ولو تجدد بعد الحكم وقبل الاستيفاء
استمر في غير حق الله تعالى، لبنائه على التخفيف، ولو كان بعد الاستيفاء فلا
نقض مطلقا.
ولو ثبت مانع سابق على الحكم نقض مطلقا.
فإن كان قتلا أو جرحا فالدية في بيت المال ولو باشره الولي على الأصح،
إذا كان بحكم الحاكم، إلا أن يعترف ببطلان الدعوى.
وإن كان مالا استعيد، فإن تلف فبدله من المحكوم له، فإن أعسر ضمنه
الحاكم عند الشيخ ثم يرجع عليه.
ولو مات الشهداء بعد الإقامة حكم وإن عدلوا، ولو عدلوا بعد الموت.
وتقبل شهادة الأعمى فيما لا يفتقر إلى الرؤية، ولو تحمل الشهادة مبصرا ثم
كف جازت إقامتها إن كانت مما لا يفتقر إلى البصر وإلا اشترط معرفته بالمشهود
428

عليه قطعا باسمه ونسبه، أو يعرفه عنده عدلان أو يكون مقبوضا بيده، وكذا في
تحمله الشهادة على ما يحتاج إلى البصر يفتقر إلى أحد الثلاثة، ويصح كونه
مترجما عند الحاكم.
والأصم مسموع في المبصرات، وفي رواية جميل عن الصادق عليه السلام:
لو شهد بالقتل أخذ بأول قوله لا بثانيه، وعليها الشيخ وأتباعه ولم يقيدوا بالقتل،
والأكثر على إطلاق قبول شهادته وهو الأصح، وفي طريق الرواية سهل بن زياد
وهو مجروح.
والأخرس إذا فهمت إشارته بمترجمين عدلين قبلت شهادته، وليس
المترجمان فرعين عليه، ولا تكفي الإشارة في شهادة الناطق، ومن شهد بمعرفين
فهو الأصل.
والضابط في تحمل الشهادة العلم، بالسماع والرؤية أو بهما معا، فيكفي
الاستفاضة في تسعة: - النسب والملك المطلق والوقف والنكاح والموت
والولاية والولاء والعتق والرق، والمراد بها إخبار جماعة يتآخم قولهم العلم،
وقيل: محصله وقيل: يكفي الشاهدان بناء على اعتبار الظن.
ولو شهد بالملك وأسنده إلى سبب يثبت بالاستفاضة، كالإرث قبل، ولو
كان لا يثبت بها كالبيع والغنيمة قبل في أصل الملك لا في السبب.
وتظهر الفائدة في ترجيحه على مدع آخر، ومتى اجتمع في ملك استفاضة
ويد وتصرف بلا منازع فهو منتهى الإمكان، فللشاهد القطع بالملك، وكذا كل
واحد من الثلاثة على الأقوى، واليد أقوى من الاستفاضة مع المعارضة.
ولا يجوز الإقامة إلا مع الذكر ولا عبرة بالخط وإن أمن التزوير عند الحليين،
وقال الأكثر: إذا كان المدعي ثقة وشهد آخر ثقة أقامها، لرواية عمر بن يزيد عن
الصادق عليه السلام.
وتجب إقامة الشهادة عند دعاء المدعي وإن لم يكن استدعاه، وقال ابن
الجنيد والشيخ والحلبي: لا تجب إلا مع الاستدعاء إلا أن يخاف بطلان الحق.
429

