الكتاب: دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية
المؤلف: الشيخ المنتظري
الجزء: ١
الوفاة: معاصر
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: جمادي الثانية ١٤٠٨
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الناشر: المركز العالمي للدراسات الإسلامية
ردمك:
ملاحظات: منشورات المركز العالمي للدراسات الإسلامية - قم - ايران - ص . ب ٤٣٩

دراسات
في
ولاية الفقيه
و
فقه الدولة الاسلامية
تعريف الكتاب 1

دراسات
في
ولاية الفقيه
و
فقه الدولة الاسلامية
الجزء الأول
لمؤلفه المحقق
سماحة الفقيه المجاهد آية الله العظمى المنتظري
تعريف الكتاب 3

منشورات
المركز العالمي للدراسات الاسلامية
قم - إيران
ص. ب 439
اسم الكتاب: دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الاسلامية - الجزء الأول
المؤلف: آية العظمى المنتظري
الناشر: المركز الاعلام الاسلامي
طبع على مطابع: مكتب الاعلام الاسلامي
الطبعة: الأولى
تاريخ النشر: جمادي الثانية 1408 ه‍. ق
طبع منه: 5000 نسخة
حقوق النشر محفوظة للناشر.
تعريف الكتاب 4

بسم الله الرحمن الرحيم
الإهداء:
إلى ولى الأمر وإمام العصر، ولى الأولياء وخاتم الأوصياء، المهدى المنتظر لإقامة القسط والعدل في العالم، -
عجل الله تعالى فرجه المبارك - أهدي هذه البضاعة المزجاة - وإن الهدايا على مقدار مهديها - والمرجو من ساحته
المقدسة أن يتفضل بالقبول، وأن يلحظ لحظا ما إلى هذا العبد المحتاج إلى لطفه ونظره الشريف.
لفت نظر
أرجو من القارئ الكريم الذي أراد مطالعة
هذا الكتاب أن يبدأ بالرجوع إلى المقدمة
ولا سيما من النبذ التاسع إلى آخرها ثم يراجع الكتاب. والسلام على جميع إخواننا
تعريف الكتاب 5

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله
الطاهرين، اولي الأمر الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وأمرنا
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتمسك بهم قرينا للكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين
يديه ولا من خلفه وقال: " انهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض. " (1)
اللهم فوفقنا للتمسك بالكتاب العزيز، وبالعترة الذين لم يألوا جهدا في تبيين
معارفه وأحكامه وفي نصح الأمة وإرشادها.

1 - على ما ورد في حديث الثقلين. وقد تواتر الحديث إجمالا بين الفريقين. راجع ص 58 من
الكتاب.
1

مقدمة
نذكر في المقدمة بنحو الإجمال ضرورة الحكومة، وأنحائها، والحكومة
الاسلامية، وما دعاني إلى تأليف هذا الكتاب وفيها إشارة إلى أبواب الكتاب و
فصوله:
1 - ضرورة الحكومة:
اعلم أن من أهم الأمور الضرورية للبشر وجود النظام الاجتماعي والحكومة
العادلة الحافظة لحقوق المجتمع، فإن الإنسان مدني بالطبع، لا يحصل على حاجاته
وطلباته إلا في ظل الاجتماع والتعاون، وكثيرا ما تعرض له قضايا عامة تمس
مصالح المجتمع ويطلب فيها قرار ورأي واحد يجمع القاطعية وقابلية التنفيذ و
القدرة عليه، ولا يحصل ذلك الا تحت لواء حكومة قاطعة، ولأجل ذلك ترى أنه لم
تخل حياة الإنسان في جميع مراحلها وأدوارها حتى في العصور الحجرية وفي
الغابات من حكومة ودويلة.
وهنا ملاحظة أخرى، وهي ان الإنسان قد جبل في طبعه وكيانه على شهوات
3

وميول مختلفة: من حب الذات، وحب المال والجاه، والحرية المطلقة في كل ما يريده و
يهواه. وكثيرا ما يستلزم ذلك كله التزاحم والتضارب في الأفكار والأهواء، ويستعقب
الجدال والصراع. فلا محالة تقع الحاجة إلى قوانين ومقررات، والى قوة منفذة لها مانعة
من التعدي والكفاح، ولا نعني بالحكومة إلا هذه القوة المنفذة.
بل الحيوانات أيضا لا تخلو من نحو من النظام، كما يشاهد ذلك في النمل والنحل
ونحوهما.
وحتى لو فرضنا محالا أو نادرا تكامل المجتمع وتحقق الرشد الأخلاقي لجميع
أفراده، وحصول الإيثار والتناصف بينهم فالاحتياج إلى نظام يجمع أمرهم في
المصالح العامة ويسد حاجاتهم في الأرزاق والأمور الصحية، والتعليم والتربية، و
المواصلات والمخابرات، والطرق والشوارع وغير ذلك من الأمور الرفاهية، و
جباية الضرائب وصرفها في هذه المصارف العامة، مما لا يقبل الانكار. ولا يختص
هذا بعصر دون عصر أو ظرف دون ظرف.
فما عن الأصم من عدم الاحتياج إلى الحكومة إذا تناصفت الأمة ولم تتظالم، وما
عن ماركس من عدم الاحتياج إليها بعد تحقق الكمون المترقي وارتفاع الاختلاف
الطبقي واضح الفساد.
وأما ما تراه من استيحاش أكثر الناس في بلادنا وتنفرهم من اسم الحكومة و
الدولة فليس إلا لابتلائهم طوال القرون المتمادية بأنواع الحكومات المستبدة الظالمة
أو غير اللائقة التي لم تملك البصيرة والكفاية. وإلا فالحكومة الصالحة اللائقة
الحافظة لحقوق الأمة الآخذة بيدها المدافعة عن منافعها ومصالحها، مما تقبلها الطباع
السليمة ويحكم بضرورتها العقل السليم.
بل ان الحكومة الجائرة أيضا مع ما فيها من الشر والفساد خير من الفتنة والهرج،
كما عن أمير المؤمنين: (عليه السلام) " وال ظلوم غشوم خير من فتنة تدوم. " (1)
وفي نهج البلاغة في رد كلام الخوارج: " هؤلاء يقولون: لا إمرة إلا لله، وانه لا بد
للناس من أمير بر أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر. " (2)

1 - الغرر والدرر 6 / 236، الحديث 10109.
2 - نهج البلاغة، فيض / 125; عبده 1 / 87; لح / 82، الخطبة 40.
4

ولا يريد هو عليه السلام تبرير امارة الفاجر وبيان مشروعيتها، بل يريد بيان
تقدمها عقلا على الفتنة والهرج إذا دار الأمر بينهما.
2 - كيف نشأت الدولة وتنشأ؟
قد ذكروا في ذلك نظريات عديدة:
منها: ان الدولة نظام اجتماعي يفرضه بالإجبار شخص قوي أو فريق غالب على
الضعفاء والمستضعفين والمتوسطين، استعبادا واستثمارا لهم أو استصلاحا وتعطفا
عليهم حسب اختلاف الحكام في نياتهم.
ومنها: ان تشكيل العائلة أمر يقتضيه طبع البشر، ثم هي الخلية الأولى لكل مجتمع
ودولة، إذ تجتمع العائلات وتتصل حسب طبعها وحاجتها فتصير عشيرة ثم قبيلة ثم
مدينة سياسية يسوسها حكم واحد، ثم ترتبط المدن تدريجا ويحكم عليها نظام
واحد وحكم واحد فتصير ملكا واحدا ودولة واحدة، فالدولة نتيجة حركة التاريخ
بالطبع.
ومنها: ان الانسان في بادي الامر كان يعيش على الفطرة والغريزة وكان يتمتع
بحرية كاملة، ثم تضاربت المصالح والحريات فسادت القوة وضاعت حقوق
الضعفاء وأصبح أمر الجماعة فوضى، فتوافق عقلاء الناس واصطلحوا على وضع
قوانين خاصة محددة للحريات وعلى قوة منفذة لها حفظا للحقوق، فالحكومة
معاقدة اجتماعية بين الحاكم وبين الرعية تحصل باختيار الطرفين.
إلى غير ذلك مما قيل في المقام، ولا يهمنا ذكرها ونقدها وقياس بعضها إلى بعض
بعدما اتضح - كما مر - أصل ضرورة الحكومة والدولة، وسيأتي منا بيان ان الحكومة
داخلة في نسج الاسلام ونظامه وان النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أسس بناء الحكومة الإسلامية
بأمر الله - تعالى - وتعاقدت الجماعة الاسلامية الأولى معه (صلى الله عليه وآله وسلم) على الايمان بالله و
برسوله وبرياسته على الأمة واتباعها له في كل ما آتاه. ومن جملة ما آتاه المقررات
السياسية والاجتماعية والاقتصادية، كما هو واضح لمن تتبع فقه الاسلام.
5

ونحن نعتقد ان الله - تعالى - من بدو نشأة الانسان وخلقه لم يخلهم من الأنبياء و
الهداة إلى الله - تعالى - بل أول من خلقه منهم كان نبيا، فلعل الحكومة ومقرراتها
بسذاجتها كانت من جملة البرامج التي أتى بها الأنبياء من ناحية الوحي حسب حاجة
الانسان إليها في طبعه وذاته.
فمنشأ الدولة والحكومة في بادي الامر هو أمر الله ووحيه وان انحرفت بعد ذلك
عن مسيرها الصحيح بتغلب الظالمين والطغاة. وفى الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
" كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي، وانه لا نبي بعدي وستكون
خلفاء فتكثر. " (1)
3 - أنحاء الحكومات الدارجة في البلاد:
الأولى: الملكية المطلقة الاستبدادية، وذلك بان يتسلط الفرد بالقهر والغلبة وبقوة
العساكر والسلاح على البلاد والعباد، وينزل بمعارضيه أشد العقوبات، ولا يتقيد بقانون ولا
ضابطة خاصة بل يجعل مال الله دولا وعباده خولا، يحكم فيهم بما يهوى ويريد، ويتصور
كون السلطة ملكا طلقا له ولوارثه نسلا بعد نسل. وربما يبلغ هذا السلطان في استعلائه و
استكباره حدا يسمي نفسه ظل الله في أرضه ومظهرا لقدرته وسلطنته، وقد يصل
إلى حد يدعي الربوبية كما اتفق لفرعون وأمثاله.
وهذا القسم من الحكومة من أردأ أنواعها عند العقل والفطرة. وأحسن التعبير عن
هذا النوع من الحكومة هو ما حكاه الله - تعالى - عن ملكة سبأ " قالت: ان الملوك إذا
دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة، وكذلك يفعلون. " (2)
الثانية: الملكية المشروطة المستحدثة في الأعصار الأخيرة، بان تعتبر الملكية حقا ثابتا
وراثيا ولكن الملك محدود مقيد، ويكون تدبير الأمور محولا إلى القوى الثلاث:

1 - صحيح مسلم 3 / 1471، الحديث 1842، كتاب الامارة، الباب 10 (باب وجوب الوفاء ببيعة
الخلفاء...).
2 - سورة النمل (27)، الآية 34.
6

التشريعية والتنفيذية والقضائية، من دون ان يكون للملك أي دخل في ذلك ولا يتحمل
أية مسؤولية في إدارة الملك، كما هو الحال في انكلترا مثلا. فكأن الملك عضو زائد محترم
مكرم جدا يصرف في وجوه تعشيه وترفهه وتجملاته ووسائل فسقه وفجوره آلاف الألوف
من بيت المال ومن حقوق المحرومين من دون أن يكون على عاتقه أية مسؤولية عامة
بالنسبة إلى المسائل الأساسية.
وواضح أن هذه أيضا كالأولى باطلة مخالفة للعقل والفطرة، إذ لا وجه لهذا الحقو
هذه الوراثة المستمرة من دون نصب من قبل الله - تعالى - أو انتخاب من قبل الأمة، و
من دون ان يتحمل مسؤولية عامة ماسة بمصالح المجتمع، سوى المصارف المجحفة
الزائدة تبعا للرسم والعادة.
الثالثة: الحكومة الأشرافية، وتسمى في اصطلاح العصر: " ارستوقراطية "، وذلك
بان يتسلط فريق أو شخص من المجتمع على الآخرين لمجرد التفوق النسبي أو
المالي، كما هو شائع في العشائر والقبائل ولا سيما في البدويين منهم.
ولا يخفى ان مجرد الانتساب أو التمول ما لم يقترن بالصلاحيات النفسية وقوة
التدبير والانتخاب من قبل الأمة لا يكون ملاكا للولاية ولزوم الطاعة عند العقل و
الفطرة.
الرابعة: الحكومة الانتخابية التي تحصر حق الانتخاب بطبقة خاصة معينة.
ولا نعرف له مثلا في عصرنا إلا ما هو المتعارف لدى كنيسة الروم فعلا من انتخاب
البابا من قبل البطاركة فقط على أساس أنهم أهل الحل والعقد من دون ان يطلب
أصوات الناس وأنظارهم.
الخامسة: الحكومة الانتخابية الشعبية ولكن على أساس فكرة وايديولوجية
خاصة، فيكون الحاكم منتخبا من قبل الفئة المعتقدة بهذه الفكرة الخاصة ومكلفا
بإدارة المجتمع على هذا الأساس. ولعل الحكومة السوفياتية بأقمارها من هذا
القبيل، حيث يكون الانتخاب على أساس المنهج الماركسي ولا سيما في الاقتصاد.
السادسة: الحكومة الانتخابية الديموقراطية العامة المعبر عنها بحكومة الشعب
7

على الشعب، فيكون الشعب في الحقيقة منشأ للتشريع والتنفيذ، والحاكم المنتخب
يحقق أهواء الشعب وحاجاته كيف ما كانت. وربما يعد هذه أحسن أنحاء
الحكومات الدارجة وأوفقها للفطرة لصلاحها مبدأ وغاية، فالمبدأ إرادة الشعب و
آراؤه، والغاية تأمين حاجاته العامة.
أقول: هذا على فرض تحققها واقعا بان يكون الشعب مدركا رشيدا مختارا لا يقع
تحت تأثير العوامل المضللة والأجواء والأهواء والوعود البراقة والدعايات الكاذبة
الرائجة. ولكن يبعد جدا حصولها كذلك مأة بالمأة حتى في مثل الامم الراقية، حيث
نرى فيها وقوع الشعب عملا تحت تأثير الوسائل الاعلامية المملوكة لأصحاب
الثروات والشركات العظيمة الاقتصادية التي يكثر فيها الدعايات الكاذبة، فلا تتحقق
حكومة الشعب حقيقة بل حكومة طبقة خاصة من المجتمع امتلكوا الثروات و
المؤسسات ولا يهدفون إلا مصالح أنفسهم.
4 - الحكومة الاسلامية:
قد عرفت ضرورة الحكومة وحفظ النظام الاجتماعي للبشر، وأن الهرج والمرج
الاجتماعي مما يدرك ضرره وقبحه كل عاقل من أي أمة أو ملة كان.
والمراجع للكتاب والسنة وفقه مذاهب الاسلام من الشيعة والسنة يظهر له
بالبداهة ان دين الاسلام الذي جاء به النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لم ينحصر أحكامه في أمور
عبادية ومراسيم وآداب فردية فقط، بل هو جامع لجميع ما يحتاج اليه الانسان في
مراحل حياته الفردية والعائلية والاجتماعية من المعارف والاخلاق والعبادات و
المعاملات والسياسات والاقتصاد والعلاقات الداخلية والخارجية. فهو بنفسه نظام
كامل يجمع الاقتصاد والسياسة أيضا.
والتتبع في أخبار الفريقين وفتاواهم في الأبواب المختلفة لفقه الاسلام يرشدنا
إلى كون الحكومة وتنفيذ المقررات أيضا داخلة في نسج الاسلام ونظامه. فالاسلام
بذاته دين ودولة، وعبادة واقتصاد وسياسة.
8

فترى النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد هجرته إلى المدينة باشر بتأسيس أول دولة اسلامية
عادلة، وقد مهد لها مقدماتها من أخذ البيعة من القبائل والوفود وعقد ميثاق الاخوة
بين المهاجرين والأنصار والمعاهدة بينهم وبين يهود المدينة. وأقام مسجدا جعله
مركزا لتجمع المسلمين وموضعا لصلواتهم ولنشاطاتهم الاجتماعية والسياسية.
وراسل الملوك والامراء في البلاد وكتب إليهم يدعوهم إلى الاسلام والدخول
تحت ظل حكومته.
ولم يقنع ببيان الاحكام وإقامة الصلوات والتبليغ والارشاد فقط. بل كان ينفذ
حدود الاسلام واحكامه ويبعث العمال والولاة ويطالب بالضرائب والماليات و
يجهز الجيوش ويقاتل المشركين والمناوئين، إلى غير ذلك من شؤون الحكومة. فهذه
كانت سيرته في حياته. وقد كان الحكم الذي قام به (صلى الله عليه وآله وسلم) في عصره مع قصر مدته
حكما فريدا لم تعرف البشرية إلى الآن له شبيها في سهولته وسذاجته وما وجد فيه
الناس من عدل وحرية ومساواة وايثار، وقد أذعن بذلك المؤرخون من غير
المسلمين أيضا.
وبعد وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يشك أحد من المسلمين في الاحتياج إلى الحكومة، بل أجمعوا
على وجوبها وضرورتها. وأنما وقع الخلاف بين الفريقين في انه (صلى الله عليه وآله وسلم) هل نصب
أمير المؤمنين (عليه السلام) واليا أو إنه أهمل أمر الخلاقة وفوضه إلى المسلمين. فالشيعة الامامية
تعتقد ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد عين أمير المؤمنين (عليه السلام) في غدير خم وفي غيره من المواقف و
نصبه لتصدي الولاية بعد وفاته. والسنة يقولون بانعقاد الإمامة بعده (صلى الله عليه وآله وسلم) بالشورى و
انتخاب أهل الحل والعقد. وكيف كان فرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مضافا إلى نبوته ورسالته كان
بنص القرآن الكريم أولى بالمؤمنين من أنفسهم وكان له الولاية عليهم، وكذلك الأئمة
الاثنا عشر عندنا كان لهم حق الولاية. والبحث بحث كلامي يطلب من محله.
وتمتاز الحكومة الاسلامية عن الحكومة الديموقراطية الغربية الدارجة بوجوه:
منها: ان الحاكم في الحكومة الاسلامية يجب أن يكون أعلم الناس وأعدلهم و
أتقاهم وأقواهم بالأمر وأبصرهم بمواقع الأمور. ففي عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان هو بنفسه
أولى بالمؤمنين من أنفسهم وكانت له الولاية عليهم من قبل الله - تعالى -. وبعده كانت
الولاية عندنا حقا للأئمة الاثني عشر، وفي عصر الغيبة للفقيه العادل العالم بزمانه
البصير بالأمور والحوادث الرؤوف الحافظ لحقوق الناس حتى الأقليات غير المسلمة،
9

فلا يجوز للأمة انتخاب غيره.
ومنها: ان الحكومة الاسلامية بشعبها الثلاثة من التشريع والقضاء والتنفيذ تتقيد
بموازين الاسلام وقوانينه العادلة النازلة من قبل الله - تعالى - العالم بمصالح خلقه،
فلا يجوز التخلف عنها. فالحاكم في الحقيقة هو الله - تعالى - والوالي منفذ لا حكامه.
وقد يعبر عن هذه الحكومة بالحكومة التئوقراطية بمعنى حكومة القانون الإلهي على
المجتمع.
وأما في النظام الديموقراطي الانتخابي الدارج فملاك الانتخاب فيه رضا
الناخبين، والهدف منه تحقيق أهوائهم ومشتهياتهم كيف ما كانت، فلا يتقيد الناخب
ولا المنتخب لا بمقررات شرعية ولا بمصالح عقلية وفضائل أخلاقية. وسيأتي
تفصيل ذلك في الباب الخامس، فانتظر.
5 - شروط الحاكم المنتخب عند العقلاء:
لا يخفى أن الانسان العاقل إذا أراد تفويض عمل إلى غيره فهو بحكم الفطرة
يراعي في الفرد المنتخب أن يتحقق فيه أمور: الأول: العقل الوافي. الثاني: العلم بفنون
العمل المفوض اليه. الثالث: قدرته على العمل. الرابع: أن يكون أمينا لا يهمل الأمر و
لا يخون فيه. وقد يعبر عن ذلك بالعدالة. فمن أراد استيجار شخص لإحداث بناء مثلا
فلا محالة يراعي فيه بحكم الفطرة تحقق هذه الشروط والصفات.
وإدارة شؤون الأمة من أهم الأمور وأعضلها وأدقها، فلا محالة إذا فرض كون
انتخاب الوالي بيد الشعب وكان الشعب حرا مختارا في الانتخاب وجب عليه بحكم
العقل والفطرة أن يراعي في الولي المنتخب أن يكون عاقلا، عالما بفنون السياسة و
التدبير، قادرا على التنفيذ، أمينا غير خائن. فاعتبار هذه الصفات في الوالي أمر يحكم
به العقلاء بفطرتهم ولا حاجة فيه إلى التعبد، والمتخلف عن ذلك يستحق الذم واللوم
عندهم.
وإذا فرض أن الذين فوضوا أمر الحكومة إلى شخص خاص كانوا يعتقدون بمبدأ
خاص وايديولوجية معينة متضمنة لقوانين ومقررات مخصوصة في نظام الحياة، و
أرادوا
10

حسب اعتقادهم إدارة شؤونهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية على أساس
هذا المبدأ الخاص وهذه المقررات المعينة، فلا محالة بحسب الطبع ينتخبون لذلك من
يكون معتقدا بهذا المبدأ ومطلعا على مقرراته. ألا ترى ان المعتقدين بالمبدأ المادي و
الاقتصاد الماركسي يراعون في الحاكم المنتخب لبلادهم مضافا إلى ما مر من
الشروط العامة اعتقاده بالمنهج المادي الماركسي واطلاعه على موازينه المرتبطة
بالسياسة والاقتصاد؟ فهذا أيضا أمر طبيعي فطري.
6 - ولاية الفقيه:
قد ظهر لك أولا ضرورة الحكومة في حياة البشر وأنها لا تختص بعصر دون عصر
أو ظرف دون ظرف. وأشرنا ثانيا إلى أنحاء الحكومات الدارجة اجمالا. وثالثا إلى
جامعية الشريعة الاسلامية وان الحكومة داخلة في نسج الاسلام ونظامه كما يأتي
تفصيل ذلك. ورابعا إلى ان العقلاء بفطرتهم يعتبرون في الحاكم كونه عاقلا أمينا عالما
برموز السياسة والتدبير قادرا على التنفيذ والاجراء، وانه إذا كانت الأمة تعتقد بمبدأ
خاص وايديولوجية خاصة حاوية لمسائل الحياة في جميع مراحلها فلا محالة
تراعي في الحاكم - مضافا إلى الشروط العامة - كونه معتقدا بهذا المبدأ وعالما
بمقرراته العادلة المرتبطة بشؤون الحياة لكي يقدر على تنفيذها.
وعلى هذا فالأمة الاسلامية حسب اعتقادها بالاسلام وقوانينه العادلة الجامعة
تتمنى أن يكون الحاكم عليها والمهيمن على شؤونها رجلا عاقلا عادلا عالما برموز
السياسة قادرا على التنفيذ معتقدا بالاسلام وعالما بضوابطه ومقرراته بل اعلم فيها
من غيره، ولا نريد بولاية الفقيه إلا هذا.
وهذا العنوان كان ينطبق عندنا في عصر ظهور الأئمة (عليهم السلام) على أئمتنا (عليهم السلام) عترة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبواب علمه، وفي عصر الغيبة ينطبق على من تفقه في الكتاب والسنة و
عرف أحكامهما.
وبهذا البيان يظهر لك أن ولاية الفقيه الجامع للشرائط التي أشرنا إليها أمر يتمناه و
يطمح اليه كل من اعتقد بالاسلام وجامعيته حسب عقله وفطرته، ويراها ضمانا
11

لتنفيذ قوانين الاسلام الجامعة للعدالة وصلاح المجتمع. وهذا كلام قابل للعرض على
كل عاقل منصف من أي ملة كان. والأقليات غير المسلمة أيضا تحفظ حقوقها في
ظل هذه الحكومة حسب رعاية الاسلام إياها.
وليس معنى ولاية الفقيه تصديه لجميع الأمور بنفسه، بل هو يفوض كل أمر إلى
أهله من الأشخاص أو المؤسسات مع رعاية القوة والتخصص والأمانة فيهم، و
يكون هو مشرفا عليهم هاديا لهم، مراقبا لهم بعيونه وأياديه ومسؤولا عن أعمالهم لو
تساهلوا أو قصروا، ويشاور في كل شعبة من الحوادث والأمور الواقعة المهمة،
الخواص المضطلعين فيها، حيث ان الأمر لا يرتبط بشخص خاص حتى يكون
الاشتباه فيه قابلا للاغماض عنه، بل يرتبط بشؤون الاسلام والمسلمين جميعا، وقد
قال الله - تعالى -: " وأمرهم شورى بينهم. " (1) وإذا كان عقل الكل وخاتم الرسل
خوطب بقوله - تعالى -: " وشاورهم في الأمر " (2) فتكليف غيره واضح وان تفوق و
نبغ.
7 - على العلماء والفقهاء ان يتدخلوا في السياسة:
وليس عدم اطلاع الفقهاء على المسائل السياسية وعدم ورودهم فيها إلى الآن
عذرا لهم ولا مبررا لقعودهم وانزوائهم عن التصدي للحكومة وشؤونها، بل يجب
عليهم الورود والخوض فيها وتعلمها، ثم ترشيح أنفسهم لما يتمكنون القيام به من
شؤونها المختلفة، ويجب على الناس انتخابهم وتقويتهم. إذ الولاية وإدارة أمور
المسلمين من أهم الفرائض، فإنها الوسيلة الوحيدة لاجراء العدالة وتنفيذ سائر
الفرائض الاسلامية، فالانزواء عنها وإحالة شؤون المسلمين وإدارة أمورهم و
بلادهم إلى الطواغيت وعملاء الكفر والفساد ظلم كبير على الاسلام والمسلمين.
ففي رواية سليم بن قيس الآتية عن أمير المؤمنين (عليه السلام) انه قال: " والواجب في حكم
الله وحكم الاسلام على المسلمين بعدما يموت إمامهم أو يقتل، ضالا كان أو مهتديا مظلوما

1 - سورة الشورى (42)، الآية 38.
2 - سورة آل عمران (3)، الآية 159.
12

كان أو ظالما حلال الدم أو حرام الدم، أن لا يعملوا عملا ولا يحدثوا حدثا ولا يقدموا يدا ولا
رجلا، ولا يبدؤوا بشئ قبل ان يختاروا لأنفسهم إماما عفيفا عالما ورعا عارفا بالقضاء و
السنة، يجمع أمرهم ويحكم بينهم ويأخذ للمظلوم من الظالم حقه ويحفظ أطرافهم. " (1)
وفي صحيحة زرارة الآتية عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " بني الإسلام على خمسة أشياء:
على الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية. قال زرارة: فقلت: وأي شئ من ذلك
أفضل؟ فقال: الولاية أفضل، لأنها مفتاحهن والوالي هو الدليل عليهن. " (2)
فأوجب الفرائض تعيين الوالي الذي هو مفتاح سائر الفرائض وبيده اجراؤها و
تنفيذها.
كيف؟! وقد ذكر الفقهاء أمورا سموها أمورا حسبية وقالوا إن شارع الحكيم
لا يرضى باهمالها وتركها، كحفظ أموال الغيب والقصر ونحو ذلك، فيجب على الفقهاء
من باب الحسبة التصدي لها. فنقول: هل الشارع الحكيم لا يرضى باهمال الأموال
الجزئية التي تكون للصغار والمجانين مثلا، ويرضى باهمال أمور المسلمين و
إحالتها إلى الكفار والصهاينة وعملاء الشرق والغرب؟! هذا.
8 - ما أوجب تنفر المسلمين من اسم الحكومة والسياسة:
والذي أوجب تنفر المسلمين ولا سيما علمائهم وفقهائهم الملتزمين بالدين من
اسم الحكومة فضلا عن التدخل فيها والتصدي لها، وصار سببا لانزوائهم وانعزالهم
عن ميدان السياسة والحكم هو:
1 - ما رأوه وشاهدوه من غلبة الطواغيت والجبابرة طوال القرون المتمادية على
البلاد الاسلامية وقهرهم لأهل الحق وإكثارهم من الظلم والفساد والترف و
الاسراف وإعمالهم للتزويرات والمكايد الشيطانية والقلب للحقائق والفضائل باسم
الحكومة والسياسة، فصار وجه الحكومة مشوها بذلك عندهم.

1 - كتاب سليم بن قيس / 182.
2 - الكافي 2 / 18، كتاب الإيمان والكفر، باب دعائم الاسلام، الحديث 5.
13

2 - وما صنعه وارتكبه علماء السوء وطلاب الدنيا من التقرب إلى بلاط سلاطين
الجور، والتبرير لظلمهم وجناياتهم، فكتموا الحقائق وقلبوها لذلك.
3 - وما روجته وأصرت عليه أيادي الاستعمار وعملاؤه من انفكاك الدين عن
السياسة، وحصر الدين الاسلامي مع سعته وشموله لجميع شؤون الحياة - كما سيظهر
لك - في بعض العبادات الصورية والمراسيم والآداب الشخصية.
فصار كل ذلك سببا لحبس الفقهاء منا وعلماء الدين الأبرار أنفسهم في زوايا
المدارس والبيوت، وتوهموا أن الاحتياط في الدين يقتضي الانزواء، وهم قد غفلوا
عن هذه الفريضة المهمة التي هي أساس تنفيذ سائر الفرائض، بحيث صار البحث فيها
وفي فروعها أيضا متروكا في فقه الشيعة الامامية وخلت منه كتبهم وموسوعاتهم
الفقيه الا نادرا أو تطفلا.
فترى المحقق النراقي - طاب ثراه - مثلا خص عائدة من كتابه المسمى بالعوائد
بالبحث في ولاية الفقيه. وهو مع اختصاره لطيف وزين.
والشيخ الأعظم الأنصاري - طاب ثراه - أيضا تعرض لها اجمالا في كتاب البيع
تطفلا لمسألة بيع مال اليتيم.
وألف فيها المحقق النائيني - قدس سره - رسالة مختصرة سماها تنبيه الأمة. وهي
بالنسبة إلى عصره كانت رسالة وزينة فريدة.
وتعرض للمسألة أيضا بنحو الاجمال السيد الأستاذ المرحوم آية الله العظمى
البروجردي - قدس سره - أثناء بحثه في صلاة الجمعة المقرر المكتوب بقلمي القاصر
المطبوع في سنة 1378 من الهجرية القمرية. واسم الكتاب: " البدر الزاهر في صلاة
الجمعة والمسافر ".
ولكن كل هذه الأبحاث كانت أبحاثا اجمالية إلى أن بحث فيها السيد الأستاذ
الإمام آية الله العظمى الخميني - مد ظله العالي - بالتفصيل بنحو بديع في منفاه في
العراق فانتشرت أبحاثه باسم الحكومة الاسلامية بالعربية والفارسية، وصارت سببا
لالتفات المسلمين في إيران الاسلامية إلى أهمية المسألة ووسيلة لرشدهم ووعيهم
السياسي فقاموا وثاروا على طاغوت إيران بقيادته الحكيمة القاطعة حتى نجحوا و
ظفروا بحمد الله تعالى ومنته مع قلة الوسائل وكثرة المشاكل. هذا.
وان كنت ترى بعض النواقص والاشكالات في إدارة الشؤون فعلا فإنما هي من لوازم
14

الثورة والتحول، ومسببة عن بقاء بعض الجذور الفاسدة من نظام الطاغوت في المؤسسات
والدوائر، وعن عدم التوفيق من قبل لتهيئة المقدمات اللازمة للدولة الاسلامية الجديدة.
وليست إدارة مثل إيران في هذا العصر المتلاطم مع هجمة الأجانب وعملائهم
الداخلية والخارجية، وطول الحرب المفروضة علينا من قبلهم أمرا مرنا سهلا. كما ان
تهيئة المقدمات والعناصر اللازمة أيضا تحتاج إلى فراغ ومرور زمان، والى التعاضد
والتعاون. فعلى العلماء والفضلاء الملتزمين والأساتذة والشبان المثقفين في
المجالات المختلفة ان يقوموا لله ويصرفوا جميع طاقاتهم في تعلم سياسة البلاد و
العباد والاطلاع على مسائل الزمان وحاجاتها واحكام القضاء وفنون الاقتصاد و
احكامها وسائر المسائل اللازمة حتى ترتفع بهممهم ونشاطاتهم النواقص و
المشاكل. فالله - تعالى - لا يقبل اعتذارنا بعدم العلم والاطلاع بعدما يحكم العقل و
الشرع بأهمية الموضوع، ويحكم العقل بوجوب المقدمة للواجب وأن أهميتها بأهمية
ذيها. وليكن الغرض معالجة مشاكل العصر بنظام الاسلام لا تطبيق نظام الاسلام على
مشاكل العصر، وبينهما فرق واضح.
اللهم فوفقنا للاهتمام بمرضاتك وعدم الابتلاء بالتواكل والتخاذل، آمين رب العالمين.
9 - سبب تأليف الكتاب وإشارة إجمالية إلى أبوابه وفصوله:
لما انجر بحثنا في سهم العاملين من مباحث الزكاة إلى مسألة ولاية الفقيه
العادل البصير بالأمور في عصرنا الحاضر، اعني عصر غيبة الإمام المنتظر - عجل الله
تعالى فرجه الشريف - اقترح على بعض الحضار البحث في هذه المسألة المهمة التي
صارت مطرحا للأنظار في المحافل المختلفة بعد نجاح الثورة في إيران. وكان
يمنعني من إجابة مسؤولهم سعة دائرة الموضوع وكثرة المشاغل اليومية، ولكن
رأيت أن الميسور لا يترك بالمعسور، وما لا يدرك كله لا يترك كله، فتعرضت
للبحث فيها بقدر الوسع. وكان من المناسب جدا أن أتعرض في المسائل المطروحة
المعنونة، لكلمات العلماء والمصنفين من الشرق والغرب في هذا المجال، أعني
مسألة الحكومة والدولة، ولكن الوقت لم يساعدني على الرجوع إليها والتعرض لها
فقصرت نظري على أصل عنوان المسائل وطرحها وذكر
15

الآيات والروايات المناسبة لها وذكر بعض الكلمات من علمائنا محيلا إكمالها و
تفصيلها إلى ذوي الوسع والفراغ من أهل الفضل والكمال. وكنت على الرسم والعادة
أقيد ما ألقيه في المحاضرات بالكتابة حتى صار بصورة هذا الكتاب الذي بين يديك
مع تفاوت ما عن الدروس في الترتيب وفي بعض المطالب ولكن الأساس واحد.
ويشتمل الكتاب على مقدمة وثمانية أبواب وخاتمة:
1 - أشرنا في المقدمة اجمالا إلى ضرورة الحكومة وأنحائها الدارجة، والحكومة
الاسلامية وولاية الفقيه وأبواب الكتاب وفصوله.
2 - وبينا في الباب الأول ما يقتضيه الأصل العملي الفقهي في مسألة الولاية مع
قطع النظر عن الأدلة، وهو باب مختصر جدا.
3 - وفي الباب الثاني ثبوت الولاية للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وللأئمة المعصومين (عليهم السلام)
عندنا بنحو الإجمال، وختمناه بتنبيهات نافعة. ولا يخفى ان محل بحثها الكتب
الكلامية وبحثنا في الكتاب بحث فقهي ولكن لما لم يصح خلو الكتاب الباحث في
الحكومة الإسلامية وولاية الفقيه عن التعرض لولايتهم - عليهم السلام - التي هي
أساس الحكومة الإسلامية تعرضنا لها بنحو الاختصار.
4 - وعقدنا الباب الثالث للبحث تفصيلا حول مسألة الحكومة ووجوب إقامة
الدولة الاسلامية العادلة في جميع الأعصار، واشتمل هذا الباب على فصول أربعة:
تعرضنا في الفصل الأول منها لكلمات بعض العلماء المدعين للاجماع في المسألة، و
في الفصل الثاني للأبواب المختلفة من الفقه الاسلامي من الأخبار والفتاوى المشتملة
على لفظ الإمام أو الوالي أو السلطان أو الحاكم أو بيت المال أو السجن أو السيف أو
نحو ذلك مما يدل على القدرة والحكومة وكون تشريع الأحكام في الأبواب
المختلفة من فقه الاسلام على أساس وجود الدولة العادلة والحكومة الاسلامية وأنها
داخلة في نسج الاسلام ونظامه. ويشتمل هذا الفصل على أربعة عشر فصلا. هذا. و
ذكرنا في الفصل الثالث من هذا الباب عشرة أدلة لإثبات وجوب إقامة الدولة العادلة
في جميع
16

الأعصار ووجوب الاهتمام بها على كل مسلم، بحيث يرجى ان يقتنع بها كل
منصف. ثم تعرضنا في الفصل الرابع للأحاديث الموهمة وجوب السكوت والسكون
في عصر الغيبة وعدم جواز التحرك لإقامة الدولة، وأوضحنا المقصود منها.
5 - وعقدنا الباب الرابع لبيان ما يشترط في الحاكم الإسلامي من الشرائط و
المواصفات بحكم العقل والكتاب والسنة، وذكر ما اختلف في اشتراطه فيه. ويشتمل
هذا الباب على اثني عشر فصلا.
6 - وتعرضنا في الباب الخامس لما تنعقد به الإمامة والولاية وكيفية ثبوت
الولاية للفقيه في عصر الغيبة وأنها هل تكون بالنصب العام من قبل الأئمة (عليهم السلام) أو
بالانتخاب من قبل الأمة لمن وجد الشرائط. ويشتمل هذا الباب على ستة فصول. و
الفصل السادس منها فصل طويل يشتمل على ست عشرة مسألة مهمة جدا ينبغي
ملاحظتها. والأخيرة منها مسألة الكفاح المسلح ضد الإمام الفاقد للصلاح، وانه هل
يجوز أم لا.
7 - وتعرضنا في الباب السادس لحدود ولاية الفقيه واختياراته ووظائف الإمام،
السلطات الثلاث، وواجبات الحاكم الإسلامي تجاه الإسلام والأمة وواجبات الأمة
تجاهه. ويشتمل هذا الباب على خمسة عشر فصلا. وأطول الفصول وأهمها الفصل
الرابع المتعرض للسلطات الثلاث.
8 - وذكرنا في الباب السابع بعض الآيات والروايات الواردة في سيرة الإمام و
أخلاقه في معاشرته وفي مطعمه وملبسه ونحو ذلك. وفيه فصول ثلاثة. وهو باب
لطيف ينبغي للأئمة والحكام ملاحظتها.
9 - وذكرنا في الباب الثامن المنابع المالية للدولة الإسلامية. وقد تعرضنا لها بنحو
الإجمال في فصول.
10 - وذكرنا في الخاتمة كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى مالك حين ولاه مصر،
17

لاشتماله على مطالب مهمة في الحكومة وليكون ختام كتابنا مسكا.
10 - طريقتنا في البحث وسيرتنا فيه:
اعلم أن الطريق الذي سلكناه في البحث في مسألة ولاية الفقيه يتفاوت مع
ما سلكه الأعاظم المتعرضون لها; فإنهم يفرضون أولا ثبوت الولاية للفقيه الجامع
للشرائط، ثم يتفحصون عما يمكن ان يستدل به لهذا المطلوب المفروض; فيذكرون
مقبولة عمر بن حنظلة مثلا وغيرها من الأخبار ويتعبون أنفسهم في اثبات دلالتها
ورد المناقشات الواردة عليها. ولو فرض قوة المناقشات وعدم القدرة على ردها،
فلا محالة يتزلزل عندهم بنيان ولاية الفقيه.
وأما نحن فنثبت أولا ضرورة أصل الحكومة والدولة للمجتمع في جميع الأعصار
وأن الحكومة والإمامة داخلة في نسج الاسلام ونظامه، وذلك بالتتبع في متون
الكتاب والسنة القويمة وفقه الفريقين. وثانيا نذكر الشروط والمواصفات المعتبرة
في الحاكم الإسلامي بحكم العقل والكتاب والسنة، ثم نلاحظ ان هذه الشروط و
المواصفات لا تنطبق الا على الفقيه العادل الواجد للشرائط - كما سيأتي - فتثبت
ولايته اجمالا وأنه المتعين لها قهرا، ثم نبحث في كيفية انعقاد الولاية وطرقه وأنها
هل تنحصر في النصب من العالي فقط أو يثبت بالانتخاب أيضا ولكن في صورة عدم
النصب; فان ثبت الدليل على نصب الفقيه فهو، وإلا وجب على الأمة انتخابه، ولا
يجوز انتخاب غيره ولا تنعقد له الإمامة لفقد الشرائط المعتبرة.
فالطريق الذي سلكناه في المسألة يشبه طريق الفيلسوف في المسائل العقلية
الدينية، كاثبات الصانع وصفاته. وطريق الأصحاب فيها يشبه طريق المتكلم في هذه
المسائل، كما لا يخفى على أهله.
وقد أشرنا سابقا إلى أن البحث في جميع مسائل الحكومة وشؤونها بالتفصيل، و
التعرض لكلمات الأعلام والمحققين من علماء الإسلام وعلماء الشرق والغرب في
هذا المجال مما يحتاج إلى فراغ كثير لا يتيسر لي فعلا.
فالذي اهتممت به في هذا الكتاب هو التعرض لأصل ضرورة الحكومة في جميع
18

الأعصار، ثم التعرض لشرائط الحاكم وطرق تعيينه وانتخابه وبيان وظائف الإمام و
سيرته والسلطات الثلاث ونحو ذلك، وذكر الآيات والروايات التي عثرت عليها في
هذه المجالات. نعم، ربما أتعرض لبعض كلمات علماء الاسلام بالمناسبة.
وكان بنائي في كل موضوع على جمع الآيات والروايات الواردة فيه من طرق
الفريقين. ولم أكن أتعرض لصحة الروايات وسقمها من جهة السند الا في بعض
الموارد اللازمة. إذ كان الغرض المهم جمع الأحاديث مهما أمكن، ليسهل تناولها
للطالبين. ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه.
وليست مسألة الحكومة الاسلامية أمرا يختص بالشيعة الامامية، بل هي ضرورة
لجميع المسلمين، فيجب البحث فيها في إطار فقه الاسلام بسعته الشاملة لجميع
المذاهب.
وقد استقرت سيرة كثير من فقهائنا الإمامية في كتبهم الفقهية كالسيد المرتضى في
الناصريات والانتصار، والشيخ الطوسي في الخلاف، والمحقق في المعتبر، والعلامة
في التذكرة والمنتهى على التعرض لفتاوى فقهاء السنة ورواياتهم في المسائل الفقهية
والأصولية، وعلى ذلك استقرت سيرة أستاذنا المرحوم آية الله العظمى البروجردي
- أعلى الله مقامه - أيضا.
وربما كانت الأخبار الواردة عن أئمتنا - عليهم السلام - في المسائل المختلفة
ناظرة إلى الروايات والفتاوى المشهورة في أعصارهم من فقهاء السنة، وفيها قرائن
على ما هو المغزى والمقصود من رواياتنا.
وفي كثير من المسائل المطروحة في بحثنا قد تكثرت الأخبار إلى حد يحصل
العلم العادي اجمالا بصدور بعضها، ونعبر عن ذلك بالتواتر الاجمالي. ويكفي هذا
لاثبات أصل الموضوع المبحوث فيه، وان لم يصح الاستناد إلى كل واحد واحد منها
فيما يخصه من المضمون.
ويظهر من شيخ الطائفة جواز العمل بالأخبار الواردة من طرق السنة عن
أمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمة من ولده (عليهم السلام) إذا لم يكن هنا من طرقنا أخبار تخالفها أو
اجماع ينافيها. والظاهر وجود هذا الملاك فيما رووه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا.
قال في العدة:
" فأما إذا كان مخالفا في الاعتقاد لأصل المذهب وروى مع ذلك عن الأئمة (عليهم السلام)
19

نظر فيما يرويه، فان كان هناك من طرق الموثوق بهم ما يخالفه، وجب إطراح خبره،
وان لم يكن هناك ما يوجب إطراح خبره ويكون هناك ما يوافقه وجب العمل به.
وان لم يكن هناك من الفرقة المحقة خبر يوافق ذلك ولا يخالفه ولا يعرف لهم
قول فيه وجب أيضا العمل به، لما روي عن الصادق (عليه السلام) انه قال: " إذا أنزلت بكم حادثة
لا تجدون حكمها فيما روي عنا فانظروا إلى ما رووه عن على (عليه السلام) فاعملوا به. "
ولاجل ما قلناه عملت الطائفة بما رواه حفص بن غياث وغياث بن كلوب ونوح
بن دراج والسكوني وغيرهم من العامة عن أئمتنا - عليهم السلام - فيما لم ينكروه و
لم يكن عندهم خلافه. " (1) هذا.
ونذكر في كل مسألة أولا الآيات الشريفة الدالة عليها، ثم الأخبار المروية عن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من طرق الشيعة كانت أو من طرق السنة، ثم ما روي عن أبي الأئمة
أمير المؤمنين (عليه السلام) ثم ما روي عن الأئمة من ولده (عليهم السلام). وربما يتفق التخلف عن هذا
الترتيب لنكتة خاصة تظهر لمن تأمل. ولا أتعرض لتفسير الآيات وشرح الأحاديث
إلا في بعض الموارد اللازمة حذرا من طول الكتاب. ولو كان لسان بعض الروايات
شرح بعض الآيات المذكورة كان المناسب لا محالة تقديمه على غيره من الروايات
فراعيت هذه النكتة أيضا. ومع ذلك كله فلا أدعي عدم النقص في الترتيب أو في بيان
المطالب أو عدم الخطأ والاشتباه في الاستنباط من الأدلة، فان الانسان محل الخطأ و
النسيان.
11 - أهمية فقه الدولة والمسائل العامة الاجتماعية:
واعلم أن البحوث الفقهية عند المسلمين من الشيعة والسنة قد طرأ عليها في العصور
الأخيرة نقصان فاحشان: نقص في كميتها، حيث قلت الحوزات والمعاهد الإسلامية
الدينية والفقهاء الحذاق في البلاد بسعي من الاستعمار وعملائه. ونقص في نوعيتها،
حيث تركزت البحوث على مسائل العبادات والشؤون الشخصية وانحسرت عن الشؤون

1 - العدة 1 / 379.
20

العامة للأمة الاسلامية تبعا لانحسار حكم الاسلام عن هذه الشؤون.
فنرجو من شبان المسلمين الملتزمين ممن له قريحة واستعداد ان يقلوا العرجة
على الدنيا وزخارفها ويخلصوا وجوههم لله، فيقبلوا إلى المعاهد الدينية والحوزات
العلمية بنيات صادقة طاهرة وهمم عالية، ولا يقتصر الطلاب والفضلاء على تعلم
المسائل الفردية، بل يبحثوا فقه القضايا العامة أيضا من قبيل إقامة الدولة وحدودها و
شرائطها، وفقه الجهاد والدفاع، وعلاقات المسلمين مع المسلمين ومع الكفار و
الأقليات غير المسلمة، وفقه الأنفال والأراضي والثروات، والحدود والتعزيرات و
القضاء والشهادات.
فكم يتفق مسألة عامة مهمة لا نجد من يتقنها ويحل مشكلتها مع وجود المباني
الأساسية لها في الكتاب والسنة وكتب العلماء والفقهاء الماضين. وهذا نقص وعيب
بين واضح.
وفي الكافي بسند لا بأس به عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " إذا أراد الله بعبد خيرا فقهه
في الدين. " (1)
وبسند صحيح عن أبان بن تغلب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " لوددت ان أصحابي
ضربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقهوا. " (2)
وعن أبي حمزة، عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: " لو يعلم الناس ما في طلب العلم
لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج. " (3)
ولا يخفى ان أفضل العلم بعد معرفة الله علم الفقه الذي به يعرف أحكام الله -
تعالى - في جميع الشؤون. اللهم فوفقنا للتفقه في دينك والعمل بما يرضيك.
12 - البحث العلمي الحر لا يضر بالوحدة، بل يؤكدها:
وفي ختام المقدمة ألفت نظر القارئ الكريم إلى نكتة مهمة، وهي ان البحث

1 - الكافي 1 / 32، كتاب فضل العلم، باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء، الحديث 3.
2 - الكافي 1 / 31، كتاب فضل العلم، باب فرض العلم ووجوب طلبه والحث عليه، الحديث 8.
3 - الكافي 1 / 35، كتاب فضل العلم، باب ثواب العالم والمتعلم، الحديث 5.
21

الفقهي والعلمي الأصيل يخدم قضية وحدة المسلمين ولا يضر بها، كما قد يتوهم. فان
الواجب على المسلمين الأحرار أن يعرف بعضهم معارف الأخرين وفقههم، لا أن
يكتم فقهاء هذا المذهب أو ذاك ما يرونه صحيحا وحقا، فلا يتوقع من باحث شيعي
مثلا أن يكتم في البحث العلمي ما يراه حقا.
وليس معنى الوحدة الاسلامية كتمان الحقائق والعلوم، بل يعنى بها تجلي
المشاركات الأصيلة الموجودة بينهم والمبادلات العلمية وتشديد العلاقات
السياسية والاقتصادية وحفظ الآداب والحرم، وجهادهم معا ضد الكفر العالمي
المسيطر على بلادنا وشؤوننا. فديننا واحد ونبينا واحد وكتابنا واحد وقبلتنا و
مشاعرنا واحدة، ونشارك في الكتاب والسنة. فيجب المراقبة لأن لا يستفيد العدو
من إلقاء الخلافات وإيجاد الضغائن. فهذا هو عمدة وسيلتهم للسلطة علينا، كما حكي
عن أحد رؤساء دولة بريطانيا أنه قال: " فرق تسد ".
وقد استقرت سيرة السيد الأستاذ المرحوم آية الله العظمى البروجردي - طاب
ثراه - في بحوثه الفقهية على المقارنة بين فقه المذاهب اجمالا، ونحن أيضا نقفو اثره
فنتعرض في بحثنا لفتاوى علماء السنة ورواياتهم. ونرجو من إخواننا السنة أيضا ان
يلتفتوا إلى فقه الشيعة الذي هو فقه العترة الطاهرة، ولا يلتفتوا إلى إلقاءات الأعداء
وضوضاء الجهال وأهل الشغب.
وبالجملة أوصي أهل البحث والنظر من الفريقين بسعة النظر وحفظ الأدب في
الكلام والقلم، وأن لا يقعوا في حبائل الشياطين من الجن والإنس والنفس الأمارة
بالسوء.
13 - تذكار واعتذار:
وأقول هنا مذكرا انه قد حصل لنا بالتجربة انه كلما وقع البحث في هذا السنخ من
المسائل الأساسية الموجبة لوعي المسلمين ورشدهم السياسي، وانتشر فيها مصنف،
سعى عملاء الاستعمار والأيادي الجاهلة الساذجة أو الأجيرة الخبيثة في إشاعة
الدعايات المسمومة في البلاد الاسلامية والمحافل الدينية والعلمية، وفي افساد الجو
22

والبيئة على المصنف والمصنف.
ولكني أوصي الإخوان من الفضلاء الكرام والأعزة الأعلام أن لا يصدهم هذا
النوع من الضوضاء عن العمل بالوظائف العلمية والتحقيقات الإسلامية، وان
لا يبادروا إلى الاعتراض والمناقشة في مطلب أو جملة من هذا الكتاب إلا بعد
الإحاطة بجميع أبوابه وفصوله، فان المباحث والمطالب فيه متشابكة ومرتبطة غاية
الارتباط، وربما أبدينا نظرا في مقام وأقمنا الدليل عليه في باب آخر، وربما نذكر
أمرا ايرادا واحتمالا لا جزما واعتقادا، ولا ينضج المطالب ولا يبرهن عليها إلا في
خلال الايرادات والردود، هذا.
ومع ذلك كله فالإنسان محل الخطأ والنسيان، وكفي بالمرء نبلا ان تعد معايبه.
وأرجو من الفضلاء الكرام أن يصرفوا طاقاتهم في تنقيح هذه المسائل، فإنها مما
تعم به البلوى. ومن الله - تعالى - استمد وعليه التكلان.
وأنا العبد المحتاج إلى رحمة ربه الهادي، حسينعلى المنتظري النجف آبادي
غفر الله له ولوالديه وجعل مستقبل أمره خيرا من ماضيه بجاه محمد وآله الطاهرين.
15 جمادى الأولى 1408 ه. ق.
23

الباب الأول
فيما يقتضيه الأصل، وحكم العقل في المسألة إجمالا مع قطع النظر عما ورد في
الكتاب والسنة
25

مقتضى الأصل وحكم العقل في المسألة
قالوا: أن الأصل عدم ولاية أحد على أحد وعدم نفوذ حكمه فيه، فان أفراد الناس
بحسب الطبع خلقوا أحرارا مستقلين. وهم بحسب الخلقة والفطرة مسلطون على
أنفسهم وعلى ما اكتسبوه من أموالهم بإعمال الفكر وصرف القوى. فالتصرف في
شؤونهم وأموالهم والتحميل عليهم ظلم وتعد عليهم. وكون أفراد الناس بحسب
الاستعداد والفعلية مختلفين في العقل والعلم والفضائل والأموال والطاقات و
نحوها لا يوجب ذلك ولاية بعضهم على بعض وتسلطه عليه ولزوم تسليم هذا
البعض له.
وفي كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) لابنه الحسن - عليه السلام -: " لا تكن عبد غيرك وقد
جعلك الله حرا. " (1)
وقال - عليه السلام - أيضا: " أيها الناس، ان آدم لم يلد عبدا ولا أمة، وان الناس كلهم
أحرار ولكن الله خول بعضكم بعضا. " (2)
اللهم إلا ان يناقش بان الولاية على الناس تدبير لأمورهم وجبر لنقصهم وهذا

1 - نهج البلاغة، فيض / 929; عبده 3 / 57; لح / 401، الكتاب 31.
2 - الكافي 8 / 69 (الروضة) الحديث 26.
27

غير الاستعباد، فتأمل.
هذا ما ذكروه في مقام تأسيس الأصل في مسألة الولاية، ولكن هنا أمور أخر
أيضا في قبال ذلك الأصل يحكم بها العقل نشير إليها إجمالا والتفصيل في كل منها
يحال إلى محله. ولعله يوجد لهذه الأمور نحو حكومة على هذا الأصل:
الأول:
انه لاشك في ان الله - تعالى - خالق لنا ولكل شيء مادة وصورة، جوهرا و
عرضا، وبيده التكوين والتنمية والتربية والهداية، وله ان يتصرف في جميع شؤون
خلقه، وهو عليم بما يصلح خلقه وعباده في دينهم ودنياهم وحالهم ومستقبلهم،
حكيم في الخلق والتشريع لا يحكم إلا بما يكون صلاحا لنا ولنظام الوجود. و
الانسان في قباله مهما بلغ من العلم والمعرفة عاجز قاصر عن ان يحيط بطبائع
الأشياء ولطائف وجوده ومصالح نفسه في النشأتين.
فلله الخلق والأمر، وله أن يأمر بما يراه صلاحا وينهى عما يراه ضررا وفسادا، و
على الانسان ان يخضع لله وللشريعة الإلهية بقوانينها العادلة الحكيمة في شتى
مراحل حياته، يحكم بذلك العقل ويذمه على المخالفة، ولا يشارك الله في ذلك
أحد من خلقه.
قال الله - تعالى - في كتابه العزيز: " ان الحكم إلا لله، يقص الحق وهو خير
الفاصلين. " (1)
وقال: " ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق، ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين. " (2)

1 - سورة الأنعام (6)، الآية 57.
2 - سورة الأنعام (6)، الآية 62.
28

وقال: " مالهم من دونه من ولى ولا يشرك في حكمه أحدا. " (1)
وقال: " أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي وهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير *
وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله، ذلكم الله ربي عليه توكلت واليه أنيب. " (2)
وقال: " فالحكم لله العلي الكبير. " (3)
وقال: " ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الكافرون... ومن لم يحكم بما أنزل الله
فأولئك هم الظالمون... ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون. " (4)
إلى غير ذلك من الآيات الشريفة.
وأحكامه - تعالى - انما تصل الينا بالوحي إلى رسله وأنبيائه، فيجب علينا
اطاعتهم بما انهم وسائط أمره ومبلغوا رسالاته، ولكن إطاعتهم من هذه الجهة ليست
أمرا وراء إطاعة الله - تعالى -. والأوامر الصادرة عنهم في هذا المجال ليست مولوية
بل أوامر ارشادية نظير أوامر الفقيه الصادرة عنه في مقام بيان احكام الله - تعالى -
فكأنها إخبار بصورة الانشاء.
الثاني:
ان العقل يحكم بحسن ارشاد الغير والإحسان اليه، ويحكم أيضا بوجوب
الإطاعة لمن يرشد الانسان ويريه صلاحه، بعدما حصل للانسان العلم بصدقه و
صلاحه. والعقلاء يذمون الانسان لتركه المصالح المهمة التي أراها غيره وأرشده إليها
وان كان من قبل انسان مثله.

1 - سورة الكهف (18)، الآية 26.
2 - سورة الشورى (42)، الآية 9 و 10.
3 - سورة المؤمن (40)، الآية 12.
4 - سورة المائدة (5)، الآية 44 و 45 و 47.
29

الثالث:
ان العقل يرى تعظيم المنعم وشكره حسنا وترك ذلك قبيحا. ولو فرض ان ترك
اطاعته صار سببا لعقوقه واذاه فالعقلاء يذمون الانسان على تركها. اللهم الا ان
يزاحمها واجب أهم. ولعل هذا أيضا أحد الملاكات لإلزام العقل بوجوب إطاعة الله -
تعالى - فيما أمر به أو نهى عنه. بل لعل وجوب إطاعة الوالدين أيضا من هذا القبيل،
فإنهما من أولياء النعم. فالعقلاء مع قطع النظر عن حكم الشرع أيضا يرون حسن
إطاعتهما بل لزومها لذلك، فيكون حكم الشرع أيضا بهذا الملاك. وإذا كان هذا حكم
الوالد الجسماني فالآباء الروحانيون وأولياء النعم المعنوية التي بها انسانية الانسان
هم كذلك بطريق أولى. فيحسن عقلا بل يجب إطاعة الأنبياء وأئمة العدل بهذا
الملاك.
الرابع:
ما مر في المقدمة اجمالا ويأتي بالتفصيل من ان الانسان مدني بالطبع ولا يتيسر
له إدامة حياته إلا في ظل التعاون والاجتماع. ولازم الاجتماع غالبا التضاد في
الأهواء والتضارب والصراع. فلا محالة يحتاج إلى نظم وقوانين تحدد الحريات و
تراعي مصالح الجميع، والى حاكم ينفذ هذه القوانين ويدبر الأمور ويرفع المظالم، و
واضح ان الحكومة لا تتم ولا تستقر إلا بإطاعة المجتمع للحاكم، فتجب الإطاعة
بحكم العقل، ولا سيما إذا باشروا تعيينه وعاهدوه على ذلك، إذ الفطرة حاكمة بلزوم
الوفاء بالعهد. هذا.
30

ويتحصل مما ذكرناه في هذا الباب انه ان اعتبرنا ان الأصل في المسألة عدم ولاية
أحد على أحد فيمكن ان يقال في قبال ذلك ان حكم العقل بوجوب إطاعة الله، و
إطاعة المرشد الصادق، وتعظيم المنعم المحسن، وإطاعة الحاكم العادل الحافظ
لمصالح المجتمع كلها أصول حاكمة على ذلك الأصل. فتثبت الولاية بالآخرة بحكم
العقل.
ولاحد ذاق بعض حلاوة المعرفة ان يعتبر الأصل في المسألة بطريق آخر ولعله
أوفق بالواقع والحقيقة، وهو ان الموجودات ما سوى الله ومنها الانسان بشراشر
وجوداتها وهوياتها وظواهرها وأعماقها وجواهرها وأعراضها أظلال لوجود
الحق متدليات بذاته وهو مالك لها وولي عليها تكوينا وذاتا، فلا نفسية لها في قباله و
لا يصح اعتبارها كذلك فإنه على خلاف الواقع. ومقتضى الولاية الذاتية والملكية
التكوينية وجوب التسليم له ولأوامره وحرمة مخالفته بحكم العقل. ويتفرع على
ذلك وجوب التسليم والانقياد في قبال جميع الولايات المجعولة من قبله بمراتبها و
حدودها: من ولاية الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) والحكام والوالدين والمنعم والمرشد، فان
الجميع يرجع إلى ولاية الله وإطاعته، فتدبر.
31

الباب الثاني
في ثبوت الولاية للنبي الأكرم وللأئمة المعصومين
سلام الله عليهم أجمعين
33

ثبوت الولاية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وللأئمة المعصومين (عليهم السلام)
لا يخفى ان ولايتهم تكون من مصاديق الولاية والحكومة التي أشرنا في المقدمة
إلى كونها ضرورية للمجتمع في جميع الأعصار ونتعرض لأدلتها بالتفصيل في الباب
الثالث ولشرائطها في الباب الرابع. ولعله كان المناسب لأجل ذلك تأخير البحث فيها
عن البابين. ولكن لما كان النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) هو المؤسس للحكومة الاسلامية وقد
فوضها عندنا إلى الأئمة المعصومين (عليهم السلام) عندنا، والفقهاء في عصر الغيبة نواب عنهم
في ذلك اقتضى تقدمهم في هذا الشأن وكذا شرفهم وحرمتهم تقديم البحث في
ولايتهم اجمالا، والتفصيل فيه موكول إلى الكتب الكلامية وكتب الاحتجاج:
فنقول: قد أشرنا إلى ثبوت الولاية لله - تعالى - تكوينا وتشريعا، وان العقل يحكم
بوجوب اطاعته وحرمة مخالفته، ولا يشاركه في ذلك أحد من خلقه اللهم إلا ان
يفوض هو مرتبة من الولاية التشريعية إلى غيره. فنقول: يظهر من الكتاب والسنة انه -
تعالى - فوض مرتبة من الولاية إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والى بعض الرسل السابقين وكذا
إلى الأئمة المعصومين (عليهم السلام) عندنا. ولهذه الجهة وجبت اطاعتهم في أوامرهم المولوية
السلطانية الصادرة عنهم بإعمال الولاية. وهذه الإطاعة غير وجوب
35

اطاعتهم (عليهم السلام) في مقام بيان احكام الله - تعالى -، فان أوامرهم في هذا المقام أوامر
ارشادية محضة لا إطاعة لها سوى إطاعة الله.
فلنذكر بعض الآيات الدالة على ولاية بعض الأنبياء أو النبي الأكرم أو الأئمة (عليهم السلام)
بشرح مختصر:
الآية الأولى:
قال الله - تعالى -: " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن، قال: اني جاعلك للناس
إماما. قال: ومن ذريتي، قال: لا ينال عهدي الظالمين. " (1)
وفي أصول الكافي عن الصادق (عليه السلام): " ان الله - تبارك وتعالى - اتخذ إبراهيم عبدا
قبل ان يتخذه نبيا، وان الله اتخذه نبيا قبل ان يتخذه رسولا، وان الله اتخذه رسولا قبل ان
يتخذه خليلا، وان الله اتخذه خليلا قبل ان يجعله إماما. فلما جمع له الأشياء قال: " اني
جاعلك للناس إماما. " قال: فمن عظمها في عين إبراهيم قال: ومن ذريتي. الحديث. " (2)
فمن هذا الحديث ومن تعبير الله - تعالى - عن الإمامة بالعهد واضافته إلى نفسه و
قوله: " إني جاعلك " يظهر أهمية مقام الإمامة وانها عهد من الله بينه وبين من اصطفاه
لذلك. وبجعله - تعالى - إبراهيم إماما صار قدوة مفترض الطاعة بحسب الوجدان و
الفطرة ويرجع مخالفته إلى مخالفة الله - تعالى -.

1 - سورة البقرة (2)، الآية 124.
2 - الكافي 1 / 175، كتاب الحجة، باب طبقات الأنبياء والرسل والأئمة (عليهم السلام)، الحديث 2.
36

الآية الثانية:
قال الله - تعالى -: " يا داود انا جعلناك خليفة في الأرض، فاحكم بين الناس
بالحق. " (1)
فالمستفاد من الآية ان داود مع انه كان نبيا لو لم يجعله الله خليفة له لم يحق له
الحكم المولوي ولم يجب التسليم لحكمه، ولكن بعدما جعله خليفة لنفسه صار وليا و
حق له الحكم بين الناس. ولذا فرعه بالفاء. نعم، نبوته تقتضي وجوب إطاعته فيما
يأتي به من الله ولكن إطاعته في هذا المقام ليست سوى إطاعة الله كما مر.
الآية الثالثة:
وقال في سورة الأحزاب في حق نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم): " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، و
أزواجه أمهاتهم، وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين و
المهاجرين. " (2)
فنبوته (صلى الله عليه وآله وسلم) غير أولويته بالتصرف.
والآيات الدالة على ولايته (صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل الله - تعالى - كثيرة منها هذه الآية.
ويحتمل في معناها وجوه:
الأول: أولوية النبي وتقدمه على النفس في جميع الأمور، بمعنى ان كل ما يراه
المؤمن لنفسه من الحفظ والمحبة والكرامة وإنفاذ الإرادة فالنبي أولى بجميع ذلك
من نفسه وعليه ان يرجح جانب النبي على جانب نفسه في جميع المراحل. فلو توجه
شئ من المخاطر إلى نفس النبي فعلى المؤمن ان يقيه بنفسه وان يكون أحب اليه من

1 - سورة ص (38)، الآية 26.
2 - سورة الأحزاب (33)، الآية 6.
37

نفسه وأكرم. ولو دعاه النبي إلى شئ ودعته نفسه إلى خلافه فعليه أن يقدم
ما يريده النبي ويترك هوى نفسه مطلقا. فهو أولى به من نفسه في الأمور الشخصية و
الاجتماعية والدنيوية والأخروية التكوينية والاعتبارية، كبيع ماله وطلاق زوجته و
نحو ذلك.
الثاني: أولويته وتقدمه في كل ما يشخصه من المصلحة للمؤمنين، لأنه أعلم
بمصالحهم وأحق بتدبيرهم، فيكون حكمه وارادته أنفذ عليهم من إرادة أنفسهم و
يجب عليهم ان يطيعوه في كل ما امر به من الأمور الاجتماعية والفردية.
وبعبارة أخرى كل ما يكون للانسان سلطة وولاية بالنسبة اليه، من شؤون النفس
والمال، فولاية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنسبة إليها أشد وأقوى. فكما ان الأب لعقله ورشده
جعل وليا على الصغير بحسب السن أو العقل، فكذلك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يكون لجميع
المؤمنين بمنزلة الأب المشفق لولده، العالم بما فيه صلاحهم. فله التصرف في جميع
شؤونهم، ويجب عليهم التسليم له وتقديم حكمه على هوى أنفسهم. بل نسبة الأمة
اليه كأنها نسبة العبيد إلى الموالي. فتصرفه في نفوسهم وأموالهم نحو تصرف في مال
نفسه.
ولا يخفى اختصاص ذلك على القول به بما يجوز للمؤمن ارتكابه بنفسه، وله
الولاية والسلطة بالنسبة اليه شرعا. فلا يعم ما لا يجوز شرعا من التصرفات، كقتل
النفس وتبذير المال واجراء العقود الفاسدة ونحو ذلك. وبالجملة المتبادر من الآية
أولوية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الأمور التي صح للمؤمنين التصدي لها بالنسبة إلى أموالهم و
نفوسهم. فلا تعم المحرمات الشرعية حتى تجعل الآية مخصصة لأدلة المحرمات و
العقود الفاسدة.
الثالث: أولويته بالنسبة إلى خصوص الأمور العامة الاجتماعية، بمعنى
38

انه (صلى الله عليه وآله وسلم) أحق وأولى بالنسبة إلى الأمور العامة المطلوبة للشارع غير المأخوذة
على شخص خاص من المصالح الاجتماعية التي يرجع فيها كل قوم إلى رئيسهم و
يرونها من وظائف قيم المجتمع، كإقامة الحدود، والتصرف في أموال الغيب والقصر،
وحفظ النظام الاجتماعي، وجمع الضرائب وصرفها في المصالح العامة، وعقد
المواثيق مع الدول والملل ونحو ذلك. ففي هذا السنخ من الأمور الاجتماعية
المرتبطة بالولاة يكون هو (صلى الله عليه وآله وسلم) مبسوط اليد مخلى السرب وتكون تحت اختياره و
يجب على الأمة إطاعته فيها والتسليم له، ولا يجوز لأحد التخلف عن أوامره أو
مزاحمته أو اتخاذ القرار بخلافه، حيث ان النظام لا يستحكم إلا بكون الرئيس في
الأعمال المرتبطة به مطاعا مخلى السرب.
وأما الأمور الشخصية الفردية، كبيع مال الشخص وطلاق زوجته وتزويج ابنته
مثلا، فليست محطا للنظر في الآية إلا إذا فرض في مورد خاص توقف مصالح
المجتمع عليها فتقدم على المصالح الفردية.
وفي مجمع البحرين (مادة ولا) في تفسير الآية قال: " روي عن الباقر (عليه السلام) انها
نزلت في الإمرة، يعني الامارة. " (1) وهذا مؤيد لإرادة هذا الاحتمال أو الاحتمال
الرابع.
الرابع: تقدم ولايته على سائر الولايات الموجودة في المجتمع. فيصير معنى الآية
ان ولايته أقوى وأشد من سائر الولايات، وان حكمه أنفذ من حكم بعضهم على
بعض. ففي الموارد التي ينفذ حكم أحد في حق غيره بنحو من أنحاء الولاية فحكم
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الموارد أنفذ من حكم سائر الأولياء.
ففي مجمع البيان:
" قد روي ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما أراد غزوة تبوك وأمر الناس بالخروج قال قوم:
نستأذن آباءنا وأمهاتنا، فنزلت هذه الآية. " (2)
فوزان قوله: " من أنفسهم " في الآية وزان قوله - تعالى -: " فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على

1 - مجمع البحرين / 92.
2 - مجمع البيان 4 / 338. (الجزء 8).
39

أنفسكم. " (1) أي يسلم بعضكم على بعض. وقوله لبني إسرائيل: " فاقتلوا أنفسكم. " (2)
أي يقتل بعضكم بعضا.
ويشهد لهذا الاحتمال ان كلمة: " أولى " تفضيل من الولاية فيراد به تفضيل ولايته
على سائر الولايات، ولا محالة ينحصر مورده أيضا في الأمور التي يتصدى لها ولاية
على الغير.
فهذه أربعة وجوه في الآية. ولا يخفى كون الأول أعم وأشمل من الثاني، والثاني
من الثالث. وقد قال بعض الأعاظم ان اطلاق اللفظ يقتضي اختيار الأول. ولكن
نقول انه يشكل الأخذ بالاطلاق، إذ لا يمكن الالتزام به في مثل الروابط والحقوق
الزوجية الشخصية مثلا، بل وفي مثل التصرف في الأموال الشخصية والزواج و
الطلاق ونحو ذلك، اللهم إلا إذا توقف عليها في مورد خاص مصالح المجتمع، فتدبر.
ويؤيد الوجه الثاني وقوع الآية بعد الآيتين النافيتين لكون الأدعياء أبناء، و
الظاهر إشارتهما إلى قصة زيد. فيراد بهذه الآية رفع توهم اختصاص زيد بالنبي و
اختصاص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) به بالبنوة والأبوة، بل نسبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى جميع المؤمنين نسبة
واحدة وله أولوية بالنسبة إليهم جميعا، لكونه بمنزلة الأب لهم كما ان أزواجه أمهاتهم.
وفي مجمع البيان:
" روي عن أبى وابن مسعود وابن عباس أنهم كانوا يقرؤون: " النبي أولى
بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم. " وكذلك هو في مصحف أبي،
وروي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام). " (3)

1 - سورة النور (24)، الآية 61.
2 - سورة البقرة (2)، الآية 54.
3 - مجمع البيان 4 / 338. (الجزء 8).
40

أقول: ليس هذا بمعنى تسليمنا لوقوع النقص في القرآن، لمنع ذلك جدا، فليحمل -
على فرض الصحة - على كون الساقط نحو تفسير للمراد سمعوه من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأثبته
البعض في الكتابة.
ولا يخفي انه على هذا الاحتمال يمكن الخدشة في اطلاق الأولوية، كما انه لا
اطلاق لأمومة أزواجه بالنسبة إلى جميع آثارها، اللهم إلا أن يقال بوجوب المحافظة
على الاطلاق إلا فيما ثبت خلافه، فتدبر.
بعض موارد الاستشهاد بالآية:
في الوسائل عن أبي عبد الله (عليه السلام): " كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: انا أولى بكل مؤمن من
نفسه. ومن ترك مالا فللوارث. ومن ترك دينا أو ضياعا (1) فالي وعلى. " (2)
وفي مسند أحمد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): " أنا أولى بكل مؤمن من نفسه. فمن ترك دينا أو
ضياعا فالي. ومن ترك مالا فللوارث. " (3) وهذا المضمون متواتر في كتب السنة.
وفي خبر زيد بن أرقم عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) في قصة الغدير: " أيها الناس، اني تارك فيكم
أمرين لن تضلوا ان اتبعتموهما، وهما كتاب الله وأهل بيتي عترتي. ثم قال: أتعلمون
اني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ - ثلاث مرات - قالوا: نعم. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من
كنت مولاه فعلي مولاه. " (4)
وقد روي هذا المضمون متواترا بطرقنا وطرق السنة أيضا، فراجع مظانه. (5)

1 - الضياع بالفتح: العيال، كما في النهاية 3 / 107.
2 - الوسائل 17 / 551، الباب 3 من أبواب ولاء ضمان الجريرة والإمامة، الحديث 14.
3 - مسند أحمد 2 / 464.
4 - مستدرك الحاكم 3 / 110. ذكره الحاكم وقال إنه صحيح على شرط الشيخين.
5 - راجع " الغدير " للعلامة الأميني، وبحار الأنوار 37 / 108، تاريخ أمير المؤمنين (عليه السلام)، الباب 52
(باب اخبار الغدير).
41

وفي الدر المنثور للسيوطي:
" واخرج ابن أبي شيبة واحمد والنسائي عن بريدة، قال: غزوت مع على اليمن
فرأيت منه جفوة، فلما قدمت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذكرت عليا فتنقصته، فرأيت وجه
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تغير وقال: يا بريدة، ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت: بلى يا
رسول الله. قال: من كنت مولاه فعلى مولاه. " (1)
وذكره الحاكم أيضا في المستدرك. (2)
ويظهر من خبر بريدة ان هذا المضمون صدر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في غير قصة الغدير
أيضا، كما ان خبر الثقلين أيضا صدر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) غير مرة تثبيتا للكتاب والعترة لئلا
تنساهما الأمة.
ويستفاد من إشارته (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الآية الشريفة وبيان أولوية نفسه ان المراد بالمولى
والأولى واحد وانه (صلى الله عليه وآله وسلم) أراد ان يثبت لعلى (عليه السلام) مثل ما أثبته الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الولاية و
الأولوية وإلا لم يكن لذكر أولويته بالمؤمنين وجه بل كان لغوا. وسيأتي معنى الولي
والمولى عن أهل اللغة، فانتظر.
وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من كنت مولاه فعلى مولاه " يحتمل فيه بالنظر البدوي الإخبار و
الإنشاء: فعلى الأول يريد الإخبار بان الله - تعالى - جعل عليا مولى المؤمنين وأولى
بهم، وعلى الثاني يريد انه (صلى الله عليه وآله وسلم) بنفسه جعل المولوية لعلى (عليه السلام). هذا. ولكن الأوفق
بمذهبنا وظاهر آية التبليغ الواردة في هذه القصة هو الاحتمال الأول، كما لا يخفى.

1 - الدر المنثور 5 / 182.
2 - مستدرك الحاكم 3 / 110، ذكره وقال: إنه صحيح على شرط الشيخين.
42

تتمة
اعلم ان اخواننا السنة يقولون: ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يوص ولم يستخلف، ولكن
الناس اجتمعوا في السقيفة، وبعد منازعة المهاجرين والأنصار في امر الخلافة و
محاجتهم ابتدر خمسة - وهم عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح، وأسيد بن
حضير، وبشير بن سعد، وسالم مولى أبي حذيفة - فبايعوا أبا بكر فانعقدت له الإمامة
بذلك ثم بايعه آخرون، وهم يسمون هذه البيعة بالشورى.
وفي صحيح مسلم عن ابن عمر عن أبيه قبل وفاته:
" اني لئن لا استخلف فان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يستخلف، وان استخلف فان أبا بكر قد
استخلف. " (1)
ولكنا نحن الشيعة الامامية نقول: ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) استخلف عليا (عليه السلام) لا مرة
واحدة بل مرات من أوائل بعثته (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى حين رحلته ووفاته.
فلنذكر من ذلك نماذج ونحيل التفصيل إلى الكتب الكلامية المؤلفة لذلك فنقول:
1 - روى الطبري في تاريخه بسنده عن عبد الله بن عباس، عن علي بن أبي طالب،
قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " وأنذر عشيرتك الأقربين "، دعاني
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال لي: يا علي، ان الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين...، فاصنع لنا
صاعا من طعام واجعل عليه رجل شاة واملأ لنا عسا من لبن ثم اجمع لي بني عبد المطلب
حتى أكلمهم وأبلغهم ما أمرت به، ففعلت ما أمرني به ثم دعوتهم له وهم يومئذ أربعون رجلا
يزيدون رجلا، أو

1 - صحيح مسلم 3 / 1455 (= طبعة أخرى 6 / 5)، الباب 2 من كتاب الإمارة.
43

ينقصونه، فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب...، فلما أراد
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ان يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال: لقدما سحركم صاحبكم، فتفرق
القوم ولم يكلمهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
فقال الغد: يا علي، ان هذا الرجل سبقني إلى ما قد سمعت من القول فتفرق القوم قبل
ان أكلمهم، فعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت ثم اجمعهم إلي. قال: ففعلت ثم جمعتهم...، ثم
تكلم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا بني عبد المطلب، اني والله ما أعلم شابا في العرب جاء قومه
بأفضل مما قد جئتكم به. اني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله - تعالى - ان
أدعوكم اليه، فأيكم يوازرني على هذا الأمر على ان يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟
قال: فأحجم القوم عنها جميعا وقلت - وإني لأحدثهم سنا وأرمصهم عينا وأعظمهم بطنا
وأحمشهم ساقا - أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه، فأخذ برقبتي ثم قال: ان هذا أخي و
وصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا.
قال: فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد امرك ان تسمع لابنك وتطيع. (1)
ورواه أيضا ابن الأثير في الكامل (2) وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة. (3)
وصححه هو وكثير من المؤرخين والمحدثين من الشيعة والسنة، فراجع مظانه. و
قد اشتهر الحديث بحديث بدء الدعوة، ورواه العلامة الأميني بأسانيد كثيرة من طرق
السنة في " الغدير "، فراجع (4). ورواه في البحار عن العلل وغيره. (5)
قال ابن أبي الحديد بعد نقل القصة:
" ويدل على انه وزير رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من نص الكتاب والسنة قول الله - تعالى -:
" واجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي * اشدد به أزري * وأشركه في أمري. " (6)
وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الخبر المجمع على روايته بين سائر فرق الاسلام: " أنت مني

1 - تاريخ الطبري 3 / 1171.
2 - الكامل 2 / 62.
3 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 13 / 210 و 244.
4 - الغدير 2 / 278.
5 - بحار الأنوار 18 / 178، تاريخ نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، باب المبعث، الحديث 7.
6 - سورة طه (20)، الآية 29 - 32.
44

بمنزلة هارون من موسى إلا انه لا نبي بعدي. " فاثبت له جميع مراتب هارون عن موسى.
فإذن هو وزير رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وشاد أزره. ولولا انه خاتم النبيين لكان شريكا في
أمره. " (1)
فانظر يا أخي المسلم، ان هذه الكلمات اعترافات من عالم سني متتبع أودعها في
تأليفه المشهور.
2 - وفي خبر عمران بن حصين عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ما تريدون من على؟ ما تريدون من
على؟ ما تريدون من على؟ ان عليا مني وأنا منه وهو ولى كل مؤمن من بعدي. " (2) و
سيأتي معنى الولي وانه الأولى بالتصرف. وقوله: " من بعدي " ينفي احتمال كون
الولاية بمعنى المحبة والمودة، ويعين كونها بمعنى المتصرف في الأمور. وفي حياة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو المتصرف في أمور المسلمين وكان على (عليه السلام) في طاعته
ومنفذا لأوامره.
3 - وقد مر خبر بريدة وخبر زيد بن أرقم وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهما: " من كنت مولاه فعلى
مولاه. " وذكرنا انه يستفاد من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل هذه الجملة: " ألست أولى بالمؤمنين من
أنفسهم " انه يريد ان يثبت لعلى (عليه السلام) ما اثبته الله له من الولاية والأولوية، وإلا كان ذكره
لغوا. (3) ويأتي مثل ذلك في خبر عمار بن ياسر أيضا في قصة التصدق بالخاتم في
الصلاة ونزول آية الولاية.
4 - وفي صحيح البخاري بسنده عن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، قال: قال
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلى: " أما ترضى ان تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ " (4)
أقول: وكما لم يكن أحد أقرب إلى موسى من أخيه هارون (عليه السلام) فلذا خلفه في

1 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 13 / 211.
2 - سنن الترمذي 5 / 296، باب مناقب علي بن أبي طالب من أبواب المناقب، الحديث 3796.
3 - راجع ص 41 و 42 من الكتاب.
4 - صحيح البخاري 2 / 300، باب مناقب علي بن أبي طالب.
45

قومه، فكذلك لم يكن أحد أقرب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والى أهدافه من أخيه ووزيره
أمير المؤمنين (عليه السلام).
ويعلم مقام أمير المؤمنين (عليه السلام) وموقفه من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من كلامه (عليه السلام) في الخطبة
القاصعة من نهج البلاغة:
5 - قال (عليه السلام): " وقد علمتم موضعي من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقرابة القريبة والمنزلة
الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد يضمني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسني
جسده، ويشمني عرفه.
وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه. وما وجد لي كذبة في قول ولا خطلة في فعل.
ولقد قرن الله به (صلى الله عليه وآله وسلم) من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق
المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره. ولقد كنت اتبعه اتباع الفصيل اثر امه، يرفع لي
في كل يوم من أخلاقه علما ويأمرني بالاقتداء به.
ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري. ولم يجمع بيت واحد يومئذ في
الاسلام غير رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة وأشم ريح
النبوة، ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقلت: يا رسول الله، ما هذه
الرنة؟ فقال: هذا الشيطان ايس من عبادته، انك تسمع ما اسمع وترى ما أرى إلا انك لست
بنبي ولكنك وزير، وانك لعلى خير. " (1)
توضيح للمطلب:
ثم نقول: توضيحا ان النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) قد ارسله الله - تعالى - إلى الناس
كافة، وجعله رحمة للعالمين وخاتما للنبيين، وأرسله بالهدى ودين الحق ليظهره
على الدين كله ولو كره المشركون، كما نطق بذلك كله القرآن الكريم. وقد صرف
هو (صلى الله عليه وآله وسلم) عمره الشريف وجميع طاقاته وطاقات أهله وأصحابه في بث الاسلام

1 - نهج البلاغة، فيض / 811; عبده 2 / 182; لح / 300، الخطبة 192.
46

ونشره، وصار كأنه باخع نفسه حرصا على ذلك، وقدم في سبيل ذلك مئات من
الشهداء من خيرة المسلمين، ولم يغفل عنه ساعة واحدة من عمره الشريف. وكان
يعتني ويهتم في دعوته وارشاده حتى بالمسائل الجزئية الفرعية كمال الاهتمام. و
كان (صلى الله عليه وآله وسلم) مع ذلك ملتفتا إلى ان الاسلام لما يستوعب الحجاز بعد فضلا عن سائر
البلاد، وان السلطات الكافرة في إيران والروم وغيرهما تقف أمام نشر الاسلام، ولا
يتيسر دفعها إلا بالقوة والقدرة والقيادة الجازمة، وكان عالما بأخلاق العرب و
تعصباتهم القبائلية والعشائرية، وبقاء بعض الرواسب في عدد من النفوس، وملتفتا
إلى وجود منافقين يعملون لانتهاز الفرص، وان حب الدنيا والمناصب رأس كل
الخطايا، وان الارتداد والانقلاب على الأعقاب مما ينبغي ان يخاف منه وقد قال
الله - تعالى -: " وما محمد إلا رسول، قد خلت من قبله الرسل. أفإن مات أو قتل انقلبتم على
أعقابكم؟ " (1) وقال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما في البخاري وغيره: " يجاء برجال من أمتي
فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا رب أصيحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك،
فأقول كما قال العبد الصالح: " وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم، فلما توفيتني كنت أنت
الرقيب عليهم " (2) فيقال: ان هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم. " (3)
فهل يجوز العقل مع ذلك كله ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع عقله ودرايته وفراسته، مضافا
إلى نبوته ورسالته، ومع اهتمامه بانتشار الاسلام أهمل بالكلية أمر الدين والأمة و
ترك أمر القيادة من بعده ولم يعين تكليف المسلمين في ذلك؟!
كيف؟! ولو أراد قيم قرية صغيرة ان يسافر سفرا موقتا فهو بطبعه ووجدانه يعين
مرجعا يرجع اليه حين سفره وغيبته ويوصي بالرجوع اليه في الأمور، وكان هو (صلى الله عليه وآله وسلم)
أيضا في أسفاره وغزواته يستخلف على المدينة المنورة من يخلفه في أموره الخاصة و
العامة مدة سفره كما ضبط المؤرخون أسماءهم، فكيف ينسب اليه (صلى الله عليه وآله وسلم) مع كونه عقل
الكل وخاتم الرسل انه ترك الاستخلاف لما بعد وفاته عن عمد أو غفلة؟!

1 - سورة آل عمران (3)، الآية 144.
2 - سورة المائدة (5)، الآية 117.
3 - صحيح البخاري 3 / 127، في تفسير سورة المائدة، وفي سنن الترمذي 5 / 4، في تفسير سورة
الأنبياء.
47

وهل يمكن ان يقال ان أبا بكر حيث استخلف كان أبصر بمصالح المسلمين و
أرأف بهم وأحرص عليهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد قال الله - عز وجل - في رسوله
الكريم: " حريص عليكم، بالمؤمنين رؤوف رحيم. " (1) فلا يمكن ان يقال انه (صلى الله عليه وآله وسلم) أهمل
أمرا يتقوم به نظام أمر المسلمين وقوتهم وشوكتهم.
وقد حكي ان عالما من علماء الشيعة مر على جماعة من السنة، فأصروا على أن
يبيت عندهم ليلا، فأجابهم بشرط ان لا يقع بحث مذهبي. فلما تعشوا قال له أحد
علماء السنة: ما رأيك في أبي بكر؟ فقال: كان هو مسلما فاضلا يصلي ويصوم ويحج
ويتصدق ورافق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). فقال العالم السني: نعم، أضف. فقال العالم الشيعي: و
خلاصة الكلام ان أبا بكر كان أفضل وأعقل من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمراتب. فاستعجب
الحاضرون وقالوا: كيف تقول هذا؟ قال: ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولى المسلمين ثلاث و
عشرين سنة ومع ذلك لم يعقل وجوب الاستخلاف ومصالحه، وأبو بكر وليهم أقل
من ثلاث سنوات وعقل ذلك وفهمه. فهو لا محالة كان أعقل منه (صلى الله عليه وآله وسلم) فالتفت
الحاضرون إلى عمق المسألة. هذا.
وحين ما طعن الخليفة الثاني قال له ابنه:
" سمعت الناس يقولون مقالة فآليت ان أقولها لك: زعموا انك غير مستخلف، وانه
لو كان لك راعى إبل أو راعى غنم ثم جاءك وتركها رأيت ان قد ضيع، فرعاية الناس
اشد. قال: فوافقه قولي. " (2)
فكيف لم يلتفت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى هذه النكتة الواضحة التي التفت إليها ابن عمر
ووافقه فيها أبوه؟!
وقالت عائشة لعبد الله بن عمر:
" يا بنى، أبلغ عمر سلامي وقل له: لا تدع أمة محمد بلا راع، استخلف عليهم، ولا
تدعهم بعدك هملا، فإني أخشى عليهم الفتنة. " (3)

1 - سورة التوبة (9)، الآية 128.
2 - صحيح مسلم 3 / 1455، كتاب الإمارة، الباب 2 (باب الاستخلاف وتركه).
3 - الإمامة والسياسة 1 / 28.
48

فعائشة أدركت ضرر الفتنة، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يدركه؟!
وقال له رجال عادوه قبل موته:
" أوص يا أمير المؤمنين واستخلف. " (1)
فهم قد عرفوا مصلحة الوصية والاستخلاف، والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يعرف ذلك؟!
وهل لم تكن أهمية حفظ الاسلام وبسطه وتنفيذ مقرراته إلى يوم القيامة وحفظ
نظام المسلمين في نظر النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بقدر أهمية الوصايا الشخصية المتعلقة
بالأموال الجزئية؟!
وقد ورد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال: " من مات بغير وصية مات ميتة جاهلية. " (2)
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما حق امرئ مسلم أن يبيت ليلتين وله شئ يوصى فيه إلا ووصيته
مكتوبة عنده. " (3)
ثم نقول: ان قوله - تعالى - في سورة المائدة النازلة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في أواخر
عمره الشريف: " يا أيها الرسول، بلغ ما انزل إليك من ربك، وان لم تفعل فما بلغت رسالته، و
الله يعصمك من الناس " (4) ينادى بكونه مرتبطا بأمر مهم متمم للرسالة حافظ لها،
بحيث لو لم يبلغه خيف على الرسالة. ويستفاد من ظاهر الآية ان الناس كانوا مخالفين
لهذا الأمر ويعارضون في تبليغه.
وقد ورد من طرق الفريقين ان هذه الآية نزلت في قصة الغدير:
منها: ما في الدر المنثور للسيوطي:
" اخرج ابن أبى حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبى سعيد الخدري، قال:
نزلت هذه الآية: " يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك " على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)

1 - شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد 12 / 189، وصحيح البخاري 2 / 299.
2 - الوسائل 13 / 352، الباب 1 من كتاب الوصايا، الحديث 8.
3 - سنن ابن ماجة 2 / 901، كتاب الوصايا، الباب 2، الحديث 2699.
4 - سورة المائدة (5)، الآية 67.
49

يوم غدير خم في على بن أبى طالب. " (1)
وقد ورد انه كان في حجة الوداع مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تسعون ألفا، وقيل مأة ألف و
عشرون ألفا، وقيل نحو ذلك. فلما انصرف راجعا إلى المدينة ووصل إلى غدير خم
من الجحفة التي يتشعب فيها طريق المدينة من غيرها نزلت عليه هذه الآية. فأمر ان
يرد من تقدم منهم ويحبس من تأخر، فقام خطيبا وقال في ضمن خطبته: " أتعلمون
إني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ " - ثلاث مرات - قالوا: نعم. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من
كنت مولاه فعلى مولاه. "
والخبر متواتر إجمالا، رواه كثيرون من الصحابة وان اختلفوا في بعض ألفاظه. و
قد مر خبر زيد بن أرقم أيضا. وان شئت التفصيل فراجع الكتب المفصلة.
وقد عد العلامة المتتبع آية الله الحاج الشيخ عبد الحسين الأميني - طاب ثراه -
في أول المجلد الأول من موسوعته المسماة ب‍ " الغدير " مأة وعشرة من أعاظم
الصحابة الرواة لحديث الغدير مع ذكر الموارد والمآخذ من كتب السنة، فراجع.
نعم، ان انعقاد الإمامة بالبيعة وانتخاب الأمة وان كان موردا للقبول عندي،
وسوف نثبته في محله بأدلة شافية ان شاء الله - تعالى -، ولكنه في طول النص قطعا.
إذ مع وجود النص من قبل الرسول الذي لا ينطق عن الهوى ويكون خبيرا بالفرد
الأصلح لا يبقى مجال للشورى والانتخاب قطعا، ولا تكون البيعة للمنصوص عليه
إلا تأكيدا للنص، وقد قال الله - تعالى -: " وما آتيكم الرسول فخذوه. " (2)
وفى نهج البلاغة: " فلما مضى (صلى الله عليه وآله وسلم) تنازع المسلمون الأمر من بعده. فوالله ما كان
يلقى في روعى ولا يخطر ببالي ان العرب تزعج هذا الامر من بعده عن أهل بيته ولا
إنهم منحوه عنى من بعده. " (3)

1 - الدر المنثور 2 / 298.
2 - سورة الحشر (59)، الآية 7.
3 - نهج البلاغة، فيض / 1048; عبده 3 / 130; لح / 451، الكتاب 62.
50

وفيه أيضا: " فوالله ما زلت مدفوعا عن حقي مستأثرا على منذ قبض الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)
حتى يوم الناس هذا. " (1)
إلى غير ذلك من كلماته (عليه السلام) في خطبه وكتبه واحتجاجاته.
ويعجبني هنا نقل حوار جرى بين هشام بن الحكم من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام)
وبين عمرو بن عبيد المعتزلي البصري:
قال هشام:
" دخلت البصرة يوم الجمعة فأتيت مسجد البصرة، فإذا أنا بحلقة كبيرة فيها
عمرو بن عبيد، وعليه شملة سوداء متزر بها من صوف وشملة مرتد بها، والناس
يسألونه. فاستفرجت الناس فأفرجوا لي، ثم قعدت في آخر القوم على ركبتي ثم
قلت: أيها العالم، إني رجل غريب تأذن لي في مسألة؟ فقال لي: نعم. فقلت له: ألك
عين؟ فقال: يا بنى، أي شئ هذا من السؤال وشىء تراه كيف تسأل عنه؟! فقلت:
هكذا مسألتي. فقال: يا بنى، سل وان كانت مسألتك حمقاء.
قلت: أجبني فيها، قال لي: سل. قلت: ألك عين؟ قال: نعم. قلت: فما تصنع بها؟
قال: أرى بها الألوان والأشخاص. قلت: فلك أنف؟ قال: نعم. قلت: فما تصنع به؟
قال: أشم به الرائحة. قلت: ألك فم؟ قال: نعم. قلت: فما تصنع به؟ قال: أذوق به الطعم.
قلت: فلك اذن؟ قال: نعم. قلت: فما تصنع بها؟ قال: أسمع بها الصوت. قلت: ألك
قلب؟ قال: نعم. قلت: فما تصنع به؟ قال: أميز به كلما ورد على هذه الجوارح و
الحواس.
قلت: أو ليس في هذه الجوارح غنى عن القلب؟ فقال: لا. قلت: وكيف ذلك وهى
صحيحة سليمة؟ قال: يا بنى، ان الجوارح إذا شكت في شئ شمته أو رأته أو ذاقته أو
سمعته ردته إلى القلب، فيستيقن اليقين ويبطل الشك.
قال: هشام: فقلت له: فإنما أقام الله القلب لشك الجوارح؟ قال: نعم. قلت:
لابد من القلب وإلا لم تستيقن الجوارح؟ قال: نعم. فقلت له: يا أبا مروان، فالله -

1 - نهج البلاغة، فيض / 59; عبده 1 / 37; لح / 53، الخطبة 6.
51

تبارك وتعالى - لم يترك جوارحك حتى جعل لهم إماما يصحح لها الصحيح ويتيقن
به ما شك فيه، ويترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم وشكهم واختلافهم لا يقيم لهم
إماما يردون اليه شكهم وحيرتهم، ويقيم لك إماما لجوارحك ترد اليه حيرتك و
شكك؟!
قال: فسكت ولم يقل لي شيئا، ثم التفت إلي فقال لي: أنت هشام بن الحكم؟ فقلت:
لا. قال: أمن جلسائه؟ قلت: لا. قال: فمن أين أنت؟ قال: قلت: من أهل الكوفة. قال:
فأنت إذا هو. ثم ضمني اليه وأقعدني في مجلسه وزال عن مجلسه، وما نطق حتى
قمت. " (1) هذا.
ولا أظن أحدا من المسلمين يتوقع من أخيه المسلم ان يكتم ما يعتقده بينه وبين
ربه حقا وان لا يبينه في البحث العلمي.
وإنما الذي يتوقع من كل مسلم هو حفظ الأدب وصون اللسان والقلم، والبعد عن
التشاجر والنزاع، وحفظ إخوة المسلمين ووحدتهم في مقابل الأجانب والأعداء.
فهذا ما عندنا إجمالا في مسألة الخلافة والإمامة، والتفصيل يطلب من الكتب
الكلامية.
وعلى العالم المنصف تحرى الحق وقبوله، لا توجيه ما وقع وتبريره. اللهم فاهدنا
لما اختلف فيه من الحق.
وأوصى الإخوة المسلمين من السنة والشيعة أن يراجعوا في مسألة الإمامة و
الخلافة كتاب " المراجعات " المشتمل على المراجعات الواقعة بين الإمام آية الله
السيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي من علماء الشيعة، والعلامة الأستاذ الشيخ
سليم البشري شيخ جامع الأزهر من علماء السنة. فالكتاب باختصاره مما يشفى
العليل ويروى الغليل. فلله در مؤلفه الجليل.

1 - الكافي 1 / 169، كتاب الحجة، باب الاضطرار إلى الحجة، الحديث 3.
52

تفسير الولاية وبيان معناها
بقي الكلام في تفسير الولاية ومشتقاتها، فنقول:
قال الراغب في المفردات:
" الولاء والتوالي ان يحصل شيئان فصاعدا حصولا ليس بينهما ما ليس منهما.
ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان، ومن حيث النسبة، ومن حيث الدين، و
من حيث الصداقة والنصرة والاعتقاد. والولاية: النصرة. والولاية: تولى الأمر. و
قيل: الولاية والولاية نحو الدلالة والدلالة. وحقيقته: تولى الامر. والولي والمولى
يستعملان في ذلك، كل واحد منهما يقال في معنى الفاعل اى الموالي، وفى معنى
المفعول أي الموالي. " (1)
وفى نهاية ابن الأثير:
" في أسماء الله - تعالى -: " الولي " هو الناصر. وقيل: المتولي لأمور العالم و
الخلائق القائم بها. ومن أسمائه - عز وجل -: " الوالي "، وهو مالك الأشياء جميعها،
المتصرف فيها. وكأن الولاية تشعر بالتدبير والقدرة والفعل. وما لم يجتمع ذلك فيها
لم ينطلق عليه اسم الوالي...
وقد تكرر ذكر المولى في الحديث. وهو اسم يقع على جماعة كثيرة: فهو الرب،
والمالك، والسيد، والمنعم، والمعتق، والناصر، والمحب، والتابع، والجار، وابن
العم، والحليف، والعقيد، والصهر، والعبد، والمعتق، والمنعم عليه... وكل من ولى
أمرا أو قام به فهو مولاه ووليه...، ومنه الحديث: " من كنت مولاه فعلى مولاه. "
يحمل على أكثر الأسماء المذكورة. قال الشافعي: يعنى بذلك ولاء الاسلام، كقوله -
تعالى -: " ذلك بان الله مولى الذين آمنوا وان الكافرين لا مولى لهم. " وقول عمر

1 - المفردات / 570.
53

لعلى: " أصبحت مولى كل مؤمن. " أي ولى كل مؤمن. وقيل: سبب ذلك ان اسامة
قال لعلى (عليه السلام) لست مولاي، إنما مولاي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فقال (صلى الله عليه وآله وسلم):
" من كنت مولاه فعلى مولاه. " ومنه الحديث: " أيما امرأة نكحت بغير اذن مولاها
فنكاحها باطل. " وفى رواية " وليها " أي متولي أمرها. " (1)
وفى الصحاح:
" الولي: القرب والدنو. يقال: تباعدنا بعد ولى، وكل مما يليك أي مما يقاربك... و
أوليته الشئ فوليه، وكذلك ولى الوالي البلد، وولى الرجل البيع ولاية فيهما...
والمولى: المعتق والمعتق وابن العم والناصر والجار، والولي: الصهر. وكل من
ولى أمر واحد فهو وليه. " (2)
وفى معجم مقاييس اللغة:
" الواو واللام والياء: أصل صحيح يدل على قرب. من ذلك الولي: القرب.
يقال: تباعد بعد ولى، أي قرب. وجلس مما يليني، أي يقاربني. والولي: المطر
يجئ بعد الوسمي، سمى بذلك لأنه يلي الوسمي. ومن الباب، المولى: المعتق، و
المعتق، والصاحب والحليف، وابن العم، والناصر، والجار. كل هؤلاء من الولي وهو
القرب. وكل من ولى أمر آخر فهو وليه... والباب كله راجع إلى القرب. " (3)
وفى لسان العرب:
" والولي: ولى اليتيم الذي يلي أمره ويقوم بكفايته. وولى المرأة: الذي يلي عقد
النكاح عليها ولا يدعها تستبد بعقد النكاح دونه. وفى الحديث: أيما امرأة نكحت بغير
اذن مولاها فنكاحها باطل، وفى رواية: وليها، أي متولي أمرها... قال الفراء: الموالي:
ورثة الرجل وبنو عمه. قال: والولي والمولى واحد في كلام العرب. قال أبو منصور: و
من هذا قول سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إيما امرأة نكحت بغير اذن مولاها.

1 - النهاية لابن الأثير 5 / 227.
2 - الصحاح 6 / 2528.
3 - معجم مقاييس اللغة 6 / 141.
54

ورواه بعضهم: بغير اذن وليها، لا نهما بمعنى واحد. " (1)
وفى أقرب الموارد:
" ولي الشئ وعليه ولاية وولاية: ملك امره وقام به. " (2)
إلى غير ذلك من كلمات أهل اللغة في معنى الكلمة واشتقاقاتها وموارد
استعمالها، فراجع.
أقول: قد مر في كلماتهم: ان ولى اليتيم هو الذي يلي أمره، وولى المرأة من يلي
عقد النكاح عليها. وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " أيما امرأة نكحت بغير اذن وليها فنكاحها باطل. " (3)
ويقال للسلطان: ولى الأمر، ولمن يلي تجهيز الميت: ولى الميت. وعن المبرد في
صفات الباري - تعالى -: " الولي هو الأولى والأحق، وكذلك المولى. " فيظهر منه كون
العبارات الثلاث بمعنى واحد. ومر عن الفراء ان " الولي والمولى واحد في كلام
العرب. " وعن المفردات ان " حقيقته: تولى الأمر. والولي والمولى يستعملان في
ذلك. " وعن ابن الأثير " انها تشعر بالتدبير والقدرة والفعل. "
فيظهر من الجميع ان التصرف مأخوذ في مفهوم الكلمة. فما في بعض الكلمات من
تفسير الولاية بخصوص المحبة مما لا يمكن المساعدة عليه. ولو أريد بيان مجرد
المحبة التي هي أمر قلبي لاستعمل لفظ الحب أو الود، وفى قبالهما البغض والكراهة.
واما الولاية فهي تفيد التصدي لشأن من شؤون الغير. وفى قبالها العداوة، وهى
التجاوز والتعدي على الغير. فالتصرف بمصلحة الغير ولاية وبضرره عداوة، وكلاهما
من مقولة الفعل. وربما تستعمل الولاية في التصرف في شؤون الغير مطلقا.
فتأمل في قوله - تعالى -: " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، يأمرون
بالمعروف وينهون عن المنكر. " (4) وقوله - تعالى -: " الله ولى الذين آمنوا، يخرجهم من
الظلمات إلى النور،

1 - لسان العرب 15 / 407 و...
2 - أقرب الموارد 2 / 1487.
3 - سنن الترمذي 2 / 280، الباب 14 من أبواب النكاح، الحديث 1108.
4 - سورة التوبة (9)، الآية 71.
55

والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت، يخرجونهم من النور إلى الظلمات. " (1)
فحيث ما ذكر لفظ الولاية ذكر بعده سنخ الفعل والتصرف الناشئ منها من الأمر و
النهى والعمل المناسب لها. فيظهر بذلك كون التصرف مأخوذا في مفهومها.
واصل الكلمة كما قالوا: هو الولي بمعنى القرب، والقريب من غيره لا يخلو من نحو
تأثير وتصرف فيه، كما أن المتصرف في أمور الغير لابد ان يقع قريبا منه والى جانبه
حتى يتمكن من التصدي لأموره والتولي لمصالحه.
فالانسان قد لا يقدر منفردا على رفع حاجاته فيحتاج إلى من يقع إلى جانبه، و
بهذا يخرج عن الانفراد ويصبح ذا ولى يقع في تلوه فيجبر نقصه ويسد خلله.
والولي والمولى يطلقان على كل من الوالي والمولى عليه، لاحتياج كل منهما إلى
الآخر وتصدى كل منهما شأنا من شؤون الآخر، ولوقوع كل منهما في تلو الآخر و
في القرب منه. وإذا أردنا بيان ان زيدا ليس منفردا بل له من يتصدى لبعض أموره
فيصح ان يقال: عمرو في تلوه كما يصح ان يقال: هو في تلو عمرو. ويشبه رجوع
التلو والولي إلى أصل واحد وأبدلت الواو تاءا. ونظائره كثيرة في كلام العرب. وبهذه
العناية يطلق لفظ المولى على كل من المالك والملوك. وبهذه العناية أيضا يقال: " الله
ولى الذي آمنوا. " ويقال أيضا: " المؤمن ولى الله. " بل الظاهر ان المعاني الكثيرة التي
ذكروها للمولى كلها ترجع إلى أمر واحد وكلها مصاديق لمفهوم فارد، وهو كون
الشخص واقعا إلى جانب الآخر ليتصدى بعض شؤونه ويسد بعض خلله.
وبما ذكرنا يظهر ان قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الخبر المتواتر: " من كنت مولاه فعلى مولاه "
سواء كان بلفظ المولى أو الولي فمراده (صلى الله عليه وآله وسلم) ان يثبت لعلى (عليه السلام) مثل ما كان لنفسه من
ولاية التصرف والأولوية المذكورة في الآية الشريفة. ولذا صدره بقوله: " أتعلمون إني
أولى بالمؤمنين من أنفسهم " ثلاث مرات. وظاهر الكلام ان المولى في الجملتين بمعنى
واحد، وهو الأولوية المذكورة في الآية.

1 - سورة البقرة (2)، الآية 257.
56

ولو كان بصدد بيان المحبة لم يحتج إلى بيان أولوية نفسه، بل كان ذكرها لغوا.
كيف؟! ولم يكن بيان المحبة القلبية أمرا مهما يوجب ايقاف مأة الف وعشرين
الف رجلا في المفازة في وسط النهار في الهاجرة الشديدة لبيانها واعلامها.
ويشهد لذلك أيضا قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في خبر عمران بن حصين: " ما تريدون من على؟ ان
عليا منى وأنا منه، وهو ولى كل مؤمن من بعدي. " (1) إذ قوله: " من بعدي " ينفى احتمال
كون الكلمة بمعنى المحبة القلبية ويعين كونها بمعنى الأولوية والإمامة، كما هو
واضح. هذا. وتفصيل البحث موكول إلى الكتب الكلامية المعدة لهذه الأبحاث،
فراجع.

1 - سنن الترمذي 5 / 296، باب مناقب على بن أبى طالب من أبواب المناقب، الحديث 3796.
57

حديث الثقلين والتمسك بالعترة
واما مسألة التمسك بأهل البيت (عليهم السلام) وحجية أقوالهم في أصول الدين وفروعه فهي
أمر آخر غير مسألة الإمامة والخلافة. فان مسألة الخلافة مسألة كلامية، ومسألة
حجية أقوال العترة وأفعالهم مسألة أصولية، وان كانت المسألتان عندنا متلازمتين.
والأدلة الشرعية على الأخذ بمذهب العترة الطاهرة وعلى رأسهم أمير المؤمنين و
باب علم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على بن أبى طالب (عليه السلام) كثيرة. وقد جعلهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عدلا
للكتاب العزيز في الحديث المتواتر بين الفريقين الذي تعرض له أرباب الصحاح و
السنن والمسانيد، ورووه عن كثير من الصحابة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
ففي صحيح مسلم في حديث الغدير عن زيد بن أرقم، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " أيها الناس،
فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم الثقلين: أولهما كتاب الله فيه
الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به - فحث على كتاب الله ورغب فيه - ثم
قال: وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل
بيتي. " (1)
وروى الترمذي بسنده عن زيد بن أرقم، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إني تارك فيكم
ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء
إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي. ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض، فانظروا كيف تخلفوني

1 - صحيح مسلم 4 / 1873 (= طبعة أخرى 7 / 122)، كتاب فضائل الصحابة، الحديث 2408.
58

فيهما. " (1)
وواضح ان التمسك بالكتاب هو الأخذ بما فيه، والتمسك بالعترة هو الأخذ
بأقوالهم وسنتهم. فأقوالهم وسنتهم حجة شرعية إلهية. وقد عرفت ان الحديث متواتر
بين الفريقين، وانما ذكرنا ما ذكرناه نموذجا. وقد صدع به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مواقف
شتى: تارة في يوم عرفة في حجة الوداع، وأخرى في غدير خم، وثالثة على منبره
في المدينة، ورابعة في حجرته المباركة في مرضه. كل ذلك لتثبيت الكتاب والعترة
الطاهرة أساسين للشريعة المطهرة، فراجع مظان نقله.
ويحدس العاقل اللبيب ان امامة العترة الطاهرة ووجوب التمسك بهم هو الذي رام
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تثبيته بالكتابة، فحالوا بينه وبين ما رامه.
ففي صحيح البخاري بسنده عن ابن عباس، قال:
" لما حضر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفى البيت رجال فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): هلموا أكتب لكم كتابا
لا تضلوا بعده. فقال بعضهم ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد غلبه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتاب
الله. فاختلف أهل البيت واختصموا، منهم من يقول: قربوا يكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده. و
منهم من يقول غير ذلك. فلما أكثروا اللغو والاختلاف قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " قوموا. " قال
عبيد الله: فكان يقول ابن عباس: ان الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و
بين أن يكتب لهم ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم. " (2)
فتأمل في تعبيره بقوله: " لا تضلوا بعده " ومشابهته لما في رواية الترمذي. هذا.
وقد خص العلامة البحاثة الفريد آية الله السيد حامد حسين الهندي - قدس سره -
مجلدين ضخمين من موسوعته المسماة ب‍ " عبقات الأنوار " بنقل حديث الثقلين و
طرقه من كتب السنة، فراجع.

1 - سنن الترمذي 5 / 328، باب مناقب أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أبواب المناقب، الحديث 3876.
2 - صحيح البخاري 3 / 91 كتاب المغازي، باب مرض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ووفاته.
59

فعلى الأمة المسلمة التمسك بالعترة الطاهرة في الأعمال والأقوال. ولا أظن ان
يجترئ أحد من العلماء تقديم أئمة المذاهب الأربعة وتفضيلهم على الأئمة من
العترة الطاهرة الذين هم سفن نجاة الأمة وباب حطتها وأعلام هدايتها، وقد قال
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في شأن الكتاب العزيز وفيهم: " فلا تقدموهما لتهلكوا ولا تعلموهما، فإنهما
أعلم منكم. " (1)
وفى نهج البلاغة: " انظروا أهل بيت نبيكم، فالزموا سمتهم واتبعوا أثرهم، فلن يخرجوكم
من هدى ولن يعيدوكم في ردى، فان لبدوا فالبدوا، وان نهضوا فانهضوا، ولا تسبقوهم
فتضلوا ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا. " (2)
وفيه أيضا: " هم موضع سره ولجأ أمره وعيبة علمه وموئل حكمه وكهوف كتبه و
جبال دينه، بهم أقام انحناء ظهره وأذهب ارتعاد فرائصه... لا يقاس بآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)
من هذه الأمة أحد ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا، هم أساس الدين وعماد
اليقين، إليهم يفىء الغالي وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حق الولاية وفيهم
الوصية والوراثة، الآن إذ رجع الحق إلى أهله ونقل إلى منتقله. " (3)
وفى مستدرك الحاكم النيسابوري بسنده عن أبى ذر، قال: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
يقول: " ألا ان مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من قومه، من ركبها نجا ومن تخلف عنها
غرق. " (4)
وفيه أيضا بسنده عن ابن عباس، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " النجوم أمان لأهل
الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب

1 - الدر المنثور 2 / 60.
2 - نهج البلاغة، فيض / 286; عبده 1 / 189 - 190; لح / 143، الخطبة 97.
3 - نهج البلاغة، فيض / 44 - 45; عبده 1 / 24 - 25; لح / 47، الخطبة 2.
4 - مستدرك الحاكم 3 / 151 كتاب معرفة الصحابة.
60

اختلفوا فصاروا حزب إبليس. " (1)
إلى غير ذلك مما ورد في أهل البيت من طرق الفريقين وهى كثيرة جدا.
وإني أدعو إخواننا من علماء السنة أن ينظروا إلى عقيدتنا في مسألة الإمامة و
الخلافة، وفى الأخذ بمذهب العترة الطاهرة من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بنظرة علمية و
بعين الانصاف، بعيدا عن التأثر بالأجواء السياسية التي نشاهد في أعصارنا كيف تؤثر
في الناس وتجعل الحقائق خلف الأستار.
ان التشيع لعلى وللأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) ليس أحدوثة ولا بدعة بعد هذه
الأحاديث النبوية المتواترة عند الفريقين، بل وبعد ورود التسمية بالشيعة في كلام
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
ففي الدر المنثور في تفسير سورة البينة:
" أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله، قال: كنا عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فاقبل على فقال
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " والذي نفسي بيده ان هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة.
ونزلت: " ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية... " وأخرج ابن
عدى عن ابن عباس، قال: لما نزلت " ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير
البرية " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلى: " هو أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين. " و
أخرج ابن مردويه عن على قال: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ألم تسمع قول الله: ان الذين
آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية؟ أنت وشيعتك. وموعدي وموعدكم
الحوض، إذا جئت الأمم للحساب تدعون غرا محجلين. " (2)
وقد طال الكلام في المقام فأعتذر من القراء الكرام.

1 - مستدرك الحاكم 3 / 149 كتاب معرفة الصحابة.
2 - الدر المنثور 6 / 379.
61

الآية الرابعة من الآيات:
قوله - تعالى - في سورة الأحزاب: " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله و
رسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم. " (1)
وقد نزلت في قصة زيد بن حارثة عندما خطب له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بنت عمته زينب بنت
جحش فاستنكرت هي ذلك وكذلك أخوها عبد الله، فلما نزلت الآية قالت: رضيت يا
رسول الله. وجعلت أمرها إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكذلك أخوها. وليست القضية قضية
شخصية فقط، بل الظاهر انها كانت اجتماعية ولا سيما بعدما طلقها زيد وتزوجها
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكأن الغرض من ذلك كله كان نقض عادتين خرافيتين من عادات
الجاهلية: إحديهما الاشمئزاز والاستنكاف من تزويج امرأة قرشية لمولى من
الموالي، وثانيتهما اعتبار كون الأدعياء أبناء وكون أزواجهم في حكم أزواج البنين.
ولا يخفى ان الآية وان نفت الخيرة ولكن المفروض في مورد النزول على ما ورد،
هو حصول الرضا عند العقد بعدما نزلت الآية، اللهم إلا ان يقال: ان المورد لا يخصص،
فتدبر.
الآية الخامسة من الآيات:
قوله - تعالى - في سورة المائدة: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين
يقيمون الصلاة

1 - سورة الأحزاب (33)، الآية 36.
62

ويؤتون الزكاة وهم راكعون. " (1)
وقد ورد في روايات مستفيضة بل متواترة من طرق الفريقين في شأن نزول الآية
أن أمير المؤمنين (عليه السلام) تصدق بخاتمه أو غيره في حال الصلاة، فنزلت.
ففي الدر المنثور في ذيل الآية:
" أخرج الطبراني في الأوسط، وابن مردويه عن عمار بن ياسر، قال: وقف بعلى
سائل وهو راكع في صلاة تطوع فنزع خاتمه فأعطاه السائل فأتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
فاعلمه ذلك فنزلت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الآية: إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا
الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون.
فقرأها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على أصحابه ثم قال: من كنت مولاه فعلى مولاه، اللهم وال
من والاه وعاد من عاداه. " (2)
ولا يخفى ان هذا مورد ثالث لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من كنت مولاه فعلى مولاه "، والأول في
قصة الغدير، والثاني قصة بريدة كما مر. هذا.
وقد مر تفسير الولاية وانها تشعر بالتدبير والقوة والفعل.
وفى أصول الكافي: " عن أبى عبد الله في قول الله - عز وجل -: " إنما وليكم الله و
رسوله والذين آمنوا - قال: انما يعنى: أولى بكم، أي أحق بكم وبأموركم وأنفسكم و
أموالكم الله ورسوله والذين آمنوا، يعنى عليا وأولاده الأئمة (عليهم السلام) إلى يوم القيامة.
الحديث. " (3) وفيه ان الصدقة كانت حلة قيمة، ولعل الواقعة تكررت.

1 - سورة المائدة (5)، الآية 55.
2 - الدر المنثور 2 / 293.
3 - الكافي 1 / 288، كتاب الحجة، باب ما نص الله ورسوله على الأئمة (عليهم السلام)، الحديث 3.
63

الآية السادسة:
قوله - تعالى - في سورة النساء: " يا أيها الذين آمنوا، أطيعوا الله وأطيعوا الرسول و
أولي الأمر منكم. " (1)
قيل: " أفرد الأمر بطاعة الرسول للمبالغة ولدفع توهم انه لا يجب الالتزام بما ليس
في القرآن من أوامره. " وقيل: " معناه أطيعوا الله في الفرائض وأطيعوا الرسول في
السنن. " هذا.
ولكن الظاهر بقرينة عطف أولي الأمر على الرسول وعدم فصلهم عنه هو كون
إطاعة الرسول وإطاعة أولي الأمر هنا من سنخ واحد. فيكون الأمر بإطاعة الله
مرتبطا بأحكام الله المشرعة من قبله - تعالى -. والأمر بإطاعتها أمر إرشادي
لا مولوي، وإلا لتسلسل الأوامر والمثوبات والعقوبات، كما حقق في محله.
وأما الأمر بإطاعة الرسول وأولى الأمر فيكون أمرا مولويا من الله - تعالى -
متعلقا بإطاعتهم في الأوامر الصادرة عنهم بنحو المولوية بما انهم ولاة الأمر في
الأمور الاجتماعية والسياسية والقضائية. وليس المراد إطاعتهم في مقام بيان
أحكام الله - تعالى - لأنها ليست أمرا آخر وراء إطاعة الله، وأوامرهم - عليهم السلام
- في هذا المجال إرشادية محضة، نظير أوامر الفقيه في هذا المجال كما مر. ولاجل
ذلك كررت لفظة: " أطيعوا " وفصلت اطاعتهم عن إطاعة الله - تعالى -، وان كانت
ولايتهم من قبل الله - تعالى - واطاعتهم أيضا نحو إطاعة له. هذا.
والمقصود بالأمر في الآية - على الظاهر - هو الحكومة وإدارة شؤون الأمة. و
سميت به لقوامها بالأمر من طرف والإطاعة من طرف آخر.
وفى الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما ولت أمة قط أمرها رجلا وفيهم أعلم منه إلا لم يزل

1 - سورة النساء (4)، الآية 59.
64

أمرهم يذهب سفالا حتى يرجعوا إلى ما تركوا. " (1)
وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا: " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة. " (2)
وفى نهج البلاغة: " فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة. الحديث. " (3)
وفيه أيضا: " ولعلى أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم. " (4)
وفيه أيضا: " ان أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمه بأمر الله فيه. " (5)
وفى كتاب الإمام المجتبى (عليه السلام) إلى معاوية: " ان عليا لما مضى لسبيله... ولأني
المسلمون الأمر بعده... فإنك تعلم أني أحق بهذا الأمر منك. " (6)
وفى خطاب السبط الشهيد (عليه السلام) لأصحاب الحر: " ونحن أهل بيت محمد وأولى بولاية
هذا الأمر عليكم. " (7)
إلى غير ذلك من موارد استعمال لفظ الأمر المراد به الإمارة والحكومة بشعبها
المختلفة.
وهذا المعنى أيضا هو المتبادر من قوله - تعالى -: " وشاورهم في الأمر. " (8) وقوله:
" وأمرهم شورى بينهم. " (9)
وعلى هذا فيكون معنى " أولى الأمر " الرجال المتصدين لأمر الحكومة وإدارة
الشؤون العامة بشعبها المختلفة وفى رأسهم الإمام الأعظم.