ولو كان صاحب الحق لا يعلم بشهادتهما وجب عليهما تعريفه، إن خافا
بطلان الحق بدون شهادتهما وكانا عدلين، ولو كان أحدهما عدلا وجب عليه،
وفي وجوب التعريف على الفاسق تردد، أقربه الوجوب لتوقع العدالة بالتوبة.
ويكره أن يشهد لمخالف إذا خشي رد شهادته عند الإقامة.
وليست الشهادة شرطا في النكاح ولا في غيره من العقود، نعم يستحب
وخصوصا في النكاح والرجعة والبيع، وهي شرط في وقوع الطلاق، قيل: وفي
التبري من ضمان الجريرة وفي رجوع المالك بالأجرة لو هرب عامل المساقاة
واستأجر عليه ونوى الرجوع ولم يثبتا.
ولا بد عند الإقامة من إتيان الشاهد بلفظ الشهادة فيقول: " أشهد بكذا أو أنا
شاهد الآن بكذا، أو شهدت عليه "، ولو قال " أعلم أو أتيقن أو أخبر عن علم أو
حق "، لم تسمع قاله بعض الأصحاب.
ويجوز أن يشهد على مبيع بصفات توافق عليها المتعاقدان، وإن لم يعرفه
الشاهد، فيشهد بما سمع منهما.
درس [3]:
لا بد من موافقة الشهادة للدعوى، وتوافق الشاهدين معنا لا لفظا، فلو قال
أحدهما: غصب، وقال الآخر انتزع قهرا أو ظلما قبل، بخلاف ما لو قال أحدهما:
باع، وقال الآخر: أقر بالبيع، وكذا لو كانت الشهادة على عقد فاختلفا في زمانه
أو مكانه أو صفته بطلت.
وحيث لا تكاذب بين الشاهدين له الحلف مع أحدهما، قيل: وكذا لو
تكاذبا، لأن التعارض إنما يكون بين البينتين الكاملتين.
ولو شهد أحدهما إنه أقر بألف والآخر بألفين، ثبت الألف بهما والآخر
باليمين.
ولو شهد أحدهما إنه أقر بالعربية والآخر بالأعجمية قبل مع اختلاف
430

الزمان، ومع اتحاده بحيث لا يمكن الاجتماع ترد الشهادة للتكاذب، قيل: ولو
شهد على مقر بألف فطلب المقر له أن يشهد له ببعضها جاز، لاستلزام الكل
جزءه.
ولو قال المدعي: لا بينة لي، ثم أحضرها سمعت، فلعله تذكر أو كان لا يعلم،
وأولى منه لو قال: لا أعلم، ثم أحضرها.
وتنقسم الحقوق بالنسبة إلى الشهود أقساما.
أحدها: ما لا يثبت إلا بشهادة أربعة رجال، وهو اللواط والسحق.
وثانيها: ما لا يثبت إلا بأربعة أو ثلاثة وامرأتين، وهو الزنى الموجب للرجم،
فإن شهد رجلان وأربع نساء يثبت الجلد لا الرجم فإن شهد رجل وست نساء أو
انفردت النساء، فلا ثبوت، وفي الخلاف يثبت الجلد برجل وست نساء.
وظاهر ابن الجنيد مساواة اللواط والسحق للزنا في شهادة النساء، ومنع
بعض الأصحاب من قبول رجلين وأربع نساء في الجلد، واختاره الفاضل
وظاهر رواية الحلبي ثبوته.
وأما الإقرار بالزنى ففي اشتراط شهود أصله أو الاكتفاء بشاهدين وجهان،
والفائدة لا في الحد، بل في نشر الحرمة، وفي سقوط حد القذف عن القاذف، لو
أقام شاهدين بإقرار المقذوف بالزنى، وقوى في المبسوط الشاهدين.
وثالثها: ما لا يثبت إلا برجلين، وهو إتيان البهيمة والسرقة وشرب الخمر
والردة والقذف والطلاق والرجعة والعدة، والخلع على قول، والوكالة والوصاية
والنسب والهلال، والجناية الموجبة للقود على قول، والعتق والولاء والتدبير
والكتابة، وقوى في المبسوط ثبوت العتق بشاهد وامرأتين، وفي الخلاف نفاه،
والنكاح عند المفيد - رحمه الله تعالى - وسلار وابن إدريس، وأحد قولي
الشيخ، وأثبته الصدوقان وجماعة برجل وامرأتين، لرواية محمد بن المفضل عن
الرضا عليه السلام، وغيرها، وبإزائها رواية السكوني عن علي عليه السلام،
والثبوت قوي، والبلوع والجرح والتعديل والعفو عن القصاص وضبط
431