1 - كتاب سليم بن قيس / 118.
2 - صحيح البخاري 3 / 91، كتاب المغازي، باب كتاب النبي إلى كسرى وقيصر.
3 - نهج البلاغة، فيض / 51; عبده 1 / 31; لح / 49، الخطبة 3.
4 - نهج البلاغة، فيض / 271; عبده 1 / 182; لح / 136، الخطبة 92.
5 - نهج البلاغة، فيض / 558; عبده 2 / 104; لح / 247، الخطبة 173.
6 - مقاتل الطالبيين / 35 - 36.
7 - إرشاد المفيد / 207 (= طبعة أخرى / 225).
8 - سورة آل عمران (3)، الآية 159.
9 - سورة الشورى (42)، الآية 38.
65

قال الشيخ الأعظم في مكاسبه في معنى أولى الأمر:
" الظاهر من هذا العنوان عرفا من يجب الرجوع اليه في الأمور العامة التي لم
تحمل في الشرع على شخص خاص. " (1) هذا.
وفى الدر المنثور:
عن أبى هريرة: " هم الأمراء منكم. " وفى لفظ: " هم أمراء السرايا. " وفيه أيضا
عن البخاري ومسلم وغيرهما بسندهم عن ابن عباس، قال: " نزلت في عبد الله بن
حذافة بن قيس إذ بعثه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في سرية. " (2)
ولكن وردت من طرق أصحابنا الإمامية أخبار مستفيضة تدل على كون المراد
بأولى الأمر في الآية الشريفة خصوص الأئمة الإثنى عشر من أهل البيت. منها: ما في
الكافي بسنده عن بريد العجلي، عن أبى جعفر (عليه السلام) قال: " إيانا عنى خاصة. امر جميع
المؤمنين إلى يوم القيامة بطاعتنا. " (3)
أقول: لا إشكال عندنا في أن الأئمة الاثني عشر هم المستحقون للإمامة بعد
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنص والأفضلية. وهم القدر المتيقن من أولى الأمر في الآية والمصاديق
البارزة لهذا العنوان، وكان على الأمة بيعتهم واطاعتهم. ولكن من المحتمل ان يكون
الحصر في الأخبار المشار إليها حصرا أضافيا بالنسبة إلى حكام الجور المتصدين
للحكومة في اعصار الأئمة (عليهم السلام) فأرادوا - عليهم السلام - بيان ان الحق لهم وان هؤلاء
المتصدين ليسوا أهلا لهذا الأمر. وإلا فولاية الأمر إذا كانت عن حق بأن كانت بجعل
الأئمة (عليهم السلام) إياها لشخص أو عنوان، أو بتولية المسلمين أحدا على أنفسهم مع كونه واجدا للشرائط المعتبرة ان قلنا بصحة ذلك

1 - المكاسب / 153.
2 - الدر المنثور 2 / 176.
3 - الكافي 1 / 276 كتاب الحجة، باب أن الإمام (عليه السلام) يعرف الإمام الذي يكون من بعده...، الحديث
1.
66

كما يأتي في محله، فان طبعها لا محالة يقتضى لزوم الإطاعة والتسليم، ليتم الأمر
ويدفع الهرج والمرج. فهو من قبيل تعليق الحكم على الوصف المشعر بالعلية و
دوران الحكم مداره. فعلة وجوب الإطاعة له هي كونه صاحب الأمر وان له حق
الأمر شرعا. ولا محالة لا يشمل صورة أمره بمعصية الله، إذ ليس له حق الأمر
بالمعصية. وبالجملة فاطاعته واجبة في حدود ولايته المشروعة. ولا يطلق صاحب
الأمر الا على من ثبت له حق الأمر والحكم شرعا، كما لا يطلق صاحب الدار الا على
من ملكها شرعا دون من تسلط عليها غصبا.
والحصر لا ينحصر في الحقيقي فقط، فكم قد شاع الإضافي منه في كلماتهم. و
مضامين القرآن الكريم لا تتقيد بموارد النزول والمصاديق الخاصة. والجري و
التطبيق في بعض الروايات على بعض الموارد لا يمنع من التمسك بالاطلاق والعموم.
وكيف يمكن الالتزام بولاية شخص أو اشخاص شرعا بالنصب من قبل الله أو
بانتخاب الأمة على فرض صحته ولو في شعبة خاصة أو ظرف خاص ومع ذلك
لا تفرض طاعتهم، مع أن الأمر لا يتم والغرض لا يحصل الا بالإطاعة والتسليم؟
ولا ينحصر ذلك في الإمامة الكبرى، فعمال الوالي أيضا تجب اطاعتهم فيما فوض
إليهم.
وفى صحيح مسلم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال: " من أطاعني فقد أطاع الله، ومن
عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني. " (1)
وفيه أيضا عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال في خطبته في حجة الوداع: " لو استعمل عليكم عبد
يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا. " (2)
نعم، فيه أيضا عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال: " على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره

1 - صحيح مسلم 3 / 1466 (= طبعة أخرى 6 / 13)، كتاب الإمارة، الباب 8 (باب وجوب طاعة
الأمراء في غير معصية).
2 - صحيح مسلم 3 / 1468 (= طبعة أخرى 6 / 15)، كتاب الأمارة، الباب 8، الحديث 1838.
67

إلا ان يؤمر بمعصية، فان أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة. " (1) هذا.
ولا يمكن الالتزام بلزوم كون الوالي المفترض طاعته مطلقا معصوما، والا لاشكل
الأمر في العمال المنصوبين من قبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) أمثال مالك الأشتر
ومحمد بن أبى بكر وغيرهما، إذ لا اشكال في وجوب إطاعتهم في نطاق ولايتهم. و
ان شئت قلت: ان إطاعة المنصوب من قبلهم أو المنتخب باذنهم وعلى أساس
الموازين المبينة من قبلهم أيضا هي في الحقيقة إطاعة لهم فتعمه الآية، فتأمل.
والحاصل ان المحتملات في " أولى الأمر " في الآية الشريفة ثلاثة:
الأول: ان يراد بهم الأمراء والحكام مطلقا كيف ما كانوا، كما هو الظاهر مما مر عن
أبى هريرة.
الثاني: ان يراد بهم خصوص الأئمة الاثني عشر المعصومين (عليهم السلام) كما دل عليه
ظاهر بعض الأخبار المروية عنهم (عليهم السلام). ويقربه ان الأمر بطاعة أحد على الاطلاق
لا يجوز الا إذا كان معصوما، إذ يقبح على الله - تعالى - ان يأمر على الاطلاق بطاعة
من يمكن ان يخطئ أو يأمر بالمعصية.
الثالث: ان يقال ان المراد بهم بمناسبة الحكم والموضوع من له حق الأمر والحكم
شرعا. فمن ثبت له هذا الحق وجب قهرا اطاعته في ذلك وإلا لصار جعل الحق له
لغوا. وحق الأمر شرعا لا ينحصر في المعصوم، بل يثبت لكل من كانت حكومته
مشروعة بالنصب أو بالانتخاب الممضى شرعا، ولكن في حدود حكومته. فالحكام
المنصوبون من قبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو أمير المؤمنين (عليه السلام) كان لهم حق الأمر في

1 - صحيح مسلم 3 / 1469 (= طبعة أخرى 6 / 15)، كتاب الإمارة، الباب 8، الحديث 1839.
68

حدود حكومتهم وفيما يرتبط بها، ولا محالة وجب على من كان تحت حكومتهم
ان يطيعوهم في هذا السنخ من الأوامر. وأما ما يكون معصية لله - تعالى - فلا تجوز
اطاعتهم فيه، كما لا يكون لهم حق الأمر به، بل ليس لهم الأمر في الأمور المباحة غير
المرتبطة بشؤون الحكومة أيضا.
وعن ابن عباس في قوله: " وأولى الأمر منكم ":
يعنى أهل الفقه والدين وأهل طاعة الله الذين يعلمون الناس معاني دينهم و
يأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر. وعن جابر في قوله: " وأولى الأمر منكم "
قال: " أولى الفقه وأولى الخير. " وعن مجاهد قال: " هم الفقهاء والعلماء. " (1)
وعلى هذا فلا تشمل الآية ولاة الجور وعمالهم فان ولايتهم ساقطة عند الله وعند
رسوله بل عند العقل أيضا وليس لهم حق الأمر لما سيجئ من اعتبار شروط ثمانية
في الوالي بحكم العقل والشرع سواء كانت الولاية بالنصب أو بالانتخاب.
فالانتخاب أيضا على القول به يتقيد بالشروط المذكورة، فلا تنعقد الإمامة و
الولاية لمن فقدها. وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): " اعرفوا الله بالله والرسول بالرسالة وأولى
الأمر بالمعروف والعدل والاحسان. " (2) كما ان رتبة الانتخاب أيضا على القول به تأتى
بعد رتبة النصب، فلا مجال له معه. والتفصيل يأتي في الباب الخامس فانتظر. ونعود
إلى تفسير الآية بتمامها أيضا في ذلك الباب عند التعرض لمقبولة عمر بن حنظلة و
الاستدلال بها لولاية الفقيه.
الآية السابعة:
قوله - تعالى - في سورة النساء أيضا: " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم

1 - الدر المنثور 2 / 176.
2 - التوحيد / 285، باب أنه - عز وجل - لا يعرف إلا به، الحديث 3. والكافي 1 / 85 كتاب
التوحيد، باب أنه لا يعرف إلا به، الحديث 1.
69

لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما. " (1)
والمخاطب هو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فيجب التسليم له ولأوامره.
ولكن يمكن الخدشة في اطلاقها لظهورها في خصوص القضاء الذي هو شعبة من
شعب الولاية. ومورد النزول أيضا على ما في المجمع قضاؤه (صلى الله عليه وآله وسلم) في خصام وقع
بين الزبير وبين رجل من الأنصار، فراجع (2).
اللهم الا ان يمنع ظهور الآية في خصوص القضاء، إذ الموصول بعمومه يشمل كل
ما يشجر بين المسلمين حتى في مثل الصراعات والحروب بين فئاتهم وأقوامهم،
نظير قوله - تعالى -: " وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما. " (3)
فالآية نص في ولاية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في جميع خلافاتهم الداخلية العامة والشخصية،
ولا نعني بالحكومة الا هذا. وموردها وان كان خصوص القضاء ولكن المورد
لا يخصص.
الآية الثامنة:
قوله - تعالى - في سورة النساء أيضا: " انا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس
بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما. " (4)
بتقريب ان اطلاق الحكم بين الناس يشمل جميع الشؤون ويعم المسلمين وغير
هم أيضا. إلا ان يدعى ظهور الحكم في خصوص القضاء. وسيأتي البحث في ذلك في
الباب الخامس.

1 - سورة النساء (4)، الآية 65.
2 - مجمع البيان 2 / 69. (الجزء 3).
3 - سورة الحجرات (49)، الآية 9.
4 - سورة النساء (4)، الآية 105.
70

الآية التاسعة:
قوله - تعالى - في سورة النور: " إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله، وإذا كانوا
معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه... لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم
بعضا، قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا، فليحذر الذين يخالفون عن أمره ان تصيبهم
فتنة أو يصيبهم عذاب أليم. " (1)
فالآية الأولى دلت على ان لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مضافا إلى منصب الرسالة منصب
القيادة والإمامة في الأمور الاجتماعية والسياسية أيضا، وان الواجب على الأمة
رعاية هذه الجهة أيضا. والآية الثانية دلت على وجوب اطاعته في أوامره وحرمة
مخالفته. والظاهر منها إرادة أوامره المولوية الصادرة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بولايته، لا الأوامر
الارشادية الصادرة عنه في مقام بيان أحكام الله - تعالى -. فإنها في الحقيقة أوامر
الله - تعالى - لا أوامره (صلى الله عليه وآله وسلم).
واحتملوا في صدر هذه الآية وجوها:
منها: وجوب تفخيم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المخاطبة بأن يقولوا مثلا: " يا رسول الله " و
لا يقولوا: " يا محمد ".
ومنها: النهى عن التعرض لدعائه عليهم بان يسخطوه فيدعو عليهم، حيث ان
دعاءه حق يستجاب بلا شك.
ومنها: وجوب إجابة دعوته (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الجهاد أو غيره من الشؤون، إذ ليس

1 - سورة النور (24)، الآية 62 و 63.
71

دعوته لنا كدعوة بعضنا بعضا. فان في القعود عن أمره قعودا عن أمر الله - تعالى -،
حيث أوجب علينا طاعته (صلى الله عليه وآله وسلم).
ولعل الأنسب بالسياق هو الوجه الثالث، كما يشهد بذلك قوله: " قد يعلم الله الذين
يتسللون منكم لواذا "، أي يفرون ويخفون أنفسهم. فتدل الآية على ان الأمور التي
يتطلب فيها التعاون و الاجتماع لا يجوز تركها بدون الاستيذان من القائد، فتدبر.
فهذه تسع آيات يستفاد منها ولاية النبي أو الأئمة أو بعض الأنبياء الأخر. وكيف
كان فالولاية ثابتة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وللأئمة (عليهم السلام) بالكتاب وبالسنة المتواترة. والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
كما كان رسول الله وخاتم النبيين كان أيضا حاكما على المسلمين ووليا لهم وأولى
بهم من أنفسهم ووجبت عليهم اطاعته في أوامره الصادرة عنه من هذه الجهة أمرا
مولويا، مضافا إلى الأوامر الارشادية الصادرة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) في مقام بيان أحكام الله -
تعالى -، كما مر بيانه.
والأخبار في افتراض طاعة الأئمة وكون معصيتهم كمعصية الله - تعالى - في
غاية الكثرة. ويكفيك في ذلك مقبولة عمر بن حنظلة وخبر أبى خديجة والتوقيع
المشهورات، حيث علل فيها حكومة الفقيه الراوي ووجوب الرجوع اليه باني قد
جعلته حاكما أو قاضيا أو انهم حجتي عليكم، فتأمل.
72

التنبيه على أمور
وينبغي التنبيه هنا على امور بنحو الإجمال، فان للتفصيل محلا آخر:
الأول - في بيان مفهوم الإمامة
قد مر بالتفصيل تفسير الولاية عن بعض أهل اللغة، وان حقيقتها ترجع إلى تولى
الأمر والتصرف والتدبير، ويشتق منها لفظ الوالي بمعنى الحاكم والأمير.
وأما الإمامة، ففي المفردات:
" الإمام: المؤتم به، انسانا كأن يقتدى بقوله أو فعله، أو كتابا أو غير ذلك، محقا كان
أو مبطلا، وجمعه أئمة. " (1)
وفى الصحاح:
" الإمام: الذي يقتدى به، وجمعه أئمة. " (2)
وفى لسان العرب:

1 - المفردات / 20.
2 - الصحاح 5 / 1865.
73

" يقال: امام القوم معناه هو المتقدم لهم. ويكون الإمام رئيسا كقولك: امام
المسلمين. " (1)
وفى المنجد:
" أم القوم وبالقوم: تقدمهم وكان لهم إماما. إئتم به: اقتدى به. الإمام للمذكر و
المؤنث، الجمع: أئمة وايمة: من يؤتم به. " (2)
أقول: ويشبه ان يكون اللفظ بفعله مأخوذا من لفظ الأمام بفتح الهمزة بمعنى القدام
ضد الخلف، ويحتمل ان يكون مأخوذا من الأم - وأم الشئ أصله - فكأن امام القوم
أصلهم وهم تبع له. ويمكن ان يكون مأخوذا من الأم بمعنى القصد، لكونه يقصد.
وكيف كان فيطلق على قائد القوم وزعيمهم الوالي والإمام والسلطان والحاكم و
الأمير بعنايات مختلفة، فهو وال بحق تصرفه، وإمام بوقوعه في الأمام، وسلطان
بسلطته، وحاكم بحكمه، وأمير بأمره، فتدبر.
الثاني - في تقسيم الولاية:
الولاية - بمعنى التصرف و الاستيلاء على الشخص أو الأمر - إما تكوينية وإما
تشريعية. ولا يخفى ثبوت كلتيهما بمرتبتهما الكاملة لله - تعالى.
ويوجد لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل لجميع الأنبياء أو أكثرهم وكذا للأئمة المعصومين
- سلام الله عليهم أجمعين - بل لبعض الأولياء الكرام أيضا مرتبة من الولاية
التكوينية، بحسب ارتقاء وجودهم وتكاملهم في العلم والقدرة النفسانية والإرادة

1 - لسان العرب 12 / 26.
2 - المنجد / 17.
74

والمشية والارتباط بالله - تعالى - وعناية الله بهم. إذ جميع معجزات الأنبياء و
الأئمة وكرامات الأولياء نحو تصرف منهم في التكوين، وان كانت مشيتهم في طول
مشية الله وباذنه.
قال الله - تعالى - خطابا للخليل (عليه السلام): " فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك، ثم اجعل
على كل جبل منهن جزءا، ثم أدعهن يأتينك سعيا، واعلم ان الله عزيز حكيم. " (1)
وقال حكاية عن موسى (عليه السلام): " فألقى عصاه، فإذا هي ثعبان مبين * ونزع يده، فإذا هي
بيضاء للناظرين. " (2)
وعن المسيح (عليه السلام): " إني قد جئتكم بآية من ربكم، أنى أخلق لكم من الطين كهيئة الطير،
فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله، وأبرئ الأكمه والأبرص، وأحيى الموتى بإذن الله. " (3)
وفى قصة آصف وعرش بلقيس: " قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل ان
يرتد إليك طرفك. فلما رآه مستقرا عنده قال: هذا من فضل ربى. " (4)
وفى نهج البلاغة في آخر الخطبة القاصعة ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر الشجرة ان تنقلع
بعروقها وتأتي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتقف بين يديه، فانقلعت بعروقها وجاءت ولها دوى
شديد وقصف كقصف أجنحة الطير. (5)
إلى غير ذلك من المعجزات وخوارق العادات.
هذا مضافا إلى ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين (عليهم السلام) خلاصة العالم وثمرته في
قوس الصعود وعلته الغائية. والعلة الغائية احدى العلل.

1 - سورة البقرة (2)، الآية 260.
2 - سورة الأعراف (7)، الآية 107 و 108.
3 - سورة آل عمران (3)، الآية 49.
4 - سورة نمل (27)، الآية 40.
5 - راجع نهج البلاغة، فيض / 815 - 816; عبده 2 / 183 - 184; لح / 301 - 302، الخطبة 192.
75

فمثل عالم الطبيعة بمراحله كمثل أشجار مثمرة غرسها غارسها وسقاها ورباها
لتثمر له أثمارا حلوة جيدة. فالثمرة العالية غاية وجود الشجرة ومن عللها. فالنبي
الأكرم والأئمة المعصومون ثمرة العالم في قوس الصعود وغايته وان كان غاية
الغايات هو الله - تعالى - بذاته المقدسة، كما حقق في محله.
وقد ورد: " لولاك ما خلقت الأفلاك. " (1)
وفى الزيارة الجامعة الكبيرة خطابا للأئمة - عليهم السلام -: " بكم فتح الله وبكم
يختم، وبكم ينزل الغيث وبكم يمسك السماء ان تقع على الأرض الا باذنه، وبكم ينفس الهم
ويكشف الضر. " (2)
واما ما نسب الينا من الاعتقاد بكون العالم مخلوقا للأئمة - عليهم السلام - لا لله -
تعالى - فبهتان عظيم.
واما ما في نهج البلاغة من قوله (عليه السلام): " فإنا صنائع ربنا والناس بعد صنائع لنا " (3)
فلا يراد به الخلقة، بل الهداية والتربية. ولذا ذكر الناس فقط لا جميع الخلق. ومنه
قولهم: " المرأة صنيعة الرجل "، أي مرباته.
وكيف كان فأصل الولاية التكوينية بنحو الاجمال ثابتة لهم بلا إشكال وان لم نحط
بحدودها. ولكن محط البحث هنا هو الولاية التشريعية المستتبعة لوجوب الطاعة لهم
في أوامرهم المولوية الصادرة عنهم من هذه الجهة مضافا إلى الأوامر الارشادية
الصادرة عنهم في مقام بيان أحكام الله - تعالى -. وللبحث في الولاية التكوينية لهم
وكيفية صدور المعجزات والكرامات محل آخر.

1 - بحار الأنوار 15 / 28، تاريخ نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، باب بدء خلقه (صلى الله عليه وآله وسلم) وما يتعلق بذلك، الحديث 48.
2 - الفقيه 2 / 615، كتاب الحج - الزيارة الجامعة - الحديث 3213، وعيون أخبار الرضا 2 / 276،
الباب 68.
3 - نهج البلاغة، فيض / 894; عبده 3 / 36; لح / 386، الكتاب 28.
76

الثالث - في مراتب الولاية:
لا يخفى ان الولاية التشريعية بمعنى حق التصرف والأمر حقيقة ذات مراتب:
فمرتبتها الكاملة ثابته لله - تعالى -.
ومرتبة منها ثابتة لبعض الأنبياء وللنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) وفى عصر الغيبة
للفقيه العادل العالم با لحوادث وبمسائل زمانه البصير بها القوى على حلها على
ما يأتي من اثباتها. ويعبر عن واجد هذه المرتبة بالإمام والوالي والأمير والسلطان و
نحو ذلك.
ومرتبة منها أيضا ثابتة للأب والجد بالنسبة إلى الصغير والمجنون والبنت الباكر، و
لعدول المؤمنين أيضا في بعض الموارد.
ولعله يوجد مرتبة منها للوالدين مطلقا بنحو تحسن عقلا وشرعا بل تلزم
إطاعتهما وعدم التخلف عن أوامرهما ما لم تزاحم أمرا أهم، لكونهما من أولياء النعم.
ومرتبة منها ثابتة لكل مؤمن ومؤمنة، كما قال الله - عز وجل -: " والمؤمنون و
المؤمنات بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. " (1) إذ ظاهر الآية
ان كل واحد من المؤمنين والمؤمنات جعل له من قبل الله - تعالى - مرتبة من الولاية
بالنسبة إلى كل أحد، بحيث يحق له اجمالا أمره ونهيه، غاية الأمر ضيق نطاق ولايته.
وفى الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته. " (2)

1 - سورة التوبة (9)، الآية 71.
2 - صحيح البخاري 1 / 160، كتاب الجمعة، باب الجمعة في القرى والمدن.
77

الرابع - ان الولاية المساوقة للإمامة أيضا لها مراتب بحسب التحقق
الخارجي:
الأولى: مرتبة الاستعداد والصلاحية، أعنى واجدية الشخص للصفات والملكات
الذاتية أو الاكتسابية التي بها يصير عند العقلاء صالحا لأن يجعل واليا وبدونها يكون
الجعل عندهم جزافا. وهكذا منصب النبوة والرسالة. فالحكيم المطلق لا يرسل إلى
الخلق لغرض الارشاد والهداية، وكذلك لا يجعل إماما لإدارة شؤون الناس و
التصرف فيما يتعلق بهم الا من له لياقة ذاتية وأهلية لهذا المنصب. كما ان العقلاء
يقضى عقلهم بان لا يؤمروا على أنفسهم الا من ثبتت له فضائل نفسانية معينة.
وهذه المرتبة من الولاية كمال ذاتي في الشخص وحقيقة خارجية، ولكنها في
الحقيقة ليست هي الولاية والإمامة الاصطلاحية، بل تكون مقدمة لها ومن شرائطها.
الثانية من المراتب: المنصب المجعول للشخص اعتبارا من قبل من له ذلك وان
فرض عدم ترتب الأثر المترقب منها عليه. مثل الولاية التي جعلها النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)
من قبل الله - تعالى - لأمير المؤمنين في غدير خم، وان لم ترتب الأمة عليها الأثر و
تخلفوا عنها. ونظير ذلك ثبوت منصب الولاية شرعا للأب بالنسبة إلى مال الصغير، و
ان منعه المانعون من إعمالها.
الثالثة: الولاية والسلطة الفعلية الحاصلة بمبايعة الناس وتسليم السلطة والقوة له
فعلا. مثل ما حصل لأمير المؤمنين (عليه السلام) بعد عثمان بالبيعة له.
ولا يخفى ان المرتبة الأولى - كما عرفت - كمال ذاتي للوالي، سواء جعل واليا أم لا،
وسواء تحققت له سلطة واستيلاء فعلى أم لا.
78

وأما المرتبة الثانية فهي أمر اعتباري، بل المناصب كلها أمور اعتبارية ليس بإزائها
شئ في الخارج، سواء جعلت من قبل الله - تعالى - أو من قبل الأمة. غاية الأمر ان
اعتبار منصب خاص لشخص خاص لا محالة يكون مشروطا بكونه لائقا له واجدا
للفضائل النفسانية أو الخارجية وإلا كان جزافا. والشروط أمور وصفات خارجية
تكوينية. فالنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) مثلا كان واجدا لفضائل ذاتية وكسبية وبلغ من القرب
إلى الله - تعالى - مقاما لم يصل اليه ملك مقرب ولا نبي مرسل، ولكن هذه الفضائل
غير مأموريته بتبليغ احكام الله - تعالى - أو كونه أولى بالمؤمنين من أنفسهم. هذا.
واما المرتبة الثالثة فهي خارجية الولاية وعينيتها بلحاظ تحقق آثارها في
الخارج، حيث يتسلط الوالي بقواه وتنقاد له الأمة وينبعثون عن أوامره ونواهيه
طوعا أو كرها. وهذه المرتبة لها وجهتان: وجهة كونها مقاما وسلطة يتنافس فيها
المتنافسون، ووجهة كونها أمانة من الله ومن الناس ولا تستعقب الا مسؤولية و
كلفة. وإنما ينظر إليها أولياء الله بالوجهة الثانية، كما في كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى
الأشعث عامله على آذربيجان: " ان عملك ليس لك بطعمة، ولكنه في عنقك أمانة. " (1)
وقول أمير المؤمنين (عليه السلام) مشيرا إلى نعله: " والله لهي أحب إلي من إمرتكم، إلا أن أقيم
حقا أو ادفع باطلا " (2)، لايراد به الا هذه المرتبة من الولاية. إذ لا يريد (عليه السلام) كون النعل
أحب اليه من علومه وفضائله وكراماته التي بها فاق الأقران وصار لائقا للخلافة و
الولاية، ولا يريد به المنصب المجعول له في غدير خم أيضا. وإنما يريد به السلطة و
الإمارة الفعلية التي لا توجب الا كلفة ومسؤولية، وان كان الناس مولعين بها بما هي
رياسة ومقام. فالنعل التي بها ترفع حاجاته ولا توجب مسؤولية أفضل عنده وأحب
من المقام المستعقب للمسؤولية والكلفة إلا أن يقيم به حقا أو يدفع به باطلا ويحصل
به لنفسه قربا وأجرا.

1 - نهج البلاغة، فيض / 839; عبده 3 / 7; لح / 366، الكتاب 5.
2 - نهج البلاغة، فيض / 111; عبده 1 / 76; لح / 76، الخطبة 33.
79

وكذلك قوله في الخطبة الشقشقية: " لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس
أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز " (1)، وقوله: " والله ما كانت لي في
الخلافة رغبة ولا في الولاية إربة، ولكنكم دعوتموني إليها وحملتموني عليها " (2)، لايراد
بهما الا هذه المرتبة.
وكذلك قوله (عليه السلام): " سلبوني سلطان ابن أمي. " (3) فان هذه المرتبة من الولاية هي
القابلة للسلب. والمراد بابن امه نفسه كما قيل، أو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن أبويهما عبد الله
وأبا طالب من ام واحدة، وهى فاطمة بنت عمرو.
وهكذا قول الإمام السجاد (عليه السلام): " اللهم ان هذا المقام لخلفائك وأصفيائك ومواضع
أمنائك في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها قد ابتزوها " (4) يراد به هذه المرتبة من
الولاية، وإلا ففضائل الأئمة (عليهم السلام) وعلومهم وكمالاتهم النفسانية، التي ثبتت لهم
تكوينا وبسببها استحقوا الإمامة، مما لا تصل إليها أيدي الغاصبين ولا يتطرق إليها
الابتزاز. وهذا واضح لا سترة عليه.
الخامس - في معنى الإمام اصطلاحا:
لا يخفى ان امامة الأئمة الإثنى عشر لما كانت ثابتة عندنا بالنص وبوجدانهم
شرائط الإمامة الحقة، صار هذا سببا لانصراف لفظ الإمام عندنا إليهم - عليهم السلام
-، حتى كأن لفظ الإمام وضع لهم. ولكن يجب ان يعلم ان اللفظ كما مر في التنبيه
الأول قد وضع للقائد الذي يؤتم به، إما في الصلاة أو في الجهاد أو في اعمال الحج أو
في جميع الشؤون السياسية و الاجتماعية، سواء كان بحق أو بباطل.

1 - نهج البلاغة، فيض / 52; عبده 1 / 32; لح / 50، الخطبة 3.
2 - نهج البلاغة، فيض / 656; عبده 2 / 210; لح / 322، الخطبة 205.
3 - نهج البلاغة، فيض / 947; عبده 3 / 68; لح / 409، الكتاب 36.
4 - الصحيفة السجادية، الدعاء 48.
80

ففي الكافي عن أبى عبد الله (عليه السلام) قال: ان الأئمة في كتاب الله - عز وجل - امامان: قال
الله - تبارك وتعالى -: " وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا " (1) لا بأمر الناس يقدمون أمر الله
قبل أمرهم وحكم الله قبل حكمهم. قال: " وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار " (2) يقدمون
أمرهم قبل أمر الله وحكمهم قبل حكم الله ويأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب الله -
عز وجل. " (3)
وفى سورة التوبة: " فقاتلوا أئمة الكفر. " (4) والأئمة جمع الإمام.
ولا ينحصر إطلاق لفظ الإمام على القائد الأعظم والسلطان فقط، بل يطلق على
القائد ولو في قسمة خاصة أيضا. فالإمام الصادق (عليه السلام) أطلق على أمير الحاج
المنصوب من قبل سلطان وقته لفظ الإمام، حين سقط هو - عليه السلام - عن بغلته
حين الإفاضة من عرفات، فوقف عليه أمير الحاج إسماعيل بن على، فقال له
أبو عبد الله (عليه السلام): " سر، فان الإمام لا يقف. " (5)
وفى رسالة الحقوق لعلى بن الحسين - عليهما السلام -: " فحقوق أئمتك ثلاثة:
أوجبها عليك حق سائسك بالسلطان، ثم حق سائسك بالعلم، ثم حق سائسك بالملك. وكل
سائس إمام. " (6)
وبالجملة فأنس الذهن بامامة الأئمة الاثني عشر - سلام الله عليهم أجمعين - و
علو مقام إمامتهم وكونهم أحق بها من غيرهم لا ينبغي أن يوجب غفلتك واغترارك
في مفهوم الكلمة. وقد شاع استعمال الكلمة في مفهومها العام في الكتاب والسنة و
كلمات الأصحاب، يقف عليها المتتبع. فلتكن هذه النكتة في ذهنك، فإنها تفيدك في
المباحث الآتية.

1 - سورة الأنبياء (21)، الآية 73.
2 - سورة القصص (28)، الآية 41.
3 - الكافي 1 / 216، كتاب الحجة، باب أن الأئمة في كتاب الله إمامان، الحديث 2.
4 - سورة التوبة (9)، الآية 12.
5 - الوسائل 8 / 290، الباب 26 من أبواب آداب السفر من كتاب الحج.
6 - الخصال / 565 (الجزء 2)، أبواب الخمسين، الحديث 1، وتحف العقول / 255.
81

الباب الثالث
في بيان لزوم الحكومة وضرورتها في جميع الأعصار ولو في عصر الغيبة، بل
كونها من ضروريات الإسلام ومما أوجب الله - تعالى - تأسيسها والحفاظ عليها
مع الإمكان.
ويشتمل هذا الباب على فصول أربعة:
83

الفصل الأول
في ذكر كلمات بعض العلماء والأعاظم المدعين للإجماع في المسألة
1 - ففي الجواهر عن المحقق الكركي في رسالته التي ألفها في صلاة الجمعة:
" اتفق أصحابنا على ان الفقيه العادل الأمين الجامع لشرائط الفتوى المعبر عنه
بالمجتهد في الأحكام الشرعية نائب من قبل أئمة الهدى - عليهم السلام - في حال
الغيبة في جميع ما للنيابة فيه مدخل، وربما استثنى الأصحاب القتل والحدود. " (1)
2 - وقال العلامة في أوائل الألفين:
" الحق عندنا أن وجوب نصب الإمام عام في كل وقت. " (2)
ولكن الظاهر انه - طاب ثراه - يريد الإمام المعصوم.
3 - وقال المحقق النراقي - طاب ثراه - في العوائد:
" كلية ما للفقيه العادل توليه وله الولاية فيه أمران:
أحدهما: كل ما كان للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والامام، الذين هم سلاطين الأنام وحصون
الإسلام، فيه الولاية وكان لهم فللفقيه أيضا ذلك الا ما أخرجه الدليل من اجماع أو
نص أو غيرهما.

1 - الجواهر 21 / 396.
2 - الألفين / 18.
85

وثانيهما: ان كل فعل متعلق بأمور العباد في دينهم أو دنياهم، ولابد من الإتيان به
ولا مفر منه إما عقلا أو عادة من جهة توقف أمور المعاد أو المعاش لواحد أو جماعة
عليه، وإناطة انتظام أمور الدين أو الدنيا به، أو شرعا من جهة ورود أمر به أو اجماع
أو نفى ضرر أو إضرار أو عسر أو حرج أو فساد على مسلم أو دليل آخر، أو ورد
الإذن فيه من الشارع ولم يجعل وظيفة لمعين واحد أو جماعة ولا لغير معين أي
واحد لا بعينه، بل علم لابدية الإتيان به أو الإذن فيه ولم يعلم المأمور به ولا المأذون
فيه، فهو وظيفة الفقيه وله التصرف فيه والإتيان به.
اما الأول فالدليل عليه بعد ظاهر الاجماع، حيث نص به كثير من الأصحاب
بحيث يظهر منهم كونه من المسلمات، ما صرح به الأخبار المتقدمة...
وإما الثاني فيدل عليه بعد الإجماع أيضا أمران. " (1)
والظاهر ان مراده بالقسم الثاني هي الأمور المهمة المعبر عنها في كلماتهم بالأمور
الحسبية التي لا يرضى الشارع بإهمالها في أي ظرف من الظروف.
4 - وقال السيد الأستاذ، المرحوم آية الله العظمى البروجردي - طاب ثراه -
(على ما كتبت من تقريرات بحثه الشريف):
" اتفق الخاصة والعامة على انه يلزم في محيط الإسلام وجود سائس وزعيم يدبر
أمور المسلمين، بل هو من ضروريات الإسلام وان اختلفوا في شرائطه و
خصوصياته وان تعيينه من قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو بالانتخاب العمومي. " (2)
5 - وقال الماوردي في الأحكام السلطانية:
" الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا. وعقدها لمن
يقوم بها في الأمة واجب بالاجماع وإن شذ عنهم الأصم. " (3)
6 - وقال أبو محمد ابن حزم الأندلسي في الفصل:
" اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب

1 - العوائد / 187 - 188.
2 - البدر الزاهر / 52.
3 - الأحكام السلطانية / 5.
86

الإمامة، وان الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيهم أحكام الله ويسوسهم
بأحكام الشريعة التي أتى بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، حاشا النجدات من الخوارج، فإنهم قالوا:
لا يلزم الناس فرض الإمامة، وإنما عليهم ان يتعاطوا الحق بينهم. وهذه فرقة ما نرى بقي
منهم أحد. وهم المنسوبون إلى نجدة بن عمير الحنفي القائم باليمامة. قال أبو محمد: وقول
هذه الفرقة ساقط يكفى من الرد عليه وإبطاله إجماع كل من ذكرنا على بطلانه. والقرآن و
السنة قد ورد بايجاب الامام، من ذلك قول الله - تعالى -: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى
الأمر منكم. " (1)، مع أحاديث كثيرة صحاح في طاعة الأئمة وإيجاب الإمامة. " (2)
7 - وفى مقدمة ابن خلدون:
" ثم إن نصب الإمام واجب، قد عرف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة و
التابعين، لان أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عند وفاته بادروا إلى بيعة أبى بكر وتسليم
النظر اليه. وكذا في كل عصر من بعد ذلك. ولم يترك الناس فوضى في عصر من
الأعصار، واستقر ذلك إجماعا دالا على وجوب نصب الامام. " (3)
8 - وفى شرح الخطبة الأربعين من نهج البلاغة لابن أبى الحديد المعتزلي:
" قال المتكلمون: الإمامة واجبة إلا ما يحكى عن أبى بكر الأصم من قدماء
أصحابنا أنها غير واجبة إذا تناصفت الامة ولم تتظالم... فأما طريق وجوب الإمامة
ما هي؟ فان مشايخنا البصريين يقولون: طريق وجوبها الشرع وليس في العقل ما يدل
على وجوبها. وقال البغداديون وأبو عثمان الجاحظ من البصريين وشيخنا
أبو الحسين: إن العقل يدل على وجوب الرياسة، وهو قول الإمامية. " (4)
9 - وفى الفقه على المذاهب الأربعة:
" اتفق الأئمة على أن الإمامة فرض وأنه لابد للمسلمين من إمام يقيم شعائر الدين

1 - سورة النساء (4)، الآية 59.
2 - الفصل في الملل والأهواء والنحل 4 / 87.
3 - مقدمة ابن خلدون / 134 (= طبعة أخرى 191)، الفصل 26 من الفصل 3 من الكتاب الأول.
4 - شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد 2 / 308.
87

وينصف المظلومين من الظالمين، وعلى انه لا يجوز أن يكون على المسلمين في
وقت واحد في جميع الدنيا إمامان لا متفقان ولا مفترقان. " (1)
إلى غير ذلك من كلماتهم في المقام الظاهر منها كون المسألة اجماعية، فراجع
مظانها.

1 - الفقه على المذاهب الأربعة 5 / 416.
88

الفصل الثاني
في سير إجمالى في روايات الفقه الإسلامي وفتاوى الأصحاب التي يظهر منها إجمالا
سعة دائرة الإسلام وجامعيته لجميع شؤون الإنسان وأن الحكومة داخلة في نسجه ونظامه،
ولا يجوز تعطيلها في عصر ولامكان
أقول: للبحث في ولاية الفقيه في عصر الغيبة طريقان:
الأول: ما سلكه الأصحاب وفى مقدمتهم المحقق النراقي - طاب ثراه - في العوائد،
حيث يفرضون أولا ولاية الفقيه ثم يتعقبون ويتفحصون عما يمكن ان يستدل به
لذلك، وتراهم يعنونون الأخبار المستفيضة الواردة في شأن العلماء والفقهاء و
يستدلون بها لذلك.
الثاني: ان نبحث أولا عن لزوم الحكومة في نطاق الإسلام ووجوب الاهتمام
بشأنها وكونها من برامج الاسلام أم لا؟ وعلى فرض إثبات اللزوم نبحث عن شرائط
الحاكم في نظر شارع الاسلام، وبعد استقصائها ننظر على أي عنوان تنطبق هذه
الشرائط ثم نبحث عن كيفية تعيينه وعن وظائفه.
89

والظاهر ان الطريق الثاني أمتن وأوثق. فالطريقان نظير المشي الكلامي والفلسفي
في المسائل العقلية. فالمتكلم يفرض أولا حدوث العالم مثلا ثم يتصدى للاستدلال
عليه من هنا وهناك. اما الفيلسوف فيتوجه أولا إلى حقيقة الوجود ونظام العالم
فيجعله موضوعا لبحثه ثم يتصدى لتحقيق خواصه وعوارضه، من الوجوب و
الإمكان والقدم والحدوث ونحو ذلك من الانقسامات اللاحقة للوجود، ولا محالة
ينتهى بحثه بالأخرة إلى إحراز وجود الخالق ووجوبه وحدوث الخلق وامكانه.
إذا عرفت هذا فنقول: قبل الورود في أصل المسألة وذكر الأدلة الدالة على لزوم
الحكومة وكونها من برامج الإسلام ووجوب إقامتها والاهتمام بها ينبغي أن نقوم
بسير إجمالى في الروايات والفتاوى المذكور فيها لفظ الامام، أو الوالي، أو السلطان،
أو الحاكم أو بيت المال، أو السجن، أو نحو ذلك في الأبواب المختلفة، من أول الفقه
إلى آخره، وتفتيش إجمالى عن قوانين الاسلام ومقرراته.
فهذه النظرة الإجمالية، مضافا إلى أنها تعرفنا طبيعة فقه الاسلام وماهيته، فهي
تدلنا أيضا على كون قوانين الاسلام ومقرراته مبنية على أساس الولاية والحكومة
الإسلامية أو واقعة في طريقها. وبتعبير آخر تدلنا على كون الدولة داخلة في نسج
الاسلام ونظامه، وتعرفنا أيضا على واجبات الدولة وصلاحياتها.
وسير الروايات والفتاوى وإن أوجب التطويل، بل الملال لبعض القراء الكرام،
ولكنه يشتمل على فوائد كثيرة أيضا. وليس الغرض الاستقصاء، بل ذكر نماذج من
الأبواب المختلفة.
تصور الاسلام على نحوين:
واعلم أن تصور الإسلام والنظرة اليه على نحوين:
90

الأول: أن يتصور أن الإسلام يستهدف تأمين الآخرة للمسلمين فقط، ولم يكلفهم
الا أمورا عبادية وآدابا شخصية يقوم بها كل فرد في بيته ومعبده، ولا مساس له
بالسياسة والمسائل الاقتصادية والاجتماعية إلا تبعا، وأن الورود في تلك المسائل و
الالتفات إليها يوجب سقوط مكانة الانسان المتدين، لأن لها أهلا ورجالا غير رجال الدين،
فالدين منفك عن السياسة بالكلية.
فهذا نحو تصور وفهم للاسلام، ابتلى به أكثر المسلمين في أعصارنا، كما ابتلى رجال
الكنيسة أيضا.
وقد أبرزت هذا التصور وروجته الدعايات المشؤومة من قبل الأجانب وعمالهم وألقته
في أذهان عامة المسلمين غير الواعين، بل وفى أذهان كثير من علماء الدين أيضا.
الثاني: أن دين الإسلام قد التفت إلى جميع حاجات الانسان في حياته ومماته،
من حين انعقاد نطفته إلى وضعه في اللحد، وما بعد ذلك من نشآته، وبين له ما يوجب
سعادته في جميع مراحله مما ينبغي رعايته من قبل الوالدين قبل انعقاد نطفته وحينه
وحين الحمل والرضاع والطفولة، ثم ما يلزمه من تحصيل المعارف الحقة والأخلاق
الفاضلة، وواجباته في قبال خالقه وعائلته وبيئته، وعلاقاته الاجتماعية و
الاقتصادية والسياسية، وروابط الحاكم والرعية والحقوق المدنية والجزائية، و
علاقته مع سائر الامم ونحو ذلك. فالاسلام دين واسع قد شرعت مقرراته على
أساس الدولة والحكومة الحقة. فهو دين ودولة، وعقيدة ونظام، وعبادة وأخلاق و
تشريع، واقتصاد وسياسة وحكم، والواجب على المسلمين الالتفات إلى جميع هذه
المراحل والاهتمام بها.
وهذا هو الفهم الصحيح للإسلام، فلنشر إلى أبواب الفقه بالإجمال، فإنها خير
شاهد يدلك على هذا. ونذكر ذلك في فصول:
91

الفصل الأول
في الصلاة
فالصلاة التي هي عمود الدين وقربان كل تقى، وتشريعها لارتباط المخلوق
بخالقه قد نرى مع ذلك تأكيد الإسلام فيها على الجماعة، حتى ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في
أول تشريعها أقامها جماعة مع أمير المؤمنين (عليه السلام) وخديجة المكرمة، كما نقله أرباب
السير.
وقد أكد فيها على الجماعة حتى في صف القتال وفى الظروف الاضطرارية:
1 - قال الله - تعالى - في سورة النساء: " وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم
طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم، فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى
لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم. ود الذين كفروا لو تغفلون عن
أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة. ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو
كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم ان الله أعد للكافرين عذابا مهينا. " (1)
فانظر إلى اهتمام الإسلام بالجماعة التي يتعقبها قهرا التفاهم والتعاون والتشكل،
وشاهد كيف امتزجت العبادة بالسياسة!
2 - وعن نفلية الشهيد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا صلاة لمن لم يصل في المسجد مع
المسلمين الا من علة. " (2)

1 - سورة النساء (4)، الآية 102.
2 - مستدرك الوسائل 1 / 489، الباب 2 من أبواب صلاة الجماعة.
92

3 - وعنه أيضا: " الصلاة جماعة ولو على رأس زج. " (1)
أقول: الزج بالضم: الحديدة التي في أسفل الرمح، وقد يطلق على الرمح كله.
4 - وعن الصادق (عليه السلام) قال: " هم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بإحراق قوم في منازلهم كانوا يصلون
في منازلهم ولا يصلون الجماعة. " (2)
5 - وفى رواية العلل عن الفضل بن شاذان، عن الرضا (عليه السلام): " انما جعلت الجماعة
لئلا يكون الإخلاص والتوحيد والإسلام والعبادة لله إلا ظاهرا مكشوفا مشهودا، لأن في
إظهاره حجة على أهل الشرق والغرب لله وحده، وليكون المنافق والمستخف مؤديا لما أقر
به يظهر الإسلام والمراقبة، وليكون شهادات الناس بالإسلام بعضهم لبعض جائزة ممكنة،
مع ما فيه من المساعدة على البر والتقوى والزجر عن كثير من معاصي الله - عز وجل. " (3)
فالمصالح الاجتماعية ملحوظة في الصلاة بطبعها الغالب وليست الصلاة عبادة
محض شخصية، بل كأن الأصل الأولى فيها هي الجماعة، والفرادى إنما هي في
صورة الاضطرار.
وأما صلاة الجمعة فقبل الهجرة لم يتيسر لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إقامتها بنفسه، ولكن
بعدما آمن به جمع كثير من أهل المدينة أقاموا بأمره صلاة الجمعة بإمامة مصعب بن
عمير أو أسعد بن زرارة أو بهما على التناوب. وهى الحجر الأساس الأول للتجمع و
تشكيل دولة اسلامية في المدينة. وقد أقامها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بنفسه في أول جمعة
أدركها في المدينة في محلة بنى سالم بمأة من المسلمين. وأقامها بعده من تصدى
لزعامة الأمة وتنظيم أمورهم. فكان الخلفاء والأمراء يقيمونها، وكان على الناس
حضورها إلا ذووا الأعذار.

1 - مستدرك الوسائل 1 / 488، الباب 1 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 13.
2 - الوسائل 5 / 377، الباب 2 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 9.
3 - الوسائل 5 / 372، الباب 1 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 9.
93

وقد شرع فيها خطبتان يلقيهما الأمير بنفسه ويذكر فيهما، مضافا إلى الحمد و
الصلاة والارشاد والوعظ، المسائل الاجتماعية والسياسية.
6 - ففي خبر الفضل بن شاذان، عن الرضا (عليه السلام): " فإن قيل: فلم جعلت الخطبة؟ قيل: لأن
الجمعة مشهد عام، فأراد أن يكون للأمير سبب إلى موعظتهم وترغيبهم في الطاعة و
ترهيبهم من المعصية، وتوقيفهم على ما أراد من مصلحة دينهم ودنياهم، ويخبرهم بما ورد
عليهم من الآفاق (الآفات - العلل والعيون) من الأهوال التي لهم فيها المضرة و
المنفعة. " (1)
فالمتصدي لإقامتها هو أمير القوم. ولم يجب حضورها على النساء والشيوخ و
الزمنى ونحوهم، بل يجب على الشبان من الرجال المتمكنين. فكأن الغرض كان تهيؤ
المسلمين وانتقالهم من صف الجمعة إلى صف القتال أو إلى صفوف المرابطين
الحافظين للثغور.
وبالجملة، فان إقامة الجمعة من شؤون الحكومة، وهى الحجر الأساس لتأسيسها
والحفاظ عليها. وقد غلب فيها الجهات الاجتماعية والسياسية، بل العسكرية.
7 - وفى رواية عبد الرحمان بن سيابة، عن أبى عبد الله (عليه السلام) قال: " ان على الإمام أن
يخرج المحبسين في الدين يوم الجمعة إلى الجمعة، ويوم العيد إلى العيد، ويرسل معهم.
فإذا قضوا الصلاة والعيد ردهم إلى السجن. " (2)
فيظهر من الحديث أن صلاة الجمعة مما يغلب عليها الوجهة السياسية، حتى انه
يجب ان يحضرها المسجونون والضباط، بل لعلها بنفسها من شؤون من بيده اختيار
السجون والمسجونين، فهي من شؤون الحكومة المسلمة.
8 - وفى خبر محمد بن مسلم عن أبى جعفر (عليه السلام) قال: " تجب الجمعة على سبعة نفر من
المسلمين ولا تجب على أقل منهم: الإمام وقاضية والمدعى حقا والمدعى عليه و
الشاهدان والذي

1 - الوسائل 5 / 39، الباب 25 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 6.
2 - الوسائل 5 / 36، الباب 21 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 1.
94

يضرب الحدود بين يدي الامام. " (1)
وظهوره في كون إقامتها من شؤون الحكومة وإمام المسلمين واضح.
9 - وكذلك صلاة العيدين. ففي موثقة سماعة، عن أبى عبد الله (عليه السلام) قال: " لا صلاة في
العيدين الا مع الامام. " ونحوها أخبار أخر (2) اللهم الا أن يحمل الإمام فيها على إمام
الجماعة.

1 - الوسائل 5 / 9، الباب 2 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 9.
2 - الوسائل 5 / 96، الباب 2 من أبواب صلاة العيد، الحديث 5 ونحوه غيره في هذا الباب.
95

الفصل الثاني
في الصوم والاعتكاف
1 - ففي صحيحة محمد بن قيس، عن أبى جعفر (عليه السلام): " إذا شهد عند الإمام شاهدان
أنهما رأيا الهلال منذ ثلاثين أمر الإمام بالإفطار. الحديث. " (1)
2 - وفى خبر عيسى بن أبى منصور انه قال: " كنت عند أبى عبد الله (عليه السلام) في اليوم
الذي يشك فيه، فقال: " يا غلام إذهب فانظر أصام السلطان أم لا فذهب ثم عاد فقال: لا،
فدعا بالغداء فتغدينا معه. " (2)
3 - وعن الصادق (عليه السلام): قال: " دخلت على أبى العباس بالحيرة فقال: يا أبا عبد الله،
ما تقول في الصيام اليوم؟ فقال: ذاك إلى الإمام: إن صمت صمنا، وإن أفطرت أفطرنا.
الحديث. " (3) ونحو ذلك من الأخبار.
4 - وفى صحيحة بريد العجلي، قال: " سئل أبو جعفر (عليه السلام) عن رجل شهد عليه شهود أنه
أفطر من شهر رمضان ثلاثة أيام. قال: يسأل هل عليك في إفطارك إثم فان قال: لا، فان على
الإمام ان يقتله، وان قال: نعم، فان على الإمام أن ينهكه ضربا. " (4)
5 - وفى صحيحة عمر بن يزيد، قال: " قلت لأبى عبد الله (عليه السلام): ما تقول في

1 - الوسائل 5 / 104، الباب 9 من أبواب صلاة العيد، الحديث 1.
2 - الوسائل 7 / 94، الباب 57 من أبواب ما يمسك عنه الصائم، الحديث 1.
3 - الوسائل 7 / 95، الباب 57 من أبواب ما يمسك عنه الصائم، الحديث 5.
4 - الوسائل 7 / 178، الباب 2 من أبواب أحكام شهر رمضان، الحديث 1.
96

الاعتكاف ببغداد في بعض مساجدها؟ فقال: لاعتكاف إلا في مسجد جماعة قد
صلى فيه إمام عدل صلاة جماعة. الحديث. " (1)
قال في الوسائل:
" هذا أيضا شامل للمسجد الجامع، لان الإمام العدل أعم من المعصوم، كالشاهد
العدل. " (2)

1 - الوسائل 7 / 401، الباب 3 من كتاب الاعتكاف، الحديث 8.
2 - الوسائل 7 / 402، ذيل الحديث 9 من الباب 3 من كتاب الاعتكاف.
97

الفصل الثالث
في الزكاة
وأما الزكاة فيستفاد من الكتاب العزيز ومن أخبار كثيرة أنها من ضرائب
الحكومة الاسلامية، وأن المتصدي لأخذها وضبطها وتقسيمها هو الحاكم بعماله.
1 - قال الله - تعالى -: " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها، وصل عليهم ان
صلاتك سكن لهم. " (1)
ونفس جعل السهم للعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم دليل على كونها في تصرف
الحكومة. ولو كانت بحسب التشريع الأولى بتصرف المالك لم نحتج إلى عامل
يجمعها ويوصلها إلى من يقسمها. والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يرسل العمال والمصدقين
لجمعها، وكذلك الخلفاء بعده، وهكذا كانت سيرة على (عليه السلام).
2 - وفى صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم انهما قالا لأبى عبد الله (عليه السلام): " أرأيت قول
الله - تبارك وتعالى -: " إنما الصدقات للفقراء والمساكين. " الآية (2)، أكل هؤلاء
يعطى وإن كان لا يعرف؟ فقال: ان الإمام يعطى هؤلاء جميعا، لأنهم يقرون له بالطاعة. قال
زرارة: قلت: فان كانوا لا يعرفون؟ فقال: يا زرارة، لو كان يعطى من يعرف دون من
لا يعرف لم يوجد لها موضع، وانما يعطى من لا يعرف ليرغب في الدين فيثبت عليه. فإما
اليوم فلا تعطها أنت وأصحابك إلا من يعرف. الحديث. " (3)

1 - سورة التوبة (9)، الآية 103.
2 - سورة التوبة (9)، الآية 60.
3 - الوسائل 6 / 143، الباب 1 من أبواب المستحقين للزكاة، الحديث 1.
98

فيعلم من هذه الصحيحة ان الزكاة بحسب التشريع الأولى تكون في تصرف
الإمام، وهو يسد بها خلات من يكون تحت لوائه وحكومته، عارفا كان أو غير
عارف. ولكن لما تصدى للحكومة غير أهلها وكانت الزكوات تصرف في غير
مصارفها ويبقى الشيعة محرومين أمر الإمام بإعطاء الشيعة زكواتهم إلى العارفين
بحقهم. فهذا حكم موقت على خلاف طبع الجعل الأولى.
3 - وفى صحيحة الحلبي، عن أبى عبد الله (عليه السلام) قال: " قلت له: ما يعطى المصدق؟
قال: ما يرى الإمام ولا يقدر له شئ. " (1)
4 - وفى خبر على بن إبراهيم المروى عن تفسيره عن العالم (عليه السلام): " والغارمين قوم قد
وقعت عليهم ديون أنفقوها في طاعة الله من غير إسراف، فيجب على الإمام أن يقضى عنهم
ويفكهم من مال الصدقات. وفى سبيل الله قوم يخرجون في الجهاد وليس عندهم ما
يتقوون به، أو قوم من المؤمنين ليس عندهم ما يحجون به، أو في جميع سبل الخير. فعلى
الإمام أن يعطيهم من مال الصدقات حتى يقووا على الحج والجهاد. وابن السبيل أبناء
الطريق الذين يكونون في الأسفار في طاعة الله فيقطع عليهم ويذهب مالهم. فعلى الإمام أن
يردهم إلى أوطانهم من مال الصدقات. " (2)
وبالجملة يعرف مما ذكر وأمثاله أن الزكاة شرعت على أساس الحكومة
الإسلامية، وأنها إحدى ضرائبها وتكون الحكومة هي المتصدية لأخذها وضبطها و
وضعها في مواضعها. كل ذلك بواسطة العاملين المنصوبين من قبلها.
5 - وفى خبر موسى بن بكر قال: " قال لي أبو الحسن (عليه السلام): من طلب هذا الرزق من
حله ليعود به على نفسه وعياله كان كالمجاهد في سبيل الله. فان غلب عليه فليستدن على
الله وعلى رسوله ما يقوت به عياله. فان مات ولم يقضه كان على الإمام قضاؤه. فان لم
يقضه كان عليه وزره. ان الله - عز وجل - يقول: " إنما الصدقات للفقراء والمساكين
والعاملين عليها " إلى قوله:

1 - الوسائل 6 / 144، الباب 1 من أبواب المستحقين للزكاة، الحديث 4.
2 - الوسائل 6 / 145، الباب 1 من أبواب المستحقين للزكاة، الحديث 7.
99

" والغارمين. " فهو فقير مسكين مغرم. " (1)
6 - وفى خبر مرسل: " سأل الرضا (عليه السلام) رجل وأنا اسمع، فقال: جعلت فداك ان الله
- عز وجل - يقول: " وان كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة. " (2) أخبرني عن هذه النظرة
التي ذكر الله - عز وجل - في كتابه لها حد يعرف؟... قال: نعم، ينتظر بقدر ما ينتهي خبره
إلى الإمام فيقضى عنه ما عليه من الدين من سهم الغارمين إذا كان أنفقه في طاعة الله، فان
كان أنفقه في معصية الله فلا شيء له على الإمام. " (3)
7 - وفى خبر مرسل عن أبى عبد الله (عليه السلام) قال: " الإمام يقضى عن المؤمنين الديون
ما خلا مهور النساء. " (4)
8 - وفى خبر صباح بن سيابة، عن أبى عبد الله (عليه السلام) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أيما
مؤمن أو مسلم مات وترك دينا لم يكن في فساد ولا إسراف فعلى الإمام ان يقضيه، فان لم
يقضه فعليه إثم ذلك. ان الله - تبارك وتعالى - يقول: " انما الصدقات للفقراء والمساكين "
الآية. فهو من الغارمين وله سهم عند الامام. فإن حبسه فإثمه عليه. " (5)
9 - وفى خبر عن على بن موسى الرضا: " المغرم إذا تدين أو استدان في حق أجل سنة،
فان اتسع وإلا قضى عنه الإمام من بيت المال. " (6)
10 - وفى خبر على بن أبى حمزة، عن أبى الحسن موسى (عليه السلام) قال: " قلت له:
جعلت فداك، رجل قتل رجلا متعمدا أو خطأ وعليه دين وليس له مال وأراد
أولياؤه أن يهبوا دمه للقاتل؟ قال: إن وهبوا دمه ضمنوا ديته. فقلت إن هم أرادوا

1 - الوسائل 13 / 91، الباب 9 من أبواب الدين، الحديث 2.
2 - سورة البقرة (2)، الآية 280.
3 - الوسائل 13 / 91، الباب 9 من أبواب الدين، الحديث 3.
4 - الوسائل 13 / 92، الباب 9 من أبواب الدين، الحديث 4.
5 - الكافي 1 / 407، كتاب الحجة، باب ما يجب من حق الإمام على الرعية...، الحديث 7.
6 - الكافي 1 / 407، كتاب الحجة، باب ما يجب من حق الإمام على الرعية...، الحديث 9.
100

قتله؟ قال: إن قتل عمدا قتل قاتله وأدى عنه الإمام الدين من سهم الغارمين.
الحديث. " (1)
11 - وفى رواية أبى على بن راشد، قال: " سألته عن الفطرة لمن هي؟ قال: للإمام.
قال: قلت له: فأخبر أصحابي؟ قال: نعم، من أردت أن تطهره منهم. " (2)
يظهر من هذه الأخبار المستفيضة أن الزكاة شرعت في الإسلام لسد خلات
المسلمين بأجمعها، وأن أمرها يكون بيد الإمام فهو الذي يصرفها في مصارفها. و
حينئذ فهل يمكن القول بأن المراد بالإمام فيها خصوص الإمام المعصوم، فيكون
الحكم مقصورا على عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وخلافة أمير المؤمنين وعصر ظهور المهدى (عليه السلام)
ثم تصير معطلة في سائر الأعصار؟!

1 - الوسائل 19 / 92، الباب 59 من أبواب القصاص، الحديث 2.
2 - الوسائل 6 / 240، الباب 9 من أبواب زكاة الفطرة، الحديث 2.
101

الفصل الرابع
في الخمس والأنفال
وأما الخمس والأنفال فكونهما للإمام بما أنه إمام مما لا إشكال فيه. وقد حققنا
في كتاب الخمس أن حيثية الإمامة فيهما حيثية تقييدية لا تعليلية، بمعنى أن الحيثية
بنفسها هي الموضوع للملك، لا أنها علة وواسطة في الثبوت لملكية الإمام الصادق (عليه السلام)
مثلا، وإلا لانتقل إلى ورثته، لا إلى الإمام بعده.
1 - وفى خبر أبى على بن راشد، عن أبى الحسن الثالث (عليه السلام): " ما كان لأبى بسبب الإمامة
فهو لي، وما كان غير ذلك فهو ميراث. " (1)
2 - وعبر في خبر المحكم والمتشابه عن على (عليه السلام) عن الخمس بأجمعه بوجه
الإمارة، فقال: " فأما وجه الإمارة فقوله: واعلموا أنما غنمتم. الآية. " (2)
ويظهر من الأخبار كون الخمس بأجمعه حقا وحدانيا للإمام - عليه السلام - غاية
الأمر أنه يتكفل فقراء بنى هاشم ولذا لم يدخل لام الملك على الأصناف الثلاثة في
الآية الشريفة.
3 - وفى خبر ابن شجاع النيشابوري، عن أبى الحسن الثالث (عليه السلام): " لي منه الخمس
مما يفضل من مؤونته. " (3)

1 - الوسائل 6 / 374، الباب 2 من أبواب الأنفال، الحديث 6.
2 - الوسائل 6 / 341، الباب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 12.
3 - الوسائل 6 / 348، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 2.
102

فنسب جميع الخمس إلى نفسه.
4 - وفى خبر أبى على بن راشد: " قلت له أمرتني بالقيام بأمرك وأخذ حقك
فأعلمت مواليك بذلك، فقال لي بعضهم: وأي شئ حقه فلم أدر ما أجيبه؟ فقال (عليه السلام):
يجب عليهم الخمس. فقلت: ففي أي شئ؟ فقال: في أمتعتهم وصنائعهم. الحديث. " (1)
وليس الخمس لمصارف شخص الإمام فقط، بل لمنصب الإمامة ليصرفه فيما يراه
من مصالح المسلمين، ومن أهمها مصارف شخصه ومصارف السادة.
5 - ففي تفسير القمي في ذيل آية الخمس:
" وإنما صارت للإمام وحده من الخمس ثلاثة أسهم، لأن الله قد ألزمه ما ألزم
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من تربية الأيتام ومؤن المسلمين وقضاء ديونهم، وحملهم في الحج و
الجهاد. وذلك قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما أنزل الله عليه: " النبي أولى بالمؤمنين من
أنفسهم وأزواجه أمهاتهم " وهو أب لهم. فلما جعله الله أبا للمؤمنين لزمه ما يلزم الوالد
للولد، فقال عند ذلك: " من ترك مالا فلورثته ومن ترك دينا أو ضياعا فعلى الوالي. " فلزم
الإمام ما لزم الرسول. فلذلك صار له من الخمس ثلاثة أسهم. " (2)
وبالجملة يستفاد من مجموع الأدلة ان الخمس ضريبة اسلامية مقررة لمنصب
إمامة المسلمين. ونحوه الأنفال، أعنى مجموع الأموال العامة التي ليس لها مالك
شخصي كأرض الموات والجبال والآجام والأودية والبحار والمعادن ونحوها. و
قد صرح بكونها للإمام في أخبار كثيرة، فراجع الباب الأول من أبواب الأنفال من
الوسائل (3).

1 - الوسائل 6 / 348، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 3.
2 - تفسير على بن إبراهيم (القمي) / 254 (= طبعة أخرى 1 / 278).
3 - الوسائل 6 / 364.
103

6 - ومنها خبر المحكم والمتشابه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث قال: " ان للقائم بأمور
المسلمين بعد ذلك الأنفال التي كانت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). الحديث. " (1)
ولا يخفى على من له أدنى التفات إلى مذاق الشرع ان الله - تعالى - لا يجعل جميع
الأموال والعقارات التي خلقها لرفع حاجات البشر وخمس جميع أموال الناس ملكا
طلقا لشخص الرسول أو الإمام. بل المراد من آية الأنفال ومن الروايات الكثيرة
الواردة فيها ان الله - تعالى - جعلها لمنصب الإمامة وفى اختيار الرسول أو الإمام بما
أنه زعيم المسلمين وسائسهم، ليصرفها في مصالحهم ويأذن لهم في الاستفادة منها
على نظام صحيح عادل.
وبعبارة أخرى، الأنفال أموال عامة خلقها الله للأنام، ولكن الإمام ولى أمرها و
بيده زمام اختيارها، ليصرفها ويقسمها على ما يقتضيه مصالح المسلمين.
نعم، من المصالح المهمة أيضا إدارة شؤون شخص الإمام ورفع حاجاته
الشخصية.
وهذا هو المتعارف والمتداول في جميع الأعصار والبلاد من جعل الأموال التي
لا ترتبط بشخص خاص - لعدم كونه منتجا لها أو وارثا إياها ممن أنتجها - في اختيار
الحاكم الممثل للمجتمع المتبلور فيه جميع من يكون تحت لوائه وحكومته. وقد
أوضحنا ذلك كله في كتاب الخمس والأنفال، فراجع.
وأنت ترى ان المحدث الفذ، ثقة الإسلام الكليني لم يعقد في فروع الكافي بابا
للخمس والأنفال، بل تعرض لرواياتهما في مبحث الإمامة من الأصول. فيظهر من
ذلك أنه - قدس سره - كان يراهما من شؤون الإمامة.
والغرض من بيان ذلك كله في المقام هو الإلفات إلى أن تشريع الزكاة والخمس و
الأنفال كان على أساس الحكومة الاسلامية، وأن زمام أمرها بيد الحاكم الصالح
المعبر عنه بالامام.
ومما يدل على هذا الأمر أيضا في هذه الثلاثة مرسلة حماد الطويلة التي يستدل

1 - الوسائل 6 / 370، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 19.
104

بها في أبواب مختلفة:
7 - فروى حماد، عن بعض أصحابنا، عن العبد الصالح (عليه السلام) قال: " الخمس من خمسة
أشياء: من الغنائم والغوص ومن الكنوز ومن المعادن والملاحة. يؤخذ من كل من هذه
الصنوف الخمس فيجعل لمن جعله الله - تعالى -... يقسم بينهم على الكتاب والسنة
ما يستغنون به في سنتهم، فإن فضل عنهم شئ فهو للوالي، وإن عجز أو نقص عن استغنائهم
كان على الوالي أن ينفق من عنده بقدر ما يستغنون به...
وللامام صفو المال، أن يأخذ من هذه الأموال صفوها...
والأرضون التي أخذت عنوة بخيل ورجال فهي موقوفة متروكة في يد من يعمرها و
يحييها، ويقوم عليها على ما يصالحهم الوالي، على قدر طاقتهم من الحق: النصف أو الثلث
أو الثلثين وعلى قدر ما يكون لهم صلاحا ولا يضرهم، فإذا أخرج منها ما أخرج بدأ فأخرج منه
العشر من الجميع مما سقت السماء أو سقي سيحا، ونصف العشر مما سقى بالدوالي و
النواضح، فأخذه الوالي فوجهه في الجهة التي وجهها الله على ثمانية أسهم... فإن فضل من
ذلك شئ رد إلى الوالي، وان نقص من ذلك شئ ولم يكتفوا به كان على الوالي أن يمونهم
من عنده بقدر سعتهم حتى يستغنوا.
ويؤخذ بعد ما بقي من العشر فيقسم بين الوالي وبين شركائه الذين هم عمال الأرض و
أكرتها، فيدفع إليهم أنصباءهم على ما صالحهم عليه، ويؤخذ الباقي فيكون بعد ذلك أرزاق
أعوانه على دين الله وفى مصلحة ما ينوبه من تقوية الإسلام وتقوية الدين في وجوه الجهاد
وغير ذلك مما فيه مصلحة العامة ليس لنفسه من ذلك قليل ولا كثير.
وله بعد الخمس الأنفال. والأنفال كل أرض خربة قد باد أهلها. وكل أرض لم يوجف عليها
بخيل ولا ركاب ولكن صالحوا صلحا وأعطوا بأيديهم على غير قتال. وله رؤوس الجبال و
بطون الأودية والآجام وكل أرض ميتة لا رب لها. وله صوافي الملوك ما كان في أيديهم من
غير وجه الغصب، لأن الغصب كله مردود. وهو وارث من لا وارث له...
وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقسم صدقات البوادي في البوادي وصدقات أهل الحضر في أهل
الحضر. ولا يقسم بينهم بالسوية على ثمانية حتى يعطى أهل كل سهم ثمنا، ولكن يقسمها
على قدر من يحضره من أصناف الثمانية على قدر ما يقيم كل صنف منهم يقدر لسنته. ليس
في ذلك شئ
105

موقوت ولا مسمى ولا مؤلف، انما يصنع ذلك على قدر ما يرى وما يحضره حتى يسد فاقة
كل قوم منهم. وإن فضل من ذلك فضل عرضوا المال جملة إلى غيرهم. والأنفال إلى الوالي
وكل أرض فتحت في أيام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى آخر الأبد...
وليس في مال الخمس زكاة، لأن فقراء الناس جعل أرزاقهم في أموال الناس... ولذلك
لم يكن على مال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والوالي زكاة، لأنه لم يبق فقير محتاج ولكن عليهم أشياء
تنوبهم من وجوه، ولهم من تلك الوجوه كما عليهم. " (1)
والسند صحيح إلى حماد وهو من أصحاب الإجماع. وتعبيره عن المروى عنه
ببعض أصحابنا يوجب نحو اعتماد عليه. مضافا إلى اعتماد الأصحاب على الخبر في
الأبواب المختلفة. هذا.
ودلالة الخبر على كون تشريع الزكاة والخمس والأنفال على أساس الولاية و
الحكومة الإسلامية المبسوطة اليد، وان الحاكم هو المتصدي لأخذها وتقسيمها
واضحة، كدلالته على كونه المتصدي للتصرف في الأراضي المفتوحة عنوة.
وقد بين هذه الأحكام الإمام موسى بن جعفر حينما لم يكن هو مبسوط اليد ولم
يكن له سلطة وولاية فعلية بحيث يباشر الأمور المذكورة. فغرضه (عليه السلام) كان بيان حكم
الزكاة والخمس والأنفال والأراضي بحسب التشريع الأولى في الإسلام. وبالجملة،
فنفس تشريع أحكام الإسلام أدل دليل على كون الحكومة والولاية كالحجر الأساس
لبناء الإسلام.

1 - الكافي 1 / 539، كتاب الحجة، باب الفىء والأنفال وتفسير الخمس...، الحديث 4.
106

الفصل الخامس
في الحج والمزار
وأما الحج فلا شك في أن الجهات الاجتماعية والسياسية بل الاقتصادية منظورة
في تشريعه جدا.
قال الله - تعالى -: " جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس. " (1)
قال الراغب في المفردات: " القيام والقوام اسم لما يقوم به الشئ. " (2)
فمقتضى الآية أن الناس يتقومون في معاشهم ومعادهم بالكعبة، كما انهم يتقومون
في حياتهم بالمال، كما قال الله - تعالى -: " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم
قياما. " (3)
فيعلم من ذلك أن الغرض من تشريع الحج ليس إتيان صورة الأعمال فقط. إذ كيف
يكون مجرد ذلك مما يقوم به الناس؟! بل الغرض اجتماع المتمكنين من المسلمين و
ذوى الطاقات منهم من البلاد والأصقاع المختلفة وتعارفهم وتفاهمهم ليتعاونوا و
يتعاضدوا ويوجدوا بينهم العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها،
فيكون الحج لهم مؤتمرا كبيرا عالميا في مركز الوحي والنبوة، وبمثل ذلك يقوم
الناس والأمم.

1 - سورة المائدة (5)، الآية 97.
2 - المفردات / 432.
3 - سورة النساء (4)، الآية 5.
107

وأما الأخبار
1 - ففي خبر الفضل بن شاذان، عن الرضا (عليه السلام) قال: " إنما أمروا بالحج لعلة الوفادة إلى
الله - عز وجل... مع ما في ذلك لجميع الخلق من المنافع لجميع من في شرق الأرض و
غربها، ومن في البر والبحر، ممن يحج وممن لم يحج من بين تاجر وجالب وبائع ومشتري
وكاسب ومسكين ومكار وفقير، وقضاء حوائج أهل الأطراف في المواضع الممكن لهم
الاجتماع فيه، مع ما فيه من التفقه ونقل أخبار الأئمة (عليهم السلام) إلى كل صقع وناحية. " (1)
2 - وفى خبر هشام بن الحكم، عن أبى عبد الله (عليه السلام): " وأمرهم بما يكون من أمر
الطاعة في الدين ومصلحتهم من أمر دنياهم، فجعل فيه الاجتماع من الشرق والغرب
ليتعارفوا، ولينزع كل قوم من التجارات من بلد إلى بلد، ولينتفع بذلك المكارى والجمال، و
لتعرف آثار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتعرف أخباره ويذكر ولا ينسى. ولو كان كل قوم انما يتكلمون
على بلادهم وما فيها هلكوا وخربت البلاد، وسقطت الجلب والأرباح، وعميت الأخبار ولم
تقفوا على ذلك. فذلك علة الحج. " (2)
فعليك بالدقة في الخبرين ولا سيما قوله: " ممن يحج وممن لم يحج "، وقوله: " وقضاء
حوائج أهل الأطراف في المواضع الممكن لهم الاجتماع فيه "، وقوله: " ليتعارفوا ". فانظر
كيف غفل المسلمون وأغفلوا عن بركات وفوائد هذا الاجتماع المهم في مركز الوحي
الذي سهل الله تحققه لهم في كل سنة. ولو كان لهم وعى سياسي أمكن لهم حل كثير من
المسائل والمشاكل بتبادل الأفكار والتفاهم، ولم يتسلط عليهم الغرب وعميلتهم
إسرائيل مع كثرة عدد المسلمين وقدرتهم المعنوية وطاقاتهم الاقتصادية بحيث
يحتاج إليهم الغرب والشرق. اللهم فأيقظ المسلمين من نومهم وهجعتهم.

1 - الوسائل 8 / 7، الباب 1 من أبواب وجوب الحج، الحديث 15.
2 - الوسائل 8 / 8، الباب 1 من أبواب وجوب الحج، الحديث 18.
108

3 - وفى خبر عبد الله بن سنان، عن أبى عبد الله (عليه السلام) قال: " لو عطل الناس الحج لوجب
على الإمام أن يجبرهم على الحج. " (1)
4 - وفى خبر آخر عنه (عليه السلام): " لو أن الناس تركوا الحج لكان على الوالي أن يجبرهم على
ذلك وعلى المقام عنده. ولو تركوا زيارة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك
وعلى المقام عنده. فان لم يكن لهم أموال أنفق عليهم من بيت مال المسلمين. " (2)
ولا يخفى أن الإجبار لا يتحقق إلا من ناحية الإمام المبسوط اليد الذي له ولاية
فعلية. كما ان بيت مال المسلمين أيضا لا يكون إلا في تصرفه. والإمام الصادق (عليه السلام)
بنفسه لم يكن كذلك وكذلك آباؤه وأبناؤه غير أمير المؤمنين (عليه السلام). فهل هو -
عليه السلام - في هذه الاخبار ونحوها في مقام تعيين الوظيفة للقائم - عليه السلام -
فقط، أو لكل وال مسلم وجد شرائط الولاية وانتخبه المسلمون حاكما عليهم؟
5 - وفى خبر حفص، قال: " حج إسماعيل بن على بالناس سنة أربعين ومأة،
فسقط أبو عبد الله (عليه السلام) عن بغلته، فوقف عليه إسماعيل، فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): " سر، فان
الإمام لا يقف. " (3)
6 - وفى خبر آخر له، قال: " رأيت أبا عبد الله (عليه السلام) وقد حج فوقف الموقف، فلما
دفع الناس منصرفين سقط أبو عبد الله (عليه السلام) عن بغلة كان عليها، فعرفه الوالي الذي وقف
بالناس تلك السنة - وهى سنة أربعين ومأة - فوقف على أبى عبد الله (عليه السلام) فقال له
أبو عبد الله (عليه السلام): لا تقف، فان الإمام إذا دفع بالناس لم يكن له أن يقف. الحديث. " (4)
ولعل غرضه (عليه السلام) أن قائد الجماعة وأميرهم يجب عليه رعاية مصلحة الجماعة،

1 - الوسائل 8 / 15، الباب 5 من أبواب وجوب الحج، الحديث 1.
2 - الوسائل 8 / 16، الباب 5 من أبواب وجوب الحج، الحديث 2.
3 - الوسائل 8 / 290، الباب 26 من أبواب آداب السفر، الحديث 1.
4 - الوسائل 8 / 290، الباب 26 من أبواب آداب السفر، الحديث 3.
109

ولا يفدى مصالح الجماعة لمصلحة شخص وان كان شخصية معروفة.
وقد اطلق لفظ الإمام في الخبرين على أمير الحاج، مع كونه منصوبا من قبل
سلطان وقته.
ويظهر من الخبرين وبعض الأخبار الآتية تعارف تعيين أمير الحاج في تلك
الأعصار وكون أداء الأعمال من الوقوف والإفاضة ونحو هما تحت نظره، ولا محالة
كان الأئمة (عليهم السلام) وأصحابهم أيضا يتابعونه. ولو فرض تخلفهم عنه مرة أو مرات لبان
وظهر وضبطه التاريخ. وبذلك يظهر كفاية الأعمال المأتية بحكم حاكمهم. نعم،
كفايتها في صورة العلم بالخلاف مشكل، ولكن الغالب هو الشك لا العلم بالخلاف.
وكيف كان فإنه يعلم من الأخبار والتواريخ ان إدارة الحج كانت بيد الحكام و
الولاة، وكانوا يباشرونها أو ينصبون لها أميرا يحج بالناس ويراقبهم في جميع مواقف
الحج. وقد ذكر المسعودي في آخر تاريخه: " مروج الذهب " أسامي امراء الحج من
حين فتح مكة، أعنى سنة ثمان من الهجرة إلى سنة خمس وثلاثين وثلاثمأة، فراجع.
والحج وان كان عبادة لله - تعالى - ولكن الفوائد الاجتماعية والسياسية ملحوظة
فيه جدا، كما مر. والتجمع والتشكل مطلوب فيه، والأمير الواحد حافظ للتشكل و
التكتل، فليس لأحد التخلف عن ذلك. والأئمة - عليهم السلام - كانوا يعاملون حكام
الجور معاملة الحاكم الحق، حفظا لمصالح الإسلام والمسلمين. ولذا أنفذوا الخراج و
الزكوات والأخماس المؤداة إليهم وأخذ الجوائز منهم.
ولا ينافي هذا وجوب القيام في قبال سلاطين الجور مع القدرة ووجود العدة و
العدة، لما سيجئ من وجوب إقامة الدولة العادلة مع القدرة ولكن مع عدم القدرة
عليها يجب رعاية النظام ولا يجوز الهرج والمرج. والتفصيل موكول إلى محله.
7 - وفى صحيحة محمد بن مسلم، عن أحدهما (عليه السلام) قال: " لا ينبغي للإمام ان
110

يصلى الظهر يوم التروية إلا بمنى، ويبيت بها إلى طلوع الشمس. " ونحوها أخبار
اخر (1).
8 - وفى صحيحة الحلبي، عن أبى عبد الله (عليه السلام) قال: " يصلى الإمام الظهر يوم النفر
بمكة. " (2)
والمراد بالإمام في الصحيحتين من كان يحج بالناس من الحاكم نفسه أو
أمير الحاج المنصوب من قبله.
9 - وفى أبواب المزار باب استحباب زيارة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) صحيحة
زرارة، عن أبى جعفر (عليه السلام) قال: " إنما أمر الناس ان يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها ثم يأتونا
فيخبرونا بولايتهم ويعرضوا علينا نصرهم. " (3)
10 - وفى خبر جابر، عن أبى جعفر (عليه السلام) قال: " تمام الحج لقاء الإمام. " (4)
ويستفاد من الخبر الأول ان الناس كانوا مكلفين بعرض حمايتهم ونصرهم على
الإمام حتى تستحكم إمامته، ولكن الناس تركوا الأنهار العظيمة ومصوا الثماد، فلم
يقدر الإمام الحق أن يقيم الحكومة الحقة. ولو كان للأئمة (عليهم السلام) قوة لما قعدوا، كما يظهر
من خبر سدير الآتي. (5)

1 - الوسائل 10 / 5، الباب 4 من أبواب إحرام الحج، الحديث 1 ونحوه غيره في هذا الباب.
2 - الوسائل 10 / 227، الباب 12 من أبواب العود إلى منى، الحديث 1.
3 - الوسائل 10 / 252، الباب 2 من أبواب المزار، الحديث 1.
4 - الوسائل 10 / 254، الباب 2 من أبواب المزار، الحديث 8.
5 - الكافي 2 / 242، كتاب الإيمان والكفر، باب في قلة عدد المؤمنين، الحديث 4.
111

الفصل السادس
في الجهاد
ووجوبه اجمالا من ضروريات الإسلام. والآيات الواردة فيه في غاية الكثرة، بل
لعلك لا تجد موضوعا مثله في كثرة الآيات الواردة فيه. والأخبار في وجوبه وفضله
وحدوده وشرائطه وأحكامه مستفيضة، بل متواترة إجمالا من طرق الفريقين:
1 - قال الله - تعالى -: " يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم. " (1)
2 - وقال: " انفروا خفافا وثقالا، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله. ذلكم خير
لكم ان كنتم تعلمون. " (2)
3 - وقال: " يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار، وليجدوا فيكم
غلظة. " (3)
4 - وقال: " يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى
الأرض؟ " (4)
5 - وقال: " يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال. " (5)

1 - سورة التوبة (9)، الآية 73.
2 - سورة التوبة (9)، الآية 41.
3 - سورة التوبة (9)، الآية 123.
4 - سورة التوبة (9)، الآية 38.
5 - سورة الأنفال (8)، الآية 65.
112

6 - وقال: " فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، وخذوهم
واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد. " (1)
7 - وقال: " وان نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر، انهم
لا أيمان لهم لعلهم ينتهون * ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم
بدؤوكم أول مرة؟ " (2)
8 - وقال: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله و
رسوله، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم
صاغرون. " (3)
9 - وقال: " وقاتلوا المشركين كافة، كما يقاتلونكم كافة. واعلموا ان الله مع
المتقين. " (4)
10 - وقال: " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في
سبيل الله فيقتلون ويقتلون. وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن. ومن أوفى بعهده
من الله؟ " (5)
إلى غيرك ذلك من الآيات التي سيأتي بعضها.
11 - وعن الكافي بسنده عن أبى عبد الله (عليه السلام) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " الخير كله
في السيف وتحت ظل السيف. ولا يقيم الناس إلا السيف. والسيوف مقاليد الجنة
والنار. " (6)
12 - وعنه أيضا بسنده عن أبى عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " للجنة باب يقال
له باب المجاهدين، يمضون اليه فإذا هو مفتوح وهم متقلدون بسيوفهم. والجمع في الموقف
والملائكة ترحب بهم. " قال: " فمن ترك الجهاد ألبسه الله ذلا وفقرا في معيشته ومحقا في

1 - سورة التوبة (9)، الآية 5.
2 - سورة التوبة (9)، الآية 12 و 13.
3 - سورة التوبة (9)، الآية 29.
4 - سورة التوبة (9)، الآية 36.
5 - سورة التوبة (9)، الآية 111.
6 - الوسائل 11 / 5، الباب 1 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
113

دينه، ان الله أغنى (أعز) أمتي بسنابك خيلها ومراكز رماحها. " (1)
13 - وعنه أيضا بسنده قال أمير المؤمنين (عليه السلام): " ان الله فرض الجهاد وعظمه وجعله
نصره وناصره. والله ما صلحت دنيا ولا دين إلا به. " (2)
14 - وفى نهج البلاغة: " أما بعد، فان الجهاد باب من أبواب الجنة، فتحه الله لخاصة
أوليائه، وهو لباس التقوى ودرع الله الحصينة وجنته الوثيقة. فمن تركه رغبة عنه ألبسه
الله ثوب الذل وشملة البلاء، وديث بالصغار والقماءة، وضرب على قلبه بالأسداد، وأديل
الحق منه بتضييع الجهاد، وسيم الخسف ومنع النصف.
الا وإني قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلا ونهارا وسرا واعلانا، وقلت لكم اغزوهم
قبل ان يغزوكم، فوالله ما غزى قوم في عقر دارهم إلا ذلوا، فتواكلتم وتخاذلتم حتى شنت
الغارات عليكم وملكت عليكم الأوطان.
وهذا أخو غامد وقد وردت خيله الأنبار، وقد قتل حسان بن حسان البكري وأزال خيلكم
عن مسالحها. ولقد بلغني ان الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة
فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها ورعاثها، ما تمنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام، ثم
انصرفوا وافرين، ما نال رجلا منهم كلم ولا أريق لهم دم. فلو أن امرءا مسلما مات من بعد هذا
أسفا ما كان به ملوما بل كان به عندي جديرا.
فيا عجبا! والله يميت القلب ويجلب الهم اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم وتفرقكم عن
حقكم. فقبحا لكم وترحا حين صرتم غرضا يرمى، يغار عليكم ولا تغيرون، وتغزون ولا تغزون،
ويعصى الله وترضون. الحديث. " (3)
إلى غير ذلك من الأخبار والروايات الواردة في هذا المجال، فراجع مظانها. هذا.

1 - الوسائل 11 / 5، الباب 1 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
2 - الوسائل 11 / 9، الباب 1 من أبواب جهاد العدو، الحديث 15.
3 - نهج البلاغة، فيض / 94; عبده 1 / 63; لح / 69، الخطبة 27.
114

الجهاد على قسمين:
وقسم الفقهاء الجهاد إلى قسمين: الجهاد الابتدائي، والجهاد الدفاعي. وأرادوا من
الأول قتال المشركين والكفار لدعائهم إلى الاسلام والتوحيد والعدالة. ومن الثاني
قتال من دهم المسلمين منهم للدفاع عن حوزة الاسلام وأراضي المسلمين ونفوسهم
وأعراضهم وأموالهم وثقافتهم.
أقول: ويمكن بوجه من العناية ادراج الابتدائي أيضا في الدفاعي، فإنه في الحقيقة
دفاع عن حقوق الله وحقوق الإنسان، فإن الله - تعالى - ما خلق الجن والإنس الا
ليعبدون فيرتقوا بذلك ارتقاء روحيا ويحصل بذلك الغرض من الخلقة، وأرسل
رسوله رحمة للعالمين وأرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره
المشركون، والدين وإن كان أمرا قلبيا لا يقبل الإكراه، ولكن عامة الناس بفطرتهم
التي فطر الله الناس عليها متمايلون إلى الحق والقسط، فإذا وقفت سلطات كافرة أو
ظالمة في البلاد أمام بسط التوحيد والقسط وتسلطوا على المجتمع وجعلوا مال الله
دولا وعباده خولا وأفسدوا في الأرض وجب بحكم العقل من باب اللطف رفع
شرهم حتى يعرض الحق ويظهر وينتشر الدين بطبعه.
فالجهاد الابتدائي في الحقيقة دفاع عن التوحيد وعن القسط والعدالة، وإن شئت
قلت: دفاع عن الانسانية.
وبالجملة غرض الاسلام من تشريع الجهاد هو الدفاع عن العدالة والتوحيد،
لا التسلط على البلاد واستثمار العباد على ما هو دأب المستعمرين في أعصارنا.
ففي خبر الحسن بن محبوب، عن بعض أصحابه، عن أبى جعفر (عليه السلام) في بيان
115

حدود الجهاد قال: " وأول ذلك الدعاء إلى طاعة الله من طاعة العباد، والى عبادة الله من
عبادة العباد، والى ولاية الله من ولاية العباد... وليس الدعاء من طاعة عبد إلى طاعة عبد
مثله. " (1) هذا.
وقد قال الله - تعالى -: " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله، فان انتهوا
فلا عدوان إلا على الظالمين. " (2)
يعنى ان الغرض من القتال هو رفع الفتنة وبسط التوحيد. ولعل الأول هو الدفاعي
المصطلح، والثاني هو الابتدائي، وإذا تحقق الغرض فلا عدوان بالاستعباد و
الاستثمار، إلا ان يكون القوم ظالمين فيراد رفع ظلمهم وشرهم، ورفع لظلم أيضا
دفاع لا محالة.
وقال أيضا في سورة الأنفال: " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله
لله. " (3)
وقال في سورة النساء: " وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال و
النساء والوالدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها. " (4)
وظاهر الآية التوبيخ على ترك القتال والإشعار بان لزومه مرتكز في عقولهم و
فطرهم. ولعل قوله: " في سبيل الله " يراد به بسط التوحيد وإعلاء كلمة الإسلام وقوله:
" والمستضعفين " يراد به الدفاع عن القسط والعدالة عند الهجوم، فاشتملت الآية أيضا
على الجهاد الابتدائي والدفاعي معا، فتدبر.

1 - الوسائل 11 / 7، الباب 1 من أبواب جهاد العدو، الحديث 8.
2 - سورة البقرة (2)، الآية 193.
3 - سورة الأنفال (8)، الآية 39.
4 - سورة النساء (4)، الآية 75.
116

هل يعتبر في الجهاد الابتدائي إذن الإمام؟
وقد دلت الأخبار وفتاوى أصحابنا على اشتراط الجهاد الابتدائي بوجود الإمام
العادل أو من نصبه لذلك:
1 - فعن الرضا (عليه السلام) في كتابه إلى المأمون: " والجهاد واجب مع الإمام العادل (العدل
خ. ل). " (1)
2 - وفى خبر بشير عن أبى عبد الله (عليه السلام) قال: " قلت له: إني رأيت في المنام أنى قلت
لك: ان القتال مع غير الإمام المفترض طاعته حرام مثل الميتة والدم ولحم الخنزير،
فقلت لي: نعم، هو كذلك؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): هو كذلك، هو كذلك. " (2)
3 - وفى خبر أبى بصير عن أبى عبد الله (عليه السلام) عن آبائه، قال: " قال أمير المؤمنين (عليه السلام):
لا يخرج المسلم في الجهاد مع من لا يؤمن على الحكم ولا ينفذ في الفىء أمر الله - عز وجل
-، فإنه إن مات في ذلك المكان كان معينا لعدونا في حبس حقنا والإشاطة بدمائنا وميتته
ميتة جاهلية. " (3)
4 - وفى خبر سماعة عن أبى عبد الله (عليه السلام) قال: " لقى عباد البصري على بن
الحسين (عليه السلام) في طريق مكة فقال له: يا على بن الحسين، تركت الجهاد وصعوبته، و
أقبلت على الحج ولينه، ان الله - عز وجل - يقول: " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم
وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله. " الآية. فقال على بن الحسين (عليه السلام): أتم
الآية، فقال: " التائبون العابدون " الآية. فقال على بن الحسين (عليه السلام): إذا رأينا هؤلاء الذين
هذه

1 - الوسائل 11 / 11، الباب 1 من أبواب جهاد العدو، الحديث 24.
2 - الوسائل 11 / 32، الباب 12 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
3 - الوسائل 11 / 34، الباب 12 من أبواب جهاد العدو، الحديث 8.
117

صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحج. " (1)
إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي مقتضاها - كصريح الفتاوى - عدم مشروعية
الجهاد مع الجائر.
قال في الجواهر:
" بل في المسالك وغيرها عدم الاكتفاء بنائب الغيبة، فلا يجوز له توليه بل في
الرياض نفى علم الخلاف فيه حاكيا له عن ظاهر المنتهى وصريح الغنية إلا من أحمد
في الأول. قال: وظاهرهما الإجماع، مضافا إلى ما سمعته من النصوص المعتبرة
وجود الإمام. لكن إن تم الإجماع المزبور فذاك، وإلا أمكن المناقشة فيه بعموم ولاية الفقيه في زمن الغيبة الشاملة لذلك المعتضدة بعموم أدلة الجهاد. " (2)
أقول: ليس في الأخبار ولا في كلمات الأصحاب لفظ الإمام المعصوم، بل الإمام
العادل في مقابل الإمام الجائر. ولفظ الإمام في اللغة وكلمات الأئمة (عليهم السلام) لم ينحصر
إطلاقه على الأئمة الاثني عشر، بل هو موضوع للقائد الذي يؤتم به في الجماعة أو
الجمعة أو الحج أو سياسة البلاد، كما مر في التنبيه الخامس من الباب الثاني. والعدالة
أعم من العصمة، ومصداق قوله - تعالى -: " التائبون العابدون " إلى قوله: " الحافظون
لحدود الله " أيضا أعم من الإمام المعصوم. وكذا الإمام المفترض طاعته، ومن يؤمن
على الحكم وينفذ في الفىء أمر الله، لصدق ذلك كله على المنصوبين من قبل
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) أمثال مالك الأشتر ونحوه أيضا.
نعم، كان مصداق الإمام العادل في عصر ظهور الأئمة - عليهم السلام - عندنا هو
الإمام المعصوم أو المنصوب من قبله. ولكن الشرط في الجهاد الابتدائي على ما في
الأخبار والكلمات هو عنوان الإمام العادل في قبال الإمام الجائر، لا الإمام المعصوم
في قبال غير المعصوم.

1 - الوسائل 11 / 32، الباب 12 من أبواب جهاد العدو، الحديث 3.
2 - الجواهر 21 / 13.
118

وفى الغنية أيضا لم يذكر إلا الإمام العادل (1).
وفى المنتهى:
" الجهاد قد يكون للدعاء إلى الإسلام، وقد يكون للدفع بأن يدهم المسلمين
عدو. فالأول لا يجوز إلا بإذن الإمام العادل ومن يأمره الإمام، والثاني يجب مطلقا.
وقال أحمد: يجب الأول مع كل إمام بر أو فاجر. " (2)
وفى التذكرة:
" لا يجوز إلا بإذن الإمام العادل أو من نصبه لذلك عند علمائنا أجمع... وقال
أحمد: يجب مع كل إمام: بر وفاجر. " (3) هذا.
وفى سنن أبى داود عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " الجهاد واجب عليكم
مع كل أمير، برا كان أو فاجرا. والصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم، برا كان أو فاجرا وإن
عمل الكبائر. " (4)
ولا يخفى أنه كان في أعصار الأئمة (عليهم السلام) يتصدى للجهاد أئمة الجور من الأموية و
العباسية، ففي قبال هذا العمل الرائج وهذه الرواية المفتى بها عندهم أراد أئمتنا (عليهم السلام)
بيان أن أمر الجهاد عظيم، لكونه للدعاء إلى الإسلام ولارتباطه بنفوس الناس و
أعراضهم وأموالهم، فلا يفوض إلى الجاهلين بموازين الإسلام أو إلى الجائرين. و
قد مر في خبر أبى بصير: " لا يخرج المسلم في الجهاد مع من لا يؤمن على الحكم ولا ينفذ
في الفىء أمر الله. " (5) والعقل السليم أيضا يقضى بعدم جواز تسليط الجائرين على
نفوس الناس وأموالهم.
وأما العصمة فلا تشترط قطعا وإلا لم يكن للمنصوبين من قبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)

1 - الجوامع الفقهية / 521.
2 - المنتهى 2 / 899.
3 - التذكرة 1 / 406.
4 - سنن أبى داود 2 / 17 كتاب الجهاد، باب في الغزو مع أئمة الجور.
5 - الوسائل 11 / 34، الباب 12 من أبواب جهاد العدو، الحديث 8.
119

وأمير المؤمنين (عليه السلام) كمالك الأشتر وغيره أيضا الجهاد. ومثل الفقيه العادل العالم
بالحوادث والمشاكل في عصر الغيبة كمثل أمراء الجيوش والعمال المنصوبين من
قبلهما (عليهم السلام) في عدم وجود العصمة لهم ومع ذلك يفترض طاعتهم لولايتهم، كما سيأتي
بيانه.
فلا ينحصر الإمام المفترض طاعته في الإمام المعصوم. وإجماع الغنية والتذكرة
أيضا على عنوان الإمام العادل في قبال الإمام الجائر الذي أجازه أحمد تبعا لرواية
أبي هريرة.
نعم، في الرياض هنا أضاف لفظ المعصوم، كما لعله كان هو المتبادر في أذهان
غيره أيضا وربما صرحوا به أيضا. ولكن فهمهم وأنس ذهنهم ليس من الحجج
الشرعية.
ولو قيل في وجهه أن الإمام المعصوم يجبر اشتباه عما له وتخلفاتهم، قلنا إن الفقيه
العادل أيضا بمقتضى عدالته يجبر التخلفات والاشتباهات بعد انكشافها.
والجهاد قد شرع لرفع الفتنة وكون الدين كله لله، كما في الآية، وحينئذ فهل يمكن
الالتزام بأن الله - تعالى - لا يريد رفع الفتنة وان يكون الدين لله في عصر غيبة الإمام
المعصوم وان طالت آلاف سنة؟! وقد مر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن " الخير كله في السيف و
تحت ظل السيف. ولا يقيم الناس إلا السيف. " (1) وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه " ما صلحت
دنيا ولا دين إلا به " (2) أي بالجهاد.
فهل يمكن الالتزام بأن الله لا يريد الخير وصلاح الدنيا والدين للبشر وللمسلمين
في عصر غيبة الإمام الثاني عشر؟! وهل يجوز العقل أن يترك الناس في عصر الغيبة
بلا تكليف في قبال الجنايات والفساد والكفر والإلحاد إلى أن يظهر صاحب الأمر؟!
نعم، كون الأمر مهما مرتبطا بالدماء والأعراض والأموال يقتضي أن يكون

1 - الوسائل 11 / 5، الباب 1 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
2 - الوسائل 11 / 9، الباب 1 من أبواب جهاد العدو، الحديث 15.
120

مقيدا بملاك وضابطة، وأن لا يتصدى له الجاهل بالموازين الشرعية أو الجائر
الذي لا التزام له. وهذا ما يقال من كون الوجوب في الجهاد الابتدائي مشروطا بإذن
الإمام العادل وتفصيل المسألة موكول إلى محله. هذا.
لا يعتبر في الجهاد الدفاعي إذن الإمام، بل يجب مطلقا
وأما الجهاد الدفاعي بأنواعه التي أشرنا إليها فلا يشترط وجوبه بوجود الإمام
قطعا.
والعجب من غفلة بعض المسلمين، حتى بعض علماء الدين، حيث توهموا عدم
التكليف لنا حتى في قبال هجوم الكفار والصهاينة على بلاد المسلمين، وقتلهم
للشيوخ والشبان والأطفال والنسوان، والاستيلاء على أموالهم والهتك لنواميسهم و
معابدهم مع أن الجهاد الدفاعي لا يشترط في وجوبه إذن الإمام قطعا، والدفاع
واجب بضرورة من العقل والشرع.
1 - وقد قال الله - تعالى - في سورة البقرة في قصة طالوت وقتل داود لجالوت:
" ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض، ولكن الله ذو فضل على
العالمين. " (1)
ودفعه الفساد عنهم ليس إلا بقيام أهل الحق ودفاعهم.
2 - وفى سورة الحج: " أذن للذين يقاتلون، بأنهم ظلموا وان الله على نصرهم لقدير *
الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله. ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض
لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا، ولينصرن الله من
ينصره، ان الله لقوى عزيز * الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة
وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر،

1 - سورة البقرة (2)، الآية 251.
121

ولله عاقبة الأمور. " (1)
فما أدري، ألا يقرء المسلمون هذه الآيات الكريمة من القرآن، أو يقرؤونها ولكن
لا يتدبرونها؟!
وهل يمكن الالتزام بأن الله - تعالى - في عصر غيبة الإمام الثاني عشر لا يبغض
الفساد في الأرض ولا هدم المساجد والمعابد، ولا يحب إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة و
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! لا والله، بل يجب على المسلمين الدفاع عن
مراكز التوحيد، ودفع الفساد والمفسدين، وإقامة دعائم الإسلام، والله ينصر من
نصره.
نعم، النصر غير الظفر المحتوم على العدو، فالله - تعالى - ينصر أولياءه بإيمانهم و
الربط على قلوبهم والقاء الرعب في قلوب أعدائهم، وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة
باذن الله، ولكن العالم عالم الأسباب والتضاد والتزاحم، فيمكن ان يتهيأ سبب فوز
العدو وظفره بحيله ومكره، ولكن يجب على المسلمين الدفاع عن الاسلام و
المسلمين وجهاد المفسدين والجائرين بعد أن يهيئوا الأسباب المتعارفة، متوكلين
على الله - تعالى -.
3 - وفي الحديث عن الصادق (عليه السلام) بعد ذكر قوله - تعالى -: " أذن للذين يقاتلون، بأنهم
ظلموا. " قال (عليه السلام): " وبحجة هذه الآية يقاتل مؤمنو كل زمان. " فراجع. (2) هذا.
4 - وقد مر ان أمير المؤمنين - عليه السلام - بلغه أن الرجل من أهل الشام كان
يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة، فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها و
رعاثها، ما تمنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام ثم انصرفوا وافرين ما نال رجلا منهم
كلم ولا أريق لهم دم، فقال: " لو أن امرءا مسلما مات من بعد هذا أسفا ما كان به ملوما، بل
كان به عندي جديرا. " وقال: " فقبحا لكم وترحا حين صرتم غرضا يرمى، يغار

1 - سورة الحج (22)، الآية 39 و 40 و 41.
2 - الوسائل 11 / 27، الباب 9 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
122

عليكم ولا تغيرون، وتغزون ولا تغزون، ويعصى الله وترضون. " (1)
فيا أخي المسلم، أو ليس الواحد منا - أنا وأنت - بإنسان؟! أو ليس فينا عواطف
الإنسانية وحميتها فضلا عن الالتزام الاسلامي؟! فكيف يبلغنا مجازر المسلمين و
تخريب بلادهم ومعابدهم وهتك نواميسهم بأيدي الكفار والصهاينة في فلسطين و
لبنان وأفغانستان والهند وسائر البلدان ولا نتحرك ولا نحامي، بل ولا نعترض بكلام
وقول، بل ولا نؤيد من يعترض، بل ربما نؤيد الكفار عمليا؟!
5 - وقد روى الطبري في تاريخه عن أبي مخنف، عن عقبة بن أبي العيزار أن
الحسين " ع " خطب أصحابه وأصحاب الحر بالبيضة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
" أيها الناس، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله ناكثا لعهد الله
مخالفا لسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير عليه بفعل ولا
قول، كان حقا على الله أن يدخله مدخله. ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا
طاعة الرحمان وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام الله و
حرموا حلاله وأنا أحق من غير. " (2)
وكلام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يختص بالسبط الشهيد وبزيد بن علي وبشهيد فخ و
أمثالهم، بل هو تكليف عام لجميع المسلمين في قبال الكفار وسلاطين الجور و
طواغيت الزمان، كما يدل على ذلك عموم الموصول.
وكيف كان فالجهاد الدفاعي في قبال هجوم الأجانب والكفار والتسلط على
بلاد المسلمين وشؤونهم وثقافتهم واقتصادهم من أوجب الواجبات. والتشكيك في
ذلك تشكيك فيما يحكم به الكتاب والسنة، بل العقل والفطرة، فان الله - سبحانه -
جهز الإنسان بل الحيوانات أيضا بأجهزة الدفاع وخلق فيه القوة الغضبية لذلك، كما
خلق في الدم الكريات البيض للدفاع عن مملكة البدن في قبال الجراثيم

1 - نهج البلاغة، فيض / 95; عبده 1 / 65; لح / 70، الخطبة 27.
2 - تاريخ الطبري 7 / 300.
123

المفسدة الخارجية المهاجمة، فتدبر.
بل الدفاع عن بيضة الإسلام وحوزة المسلمين واجب ولو في ظل راية الباطل
أيضا بشرط عدم تأييده.
6 - ففي خبر يونس قال: " سأل أبا الحسن (عليه السلام) رجل وأنا حاضر، فقال له: جعلت
فداك، ان رجلا من مواليك بلغه أن رجلا يعطي سيفا وقوسا في سبيل الله، فأتاه
فأخذهما منه وهو جاهل بوجه السبيل، ثم لقيه أصحابه فأخبروه ان السبيل مع هؤلاء
لا يجوز، وأمروه بردهما. قال: فليفعل. قال: قد طلب الرجل فلم يجده وقيل له قد قضى
الرجل. قال: فليرابط ولا يقاتل. قال: مثل قزوين وعسقلان والديلم وما أشبه هذه
الثغور؟ فقال: نعم. قال: فإن جاء العدو إلى الموضع الذي هو فيه مرابط كيف يصنع؟
قال: يقاتل عن بيضة الإسلام. قال: يجاهد؟ قال: لا إلا أن يخاف على دار المسلمين. أرأيتك
لو أن الروم دخلوا على المسلمين لم ينبغ (يسع خ. ل) لهم أن يمنعوهم؟ قال: يرابط ولا يقاتل،
وان خاف على بيضة الإسلام والمسلمين قاتل فيكون قتاله لنفسه ليس للسلطان، لأن في
دروس الاسلام دروس ذكر محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). " (1)
وسند الحديث لا بأس به.
فانظر يا أخي المسلم، كيف غفل المسلمون وأغفلوا بتسويل المستعمرين و
أياديهم الجاهلة أو الخبيثة وعلماء السوء، فحصروا دين الله في بعض المراسم
الظاهرية والآداب الشخصية، واستولى الكفار على بلاد المسلمين ومعابدهم و
جميع شؤونهم وشتتوهم ومزقوهم كل ممزق، واستضعفوهم بأنحاء الاستضعاف من
حيث لا يشعرون. اللهم فبدد شمل الكفار وفرق جمعهم واردد كيدهم إلى أنفسهم، و
أيقظ المسلمين من سباتهم وهجعتهم. آمين رب العالمين. هذا.
واعلم أن الدفاع لا يمكن ولا يتحصل إلا بإعداد المقدمات والوسائل والتسلح
بسلاح العصر، والتدرب عليه. فيجب ذلك لا محالة، وقد قال الله - تعالى - في كتابه

1 - الوسائل 11 / 19، الباب 6 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
124

العزيز: " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل، ترهبون به عدو الله و
عدوكم. الآية. " (1)
ولعله لا يتيسر أيضا في بعض الأحيان إلا بالتكتل والتشكل ولو خفية، ولا محالة
يتوقف ذلك على أن يؤمروا على أنفسهم رجلا عالما عادلا بصيرا بالأمور، ويلتزموا
بإطاعته حتى ينصرهم الله بتأييده ونصره، كما اتفق ذلك في أكثر الثورات الناجحة
في العالم. وفي القرآن الكريم ان بني إسرائيل قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في
سبيل الله، فبعث الله لهم طالوت ملكا (2). فيعلم بذلك ان القتال يتوقف على وجود
القائد الجامع للشتات. وان شئت فسم هذا القائد أيضا إماما، ولكن وجوده شرط
لتحقق القتال لاشرط لوجوبه، بخلافه في الجهاد الابتدائي فإن الإمام شرط لوجوبه،
كما مر. بل يمكن أن يقال: إن الإمام في كلا القسمين شرط للوجود لا للوجوب، كما
يأتي نظيره في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر المتوقفين على الضرب والجراح،
فانتظر.
وقد تحصل مما ذكرنا أن الجهاد من أهم الواجبات وأنه ينقسم عندهم إلى
قسمين: ابتدائي ودفاعي. والأول على ما قالوا وجوبه مشروط بالإمام، ولكن الإمام
لا ينحصر في الإمام المعصوم على الأقوى، فيشمل الفقيه الجامع للشرائط أيضا، وأما
الجهاد الدفاعي فلا يتوقف وجوبه على الإمام. نعم، ربما يتوقف وجوده على التجمع
والتشكل، وهو لا محالة يتوقف على وجود القائد والإمام. فهو شرط للوجود
لا للوجوب، كما لا يخفى، فيجب تحصيله.
وكيف كان فالجهاد الدفاعي واجب ولو في عصر الغيبة بلا إشكال.
نعم، هنا أخبار ربما تمسك بها بعض من يوجب السكون والسكوت في قبال
الجنايات وهجوم الأعداء في عصر الغيبة، ويصرون على عدم التدخل في الشؤون
السياسية وإقامة الدولة. وقد تعرض لهذه الأخبار صاحب الوسائل في الباب

1 - سورة الأنفال (8)، الآية 60.
2 - راجع سورة البقرة (2)، الآية 246 و 247.
125

الثالث عشر من الجهاد (1)، ونحن نوردها مع الجواب عنها في آخر هذا الباب في
الفصل الرابع منه بعد ذكر الأدلة العشر لضرورة الحكومة ووجوب السعي في إقامة
الدولة العادلة. وهو بحث لطيف ينبغي الالتفات اليه. وسنعود إلى بحث ما في ضرورة
الدفاع وتقوية النظام العسكري والجنود في الفصل الرابع عشر من الباب السادس
أيضا، فانتظر.

1 - الوسائل ج 11 ص 35 وما بعدها، باب حكم الخروج بالسيف قبل قيام القائم (عليه السلام).
126

الفصل السابع
في قتال البغاة على الإمام
قال في الخلاف (المسألة 1 من كتاب الباغي):
" الباغي من خرج على إمام عادل وقاتله ومنع تسليم الحق اليه، وهو اسم ذم. و
في أصحابنا من يقول: انه كافر. ووافقنا على أنه اسم ذم جماعة من العلماء المعتزلة
بأسرهم، ويسمونهم فساقا، وكذلك جماعة من أصحاب أبي حنيفة والشافعي. وقال
أبو حنيفة هم فساق على وجه التدين. وقال أصحاب الشافعي ليس باسم ذم
عند الشافعي، بل هو اسم من اجتهد فأخطأ، بمنزلة من خالف من الفقهاء في بعض
مسائل الاجتهاد. دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم... " (1)
وقال في النهاية:
" كل من خرج على إمام عادل ونكث بيعته وخالفه في أحكامه فهو باغ، وجاز
للامام قتاله ومجاهدته... ومن خرج على إمام جائر لم يجز قتالهم على حال.
ولا يجوز لأحد قتال أهل البغي إلا بأمر الإمام. " (2)
وفي الشرائع:
" يجب قتال من خرج على امام عادل إذا ندب اليه الإمام عموما أو خصوصا أو
من نصبه الإمام. " (3)
وفي الجواهر:

1 - الخلاف 3 / 164.
2 - النهاية للشيخ / 296 - 297.
3 - الشرائع 1 / 336.
127

" لا خلاف فيه بين المسلمين فضلا عن المؤمنين، بل الإجماع بقسميه عليه، بل
المحكى منهما مستفيض، كالنصوص من طرق العامة والخاصة. " (1)
أقول: مسألة قتال البغاة من المسائل المهتم بها في فقه الفريقين وقد رأيت
تفسيره بالخارج على الإمام العادل في قبال الإمام الجائر.
وهل يراد به خصوص الإمام المعصوم أو مطلق العادل بعد تحقق إمامته؟ وجهان.
ولعل الثاني أظهر.
ويدل على الحكم، مضافا إلى الإجماع وعدم الخلاف، الكتاب والأخبار من
طرق الفريقين.
اما الكتاب فقوله - تعالى -: " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن
بغت إحديهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله. " (2)
بل الظاهر ان تسمية الخارج على الإمام بالباغي أخذت من هذه الآية.
والخدشة في الاستدلال بها بأنها في اقتتال طائفتين من المؤمنين لأمر ما لا في
خروج طائفة على الإمام، مدفوعة. أولا بصدق الطائفتين على جند الإمام والباغي
بلا إشكال، وثانيا بالأولوية القطعية. إذ لو وجب دفع الباغي على بعض المؤمنين
فدفعه عن إمام المؤمنين يجب بطريق أولى.
ولا يخفى أن في تسمية الباغي وجنده بالمؤمن عندنا لا يخلو عن نحو عناية و
تجوز، وكأنه باعتبار حاله قبل البغي. هذا.
وأما الأخبار في المسألة فكثيرة، ومنها خبر ابن المغيرة، عن جعفر، عن أبيه قال:
" ذكرت الحرورية عند علي (عليه السلام) فقال: إن خرجوا على إمام عادل أو جماعة فقاتلوهم، وإن
خرجوا

1 - الجواهر 21 / 324.
2 - سورة الحجرات (49)، الآية 9.
128

على إمام جائر فلا تقاتلوهم، فان لهم في ذلك مقالا. " (1)
وفي الوسائل المطبوع: " عقالا " بدل " مقالا "، ولكن في الكافي والعلل: " مقالا ". و
المذكور في الحديث التفصيل بين الإمام العادل والجائر، لا المعصوم وغير المعصوم.
والمراد بالحرورية الخوارج، سموا بذلك لاجتماعهم في موضع بظهر الكوفة كان
يسمى بحروراء.
وفي مسلم عن عرفجة، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " من أتاكم وأمركم جميع
على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه. " (2) هذا وتفصيل المسألة
موكول إلى محله.

1 - الوسائل 11 / 60، الباب 26 من أبواب جهاد العدو، الحديث 3.
2 - صحيح مسلم 3 / 1480 (= طبعة أخرى 6 / 23)، كتاب الإمارة، الباب 14 (باب حكم من فرق
أمر المسلمين وهو مجتمع).
129

الفصل الثامن
فيما دل على أن أمر الجزية والغنائم والأسارى والأراضي إلى الإمام
1 - صحيحة زرارة، قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما حد الجزية على أهل الكتاب،
وهل عليهم في ذلك شيء موظف لا ينبغي أن يجوز إلى غيره؟ فقال: ذلك إلى الامام،
يأخذ من كل إنسان منهم ما شاء على قدر ماله وما يطيق. الحديث. " (1)
2 - رواية محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه سأله عن خراج أهل الذمة و
جزيتهم إذا أدوها من ثمن خمورهم وخنازيرهم وميتتهم، أيحل للإمام أن يأخذها و
يطيب ذلك للمسلمين؟ فقال: " ذلك للإمام والمسلمين حلال وهي على أهل الذمة حرام
وهم المحتملون لوزره. " (2)
3 - صحيحة معاوية بن وهب، قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): السرية يبعثها الإمام
فيصيبون غنائم، كيف تقسم؟ قال: إن قاتلوا عليها مع أمير أمره الإمام عليهم أخرج منها
الخمس لله وللرسول، وقسم بينهم أربعة أخماس، وإن لم يكونوا قاتلوا عليها المشركين
كان كل ما غنموا للإمام، يجعله حيث أحب. " (3)
4 - وفي رواية طلحة بن زيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " فكل أسير أخذ في تلك الحال فإن
الإمام فيه بالخيار: إن شاء ضرب عنقه، وإن شاء قطع يده ورجله من خلاف... فكل أسير أخذ على

1 - الوسائل 11 / 113، الباب 68 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
2 - الوسائل 11 / 118، الباب 70 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
3 - الوسائل 11 / 84، الباب 41 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
130

تلك الحال فكان في أيديهم فالإمام فيه بالخيار: إن شاء من عليهم فأرسلهم، وإن شاء فاداهم
أنفسهم، وإن شاء استعبدهم فصاروا عبيدا. " (1)
5 - وفى حديث الزهري، عن على بن الحسين (عليه السلام): " إذا أخذت أسيرا فعجز عن
المشي ولم يكن معك محمل فأرسله ولا تقتله، فإنك لا تدرى ما حكم الإمام فيه.
الحديث. " (2)
6 - رواية صفوان والبزنطي جميعا، قالا: " ذكرنا له الكوفة... فقال: من أسلم طوعا تركت
أرضه في يده وأخذ منه العشر... وما لم يعمروه منها أخذه الإمام فقبله ممن يعمره وكان
للمسلمين... وما أخذ بالسيف فذلك إلى الإمام يقبله بالذي يرى. الحديث. " (3)
7 - رواية البزنطي قال: ذكرت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام) الخراج وما سار به أهل بيته،
فقال: العشر ونصف العشر على من أسلم طوعا، تركت أرضه في يده... وما لم يعمر منها
أخذه الوالي فقبله ممن يعمره وكان للمسلمين... وما أخذ بالسيف فذلك إلى الإمام يقبله
بالذي يرى. الحديث. " (4)
ورواية البزنطي صحيحة، والراوي عنه هو أحمد به محمد بن عيسى. وفي رواية
صفوان والبزنطي توسط بينهما وبين أحمد بن محمد بن عيسى، علي بن أحمد بن
أشيم. وعن الشيخ انه مجهول، وعن بعض تضعيفه، ولكن نقل ابن عيسى عنه لعله
يدل على اعتماده عليه. ثم ان الراوي في الخبرين هو البزنطي والمروي عنه فيهما هو
الرضا (عليه السلام)، ويقرب مضمونهما، فيحتمل وحدتهما ووجود ابن اشيم في سند الثانية
أيضا وسقوطه منه.
وكيف كان فيستفاد من الخبرين أن أرض الموات والمفتوحة عنوة أمرهما إلى
الإمام وقد مر كون الأنفال إلى الإمام ومنها أرض الموات وما لا رب له، وكذا الجبال
والأودية والآجام وغير ذلك.

1 - الوسائل 11 / 53، الباب 23 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
2 - الوسائل 11 / 53، الباب 23 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
3 - الوسائل 11 / 119، الباب 72 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
4 - الوسائل 11 / 120، الباب 72 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
131

8 - وفي صحيحة عمر بن يزيد، قال: " سمعت رجلا من أهل الجبل يسأل أبا
عبد الله (عليه السلام) عن رجل أخذ أرضا مواتا تركها أهلها، فعمرها وكرى أنهارها وبنى فيها
بيوتا وغرس فيها نخلا وشجرا. قال: فقال أبو عبد الله (عليه السلام): كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول:
من أحيى أرضا من المؤمنين فهي له، وعليه طسقها يؤديه إلى الأمام في حال الهدنة، فإذا
ظهر القائم (عليه السلام) فليوطن نفسه على أن تؤخذ منه. " (1)
إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في الغنائم والأراضي.

1 - الوسائل 6 / 382، الباب 4 من أبواب الأنفال، الحديث 13.
132

الفصل التاسع
في الحجر والوصية
1 - خبر غياث بن إبراهيم، عن جعفر، عن أبيه أن عليا (عليه السلام) كان يفلس الرجل إذا التوى على
غرمائه، ثم يأمر به فيقسم ماله بينهم بالحصص، فإن أبى باعه فقسم بينهم، يعني ماله. (1)
2 - خبر السكوني، عن جعفر، عن أبيه أن عليا (عليه السلام) كان يحبس في الدين، ثم ينظر فإن
كان له مال أعطى الغرماء، وإن لم يكن له مال دفعه إلى الغرماء. الحديث. (2)
3 - خبر إسماعيل بن سعد، قال: " سألت الرضا (عليه السلام)... وعن الرجل يصحب الرجل
في سفر فيحدث به حدث الموت ولا يدرك الوصية، كيف يصنع بمتاعه وله أولاد
صغار وكبار، أيجوز أن يدفع متاعه ودوابه إلى ولده الأكابر أو إلى القاضي، وإن كان
في بلدة ليس فيها قاض كيف يصنع؟ وإن كان دفع المتاع إلى الأكابر ولم يعلم، فذهب
فلم يقدر على رده كيف يصنع؟ قال: إذا أدرك الصغار وطلبوا لم يجد بدا من إخراجه، إلا
أن يكون بأمر السلطان. " (3)
4 - خبر صفوان، قال: " سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن رجل كان لرجل عليه مال، فهلك
وله وصيان، فهل يجوز أن يدفع إلى أحد الوصيين دون صاحبه؟ قال: لا يستقيم إلا أن
يكون السلطان قد قسم بينهما المال فوضع على يد هذا النصف وعلى يد هذا النصف، أو
يجتمعان بأمر السلطان. " (4)

1 - الوسائل 13 / 146، الباب 6 من كتاب الحجر، الحديث 1.
2 - الوسائل 13 / 148، الباب 7 من كتاب الحجر، الحديث 3.
3 - الوسائل 13 / 475، الباب 88 من كتاب الوصايا، الحديث 3.
4 - الوسائل 13 / 440، الباب 51 من كتاب الوصايا، الحديث 2.
133

الفصل العاشر
فيما ورد في النكاح والطلاق وملحقاته
1 - ما روته عائشة ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها
باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل. فان دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها. فان
اشتجروا فالسلطان ولي من لاولي له. " (1)
وقد مر أن المراد بالإمام والسلطان والوالي معنى واحد.
2 - صحيحة أبي حمزة الثمالي في العنين، قال: " سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول:... فإن
تزوجت وهي بكر فزعمت أنه لم يصل إليها فإن مثل هذا تعرف النساء، فلينظر إليها من يوثق
به منهن، فإذا ذكرت أنها عذراء فعلى الإمام أن يؤجله سنة، فان وصل إليها وإلا فرق بينهما.
الحديث. " (2)
3 - صحيحة أبي بصير، قال: " سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: " من كانت عنده امرأة فلم
يكسها ما يواري عورتها ويطعمها ما يقيم صلبها كان حقا على الإمام ان يفرق بينهما. " (3)
4 - خبر معمر بن وشيكة، قال: " سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: " لا يصلح الناس في
الطلاق إلا بالسيف. ولو وليتهم لرددتهم فيه إلى كتاب الله - عز وجل. " (4)

1 - سنن الترمذي 2 / 280، الباب 14 من أبواب النكاح، الحديث 1108.
2 - الوسائل 14 / 613، الباب 15 من أبواب العيوب والتدليس من كتاب النكاح، الحديث 1.
3 - الوسائل 15 / 223، الباب 1 من أبواب النفقات من كتاب النكاح، الحديث 2.
4 - الوسائل 15 / 272، الباب 6 من أبواب مقدمات الطلاق، الحديث 2. ونحوه غيره في هذا
الباب.
134

5 - وفى خبر أبي بصير، عنه (عليه السلام): " لو وليت الناس لعلمتهم كيف ينبغي لهم أن يطلقوا، ثم
لم أوت برجل قد خالف إلا أوجعت ظهره. " (1) ونحوهما غير هما.
6 - صحيحة بريد، قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المفقود كيف تصنع امرأته؟ فقال:
ما سكتت عنه وصبرت فخل عنها، وإن هي رفعت أمرها إلى الوالي أجلها أربع سنين، ثم
يكتب إلى الصقع الذي فقد فيه، فليسأل عنه... وإن لم يكن له مال قيل للولي: أنفق عليها،
فان فعل فلا سبيل لها إلى أن تتزوج ما أنفق عليها، وإن أبى أن ينفق عليها أجبره الوالي على
أن يطلق تطليقة. الحديث. " (2)
7 - قال الصدوق: " وفى رواية أخرى انه إن لم يكن للزوج ولى طلقها الوالي. " (3)
أقول: وفي خبر الكناني: " وان لم يكن له ولى طلقها السلطان. " (4)
8 - صحيحة محمد بن مسلم، قال: " سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الملاعن والملاعنة
كيف يصنعان؟ قال: يجلس الإمام مستدبر القبلة يقيمهما بين يديه مستقبل القبلة بحذائه.
الحديث. " ونحوها صحيحة البزنطي، عن الرضا (عليه السلام). (5)
9 - خبر بريد الكناسي، عن أبي جعفر (عليه السلام) في الظهار، وفيه: " فإن كان يقدر على أن
يعتق فإن على الإمام أن يجبره على العتق أو الصدقة من قبل ان يمسها ومن بعدما
يمسها. " (6)
والغرض من سرد هذه الأخبار من الأبواب المختلفة بيان أن الإمامة بمعنى
الحكومة داخلة في نظام قوانين الإسلام ونسجها وأنها تبقى ببقائها، وان عدم
الاهتمام بها مساوق لعدم الاهتمام بالإسلام وقوانينه.

1 - الوسائل 15 / 272، الباب 6 من أبواب مقدمات الطلاق، الحديث 3. ونحوه غيره في هذا
الباب.
2 - الوسائل 15 / 389، الباب 23 من أبواب أقسام الطلاق، الحديث 1.
3 - الوسائل 15 / 390، الباب 23 من أبواب أقسام الطلاق، الحديث 2.
4 - الوسائل 15 / 390، الباب 23 من أبواب أقسام الطلاق، الحديث 5.
5 - الوسائل 15 / 587، الباب 1 من أبواب كتاب اللعان، الحديث 4 و 2.
6 - الوسائل 15 / 533، الباب 17 من كتاب الظهار، الحديث 1.
135

الفصل الحادي عشر
في المواريث
1 - خبر عبد الملك بن أعين ومالك بن أعين، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " سألته عن
نصراني مات وله ابن أخ مسلم وابن أخت مسلم، وله أولاد وزوجة نصارى... قيل له:
فإن أسلم أولاده وهم صغار؟ فقال: يدفع ما ترك أبوهم إلى الإمام حتى يدركوا، فإن أتموا
على الإسلام إذا أدركوا دفع الإمام ميراثه إليهم، وإن لم يتموا على الإسلام إذا أدركوا دفع
الإمام ميراثه إلى ابن أخيه وابن أخته المسلمين. الحديث. " (1)
2 - صحيحة أبي بصير، قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل مسلم مات وله أم
نصرانية... فإن لم يسلم أحد من قرابته فإن ميراثه للإمام. " (2)
3 - الأخبار الكثيرة الواردة في حكم ميراث من لا وارث له، فراجع الباب 3 و 4
من أبواب ولاء ضمان الجريرة والإمامة من الوسائل. (3) ففي بعضها أنه من الأنفال، و
في بعضها أنه للإمام، وفي بعضها أنه يجعل في بيت مال المسلمين. والظاهر رجوع
الجميع إلى أمر واحد، لما مر من أن الأنفال للإمام ولكن لا لشخصه بل لحيثية الإمامة
ومنصبها، فيصرف في مصالح المسلمين وان كان من أعلى مصالحهم إدارة شؤون
شخص الإمام، فراجع ما حررناه في كتاب الخمس، وأشرنا اليه هنا في الفصل الرابع.
ويأتي في الباب الثامن من هذا الكتاب أيضا.

1 - الوسائل 17 / 379، الباب 2 من أبواب موانع الإرث، الحديث 1.
2 - الوسائل 17 / 381، الباب 3 من أبواب موانع الإرث، الحديث 1.
3 - الوسائل 17 / 547 و 551، باب أن من مات ولا وارث له... وباب حكم ما لو تعذر....
136

4 - صحيحة هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " لا يستقيم الناس على الفرائض
والطلاق إلا بالسيف. " (1) ونحوها غيرها.
فيستفاد من هذه الرواية أن دين الإسلام ليس كما توهمه بعض من لا خبرة له من
كونه مشرعا للقوانين والآداب فقط من دون أن يلتفت إلى القوة المجرية لها، بل إن
إقامة الحكومة الحقة المقتدرة لإجراء المقررات والقوانين المشرعة من أعظم أهدافه
وتشريعاته، فانتظر لبيان ذلك وتوضيحه.