الأصحاب ذلك، وكل ما كان من حقوق الآدميين ليس مالا ولا المقصود منه
المال.
ورابعها: ما يثبت برجلين أو رجل وامرأتين أو رجل ويمين أو امرأتين ويمين،
وهو ما كان مالا أو الغرض منه المال، كقتل الخطأ وجرح العمد المشتمل على
التعزير، كالهاشمة والمنقلة، أو مالا قود فيه، كقتل الوالد ولده والمسلم الكافر
والحر العبد، ومشاركة العامد الخاطئ على قول الشيخ في الخلاف بإسقاط القود
عنهما، بخلاف شريك الأب في قتل الولد.
وعقود المعاوضات كالبيع والإجارة والفسوخ والديون والقراض
والغصب.
وحقوق الأموال كالخيار والأجل والشفعة والوصية له وقبض نجوم
المكاتب حتى الأخير، على قول قوي للشيخ حيث أطلق، والوقف على الأقرب
إذا كان خاصا، وفي النهاية والمقنعة والرسالة لم يذكر سوى الدين في الثبوت
بالشاهد واليمين، وابن إدريس منع من قبول امرأتين ويمين في ذلك.
ولو اشتمل الحق على حق الله تعالى كالسرقة ثبت بذلك المال دون
القطع.
قيل: ولو شهد رجل وامرأتان بالنكاح، ثبت المهر دون العقد وفيه بعد
للتنافي بخلاف السرقة.
وخامسها: ما يثبت بشهادة الرجال والنساء منفردات ومنضمات، وهو
ما يعسر اطلاع الرجال عليه غالبا، كالولادة والاستهلال وعيوب النساء الباطنة
والرضاع على الأقوى، ومنع ابن البراج من قبول شهادة الرجال فيما لا يجوز لهم
النظر إليه، وهو ضعيف.
وسادسها: ما يثبت بشهادة رجل واحد، وهو هلال شهر رمضان عند سلار -
رحمه الله تعالى -، وفي الإفطار عند تمام الثلاثين على هذا القول نظر، أقربه
ذلك، لأنه قد يثبت ضمنا ما لا يثبت صريحا، كالنسب والولادة.
432

وسابعها: ما يثبت بشهادة امرأة واحدة، وهو الوصية بالمال والاستهلال،
فيثبت ربع الوصية وربع الميراث، وبالمرأتين النصف وبثلاث ثلاثة الأرباع
وبأربع الجميع، كل ذلك بغير يمين، ولو حلف مع المرأتين ثبت الجميع،
وظاهر ابن البراج اشتراط تعذر الرجال، وتبعه ابن إدريس، ولا يجوز للمرأة
تضعيف المال فيصير ما أوصى به الربع، فلو فعلت قبل ظاهرا، وفي استباحة
المشهود له ذلك مع علمه بالحال نظر أقربه ذلك إن علم بالوصية.
ولو شهد عدل واحد ففي إلحاقه بالمرأة أو بالمرأتين أو سقوط شهادته أو
التفصيل بعلم الموصى له بالوصية فيحلف معه، وإن لم يعلم الحق بالمرأة أوجه
وأشكل منه الخنثى.
وثامنها: ما قاله المفيد - رحمه الله تعالى -: من قبول شهادة امرأتين
مسلمتين مستورتين فيما لا يطلع عليه الرجال، كعيوب النساء والعذرة والحيض
والنفاس والولادة والاستهلال والرضاع، ولو لم يوجد إلا امرأة مأمونة قبلت،
ونحوه قول سلار.
تنبيهات:
ذهب الحسن وابن الجنيد إلى قبول شهادة النساء مع الرجال في الطلاق
وهو نادر، مع أن في المبسوط ذلك، وفيه قبول شهادتهن منضمات في قتل
يوجب القود.
وفي النهاية يجب بشهادتهن الدية لا القود، واختاره جماعة والفاضل، جمعا
بين الأخبار.
وبالغ الحلبي فأثبت بشهادة المرأة الواحدة ربع دية النفس، وبالمرأتين
النصف لئلا يطل الدم.
ومنع في الخلاف وموضع من المبسوط من قبول امرأتين ورجل في
الوديعة، وحمله الفاضل على دعوى الودعي لا المالك، ويشكل بأن الودعي ينفى
433