1 - الوسائل 17 / 419، الباب 3 من أبواب موجبات الإرث، الحديث 1.
137

الفصل الثاني عشر
فيما ورد في القضاء والحدود
1 - خبر إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لشريح: يا
شريح، قد جلست مجلسا لا يجلسه (ما جلسه) إلا نبي أو وصى نبي أو شقي. " (1)
2 - وخبر سليمان بن خالد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " اتقوا الحكومة، فان الحكومة
إنما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين: لنبي (كنبي) أو وصي نبي. " (2)
أقول: هل المراد بالحكومة في الحديث خصوص القضاء أو مطلق الولاية التي
من شؤونها القضاء؟ وجهان. ولعل الأول أظهر. وقوله: " لنبي "، هكذا في الكافي و
التهذيب. وفي الفقيه: " كنبي "، ولا يخفى وجود الفرق بينهما. إذ على الأول ينحصر
في النبي والوصي، دون الثاني.
وفي مرآة العقول:
" لا يخفى أن هذه الأخبار تدل بظواهرها على عدم جواز القضاء لغير المعصوم،
ولا ريب أنهم - عليهم السلام - كانوا يبعثون القضاة إلى البلاد، فلابد من حملها على أن
القضاء بالأصالة لهم ولا يجوز لغيرهم تصدي ذلك إلا بإذنهم. وكذا في قوله (عليه السلام):
لا يجلسه الا نبي، أي بالأصالة. والحاصل ان الحصر إضافي بالنسبة إلى

1 - الوسائل 18 / 7، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2.
2 - الوسائل 18 / 7، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.
138

من جلس فيها بغير إذنهم ونصبهم (عليهم السلام). " (1)
أقول: ما ذكره من الظهور مبني على كون المراد بالوصي وبالإمام خصوص
الإمام المعصوم. وحينئذ فوجوب حملها على من له القضاء بالأصالة أو على الحصر
الإضافي واضح، إذ لا يمكن الالتزام بتعطل القضاء الشرعي في عصر الغيبة وإن
طالت آلاف سنة.
وأما ما قال من أنهم (عليهم السلام) كانوا يبعثون القضاة إلى البلاد فإثباته بالنسبة إلى غير
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) بحسب التاريخ مشكل. نعم، كان لهم (عليه السلام) وكلاء في
بعض البلاد سرا لرجوع شيعتهم إليهم في المسائل الشرعية والحقوق الشرعية. وأما
بعث القضاة فلم يثبت، أللهم إلا أن يريد بذلك جعل منصب القضاء للفقيه بنحو العموم،
كما ربما يستفاد من مقبولة عمر بن حنظلة ومشهورة أبي خديجة.
3 - خبر الأصبغ بن نباتة، قال: " قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) أن ما أخطأت القضاة في دم
أو قطع فهو على بيت مال المسلمين. " (2)
ومثله خبر أبي مريم، عن أبي جعفر (عليه السلام). (3)
فهذا السنخ من الأخبار يدل على أن من تشريعات الإسلام وجود الحكومة و
الرياسة وبيت المال العام.
4 - خبر البرقي، عن أبيه، عن علي (عليه السلام) قال: " يجب على الإمام أن يحبس الفساق من
العلماء والجهال من الأطباء والمفاليس من الأكرياء. قال: وقال (عليه السلام): حبس الإمام بعد الحد
ظلم. " (4)
5 - صحيحة عمر بن يزيد، قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل مات

1 - مرآة العقول 4 / 231 من ط. القديم، (أول كتاب القضاء).
2 - الوسائل 18 / 165، الباب 10 من أبواب آداب القاضي، الحديث 1.
3 - الوسائل 19 / 111، الباب 7 من أبواب دعوى القتل من كتاب القصاص، الحديث 1.
4 - الوسائل 18 / 221، الباب 32 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 3.
139

وترك امرأته وهي حامل، فوضعت بعد موته غلاما، ثم مات الغلام بعدما وقع إلى
الأرض، فشهدت المرأة التي قبلتها أنه استهل وصاح حين وقع إلى الأرض ثم مات.
قال: على الإمام أن يجيز شهادتها في ربع ميراث الغلام. " (1)
6 - خبر حفص بن غياث قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام): من يقيم الحدود؟ السلطان،
أو القاضي؟ فقال: إقامة الحدود إلى من إليه الحكم. " (2)
وهل يراد بقوله: " من اليه الحكم "، القاضي أو الوالي الناصب له؟ وجهان.
ولعل الأول أظهر، فيراد أن القاضي بنفسه يجري وينفذ ما حكم به من الحد،
فتأمل.
7 - قال المفيد في المقنعة:
" فأما إقامة الحدود فهو إلى سلطان الإسلام المنصوب من قبل الله، وهم أئمة
الهدى من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن نصبوه لذلك من الأمراء والحكام. وقد فوضوا النظر
فيه إلى فقهاء شيعتهم مع الإمكان. " (3)
8 - وفى المستدرك عن الجعفريات بسنده، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده
علي بن الحسين، عن أبيه أن عليا (عليه السلام) قال: " لا يصلح الحكم ولا الحدود ولا الجمعة إلا
بإمام. " ورواه في الدعائم عنه (عليه السلام) مثله وفيه: " بإمام عدل. " (4)
9 - خبر حفص بن عون رفعه، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ساعة إمام عدل أفضل من
عبادة سبعين سنة. وحد يقام لله في الأرض أفضل من مطر أربعين صباحا. " (5)
10 - ما عن القطب الراوندي في لب اللباب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " يوم واحد

1 - الوسائل 18 / 259، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 6.
2 - الوسائل 18 / 338، الباب 28 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1.
3 - الوسائل 18 / 338، الباب 28 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 2. المقنعة / 129.
4 - مستدرك الوسائل 3 / 220، الباب 25 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1.
5 - الوسائل 18 / 308، الباب 1 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 5.
140

من سلطان عادل خير من مطر أربعين يوما. وحد يقام في الأرض أزكى من عبادة ستين
سنة. " (1)
أقول: فالله - تعالى - الذي لا يقطع بركاته وقطر السماء عن خلقه في عصر من
الأعصار كيف يقطع الإمامة وإقامة الحدود في عصر الغيبة وان طالت ما طالت بسبب
سوء نية الخليفة العباسي وغيره من الأمور؟!
11 - خبر أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في رجل أقيمت عليه البينة بأنه زنى ثم هرب
قبل أن يضرب؟ قال: إن تاب فما عليه شيء، وإن وقع في يد الإمام أقام عليه الحد، وإن
علم مكانه بعث إليه. " (2)
12 - صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " قلت له: رجل جنى إلى،
أعفو عنه أو أرفعه إلى السلطان؟ قال: هو حقك، إن عفوت عنه فحسن، وإن رفعته إلى
الإمام فإنما طلبت حقك، وكيف لك بالإمام؟ " (3)
13 - موثقة سماعة بن مهران، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " من أخذ سارقا فعفا عنه فذلك
له، فإذا رفع إلى الإمام قطعه. الحديث. " (4)
14 - وفي الفقيه: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا يحل لوال يؤمن بالله واليوم الآخر أن يجلد
أكثر من عشرة أسواط إلا في حد. وأذن في أدب المملوك من ثلاثة إلى خمسة. " (5)
15 - مرسلة البرقي، عن بعض أصحابه، عن بعض الصادقين (عليهم السلام) عن
أمير المؤمنين (عليه السلام): " إذا قامت البينة فليس للإمام ان يعفو، وإذا أقر الرجل على نفسه فذاك
إلى

1 - مستدرك الوسائل 3 / 216، الباب 1 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 10.
2 - الوسائل 18 / 328، الباب 16 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 4.
3 - الوسائل 18 / 329، الباب 17 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1.
4 - الوسائل 18 / 330، الباب 17 من أباب مقدمات الحدود، الحديث 3.
5 - الفقيه 4 / 73، باب نوادر الحدود، الحديث 5143.
141

الإمام: إن شاء عفا وإن شاء قطع. " (1)
16 - صحيحة الفضيل، قال: " سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: من أقر على نفسه
عند الإمام بحق من حدود الله مرة واحدة، حرا كان أو عبدا، أو حرة كانت أو أمة فعلى الإمام
أن يقيم الحد عليه للذي أقر به على نفسه، كائنا من كان إلا الزاني المحصن. الحديث. " (2)
17 - خبر الحسين بن خالد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: " الواجب على
الإمام إذا نظر إلى رجل يزني أو يشرب الخمر أن يقيم عليه الحد ولا يحتاج إلى بينة مع نظره،
لأنه أمين الله في خلقه. الحديث. " (3)
18 - وقال الصادق (عليه السلام) في رجل قال لامرأته يا زانية، قالت، أنت أزنى مني، فقال:
" عليها الحد فيما قذفت به، وأما إقرارها على نفسها فلا تحد حتى تقر بذلك عند الإمام أربع
مرات. " (4)
19 - خبر أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " يقطع رجل السارق بعد قطع اليد ثم
لا يقطع بعد، فإن عاد حبس في السجن وأنفق عليه من بيت مال المسلمين. " (5) ونحوه
روايات اخر.
20 - خبر عيسى بن عبد الله قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): السارق يسرق العام
فيقدم إلى الوالي ليقطع فيوهب، ثم يؤخذ في قابل وقد سرق الثانية ويقدم إلى
السلطان فبأس السرقتين يقطع؟ قال: يقطع بالأخير. الحديث. " (6)
21 - خبر حمزة بن حمران، قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) (إلى قوله): وإن كان

1 - الوسائل 18 / 331، الباب 18 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 3.
2 - الوسائل 18 / 343، الباب 32 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1.
3 - الوسائل 18 / 344، الباب 32 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 3.
4 - الوسائل 18 / 447، الباب 13 من أبواب حد القذف، الحديث 3.
5 - الوسائل 18 / 493، الباب 5 من أبواب حد السرقة، الحديث 6.
6 - الوسائل 18 / 500، الباب 9 من أبواب حد السرقة، الحديث 2.
142

الميت لم يتوال إلى أحد حتى مات فإن ميراثه لإمام المسلمين. فقلت: فما حال
الغاصب؟ فقال: إذا هو أوصل المال إلى امام المسلمين فقد سلم. الحديث. " (1)
22 - خبر الفقيه وفيه: " فجرت السنة في الحد أنه إذا رفع إلى الإمام وقامت عليه البينة
أن لا يعطل ويقام. " (2)
23 - خبر المفضل بن صالح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " إذا سرق السارق من البيدر
من إمام جائر فلا قطع عليه إنما أخذ حقه، فإذا كان من إمام عادل عليه القتل. " (3)
24 - صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " من شهر السلاح في مصر...
فجزاؤه جزاء المحارب وأمره إلى الإمام: إن شاء قتله وصلبه، وان شاء قطع يده ورجله.
الحديث. " (4)
25 - صحيحة بريد، قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله - عز وجل -: " إنما
جزاء الذين يحاربون الله ورسوله "، قال: ذلك إلى الإمام، يفعل ما شاء. قلت: فمفوض ذلك
اليه؟ قال: لا و لكن نحو الجناية. " (5)
26 - خبر عبد الله بن طلحة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله - عز وجل -: " إنما
جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " الآية، " هذا نفي المحارب (المحاربة - كا.) غير هذا
النفي. قال: يحكم عليه الحاكم بقدر ما عمل وينفي ويحمل في البحر ثم يقذف به.
الحديث. " (6)
إلى غير ذلك مما ورد في المحارب.
27 - خبر عمار الساباطي، قال: " سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: كل مسلم بين

1 - الوسائل 18 / 501، الباب 10 من أبواب حد السرقة، الحديث 5.
2 - الوسائل 18 / 509، الباب 18 من أبواب حد السرقة، الحديث 4.
3 - الوسائل 18 / 519، الباب 24 من أبواب حد السرقة، الحديث 5.
4 - الوسائل 18 / 532، الباب 1 من أبواب حد المحارب، الحديث 1.
5 - الوسائل 18 / 533، الباب 1 من أبواب حد المحارب، الحديث 2.
6 - الوسائل 18 / 540، الباب 4 من أبواب حد المحارب، الحديث 5.
143

مسلمين ارتد عن الإسلام... وعلى الإمام أن يقتله ولا يستتيبه. " (1)
28 - صحيحة هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) انه سئل عمن شتم
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: " يقتله الأدنى فالأدنى قبل أن يرفع إلى الإمام. " (2)
29 - روى الترمذي بسنده عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال: " ادرؤوا الحدود عن
المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام ان يخطئ في العفو خير من
أن يخطئ في العقوبة. " (3)

1 - الوسائل 18 / 545، الباب 1 من أبواب حد المرتد، الحديث 3.
2 - الوسائل 18 / 554، الباب 7 من أبواب حد المرتد، الحديث 1.
3 - سنن الترمذي 2 / 438، الباب 2 من أبواب الحدود، الحديث 1447.
144

الفصل الثالث عشر
فيما ورد في القصاص والديات
1 - خبر الفضيل، قال: " قلت لأبي جعفر (عليه السلام): عشرة قتلوا رجلا؟ قال: إن شاء أولياؤه
قتلوهم جميعا وغرموا تسع ديات، وإن شاؤوا تخيروا رجلا فقتلوه... ثم الوالي بعد يلي أدبهم
وحبسهم. " (1)
2 - خبر أبي العباس وغيره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " إذا اجتمع العدة على قتل رجل
واحد حكم الوالي أن يقتل أيهم شاؤوا. الحديث. " (2) ونحوه غيره.
3 - صحيحة حريز، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن رجل قتل رجلا عمدا، فرفع
إلى الوالي فدفعه الوالي إلى أولياء المقتول ليقتلوه، فوثب عليه قوم فخلصوا القاتل من
أيدي الأولياء؟ قال: " أرى أن يحبس الذين خلصوا القاتل. الحديث. " (3)
4 - صحيحة الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " قضى على (عليه السلام) في رجلين أمسك
أحدهما وقتل الآخر، قال: " يقتل القاتل ويحبس الآخر حتى يموت غما. الحديث. " (4)
ونحوها غيرها، حيث ان الحبس إنما يقع بيد الحكام والولاة.

1 - الوسائل 19 / 30، الباب 12 من أبواب القصاص، الحديث 6.
2 - الوسائل 19 / 30، الباب 12 من أبواب القصاص، الحديث 7.
3 - الوسائل 19 / 34، الباب 16 من أبواب القصاص، الحديث 1.
4 - الوسائل 19 / 35، الباب 17 من أبواب القصاص، الحديث 1.
145

5 - صحيحة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) في عبد جرح رجلين... قيل له: فان جرح
رجلا في أول النهار وجرح آخر في آخر النهار؟ قال: " هو بينهما ما لم يحكم الوالي في
المجروح الأول. " (1)
6 - صحيحة ابن سنان، قال: " سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول في رجل أراد امرأة على
نفسها حراما فرمته بحجر فأصابت منه مقتلا، قال: " ليس عليها شيء فيما بينها وبين الله
- عز وجل -، وإن قدمت إلى إمام عادل أهدر دمه. " (2)
7 - خبر محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " من قتله القصاص بأمر الإمام فلا دية
له في قتل ولا جراحة. " (3)
8 - صحيحة أبي بصير، قال: " سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن رجل قتل رجلا مجنونا فقال:
" إن كان المجنون أراده فدفعه عن نفسه (فقتله) فلا شيء عليه من قود ولادية، ويعطي ورثته
ديته من بيت مال المسلمين. الحديث. " (4)
9 - خبر أبي الورد، قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) أو لأبي جعفر: أصلحك الله، رجل
حمل عليه رجل مجنون فضربه المجنون ضربة فتناول الرجل السيف من المجنون
فضربه فقتله؟ فقال: " أرى ان لا يقتل به ولا يغرم ديته، وتكون ديته على الإمام ولا يبطل
دمه. " (5)
10 - خبر أبي عبيدة، قال: " سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن أعمى فقأ عين صحيح؟ فقال:
" إن عمد الأعمى مثل الخطأ، هذا فيه الدية في ماله، فإن لم يكن له مال

1 - الوسائل 19 / 77، الباب 45 من أبواب القصاص، الحديث 1.
2 - الوسائل 19 / 44، الباب 23 من أبواب القصاص، الحديث 1.
3 - الوسائل 19 / 47، الباب 24 من أبواب القصاص، الحديث 8.
4 - الوسائل 19 / 51 - 52، الباب 28 من أبواب القصاص، الحديث 1.
5 - الوسائل 19 / 52، الباب 28 من أبواب القصاص، الحديث 2.
146

فالدية على الإمام ولا يبطل حق امرئ مسلم. " (1)
11 - صحيحة أبي ولاد الحناط، قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل مسلم قتل
رجلا مسلما (عمدا) فلم يكن للمقتول أولياء من المسلمين إلا أولياء من أهل الذمة
من قرابته، فقال: " على الإمام أن يعرض على قرابته من أهل بيته (دينه) الإسلام، فمن أسلم
منهم فهو وليه يدفع القاتل اليه، فإن شاء قتل وإن شاء عفا وإن شاء أخذ الدية. فإن لم يسلم
أحد كان الإمام ولي أمره، فإن شاء قتل وإن شاء أخذ الدية فجعلها في بيت مال المسلمين،
لأن جناية المقتول كانت على الإمام فكذلك تكون ديته لإمام المسلمين. قلت: فإن عفا عنه
الإمام؟ قال: فقال: أنما هو حق جميع المسلمين، وإنما على الإمام أن يقتل أو يأخذ الدية و
ليس له أن يعفو. " (2)
12 - وصحيحته الاخرى، قال: " قال أبو عبد الله (عليه السلام) في الرجل يقتل وليس له ولي
إلا للإمام: " انه ليس الإمام أن يعفو، له أن يقتل أو يأخذ الدية فيجعلها في بيت مال
المسلمين، لأن جناية المقتول كانت على الإمام وكذلك تكون ديته لإمام المسلمين. " (3)
أقول: لا يخفى أن الصحيحتين من أقوى الشواهد على ما ذكرناه مرارا من أن كون
الشيء للإمام عبارة أخرى عن كونه للمسلمين، فيراد به كونه لمنصب الإمامة وتحت
اختيار الإمام لا لشخص الإمام، ولو كان لشخصه لكان له العفو قطعا. وقد مر في
ميراث من لا وارث له أن المذكور في بعض الأخبار كونه من الأنفال، وفي بعضها أنه
للإمام، وفي بعضها أنه يجعل في بيت مال المسلمين، وعرفت أن الجميع يرجع إلى
أمر واحد. والمراد كونه للمسلمين ولكنه في تصرف الإمام واختياره. ويبعد جدا في
مقام التشريع جعل جميع الأنفال، أي الأموال

1 - الوسائل 19 / 65، الباب 35 من أبواب القصاص، الحديث 1.
2 - الوسائل 19 / 93، الباب 60 من أبواب القصاص، الحديث 1.
3 - الوسائل 19 / 93، الباب 60 من أبواب القصاص، الحديث 2.
147

العامة التي جعلها الله لكافة البشر وخمس جميع ما يملكه الناس ملكا لشخص
واحد، فراجع ما حررناه في كتاب الخمس، وفي الباب الثامن من هذا الكتاب.
13 - رواية عبد الله بن سنان وعبد الله بن بكير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " قضى
أمير المؤمنين (عليه السلام) في رجل وجد مقتولا لا يدرى من قتله، قال: " إن كان عرف له أولياء يطلبون
ديته أعطوا ديته من بيت مال المسلمين ولا يبطل دم امرئ مسلم، لأن ميراثه للإمام فكذلك
تكون ديته على الإمام، ويصلون عليه ويدفنونه. قال: وقضى في رجل زحمه الناس يوم
الجمعة في زحام الناس فمات أن ديته من بيت مال المسلمين. " (1)
ونحوها غيرها، فراجع.
14 - خبر أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " إن وجد قتيل بأرض فلاة أديت ديته من
بيت المال، فإن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يقول: لا يبطل دم امرئ مسلم. " (2)
ونحوه غيره، فراجع الباب 9 و 10 من أبواب دعوى القتل. (3)
15 - خبر إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " قلت: ميت قطع رأسه؟ قال: عليه
الدية. قلت: فمن يأخذ ديته؟ قال: الإمام، هذا لله. وان قطعت يمينه أو شيء من جوارحه
فعليه الأرش للإمام. " (4)
16 - صحيحة أبي ولاد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " ليس فيما بين أهل الذمة معاقلة
فيما يجنون من قتل أو جراحة، إنما يؤخذ ذلك من أموالهم، فإن لم يكن لهم مال
رجعت الجناية على إمام المسلمين لأنهم يؤدون إليه الجزية، كما يؤدي العبد الضربية
إلى سيده. قال: وهم مماليك للإمام، فمن أسلم منهم فهو حر. " (5)

1 - الوسائل 19 / 109، الباب 6 من أبواب دعوى القتل، الحديث 1.
2 - الوسائل 19 / 112، الباب 8 من أبواب دعوى القتل، الحديث 3.
3 - الوسائل 19 / 114 و 116، باب ثبوت القسامة... وباب كيفية القسامة.
4 - الوسائل 19 / 248، الباب 24 من أبواب ديات الأعضاء، الحديث 3.
5 - الوسائل 19 / 300، الباب 1 من أبواب العاقلة، الحديث 1.
148

17 - خبر أبي بصير، قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل قتل رجلا متعمدا ثم
هرب القاتل فلم يقدر عليه؟ قال: " إن كان له مال أخذت الدية من ماله وإلا فمن
الأقرب فالأقرب، وإن لم يكن له قرابة أداه الإمام، فإنه لا يبطل دم امرئ مسلم. " وفى
رواية أخرى: " ثم للوالي بعد أدبه وحبسه. " (1)
18 - مرسلة يونس، عن أحدهما انه قال في الرجل إذا قتل رجلا خطأ فمات قبل
أن يخرج إلى أولياء المقتول من الدية: " ان الدية على ورثته، فإن لم يكن له عاقلة فعلى
الوالي من بيت المال. " (2)
19 - خبر عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال في مكاتب قتل رجلا خطأ...
فإن عجز المكاتب فلا عاقلة له، إنما ذلك على إمام المسلمين. " (3)
20 - ما عن كتاب ظريف، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) فيمن لم يكن له من يحلف معه ولم
يوثق به على ما ذهب من بصره: " انه يضاعف عليه اليمين... والوالي يستعين في ذلك
بالسؤال والنظر والتثبت في القصاص والحدود والقود. " (4)
اعلم انا إلى هنا مررنا على أبواب كتاب الوسائل مرورا إجماليا، فضبطنا منها
كثيرا من الأخبار التي ذكر فيها لفظ الإمام، أو الوالي، أو السلطان، أو الحاكم، أو
الأمير، أو بيت المال، أو الجبر بالسيف، أو السجن أو نحو ذلك مما يستفاد منه إجمالا
أن تشريع القوانين والأحكام في الإسلام في الأبواب المختلفة كان على أساس
حكومة إسلامية تكون وظيفتها إجراء هذه القوانين المختلفة وتنفيذها ولو بالقوة
القاهرة.
وبالجملة فكما شرعت في الإسلام القوانين والأحكام، شرع فيه نظام الإجراء

1 - الوسائل 19 / 302 - 303، الباب 4 من أبواب العاقلة، الحديث 1 و 2.
2 - الوسائل 19 / 304، الباب 6 من أبواب العاقلة، الحديث 1.
3 - الوسائل 19 / 308، الباب 12 من أبواب العاقلة، الحديث 1.
4 - الوسائل 19 / 220، الباب 3 من أبواب ديات الأعضاء، الحديث 2.
149

والتنفيذ أيضا. فالحكومة داخلة في نسج الإسلام ونظامه. وقد ذكرنا ما ذكرناه في
ثلاثة عشر فصلا، ولم نكن بصدد الاستقصاء، بل بصدد ذكر نماذج من الأبواب
المختلفة. والأولى ذكر نماذج من الفقه الإسلامي وفتاوى الأصحاب أيضا، ونكتفي
فيها بالموارد التي لم نعثر فيها على رواية، ونجعل المرجع كتاب النهاية لشيخ الطائفة
وكتاب الشرائع للمحقق الحلي - طاب ثراهما - ونجعل هذا فصلا مستقلا، فنقول:
150

الفصل الرابع عشر
في التعرض لبعض عبارات الفقهاء وفتاواهم التي علق فيها الحكم على
الإمام، أو الوالي، أو السلطان، أو الحاكم أو نحو ذلك مما يشكل حمله على
خصوص الإمام المعصوم
1 - قال في النهاية:
" وقد يكون الأمر بالمعروف باليد، بأن يحمل الناس على ذلك بالتأديب والردع و
قتل النفوس وضرب من الجراحات، إلا أن هذا الضرب لا يجب فعله إلا بإذن سلطان
الوقت المنصوب للرياسة... وإنكار المنكر يكون بالأنواع الثلاثة التي ذكرناها، فأما
باليد فهو أن يؤدب فاعله بضرب من التأديب: إما الجراح أو الألم أو الضرب، غير أن
ذلك مشروط بالإذن من جهة السلطان حسب ما قدمناه. " (1)
2 - وفي كتاب الأمر بالمعروف من الشرائع:
" ولو افتقر إلى الجراح أو القتل هل يجب؟ قيل: نعم، وقيل: لا إلا بإذن الإمام، وهو
الأظهر. " (2)
أقول: لو توقف إجراء المعروف والردع عن المنكر على الجراح والضرب فهل
يجبان مطلقا، أو يشترطان بالإذن من الإمام؟ وجهان، بل قولان: من إطلاق الأدلة، و
من أن الجواز بنحو الإطلاق لكل أحد يوجب الهرج والمرج بل واختلال

1 - النهاية للشيخ / 300.
2 - الشرائع 1 / 343.
151

النظام في بعض المراحل.
وفي خبر جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام): " فأنكروا بقلوبكم وألفظوا بألسنتكم وصكوا بها
جباههم. "
وفي خبر يحيى الطويل، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " ما جعل الله بسط اللسان وكف اليد و
لكن جعلهما يبسطان معا ويكفان معا. "
فإطلاق هذين الخبرين وبعض الأخبار الأخر يقتضي عدم الاشتراط، فراجع
الوسائل الباب 3 من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. (1) هذا.
ولو قيل بعدم اشتراط الوجوب ولكن الوجود يشترط غالبا بإذن الإمام والحاكم -
إذ الضرب والجراح لا يحصلان إلا على أساس القدرة، فيجب تحصيل الحكومة الحقة
لتحصل القدرة على التنفيذ مع النظم - كان ذلك موافقا للتحقيق. فالإمام شرط
للوجود، لا للوجوب. وتكون أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بكثرتها و
تعاضدها وإطلاقها من أقوى الأدلة على وجوب إقامة الدولة الحقة، والى ذلك أشار
خبر يحيى الطويل. إذ المستفاد منه ان المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر لا يحصل إلا بتحصيل القدرة وبسط اليد، إذ لا أثر غالبا للأمر والنهي
المجردين إذا لم يتعقبهما إعمال القدرة مع التخلف، والله - تعالى - أجل من أن يجعل
حكما لا يترتب عليه خاصية وأثر. والتفصيل موكول إلى محله.
وسيأتي البحث في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإدارة الحسبة في
الفصل الخامس من الباب السادس، فانتظر.
3 - وفي كتاب التجارة من الشرائع:
" وأن يكون البائع مالكا أو ممن له أن يبيع عن المالك، كالأب والجد للأب و
الوكيل والوصي والحاكم وأمينه. " (2)

1 - الوسائل 11 / 403 - 407، باب وجوب الأمر والنهي بالقلب ثم...، الحديث 1 و 2 و....
2 - الشرائع 2 / 14.
152

4 - وفيه أيضا:
" ويجبر المحتكر على البيع ولا يسعر عليه، وقيل: يسعر. والأول أظهر. " (1)
5 - وفي المتاجر من النهاية:
" ومتى ضاق على الناس الطعام ولم يوجد إلا عند من احتكره كان على السلطان
أن يجبره على بيعه ويكرهه عليه. " (2)
6 - وفي كتاب الديون من النهاية:
" ومن وجب عليه الدين لا يجوز له مطله ودفعه مع قدرته على قضائه، فإن مطل
ودفع كان على الحاكم حبسه وإلزامه الخروج مما وجب عليه، فان حبسه ثم ظهر له
بعد ذلك إعساره وجب تخليته، وإن لم يكن معسرا غير انه يدفع به جاز للحاكم أن
يبيع عليه متاعه وعقاره ويقضي عنه ما وجب عليه. وان كان من وجب عليه الدين و
ثبت غائبا وجب أيضا على الحاكم سماع البينة عليه ويجوز له أن يبيع عليه شيئا من
أملاكه. " (3)
7 - وفي المكاسب من النهاية:
" تولى الأمر من قبل السلطان العادل الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر الواضع
الأشياء مواضعها جائز مرغب فيه، وربما بلغ حد الوجوب. " (4)
8 - وفيها أيضا:
" ومتى تولى شيئا من أمور السلطان من الإمارة والجباية والقضاء وغير ذلك من
أنواع الولايات فلا بأس أن يقبل على ذلك الأرزاق والجوائز والصلات، فإن كان
ذلك من جهة سلطان عادل كان ذلك حلالا له طلقا، وإن كان من جهة

1 - الشرائع 2 / 21.
2 - النهاية للشيخ / 374.
3 - النهاية للشيخ / 305 - 306.
4 - النهاية للشيخ / 356.
153

سلطان الجور فقد رخص له في قبول ذلك من جهتهم لأن له حظا في بيت
المال. " (1)
9 - وفيها أيضا:
" ولا بأس بأخذ الأجر والرزق على الحكم والقضاء بين الناس من جهة السلطان
العادل حسب ما قدمناه، فأما من جهة سلطان الجور فلا يجوز إلا عند الضرورة أو
الخوف. " (2)
10 - وفي كتاب الرهن من الشرائع:
" وإذا وضعاه على يد عدل فللعدل رده عليهما أو تسلميه إلى من يرتضيانه...
ولو استترا قبضه الحاكم. ولو كانا غائبين وأراد تسلميه إلى الحاكم أو عدل آخر من
غير ضرورة لم يجز ويضمن لو سلم، وكذا لو كان أحدهما غائبا. وإن كان هناك عذر
سلمه إلى الحاكم... ولو خان العدل نقله الحاكم إلى أمين غيره... وإذا حل الأجل
وتعذر الأداء كان للمرتهن البيع إن كان وكيلا وإلا رفع أمره إلى الحاكم ليلزمه بالبيع،
فان امتنع كان له حبسه وله أن يبيع عليه... إذا رهن مشاعا وتشاح الشريك والمرتهن
في إمساكه انتزعه الحاكم وآجره إن كان له أجرة... ولو طلب كل واحد منهما نقدا
غير النقد الغالب وتعاسرا ردهما الحاكم إلى الغالب. " (3)
11 - وفي كتاب الحجر من الشرائع:
" لا يثبت حجر المفلس إلا بحكم الحاكم، وهل يثبت في السفيه بظهور سفهه؟ فيه
تردد، والوجه أنه لا يثبت. وكذا لا يزول إلا بحكمه. " (4)
12 - وفي الشركة من الشرائع:

1 - النهاية للشيخ / 357.
2 - النهاية للشيخ / 367.
3 - الشرائع 2 / 80 - 82، و 84 - 85.
4 - الشرائع 2 / 102.
154

" فكل ما لا ضرر في قسمته يجبر الممتنع مع التماس الشريك للقسمة. " (1)
13 - وفي الوديعة منه:
" لا يبرأ المودع إلا بردها إلى المالك أو وكيله، فان فقدهما فإلى الحاكم مع
العذر. " (2)
14 - وفي الوكالة منه:
" وينبغي للحاكم أن يوكل عن السفهاء من يتولى الحكومة عنهم. " (3)
15 - وفي الوكالة من النهاية:
" وللناظر في أمور المسلمين ولحاكمهم أن يوكل على سفهائهم وأيتامهم و
نواقص عقولهم من يطالب بحقوقهم ويحتج عنهم ولهم. " (4)
16 - وفي الوصايا من الشرائع:
" لو أوصى إلى العدل ففسق بعد موت الموصى أمكن القول ببطلان وصيته، لان
الوثوق ربما كان باعتبار صلاحه فلم يتحقق عند زواله، فحينئذ يعزله الحاكم
ويستنيب مكانه... ولو أوصى إلى اثنين... وللحاكم جبرهما على الاجتماع فإن
تعاسرا جاز له الاستبدال بهما... ولو مرض أحدهما أو عجز ضم اليه الحاكم من
يقويه... ولو ظهر للوصي عجز ضم اليه مساعد وان ظهر منه خيانة وجب على الحاكم
عزله ويقيم مكانه أمينا... وكذا لو مات إنسان ولا وصي له كان للحاكم النظر في
تركته. " (5)

1 - الشرائع 2 / 132.
2 - الشرائع 2 / 167.
3 - الشرائع 2 / 198.
4 - النهاية للشيخ / 317.
5 - الشرائع 2 / 256 - 257.
155

17 - وفي النهاية:
" فإن ظهر من الوصي بعده خيانة كان على الناظر في أمر المسلمين أن يعزله و
يقيم أمينا مقامه، وإن لم تظهر منه خيانة إلا أنه ظهر منه ضعف وعجز عن القيام
بالوصية كان للناظر في أمر المسلمين أن يقيم معه أمينا ضابطا يعينه. " (1)
18 - وفي النكاح من الشرائع:
" لا ولاية في عقد النكاح لغير الأب والجد للأب وان علا والمولى والوصي و
الحاكم. " (2)
19 - وفي النكاح من النهاية:
" ومتى لم يقم الرجل بنفقة زوجته وبكسوتها وكان متمكنا من ذلك ألزمه الإمام
النفقة أو الطلاق. " (3)
20 - وفيه أيضا:
" وإن تزوجت المرأة برجل على أنه صحيح فوجدته خصيا كانت بالخيار... و
على الإمام أن يعزره لئلا يعود إلى مثل ذلك. " (4)
21 - وفي النكاح من الشرائع:
" فإذا كان النشوز منهما وخشي الشقاق بعث الحاكم حكما من أهل الزوج وآخر
من أهل المرأة. " (5)

1 - النهاية للشيخ / 607.
2 - الشرائع 2 / 276.
3 - النهاية للشيخ / 475.
4 - النهاية للشيخ / 487 - 488.
5 - الشرائع 2 / 339.
156

22 - وفي الطلاق من الشرائع:
" ولو لم يكن له (المجنون) ولى طلق عنه السلطان أو من نصبه للنظر في ذلك. " (1)
23 - وفي الطلاق من النهاية:
" فإن طلق الرجل امرأته وهو زائل العقل بالسكر أو الجنون أو المرة أو ما أشبهها
كان طلاقه غير واقع... فإن لم يكن له ولي طلق عنه الإمام أو من نصبه الإمام. " (2)
24 - وفي الظهار من الشرائع:
" العاشرة: إن صبرت المظاهرة فلا اعتراض، وان رفعت أمرها إلى الحاكم خيره
بين التكفير والرجعة أو الطلاق. " (3)
25 - وفي الطلاق من النهاية في حكم الإيلاء:
" فإذا فعل ذلك كانت المرأة بالخيار: إن شاءت صبرت عليه أبدا، وإن شاءت
خاصمته إلى الحاكم، فإن استعدت عليه أنظره الحاكم بعد رفعها إليه أربعة أشهر... و
إن أقام على عضلها والامتناع من وطيها خيره الحاكم...، فإن أبى الرجوع والطلاق
جمعيا وأقام على الإضرار بها حبسه الحاكم في حظيرة من قصب وضيق عليه في
المطعم والمشرب... " (4)
26 - وفي إحياء الموات من الشرائع:
" ولو اقتصر على التحجير وأهمل العمارة أجبره الإمام على أحد الأمرين: إما
الإحياء، وإما التخلية بينها وبين غيره. ولو امتنع أخرجها السلطان من يده

1 - الشرائع 3 / 12.
2 - النهاية للشيخ / 509.
3 - الشرائع 3 / 66.
4 - النهاية للشيخ / 527 - 528.
157

لئلا يعطلها. " (1)
27 - وفي المتاجر من النهاية (باب المزارعة والمساقاة):
" ومن أخذ أرضا ميتة فأحياها كانت له وهو أولى بالتصرف فيها إذا لم يعرف لها
رب، وكان للسلطان طسق الأرض. " (2)
28 - وفي اللقطة من الشرائع:
" وإذا وجد الملتقط سلطانا ينفق عليه استعان به، وإلا استعان بالمسلمين...
الرابعة: إذا كان للمنبوذ مال افتقر الملتقط في الإنفاق عليه إلى إذن الحاكم...
السادسة: عاقلة اللقيط الإمام إذا لم يظهر له نسب... وفي خطأه الدية على الإمام... و
يبرأ لو سلمه (البعير) إلى صاحبه ولو فقده سلمه إلى الحاكم... وإن شاء دفعها (الشاة)
إلى الحاكم ليحفظها أو يبيعها ويوصل ثمنها إلى المالك... الأولى: إذا لم يجد الآخذ
سلطانا ينفق على الضالة أنفق من نفسه ورجع به... ولو كانت (اللقطة) مما لا يبقى
كالطعام قومه على نفسه وانتفع به، وإن شاء دفعه إلى الحاكم... وإن رأى الحاكم
الحظ في بيعه وتعريف ثمنه جاز. " (3)
29 - وفي شهادات النهاية:
" وينبغي للإمام أن يعزز شهود الزور ويشهرهم في أهل محلتهم لكي يرتدع غير
هم عن مثله في مستقبل الأوقات. " (4)
30 - وفي حدود النهاية:
" وإذا زنا اليهودي أو النصراني بأهل ملته كان الإمام مخيرا بين إقامة الحد عليه
بما تقتضيه شريعة الإسلام وبين تسليمه إلى أهل دينه أو دين المرأة ليقيموا عليهم

1 - الشرائع 3 / 275.
2 - النهاية للشيخ / 442 - 443.
3 - الشرائع 3 / 284 - 286، و 289 - 290، و 292.
4 - النهاية للشيخ / 336.
158

الحدود على ما يعتقدونه. " (1)
31 - وفيها أيضا:
" وإذا كان الذي وجب عليه الرجم قد قامت عليه به بينة كان أول من يرجمه
الشهود ثم الإمام ثم الناس. وإن كان قد وجب عليه ذلك بالإقرار كان أول من يرجمه
الإمام ثم الناس. " (2)
32 - وفيها أيضا:
" من وطئ امرأة ميتة... وإن كانت الموطوءة زوجته وجب عليه التعزير دون
الحد الكامل حسب ما يراه الإمام في الحال... ومن نكح بهيمة كان عليه التعزير بما
دون الحد حسب ما يراه الإمام في الحال. " (3)
33 - وفيها أيضا:
" ومن بنج غيره أو أسكره بشيء احتال عليه في شربه أو أكله ثم أخذ ماله عوقب
على فعله ذلك بما يراه الإمام واسترجع عنه ما أخذ... والمحتال على أموال الناس
بالمكر والخديعة وتزوير الكتب والشهادات الزور والرسالات الكاذبة وغير ذلك
يجب عليه التأديب والعقاب وأن يغرم ما أخذ بذلك على الكمال، وينبغي للسلطان
أن يشهره بالعقوبة لكي يرتدع غيره عن فعل مثله. " (4)
34 - وفي الديات من النهاية:
" وإذا أمر إنسان حرا بقتل رجل فقلته المأمور وجب القود على القاتل دون الآمر،
وكان على الإمام حبسه ما دام حيا. " (5)

1 - النهاية للشيخ / 696.
2 - النهاية للشيخ / 700.
3 - النهاية للشيخ / 708.
4 - النهاية للشيخ / 721 - 722.
5 - النهاية للشيخ / 747.
159

35 - وفيها أيضا:
" وإذا قتل الذمي مسلما عمدا دفع برمته هو وجميع ما يملكه إلى أولياء المقتول،
فإن أرادوا قتله كان لهم ذلك ويتولى ذلك عنهم السلطان، وإن أرادوا استرقاقه كان
رقا لهم. " (1)
36 - وفيها أيضا:
" من قلب على رأس إنسان ماءا حارا فامتعط شعره فلم ينبت كان عليه الدية
كاملة، فان نبت ورجع إلى ما كان كان عليه أرشه حسب ما يراه الإمام. " (2)
فهذه بعض المسائل التي استخرجناها من كتابي النهاية والشرائع التي أرجع
فيها الحكم إلى الحاكم، أو الوالي، أو الإمام، أو السلطان أو نحو ذلك، وكان بناؤنا في
ذكر الفتاوى على الاقتصار على الموارد التي لم نتعرض في الفصول السابقة
لرواياتها، وإلا لزادت على ذلك بكثير.
وأنت إذا تتبعت مصنفات الفريقين في الفقه أو في الحديث لا تجد مصنفا إلا و
يوجد فيه هذا السنخ من الأحاديث أو الفتاوى في غاية الكثرة. كما انك لا تجد فقيها
من الفقهاء في عصر من الأعصار أو مصر من الأمصار لم يكن مرجعا لهذا السنخ من
المسائل العامة المرتبطة بقائد المسلمين وإمامهم.
ولم يكن غرضنا استقصاء الروايات والفتاوى، فإنه يتوقف على فراغ واسع
لا يتيسر لي فعلا، بل كان الغرض ذكر نماذج من الأبواب المختلفة، فتدبر.

1 - النهاية للشيخ / 748.
2 - النهاية للشيخ / 764.
160

الفصل الثالث من الباب الثالث
فيما يستدل به لضرورة الحكومة في جميع الأعصار
اعلم أنا قد عقدنا الباب الأول من الكتاب فيما يقتضيه الأصل في مسألة الولاية، و
الباب الثاني في بيان ولاية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين (عليهم السلام)، والباب الثالث لبيان
لزوم الولاية وضرورتها ووجوب الاهتمام بها في جميع الأعصار، وفصلنا هذا
الباب بفصول أربعة:
تعرضنا في الفصل الأول منها لبعض الكلمات المشتملة على ادعاء الإجماع أو الا
تفاق في المسألة.
وفي الفصل الثاني مررنا مرورا اجماليا على الروايات والفتاوى المعلقة فيها
الأحكام على الإمام أو السلطان أو الوالي أو الحاكم أو نحو ذلك مما يستفاد منها
اجمالا كون الولاية والحكومة داخلة في نسج الاسلام ونظامه. وقد اشتمل هذا
الفصل على أربعة عشر فصلا، كما مر.
فالآن نعقد الفصل الثالث من الباب لبيان ما يستدل به على لزوم الحكومة و
ضرورتها في جميع الأعصار ونذكر لذلك عشرة أدلة:
161

الدليل الأول:
انه قد حصلت لنا من السبر الإجمالي للأخبار والفتاوى نتيجتان:
الأولى: ان دين الإسلام ليس كما يزعمه بعض البسطاء السذج من المسلمين، بل
وبعض السذج من علماء الدين أيضا - نتيجة لإلقاءات المستعمرين وعملائهم - ليس
منحصرا في عدة أعمال عبادية وآداب ومراسيم شخصية فقط، بل هو نظام واسع
كافل لجميع ما يحتاج اليه الإنسان ويواجهه في معاشه ومعاده من بدو تكونه إلى
آخر مراحل حياته من المصالح الفردية والاجتماعية، وما يجب أو ينبغي أن يكون
عليه الإنسان في قبال خالقه وعائلته وبيئته، وعلاقاته الاقتصادية والسياسية و
روابط الحاكم والرعية وعلاقته مع سائر الأمم ونحو ذلك.
الثانية: ان الإسلام ليس ينحصر في التقنين والتشريع فقط من دون التفات إلى
القوة المنفذة وشرائطها، بل شرعت أحكامه ومقرراته على أساس الحكومة الصالحة
العادلة التي تقدر على إجراء المقررات وتنفيذها. فاشتبك فيه التقنين والتنفيذ معا و
كانت الحكومة الصالحة المنفذة للقوانين من أهم برامجه وداخلة في نسجه ونظامه،
بنحو يوجب تعطيل الحكومة تعطيل الأحكام وإهمالها. فيجب على المسلمين
الاهتمام بأمر الحكومة. وقد تحصلت لك هاتان النتيجتان من سبر الأخبار والفتاوى
والدقة فيها، كما مر.
ولو فرض المناقشة في استفادة تعين الحكومة من الفتاوى المذكورة فيها ألفاظ
الإمام والحاكم ونحوهما باحتمال ان يكون كلام الفقهاء من باب رعاية الاحتياط و
الأخذ بالمتيقن، إذ الموارد من الأمور الحسبية المطلوبة على كل حال ويجوز لكل
مؤمن التصدي لها وإعمالها، فلا تسري المناقشة إلى الأخبار الكثيرة التي تعرضنا
162

لبعضها، إذ دلالتها على تعين الإمام والحاكم بشرائطه وكونه المرجع في الأمور
مما لا اشكال فيه.
ويشهد لذلك أيضا جميع الآيات القرآنية المشتملة على أحكام سياسية عامة
خوطب بها الجميع مع احتياج تنفيذها إلى القدرة وبسط اليد، كقوله - تعالى -: " إنما
جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع
أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض. الآية. " (1)
وقوله: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله. " (2)
وقوله: " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مأة جلدة. " (3)
وقوله: " وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحديهما على
الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل و
أقسطوا. " (4)
وقوله: " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل، ترهبون به عدو الله و
عدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم، الله يعلمهم. " (5)
وقوله: " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله. " (6)
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الواردة في القتال والدفاع.
إذ هذه الأحكام التي لا ترتبط بشخص خاص ويكون المطلوب أصل وجودها و
تحققها، وإن كانت خوطب بها جميع المسلمين، ولكن حيث يتوقف تنفيذها على
بسط اليد والقدرة فلا محالة يكون المأمور بها والمنفذ لها هو الحاكم الذي يتبلور فيه
جميع الأمة، ويكون ممثلا لهم وبيده القيادة والزعامة.
ويشير إلى هذا المعنى قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " الخير كله في السيف وتحت ظل السيف ولا يقيم

1 - سورة المائدة (5)، الآية 33.
2 - سورة المائدة (5)، الآية 38.
3 - سورة النور (24)، الآية 2.
4 - سورة الحجرات (49)، الآية 9.
5 - سورة الأنفال (8)، الآية 60.
6 - سورة الأنفال (8)، الآية 39.
163

الناس الا السيف. " (1)
إذ السيف كناية عن القوة والقدرة.
والنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا بعد ما هاجر إلى المدينة قد باشر بنفسه إقامة الدولة
الإسلامية وعقد بين الطوائف والقبائل من المسلمين وبينهم وبين يهود المدينة
اتفاقيات ومعاهدات، كما شهدت بذلك التواريخ. وبعث العمال والقضاة والجباة
لأخذ الزكوات وجند الجنود وقاتل المشركين والناقضين للعهود من اليهود و
غيرهم. وقد ضبط المؤرخون وأرباب الحديث عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أكثر من سبعين غزوة و
سرية. وراسل الأمراء والملوك ودعاهم إلى قبول الإسلام والدخول تحت لوائه. و
استمرت هذه السيرة بعده أيضا، كما هو واضح.
وبالجملة نفس تشريعات الإسلام وقوانينه تشهد على لزوم دولة وحكومة
إسلامية تحفظها وتنفذها وعليه كان العمل في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكذا بعده. اللهم إلا
أن يدعى إهمال القوانين ونسخها في عصر الغيبة وان طالت ما طالت، وان الله ترك
عنايته بالإسلام والمسلمين جميعا بسبب غيبة إمام العصر - عجل الله تعالى فرجه
الشريف -، فليتعطل الإسلام وليترك المسلمون مغلوبين مقهورين تحت سلطات
الكفار والجائرين بلا حكومة صالحة حتى يظهر صاحب الأمر (عليه السلام) فيجدد الإسلام من
رأس. فهل يمكن الالتزام بأن هذا حكم الله والتكليف الشرعي؟!
قال السيد الأستاذ، الإمام الخميني - مد ظله العالي - في محاضراته في الحكومة
الإسلامية:
" مجموعة القوانين لا تكفي لإصلاح المجتمع. ولكي يكون القانون مادة لإصلاح و
إسعاد البشر فإنه يحتاج إلى السلطة التنفيذية. لذا فان الله - عز وجل - قد جعل في
الأرض إلى جانب مجموعة القوانين حكومة وجهاز تنفيذ وإدارة. الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)
كان يترأس جميع أجهزة التنفيذ في إدارة المجتمع الإسلامي... وفي

1 - الوسائل 11 / 5، الباب 1 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
164

الحق ان القوانين والأنظمة الاجتماعية بحاجة إلى منفذ. في كل دول العالم لا ينفع
التشريع وحده، ولا يضمن سعادة البشر، بل ينبغي أن تعقب سلطة التشريع سلطة
التنفيذ. فهي وحدها التي تنيل الناس ثمرات التشريع العادل. لهذا قرر الإسلام إيجاد
سلطة التنفيذ إلى جانب سلطة التشريع، فجعل للأمر وليا للتنفيذ إلى جانب تصديه
للتعليم والنشر والبيان. " (1)
أقول: وقد بلغ اهتمام الإسلام بالإمامة والحكومة حدا ورد أنه لو لم يكن في
الأرض إلا اثنان لكان الإمام أحدهما. (2)
ولا يخفى أن الدولة المعتمدة على الفطرة والاعتقاد الديني الثابت في أعماق
القلب أتقن الحكومات وأحكمها، فان الاعتقاد القلبي ضامن لحفظها واحترام
مقرراتها وليس كذلك الحكومات الدارجة المعتمدة على التغلب والقهر، فتدبر.
واعلم أن استيحاش أكثر الناس وتنفرهم من ألفاظ الملك والحكومة والسلطنة و
نحوها إنما هو أمر عارض ناشىء عن ابتلائهم في أكثر الأعصار والأمصار
بالحكومات الظالمة المستبدة أو غير اللائقة لإدارة شؤون الأمة، وإلا فأصل الملك
أمر ممدوح مرغوب فيه عقلا وشرعا، كتابا وسنة إذا كانت الحكومة صالحة عادلة
حائزة لرضا الأمة حافظة لحقوقها ملتزمة بتنفيذ القوانين المقبولة لدى الأمة.
قال الله - تعالى -: " الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا
بالمعروف ونهوا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور. " (3)
وقال في قصة بني إسرائيل: " ان الله قد بعث لكم طالوت ملكا. " (4)

1 - الحكومة الإسلامية / 23.
2 - الكافي 1 / 180، كتاب الحجة، باب أنه لو لم يبق في الأرض إلا رجلان...، الحديث 5.
3 - سورة الحج (22)، الآية 41.
4 - سورة البقرة (2)، الآية 247.
165

وقال: " وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة. " (1)
وقال حكاية عن يوسف: " رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل
الأحاديث. " (2)
وقال: " فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة، وآتيناهم ملكا عظيما. " (3)
وقال حكاية عن سليمان: " رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي. " (4)
وفي داود: " وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب. " (5)
وقال: " وإذ قال موسى لقومه: يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم، إذ جعل فيكم أنبياء و
جعلكم ملوكا. " (6)
إلى غير ذلك من الآيات الدالة على فضل الملك وكونه من أعظم نعم الله على
عباده.
والأخبار في ذلك كثيرة يصعب إحصاؤها. ويكفيك في ذلك ما عن
أمير المؤمنين (عليه السلام): " إمام عادل خير من مطر وابل. " (7)
وعنه أيضا: " أفضل ما من الله سبحانه به على عباده علم وعقل وملك وعدل. " (8)
وعنه أيضا: " ليس ثواب عند الله - سبحانه - أعظم من ثواب السلطان العادل والرجل
المحسن. " (9)

1 - سورة البقرة (2)، الآية 251.
2 - سورة يوسف (12)، الآية 101.
3 - سورة النساء (4)، الآية 54.
4 - سورة ص (38)، الآية 35.
5 - سورة ص (38)، الآية 20.
6 - سورة المائدة (5)، الآية 20.
7 - الغرر والدرر 1 / 386، الحديث 1491.
8 - الغرر والدرر 2 / 439، الحديث 3205.
9 - الغرر والدرر 5 / 90، الحديث 7526.
166

وعن حفص بن عون رفعه، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ساعة إمام عدل (عادل:
خ. ل) أفضل من عبادة سبعين سنة، وحد يقام لله في الأرض أفضل من مطر أربعين
صباحا. " (1)
إلى غير ذلك من الأخبار المروية في كتب الفريقين، فراجع.
وفي مقدمة ابن خلدون:
" واعلم ان الشرع لم يذم الملك لذاته ولا حظر القيام به، وإنما ذم المفاسد الناشئة
عنه من القهر والظلم والتمتع باللذات، ولا شك ان في هذه مفاسد محظورة. " (2)
الدليل الثاني:
ان النظام والحكومة امر ضروري للبشر، وان حياتهم في جميع مراحلها و
أدوارها حتى في العصور الحجرية وفي الغابات لم تخل من قانون وحكومة ما، فإن
الإنسان مدني بالطبع ولا تتم حياته ومعيشته إلا في ظل الاجتماع والتعاون
والمبادلات، وله شهوات وغرائز وميول مختلفة من حب الذات والمال والجاه و
الحرية المطلقة في جميع ما يريده ويهواه، ولا محالة يقع التزاحم والصراع و
التضارب بين الأفكار والأهواء فلابد له من قوانين ومقررات، ومن قوة وقدرة
نافذة محددة منفذة للمقررات حافظة للنظام ومانعة من التعدي والتكالب وحافظة
للثغور والأطراف. ولا نعني بالحكومة والولاية إلا هذه. بل الحيوانات أيضا تحتاج
إلى نحو من هذا النظم والقدرة، كما نشاهد ذلك في أنواع النمل والنحل ونحوهما.
ولو فرض محالا أو نادرا تحقق الرشد الأخلاقي والثقافة الكاملة في جميع أفراد
البشر والتناصف والإيثار بينهم، فالاحتياج إلى نظام يدبر أمورهم الاجتماعية و
يؤمن حاجاتهم من جلب الأرزاق وتأمين الأمور الصحية والتعليم والتربية

1 - الوسائل 18 / 308، الباب 1 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 5.
2 - مقدمة ابن خلدون / 135 (= طبعة أخرى / 192)، الفصل 26 من الفصل 3 من الكتاب الأول.
167

والمواصلات والمخابرات وإيجاد الطرق والشوارع وسائر المؤسسات الرفاهية و
جباية الضرائب لتأمينها مما لا يقبل الإنكار. ولا يختص هذا بمصر دون مصر أو عصر
دون عصر أو ظرف دون ظرف.
فما عن أبي بكر الأصم من عدم الاحتياج إلى الحكومة إذا تناصفت الأمة ولم
تتظالم، وما عن ماركس من عدم الاحتياج إليها بعد تحقق الكمون المترقي للبشر و
ارتفاع الاختلاف الطبقي بينهم واضح الفساد.
قال ابن أبي الحديد في شرح الخطبة الأربعين من نهج البلاغة:
" قال المتكلمون: الإمامة واجبة إلا ما يحكى عن أبي بكر الأصم من قدماء
أصحابنا انها غير واجبة إذا تناصفت الأمة ولم تتظالم... فأما طريق وجوب الإمامة
ما هي فإن مشايخنا البصريين يقولون: طريق وجوبها الشرع وليس في العقل ما يدل
على وجوبها. وقال البغداديون وأبو عثمان الجاحظ من البصريين وشيخنا
أبو الحسين ان العقل يدل على وجوب الرياسة. وهو قول الامامية. " (1)
وكيف كان فالإمامة بالمعنى الأعم ضرورة للبشر في جميع الأعصار، وبقاء
الأمة ببقاء الإمامة. فلا يجوز للشارع الحكيم اللطيف بالأمة الإسلامية إهمال هذه
المهمة وعدم تعيين وظيفة المسلمين بالنسبة إلى أصلها وشرائطها وحدودها حتى
بالنسبة إلى عصر الغيبة، لعدم تفاوت الأزمنة في ذلك.
وفي موثقة أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " خطب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في
حجة الوداع فقال: " يا أيها الناس، والله ما من شئ يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلا
وقد أمرتكم به. وما من شئ يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلا وقد نهيتكم عنه.
الحديث. " (2)
وفي صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام):

1 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2 / 308.
2 - الكافي 2 / 74، كتاب الإيمان والكفر باب الطاعة والتقوى، الحديث 2.
168

" الحمد الله الذي لم يخرجني من الدنيا حتى بينت للأمة جميع ما تحتاج اليه. " (1)
وقد عقد الكليني في أصول الكافي بابا سماه: " باب الرد إلى الكتاب والسنة، و
انه ليس شئ من الحلال والحرام وجميع ما يحتاج الناس اليه إلا وقد جاء فيه كتاب
أو سنة "، وذكر في هذا الباب روايات كثيرة:
منها: خبر مرازم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " ان الله - تبارك وتعالى - أنزل في
القرآن تبيان كل شئ، حتى والله ما ترك الله شيئا يحتاج اليه العباد، حتى لا يستطيع عبد
يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن، إلا وقد أنزله الله فيه. " (2)
ومنها: خبر عمر بن قيس، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: " ان الله - تبارك و
تعالى - لم يدع شيئا يحتاج اليه الأمة إلا أنزله في كتابه وبينه لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وجعل لكل شي
حدا وجعل عليه دليلا يدل عليه وجعل على من تعدى ذلك الحد حدا. " (3)
فعليك بالدقة في لفظ الأمة، وهل تبقى الأمة بلا دولة وإمامة؟
ومنها: خبر سليمان، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " ما خلق الله حلالا ولا حراما
إلا وله حد كحد الدار، فما كان من الطريق فهو من الطريق، وما كان من الدار فهو من الدار
حتى أرش الخدش فما سواه، والجلدة ونصف الجلدة. " (4)
ومنها: خبر حماد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: " ما من شئ إلا وفيه
كتاب أو سنة. " (5)
ومنها: خبر معلى بن خنيس، قال: قال أبو عبد الله: " ما من أمر يختلف فيه اثنان إلا

1 - التهذيب 6 / 319، باب في الزيادات في القضايا والأحكام، الحديث 86.
2 - الكافي 1 / 59، الحديث 1.
3 - الكافي 1 / 59، الحديث 2.
4 - الكافي 1 / 59، الحديث 3.
5 - الكافي 1 / 59، الحديث 4.
169

وله أصل في كتاب الله - عز وجل - ولكن لا تبلغه عقول الرجال. " (1) إلى غير ذلك من
الأخبار.
فإذا فرض أن الإسلام لم يهمل مثل أرش الخدش والجلدة ونصف الجلدة فكيف
يهمل ما فيه نظام أمر الأمة بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو في عصر الغيبة؟!
إن قيم قرية صغيرة إذا أراد أن يسافر سفرا موقتا فهو بطبعه ووجدانه يعين مرجعا
للأمور يرجع اليه في غيابه، فهل كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو عقل الكل أقل التفاتا وحرصا
على حفظ الإسلام الذي صرف فيه طاقاته وطاقات المسلمين مدى عمره الشريف؟!
وقد ورد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) في أهمية الوصايا الشخصية بالنسبة إلى أموال وأمور جزئية
انه قال: " من مات بغير وصية مات ميتة جاهلية. " (2)
وقال: " ما حق امرئ مسلم أن يبيت ليلتين وله شئ يوصى فيه إلا ووصيته مكتوبة
عنده. " (3)
فهل لم يكن أهمية حفظ الإسلام وبسطه وتنفيذ مقرراته إلى يوم القيامة في نظر
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمقدار أهمية الوصايا الشخصية في الأمور الجزئية؟!
وقد ورد من طرق الفريقين أن قوله - تعالى -: " يا أيها الرسول، بلغ ما أنزل إليك من
ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته، والله يعصمك من الناس " (4) قد نزلت في قصة الغدير
ونصب أمير المؤمنين (عليه السلام):
منها: ما في الدر المنثور:
" أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري، قال:
نزلت هذه الآية: " يا أيها الرسول، بلغ ما انزل إليك من ربك " على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)

1 - الكافي 1 / 60، الحديث 6.
2 - الوسائل 13 / 352، الباب 1 من أبواب أحكام الوصايا، الحديث 8.
3 - سنن ابن ماجة 2 / 901، كتاب الوصايا، الباب 2، الحديث 2699.
4 - سورة المائدة (5)، الآية 47.
170

يوم غدير خم في علي بن أبي طالب. " (1)
وفي خبر عمران بن حصين عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما تريدون من علي، ما تريدون من على.
ما تريدون من على؟ إن عليا مني وأنا منه، وهو ولى كل مؤمن من بعدي. " (2)
ولا يخفى ان قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من بعدي " ينفي احتمال كون الولاية بمعنى المحبة، و
يعين كونها بمعنى الإمامة. وقد مر تفصيل ذلك في الباب الثاني.
وقد تواتر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) من طرق الفريقين حديث الثقلين المشتمل على إرجاع الأمة
بعده إلى الكتاب والعترة وإيجاب التمسك بهما، فراجع مظانه. ويظهر بذلك الحديث
كون العترة أعلم الناس وأفقههم، وسيجئ بيان أن الأعلم متعين للإمامة.
وبالجملة، الحكومة والإمامة وحفظ النظام ضرورة للبشر في جميع الأعصار.
فلا يظن بالشارع الحكيم إهمالها وعدم التعرض لها ولحدودها وشروطها. و
ما ذكرناه إلى هنا يكفي لإثبات المطلوب، فليجعل الأخبار والأدلة الآتية مؤيدات أو
مؤكدات فلا يضرنا ضعف بعضها من جهة السند، فتدبر.
الدليل الثالث:
ما رواه الصدوق في العيون والعلل عن عبد الواحد بن محمد بن عبدوس
النيسابوري، عن أبى الحسن علي بن محمد بن قتيبة النيسابوري، عن الفضل بن
شاذان ورواه أيضا عن أبي محمد جعفر بن نعيم بن شاذان، عن عمه أبي عبد الله
محمد بن شاذان، عن الفضل بن شاذان في حديث طويل في العلل وفيه: " فان

1 - الدر المنثور 2 / 298.
2 - سنن الترمذي 5 / 296، باب مناقب علي بن أبي طالب من أبواب المناقب، الحديث 3796.
171

قال: فلم جعل أولي الأمر وأمر بطاعتهم؟ قيل: لعلل كثيرة:
منها: ان الخلق لما وقفوا على حد محدود وأمروا أن لا يتعدوا ذلك الحد لما فيه من
فسادهم لم يكن يثبت ذلك ولا يقوم إلا بأن يجعل عليهم فيه أمينا يمنعهم من التعدي
والدخول فيما حظر عليهم. لأنه لو لم يكن ذلك كذلك لكان أحد لا يترك لذته ومنفعته لفساد
غيره. فجعل عليهم قيما يمنعهم من الفساد ويقيم فيهم الحدود والأحكام.
ومنها: أنا لا نجد فرقة من الفرق ولا ملة من الملل بقوا وعاشوا الا بقيم ورئيس لما لابد
لهم منه في أمر الدين والدنيا فلم يجز في حكمة الحكيم أن يترك الخلق مما يعلم انه لابد
لهم منه ولا قوام لهم إلا به فيقاتلون به عدوهم ويقسمون به فيئهم ويقيم لهم جمعتهم و
جماعتهم ويمنع ظالمهم من مظلومهم.
ومنها: انه لو لم يجعل لهم إماما قيما أمينا حافظا مستودعا لدرست الملة وذهب الدين و
غيرت السنة (السنن - العلل) والأحكام، ولزاد فيه المبتدعون ونقص منه الملحدون و
شبهوا ذلك على المسلمين. لأنا قد وجدنا الخلق منقوصين محتاجين غير كاملين مع
اختلافهم واختلاف أهوائهم وتشتت أنحائهم (حالاتهم - العلل.) فلو لم يجعل لهم قيما حافظا
لما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لفسدوا على نحو ما بينا وغيرت الشرائع والسنن والأحكام و
الايمان وكان في ذلك فساد الخلق أجمعين. الحديث. " (1)
وفي آخر الحديث ان علي بن محمد بن قتيبة قال للفضل بن شاذان:
" أخبرني عن هذه العلل ذكرتها عن الاستنباط والاستخراج وهي من نتائج العقل
أو هي مما سمعته ورويته؟ فقال لي: ما كنت لأعلم مراد الله - عز وجل - بما فرض
ولا مراد رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بما شرع وسن ولا أعلل ذلك من ذات نفسي، بل سمعتها من
مولاي أبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) المرة بعد المرة والشيء بعد الشئ
فجمعتها. فقلت: فأحدث بها عنك عن الرضا (عليه السلام)؟ قال: نعم. " وقال لمحمد بن شاذان:
" سمعت هذه العلل من مولاي أبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) متفرقة فجمعتها و
ألفتها. " (2)

1 - عيون اخبار الرضا (من نسخة مخطوطة مصححة)، الباب 34، الحديث 1، وعلل الشرائع
1 / 95 (= طبعة اخرى 1 / 253)، الباب 182، الحديث 9.
2 - عيون أخبار الرضا 2 / 121، الحديث 2 و 3.
172

أقول: قال الشيخ في الفهرست:
" الفضل بن شاذان النيشابوري فقيه متكلم جليل القدر، له كتب ومصنفات. " (1)
وعده في رجاله من أصحاب الهادي والعسكري - عليهما السلام - وأباه شاذان
من أصحاب الجواد (عليه السلام) (2).
وفي تنقيح المقال عن النجاشي:
" له جلالة في هذه الطائفة، وهو في قدره أشهر من أن نصفه. "
وعن الكشي:
انه صنف مأة وثمانين كتابا. (3)
وبالجملة التشكيك في الفضل بلا وجه مع ما فيه من كثرة الفضل.
واما عبد الواحد وابن قتيبة فمختلف فيها:
وثقهما بعض ومدحهما آخرون وضعفهما بعض. (4)
ويظهر من الصدوق الاعتماد عليهما. وكذا جعفر بن نعيم (5)، فإنه يروى عنه
مترضيا عليه.
وأما محمد بن شاذان فعده ابن طاووس من وكلاء الناحية المقدسة. قالوا:
وكفى هذا في وثاقته (6).
نعم، هنا شئ وهو أن الفضل على ما ذكره الشيخ في رجاله من أصحاب الهادي و
العسكري (عليهما السلام) فكيف روى عن الرضا (عليه السلام)؟! اللهم الا ان يقال: ان اشتهاره كان في عصر
هما، ولا ينافي ذلك كونه مدركا للرضا (عليه السلام) في عهد شبابه وكان ممن يحضر مجلسه (عليه السلام)
في خراسان ويستفيد من كلماته الشريفة.
وعن الكشي:

1 - الفهرست للشيخ / 124. (ط. أخرى / 150).
2 - رجال الشيخ / 420 و 434 و 402.
3 - تنقيح المقال 2 / 9 من باب الفاء.
4 - تنقيح المقال 2 / 233 و 2 / 308.
5 - تنقيح المقال 1 / 228.
6 - تنقيح المقال 3 / 130.
173

انه يروي عن جماعة، وعد منهم ابن أبي عمير وصفوان وابن محبوب وابن بزيع
من الطبقة السادسة أصحاب الرضا (عليه السلام) (1).
فلا مانع من روايته عنه (عليه السلام) أيضا. وقد توفي هو في سنة 260، والإمام الثامن -
عليه السلام - في سنة اثنتين أو ثلاث أو ست بعد المأتين. هذا ما يرتبط بسند الحديث
إجمالا.
وأما فقه الحديث فالظاهر أن موضوع سؤال السائل هو إمامة الأئمة الاثني عشر،
ولكن عموم التعليلات الواقعة في كلام الإمام (عليه السلام) يشمل جميع الأعصار. فيدل
الحديث الشريف على لزوم الحكومة في عصر الغيبة أيضا.
فحكمة وجود الإمام وفائدته على ما ذكره الإمام (عليه السلام) كثيرة، ذكر منها ثلاثة:
الأولى: إجراء أحكام الإسلام والمنع عن التعدي عنها. الثانية: كون وجود الإمام
ضروريا للناس في حياتهم وعيشتهم الدينية والدنيوية. الثالثة: كونه حافظا للأحكام
عن التغيير والتحريف والاندراس.
فنقول: هل لا توجد هذه العلل الثلاث في عصر الغيبة؟ وهل يصير الناس في
عصر الغيبة ملائكة لا يحتاجون إلى قيم ينظم أمورهم ويمنع ظالمهم من مظلومهم و
يقاتلون به عدوهم ويمنعهم من التعدي والدخول فيما حظر عليهم؟!
الدليل الرابع:
ما في نهج البلاغة، قال: ومن كلام له - عليه السلام - في الخوارج لما سمع
قولهم: " لاحكم الا لله "، قال - عليه السلام -: " كلمة حق يراد بها الباطل. نعم، انه
لاحكم إلا لله ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة إلا لله وانه لابد للناس من أمير بر أو فاجر،

1 - تنقيح المقال 2 / 11 من باب الفاء، واختيار معرفة الرجال / 543.
174

يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر ويبلغ الله فيها الأجل ويجمع به الفىء و
يقاتل به العدو وتأمن به السبل ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح بر ويستراح من
فاجر. "
وفي رواية أخرى: انه - عليه السلام - لما سمع تحكيمهم قال: " حكم الله انتظر
فيكم "، وقال: " أما الإمرة البرة فيعمل فيها التقى، وأما الإمرة الفاجرة فيتمتع فيها الشقي
إلى ان تنقطع مدته وتدركه منيته. " (1) انتهى ما في نهج البلاغة.
وقال المبرد في الكامل: " ولما سمع على (عليه السلام) نداءهم لاحكم إلا لله، قال: كلمة
عادلة يراد بها جور. إنما يقولون لا إمارة، ولابد من إمارة برة أو فاجرة. " (2)
وفي كنز العمال عن البيهقي، عن على (عليه السلام) قال: " لا يصلح الناس الا أمير بر أو فاجر.
قالوا: يا أمير المؤمنين، هذا البر فكيف بالفاجر؟ قال: ان الفاجر يؤمن الله به السبيل و
يجاهد به العدو ويجبى به الفيء ويقام به الحدود ويحج به البيت ويعبد الله فيه المسلم آمنا
حتى يأتيه أجله. " (3)
وفي مصنف ابن أبي شيبة بسنده عن أبي البختري، قال: دخل رجل المسجد فقال:
لاحكم إلا لله، فقال على (عليه السلام): " لاحكم الا لله، ان وعد الله حق ولا يستخفنك الذين
لا يوقنون. فما تدرون ما يقول هؤلاء؟ يقولون: لا إمارة. أيها الناس، انه لا يصلحكم الا أمير بر
أو فاجر. قالوا: هذا البر قد عرفناه فما بال الفاجر؟ فقال: يعمل المؤمن ويملى للفاجر و
يبلغ الله الأجل وتأمن سبلكم وتقوم أسواقكم ويقسم فيئكم ويجاهد عدوكم ويؤخذ
للضعيف من القوى أو قال من الشديد منكم. " (4)
ورواه عنه في كنز العمال (5).

1 - نهج البلاغة، فيض / 125; عبده 1 / 87; لح / 82، الخطبة 40.
2 - الكامل في اللغة والأدب للمبرد 2 / 131.
3 - كنز العمال 5 / 751، الباب الثاني من كتاب الخلافة، الحديث 14286.
4 - المصنف 15 / 328، كتاب الجمل، الحديث 19777.
5 - كنز العمال 11 / 319، كتاب الفتن من قسم الأفعال، الحديث 31618.
175

أقول: قول الخوارج: " لاحكم إلا لله " كان شعارا اتخذوه في صفين واستمر منهم
بعد ذلك. وحقية ذلك من جهة ان الله - تعالى - إذا أراد شيئا وقع لا محالة لا راد لحكمه
ولا دافع لقضائه، فيراد بالحكم الحكم التكويني، أو من جهة ان الله - تعالى - هو
شارع الأحكام وجاعلها وأن حكم الأمير الحق أيضا يرجع إلى حكم الله لتطبيقه
الأحكام الكلية على الموارد أو لإيجاب الله - تعالى - إطاعته.
وأما إرادتهم الباطل فلقصدهم إبطال جعل الحكمين وتفويض الأمر اليهما شرعا،
وإنكار إمارة أمير المؤمنين (عليه السلام) ولذا قالوا له في صفين: " الحكم لله يا علي لا لك " (1).
وقوله (عليه السلام): " أو فاجر " لا يريد به شرعية إمارة الفاجر، بل بيان تقدمها عقلا على
الهرج والمرج.
وفي شرح ابن ميثم البحراني عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " الإمام الجائر خير من الفتنة. "
وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا: " ان الله ليؤيد هذا الدين بقوم لا خلاق لهم في الآخرة. " وروي:
" بالرجل الفاسق. " (2)
وفي الغرر والدرر للآمدي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " وال ظلوم غشوم خير من فتنة
تدوم. " (3)
وفي البحار عن كنز الكراجكي، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " أسد حطوم خير من سلطان
ظلوم، وسلطان ظلوم خير من فتن تدوم. " (4)
وقوله (عليه السلام): " يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر " يحتمل فيه اللف والنشر
المرتب، ويحتمل رجوع الجميع إلى الإمرة الفاجرة، ويحتمل رجوع الجميع إلى
مطلق الإمرة، ويحتمل أن يراد بقوله: " يعمل في إمرته المؤمن " صيرورة المؤمن عاملا
من قبله

1 - وقعة صفين / 513.
2 - شرح نهج البلاغة لابن ميثم 2 / 103.
3 - الغرر والدرر 6 / 236، الحديث 10109.
4 - بحارالأنوار 72 / 359 (= طبعة إيران 75 / 359)، الباب 81 من كتاب العشرة، الحديث 74.
176

فيعدل في الرعية، كما اتفق لعلى بن يقطين في إمارة هارون.
وقوله: " يستريح بر " أي بما ذكر من الأمور أو بموته. وقوله: " يستراح من فاجر " أي بما
ذكر أو بموت الفاجر أو عزله.
والظاهر ان كلمة " تحكيمهم " مصدر جعلي يراد به قولهم: " لاحكم الا لله " كلفظ
التهليل مثلا.
وكيف كان فدلالة الحديث على لزوم الدولة وضرورتها في جميع الأعصار و
الأمصار واضحة لا ريب فيها. ولا يجوز للناس ترك الاهتمام بها، بل يجب تحقيقها
وإطاعتها وتأييدها بشرائطها، فتدبر.
الدليل الخامس:
ما في المحكم والمتشابه، عن تفسير النعماني، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: " والأمر و
النهي وجه واحد، لا يكون معنى من معاني الأمر إلا ويكون بعد ذلك نهي، ولا يكون وجه من
وجوه النهي إلا ومقرون به الأمر. قال الله - تعالى -: " يا أيها الذين آمنوا، استجيبوا لله و
للرسول إذا دعاكم لما يحييكم. " (1) فأخبر - سبحانه - ان العباد لا يحيون إلا بالأمر و
النهي، كقوله - تعالى -: " ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب. " (2) ومثله قوله -
تعالى -: " اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير. " (3) فالخير هو سبب البقاء
والحياة.
وفي هذا أوضح دليل على انه لابد للأمة من إمام يقوم بأمرهم فيأمرهم وينهاهم ويقيم
فيهم الحدود ويجاهد فيهم العدو ويقسم الغنائم ويفرض الفرائض ويعرفهم أبواب ما فيه
صلاحهم ويحذرهم ما فيه مضارهم، إذ كان الأمر والنهي أحد أسباب بقاء الخلق وإلا سقطت
الرغبة

1 - سورة الأنفال (8)، الآية 24.
2 - سورة البقرة (2)، الآية 179.
3 - سورة الحج (22)، الآية 77.
177

والرهبة ولم يرتدع، ولفسد التدبير وكان ذلك سببا لهلاك العباد. فتمام أمر البقاء والحياة
في الطعام والشراب والمساكن والملابس والمناكح من النساء والحلال والحرام الأمر و
النهي، إذ كان - سبحانه - لم يخلقهم بحيث يستغنون عن جميع ذلك ووجدنا أول المخلوقين
وهو آدم - عليه السلام - لم يتم له البقاء والحياة الا بالأمر والنهي. الحديث. " (1)
ودلالة الرواية على لزوم إمام وحاكم متصد للأمر والنهي وإجراء الأحكام في
جميع الأعصار، وأن بقاء الخلق متوقف على ذلك واضحة.
واعلم ان المحدث المجلسي - طاب ثراه - نقل جميع الكتاب في كتاب القرآن من
البحار. (2) وظاهره كون جميع الكتاب رواية عن أمير المؤمنين (عليه السلام) وذكر ذلك في أول
البحار أيضا. وقال في كتاب القرآن بعد نقل الكتاب انه وجد رسالة قديمة منسوبة في
أولها إلى سعد الأشعري، ذكر فيها مطالب هذا الكتاب مروية عن أمير المؤمنين (عليه السلام)
ولكنه غير فيها الترتيب وزيد فيها بعض الأخبار (3).
هذا ولكن سبك الكتاب ربما يشهد بكونه من مؤلفات أحد علمائنا مازجا كلامه
بالروايات. ويشتمل الكتاب على أمور لا يمكن الأخذ بها، فراجع وتأمل جيدا.
الدليل السادس:
ما في كتاب سليم بن قيس الهلالي في جواب كتاب معاوية حيث طلب من
أمير المؤمنين (عليه السلام) قتلة عثمان ليقتلهم " فلما قرأ على (عليه السلام) كتاب معاوية وبلغه أبو الدرداء
وأبو هريرة رسالته ومقالته قال على - عليه السلام - لأبي الدرداء:

1 - المحكم والمتشابه / 50، وبحار الأنوار 90 / 40 (= طبعة إيران 93 / 40). واعتمدنا في النقل
على البحار، لأنه أصح ظاهرا، فراجع. وفي نسخة البحار " يجاهد العدو " بدل " يجاهد فيهم العدو "
و " في امر " بدل " فتمام امر " و " والامر والنهي إذ كان " بدل " الأمر والنهي إذ كان ".
2 - بحار الأنوار 90 / 1 - 97 (= طبعة إيران 93 / 1 - 97)، الباب 128 من كتاب القرآن.
3 - بحارالأنوار 90 / 97 (= طبعة إيران 93 / 97).
178

قد بلغتماني ما أرسلكما به معاوية، فاسمعا مني ثم أبلغاه عني وقولا له: ان عثمان بن عفان لا يعدو
أن يكون أحد رجلين: إما إمام هدى حرام الدم واجب النصرة لا تحل معصيته ولا يسع الأمة خذلانه،
أو إمام ضلالة حلال الدم لا تحل ولايته ولا نصرته، فلا يخلو من احدى الخصلتين.
والواجب في حكم الله وحكم الإسلام على المسلمين بعدما يموت إمامهم أو يقتل، ضالا
كان أو مهتديا، مظلوما كان أو ظالما، حلال الدم أو حرام الدم، أن لا يعملوا عملا ولا يحدثوا
حدثا ولا يقدموا يدا ولا رجلا ولا يبدؤوا بشيء قبل أن يختاروا لأنفسهم إماما عفيفا عالما ورعا
عارفا بالقضاء والسنة يجمع أمرهم ويحكم بينهم ويأخذ للمظلوم من الظالم حقه ويحفظ
أطرافهم ويجبى فيئهم ويقيم حجتهم (حجهم وجمعتهم - البحار) ويجبى صدقاتهم ثم
يحتكمون اليه في إمامهم المقتول ظلما ليحكم بينهم بالحق. فإن كان إمامهم قتل مظلوم
حكم لأوليائه بدمه، وان كان قتل ظالما نظر كيف الحكم في ذلك.
هذا أول ما ينبغي (1) أن يفعلوه ان يختاروا إماما يجمع أمرهم إن كانت الخيرة لهم و
يتابعوه ويطيعوه، وإن كانت الخيرة إلى الله - عز وجل - والى رسوله فان الله قد كفاهم النظر
في ذلك والاختيار، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد رضي لهم إماما وأمرهم بطاعته واتباعه، وقد
بايعني الناس بعد قتل عثمان وبايعني المهاجرون والأنصار بعد ما تشاوروا في ثلاثة أيام،
وهم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان وعقدوا إمامتهم. ولي ذلك أهل بدر والسابقة من
المهاجرين والأنصار، غير أنهم بايعوهم قبلي على غير مشورة من العامة وإن بيعتي كانت
بمشورة من العامة، فان كان الله - جل اسمه - جعل الاختيار إلى الأمة وهم الذين يختارون و
ينظرون لأنفسهم، واختيارهم لأنفسهم ونظرهم لها خير لهم من اختيار الله ورسوله لهم،
وكان من اختاروه وبايعوه بيعته بيعة هدى وكان إماما واجبا على الناس طاعته ونصرته، فقد
تشاوروا في واختاروني بإجماع منهم. وان كان الله - عز وجل - الذي يختار و له الخيرة فقد
اختارني للأمة واستخلفني عليهم وأمرهم بطاعتي ونصرتي في كتابه المنزل وسنة
نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم). فذلك أقوى لحجتي وأوجب لحقي. الحديث. " (2)
ودلالة الخبر على لزوم الإمامة وضرورتها في كل عصر، ووجوب اهتمام الناس

1 - وفي البحار:... كيف الحكم في هذا. وإن أول ما ينبغي....
2 - كتاب سليم بن قيس / 182، وبحار الأنوار 8 / 555 من ط. القديم، الباب 49 من كتاب ما وقع
من الجور....
179

بها وتقديمها على كل أمر واضحة. غاية الأمر انه ان كان الإمام معينا من قبل الله -
تعالى - كما هو معتقدنا بالنسبة إلى الأئمة الاثني عشر، وجب التسليم له وتأييده، و
إلا وجب على الناس اختياره وتعيينه ليجمع أمرهم ويحكم بينهم إلى آخر ما ذكره. و
تعطيلها في عصر الغيبة مساوق لتعطيل ما رتبه عليها من الآثار، وهو عبارة أخرى
عن تعطيل الإسلام، ولا يرضى به الله - تعالى - قطعا.
وفي الخبر دلالة على ما سنذكره في الباب الخامس من أن الإمامة لا تنعقد إلا
بوجهين: إما النصب من الطرف العالي، أو الانتخاب من قبل الأمة، وان الأول مقدم
بحسب الرتبة على الثاني.
نعم، هنا كلام في صحة الكتاب المنسوب إلى سليم.
ففي فهرست الشيخ الطوسي " ره ":
" سليم بن قيس الهلالي يكنى أبا صادق، له كتاب أخبرنا به ابن أبي جيد، عن محمد بن
الحسن بن الوليد، عن محمد بن أبي القاسم الملقب ما جيلويه، عن محمد بن علي الصيرفي،
عن حماد بن عيسى وعثمان بن عيسى، عن ابان بن أبى عياش، عنه. ورواه حماد بن عيسى،
عن إبراهيم بن عمر اليماني، عنه. " (1)
ويظهر منه ان حمادا قد يروي الكتاب عن أبان بلا واسطة، وقد يروى عنه بواسط
إبراهيم بن عمر اليماني.
وفي فهرست ابن النديم:
" قال محمد بن إسحاق: من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) سليم بن قيس الهلالي. وكان
هاربا من الحجاج، لأنه طلبه ليقتله فلجأ إلى أبان بن أبي عياش فآواه، فلما حضرته الوفاة قال
لأبان: ان لك علي حقا وقد حضرتني الوفاة. يا ابن أخي، انه كان من امر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كيت
وكيت، وأعطاه كتابا وهو كتاب سليم بن قيس الهلالي المشهور. رواه عنه أبان بن أبى
عياش. لم يروه عنه غيره. " (2)

1 - الفهرست للشيخ / 81 (طبعة أخرى / 107).
2 - الفهرست لابن النديم / 321 (= طبعة أخرى / 275)، الفن الخامس من المقالة السادسة.
180

وروى الكشي أن أبانا زعم أنه قرأ الكتاب على علي بن الحسين فقال (عليه السلام):
" صدق سليم. رحمة الله عليه. هذا حديث نعرفه. " وفي رواية أخرى: " قال أبان فقدر
لي بعد موت علي بن الحسين اني حججت فلقيت أبا جعفر محمد بن علي (عليهما السلام)
فحدثت بهذا الحديث كله... قال: " صدق سليم... " (1)
وفي غيبة النعماني:
" ليس بين جميع الشيعة ممن حمل العلم ورواه عن الأئمة (عليهم السلام) خلاف في أن كتاب سليم
بن قيس الهلالي أصل من أكبر كتب الأصول التي رواها أهل العلم وحملة حديث
أهل البيت (عليهم السلام) وأقدمها، لأن جميع ما اشتمل عليه هذا الأصل انما هو عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و
أمير المؤمنين والمقداد وسلمان الفارسي وأبي ذر ومن جرى مجراهم ممن شهد
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين وسمع منهما، وهو من الأصول التي ترجع الشيعة إليها و
يعول عليها. " (2)
ويظهر من الكليني أيضا الاعتماد على الكتاب، حيث روى في الكافي روايات
كثيرة منه، وقال في ديباجة الكافي: " بالآثار الصحيحة عن الصادقين (عليهما السلام). "
وفي مسند احمد بن حنبل أيضا ذكر لهذا الكتاب ولكن فيه: " سليمان بن قيس "
فروى احمد حديثا عن أبي عوانة، عن أبي بشر، عن سليمان بن قيس، عن جابر ثم
قال:
" قال أبو عوانة فحدثت ان أبا بشر قال: كان في كتاب سليمان بن قيس. " (3) هذا.
ولكن قد عرفت ان الراوي للكتاب هو أبان فقط، وفي رجال الشيخ:
" أبان بن أبي عياش فيروز، تابعي ضعيف. " (4)

1 - اختيار معرفة الرجال / 104 - 105.
2 - الغيبة للنعماني / 61، (= طبعة أخرى / 101)، الباب 4 (باب ما روي في أن الأئمة اثنا عشر
إماما)، ذيل الحديث 30.
3 - مسند أحمد 3 / 332.
4 - رجال الشيخ / 106.
181

وقال المفيد في آخر تصحيح الاعتقاد:
" وأما ما تعلق به أبو جعفر " ره " من حديث سليم الذي رجع فيه إلى الكتاب
المضاف اليه برواية أبان بن أبي عياش فالمعنى فيه صحيح غير ان هذا الكتاب غير
موثوق به، ولا يجوز العمل على أكثره. وقد حصل فيه تخليط وتدليس، فينبغي
للمتدين ان يجتنب العمل بكل ما فيه ولا يعول على جملته. " (1)
وعن ابن الغضائري:
" الكتاب موضوع لامرية فيه، وعلى ذلك علامات شافية تدل على ما ذكرناه: منها
ما ذكر أن محمد بن أبي بكر وعظ أباه عند الموت، ومنها أن الأئمة (عليهم السلام) ثلاثة عشر، و
غير ذلك. " (2)
وغرض ابن الغضائري ان محمدا ولد في حجة الوداع ومدة خلافة أبيه سنتان
وأشهر، فلا يعقل وعظه له. هذا.
ولكن عن الشهيد الثاني:
" ان الذي رأيت من نسخة الكتاب ان عبد الله بن عمر وعظ أباه، وان الأئمة من
ولد إسماعيل ثلاثة عشر، وهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الاثنا عشر. فلا محذور في
هذين. "
فهذا بعض الكلام في هذا الكتاب. وعلى أي حال فالاعتماد عليه في إثبات
الحكم الشرعي مشكل، اللهم الا للتأييد، فتدبر.
الدليل السابع:
نتيجة صغرى وكبرى كلية يستفاد كل منهما من نصوص كثيرة:

1 - تصحيح الاعتقاد / 126.
2 - تنقيح المقال 2 / 52.
182

فالصغرى هي أن الإسلام يدعو المسلمين إلى التجمع والمرابطة والتشكل و
توحيد الكلمة، وينهى عن الرهبنة والعزلة وعن التشتت والفرقة.
والكبرى أن الإمامة هي نظام الأمة وجامعة شتاتها وحافظة وحدتها.
اما الصغرى فيدل عليها آيات وأخبار كثيرة بل متواترة اجمالا:
منها قوله - تعالى -: " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، واذكروا نعمت الله عليكم
إذ كنتم أعداءا فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا. " (1)
ومنها قوله: " إنما المؤمنون إخوة. " (2)
ومنها قوله: " يا أيها الذين آمنوا، اصبروا وصابروا ورابطوا. " (3)
ومنها قوله - تعالى -: " يا أيها الذين آمنوا، ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات
الشيطان. " (4)
إلى غير ذلك من الآيات الداعية إلى وحدة الأمة.
ومن الأخبار ما رواه ابن أبي يعفور، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
" ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله والنصيحة لأئمة المسلمين
واللزوم لجماعتهم، فان دعوتهم محيطة من ورائهم. المسلمون إخوة تتكافأ دماؤهم ويسعى
بذمتهم أدناهم. " (5)
وما رواه الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " من فارق جماعة المسلمين قيد شبر فقد

1 - سورة آل عمران (3)، الآية 103.
2 - سورة الحجرات (49)، الآية 10.
3 - سورة آل عمران (3)، الآية 200.
4 - سورة البقرة (2)، الآية 208.
5 - الكافي 1 / 403، كتاب الحجة، باب ما أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنصيحة...، الحديث 1.
183

خلع ربقة الإسلام من عنقه. " (1)
وعنه عن أبي عبد الله (عليه السلام) أيضا قال: " من فارق جماعة المسلمين ونكث صفقة الإمام
جاء إلى الله أجذم. " (2)
وفي نهج البلاغة: " والزموا السواد الأعظم، فان يد الله على الجماعة. وإياكم والفرقة،
فان الشاذ من الناس للشيطان، كما ان الشاذ من الغنم للذئب. ألا من دعا إلى هذا الشعار
فاقتلوه ولو كان تحت عمامتي هذه. " (3)
وفيه أيضا: " إن هؤلاء قد تمالؤوا على سخطة إمارتي، وسأصبر ما لم أخف على
جماعتكم، فإنهم ان تمموا على فيالة هذا الرأي انقطع نظام المسلمين. " (4)
وفي مسند احمد عن أبي موسى، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " المؤمن للمؤمن
كالبنيان: يشد بعضه بعضا. " (5)
وفي صحيح مسلم بإسناده عن عرفجة: " قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: من
أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه. " (6)
إلى غير ذلك من الأخبار.
وأما ما يدل على الكبرى: 1 - ففي نهج البلاغة: " فرض الله الإيمان تطهيرا من الشرك
... والإمامة نظاما للأمة، والطاعة تعظيما للإمامة. " (7)
واعلم ان نسخ نهج البلاغة هنا مختلفة، ففي بعضها: " والإمامة "، وفي بعضها:

1 - الكافي 1 / 404، كتاب الحجة، باب ما أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنصيحة...، الحديث 4.
2 - الكافي 1 / 405، كتاب الحجة، باب ما أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنصيحة...، الحديث 5.
3 - نهج البلاغة، فيض / 392; عبده 2 / 11; لح / 184، الخطبة 127.
4 - نهج البلاغة، فيض / 549; عبده 2 / 100; لح / 244، الخطبة 169.
5 - مسند أحمد 4 / 405.
6 - صحيح مسلم 3 / 1480 (= طبعة أخرى 6 / 23) كتاب الإمارة، باب حكم من فرق أمر
المسلمين وهو مجتمع.
7 - نهج البلاغة، فيض / 1197; عبده 3 / 208; لح / 512، الحكمة 252.
184

" والأمانات. " ولكن في النهج المكتوب في سنة 494: " والإمامة نظاما على الأمة. "
وفي موضع من الغرر والدرر للآمدي: " والإمامة نظاما للأمة. " (1) وفي موضع آخر
منه: " الإمامة نظام الأمة. " (2) وفي خطبة الزهراء - سلام الله عليها -: " وطاعتنا نظاما
للملة وإمامتنا لما للفرقة. " (3)
هذا مضافا إلى ان تقارن الجملتين يشهد على صحة: " الإمامة "، فالجملتان في
مقام بيان وظيفة الإمام بالنسبة إلى الأمة ووظيفة الأمة بالنسبة إلى الإمام. هذا.
2 - وروى المفيد في الأمالي بسنده عن ابن عباس، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" اسمعوا وأطيعوا لمن ولاه الله الأمر، فإنه نظام الإسلام. " (4)
3 - وفي الكافي في كلام طويل للرضا (عليه السلام) في الإمامة: " إن الإمامة زمام الدين و
نظام المسلمين وصلاح الدنيا وعز المؤمنين ان الإمامة أس الإسلام النامي وفرعه السامي.
بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وتوفير الفيء والصدقات وإمضاء
الحدود والأحكام ومنع الثغور والأطراف. الإمام يحل حلال الله ويحرم حرام الله ويقيم
حدود الله ويذب عن دين الله. الحديث. " (5)
وكلامه - عليه السلام - وإن كان لبيان التركيز على إمامة الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) و
نحن نعتقد بان الإمامة في عصر ظهورهم كانت حقا لهم بالنص وبكونهم أكمل من
جميع الجهات، ولكن في عصر الغيبة هل يمكن الالتزام بتعطيل جميع الآثار
والأحكام التي ذكرت في الحديث للإمامة؟
وهل يمكن أن يقال: ان الله - تعالى - في عصر الغيبة لا يريد نظام المسلمين
وصلاح الدنيا وعز المؤمنين وتنفيذ الأحكام العبادية والاقتصادية والجزائية وحفظ

1 - الغرر والدرر 4 / 457، الحديث 6608.
2 - الغرر والدرر 1 / 274، الحديث 1095.
3 - كشف الغمة 2 / 109.
4 - الأمالي للمفيد 1 / 14، المجلس 2، الحديث 2.
5 - الكافي 1 / 200، كتاب الحجة، باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته.
185

الثغور والأطراف ونحو ذلك مما رتب على الإمامة؟
4 - وفي نهج البلاغة: " ومكان القيم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه ويضمه، فإذا
انقطع النظام تفرق الخرز وذهب ثم لم يجتمع بحذافيره أبدا. " (1)
5 - وفيه أيضا: " وأعظم ما افترض الله - سبحانه - من تلك الحقوق حق الوالي على
الرعية وحق الرعية على الوالي، فريضة فرضها الله - سبحانه - لكل على كل، فجعلها نظاما
لألفتهم وعزا لدينهم، فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة، ولا يصلح الولاة إلا باستقامة
الرعية، فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه وأدى الوالي إليها حقها عز الحق بينهم وقامت
مناهج الدين واعتدلت معالم العدل وجرت على أذلالها السنن، فصلح بذلك الزمان وطمع
في بقاء الدولة ويئست مطامع الأعداء، وإذا غلبت الرعية واليها أو أجحف الوالي برعيته
اختلفت هنالك الكلمة وظهرت معالم الجور وكثر الإدغال في الدين وتركت محاج السنن
فعمل بالهوى وعطلت الأحكام وكثرت علل النفوس فلا يستوحش لعظيم حق عطل ولا لعظيم
باطل فعل، فهنالك تذل الأبرار وتعز الأشرار وتعظم تبعات الله عند العباد. " (2)
والأذلال جمع الذل بالكسر، وذل الطريق: محجته.
6 - وفي سنن أبي داود، عن أبي سعيد الخدري ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " إذا خرج
ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم. " (3) ونحوه عن أبي هريرة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).
7 - وفى مسند أحمد عن عبد الله بن عمر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " لا يحل لثلاثة
نفر يكونون بأرض فلاة إلا أمروا عليهم أحدهم. " (4)
فيعلم بذلك أن المجتمع لا ينتظم إلا بأمير حافظ له، وإذا كان قوام نظام الثلاثة
بأمير فكيف ينتظم مجتمع المسلمين بلا أمير وإمام؟!

1 - نهج البلاغة، فيض / 442; عبده 2 / 39; لح / 203، الخطبة 146.
2 - نهج البلاغة، فيض / 683; عبده 2 / 224; لح / 333، الخطبة 216.
3 - سنن أبي داود 2 / 34، كتاب الجهاد، باب في القوم يسافرون يؤمرون أحدهم.
4 - مسند احمد 2 / 177.
186

8 - ويدل أيضا على أهمية الحكومة في صلاح الأمة وحفظ نظامها ما رواه في
الخصال عن السكوني، عن جعفر، عن أبيه (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " صنفان من
أمتي إذا صلحا صلحت أمتي وإذا فسدا فسدت أمتي. قيل: يا رسول الله، ومن هما؟ قال:
الفقهاء والأمراء. " (1)
وبالجملة حفظ النظام من أوجب الواجبات، والهرج والمرج واختلال أمور
المسلمين من أبغض الأشياء لله - تعالى -، ولا يتم حفظ النظام إلا بالحكومة. ألا ترى
أن بني إسرائيل لما كتب عليهم القتال وعلموا أن القتال لا يتيسر إلا بالتجمع والتكتل
قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله، فكان مرتكزا في أذهانهم أن التشكل
لا يحصل إلا بملك حافظ للنظام والتشكل.
ويظهر شدة اهتمام الإسلام بجمع المسلمين ووحدتهم من الأخبار الكثيرة
الواردة في الترغيب في الجماعة والتحذير من تركها أيضا:
ففي الوسائل بسند صحيح عن ابن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: " إن
أناسا كانوا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبطأوا عن الصلاة في المسجد، فقال رسول الله:
" ليوشك قوم يدعون الصلاة في المسجد ان نأمر بحطب فيوضع على أبوابهم فيوقد عليهم
نار فتحرق عليهم بيوتهم. " (2)
وفي البحار عن مجالس ابن الشيخ باسناده عن زريق، عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن
أمير المؤمنين (عليه السلام) بلغه أن قوما لا يحضرون الصلاة في المسجد فخطب فقال: " إن قوما
لا يحضرون الصلاة معنا في مساجدنا، فلا يؤاكلونا ولا يشاربونا ولا يشاورونا ولا يناكحونا
ولا يأخذوا من فيئنا شيئا أو يحضروا معنا صلاتنا جماعة، وإني لأوشك أن آمر لهم بنار تشعل
في دورهم فأحرقها عليهم أو ينتهون. " قال: فامتنع المسلمون عن مؤاكلتهم ومشاربتهم
ومناكحتهم حتى

1 - الخصال 1 / 36، باب الاثنين، الحديث 12.
2 - الوسائل 5 / 377، الباب 2 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 10.
187

حضروا الجماعة مع المسلمين (1). إلى غير ذلك من الأخبار.
فانظر كيف اهتم الإسلام بتجمع المسلمين وتشكلهم وأراد كونهم كالبنيان
المرصوص يشد بعضه بعضا، فجعل الإمامة في الجماعة والجمعة والأعياد والحج
والإمامة الكبرى سببا لنظامهم ووحدتهم. ولو كان لأمرائهم ولهم غيرة وحمية لبقيت
عزتهم وشوكتهم مع مالهم من كثرة النفوس والأراضي والذخائر. ولكن شياطين
الغرب والشرق مزقوهم كل ممزق وألقوا فيهم الخلافات ومني المسلمون بأمراء خونة
عملاء للشياطين وعلماء سوء باعوا آخرتهم بدنياهم ودنيا غيرهم.
اللهم، فخلص المسلمين من شرورهم.
الدليل الثامن:
ما رواه في أصول الكافي عن علي بن إبراهيم، عن أبيه وعبد الله بن الصلت
جميعا عن حماد بن عيسى، عن حريز بن عبد الله، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:
" بني الإسلام على خمسة أشياء: على الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية. قال
زرارة فقلت: وأي شيء من ذلك أفضل؟ فقال: الولاية أفضل، لأنها مفتاحهن والوالي
هو الدليل عليهن... ثم قال: ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضا الرحمان
الطاعة للإمام بعد معرفته، إن الله - عز وجل - يقول: من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن
تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا. " (2)
والرواية صحيحة من حيث السند. ويظهر من هذه الصحيحة وأمثالها أنها ليست
بصدد بيان الأمور الاعتقادية في الاسلام، ولذا لم يذكر فيها التوحيد والنبوة

1 - بحار الأنوار 85 / 14 (= طبعة إيران 88 / 14)، الباب 83 (باب فضل الجماعة وعللها)،
الحديث 25.
2 - الكافي 2 / 18 - 19، كتاب الإيمان والكفر، باب دعائم الإسلام، الحديث 5. والآية المذكورة
من سورة النساء (4)، رقمها 80.
188

والمعاد من أصول الدين وأركانه، بل هي بصدد بيان الأعمال الإجرائية و
الفرائض العملية للإسلام، فالمراد بالولاية في هذه الرواية أمر إجرائي عملي ضامن
لإجراء البقية، وهي تحقيق الحكومة الإسلامية والإمامة الحقة. إذ تحت راية هذه
الحكومة تقام سائر الفرائض بحدودها وأركانها، كما نخاطب الإمام الشهيد (عليه السلام) في
زيارته بقولنا: " أشهد انك قد أقمت الصلاة وآتيت الزكاة ".
والعجب من بعض من لا خبرة لهم، حيث يفسرون الولاية في هذا السنخ من
الأخبار بالمودة، ويريدون بها محبة أهل البيت - عليهم السلام - التي هي أمر قلبي، مع
وضوح أن المراد بها الإمامة وولاية التصرف، ولذا قال (عليه السلام) في مقام بيان أفضليتها:
" لأنها مفتاحهن، والوالي هو الدليل عليهن. " إذ لا شبهة في ان لفظ الوالي يستعمل بمعنى
الإمام والحاكم، فالمراد إمام المسلمين المبين للأحكام والحافظ لها بحدودها
والمجري لها. وقال في ذيل الحديث أيضا: " ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء
ورضا الرحمان الطاعة للإمام بعد معرفته. "
وفي رواية صحيحة عن أبي جعفر (عليه السلام): " وكانت الفريضة تنزل بعد الفريضة الأخرى،
وكانت الولاية آخر الفرائض، فأنزل الله - تعالى -: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم
نعمتي. " (1)
قال أبو جعفر (عليه السلام): يقول الله - عز وجل -: لا أنزل عليكم بعد هذه فريضة، قد أكملت
الفرائض. " (2)
ولفظ الفريضة يستعمل في الواجبات العملية لا الأمور الاعتقادية، والإمامة
الحافظة للإسلام والمجرية لأحكامه هي الفريضة المتممة التي لو لم تنزل لما بلغ
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رسالته، فان قوة الإجراء هي الضامنة لبقاء الأحكام.
ومر في الخبر الذي رويناه في الدليل السابق عن الرضا (عليه السلام) قوله: " بالإمام تمام الصلاة
والزكاة والصيام والحج والجهاد وتوفير الفيء والصدقات وإمضاء الحدود والأحكام ومنع

1 - سورة المائدة (5)، الآية 3.
2 - الكافي 1 / 289، كتاب الحجة، باب ما نص الله - عز وجل - ورسوله على الأئمة (عليهم السلام)...،
الحديث 4.
189

الثغور والأطراف. " (1)
وبالجملة المراد بالولاية هي الإمامة، وقد مر في أوائل الكتاب في ذيل قوله -
تعالى -: " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم " أقوال أهل اللغة في معنى الولاية وان
حقيقتها تولى الأمر، وتشعر بالتدبير والقدرة والفعل، فراجع.
وفي كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة: " والله ما كانت لي في الخلافة رغبة
ولا في الولاية إربة. " (2)
وفي بعض أخبار الدعائم الخمسة: " فأخذ الناس بأربع وتركوا هذه، يعني
الولاية. " (3)
وما تركه الناس هي حكومة أهل البيت لا مودتهم، كما لا يخفى.
وأظن ان تفسير الولاية بالمودة والمحبة تفسير انحرافي ألقي من قبل غاصبي
حكومة أهل البيت بين شيعتهم أيضا، تبريرا وتوجيها لعملهم.
وكيف كان فالمقصود بالصحيحة ان عمدة الفرائض التي هي أس الإسلام وعليها
بني الدين هي الفرائض الخمس وأفضلها الدولة الحقة الحافظة والمجرية للبقية، إذ
لا يبقى الإسلام بأساسه بلا حكومة حقة، فيجب على المسلم المهتم بالإسلام الاهتمام
بها في جميع الأعصار، غاية الأمر أن الأئمة الاثني عشر عندنا مع حضورهم
وظهورهم أحق من غيرهم بالنص وبالأكملية، فوجب تأييدهم وإطاعتهم، وأما إذا لم
يمكن الوصول إليهم بأي دليل كان، كما في عصر الغيبة، فلا تعطيل للإسلام، فلا محالة
وجب تعيين حاكم بالحق يحفظ مقررات الإسلام ويجريها، وسيأتي في الباب الآتي
شرائط الحاكم الحق، فانتظر.
وقد روى مضمون الصحيحة بنحو يظهر منه ما بيناه أيضا في كتاب المحكم

1 - الكافي 1 / 200، كتاب الحجة باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته.
2 - نهج البلاغة، فيض / 656; عبده 2 / 210; لح / 322، الخطبة 205.
3 - الكافي 2 / 18، كتاب الإيمان والكفر باب دعائم الإسلام، الحديث 3.
190

والمتشابه نقلا عن تفسير النعماني، قال: " فدعائم الإسلام وهي خمس دعائم وعلى
هذه الفرائض الخمسة بني الإسلام فجعل - سبحانه - لكل فريضة من هذه الفرائض أربعة
حدود لا يسع أحدا جهلها: أولها الصلاة ثم الزكاة ثم الصيام ثم الحج ثم الولاية، وهي
خاتمتها والحافظة لجميع الفرائض والسنن. " (1)
وقد عرفت ان مطالب الكتاب عند الأصحاب منسوبة إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) ولكن
لا يخلو ذلك من مناقشة، ولعل المؤلف مزج كلام نفسه بالروايات، فراجع ما ذكرناه
في الدليل الخامس.
الدليل التاسع:
ما في نهج البلاغة: " أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجة
بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت
حبلها على غاربها... " (2)
وفيه أيضا: " سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول في غير موطن: لن تقدس أمة لا يؤخذ
للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع. " (3)
وفي سنن ابن ماجة عن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " انه لا قدست أمة
لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع. " (4)
يظهر من الحديثين الشريفين أنه لا يحق ولا يجوز للإنسان المسلم ولا سيما العالم
أن يقعد في بيته ولا يهتم ولا يبالي بما يشاهده من ظلم المستكبرين الطغاة بالنسبة إلى

1 - المحكم والمتشابه / 77، وبحار الأنوار 90 / 62 (= طبعة إيران 93 / 62).
2 - نهج البلاغة، فيض / 52; عبده 1 / 31; لح / 50، الخطبة 3.
3 - نهج البلاغة، فيض / 1021; عبده 3 / 113; لح / 439، الكتاب 53.
4 - سنن ابن ماجة 2 / 810، كتاب الصدقات، الباب 17، الحديث 2426.
191

الضعفة والمستضعفين، بل يجب عليه حماية الضعفاء وإحقاق حقوقهم، ولا يخفي
انه لا يتيسر ذلك غالبا إلا بالتجمع والتشكل وتحصيل القوة والقدرة بقدر الإمكان،
ولا نعني بالحكومة إلا هذا، غاية الأمر أن لها مراتب.
بل قد مر في خلال الفصول السابقة أنه لا يجوز للإنسان المسلم أن يقعد في بيته
ولا يبالي بما يقع في محيطه وبيئته من الفحشاء والفساد وإراقة دماء المسلمين وهتك
نواميسهم وهضم الكفار والطواغيت للمسلمين والمستضعفين وتسخيرهم واحتلال
بلادهم.
فأدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأدلة الجهاد الدفاعي بأجمعها أيضا من
أقوى الأدلة على لزوم تشكل المسلمين وتأسيس الدولة الحقة وتحصيل القدرة مهما
أمكن وبقدر الإمكان. والميسور منها لا يترك بالمعسور.
والأصحاب وإن ظهر منهم كون وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا
توقفا على الضرب والجراح مشروطين بإذن الإمام، ومقتضاه عدم التكليف على
المسلمين في مواجهة الفساد وان بلغ ما بلغ، ولكن نحن قد قوينا سابقا عدم اشتراط
الوجوب بذلك. نعم، وجود الفعل خارجا، بحيث يؤثر في رفع الفساد ولا يترتب عليه
ضرر، مشروط بالإمام لتحصل القدرة والنظم ولا يحصل الهرج والمرج. فتجب إقامة
الحكومة الحقة وتأسيس الدولة بالوجوب المقدمي. وقد مر خبر يحيى الطويل عن
أبي عبد الله (عليه السلام): " ما جعل الله بسط اللسان وكف اليد، ولكن جعلهما يبسطان معا ويكفان
معا. " (1)
ونحو ذلك الدفاع عن حوزة الإسلام وكيان المسلمين، فإنه واجب مطلق ولكن
وجود بعض مراتبه متوقف على التشكل وتحصيل القدرة، ولا محالة يتوقف ذلك
على ان يؤمروا على أنفسهم أميرا ينظم أمرهم ويجمع شملهم.
فالجهاد بقسميه يحتاج إلى الإمام، ولكن في الجهاد الابتدائي الوجوب على
ما قالوا مشروط بالإمام وإذنه بخلاف الجهاد الدفاعي، فان الوجوب مطلق ولكن
الوجود مشروط

1 - الوسائل 11 / 404، الباب 3 من أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، الحديث 2.
192

به ومتوقف عليه، وقد مر تفصيل الكلام في الجهاد في الفصل السادس، ويأتي
الجواب عن الأخبار التي تمسك بها أهل السكوت والسكون في الفصل الرابع من
هذا الباب بعد ذكر الأدلة العشرة لوجوب إقامة الدولة الحقة في كل عصر ومكان.
وأئمتنا - عليهم السلام - كانوا في ضيق وشدة، ولم يكن لهم مساعد على القيام
والثورة ضد الحكومات الجائرة. ويأتي كلام الإمام الصادق (عليه السلام) لسدير الصيرفي:
" يا سدير، لو كان لي شيعة بعدد هذه الجداء ما وسعني القعود. " (1) وكان مجموع الجداء
سبعة عشر.
وليس المراد بالتقية الواردة في أخبارنا ترك الدفاع والأمر بالمعروف، بل المراد
هو التحفظ في حال العمل بالتكليف. ويشهد بذلك قوله (عليه السلام): " التقية ترس المؤمن. " (2)
وقوله: " إن التقية جنة المؤمن. " (3) فان الترس إنما يستعمل في ميدان الجهاد لا في
حال الاستراحة والعزلة، فتدبر.
وهنا شئ آخر يجب أن ينبه عليه، وهو ان فقهاءنا - رضوان الله عليهم - ذكروا
أمورا سموها الأمور الحسبية وقالوا إنها أمور لا ترتبط بأشخاص خاصين ولا يرضى
الشارع بإهمالها وتركها، كالتصرف في أموال اليتامى والغيب والقصر ونحو ذلك.
وحينئذ فإن كان هنا فقيه عادل فهو المتيقن للتصدي لها وإلا فيتصدى لها عدول
المؤمنين بل وفساقهم أيضا إذا لم يوجد العدول.
إذا عرفت هذا فنقول: هل يكون حفظ مال جزئي لصغير أو مجنون خاص من
الأمور المهمة التي لا يرضى الشارع بإهمالها فيجب التصدي لها على أي حال وأما
حفظ كيان الإسلام ونظام المسلمين وحفظ دمائهم ونواميسهم وأموالهم فلا أهمية
لها ولا يهتم الشارع بها ويجوز للمسلمين إهمالها وعدم الاهتمام بها حتى يظهر
صاحب

1 - الكافي 2 / 242 - 243، كتاب الإيمان والكفر باب في قلة عدد المؤمنين، الحديث 4.
2 - الوسائل 11 / 460، الباب 24 من أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، الحديث 6.
3 - الوسائل 11 / 460، الباب 24 من أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، الحديث 4.
193

الأمر (عليه السلام)؟! ان هذا الأمر لعجيب.
وعدم عصمة العلماء والفقهاء واحتمال خطأهم في مقام العمل لا يوجب جواز
إهمال ذلك، فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا وان كان بنفسه معصوما ولكن عماله الغائبين عنه لم
يكونوا معصومين عن الخطأ والزلل، وكذلك عمال أمير المؤمنين (عليه السلام)، بل وكذلك
عمال صاحب العصر والزمان - عجل الله فرجه.
وعلى أي حال فاحتمال ضياع الحقوق مع النظارة والتصدي للحفظ والحراسة
أضعف بمراتب من الترك والإهمال بالكلية، فتدبر جيدا. هذا.
ونعيد الإشارة إلى أن نفرة بعض الناس وانزجارهم من ألفاظ الحكومة والسلطنة
ونحوهما ليس إلا لابتلائهم غالبا بالحكومات الجائرة الظالمة أو غير اللائقة. ففي
الحقيقة يكون التنفر من الجور وعدم اللياقة، ولكنه سرى إلى نفس الحكومة وإلا
فالحكومة وإدارة شؤون المسلمين وحفظ نظامهم بالنحو المعقول أمر يستحسنه
العقل والشرع، كما يدل عليه كثير من الآيات والروايات وقد مر بعض الآيات في
ذيل الدليل الأول، فراجع.
الدليل العاشر:
أخبار متفرقة أخرى من طرق الفريقين يظهر منها إجمالا لزوم الحكومة والدولة
في جميع الأعصار أو كونها مرغوبا فيها شرعا نذكرها ونسردها. فعليك بالدقة في
مفادها:
1 - ما رواه المفيد في الاختصاص، قال: " وقد روى بعضهم عن أحدهم أنه قال: الدين
والسلطان أخوان توأمان لابد لكل واحد منهما من صاحبه، والدين أس والسلطان حارس، و
ما لا أس له منهدم وما لا حارس له ضائع. " (1)

1 - الاختصاص / 263.
194

والظاهر أن مراده بقوله: " أحدهم " أحد الأئمة (عليهم السلام) وان كان يحتمل غير ذلك
أيضا، ففي رسائل إخوان الصفا:
" قال ملك الفرس أردشير في وصيته: إن الملك والدين أخوان توأمان لأقوام
لأحدهما إلا بالآخر وذلك أن الدين أس الملك والملك حارسه فما لا أس له مهدوم و
مالا حافظ له ضائع، ولابد للملك من أس ولابد للدين من حارس. " (1) هذا.
ولكن في كنز العمال أيضا: " الإسلام والسلطان أخوان توأمان لا يصلح واحد منهما إلا
بصاحبه، فالإسلام أس والسلطان حارث، وما لا أس له يهدم وما لا حارث له ضائع. " (
الديلمي، عن ابن عباس) (2).
ولعل كلمة " حارث " غلط والصحيح: " حارس "، كما في الاختصاص. وظاهره
كون الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
2 - ما في دعائم الإسلام: " وعن علي (عليه السلام) انه قال: لابد من إمارة ورزق للأمير، ولابد
من عريف ورزق للعريف، ولابد من حاسب ورزق للحاسب، ولابد من قاض ورزق للقاضي.
وكره أن يكون رزق القاضي على الناس الذين يقضى لهم ولكن من بيت المال. " (3)
3 - ما في تحف العقول عن الصادق (عليه السلام): " لا يستغني أهل كل بلد عن ثلاثة يفزع إليهم
في أمر دنياهم وآخرتهم، فإن عدموا ذلك كانوا همجا: فقيه عالم ورع، وأمير خير مطاع،
وطبيب بصير ثقة. " (4)
والهمج بالتحريك: السفلة والحمقى ومن لا خير فيهم.
4 - صحيحة محمد بن مسلم، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: " كل من دان الله -
عز وجل - بعبادة يجهد فيها نفسه ولا إمام له من الله فسعيه غير مقبول وهو ضال متحير...
والله يا محمد، من أصبح من هذه الأمة لا إمام له من الله - عز وجل - ظاهر عادل أصبح ضالا
تائها. وان

1 - رسائل إخوان الصفا 3 / 495.
2 - كنز العمال 6 / 10، الباب 1 من كتاب الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14613.
3 - دعائم الاسلام 2 / 538، كتاب آداب القضاة، الحديث 1912.
4 - تحف العقول / 321.
195

مات على هذه الحالة مات ميتة كفر ونفاق. واعلم يا محمد، ان أئمة الجور وأتباعهم
لمعزولون عن دين الله قد ضلوا وأضلوا. " (1)
5 - ما في الاختصاص عن محمد بن علي الحلبي، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): " من
مات وليس عليه إمام حي ظاهر مات ميتة جاهلية. " (2)
6 - ما في الاختصاص أيضا عن أبي الجارود، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول:
" من مات وليس عليه إمام حي ظاهر مات ميتة جاهلية. " قال: قلت " إمام حي " جعلت
فداك؟ قال: " إمام حي. " (3)
أقول: قد مر منا في أواخر الباب الثاني أن أنس أذهاننا بإمامة الأئمة
الاثنا عشر (عليهم السلام) وأحقيتهم أوجب انصراف لفظ الإمام عندنا إليهم (عليهم السلام) وكأن اللفظ
وضع لهم، ولكن اللفظ وضع للقائد الذي يؤتم به إما في الصلاة أو في الحج أو في
الشؤون السياسية ونحو ذلك، سواء كان بحق أو بباطل. ولذا قال الله - تعالى -:
" قاتلوا أئمة الكفر. " (4) وأطلق الإمام الصادق (عليه السلام) لفظ الإمام على أمير الحج إسماعيل
بن علي حين وقف عليه (عليه السلام) فقال له: " سر فإن الإمام لا يقف. " (5) وفي رسالة الحقوق
لعلي بن الحسين (عليهما السلام): " كل سائس إمام. " (6) فراجع ما حررناه هناك.
ولا تستغرب أن يكون موت من ليس عليه إمام حي ظاهر ميتة جاهلية أو ميتة
كفر ونفاق، فإن الإمام الحق هو الحارس للدين والمجري للإسلام. وهل يكون وجود
الإمام أهون من الوصية بالنسبة إلى مال جزئي وقد ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " من

1 - الكافي 1 / 183 - 184، كتاب الحجة، باب معرفة الإمام والرد اليه، الحديث 8.
2 - الاختصاص / 269.
3 - الاختصاص / 269.
4 - سورة التوبة (9)، الآية 12.
5 - الوسائل 8 / 290، الباب 26 من أبواب آداب السفر، الحديث 1.
6 - الخصال / 565 (الجزء 2)، أبواب الخمسين، الحديث 1.
196

مات بغير وصية مات ميتة جاهلية "؟ (1)
7 - ما في دعائم الإسلام: " عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) انه قال: " ولاية أهل العدل الذين
أمر الله بولايتهم، وتوليتهم وقبولها والعمل لهم فرض من الله - عز وجل - وطاعتهم واجبة،
ولا يحل لمن أمروه بالعمل لهم أن يتخلف عن أمرهم. و (ولاية - ظ.) ولاة أهل الجور و
اتباعهم، والعاملون لهم في معصية الله غير جائزة لمن دعوه إلى خدمتهم والعمل لهم
وعونهم ولا القبول منهم. " (2)
8 - ما رواه حفص بن عون، رفعه، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ساعة إمام عدل
(عادل خ. ل) أفضل من عبادة سبعين سنة. وحد يقام لله في الأرض أفضل من مطر أربعين
صباحا. " (3)
9 - ما عن القطب الراوندي في لب اللباب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " يوم واحد من سلطان
عادل خير من مطر أربعين يوما. وحد يقام في الأرض أزكى من عبادة ستين سنة. " (4)
فالله الفياض الذي لا يقطع بركاته وقطر السماء عن خلقه مع كثرة المعاصي كيف
يقطع عنهم بركات الإمامة وإقامة الحدود في عصر الغيبة بطولها بسبب غيبة ولى
العصر - عجل الله فرجه -، ويترك خلقه بلا نظام وحكومة؟!
10 - ما في نهج البلاغة خطابا لعثمان: " فاعلم ان أفضل عباد الله عند الله إمام عادل
هدى وهدى، فأقام سنة معلومة وأمات بدعة مجهولة... وإن شر الناس عند الله إمام جائر
ضل وضل به، فأمات سنة مأخوذة وأحيا بدعة متروكة. " (5)
11 - ما في جامع الأصول: " أبو سعيد الخدري " رض " قال: قال

1 - الوسائل 13 / 352، الباب 1 من كتاب الوصايا، الحديث 8.
2 - دعائم الإسلام 2 / 527، كتاب آداب القضاة، الحديث 1876.
3 - الوسائل 18 / 308، الباب 1 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 5.
4 - مستدرك الوسائل 3 / 216، الباب 1 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 10.
5 - نهج البلاغة، فيض / 526; عبده 2 / 85; لح / 234، الخطبة 164.
197

رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أحب الناس إلى الله يوم القيمة وأدناهم منه مجلسا إمام عادل. و
أبغض الناس إلى الله - تعالى - وأبعدهم منه مجلسا إمام جائر. أخرجه الترمذي. " (1)
12 - ما رواه في تحف العقول عن الصادق (عليه السلام): " فوجه الحلال من الولاية ولاية
الوالي العادل الذي أمر الله بمعرفته وولايته والعمل له في ولايته، وولاية ولاته وولاة
ولاته، بجهة ما أمر الله به الوالي العادل بلا زيادة فيما أنزل الله به ولا نقصان منه ولا تحريف
لقوله ولا تعد لأمره إلى غيره، فإذا صار الوالي والي عدل بهذه الجهة فالولاية له والعمل
معه ومعونته في ولايته وتقويته حلال محلل، وحلال الكسب معهم. وذلك ان في ولاية
والي العدل وولاته إحياء كل حق وكل عدل وإماتة كل ظلم وجور وفساد، فلذلك كان
الساعي في تقوية سلطانه والمعين له على ولايته ساعيا إلى طاعة الله مقويا لدينه. " (2)
ولا يخفى ان هذه الجملات مروية عن الإمام الصادق الذي لم يكن واليا بالفعل
مبسوط اليد حتى يترتب على ولايته إحياء الحق والعدل وإماتة الظلم والجور
والفساد، فتدبر.
13 - ما رواه الآمدي في الغرر والدرر عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " إن السلطان لأمين
الله في الأرض ومقيم العدل في البلاد والعباد ووزعته في الأرض. " (3)
وفي نهج البلاغة: " السلطان وزعة الله في أرضه. " (4)
والوزعة: المانعون عن محارم الله، جمع وازع. والجمع باعتبار أن السلطان أريد
به الجنس.
14 - ما رواه الآمدي أيضا عنه (عليه السلام): " ليس ثواب عند الله - سبحانه - أعظم من ثواب
السلطان العادل والرجل المحسن. " (5)

1 - جامع الأصول 4 / 447، الباب 1 من كتاب الخلافة، الحديث 2035.
2 - تحف العقول / 332.
3 - الغرر والدرر 2 / 604، الحديث 3634.
4 - نهج البلاغة، فيض / 1243; عبده 3 / 232; لح / 533، الحكمة 332.
5 - الغرر والدرر 5 / 90، الحديث 7526.
198

15 - ما رواه عنه: " العلماء حكام على الناس. " (1)
16 - ما رواه عنه (عليه السلام): " دولة العادل من الواجبات. " (2)
17 - ما رواه عنه (عليه السلام): " من حسنت سياسته وجبت طاعته. " (3)
18 - ما رواه عنه (عليه السلام): " أجل الملوك من ملك نفسه وبسط العدل. " (4)
19 - ما رواه عنه (عليه السلام): " أفضل الملوك من حسن فعله ونيته وعدل في جنده
ورعيته. " (5)
20 - ما رواه عنه (عليه السلام): " خير الملوك من أمات الجور وأحيا العدل. " (6)
21 - ما رواه عنه (عليه السلام): " من أعود الغنائم دولة الأكارم. " (7)
22 - ما رواه عنه (عليه السلام): " إمام عادل خير من مطر وابل. " (8)
23 - ما رواه عنه (عليه السلام): " أفضل ما من الله سبحانه به على عباده علم وعقل وملك و
عدل. " (9)
24 - ما رواه عنه (عليه السلام): " إذا بنى الملك على قواعد العدل ودعم بدعائم العقل نصر الله
مواليه وخذل معاديه. " (10)
25 - ما رواه في البحار عن كنز الكراجكي: " قال الصادق: الملوك حكام على

1 - الغرر والدرر 1 / 137، الحديث 506.
2 - الغرر والدرر 4 / 10، الحديث 5110.
3 - الغرر والدرر 5 / 211، الحديث 8025.
4 - الغرر والدرر 2 / 439، الحديث 3206.
5 - الغرر والدرر 2 / 445، الحديث 3234.
6 - الغرر والدرر 3 / 431، الحديث 5005.
7 - الغرر والدرر 6 / 34، الحديث 9381.
8 - الغرر والدرر 1 / 386، الحديث 1491.
9 - الغرر والدرر 2 / 439، الحديث 3205.
10 - الغرر والدرر 3 / 168، الحديث 4118.
199

الناس والعلماء حكام على الملوك. " (1)
26 - ما رواه في الخصال عن السكوني، عن جعفر، عن أبيه قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي وإذا فسدا فسدت أمتي. قيل:
يا رسول الله، ومن هما؟ قال: الفقهاء والأمراء. " (2)
27 - ما رواه في الكافي عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " ان الله أجل
وأعظم من أن يترك الأرض بغير إمام عادل. " (3)
28 - ما رواه في إثبات الهداة عن عبد الله بن سنان، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):
" يوم ندعو كل أناس بإمامهم " (4) قال: " إمامهم الذي بين أظهرهم وهو قائم أهل
زمانه. " (5)
أقول: الأخبار المتواترة الصادرة عن الأئمة المعصومين والاحتجاجات المروية
عن أصحابهم (عليهم السلام) كهشام وغيره الدالة على لزوم الإمام والهادي والحجة والعالم
الحافظ للدين عن التحريف والتغيير، وان كان النظر فيها إلى إثبات إمامة الأئمة
الاثنا عشر - عليهم السلام - في قبال أئمة الجور، ولكن التعليلات والملاكات
المذكورة فيها تشمل جميع الأعصار حتى عصر الغيبة. ولا يمكن أن يقال إن الله
اللطيف بعباده أهمل أمور المسلمين في عصر الغيبة بسبب غيبة الإمام المنتظر (عليه السلام)
فراجع الأخبار وتأمل فيها.
29 - ما رواه في إثبات الهداة، عن الزمخشري في ربيع الأبرار، عن عبد الملك أن

1 - بحار الأنوار 1 / 183، كتاب العلم، الباب 1 (باب فرض العلم...)، الحديث 92.
2 - الخصال 1 / 36، باب الاثنين، الحديث 12.
3 - الكافي 1 / 178، كتاب الحجة، باب أن الأرض لا تخلو من حجة، الحديث 6.
4 - سورة الإسراء (17)، الآية 71.
5 - إثبات الهداة 1 / 89.
200

رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من مات وليس في عنقه لإمام المسلمين بيعة فميتته ميتة
جاهلية. "
قال: وروي في هذا المعنى عدة أحاديث. (1)
ولا يخفى انه ليس مفاد الرواية وجوب البيعة بالفعل، بل وجوب وجود الإمام
وتعيينه حتى يستحق في عنق كل مسلم بيعة بوجوده، وان شئت قلت: ظاهر الرواية
أن الواجب هو الالتزام بالبيعة والتسليم، لا فعلية البيعة، فتأمل.
30 - ما رواه الصدوق في الخصال بسنده عن عجلان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
" ثلاثة يدخلهم الله الجنة بغير حساب، وثلاثة يدخلهم الله النار بغير حساب: فأما الذين
يدخلهم الله الجنة بغير حساب فإمام عادل وتاجر صدوق، وشيخ أفنى عمره في طاعة الله -
عز وجل -. وأما الثلاثة الذين يدخلهم الله النار بغير حساب فإمام جائر، وتاجر كذوب، و
شيخ زان. " (2)
31 - ما رواه في البحار والوسائل عن أمالي الصدوق بسنده عن الشحام، عن
الصادق (عليه السلام) قال: " من تولى أمرا من أمور الناس فعدل وفتح بابه ورفع شره (الوسائل:
ستره) ونظر في أمور الناس كان حقا على الله - عز وجل - ان يؤمن روعته يوم القيامة و
يدخله الجنة. " (3)
32 - ما رواه في التاج الجامع للأصول عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " سبعة يظلهم الله في
ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ بعبادة الله. الحديث. " رواه الخمسة إلا
أبا داود. (4)
33 - ما رواه مسلم في صحيحه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " من خلع يدا من طاعة لقي الله

1 - إثبات الهداة 1 / 143.
2 - الخصال 1 / 80، باب الثلاثة، الحديث 1.
3 - بحارالأنوار 72 / 340، (= طبعة إيران 75 / 340)، كتاب العشرة، الباب 81 (باب أحوال
الملوك والأمراء)، الحديث 18. والوسائل 12 / 140، الباب 46 من أبواب ما يكتسب به، الحديث
7.
4 - التاج الجامع للأصول 3 / 49، كتاب الإمارة، الفصل 3 (فيما يجب على الأمير).
201

يوم القيامة لا حجة له. ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية. " (1)
34 - ما رواه مسلم أيضا عن يحيى بن الحصين، قال: سمعت جدتي تحدث أنها
سمعت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يخطب في حجة الوداع وهو يقول: " لو استعمل عليكم عبد يقودكم
بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا. " (2)
35 - ما رواه البخاري في صحيحه ورواه غيره أيضا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " كلكم
راع وكلكم مسؤول عن رعيته. الإمام راع ومسؤول عن رعيته. الحديث. " (3)
36 - وفي كنز العمال: " لابد للناس من إمارة برة أو فاجرة. فأما البرة فتعدل في القسم و
تقسم بينكم فيئكم بالسوية، وأما الفاجرة فيبتلى فيها المؤمن. والإمارة خير من الهرج. قيل:
يا رسول الله، وما الهرج؟ قال: القتل والكذب. " (طب، عن ابن مسعود) (4)
وقد مر نظير ذلك في الأمر الرابع عن نهج البلاغة، فراجع.
37 - وفي كنز العمال أيضا: " مامن أحد أفضل منزلة من إمام إن قال صدق وإن حكم
عدل، وان استرحم رحم. " (ابن النجار، عن أنس) (5)
38 - وفيه أيضا: " أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأدناهم مجلسا إمام عادل. وأبغض
الناس إلى الله وأبعدهم منه إمام جائر. " (حم ت، عن أبي سعيد) (6)
39 - وفيه أيضا: " نعم الشئ الإمارة لمن أخذها بحقها وحلها، وبئس الشيء الإمارة
لمن

1 - صحيح مسلم 3 / 1478 (طبعة أخرى 6 / 22)، كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة
المسلمين...، الحديث 1851.
2 - صحيح مسلم 3 / 1468 (طبعة أخرى 6 / 14)، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في
غير معصية...
3 - صحيح البخاري 1 / 160، كتاب الجمعة، باب الجمعة في القرى والمدن.
4 - كنز العمال 6 / 39، الباب 1 من كتاب الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14755.
5 - كنز العمال 6 / 7، الباب 1 من كتاب الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14593.
6 - كنز العمال 6 / 9، الباب 1 من كتاب الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14604.
202

أخذها بغير حقها فتكون عليه حسرة يوم القيامة. " (طب، عن زيد بن ثابت) (1)
40 - وفيه أيضا: " من استطاع منكم أن لا ينام نوما ولا يصبح صبحا إلا وعليه إمام
فليفعل. " (ابن عساكر، عن أبي سعيد وابن عمر) (2)
41 - وفيه أيضا: " من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية. ومن نزع يدا من طاعة جاء يوم
القيمة لا حجة له. " (ط حل، عن ابن عمر) (3)
42 - وفيه أيضا: " إذا أراد الله بقوم خيرا ولى عليهم حلماءهم وقضى عليهم علماؤهم،
وجعل المال في سمحائهم. وإذا أراد الله بقوم شرا ولى عليهم سفهاءهم، وقضى بينهم
جهالهم، وجعل المال في بخلائهم. " (فر، عن مهران) (4)
43 - وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " لعمل الإمام العادل في رعيته يوما واحدا أفضل من عبادة
العابد في أهله مأة عام أو خمسين عاما. " (5)
إلى غير ذلك من الأخبار والروايات، فان الروايات التي يستفاد منها لزوم الإمارة
والملك أو كونه مرغوبا فيه شرعا إذا تحققت العدالة وسائر الشرائط، كثيرة في كتب
الفريقين.
وقد مضى في ذيل الأمر الأول أيضا بعض الآيات الدالة على حسن الملك
والدولة وكونه من نعم الله - تعالى - على عباده الصالحين، فراجع.
فهذه أدلة عشرة ذكرناها دليلا على لزوم الملك والدولة في جميع الأعصار،
وكفاك ما ذكرناه في الأمرين الأولين، فراجع وتأمل.