عنه الضمان وهو مال.
درس [4]
في الشهادة على الشهادة:
وإنما تجوز مرة، فلا تسمع إشهاد الفرع على شهادته.
ومحلها حقوق الناس، حتى القصاص والعتق والطلاق، لا حقوق الله تعالى
كالحدود.
وفي حد السرقة والقذف خلاف من مراعاة الحقين.
ولو أقر بالزنى أو اللواط أو إتيان البهائم ثبت بشاهدين على ما مر، وتسمع
الشهادة عليهما في نشر الحرمة، وتحريم البهيمة أو بيعها لا في الحد والتعزير.
ويجب على كل شاهد شاهدان ليثبت شهادته بهما، وتكفي شهادة الاثنين
على كل من الشاهدين، بل يجوز أن يكون الأصل فرعا لآخر بناء على أن شهادة
الأصل تثبت بشهادة الفرع.
ولو قلنا يقومون مقام الأصل في إثبات الحق اشترط مغايرة الشهود، وهذا
ضعفه الشيخ - رحمه الله تعالى -.
وفيما تقبل فيه شهادة النساء على كل امرأة أربع، وقيل: لا يكون النساء
فرعا وهو ضعيف، وإنما تقبل شهادة الفرع عند تعذر الأصل بموت أو غيبة أو
خوف أو مرض وشبهه، ويكفي في ذلك مشقة الحضور، ونقل في الخلاف قبول
شهادة الفرع مع إمكان حضور الأصل، وجنح إليه، وفي رواية محمد بن مسلم
تلويح ضعيف إليه.
ولو حضر الأصل بعد الحكم فلا أثر وإلا سقط الفرع وافق أو خالف، ولو
قال الأصل: لم أشهده، قال جماعة: يعمل بالأعدل، فإن استويا طرحت شهادة
الفرع.
وابن الجنيد قال لو شهد عليه اثنان لم يلتفت إلى جحوده، وفيه إشارة إلى أن
434

تعذر الحضور غير معتبر، وقال المتأخرون لا حكم للفرع هنا وافق أو خالف،
وبالأول صحيح عبد الرحمن عن الصادق عليه السلام.
ولا بد من العدالة في الأصل والفرع، فإن عدله الفرع وإلا بحث الحاكم،
ولو طرأ فسق بعد الاسترعاء قبل الحكم اطرحت، وكذا لو استرقه المشهود عليه،
ولا يمنع طرئان العمى.
ولا بد من تعيين شاهدي الأصل، فلا يكفي أشهدنا عدلان، وليس عليه أن
يشهد على صدق شاهد الأصل.
ثم مراتب التحمل ثلاث:
الأول: الاسترعاء، وهو قوله: أشهد على شهادتي أني أشهد لفلان على فلان
بكذا، وهو أعلاها.
الثاني: أن يسمع شهادته عند الحاكم.
الثالث: أن يسمعه يقول لا عند الحاكم: أشهد أن لفلان على فلان كذا بسبب
كذا، ولا ريب في جواز الشهادة في المرتبتين الأولتين، غير أنه يقول في الأولى:
أشهدني، وفي الثانية سمعته يشهد عند الحاكم، وفي الثالثة احتمال أقربه الجواز،
لأن العدل لا يتسامح إلى مثل هذه الغاية أما لو لم يكن يذكر السبب فلا شهادة،
لاعتياد التسامح بمثله.
ويحلق بالمرتبة الثانية قوله: عندي شهادة مثبوتة، أو مجزومة بأن على فلان
لفلان كذا، وكذا لو قال: شهادة لا ارتاب فيها، أو لا أشك.
ويلحق بالأول أن يسمعه يسترعي شاهدا آخر، إلا أنه لا يقول: أشهدني، بل
أشهد فلانا بحضرتي.
درس [5]:
في الرجوع:
إذا رجع الشاهدان قبل الحكم لم يحكم، وإن رجعا بعد الحكم بالمال
435