1 - كنز العمال 6 / 39، الباب 1 من كتاب الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14753.
2 - كنز العمال 6 / 64، الباب 1 من كتاب الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14855.
3 - كنز العمال 6 / 65، الباب 1 من كتاب الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14863.
4 - كنز العمال 6 / 7، الباب 1 من كتاب الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14595.
5 - الأموال / 13، باب حق الإمام على الرعية...، الحديث 14.
203

واعلم ان الصحاح والسنن ومسانيد إخواننا السنة ملاء من الأخبار الواردة في الإمارة
والسلطنة، ففي بعضها مدح الإمارة والترغيب فيها، وفي بعضها التحذير والتخويف منها
وذم أئمة الجور وأنهم من أهل النار، وفي بعضها وجوب الإطاعة للأمير وإن كان عبدا
حبشيا مجدع الأطراف، وفي بعضها أنه " لا طاعة لمن لم يطع الله " أو " لا طاعة في معصية
الله، إنما الطاعة في المعروف "، وفي بعضها أن السلطان ظل الله في الأرض، وفي بعضها أن
السلطان العادل المتواضع ظل الله ورمحه في الأرض.
والجمع بين هذه الروايات بحسب الصناعة الفقهية واضح، لوضوح أن الوالي الحق
العادل يجب اطاعته دون الظالم الجائر، ولا سيما في ظلمه وجوره، وانه إذا أمر من
قبل الوالي العادل عبد مجدع يقود الناس بكتاب الله - كما في متن الحديث -
فالواجب اطاعته ولو كان حبشيا أسود. فان هذا من مزايا الإسلام، حيث الغى
الامتيازات اللونية والجغرافية والطائفية والطبقية وقال في القرآن الكريم: " إن
أكرمكم عند الله أتقيكم. " (1) ألا ترى ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر أسامة بن زيد قبيل وفاته وأمر
الصحابة الكبار أيضا بان يكونوا تحت لوائه؟
والمطلق في قوله: " السلطان ظل الله " يجب أن يحمل على المقيد في الحديث الآخر.
فالسلطان العادل الحق ظل الله دون الجائر الظالم، فإنه ظل الشيطان وطاغوت، و
قد أمروا أن يكفروا به.
ويحتمل إرادة الإنشاء أيضا لا الاخبار فيراد أن السلطان يجب أن يكون ظل الله
ومظهر رحمته.
نعم، السلطان ولو كان جائرا خير من فتنة تدوم ومن الهرج والمرج، لا بمعنى
مشروعية سلطنته بل بمعنى الرجحان العقلي إذا دار الأمر بينهما ولم يمكن تأسيس
الحكومة العادلة. وقد مر بيان ذلك في ذيل كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في الدليل الرابع،
فراجع. ويأتي بيان الشرائط للحاكم الحق الذي يجب إطاعته في الباب الرابع،
فانتظر.

1 - سورة الحجرات (49)، الآية 13.
204

الفصل الرابع من الباب الثالث
في ذكر الأخبار التي ربما توهم وجوب السكوت في قبال الجنايات و
مظالم الأعداء في عصر الغيبة وعدم التدخل في الشؤون السياسية وإقامة
الدولة العادلة
وقد ذكر كثيرا منها في الوسائل في الباب 13 من كتاب الجهاد، وفي الحقيقة تعد هذه
الأخبار معارضة لما ذكرناها دليلا على وجوب السعي في إقامة الدولة العادلة.
فلنتعرض لها ونبين المراد منها:
فالأولى:
صحيحة عيص بن القاسم، قال: " سمعت أبا عبد الله يقول: " عليكم بتقوى الله وحده
لا شريك له. وانظروا لأنفسكم. فوالله ان الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي، فإذا وجد رجلا
هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها يخرجه ويجيء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي
كان فيها. والله لو كانت لأحدكم نفسان يقاتل بواحدة يجرب بها ثم كانت الأخرى باقية يعمل
على ما قد استبان لها، ولكن له نفس واحدة إذا ذهبت فقد والله ذهبت التوبة. فأنتم أحق ان
تختاروا لأنفسكم. إن أتاكم آت منا فانظروا على أي شيء تخرجون.
205

ولا تقولوا: خرج زيد، فان زيدا كان عالما وكان صدوقا، ولم يدعكم إلى نفسه وانما
دعاكم إلى الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). ولو ظفر لوفى بما دعاكم إليه. إنما خرج إلى سلطان
مجتمع لينقضه.
فالخارج منا اليوم إلى أي شيء يدعوكم؟ إلى الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فنحن نشهدكم
انا لسنا نرضى به وهو يعصينا اليوم وليس معه أحد، وهو إذا كانت الرايات والألوية أجدر
ألا يسمع منا، إلا من اجتمعت بنو فاطمة معه، فوالله ما صاحبكم إلا من اجتمعوا عليه. إذا كان
رجب فاقبلوا على اسم الله، وان أحببتم ان تتأخروا إلى شعبان فلا ضير، وان أحببتم ان
تصوموا في أهاليكم فلعل ذلك يكون أقوى لكم. وكفاكم بالسفياني علامة. " (1)
أقول: الصحيحة لا تدل على عدم وجوب الدفاع وعدم جواز الخروج، بل تدل
على ان الداعي إلى الخروج قد تكون دعوته باطلة، بأن يدعو إلى نفسه مثلا مع عدم
استحقاقه لما يدعيه كمن يدعى المهدوية مثلا كذبا. وقد تكون دعوته حقه، كدعوة
زيد بن علي بن الحسين مثلا، حيث دعا الناس لنقض السلطنة الجائرة وتسليم الحق
إلى أهله، أعني المرضى من آل محمد، يعني الإمام الصادق (عليه السلام) فيجب على
الأشخاص المدعوين أن ينظروا لأنفسهم ويعملوا الدقة في ذلك ولا يتأثروا
بالأحاسيس والعواطف الآنية.
فان الإنسان إذا كان بحسب فطرته بحيث يعمل الدقة في احراز ما هو صلاح لغنمه
فهو بإعمال الدقة لنفسه أحق وأولى. وهذا حكم عقلي فطري، إذ على الإنسان أن
يحكم العقل في الأمور المهمة ولا يقع تحت تأثير الإحساس الآني.
وجعل المجلسي " ره " في المرآة قوله: " إنما خرج إلى سلطان مجتمع لينقضه " بيانا
لعلة عدم ظفر زيد، قال في شرح العبارة: " أي فلذلك لم يظفر. " (2)
وكيف كان فالصحيحة تمضي قيام زيد وتدل على جواز القيام للدفاع عن الحق.

1 - الوسائل 11 / 35، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
2 - مرآة العقول 4 / 365، (من ط. القديم).
206

والأخبار في فضائل زيد وعلمه وزهده وإمضاء قيامه كثيرة مستفيضة.
وقوله (عليه السلام): " كان عالما وكان صدوقا " إشارة إلى صلاحيته لان يكون أميرا في
الثورة الحقة بحسب علمه وعمله.
ولا خصوصية لزيد قطعا، وانما الملاك هدفه في قيامه وصلاحيته لذلك. فالقيام
لنقض الحكومة الفاسدة الجائرة مع إعداد مقدماته جائز بل واجب. ولو ظفر زيد لوفى
بما دعا اليه من إرجاع الحكومة إلى المرضي من آل محمد، كما نطق به الخبر.
وعدم تسميته لشخص الإمام الصادق (عليه السلام) لعله كان لوجهين:
الأول: انه أراد أن ينجذب اليه ويساعده كل من كان مخالفا للحكومة الفاسدة من
أي فرقة من فرق المسلمين كان، ولذا اعانه حتى بعض من لم يكن من الخاصة، وقد
حكى ان أبا حنيفة مثلا أعانه بثلاثين ألف درهم لذلك.
الثاني: انه أراد ان يبقي الإمام الصادق (عليه السلام) محفوظا من شر الحكومة الفاسدة على
فرض عدم الظفر ليبقى ركنا وأساسا للحق، يجدد بناء الإسلام ببيان معارفه و
أخلاقياته وأحكامه بعد أن أخفتها حجب التأويلات والتحريفات وأستار الجهل و
الكتمان. وحفظه (عليه السلام) كان من أهم الفرائض، كما لا يخفى على من اطلع على العلوم
الصادرة عنه (عليه السلام) في شتى الموضوعات.
وروى عمرو بن خالد، قال: قال زيد بن علي بن الحسين (عليهما السلام):
" في كل زمان رجل منا أهل البيت يحتج الله به على خلقه. وحجة زماننا ابن
أخي: جعفر بن محمد، لا يضل من تبعه ولا يهتدي من خالفه. " (1)

1 - بحارالأنوار 46 / 173، تاريخ علي بن الحسين (عليهما السلام)، الباب 11 (باب أحوال أولاد علي بن
الحسين (عليهما السلام) وأزواجه)، الحديث 24.
207

قداسة زيد وقيامه
ثم ان قيام زيد لم يكن قياما إحساسيا عاطفيا أعمى بلا اعداد للقوى والأسباب،
فإنه بعث إلى الأمصار وجمع الجموع، والكوفة كانت مقرا لجند الإسلام من القبائل
المختلفة وقد بايعه فيها خلق كثير، وقد قيل انه بايعه فيها أربعون ألفا من أهل السيف.
واما اطلاعه على كونه المصلوب بالأخرة في كناسة الكوفة بإخبار الإمام الباقر
والإمام الصادق (عليهما السلام) فلم يكن يجوز تخلفه عن الدفاع عن الحق والأمر بالمعروف و
النهي عن المنكر بعد ما تهيأت له الأسباب من الجنود والسلاح. كما أن إخبار عن
نبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) بشهادة سيد الشهداء (عليه السلام) في النهاية لم يمنعه من القيام
بعدما دعاه جنود الإسلام من الكوفة بالكتب والرسائل وأخبره رائده مسلم بتهيؤ
العدة والعدة. ولو كان لا يجيب الداعين مع كثرتهم وتهيئهم لكان لهم حجة عليه (عليه السلام)
بحسب الظاهر.
وبالجملة العلم بالشهادة بالأخرة بإخبار غيبي لا يوجب عدم التكليف بعد تحقق
شرائطه وأسبابه، فلعل جنوده تظفر والإسلام يغلب وان رزق بنفسه الشهادة، والمهم
ظفر الإسلام والحق وتحقق الهدف لا ظفر الشخص وغلبته، ولعل شهادته أيضا تؤثر
في تقوي الإسلام وبسطه، كما يشاهد نظير ذلك في كثير من الثورات.
وكيف كان فقيام زيد بن على كان من سنخ نهضة الحسين (عليه السلام) غاية الأمر ان
الحسين (عليه السلام) كان إماما بالحق يدعو إلى نفسه، وزيد لم يكن يدعو إلى نفسه بل إلى
الرضا من آل محمد، وقد أراد بذلك الإمام الصادق (عليه السلام) لا محالة.
وفي خطبته المحكية عنه:
208

" ألستم تعلمون انا ولد نبيكم المظلومون المقهورون، فلا سهم وفينا ولا تراث
أعطينا وما زالت بيوتنا تهدم وحرمنا تنتهك... " (1)
فلم يكن يتكلم هو عن شخصه بل عن العترة (عليهم السلام).
وعن الصادق (عليه السلام): " إن عمي كان رجلا لدنيانا وآخرتنا، مضى والله عمي شهيدا
كشهداء استشهدوا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى والحسن والحسين. " (2)
وفي حديث قال الصادق (عليه السلام) لفضيل: " يا فضيل، شهدت مع عمي قتال أهل الشام؟
قلت: نعم. قال: فكم قتلت منهم؟ قلت: ستة. قال: فلعلك شاك في دمائهم؟
قال: فقلت: لو كنت شاكا ما قتلتهم. قال: فسمعته وهو يقول: أشركني الله في تلك
الدماء، مضى والله زيد عمي وأصحابه شهداء مثل ما مضى عليه على بن أبي طالب
وأصحابه. " (3)
وفي حديث آخر عن الباقر (عليه السلام) عن آبائه قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للحسين (عليه السلام):
يا حسين، يخرج من صلبك رجل يقال له زيد، يتخطى هو وأصحابه يوم القيامة رقاب الناس
غرا محجلين يدخلون الجنة بلا حساب. " (4)
وفي خبر ابن سيابة، قال: " دفع إلي أبو عبد الله الصادق جعفر بن محمد ألف دينار
وأمرني أن أقسمها في عيال من أصيب مع زيد بن علي، فقسمتها فأصاب عبد الله بن زبير أخا
فضيل الرسان أربعة دنانير. " (5)
إلى غير ذلك من الأخبار الدالة على فضل زيد وتأييد قيامه.

1 - بحارالأنوار 46 / 206، تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام)، الباب 11 (باب أحوال أولاد علي بن
الحسين (عليه السلام) وأزواجه)، الحديث 83.
2 - عيون أخبار الرضا 1 / 252، الباب 25 (باب ما جاء عن الرضا (عليه السلام) في زيد)، الحديث 6.
3 - بحار الأنوار 46 / 171، تاريخ علي بن الحسين (عليه السلام)، الباب 11 (باب أحوال أولاد علي بن
الحسين (عليه السلام) وأزواجه)، الحديث 20.
4 - عيون أخبار الرضا 1 / 249، الباب 25، الحديث 2. بحارالأنوار 46 / 170، الباب 11، الحديث
19.
5 - بحارالأنوار 46 / 170، الباب 11 (باب أحوال أولاد علي بن الحسين (عليه السلام) وأزواجه)، الحديث
18.
209

هذا وقد عقد الصدوق في العيون بابا في شأن زيد بن علي، وذكر فيه أخبارا.
منها: ما رواه بسنده عن ابن أبي عبدون، عن أبيه، قال: " لما حمل زيد بن موسى بن
جعفر (عليهما السلام) إلى المأمون - وقد كان خرج بالبصرة وأحرق دور ولد العباس - وهب
المأمون جرمه لأخيه علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) وقال له: يا أبا الحسن، لئن خرج
أخوك وفعل ما فعل لقد خرج قبله زيد بن علي فقتل، ولولا مكانك مني لقتلته، فليس
ما أتاه بصغير. فقال الرضا (عليه السلام): يا أمير المؤمنين، لا تقس أخي زيدا إلى زيد بن علي (عليه السلام) فإنه
كان من علماء آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) غضب لله - عز وجل - فجاهد أعداءه حتى قتل في سبيله. ولقد
حدثني أبي موسى بن جعفر (عليه السلام) انه سمع أباه جعفر بن محمد (عليه السلام) يقول: رحم الله عمي زيدا انه
دعا إلى الرضا من آل محمد. ولو ظفر لوفى بما دعا اليه. ولقد استشارني في خروجه فقلت
له: يا عم، ان رضيت ان تكون المقتول المصلوب بالكناسة فشأنك. فلما ولى قال جعفر بن
محمد (عليه السلام): ويل لمن سمع واعيته فلم يجبه. فقال المأمون: يا أبا الحسن، أليس قد جاء
فيمن ادعى الإمامة بغير حقها ما جاء؟ فقال الرضا (عليه السلام): إن زيد بن علي (عليه السلام) لم يدع ما ليس
له بحق وإنه كان أتقى لله من ذاك. إنه قال: أدعوكم إلى الرضا من آل محمد. وإنما جاء ما
جاء فيمن يدعي أن الله نص عليه ثم يدعو إلى غير دين الله ويضل عن سبيله بغير علم. وكان
زيد والله ممن خوطب بهذه الآية: وجاهدوا في الله حق جهاده، هو اجتباكم. " (1)
وقد ذكر الرواية مقطعة في هذا الباب من الوسائل أيضا (2)
وتدل هذه الرواية أيضا على قداسة زيد وإمضاء خروجه، وأنه لم يدع ما ليس له،
وأن قيامه كان جهادا في سبيل الله وأن إجابته كانت واجبة لمن سمع واعيته، وأن
الذي لا يجوز إجابته هو من ادعى النص على نفسه كذبا فضل وأضل كالمدعين
للمهدوية، وأن الاطلاع على الشهادة إجمالا بطريق غيبي لا يصير مانعا عن العمل
بالوظيفة.
وقال الصدوق في العيون بعد نقل هذه الرواية:

1 - عيون أخبار الرضا 1 / 248، الباب 25 (باب ما جاء عن الرضا (عليه السلام) في زيد)، الحديث 1.
2 - الوسائل 11 / 38، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 11.
210

" لزيد بن علي فضائل كثيرة عن غير الرضا (عليه السلام) أحببت إيراد بعضها على إثر هذا
الحديث ليعلم من ينظر في كتابنا هذا اعتقاد الامامية فيه. "
ثم ذكر أخبارا كثيرة. فيظهر من الصدوق أن قداسة زيد كانت من معتقدات
الإمامية.
وفي إرشاد المفيد:
" كان زيد بن علي بن الحسين عين إخوته بعد أبي جعفر (عليه السلام) وأفضلهم، وكان ورعا
عابدا فقيها سخيا شجاعا، وظهر بالسيف يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويطلب
بثارات الحسين (عليه السلام). " (1)
وفي تنقيح المقال عن التكملة:
" اتفق علماء الاسلام على جلالته وثقته وورعه وعلمه وفضله. " (2)
وعلى هذا فلو فرض القول بان قيام الإمام الشهيد كان من خصائصه ولم يجز
جعله أسوة في الخروج على أئمة الجور فقيام زيد لا يختص به قطعا، لعدم خصوصية
فيه وعدم كونه إماما معصوما. هذا.
ولكن الفرض باطل قطعا، فإن الإمام أسوة كجده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وقد قال (عليه السلام) في خطابه لأصحاب الحر: " فلكم في أسوة. " (3)
والإمام المجتبى أيضا قام وجاهد إلى أن خان أكثر جنده وغدروا ولم يتمكن من
مواصلة الجهاد.
وسائر الأئمة (عليهم السلام) أيضا لم تتحقق لهم شرائط القيام. وستأتي رواية سدير وان
الإمام الصادق (عليه السلام) قال له: " لو كان لي شيعة بعدد هذه الجداء ما وسعني القعود. " (4)
فهم - عليهم السلام - نور واحد وطريقهم واحد وانما تختلف الأوضاع

1 - الإرشاد / 251 (= طبعة أخرى / 268).
2 - تنقيح المقال 1 / 467.
3 - تاريخ الطبري 7 / 300.
4 - الكافي 2 / 242، كتاب الإيمان والكفر، باب في قلة عدد المؤمنين، الحديث 4.
211

والظروف، فلاحظ.
بل قد مر أن القيام للدفاع عن الإسلام وعن حقوق المسلمين في قبال هجوم
الأعداء وتسلطهم على بلاد الإسلام وشؤون المسلمين مما يحكم به ضرورة العقل
والشرع، ولا يشترط فيه إذن الإمام.
وقوله تعالى -: " ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء
والولدان " (1)
وقوله: " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد
يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره " (2) من محكمات القرآن الكريم.
نعم، يجب إعداد القوى والأسباب للقيام، كما مر.
فانظر كيف غفل المسلمون ورؤساؤهم وأغفلوا، وهجمت إسرائيل على القدس
الشريف وعلى أراضي المسلمين ونفوسهم ومعابدهم ومعاهدهم ونواميسهم و
أموالهم، وهجم كفار الغرب والشرق وعملاؤهم على كيان الإسلام وشؤون
المسلمين، وكل يوم تسمع أخبار المجازر والغارات والاعتقالات، ورجال الملك و
وعاظ السلاطين وعلماء السوء ساكتون في قبال هذه المجازر والمظالم وتراهم
يصرفون أوقاتهم وطاقاتهم في التعيش والترف وفي إثارة الفتن والاختلافات
الداخلية وهضم بعضهم لبعض. اللهم فخلص المسلمين من شر حكام الجور وعلماء
السوء، وأيقظهم من سباتهم وهجعتهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله. هذا.
وبالجملة فان قيام زيد كان ثورة حقة أمضاها الأئمة - عليهم السلام - وإن لم
يظفر في نهاية الأمر كما لم يظفر سيد الشهداء (عليه السلام) بعد تحول أوضاع الكوفة بمجيء

1 - سورة النساء (4)، الآية 75.
2 - سورة الحج (22)، الآية 40.
212

عبيد الله بن زياد إليها.
فان قلت: روي عن زرارة، قال:
" قال لي زيد بن علي وأنا عند أبي عبد الله (عليه السلام) يا فتى، ما تقول في رجل من آل
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) استنصرك؟ قال: قلت: ان كان مفروض الطاعة نصرته وان كان غير
مفروض الطاعة فلي ان افعل ولي ان لا افعل. فلما خرج قال أبو عبد الله (عليه السلام):
أخذته والله من بين يديه ومن خلفه وما تركت له مخرجا. " (1)
ونحو ذلك عن مؤمن الطاق أيضا في حديث مفصل. (2)
قلت: ليس كلام أبي عبد الله (عليه السلام) نصا في تخطئة قيام زيد، بل هو تحسين لزرارة و
مؤمن الطاق في جوابها. وواضح ان زيدا لم يكن إماما مفترض الطاعة. هذا مضافا
إلى ان قوله: " فلي ان افعل ولي ان لا أفعل " يدل على جواز قيامه مع غير مفترض
الطاعة أيضا في الجملة. والظاهر ان الإمام (عليه السلام) قد أمضاه في ذلك. ثم لا يخفى ان
كونهما من خواص الإمام الصادق (عليه السلام) ومرابطيه، بحيث يعرفهما كل واحد بذلك، كان
مقتضيا لعدم إجابتهما له، لما عرفت من أن المصلحة اقتضت عدم ظهور موافقة الإمام
الصادق (عليه السلام) على قيام زيد وأمثاله ليبقى وجوده الشريف ركنا للحق ومجددا للشريعة
بعدما تطرقت إليها أيدي الكذبة والمحرفين، وحفظه (عليه السلام) في تلك الموقعية كان من
أهم الفرائض.
نعم، هنا روايات دالة على ذم زيد وتخطئته في قيامه، ولكن أسانيدها ضعيفة

1 - الاحتجاج / 204، (= طبعة أخرى 2 / 137).
2 - الاحتجاج / 204، (= طبعة أخرى 2 / 141 - 142). الكافي 1 / 174، كتاب الحجة، باب
الاضطرار إلى الحجة، الحديث 5.
213

جدا فلا تقاوم صحيحة العيص والأخبار الكثيرة الواردة في مدحه وتأييد ثورته
المتلقاة بالقبول من قبل أصحابنا - رضوان الله عليهم -. هذا.
ولنذكر واحدة من تلك الروايات نموذجا، ولعلها أوضحها:
ففي الكافي: " محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن
الحسين بن الجارود، عن موسى بن بكر بن دأب، عمن حدثه، عن أبي جعفر (عليه السلام) ان
زيد بن علي بن الحسين (عليهما السلام) دخل على أبي جعفر محمد بن علي ومعه كتب من أهل
الكوفة، يدعونه فيها إلى أنفسهم ويخبرونه باجتماعهم ويأمرونه بالخروج.
فقال له أبو جعفر (عليه السلام): هذه الكتب ابتداء منهم أو جواب ما كتبت به إليهم ودعوتهم اليه؟
فقال: بل ابتداء من القوم لمعرفتهم بحقنا وبقرابتنا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولما يجدون
في كتاب الله - عز وجل - من وجوب مودتنا وفرض طاعتنا ولما نحن فيه من الضيق
والضنك والبلاء.
فقال له أبو جعفر (عليه السلام): ان الطاعة مفروضة من الله - عز وجل - وسنة أمضاها في الأولين،
وكذلك يجريها في الآخرين، والطاعة لواحد منا والمودة للجميع، وأمر الله يجري لأوليائه
بحكم موصول وقضاء مفصول وحتم مقضي وقدر مقدور وأجل مسمى لوقت معلوم،
فلا يستخفنك الذين لا يوقنون، انهم لن يغنوا عنك من الله شيئا، فلا تعجل فان الله لا يعجل
لعجلة العباد، ولا تسبقن الله فتعجزك البلية فتصرعك.
قال: فغضب زيد عند ذلك ثم قال: ليس الإمام منا من جلس في بيته وأرخى ستره
وثبط عن الجهاد ولكن الإمام منا من منع حوزته وجاهد في سبيل الله حق جهاده
ودفع عن رعيته وذب عن حريمه.
قال أبو جعفر (عليه السلام): هل تعرف يا أخي من نفسك شيئا مما نسبتها اليه فتجيء عليه بشاهد
من كتاب الله أو حجة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو تضرب به مثلا، فان الله - عز وجل - أحل حلالا
وحرم حراما وفرض فرائض وضرب أمثالا وسن سننا ولم يجعل الإمام القائم بأمره في شبهة
فيما فرض له من الطاعة أن يسبقه بأمر قبل محله أو يجاهد فيه قبل حلوله، وقد قال الله - عز
وجل - في الصيد:
214

" لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم " (1) أفقتل الصيد أعظم أم قتل النفس التي حرم الله؟ وجعل لكل
شئ محلا وقال الله - عز وجل -: " وإذا حللتم فاصطادوا " (2)، وقال عز وجل -: " لا تحلوا شعائر
الله ولا الشهر الحرام. " (3) فجعل الشهور عدة معلومة، فجعل منها أربعة حرما، وقال: " فسيحوا
في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله " (4) ثم قال - تبارك وتعالى -: " فإذا انسلخ
الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " (5) فجعل لذلك محلا، وقال: " ولا تعزموا عقدة
النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله " (6) فجعل لكل شئ أجلا ولكل أجل كتابا.
فان كنت على بينة من ربك ويقين من أمرك وتبيان من شأنك فشأنك، وإلا فلا ترومن
أمرا أنت منه في شك وشبهة ولا تتعاط زوال ملك لم ينقض أكله ولم ينقطع مداه ولم يبلغ
الكتاب أجله، فلو قد بلغ مداه وانقطع أكله وبلغ الكتاب أجله لانقطع الفصل وتتابع النظام
ولأعقب الله في التابع والمتبوع الذل والصغار. أعوذ بالله من إمام ضل عن وقته، فكان
التابع فيه أعلم من المتبوع.
أتريد يا أخي أن تحيي ملة قوم قد كفروا بآيات الله وعصوا رسوله واتبعوا أهواءهم بغير
هدى من الله وادعوا الخلافة بلا برهان من الله ولا عهد من رسوله؟! أعيذك بالله يا أخي ان
تكون غدا المصلوب بالكناسة.
ثم ارفضت عيناه وسالت دموعه ثم قال: الله بيننا وبين من هتك سترنا وجحدنا حقنا
وأفشى سرنا ونسبنا إلى غير جدنا وقال فينا ما لم نقله في أنفسنا. " (7)
أقول: قد نقلنا الرواية بطولها لكنك ترى انها مرسلة، مضافا إلى ان الحسين بن
الجارود وموسى بن بكر بن دأب كليهما مجهولان لم يذكرا في كتب الرجال بمدح
ولا قدح.

1 - سورة المائدة (5)، الآية 95.
2 - سورة المائدة (5)، الآية 2.
3 - سورة المائدة (5)، الآية 2.
4 - سورة التوبة (9)، الآية 2.
5 - سورة التوبة (9)، الآية 5.
6 - سورة البقرة (2)، الآية 235.
7 - الكافي 1 / 356، كتاب الحجة، باب ما يفصل به بين دعوى المحق والمبطل...، الحديث 16.
215

وقوله: " لواحد منا " يعني من جاء بإمامته النص. وقوله: " لانقطع الفصل " أي بين
دولتي الحق. وقوله: " في التابع والمتبوع " أي من أهل الباطل. وقوله: " ارفضت عيناه "
على وزن احمرت، أي رشت.
وقوله: " الله بيننا وبين من هتك سترنا " قال في الوافي:
" ليس هذا تعريضا لزيد حاشاه، بل لمن عاداه وعاداه وسيأتي أخبار في علو
شأن زيد، وأنه وأصحابه يدخلون الجنة بغير حساب، وانه كان إنما يطلب الأمر لرضا
آل محمد وما طلبه لنفسه، وانه كان يعرف حجة زمانه وكان مصدقا به - صلوات الله
عليه - فليس لأحد أن يسيء الظن فيه - رضوان الله عليه. " (1)
وقال المجلسي في مرآة العقول في ذيل الرواية ما حاصله:
" إن الأخبار اختلفت في حال زيد، فمنها ما يدل على ذمه، وأكثرها يدل على كونه
مشكورا وانه لم يدع الإمامة وانه كان قائلا بامامة الباقر والصادق (عليهما السلام) وانما خرج
لطلب ثار الحسين (عليه السلام) وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكان يدعو إلى الرضا
من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) واليه ذهب أكثر أصحابنا، بل لم أر في كلامهم غيره. وقيل انه كان
مأذونا من قبل الإمام (عليه السلام) سرا. " (2)
ونحن نقول اجمالا ان قولنا بقداسة زيد وحسن نيته في قيامه ليس قولا بعصمته
وعدم صدور اشتباه منه طيلة عمره وعدم احتياجه إلى هداية الإمام ونصيحته له
أصلا. ولعله في بادي الأمر اشتبه عليه الأمر وصار أسيرا للأحاسيس الآنية فنبهه
الإمام الباقر (عليه السلام) وحذره من الاستعجال والاغترار والاعتماد على بعض من لا يعتمد
عليه. ووفاة الإمام الباقر (عليه السلام) على ما في أصول الكافي (3) كانت في سنة 114 من
الهجرة، وقيام زيد المؤيد عند الأئمة (عليهم السلام) على ما ذكره أرباب السير كان في عصر
الإمام الصادق (عليه السلام) في سنة 121، فلعل الظروف والأجواء اختلقت في

1 - الوافي 1 / " م 2 " / 35
2 - مرآة العقول 4 / 118 (ط. القديم 1 / 261).
3 - الكافي 1 / 469، كتاب الحجة، باب مولد أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام).
216

هذه المدة، وهو على ما في بعض الأخبار كان مقرا بإمامة الإمام الصادق (عليه السلام) وانه
حجة زمانه، وقد مر منها خبر عمرو بن خالد المروي في الأمالي.
وعدم عجلة الله - تعالى - لعجلة العباد أمر صحيح لامرية فيه، ولكنه لا يوجب رفع
التكليف بالدفاع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهل يمكن الالتزام بانحصار
الجهاد والأمر بالمعروف في من علم بالغيب انه يظفر على خصمه مأة بالمأة فيجوز
لغيره السكوت والسكون في قبال الجنايات وهتك المقدسات؟!
ثم هل لا يكون مفاد هذا الكلام تخطئة لأمير المؤمنين (عليه السلام) في جهاده مع معاوية،
وللسبط الشهيد في ثورته على يزيد؟! وهل لم يقع في صفين وكربلاء إراقة للدماء
وقتل للنفوس؟!
وأنت ترى ان الثورات التي وقعت في العالم ضد الملوك المقتدرين والجبابرة
الظالمين قد نجح كثير منها، ومنها ثورتنا في إيران، مع انه لم يحصل اليقين بالظفر
قبلها.
فهل تكون جميع هذه الثورات الناجحة في قبال الكفار والظلمة مرفوضة ومحكوم
عليها بالخطأ والضلال؟
وهل يكون للكفار والصهاينة التغلب على المسلمين والإغارة عليهم وسفك
دمائهم وتخريب بلادهم، وليس للمسلمين الا السكوت والتسليم في قبال جميع
ذلك؟! لا أدري أي فكرة هذه الفكرة؟! وسيجئ في جواب بعض الأخبار الآتية
ما ينفعك في المقام، فانتظر.
وكيف كان فصحيحة العيص في الباب تدل على قداسة زيد وتأييد ثورته
ويؤيدها أخبار كثيرة، فلا يعارضها بعض الأخبار الضعاف التي يخالف مضمونها
لحكم العقل ومحكمات الكتاب والسنة، فيجب أن يرد علمها إلى أهله.
هذا كله فيما يرتبط بزيد في ثورته. وتشبه قصته قصة الحسين بن علي شهيد فخ
في ثورته، وقد استفاضت الأخبار في مدحه وتأييده، والظاهر كما قيل عدم ورود
خبر
217

في قدحه، فراجع مظانه. ويأتي ذكر منه في الفصل السادس من الباب الخامس
في مسألة الكفاح المسلح ضد حكام الجور.
فلنرجع إلى شرح بقية صحيحة العيص، أعني الرواية الأولى من أخبار الباب،
فنقول:
يظهر من الصحيحة إجمالا أنه كانت توجد في عصر الإمام الصادق (عليه السلام) بعض
الثورات من قبل السادة من أهل البيت غير مؤيدة من قبله (عليه السلام) مع اشتمالها على الدعوة
الباطلة والعصيان للإمام الحق. ولا يهمنا تشخيصها ومعرفتها بأعيانها وان كان من
المحتمل إرادة قيام محمد بن عبد الله المحض باسم المهدوية. إذ المستفاد من الأخبار
والتواريخ أنه قام باسم المهدوية وأن أباه وأخاه وأصحابه كانوا يعرفونه بذلك.
ففي الإرشاد عن كتاب مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الاصفهاني ما حاصله:
" ان كثيرا من الهاشميين وفيهم عبد الله وابناه: محمد وإبراهيم، ومنصور الدوانيقي
اجتمعوا في الأبواء فقال عبد الله: قد علمتم ان ابني هذا هو المهدي فهلم فلنبايعه
فبايعوه جميعا على ذلك فجاء عيسى بن عبد الله فقال: لأي شئ اجتمعتم؟ فقال
عبد الله: اجتمعنا لنبايع المهدي محمد بن عبد الله وجاء جعفر بن محمد (عليهما السلام) فأوسع له
عبد الله إلى جنبه فتكلم بمثل كلامه فقال جعفر (عليه السلام): لا تفعلوا فان هذا الأمر لم يأت بعد. ان
كنت ترى ان ابنك هذا هو المهدي فليس به ولا هذا أوانه. وان كنت انما تريد أن تخرجه غضبا
لله وليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فانا والله لا ندعك وأنت شيخنا ونبايع ابنك في هذا
الأمر. فغضب عبد الله وقال: لقد علمت خلاف ما تقول ووالله ما أطلعك الله على غيبه
ولكنه يحملك على هذا الحسد لابني... " (1)
ورواه في البحار أيضا عن إعلام الورى والارشاد. (2)

1 - الإرشاد / 259 (= طبعة أخرى / 276)، باب ذكر طرف من أخبار أبي عبد الله جعفر بن محمد
الصادق (عليهما السلام).
2 - بحار الأنوار 47 / 277، تاريخ الإمام الصادق (عليه السلام)، الباب 31 (باب أحوال أقربائه و...)،
الحديث 18.
218

ويظهر من نفس هذا الخبر أيضا أن القيام غضبا لله وللأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر مما لا بأس به.
وفي البحار عن إعلام الورى أيضا:
" ان محمد بن عبد الله بن الحسن قال لأبي عبد الله (عليه السلام): والله اني لأعلم منك و
أسخى منك وأشجع منك. " (1)
وفي صحيحة عبد الكريم بن عتبة الهاشمي
أن جماعة من المعتزلة، فيهم عمرو بن عبيد وواصل بن عطا وحفص بن سالم و
ناس من رؤسائهم، دخلوا على أبي عبد الله (عليه السلام) وذكروا انهم أرادوا أن يبايعوا لمحمد
بن عبد الله بالخلافة وعرضوا عليه أن يدخل معهم في ذلك، فذكر - عليه السلام -.
كلاما طويلا وفي آخره روى عن أبيه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من ضرب الناس بسيفه
ودعاهم إلى نفسه وفي المسلمين من هو أعلم منه فهو ضال متكلف. " (2)
فيظهر من ذلك ان محمد بن عبد الله كان يدعوا إلى نفسه مع وجود من هو أعلم
منه.
وبالجملة حيث انه روي من طرق الفريقين عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ان المهدي يظهر و
" يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا " (3)، فقد صار هذا سببا لاشتباه الأمر
على كثيرين وادعاء كثير من الهاشميين المهدوية. ولعل الخبر المروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
ان المهدي " اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي " (4) كان من مجعولات بعض أتباع محمد بن
عبد الله بن الحسن. هذا.
ولكن ابن طاووس في الإقبال على ما في البحار التزم جانب الدفاع عن

1 - بحارالأنوار 47 / 275، تاريخ الإمام الصادق (عليه السلام)، الباب 31 (باب أحوال أقربائه و...)، الحديث
15.
2 - الوسائل 11 / 29، الباب 9 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
3 - راجع بحار الأنوار ج 51، تاريخ الإمام الثاني عشر، باب ما ورد من الإخبار بالقائم (عليه السلام) و...،
والتاج الجامع للأصول 5 / 341 - 344، الباب 7 من كتاب الفتن.
4 - التاج الجامع للأصول 5 / 343.
219

عبد الله وابنيه. (1) والمسألة محتاجة إلى تتبع وبحث وسيع، فراجع البحار وغيره.
ويظهر من الأخبار أن الأئمة - عليهم السلام - مع عدم امضائهم لبعض ثورات
السادات كانوا يتأثرون جدا لما كان يقع على الثوار من السجن والقتل والغارات، و
كانوا يبكون عليهم بما أنهم أهل بيت النبي وسلبوا بعض حقوقهم ولم تلحظ الأمة
شرفهم وكرامتهم.
والحاصل ان المستفاد من صحيحة عيص ان الثورات الواقعة على قسمين.
فالدعوة إلى النفس كانت باطلة، والدعوة لنقض السلطة الجائرة وارجاع الحق إلى
أهله كانت حقة. والواجب على المدعوين تحكيم العقل والدقة واتباع الحق.
وأما آخر الصحيحة فالظاهر كونه إخبارا غيبيا بزمان ظهور القائم (عليه السلام) وقيامه وانه
في رجب أو شعبان أو بعد رمضان. فان كان ظهوره في رجب أو شعبان فالإقبال بعد
رمضان للحوق به بعد قيامه، وان كان ظهوره بعد رمضان فالإقبال قبله للتهيؤ.
ويحتمل - كما في مرآة العقول (2) ان يريد الإمام الصادق (عليه السلام) الإقبال إلى نفسه
قبل أيام الحج مقدمة للاستفادة من علومه وفضائله، فان من حكم الحج لقاء الإمام و
الاستضاءة بأنواره، كما في بعض الروايات. هذا.
وقد روى الصدوق بعض صحيحة عيص في العلل بنحو النقل بالمعنى (3) وستأتي
الإشارة اليه.
هذا كله فيما يرتبط بصحيحة عيص بن القاسم الرواية الأولى من أخبار الباب وقد
طال الكلام فيها، وانما تابعنا الكلام فيها، لان مسألة قيام زيد لها ارتباط مباشر
بمسألتنا المبحوث عنها، أعني جواز القيام للدفاع عن الحق في قبال سلاطين الجور
أو

1 - بحارالأنوار 47 / 301، تاريخ الإمام الصادق (عليه السلام)، الباب 31.
2 - مرآة العقول 4 / 365 (من ط القديم).
3 - الوسائل 11 / 38، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 10، عن العلل / 192 (= طبع
أخرى / 577) الجزء 2، الباب 385 (باب نوادر العلل)، الحديث 2.
220

وجوب السكوت والسكون. وقد ظهر لك ان الصحيحة ليست من أدلة وجوب
السكون، بل من أدلة عدم جواز الخروج تحت راية من كانت دعوته باطلة، فلاحظ.
221

الرواية الثانية من أخبار الباب
خبر حماد بن عيسى عن ربعي رفعه عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: والله لا يخرج
أحد منا قبل خروج القائم الا كان مثله كمثل فرخ طار من وكره قبل ان يستوي جناحاه فاخذه
الصبيان فعبثوا به. " (1)
والرواية كما ترى مرفوعة لا اعتبار بها من حيث السند، اللهم الا ان يقال ان السند
إلى حماد صحيح، وحماد من أصحاب الاجماع.
وربما يتبادر إلى الذهن في هذا السنخ من الأخبار كونها من مختلقات عمال
الأمويين والعباسيين لصرف السادة العلويين عن فكرة القيام في قبال مظالمهم. هذا.
مضافا إلى ان الظاهر من الخبر انه ليس في مقام بيان الحكم الشرعي، وان القيام
في قبال الباطل جائز أم لا، بل هو إخبار غيبي منه (عليه السلام). ومفاده ان الخارج منا
أهل البيت قبل قيام القائم لا يظفر في النهاية وان ترتب على قيامه آثار مهمة.
كيف! ولو كان غرضه (عليه السلام) التخطئة للخروج قبل قيام القائم (عليه السلام) لكان تخطئة لقيام
أبيه الحسين (عليه السلام) أيضا.
ولا ينتقض اخباره الغيبي هذا بخروج بعض العلويين في اليمن أو بعض بلاد
إيران، أو خروج الفاطميين في إفريقيا وظفرهم وحكومتهم، إذ مضافا إلى عدم
شمول ملكهم لجميع البلاد الإسلامية ربما يشكك في نسب خصوص الخلفاء
الفاطميين، فحكى السيوطي في أول كتابه: تاريخ الخلفاء عن ابن خلكان أن أكثر
أهل العلم لا يصححون نسب المهدي عبيد الله، جد خلفاء مصر (2). وعن الذهبي

1 - الوسائل 11 / 36، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
2 - تاريخ الخلفاء / 3.
222

" ان المحققين متفقون على ان عبيد الله المهدي ليس بعلوي. " (1) هذا، ولكن من
المحتمل جدا دخالة بعض التعصبات والسياسات الباطلة في هذه الكلمات، حيث
انهم كانوا معارضين للعباسيين فاهتم العباسيون وعملاؤهم على القدح فيهم بما
اختلفوا عليهم من التهم، فراجع التواريخ.
ويمكن ان يكون مراد الإمام بقوله: " منا " في المرفوعة - على فرض صدورها عنه
- خصوص الأئمة الاثني عشر لا جميع العلويين، حيث ان شيعتهم (عليهم السلام) كانوا يتوقعون
منهم الخروج والقيام، وكانوا يصرون على ذلك، فأراد الإمام (عليه السلام) إقناعهم ببيان أمر
غيبي، وهو ان الخارج منا قبل القائم (عليه السلام) لا يوفق ولا يظفر، لعدم العدة والعدة و
الأسباب اللازمة.
وعلى أي حال فالخبر - على فرض صدوره - مربوط بخروج الأئمة (عليهم السلام) أو
خروج أهل البيت وانهم لا يظفرون ظفرا نهائيا، فلا يجوز ان يستدل به على السكوت
منا وعدم الدفاع عن الإسلام والمسلمين في قبال هجمة الكفار وعمالهم إذا تحققت
الشرائط وظن النجاح. وأدل الأشياء على إمكان الشئ وقوعه، وقد نجحت الثورة
الإسلامية في إيران - بحمد الله ومنته - بقيادة أحد من سلالة أهل البيت المضطلع في
العلوم الإسلامية.
ونظير هذا الخبر، الخبر المروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) في مقدمة الصحيفة
السجادية.
والراوي له على ما في الصحيفة المطبوعة: " عمير بن متوكل، عن أبيه متوكل بن
هارون "، ولكن في فهرست الشيخ نسبه إلى متوكل بن عمر بن متوكل (2). ولم يذكر
الرجل في الرجال بمدح ولا قدح، اللهم إلا أن يقال إن تلقي الأصحاب كتاب
الصحيفة منه دليل على توثيقه عملا، فتأمل.
ويوجد في السند أيضا أبو المفضل محمد بن عبد الله بن المطلب الشيباني.

1 - تاريخ الخلفاء / 3.
2 - الفهرست للشيخ / 170 (ط. أخرى / 199).
223

والرجل مختلف فيه، وعن النجاشي:
" رأيت جل أصحابنا يغمزونه ويضعفونه "، ثم نسب اليه كتبا منها كتاب فضائل
عباس بن عبد المطلب (1).
ونفس هذا يكفي في قدح روايته الموافقة لمصالح بني العباس وسياستهم.
وعن ابن الغضائري:
" محمد بن عبد الله بن المطلب الشيباني أبو المفضل وضاع كثير المناكير. " (2)
وبالجملة فسند الحديث ليس صافيا. هذا.
وملخص ما في مقدمة الصحيفة:
" ان المتوكل بن هارون قال: لقيت يحيى بن زيد بن علي وهو متوجه إلى خراسان
بعد قتل أبيه، فقال لي: من أين أقبلت؟ قلت: من الحج، فسألني عن أهله وبني عمه، و
أحفى السؤال عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) وقال: هل سمعته يذكر شيئا من أمري؟ فقلت:
سمعته يقول: إنك تقتل وتصلب كما قتل أبوك وصلب... فقلت: اني رأيت الناس إلى ابن
عمك جعفر أميل منهم إليك والى أبيك. فقال: ان عمي وابنه جعفرا دعوا الناس إلى
الحياة ونحن دعوناهم إلى الموت. فقلت: يا بن رسول الله أهم أعلم أم أنتم؟ قال:
كلنا له علم غير انهم يعلمون كل ما نعلم ولا نعلم كل ما يعلمون...
قال المتوكل: فقبضت الصحيفة فلما قتل يحيى صرت إلى المدينة فلقيت أبا
عبد الله (عليه السلام) فحدثته الحديث عن يحيى فبكى...
قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): يا متوكل كيف قال لك يحيى: ان عمي محمد بن علي وابنه
جعفرا دعوا الناس إلى الحياة ودعوناهم إلى الموت؟ قلت: نعم قد قال لي ذلك. فقال: يرحم
الله يحيى، ان أبي حدثني عن أبيه، عن جده، عن علي (عليه السلام) ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أخذته نعسة و
هو على منبره فرأى في منامه رجالا ينزون على منبره نزو

1 - رجال النجاشي / 281، (= طبعة أخرى / 396).
2 - تنقيح المقال 3 / 146.
224

القردة، يردون الناس على أعقابهم القهقرى... فأتاه جبرئيل بهذه الآية: " وما جعلنا الرؤيا
التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا
كبير " (1) يعني بني أمية... قال: وأنزل الله - تعالى - في ذلك: " إنا أنزلناه في ليلة القدر و
ما أدريك ما ليلة القدر، ليلة القدر خير من ألف شهر " (2) تملكها بنو أمية ليس فيها ليلة
القدر.
قال: فاطلع الله - عز وجل - نبيه ان بني أمية تملك سلطان هذه الأمة، وملكها طول هذه
المدة فلو طاولتهم الجبال لطالوا عليها حتى يأذن الله - تعالى - بزوال ملكهم... فأسر
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك إلى علي وأهل بيته. قال: ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما خرج ولا يخرج منا
أهل البيت إلى قيام قائمنا أحد ليدفع ظلما أو ينعش حقا إلا اصطلمته البلية وكان قيامه زيادة
في مكروهنا وشيعتنا. "
أقول: مضافا إلى ما مر من الخدشة في سند الخبر، والى احتمال كون هذا السنخ
من الأخبار من مختلفات أيادي خلفاء الوقت لصرف العلويين عن الخروج عليهم
وإيجاد روح اليأس فيهم وصرف الناس عن التوجه إليهم والدخول تحت رايتهم: ان
مفاد الخبر كما ترى هو ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أسر بملك بني أمية وطوله مدة ألف شهر إلى
على وأهل بيته ومنهم الحسين الشهيد قطعا. والإمام الصادق (عليه السلام) قال: " ما خرج
ولا يخرج منا أهل البيت... "، فكلامه يشمل خروج الحسين (عليه السلام) أيضا، فلو كان بصدد
التخطئة للخروج لكان مفاد الحديث تخطئة خروج الحسين (عليه السلام) أيضا.
فيعلم بذلك ان المراد بالخبر - على فرض صدوره - ليس هو بيان الحكم الشرعي
وان الخروج جائز أو غير جائز، بل بيان أمر غيبي تلقاه الإمام (عليه السلام) من أجداده، وان
الخارج منا لا ينجح مأة بالمأة بحيث لا تعرض له البلية. والمصائب مكروهة للطبع
قهرا. وليس كل مكروه للطبع مكروها أو حراما في الشرع، بل

1 - سورة الإسرار (17)، الآية 60.
2 - سورة القدر (97)، الآية 1 - 3.
225

عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وتترتب عليه بركات من جهات اخر.
فلا يدل ذيل الحديث أيضا على تخطئة الخروج والقيام.
وقد مر أن إخبار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بشهادة الحسين (عليه السلام) أو شهادة زيد بالآخرة لم
يمنعهما عن الخروج، بعد اقتضاء التكليف للدفاع عن الحق والأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر وإتمام الحجة على كثير ممن اشتبه عليه الحق، مع تحقق الشرائط من
دعوة رؤساء الكوفة وقواتها المسلحة واخبار رائد الإمام مسلم بن عقيل بصدق
الداعين وبيعتهم.
كيف! ولو لم يكن للخروج أية فائدة إلا ظهور خباثة بني أمية وبروز باطنهم و
امتياز صف الباطل عن صف الحق وإتمام الحجة على الناس لئلا يكون لهم على الله
وعلى إمام العصر حجة - مضافا إلى تضعيف دولة الباطل وكسر سورتهم - لصار هذا
الخروج جائزا بل واجبا.
وفي نهج البلاغة: " فالموت في حياتكم مقهورين، والحياة في موتكم قاهرين. " (1)
وفيه أيضا: " وسأجهد في أن أطهر الأرض من هذا الشخص المعكوس والجسم
المركوس حتى تخرج المدرة من بين حب الحصيد. " (2)
ومراده (عليه السلام) معاوية، وهو من بني أمية ومن أصولها، وقد قاتله (عليه السلام) مع أنه (عليه السلام) أيضا
ممن أسر اليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما في الخبر بملك بني أمية.
فلعل مراده (عليه السلام) في المقام هو العمل بوظيفة الجهاد ليتميز الخبيث من الطيب وان لم
يظفر في جهاده بالأخرة.
ومفاد الآية الشريفة المذكورة في الخبر ان خلق الناس انما هو للفتنة والبلاء.
وسلطة الجائرين كبني أمية أيضا نحو فتنة وامتحان، ليميز الله الخبيث من الطيب
خارجا. وفي أيام الامتحان أيضا لا ينقطع لطف الله وتخويفه أيضا. فلعل خروج

1 - نهج البلاغة، فيض / 138; عبده 1 / 96; لح / 88، الخطبة 51.
2 - نهج البلاغة، فيض / 971; عبده 3 / 82; لح / 418، الكتاب 45.
226

الإمام الشهيد ونحوه أيضا كان من مصاديق التخويف المذكور في الآية ولكنه
مما زاد في طغيانهم.
ثم على فرض كون الخبر في مقام بيان الوظيفة والحكم الشرعي فهو كما ترى
مرتبط بأهل البيت، فلا يجوز التمسك به للسكوت منا في هذه الأعصار في قبال هجوم
الكفار والصهاينة على بلاد المسلمين وجميع شؤونهم.
ثم ان في الخبر اشكالا آخر، وهو ان ألف شهر يساوي ثلاثا وثمانين سنة وأربعة
أشهر. وخلافة عثمان أول خلفاء بني أمية كانت من السنة الثالثة والعشرين من
الهجرة. والبيعة للسفاح أول خلفاء بني العباس كانت في السنة الاثنتين وثلاثين و
مأة، فكانت مدة ملك بني أمية تسعا ومأة. ولو أضيف إلى ذلك مدة خلافة بني أمية في
الأندلس صارت قرونا. فكيف جعلها في الرواية الف شهر؟
اللهم الا ان لا تحسب مدة خلافة عثمان، ولا خلفاء الأندلس، فيجعل المبدأ السنة
الأربعين بعد شهادة أمير المؤمنين (عليه السلام) أو صلح الحسن المجتبى (عليه السلام) ويحذف أيضا تسع
أو ثمان سنوات من الآخر لضعف حكومتهم ومزاحمة إبراهيم العباسي وأخيه السفاح
والمسودة في خراسان لهم، فتدبر.
ويمكن ان يقال: ان المراد بألف شهر ليس مفاده المطابقي بل هو كناية عن أصل
الكثرة أو القلة، وهذا شائع في الاستعمالات.
والظاهر من الرواية - على فرض صدورها - ان نزول سورة القدر كان لتسلية
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في قبال ملك بني أمية، ولعلها من جهة بيان ان الملك الظاهري وان انتقل
إلى بني أمية، ولكن الأئمة من عترة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يكونون مهابط الملائكة والروح،
وعليهم تتنزل الأمور والمقدرات بنزولهم إليهم، وليلة القدر ليلة سلام عليهم، يسلم
عليهم الملائكة النازلون، كما ورد بذلك بعض الروايات، فلهم الملك بحسب الباطن
والمعنى، لكونهم وسائط الفيض والمقدرات. هذا.
ونظير المرفوعة وخبر الصحيفة أيضا رواية أبي الجارود، قال: " سمعت
227

أبا جعفر (عليه السلام) يقول: ليس منا أهل البيت أحد يدفع ضيما ولا يدعو إلى حق إلا صرعته
البلية، حتى تقوم عصابة شهدت بدرا لا يوارى قتيلها ولا يداوى جريحها. قلت: من عنى
أبو جعفر (عليه السلام)؟ قال: الملائكة. " (1)
ونحوها روايته الأخرى (2)، ولعلهما رواية واحدة وهذه قطعة من تلك، فراجع.
والجواب عنها يظهر مما مر.
ونعيد الكلام فنقول في الجواب عن هذه الأخبار ونظائرها - مضافا إلى ضعف
سندها المانع من نهوضها في مقابل الأدلة القطعية الحاكمة بالجهاد والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر وإقامة أحكام الإسلام والدفاع عن حوزة المسلمين وشؤونهم -
ان الظاهر كون بعضها من مختلقات أو تحريفات أيادي حكام الجور ومرتزقتهم،
حيث واجهوا قيام بعض العلويين واتجاه الناس إليهم فأرادوا بهذه الوسيلة قطع
رجائهم وإبعادهم عن ميدان السياسة - فالسياسة ما السياسة؟ وما أدراك ما السياسة؟!
وبعضها خاص بأصحاب الرايات الضالة الذين كانوا يدعون الناس إلى أنفسهم.
وبعضها ناظر إلى شخص معين أو ظرف معين حيث لا توجد مقدمات القيام و
شروطه.
وبعضها صادر عن تقية من حكام الجور.
وبعضها ليس في مقام بيان الحكم الشرعي، بل متضمن لإخبار غيبي فقط. إلى
غير ذلك من الوجوه التي مرت أو تأتي في الروايات الآتية، فانتظر.