غرما للمشهود عليه وإن كانت العين قائمة أو لم يستوف المال على الأصح، وفي
النهاية تستعاد العين القائمة، وفي الوسيلة كذلك.
وإنه لو كان قبل استيفاء الحق نقض الحكم، ولا ريب في أن الرجوع فيما
يوجب الحد قبل استيفائه يبطل الحد، سواء كان لله أو للإنسان، لقيام الشبهة
الدارئة.
ولو اصطلح الغريمان بعد الحكم على قدر ثم رجعا، غرما أقل الأمرين، ولو
أبرأه فلا رجوع.
ولو رجع أحدهما أغرم نصيبه، ولو زادوا على اثنين فالمغروم موزع على
الجميع على الأصح، ولو كان رجل وعشر نسوة، فعليه السدس، وقيل:
النصف، وعلى كل واحدة نصف السدس.
ولو قال شهود القتل: تعمدنا الكذب، اقتص منهم ومن بعضهم ورد عليه
ما زاد عن جنايته، وإن قالوا أخطأنا فالدية، ولو تفرقوا في العمد والخطأ فعلى كل
واحد لازم قوله، ولو تأول المتعمد بظن أنه لا يقبل قوله، قيل: يقتص منه، كما
يقتص ممن قتل مريضا بضرب لا يقتل مثله، لظنه صحته.
ولو رجع أحد الأربعة في الزنى، اختص بالحكم، وفي النهاية، إن قال:
تعمدت، قتل ورد الباقون عليه ثلاثة أرباع ديته، وإن قال: أوهمت، فعليه ربع
الدية، ويظهر ذلك من كلام ابن الجنيد وقصر الحليون الحكم على المقر.
ولو رجعا عن الطلاق قبل الدخول أغرما النصف الذي غرمه، لأنه كان
معرضا للسقوط بردتها أو الفسخ لعيب، وبعد الدخول لا ضمان، إلا أن نقول
بضمان منفعة البضع فيضمنان مهر المثل، وأبطل في الخلاف ضمان البضع،
وإلا لحجر على المريض في الطلاق، إلا أن يخرج البضع من ثلث ماله.
وفي النهاية لو رجعا عن الطلاق بعد تزويجها ردت إلى الأول، وضمنا المهر
للثاني، وحمل على تزويجها لا بحكم الحاكم.
ولو رجعا عن الشهادة للزوج بالنكاح وقد دخل، غرما لها الزائد عن
436

المسمى من مهر المثل، إن كان، ولو طلق قبل الدخول فلا غرم، ولو كانت
الشهادة للزوجة ورجعا غرما للزوج ما قبضته إن لم يكن دخل، وإلا فالزائد عن
مهر المثل من المسمى إن كان.
ولو رجعا عن الشهادة بالمكاتبة، فإن رد في الرق فلا شئ، إن كان قد
استوفى منافعه، وإلا احتمل ضمان أجرتها، وإن عتق بالمكاتبة ضمنا القيمة، لأن
ما قبضه كسبه فلا يحسب عليه، ولو أراد السيد تعجيل غرمهما لزمهما نقص قيمة
المكاتب عن القن، وكذا لو رجعا عن الشهادة بالاستيلاد.
ولو رجعا عن الشهادة بالعتق غرما القيمة، ولو كان عن التدبير فالظاهر
عدم الرجوع، لقدرته على نقضه، إلا أن يكون منذورا، وقلنا بعدم جواز الرجوع.
ولو رجعا بعد موته أغرما للورثة، ويحتمل التغريم للوارث وإن رجعا في
حياة المورث، إذ لا يجب عليه إنشاء الرجوع لنفع الوارث، فنفوذ عتقه مسبب
عن الشهادة.
ولا فرق بين العمد والخطأ في ذلك كله سوى الدم، نعم يعزر المعترف
بالعمد دون المخطئ.
ولو ثبت التزوير نقض الحكم وعزروا وشهروا وغرموا ما فات بشهادتهم،
وإنما يثبت التزوير بقاطع كعلم الحاكم، لا بشهادة غيرهما، لأنه تعارض،
ولا بإقرارهما لأنه رجوع.
437