1 - مستدرك الوسائل 2 / 248، الباب 12 من أبواب جهاد العدو، الحديث 6.
2 - مستدرك الوسائل 2 / 248، الباب 12 من أبواب جهاد العدو، الحديث 5.
228

الثالثة من أخبار الباب
خبر سدير، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): " يا سدير الزم بيتك وكن حلسا من
أحلاسه واسكن ما سكن الليل والنهار، فإذا بلغك ان السفياني قد خرج
فارحل الينا ولو على رجلك. " (1)
بتقريب ان سديرا لا خصوصية له، فيجب السكوت وترك الخروج إلى قيام القائم
- عليه السلام -.
أقول: الغاء الخصوصية يتوقف على العلم بعدم دخالة خصوصية الشخص
والمورد، وهو ممنوع في مثل سدير بعد تتبع حاله، إذ بالتتبع يظهر انه بنفسه لم يكن
ممن يتمكن من القيام وإقامة الحكومة الإسلامية، بل كان رجلا عاديا مخلصا للإمام
الصادق - عليه السلام -، ولكنه كان ممن يغلب إحساسه على تدبيره وفكره، وكان
يظن قدرة الإمام على الخروج وتحقق الشرائط لتصديه الخلافة، فكان ينتظر خروج
الإمام ويصر عليه حتى يكون هو أيضا تحت رايته، فأراد الإمام (عليه السلام) بيان انه -
عليه السلام - ليس ممن يوفق فعلا لتصدي الخلافة الظاهرية الفعلية وان العلامة للقائم
بالحق خروج السفياني.
والواجب على مثل هذا الشخص المشتبه عليه الأمر، والواقع تحت تأثير
الإحساس الخاطئ ليس إلا لزوم بيته، لئلا يهلك نفسه وغيره بلا فائدة.
والشاهد على ما ذكرنا من حال سدير أمور:
الأول: ما في تنقيح المقال انه: " ذكر عند أبي عبد الله (عليه السلام) سدير، فقال: سدير

1 - الوسائل 11 / 36، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 3.
229

عصيدة بكل لون. " (1)
والمراد منه على الظاهر انه معقود بكل لون، وانه رجل احساسي مزاجي غير
مستقيم بحسب الفكر والدقة، لا انه ملتزم بالتقية الواجبة ويتلون عند كل فرقة بلون
يحفظ به نفسه، كما في تنقيح المقال. إذ لو كان كذلك لم يكن يقع في سجن المخالفين،
وقد ورد فيه ان أبا عبد الله (عليه السلام) قال لزيد الشحام: " يا شحام، اني طلبت إلى إلهي في سدير
وعبد السلام بن عبد الرحمان - وكانا في السجن - فوهبهما لي وخلى سبيلهما. " (2)
الشاهد الثاني: ما في الكافي عن سدير الصيرفي، قال: " دخلت على أبي
عبد الله (عليه السلام) فقلت له: والله ما يسعك القعود. فقال: ولم يا سدير؟ قلت: لكثرة مواليك و
شيعتك وأنصارك. والله لو كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) مالك من الشيعة والأنصار
والموالي ما طمع فيه تيم ولا عدي. فقال: يا سدير، وكم عسى ان تكونوا؟ قلت: مأة ألف،
قال: مأة ألف؟ قلت: نعم، ومأتي ألف. قال: مأتي الف؟ قلت: نعم ونصف الدنيا.
قال: فسكت عني، ثم قال: يخف عليك ان تبلغ معنا إلى ينبع؟ قلت: نعم. فأمر بحمار
وبغل ان يسرجا، فبادرت فركبت الحمار، فقال: يا سدير، ترى ان تؤثرني بالحمار؟
قلت: البغل أزين وأنبل، قال: الحمار أرفق بي. فنزلت فركب الحمار وركبت البغل
فمضينا فحانت الصلاة، فقال: يا سدير، انزل بنا نصلي، ثم قال: هذه أرض سبخة لا يجوز
الصلاة فيها، فسرنا حتى صرنا إلى أرض حمراء، ونظر إلى غلام يرعى جداء فقال:
والله يا سدير، لو كان لي شيعة بعدد هذه الجداء ما وسعني القعود. ونزلنا وصلينا، فلما
فرغنا من الصلاة عطفت على الجداء فعددتها، فإذا هي سبعة عشر. " (3)
وقد ذكرنا الخبر بطوله، إذ يظهر منه وضع الإمام (عليه السلام) وظروفه وحدود ادراك سدير
ومدى تشخيصه لذلك، وليس مراد الإمام مطلق من يسمى بالشيعة، بل

1 - تنقيح المقال 2 / 8.
2 - تنقيح المقال 2 / 8.
3 - الكافي 2 / 242، كتاب الإيمان والكفر باب في قلة عدد المؤمنين، الحديث 4.
230

مراده الشيعة بمعناها الواقعي، أعني الثابت المواتي في جميع المراحل، وهم
قليلون جدا ولاسيما في تلك الأعصار.
والشاهد الثالث: خبر معلى بن خنيس الآتي، قال: " ذهبت بكتاب عبد السلام
بن نعيم وسدير وكتب غير واحد إلى أبي عبد الله (عليه السلام)، حين ظهر المسودة قبل ان يظهر
ولد العباس، بانا قد قدرنا أن يؤول هذا الأمر إليك، فما ترى؟ قال: فضرب بالكتب
الأرض، ثم قال: أف، أف، ما أنا لهؤلاء بإمام. أما يعلمون انه انما يقتل السفياني؟ " (1)
والظاهر ان المراد بعبد السلام بن نعيم هو عبد السلام بن عبد الرحمان بن نعيم،
الذي مر كونه مسجونا مع سدير، فنسب إلى جده.
والمراد بالمسودة أتباع أبى مسلم الخراساني، لسواد ألبستهم وألويتهم.
فأنت ترى ان سديرا ورفقاءه لعدم إحاطتهم بظروف الإمام ومقدار قدرته و
مقاصد المسودة في قيامهم توهموا تحقق الشرائط لرجوع الخلافة الفعلية إلى الامام.
فأبو مسلم وإن كان يدعو الناس إلى رجل من بني هاشم وأقام على ذلك سنين وتبعه
كثيرون، ولكنهم اختاروا هذا الشعار لجاذبيته في قبال بني أمية القاتلين لأهل بيت
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا سيما سيد الشهداء، ولم يكن غرضه واقعا إرجاع الحق إلى أهله حتى
يسلموا الأمر إلى الإمام الصادق (عليه السلام)، بل هو كان مبعوثا من قبل إبراهيم بن محمد
العباسي ليقوم بأمر خراسان. وبعد قتل إبراهيم صار يدعو الناس إلى أخيه عبد الله
السفاح. وبجنوده تغلب السفاح على مروان الحمار وهزمه، ولكن اشتبه امرهم على
مثل سدير ورفقائه.
وقوله (عليه السلام): " ما أنا لهؤلاء بإمام "، يحتمل أن يكون إشارة إلى المسودة، اي انهم
لا يرونني إماما لهم. ويحتمل ان يكون إشارة إلى سدير ورفقائه، فيريد اني لست لهم
بإمام، لعدم إطاعتهم لي، أو لست إمامهم الذي يتصدى للخلافة الفعلية.

1 - الوسائل 11 / 37، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 8.
231

ويقرب من هذا الخبر ما في تنقيح المقال عن الكشي بسنده عن عبد الحميد بن أبي
الديلم، قال: " كنت عند أبي عبد الله، فاتاه كتاب عبد السلام بن عبد الرحمان بن نعيم،
وكتاب الفيض بن المختار، وسليمان بن خالد، يخبرونه ان الكوفة شاغرة برجلها،
وانه إن أمرهم أن يأخذوها أخذوها. فلما قرأ كتابهم رمى به، ثم قال: " ما أنا لهؤلاء
بإمام. أما يعلمون ان صاحبهم السفياني؟ " (1)
ولعل المراد ان صاحبهم القائم (عليه السلام)، المصاحب للسفياني بحسب الزمان.
وكيف كان فبعدما عرفت من حال سدير وخصوصياته لا يجوز الغاء الخصوصية
في الخطاب الموجه اليه بلزوم بيته، لاحتمال الخصوصية.
وهل يجوز رفع اليد بسبب هذا الخبر ونظائره عن جميع الآيات والروايات
وحكم العقل، الحاكمة بوجوب الدفاع عن الإسلام وشؤون المسلمين في قبال هجوم
الكفار والجائرين، وان أمكن تحصيل القوة والقدرة لدفعهم، وفرض طول الغيبة
آلاف سنة؟! وقد عرفت عدم اشتراط الجهاد الدفاعي بإذن الإمام قطعا.
وقد ظهر بما ذكرنا حال خبر معلى بن خنيس أيضا.

1 - تنقيح المقال 2 / 152، ورجال الكشي / 353.
232

الرابعة من اخبار الباب
خبر أبي المرهف، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " الغبرة على من أثارها. هلك
المحاضير. " قلت: جعلت فداك، وما المحاضير؟ قال المستعجلون. أما انهم لن يريدوا إلا
من يعرض لهم. ثم قال: يا أبا المرهف، أما انهم لم يريدوكم بمجحفة إلا عرض الله - عز وجل
- لهم بشاغل. ثم نكت أبو جعفر (عليه السلام) في الأرض ثم قال: يا أبا المرهف! قلت: لبيك! قال:
أترى قوما حبسوا أنفسهم على الله - عز ذكره - لا يجعل الله لهم فرجا؟ بلى، والله ليجعلن
الله لهم فرجا. " (1)
وأبو المرهف عده الشيخ في الكنى باب أصحاب الباقر (عليه السلام) من رجاله (2)، وفي
تنقيح المقال: " لم أعرف اسمه ولا حاله ". (3)
والغبرة بالضم وبفتحتين: الغبار. والمحضار والمحضير من الخيل ونحوها بكسر
الميم فيهما: الشديد الركض. والمجحفة بضم الميم وتقديم الجيم: الداهية.
ويظهر من الخبر وقوع خروج ما لبعض على الحكومة، وتعقيب الحكومة
للخارجين، وخوف أبي المرهف من سراية التعقيب له، فأراد الإمام (عليه السلام) تقوية خاطره
ورفع خوفه ببيان ان ضرر الغبار يعود إلى من أثاره، فلا ينال أبا المرهف شئ. ثم
أخبر (عليه السلام) بهلاك المستعجل، أي من وقع تحت تأثير الأحاسيس الآنية وأقدم على
القيام قبل تهيئة المقدمات وإعداد القوة.
ولم يكن بناء أئمتنا على المنع عن الجهاد والدفاع، بل كانوا ينهون عن التعجيل
والتهور المضر بنفس الخارج وبالأئمة (عليهم السلام)، حتى ان أخبار التقية أيضا ليست بصدد
المنع عن الجهاد، بل بصدد الدقة في حفظ النفس مع الإمكان، مع الاشتغال

1 - الوسائل 11 / 36، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 4.
2 - رجال الشيخ / 142.
3 - تنقيح المقال 3 / 34 من فصل الكنى.
233

بالوظيفة الدفاعية. ولذا ورد: " ان التقية جنة المؤمن. " (1) أو: " التقية ترس
المؤمن. " (2) فان الجنة والترس تستعمل في ميدان المبارزة مع العدو، لا حين المبيت
في المأمن. والعقل أيضا يحكم بوجوب حفظ النفس مع الإمكان ولو في حال الدفاع.
والظاهر ان الضمير في قوله (عليه السلام): " انهم " في الموضعين يرجع إلى جنود الحكومة،
لا إلى الخارجين المستعجلين. ولعل مراده (عليه السلام) من القوم الذين حبسوا أنفسهم على
الله أهل بيت النبي، ومن الفرج الحاصل لهم بالأخرة الفرج الحاصل لأهل البيت بقيام
القائم (عليه السلام).
وكيف كان فليس الخبر في مقام المنع عن الدفاع في قبال هجوم الأعداء أو المنع
من إقامة الحكومة الدينية مع امكانه وامكان ايجاد شرائطه، فتدبر.

1 - الوسائل 11 / 460، الباب 24 من أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، الحديث 4.
2 - الوسائل 11 / 460، الباب 24 من أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، الحديث 6.
234

الخامسة من أخبار الباب
ما رواه الفضل بن سليمان الكاتب، قال: " كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فأتاه كتاب أبي
مسلم، فقال: ليس لكتابك جواب، اخرج عنا. فجعلنا يسار بعضنا بعضا، فقال: أي شيء
تسارون يا فضل، ان الله - عز ذكره - لا يعجل لعجلة العباد. ولإزالة جبل عن موضعه أيسر من
زوال ملك لم ينقض أجله. ثم قال: ان فلان بن فلان; حتى بلغ السابع من ولد فلان. قلت
فما العلامة فيما بيننا وبينك جعلت فداك؟ قال: لا تبرح الأرض يا فضل حتى يخرج
السفياني فإذا خرج السفياني فأجيبوا الينا - يقولها ثلاثا - وهو من المحتوم. " (1)
والسند إلى الفضل صحيح. وفضل كان يكتب للمنصور والمهدي على ديوان
الخراج. وقالوا في حقه انه مهمل، وان الظاهر كونه إماميا إلا انه مجهول الحال. (2)
أقول: والظاهر عدم الدليل على كونه إماميا الا روايته عن الإمام وحكاية كتاب
أبي مسلم اليه (عليه السلام). ومن المحتمل كونه من جواسيس الخليفة. فالرواية ضعيفة موهونة
من حيث السند.
وقد مر ان أبا مسلم في بادي الأمر كان مبعوثا إلى خراسان من قبل إبراهيم
العباسي، وبعد موته صار من دعاة أخيه السفاح، وبقوة جنوده ظفر السفاح وانتصر
على مروان الحمار، وفي حياة السفاح كان معظما لديه محترما عنده، ولكن بعد وفاة
السفاح وانتقال الملك إلى المنصور حسده المنصور على قدرته وخاف منه، وجعل
يضاده ويحقره، وفي آخر الامر قتله.

1 - الوسائل 11 / 37، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 5، عن روضة الكافي / 274،
الحديث 412.
2 - راجع تنقيح المقال 2 / 8 (من باب الفاء).
235

فلعله في هذه الفترة أراد الارتباط بالإمام الصادق ليتقوى بذلك في مقابل
المنصور ولم تكن نيته نية صادقة، والإمام (عليه السلام) اطلع على قصده، وكان يعلم قدرة
المنصور واستقرار الملك له وعدم تهيؤ المقدمات لقيامه (عليه السلام) بالثورة. وبالإخبار الغيبي
عد سبعة من أبناء المنصور يتصدون الخلافة. وكاتب المنصور أيضا كان حاضرا في
المجلس، فكان الظرف ظرف الاحتياط والتقية.
فعلى فرض صدور الخبر ففي هذا الظرف قال الإمام (عليه السلام): " ان الله لا يعجل لعجلة
العباد. ولإزالة جبل عن موضعه أيسر من زوال ملك لم ينقض أجله. "
وليس المراد عدم وجوب الدفاع عن الإسلام والمسلمين مع تهيئة المقدمات، أو
عدم جواز قتال السلاطين والملوك، والا كان كلامه (عليه السلام) تخطئة لجهاد علي (عليه السلام)
لمعاوية، والإمام الشهيد ليزيد، وزيد لهشام أيضا. وقد كثر في العالم قتال الملوك
والظفر عليهم، كما في كثير من الثورات الواقعة في الممالك والبلاد ومنها الثورة
الأخيرة في إيران.
فمراده (عليه السلام) إما بيان أمر غيبي، وهو ان ملك المنصور لا ينقضي، أو بيان أن القتال مع
الملوك يتوقف على تهيئة مقدمات كثيرة، فان هزيمة الملوك مع ثبات حكومتهم أمر
عسير كإزالة الجبال المتوقفة على صرف طاقات كثيرة، وإذا اتفق الانهزام أمام
الملوك وعدم الظفر عليهم فلا يصح أن يوجب ذلك يأسا، فان المقاتل قد يظفر وقد
لا يظفر، على ما يقتضيه طبع القتال.
ولا يريد ان انهزام الملوك محال، فان أدل الأشياء على إمكان الشئ وقوعه.
وفي آخر الحديث ذكر الإمام (عليه السلام) علامة حتمية لفرج آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو
السفياني.
وقد تقرأ هذه الكلمة بالتاء المثناة بدل النون، ويراد بها الثورة الماركسية العالمية.
ولكن يبعده ان الظاهر منها الشخص، لا المنهج. وقد ورد ان اسمه عثمان ابن عنبسة.
236

السادسة من أخبار الباب
صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " كل راية ترفع قبل قيام القائم (عليه السلام)
فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله - عز وجل. " (1)
وروى النعماني في الغيبة بسنده، عن مالك بن أعين، عن أبي جعفر (عليه السلام) انه قال:
" كل راية ترفع قبل راية القائم فصاحبها طاغوت. " (2)
أقول: قد مر في صحيحة عيص (3) وشرحها بالتفصيل ان الدعوة على قسمين:
فالدعوة إلى النفس باطلة، والدعوة لنقض الباطل وإقامة الحق وإرجاعه إلى أهله
حقة مؤيدة من قبل الأئمة (عليهم السلام).
فمراده بالراية هنا الراية الداعية إلى النفس في قبال الحق. وبعبارة أخرى: الراية
الواقعة في قبال القائم، لا في طريقه ومسيره وعلى منهجه. ولذا عبر عنها بالطاغوت،
وعقبها بكونها معبودة من دون الله.
ويؤيد ذلك قول أبي جعفر (عليه السلام) في حديث، على ما في الروضة: " وانه ليس من أحد
يدعو إلى ان يخرج الدجال الا سيجد من يبايعه، ومن رفع راية ضلالة فصاحبها
طاغوت. " (4)
فقيد الراية بالضلالة.
ولو قيل: بان الظاهر من الحديث تشخيص القيام الباطل بحسب الزمان

1 - الوسائل 11 / 37، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 6.
2 - مستدرك الوسائل 2 / 248، الباب 12 من أبواب جهاد العدو، الحديث.
3 - الصحيحة الأولى من أخبار الباب. راجع ص 205 وما بعدها من الكتاب.
4 - الكافي 8 / 296، (الروضة)، الحديث 456.
237

لا بحسب الهدف، وان الملاك في بطلان القيام كونه بحسب الزمان قبل قيام القائم،
والعموم استغراقي فلا يجوز القيام مطلقا بأي هدف وقع.
قلنا: أولا: انه من المحتمل أن تكون القضية خارجية، ويكون المراد رفع رايات
خاصة بصفات خاصة كانت موردا للبحث، إذ يبعد جدا صدور هذا الكلام عن
الإمام (عليه السلام) ارتجالا.
وثانيا: ان الصحيحة على هذا معارضة بصحيحة عيص وغيرها، مما دل على
تقديس قيام زيد وأمثاله مما كان للدعوة إلى الحق، ومنها قيام الحسين بن علي شهيد
فخ، وقد قام في خلافة موسى الهادي، ولم يعرف من أئمتنا (عليهم السلام) رواية تدل على
قدحه، بل وردت روايات مستفيضة ظاهرة في تقديسه وتقديس قيامه. ذكرها في
مقاتل الطالبيين، ولعلنا نذكرها في بعض المباحث الآتية. هذا.
1 - وفي غيبة النعماني بسنده عن أبي بصير، عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) في خبر
طويل في علامات الظهور: " وليس في الرايات راية أهدى من اليماني. هي راية هدى،
لأنه يدعو إلى صاحبكم. فإذا خرج اليماني حرم بيع السلاح على الناس وكل مسلم. وإذا
خرج اليماني فانهض اليه، فان رايته راية هدي. ولا يحل لمسلم ان يتلوى عليه، فمن فعل
ذلك فهو من أهل النار لأنه يدعو إلى الحق والى طريق مستقيم. " (1)
فيظهر من هذا الخبر تحقق راية للحق قبل القائم (عليه السلام) أيضا، وان الراية الداعية اليه
والواقعة في طريقه راية هدى يجب النهوض إليها.
2 - وفي كتاب الغيبة أيضا بسنده عن أبي خالد الكابلي، عن أبي جعفر (عليه السلام) انه قال:
" كأني بقوم قد خرجوا بالمشرق يطلبون الحق فلا يعطونه، ثم يطلبونه فلا يعطونه، فإذا رأوا

1 - الغيبة للنعماني / 171 (= طبعة أخرى / 256)، الباب 14 (باب ما جاء في العلامات التي تكون
قبل قيام القائم (عليه السلام))، الحديث 13.
238

ذلك وضعوا سيوفهم على عواتقهم فيعطون ما سألوا، فلا يقبلونه حتى يقوموا،
ولا يدفعونها الا إلى صاحبكم. قتلاهم شهداء. أما اني لو أدركت ذلك لاستبقيت نفسي
لصاحب هذا الأمر. " (1)
ورواه عن كتاب الغيبة في البحار أيضا. (2)
ودلالة الخبر أيضا على حدوث ثورة وقيام قبل القائم (عليه السلام) وكونه قيام حق
واضحة.
3 - وفي سنن ابن ماجة في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " انا أهل بيت اختار الله لنا
الآخرة على الدنيا، وان أهل بيتي سيلقون بعدي بلاء وتشريدا وتطريدا، حتى يأتي قوم من
قبل المشرق معهم رايات سود، فيسألون الخير فلا يعطونه، فيقاتلون فينصرون، فيعطون
ما سألوا، فلا يقبلونه حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي فيملؤوها قسطا كما ملؤها جورا،
فمن أدرك ذلك منكم فليأتهم ولو حبوا على الثلج. " (3)
4 - وفيه أيضا: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " يخرج ناس من المشرق فيوطئون للمهدي "
يعني سلطانه. (4)
5 - وفي البحار عن تاريخ قم بسنده عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) قال: " رجل من أهل
قم يدعو الناس إلى الحق، يجتمع معه قوم كزبر الحديد، لا تزلهم الرياح العواصف، ولا يملون
من الحرب، ولا يجبنون، وعلى الله يتوكلون، والعاقبة للمتقين. " (5)
ويحتمل انطباق مفاد هذه الأخبار على الثورة الإسلامية الواقعة في إيران، كما
لا يخفى.

1 - الغيبة للنعماني / 182 (= طبعة أخرى / 273)، الباب 14 (باب ما جاء في العلامات التي تكون
قبل قيام القائم (عليه السلام))، الحديث 50.
2 - بحارالأنوار 52 / 243، تاريخ الإمام الثاني عشر الباب 25 (باب علامات ظهوره (عليه السلام))،
الحديث 116.
3 - سنن ابن ماجة 2 / 1366، الباب 34 من كتاب الفتن (باب خروج المهدي)، الحديث 4082.
4 - سنن ابن ماجة 2 / 1368، الباب 34 من كتاب الفتن (باب خروج المهدي)، الحديث 4088.
5 - بحارالأنوار 57 / 216 (= طبعة إيران 60 / 216)، كتاب السماء والعالم، الباب 36 (باب
الممدوح من البلدان والمذموم منها)، الحديث 37.
239

6 - وفيه أيضا عن تاريخ قم: " روى بعض أصحابنا، قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام)
جالسا، إذ قرأ هذه الآية: " فإذا جاء وعد أوليهما بعثنا عليكم عبادا لنا اولي بأس شديد
فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا. " (1) فقلنا: جعلنا فداك من هؤلاء؟ فقال - ثلاث
مرات -: هم والله أهل قم. " (2)
7 - وفي صحيح مسلم بسنده عن جابر بن عبد الله، يقول: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول:
" لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة. " (3)
8 - وفيه أيضا بسنده عن جابر بن سمرة، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال: " لن يبرح هذا
الدين قائما، يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة. " (4) إلى غير ذلك من
الأخبار.
وثالثا: ان الصحيحة على ما ذكرتم في مفادها يجب طرحها، لمخالفتها للأدلة
القطعية الواردة في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. كيف! وقد مر ان
القيام للدفاع عن الإسلام وعن حوزة المسلمين من أهم الفرائض التي يحكم بها
الكتاب والسنة والعقل السليم.
بل يجب ذلك حتى لو فرض عدم القدرة على العمل الا في ظل راية الباطل، بشرط
عدم تأييد الباطل، بل الدفاع عن الحق فقط.
ففي خبر يونس قال: سأل أبا الحسن (عليه السلام) رجل وأنا حاضر، فقال له: جعلت فداك
ان رجلا من مواليك بلغه ان رجلا يعطي سيفا وقوسا في سبيل الله، فأتاه فأخذهما
منه وهو جاهل بوجه السبيل، ثم لقيه أصحابه فأخبروه ان السبيل مع

1 - سورة الإسراء (17)، الآية 5.
2 - بحارالأنوار 57 / 216 (= طبعة إيران 60 / 216)، الباب 36 (باب الممدوح من البلدان و
المذموم منها)، الحديث 40.
3 - صحيح مسلم 3 / 1524 (= طبعة أخرى 6 / 53)، كتاب الإمارة، الباب 53، الحديث 1923.
4 - صحيح مسلم 3 / 1524 (= طبعة أخرى 6 / 53)، كتاب الإمارة، الباب 53، الحديث 1922.
240

هؤلاء لا يجوز، وأمروه بردهما. قال: فليفعل. قال: قد طلب الرجل فلم يجده، وقيل
له: قد قضى الرجل؟ قال: فليرابط ولا يقاتل. قال: مثل قزوين وعسقلان والديلم وما
أشبه هذه الثغور؟ فقال: نعم. قال: فان جاء العدو إلى الموضع الذي هو فيه مرابط كيف
يصنع؟ قال: يقاتل عن بيضة الإسلام. قال: يجاهد؟ قال: لا، إلا أن يخاف على دار
المسلمين. أرأيتك لوان الروم دخلوا على المسلمين لم ينبغ (يسع - خ. ل) لهم أن
يمنعوهم؟ قال: يرابط ولا يقاتل. وان خاف على بيضة الإسلام والمسلمين قاتل، فيكون قتاله
لنفسه ليس للسلطان، لأن في دروس الإسلام دروس ذكر محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) (1).
وقد روى الحديث المشايخ الثلاثة. والظاهر صحته، فان محمد بن عيسى بن
عبيد وان اختلفوا في وثاقته ولكن الظاهر انه ثقة، كما قاله النجاشي. (2)
ويظهر من الخبران وجوب الدفاع عن حوزة الاسلام والمسلمين عند هجوم
الكفار امر واضح لامرية فيه، إذ في تركه دروس الإسلام وذكر من جاء به (صلى الله عليه وآله وسلم). وإذا
وجب شئ وجبت مقدماته بالضرورة. ومقدمة الدفاع في هذه الأعصار التسلح
بسلاح اليوم، والتدرب عليه والتكتل والتشكل مهما أمكن.
ثم نقول: هل يجب الجهاد والدفاع ودفع الكفار، ثم تفويض أمر الحكومة إلى
أهل الفسق والترف، لتدربهم في المسائل السياسية وعدم تدرب العلماء وأهل العدل
فيها، كما اتفق في العراق مثلا بعد إخراج البريطانيين منه بجهاد العلماء الأعلام؟! أو
يجب حفظ النظام ولو بصرف الوقت في تعلم المسائل السياسية والاقتصادية و
الاجتماعية والعسكرية، وتحصيل الاطلاع الكافي على ما يجري في العالم من
الحوادث والعلاقات حتى لا تهجم اللوابس والمشاكل؟
وفي الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام): " والعالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس. " (3)

1 - الوسائل 11 / 19، الباب 6 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
2 - رجال النجاشي / 235، (= طبعة أخرى / 333).
3 - الكافي 1 / 27، كتاب العقل والجهل، الحديث 29.
241

وكيف يهتم العلماء الأعلام بالأمور الجزئية ويعدونها من الأمور الحسبية التي
لا يرضى الشارع بتركها، كحفظ مال الصغير أو الغائب مثلا، ولا يهتمون بكيان الإسلام
ومقدرات المسلمين وشؤونهم وحفظ نظامهم وقدرتهم وطاقاتهم، ويعدون
التصدي لها مخالفا للاحتياط؟! فيحولونها ويفوضون أمرها إلى من لاعلم له
بالإسلام، ولا التزام له به، ولا تقوى لديه.
نعم، الظاهر عدم كون ذلك عن تقصير منهم في بادئ الأمر، إذ ان كونهم مسجونين
في زوايا المدارس وسراديبها، ومبعدين عن محيط السياسة في قرون متمادية
أوجب يأسهم من عودة الحكم إليهم، وأوجب عدم توجههم إلى مقدماتها ولوازمها،
وبمرور الزمان غفلوا واستغفلتهم دسائس الاستعمار أيضا.
ولكن من العجب عدم التوجه إلى ذلك حتى بعدما انتصرت ثورة إيران الإسلامية
واحتاجت إلى تعاضدهم وتعاونهم على حفظها والتصدي لشؤونها، بل ربما حمل
بعضهم عليها وهاجمها عوضا عن التعاون والتعاضد والسعي في تحصيل العلوم
المحتاج إليها في حفظها وإدارتها. اللهم، فوفقنا لنصر الاسلام وتقوية المسلمين بجاه
محمد وآله الطاهرين. هذا.
ولنرجع إلى فقه الحديث الذي كنا فيه، فنقول: وقد يحتمل بعيدا عدم كون
المراد بلفظ القائم الوارد فيه وفي بعض الأحاديث الأخر الإمام الثاني عشر القائم
في آخر الزمان، بل المراد به كل من يكون قيامه بالحق، ويكون الغرض في الحديث
تخطئة بعض من ينتهز الفرصة حين انشغال من له الحق في القيام بتحصيل المقدمات
والشرائط، فيستعجل هذا ويقوم قبله، طمعا في الرياسة واجتذاب الناس إلى نفسه.
ولعل بعض الأئمة (عليهم السلام) كانوا بصدد تهيئة المقدمات للقيام والثورة ولكن عدم تقية
بعض الشيعة وعدم كتمانهم، أو تقدم بعض المنتهزين قد هدم أساس القيام بالحق.
وفي تحف العقول في وصية أبي عبد الله (عليه السلام) لمؤمن الطاق: " فوالله لقد قرب هذا
242

الأمر ثلاث مرات فأذعتموه، فأخره الله. " (1)
وفي أصول الكافي أواخر كتاب الحجة عقد بابا في ان الأئمة (عليهم السلام) كلهم قائمون.
ففي رواية حكم عن أبي جعفر (عليه السلام) انه قال: " يا حكم، كلنا قائم بأمر الله. قلت: فأنت
المهدي؟ قال: كلنا نهدي إلى الله. قلت: فأنت صاحب السيف؟ قال: كلنا صاحب السيف
ووارث السيف. الحديث. " (2)
وفي رواية عبد الله بن سنان قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): " يوم ندعو كل أناس
بإمامهم " (3) قال: إمامهم الذي بين أظهرهم، وهو قائم أهل زمانه. " (4)
وقد مر منا سابقا ان لفظ الإمام وضع للقائد ومن يؤتم به، ولا يختص بالأئمة
الاثني عشر. فلعل المراد بقوله: " قائم أهل زمانه " أيضا الأعم، أعني القائم بالفعل في
كل أمة. هذا، ولكن الاحتمال المشار اليه بعيد جدا، إذ الظاهر من لفظ القائم،
المستعمل معرفا بأل التعريف في أخبارنا، هو القائم المعهود. فالمراد بالراية المذمومة
فيها، الراية الداعية إلى نفسها، لا إلى إقامة الحق والإمام الحق، فتدبر.

1 - تحف العقول / 310.
2 - الكافي 1 / 536، الحديث 1.
3 - سورة الإسراء (17)، الآية 71.
4 - الكافي 1 / 536، الحديث 3.
243

السابعة من اخبار الباب
خبر عمر بن حنظلة، قال: " سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: خمس علامات قبل قيام
القائم (عليه السلام): الصيحة، والسفياني، والخسف، وقتل النفس الزكية، واليماني. فقلت: جعلت
فداك ان خرج أحد من أهل بيتك قبل هذه العلامات أنخرج معه؟ قال: لا.
الحديث. " (1)
والسند لا بأس به، وان كان في ثبوت وثاقة عمر بن حنظلة كلام.
ولعل المراد بالصيحة النداء السماوي، كما في خبر الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام)
قال: " ينادي مناد من السماء أول النهار: ألا إن عليا وشيعته هم الفائزون. " قال: " وينادي
مناد في آخر النهار ألا إن عثمان وشيعته هم الفائزون. " (2)
والمراد بالخسف خسف جيش السفياني بالبيداء.
ونهى عمر بن حنظلة وأمثاله عن الخروج مع أحد من أهل بيته قضية في واقعة،
فلعل النظر كان إلى الخروج مع من كان يدعى المهدوية في ذلك العصر.
فالذيل تأكيد لكون العلامات المذكورة حتمية، وان الخارج من أهل بيته قبل هذه
العلامات ليس هو القائم الموعود.
وعلى أي حال لا ربط للحديث بالجهاد الدفاعي بالنسبة الينا بعد ما ثبت بالكتاب
والسنة والعقل لزومه ووجوبه.

1 - الوسائل 11 / 37، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 7.
2 - الكافي 8 / 310 (الروضة)، الحديث 484.
244

الثامنة
رواية معلى بن خنيس. وقد مر بيانها في ذيل الرواية الثالثة في شرح حال سدير،
فراجع. (1)
التاسعة
ما رواه الصدوق باسناده عن حماد بن عمرو وانس بن محمد، عن أبيه، عن
جعفر بن محمد، عن آبائه - عليهم السلام - (في وصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام)) قال: " يا
على، ان إزالة الجبال الرواسي أهون من إزالة ملك لم تنقض أيامه. " (2)
أقول: الرواية جزء من رواية طويلة ذكرها الصدوق في أواخر الفقيه. وأكثر
فقراتها متضمنة لاحكام شرعية أو آداب أخلاقية. ولعل بعضها متضمن لأخبار غيبية.
وليس غرض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من هذه الفقرة ان القيام في قبال الملوك غير مفيد وغير
ناجح. كيف! وقد كثرت الثورات في قبال الملوك في أروبا وآسيا وإفريقيا وقد
نجحت، وأخيرا ترى انه قد نجحت ثورة إيران الإسلامية في قبال الملكية، وأدل
الأشياء على إمكان الشئ وقوعه.

1 - راجع ص 231 من الكتاب.
2 - الوسائل 11 / 38، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 9.
245

وليس المراد أيضا تحريم القيام في قبال الملوك، وإلا لم يصح قيام
أمير المؤمنين (عليه السلام) في قبال معاوية الذي أحكم أساس ملكه في الشام، وقد قاتله
ورغب في قتاله وقال (عليه السلام) كما في نهج البلاغة: " وسأجهد في أن أطهر الأرض من هذا
الشخص المعكوس والجسم المركوس حتى تخرج المدرة من بين حب الحصيد. " (1)
ولو صح ما مر في مقدمة الصحيفة من ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اسر اليه والى أهل بيته بملك
بني أمية ومدته فلا محالة كان غرضه (عليه السلام) من قتاله تميز صف الحق من صف الباطل
واتمام الحجة، كما يشعر به ظاهر العبارة. وهكذا قيام سيد الشهداء في قبال ملك
يزيد.
وبالجملة، لم يكن غرض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من هذه الفقرة بيان عدم النجاح أو حرمة
القيام في قبال الملوك، بل بيان ان المقدر والمقضى من الملك كغيره من الأمور كائن
لا محالة، فيجب ان لا توجب الهزيمة على يد الملوك يأسا للقائم بالحق، فلعله يظفر
بعد ذلك وان لم يظفر فإنه قد عمل بوظيفته، أو بيان ان إزالة الملك أمر عسير جدا،
كإزالة الجبل الراسي، وانه أمر لا يتحقق إلا بتهيئة مقدمات كثيرة ومرور زمان كثير و
ارشاد الناس وتوعيتهم السياسية، كما ان إزالة الجبل عن موضعه لا تتحقق إلا بصرف
زمان كثير وطاقات كثيرة.
وعلى أي حال فوظيفة الناس بالنسبة إلى الدفاع عن الاسلام والمسلمين باقية
بحالها، ولا محالة يجب تحصيل مقدماتها، فتدبر.

1 - نهج البلاغة، فيض / 971; عبده 3 / 82; لح / 418، الكتاب 45.
246

العاشرة
رواية عيص. وهي قطعة من روايته الأولى التي مرت بالتفصيل، فراجع. (1)
الحادية عشرة
رواية أبي عبدون، المروية عن العيون، الواردة في شأن زيد. وقد مرت أيضا في
ذيل الرواية الأولى في شرح حال زيد، فراجع. (2)
الثانية عشرة
ما رواه في آخر السرائر من كتاب احمد بن محمد بن سيار، أبي عبد الله السياري،
عن رجل قال: ذكر بين يدي أبي عبد الله (عليه السلام) من خرج من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: " لا
زال أنا وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمد. ولوددت أن الخارجي من آل محمد
خرج وعلي نفقة عياله. " (3)
والسند ضعيف مضافا إلى الإرسال. فعن النجاشي ان السياري ضعيف فاسد
المذهب، مجفو الرواية، كثير المراسيل. وعن ابن الغضائري انه ضعيف متهالك غال

1 - راجع ص 205 وما بعدها من الكتاب.
2 - راجع ص 210 وما بعدها من الكتاب.
3 - الوسائل 11 / 39، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 12.
247

منحرف. نعم، عن المستدرك انه رام إثبات وثاقته بإكثار الكليني وغيره عنه. (1)
وكيف كان فذكر صاحب الوسائل للخبر في هذا الباب بلا وجه، إذ ليس الخبر من
أدلة منع الخروج، بل من أدلة جوازه اجمالا. وليس مفاده تأييد كل خروج من آل
محمد وجوازه، بل هو بصدد بيان النفع والخير المترتب عليه قهرا، حيث ان الخروج
يوجب اشتغال امام الجور بدفع من خرج فيغفل قهرا عن الامام (عليه السلام) وشيعته، فان كان
الخارج داعيا إلى الحق فهو، وإلا فلا أقل من اشتغال الظالم بالظالم، فيبقى أهل الحق
في البين سالمين.
الثالثة عشرة
خبر العبيدي عن الصادق (عليه السلام) قال: " ما كان عبد ليحبس نفسه على الله إلا أدخله الله
الجنة. " (2)
وليس هذا الخبر أيضا من أدلة السكوت ومنع الخروج، إذ حبس النفس على الله
معناه وقفه في سبيل الله، وهو إلى مثل الجهاد أنسب. فهو نظير لفظ الصبر الذي يتبادر
منه إلى أذهان عرف العجم السكوت وعدم التحرك، مع أن المراد منه الاستقامة في
ميدان العمل بحيث لا تمنعه المشكلات والحوادث المترتبة عليها عن الجهاد
والنضال، فتدبر.

1 - راجع تنقيح المقال 1 / 87.
2 - الوسائل 11 / 39، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 13.
248

الرابعة عشرة
ما رواه الحسين بن خالد، قال: " قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): ان عبد الله ابن بكير
كان يروي حديثا، وأنا أحب أن أعرضه عليك. فقال: ما ذلك الحديث؟ قلت: قال ابن
بكير: حدثني عبيد بن زرارة، قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) أيام خرج محمد
(إبراهيم) بن عبد الله بن الحسن، إذ دخل عليه رجل من أصحابنا فقال له: جعلت
فداك ان محمد بن عبد الله قد خرج، فما تقول في الخروج معه؟ فقال: اسكنوا ما
سكنت السماء والأرض. فقال عبد الله بن بكير: فان كان الأمر هكذا أو لم يكن خروج
ما سكنت السماء والأرض فما من قائم وما من خروج. فقال أبو الحسن (عليه السلام): صدق أبو
عبد الله (عليه السلام) وليس الأمر على ما تأوله ابن بكير، انما عنى أبو عبد الله (عليه السلام): اسكنوا ما سكنت
السماء من النداء والأرض من الخسف بالجيش. " (1)
أقول: قد مر ان الظاهر من الأخبار والتواريخ ان محمد بن عبد الله قد خرج
بعنوان المهدوية، وكان يدعو إلى نفسه، فيريد الإمام (عليه السلام) بيان ان لقيام المهدي هاتين
العلامتين، فلا تقبلوا ادعاء من ادعاها قبلهما. هذا.
مضافا إلى ان السائل لا يعلم من هو. ولعله كان في المجلس أحد من الجواسيس،
ولذا أجاب الإمام بنحو الإجمال، مما يوهم عدم الخروج والقيام أصلا، كما توهمه
ابن بكير.
وكيف كان فالمستفاد من الحديث كون النداء والخسف من علائم المهدي
الموعود، فلا يجوز الخروج مع من يدعي المهدوية قبلهما. فلا يدل على السكوت
وعدم القيام في قبال هجوم أعداء الإسلام على الاسلام وشؤون المسلمين، وهذا
واضح.

1 - الوسائل 11 / 40، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 14.
249

الخامسة عشرة
ما في نهج البلاغة في آخر خطبة من خطبه: " الزموا الأرض واصبروا على البلاء، ولا
تحركوا بأيديكم وسيوفكم في هوى ألسنتكم، ولا تستعجلوا بما لم يعجله الله لكم، فإنه من
مات منكم على فراشه وهو على معرفة حق ربه وحق رسوله وأهل بيته مات شهيدا ووقع
أجره على الله واستوجب ثواب ما نوى من صالح عمله وقامت النية مقام إصلاته لسيفه، وان
لكل شيء مدة وأجلا. " (1)
أقول: لا يخفى ان كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) وخطبه مليئة بالحث على الجهاد
والتحريص عليه، وكفاك في ذلك الخطبة 27، وفيها قوله: " فقبحا لكم وترحا حين
صرتم غرضا يرمى. يغار عليكم ولا تغيرون، وتغزون ولا تغزون، ويعصى الله وترضون. " (2)
فلا محالة يختص كلامه هنا بمورد خاص وحالة خاصة، وقد مر ان الجهاد مثل
سائر الأمور يتوقف على تهيئة المهمات والقوات ووضع البرنامج الصحيح، وأن الاستعجال فيه والوقوع تحت تأثير الأحاسيس الآنية مضر جدا، فأراد - عليه السلام -
هنا بيان ذلك.
وفي شرح ابن أبى الحديد:
" وليس خطابه (عليه السلام) هذا تثبيطا لهم عن حرب أهل الشام، كيف وهو لا يزال يقرعهم و
يوبخهم عن التقاعد والابطاء في ذلك، ولكن قوما من خاصته كانوا يطلعون على ما عند قوم
من أهل الكوفة ويعرفون نفاقهم وفسادهم، ويرومون قتلهم

1 - نهج البلاغة، فيض / 765; عبده 2 / 156; لح / 282، الخطبة 190.
2 - نهج البلاغة، فيض / 95; عبده 1 / 65; لح / 70.
250

وقتالهم، فنها هم عن ذلك. وكان يخاف فرقة جنده وانتثار حبل عسكره، فامرهم بلزوم
الأرض والصبر على البلاء. " (1)
وفي شرح ابن ميثم البحراني:
" نهى (عليه السلام) عن الجهاد من غير أمر أحد من الأئمة من ولده بعده. وذلك عند عدم قيام من
يقوم منهم لطلب الأمر، فإنه لا يجوز إجراء هذه الحركات إلا بإشارة من إمام الوقت. " (2)
أقول: ما ذكره الشارح البحراني " ره " خلاف الظاهر، والأظهر ما مر منا، ويقرب
منه ما ذكره ابن أبي الحديد.
وكيف كان فلا يرتبط كلامه (عليه السلام) بأعصارنا هذه بالنسبة إلى الجهاد الدفاعي بعد تهيئة
شرائطه ومقدماته، بل الجهاد الابتدائي أيضا، كما مر.

1 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 13 / 113.
2 - شرح نهج البلاغة لابن ميثم 4 / 210.
251

السادسة عشرة
خبر جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " الزم الأرض ولا تحرك يدا ولا رجلا حتى ترى
علامات أذكرها لك - وما أراك تدركها -: اختلاف بني فلان، ومناد ينادي من السماء،
ويجيئكم الصوت من ناحية دمشق. الحديث. " (1)
ولا يخفى ان المخاطب هو جابر، وما ذكر قضية في واقعة. ولعله كان لجابر
خصوصية، نظير ما كان لسدير على ما مر، أو لعل المجلس لم يخل من الأغيار، أو ان
غرضه (عليه السلام) بيان العلائم الحتمية للقائم بالحق لرفع الاشتباه لدى جابر، حيث ان وجود
الفساد والظلم الشديد في عصره وما ورد من ان القائم بالحق، هو الذي يقوم لرفعهما
مما جعله يتوهم حلول وقت القيام. وبعبارة أخرى ذكر علائم المهدي والقائم بالحق
شاهد على ان الغرض النهي عن التحرك مع من يدعي المهدوية ما لم توجد هذه
العلامات. إلى غير ذلك من المحتملات.
وكيف كان فلا يقاوم مثل هذا الخبر أدلة الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر بكثرتها، كما لا يخفى.
السابعة عشرة
ما رواه عن كتاب الغارات عن زربن حبيش، قال: " خطب علي (عليه السلام)
بالنهروان (إلى ان قال): فقام رجل فقال: يا أمير المؤمنين حدثنا عن الفتن. فقال:

1 - الوسائل 11 / 41، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 16.
252

ان الفتنة إذا أقبلت شبهت. ثم ذكر الفتن بعده (إلى ان قال): فقام رجل فقال: يا
أمير المؤمنين ما نصنع في ذلك الزمان؟ قال: انظروا أهل بيت نبيكم، فان لبدوا فالبدوا،
وان استصرخوكم فانصروهم توجروا، ولا تستبقوهم فتصرعكم البلية. ثم ذكر حصول الفرج
بخروج صاحب الأمر (عليه السلام). " (1)
أقول: الخطبة طويلة مذكورة في أول كتاب الغارات (2) وذكر قسما منها في
نهج البلاغة (3) وذكر نحوها مفصلة في كتاب سليم بن قيس. (4)
وظاهر كتاب الغارات كون المراد بذلك الزمان زمن فتنة بني أمية. وكون المرجع
الحق في عصر بين أمية أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واضح عندنا. وقد ذكر وجوب السكون
والتوقف مع سكونهم، ووجوب نصرهم مع قيامهم واستصراخهم.
وعلى أي حال فالإرجاع إلى أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يستلزم حضورهم وظهورهم
وإمكان جعلهم أسوة، فلا يعم الكلام لعصر الغيبة. اللهم إلا ان يراد كلماتهم
وإرشاداتهم الباقية، فيصير محصل الرواية وجوب كون الأئمة من أهل البيت و
إرشاداتهم الباقية محورا للعمل ولو في القيام والجهاد ولا يجوز التخلف عنهم، وهذا
أمر صحيح على مذهبنا.
وكيف كان فلا تنافي الرواية أدلة الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
بمعناهما الوسيع، فتدبر.
فهذه سبعة عشر حديثا ذكرها في الوسائل في الباب 13 من كتاب الجهاد،
ربما يتمسك بها من يرى السكون والسكوت في عصر الغيبة. وقد أوضحنا المراد
منها. ولا يخفى ان أكثرها مخدوش من حيث السند أيضا، ويحتمل كونها مختلقة من

1 - الوسائل 11 / 41، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 17.
2 - الغارات 1 / 1 - 13.
3 - نهج البلاغة، فيض / 273; عبده 1 / 182; لح 137، الخطبة 93.
4 - كتاب سليم بن قيس / 156.
253

قبل أيادي خلفاء الجور ومرتزقتهم لردع العلويين وشيعتهم عن القيام في قبالهم.
وذكر في الباب 12 من جهاد المستدرك أيضا أخبار اخر يظهر الجواب عنها مما
ذكر، فراجع وتأمل فيما ذكرناه.
254

خلاصة
قد ظهر لك مما ذكرناه إلى هنا ان الجهاد - على ما قالوا - قسمان: ابتدائي ودفاعي.
والأول مشروط بإذن الإمام قطعا، وان احتملنا، بل قوينا عدم اختصاصه بالإمام
المعصوم وشموله للفقيه الواجد للشرائط أيضا بل وكون الشرط للوجود لا للوجوب.
والثاني غير مشروط به، بل يحكم بضرورته ووجوبه مطلقا الكتاب والسنة
والعقل. نعم، يجب أن يكون منطبقا على موازين العقل، بأن تمهد مقدماته وأسبابه.
وعندما يكون الدفاع في قبال هجوم الأعداء على بيضة الإسلام وكيانه وشؤون
المسلمين وبلادهم فهو لا محالة يتوقف على التسلح والتدرب والتشكل و
الانسجام، ولا يتحقق ذلك قهرا إلا بأن يؤمروا على أنفسهم أميرا صالحا ينظم
أمورهم، حذرا من الهرج والمرج، وان شئت فسمه إماما، ولكنه شرط للوجود
لا للوجوب، بخلافه في الأول على ما قالوا.
نعم، هنا روايات ذكرها في الوسائل في الباب 13 من كتاب الجهاد، وفي
المستدرك في الباب 12 منه مما توهم لزوم السكوت وعدم التحرك في قبال الفساد
والظلم والهجمات قبل قيام القائم (عليه السلام) وان بلغت ما بلغت وطالت الغيبة آلاف سنة.
وملخص الجواب عنها - بعد الغض عن سندها:
ان بعضا منها متعرضة لإخبارات غيبية، كمدة ملك بني أمية وبني العباس وسائر
الفتن والملاحم، وليست بصدد إيجاب السكوت وعدم التحرك، وإلا لكان
أمير المؤمنين (عليه السلام) بنفسه أول عامل بخلافها، وكذلك سيد الشهداء (عليه السلام).
وبعضها في مقام النهي عن الخروج مع من يدعو إلى نفسه باطلا في قبال من
255

يدعو إلى إقامة الحق وإرجاعه إلى أهله.
وبعضها في مقام بيان العلائم الحتمية للقائم بالحق لرفع الشبهة للمخاطب.
وبعضها في مقام النهي عن الاستعجال المضر قهرا مع عدم تهيؤ المقدمات وعدم
بلوغ الأوان.
ولعل بعضها أيضا في مقام بيان ان الخروج الناجح مأة بالمأة في جميع أهدافه هو
قيام القائم بالحق في آخر الزمان، وان غيره لا ينجح كذلك وان نجح نجاحا نسبيا أو
ترتب عليه إتمام الحجة أو غير ذلك وقلنا بوجوبه لذلك. وأنت تعلم ان القيام الناجح
مأة بالمأة الشامل لكافة الناس لم يتحقق إلى الآن حتى على يد نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم).
وبعضها قضية في واقعة خاصة أو ترتبط بشخص خاص، وليس بنحو يعلم بعدم
الخصوصية له. إلى غير ذلك من الوجوه.
وكيف كان فلا تقاوم هذه الأخبار ما قدمناه من أدلة الجهاد والأمر بالمعروف و
النهي عن المنكر بمراتبهما الوسيعة، وما مر من وجوب إقامة الدولة العادلة ووجوب
إجراء قوانين الإسلام وعدم كونها موقتة بوقت خاص. هذا.
وقد طال كلامنا في هذا الفصل إجمالا وأرجو من الفضلاء الكرام متابعة البحث
والبسط فيه، إذ كان تعرضنا له بنحو الاستطراد، والله الموفق للصواب والسداد.
ويأتي منا في المسألة السادسة عشرة من الفصل السادس من الباب الخامس
بحث في حكم القيام والكفاح المسلح ضد الطواغيت والجبابرة. وهو أيضا بحث
لطيف وله ارتباط بالبحث في هذا الفصل، فانتظر.
256

الباب الرابع
في شرائط الإمام والوالي الذي تصح إمامته وتجب طاعته
257

شرائط الإمام الذي تجب طاعته
أقول: قد تعرضنا في الباب الأول لما يقتضيه الأصل في مسألة الولاية إجمالا.
وفي الباب الثاني لولاية النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين - سلام الله عليهم
أجمعين -.
وفي الباب الثالث للزوم الولاية في جميع الأعصار حتى في عصر الغيبة، وانه
لا يجوز للمسلمين إهمالها وعدم الاهتمام بها.
وقد طال البحث فيه، وعقدنا فيه أربعة عشر فصلا للسير الإجمالي في أبواب الفقه
والروايات وفتاوى الأصحاب التي يستفاد منها إجمالا كون تشريع الأحكام في
الإسلام على أساس الولاية والحكومة، وانها داخلة في نسج الاسلام ونظامه. ثم
ذكرنا في فصل مستقل عشرة أدلة للمدعى. وتعرضنا في فصل آخر للأخبار التي
توهم وجوب السكوت والسكون في عصر الغيبة بعنوان المعارض لما سبق، وأوضحنا
المراد منها.
فالآن حان وقت التعرض لشرائط الإمام والوالي على أساس العقل والكتاب و
السنة، ونذكر ذلك في اثني عشر فصلا:
259

الفصل الأول
في ذكر بعض الكلمات من العلماء والفقهاء في شرائط الإمام و
الوالي
نتعرض لها نموذجا لما يترتب على الاطلاع عليها من زيادة البصيرة في المسألة،
ولا سيما وانه يظهر بها ان اعتبار الفقاهة والاجتهاد في الوالي ليس أمرا تفوه به
المتأخرون، بل كان مشهورا بين الأعاظم من أهل الفقه والعلم في جميع الأعصار،
فنقول:
1 - رأي ابن سينا:
قال الشيخ الرئيس ابن سينا في أواخر الإلهيات من الشفاء في فصل عقده للبحث
في الخليفة والإمام:
" ثم يجب ان يفرض السان طاعة من يخلفه، وان لا يكون الاستخلاف إلا من
جهته أو باجماع من أهل السابقة على من يصححون علانية عند الجمهور انه مستقل
بالسياسة، وانه أصيل العقل حاصل عنده الأخلاق الشريفة من الشجاعة والعفة
وحسن التدبير، وانه عارف بالشريعة حتى لا أعرف منه، تصحيحا يظهر ويستعلن
ويتفق عليه الجمهور عند الجميع. ويسن عليهم انهم إذا افترقوا أو تنازعوا للهوى
261

والميل أو اجمعوا على غير من وجدوا الفضل فيه والاستحقاق له فقد كفروا بالله.
والاستخلاف بالنص أصوب فان ذلك لا يؤدي إلى التشعب والتشاغب
والاختلاف. " (1)
2 - رأي الفارابي:
وعنى الفارابي بأمر الرئيس الأعلى الذي يتولى إدارة شؤون الحكم، فاقترح أن
يكون شخصا واحدا لا يرأسه إنسان آخر أصلا، ويسميه: " الرئيس الأول للمدينة
الفاضلة ورئيس المعمورة من الأرض كلها ".
ومجمل الصفات التي ذكرها هي:
" ان يكون حكيما، قوى الجسم، قوى العزيمة، جيد الفهم، جيد الحفظ، وافر
الذكاء، حسن العبارة، محبا للعلم، يتحمل المتاعب في سبيله، غير شره في اللذات
الجسدية، محبا للصدق، كريم النفس، عادلا ينصف الناس حتى من نفسه وأهله،
شجاعا مقداما. "
وعقب بعد ذكر هذه الشروط فقال:
" ان اجتماع كل هذه الصفات في شخص واحد يكون نادرا، فإن أتيح توفرها في
إنسان كان هو الرئيس، وإلا فالرئيس كل من اجتمع فيه أكبر قدر ممكن من هذه
الصفات، وإذا لم يوجد الإنسان الذي تجتمع فيه أكثر هذه الصفات ولكن وجد اثنان
أحدهما حكيم والآخر فيه الصفات الباقية يتوليان معا الرياسة، ويكون كل واحد
منهما مكملا للآخر، فإذا تفرقت هذه الصفات في أكثر من اثنين، وكانوا متلائمين
كانوا هم الرؤساء الأفاضل. "
ويرى ان الحكمة من أهم صفات الرئيس الأعلى، فإذا لم توجد هذه الصفة في

1 - الشفاء / 451 (= طبعة أخرى 563 - 564).
262

أحد بقيت المدينة الفاضلة بدون رئيس، وذلك مما يؤدي إلى الهلاك (1).
3 - رأي الماوردي:
وفي كتاب الاحكام السلطانية لأبي الحسن الماوردي:
" وأما أهل الإمامة فالشروط المعتبرة فيهم سبعة: أحدها: العدالة على شروطها
الجامعة. والثاني: العلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام. والثالث: سلامة
الحواس من السمع والبصر واللسان ليصح معها مباشرة ما يدرك بها. والرابع: سلامة
الأعضاء من نقص يمنع عن استيفاء الحركة وسرعة النهوض. والخامس: الرأي
المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح. والسادس: الشجاعة والنجدة المؤدية إلى
حماية البيضة وجهاد العدو. والسابع: النسب، وهو أن يكون من قريش لورود النص
فيه وانعقاد الإجماع عليه. " (2)
أقول: قوله: " الاجتهاد في النوازل والأحكام "، لعل المراد بالأول معرفة ماهية
الحوادث الواقعة المهمة التي يجب على سائس الملة معرفتها بخصوصياتها
ومقارناتها حتى يقدر على تطبيق الأحكام الكلية عليها، والمراد بالثاني نفس
الأحكام الكلية.
وبعبارة أخرى يراد بالأول معرفة الصغريات، وبالثاني العلم بالكبريات عن
اجتهاد. ولا يخفى ان معرفة الصغريات في المسائل الاجتماعية والسياسية من أهم
الأمور وأعضلها. وما ورد في التوقيع الشريف من قوله (عليه السلام): " وأما الحوادث الواقعة
فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا " (3) أيضا لعله يراد به الرجوع لمعرفة نفس الحوادث
وتشخيصها، لا العلم بالأحكام الكلية، فتدبر.

1 - راجع نظام الحكم والإدارة في الإسلام / 219.
2 - الأحكام السلطانية / 6.
3 - الوسائل 18 / 101، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 9.
263

4 - رأي القاضي أبي يعلى الفراء:
وفي كتاب الأحكام السلطانية للقاضي أبي يعلى الفراء:
" وأما أهل الإمامة فيعتبر فيهم أربع شروط: أحدها: ان يكون قرشيا من الصميم...
الثاني: أن يكون على صفة من يصلح أن يكون قاضيا من الحرية والبلوغ والعقل و
العلم والعدالة. والثالث: ان يكون قيما بأمر الحرب والسياسة وإقامة الحدود لا تلحقه
رأفة في ذلك، والذب عن الأمة. الرابع: أن يكون من أفضلهم في العلم والدين.
وقد روي عن الإمام أحمد ألفاظ تقتضي إسقاط اعتبار العدالة والعلم والفضل
فقال - في رواية عبدوس بن مالك القطان -: ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة
وسمي أمير المؤمنين لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماما
عليه، برا كان أو فاجرا، فهو أمير المؤمنين. وقال أيضا - في رواية المروزي -: فان
كان أميرا يعرف بشرب المسكر والغلول يغزو معه، إنما ذاك له في نفسه. " (1)
أقول: لا يخفى ان مقتضى ما حكاه عن أحمد أن الباغي بالسيف على الإمام الحق
في أول الأمر باغ يجب على المسلمين قتاله ودفعه، ثم إذا فرض غلبته يصير بذلك
إماما واجب الطاعة، ووجب الدفاع عنه والتسليم له وان كان من أفسق الفسقة وأعتى
الجبابرة، وهذا عجيب.

1 - الأحكام السلطانية / 20.
264

5 - كلام العلامة الحلي في التذكرة:
قال في فصل قتال أهل البغي من التذكرة ما ملخصه:
" يشترط في الإمام أمور: أ: أن يكون مكلفا، فإن غيره مولى عليه في خاصة نفسه
فكيف يلي أمر الأمة؟ ب: ان يكون مسلما، ليراعي مصلحة المسلمين والإسلام
وليحصل الوثوق بقوله ويصح الركون اليه. ج: أن يكون عدلا. د: أن يكون حرا. ه‍: ان
يكون ذكرا، ليهاب وليتمكن من مخالطة الرجال. و: أن يكون عالما، ليعرف الأحكام
ويعلم الناس. ز: ان يكون شجاعا، ليغزو بنفسه ويعالج الجيوش. ح: ان يكون ذا رأي
وكفاية. ط: ان يكون صحيح السمع والبصر والنطق، ليتمكن من فصل الأمور. وهذه
الشرائط غير مختلف فيها.
ى: ان يكون صحيح الأعضاء كاليد والرجل والأذن، وبالجملة اشتراط سلامة
الأعضاء، وهي أولى قولي الشافعي. يا: ان يكون من قريش، لقوله: " الأئمة من
قريش. " (1) وهو أظهر قولي الشافعية، وخالف فيه الجويني. يب: يجب ان يكون
الإمام معصوما عند الشيعة، لأن المقتضي لوجوب الإمامة ونصب الإمام جواز الخطأ
على الأمة المستلزم لاختلال النظام، فإن الضرورة قاضية بأن الاجتماع مظنة التنازع
والتغالب... يج: ان يكون منصوصا عليه من الله - تعالى - أو من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو ممن
ثبتت إمامته بالنص منهما، لأن العصمة من الأمور الخفية التي لا يمكن الاطلاع عليها،
فلو لم يكن منصوصا عليه لزم تكليف ما لا يطاق. يد: أن يكون أفضل أهل زمانه،
ليتحقق التمييز عن غيره. ولا يجوز عندنا تقديم المفضول على الفاضل، خلافا لكثير
من العامة، للعقل والنقل... والأفضلية تتحقق بالعلم والزهد والورع وشرف النسب
والكرم والشجاعة وغير ذلك من الأخلاق الجميلة.

1 - بحارالأنوار 25 / 104، كتاب الإمامة الباب 1 من أبواب علامات الإمام...، الحديث 1.
265

يه: ان يكون منزها عن القبائح، لدلالة العصمة عليه، ولأنه يكون مستحقا للإهانة
والإنكار عليه، فيسقط محله من قلوب العامة فتبطل فائدة نصبه، وأن يكون منزها من
الدناءة والرذائل... وان يكون منزها عن دناءة الآباء وعهر الأمهات، وقد خالفت
العامة في ذلك كله. " (1)
أقول: يأتي في الفصل الثاني عشر البحث في العصمة والنص.
6 - رأي القاضي الباقلاني:
قال العلامة الأميني في الغدير:
" قال الباقلاني في التمهيد، ص 181: باب الكلام في صفة الإمام الذي يلزم العقد
له. فإن قال قائل: فخبرونا ما صفة الإمام المعقود له عندكم؟ قيل لهم: يجب أن يكون
على أوصاف: منها: أن يكون قرشيا من الصميم. ومنها: أن يكون من العلم بمنزلة من
يصلح أن يكون قاضيا من قضاة المسلمين. ومنها: أن يكون ذا بصيرة بأمر الحرب،
وتدبير الجيوش والسرايا، وسد الثغور، وحماية البيضة، وحفظ الامة، والانتقام من
ظالمها، والأخذ لمظلومها، وما يتعلق به من مصالحها. ومنها: أن يكون ممن لا تلحقه
رقة ولا هوادة في إقامة الحدود، ولا جزع لضرب الرقاب والأبشار. ومنها: أن يكون
من أمثلهم في العلم وسائر هذه الأبواب التي يمكن التفاضل فيها، إلا أن يمنع عارض
من إقامة الأفضل فيسوغ نصب المفضول. وليس من صفاته أن يكون معصوما
ولا عالما بالغيب، ولا أفرس الأمة وأشجعهم، ولا أن يكون من بني هاشم فقط دون
غيرهم من قبائل قريش. " (2)

1 - التذكرة 1 / 452.
2 - الغدير 7 / 136.
266

7 - كلام القاضي عضد الدين الإيجي والشريف الجرجاني:
قال الإيجي في المواقف والشريف الجرجاني في شرحه مازجا الشرح بالمتن:
" (المقصد الثاني في شروط الإمامة: الجمهور على أن أهل الإمامة) ومستحقها من
هو (مجتهد في الأصول والفروع ليقوم بأمور الدين)، متمكنا من إقامة الحجج وحل
الشبه في العقائد الدينية، مستقلا بالفتوى في النوازل وأحكام الوقائع نصا واستنباطا.
لأن أهم مقاصد الإمامة حفظ العقائد وفصل الحكومات ورفع المخاصمات، ولن يتم
ذلك بدون هذا الشرط، (ذو رأي) وبصارة بتدبير الحروب والسلم وترتيب الجيوش
وحفظ الثغور، (ليقوم بأمور الملك، شجاع) قوى القلب، (ليقوى على الذب عن
الحوزة) والحفظ لبيضة الإسلام بالثبات في المعارك... ولا يهوله أيضا إقامة الحدود
وضرب الرقاب.
(وقيل: لا يشترط) في الإمامة (هذه الصفات) الثلاث، (لأنها لا توجد) الآن
مجتمعة. (نعم، يجب أن يكون عدلا) في الظاهر، (لئلا يجور)... (عاقلا، ليصلح
للتصرفات) الشرعية والملكية، (بالغا لقصور عقل الصبي، ذكرا، إذ النساء ناقصات
عقل ودين، حرا لئلا يشغله خدمة السيد) عن وظائف الإمامة.
(فهذه الصفات) التي هي الثمان أو الخمس (شروط) معتبرة في الإمامة (بالإجماع
). " (1)

1 - شرح المواقف للجرجاني 8 / 349.
267

8 - كلام عبد الملك الجويني:
وعن عبد الملك الجويني، الملقب بإمام الحرمين، انه قال في كتابه المسمى
بالإرشاد:
" الشروط التي يجب أن يتصف بها الإمام: 1 - الاجتهاد، بحيث لا يحتاج أن
يستفيد من غيره في الحوادث. قال: وهذا متفق عليه. 2 - التصدي إلى مصالح الأمور
وضبطها. 3 - النجدة في تجهيز الجيوش وسد الثغور. 4 - أن يكون ذا نظر حصيف في
النظر إلى الأمة. 5 - الشجاعة والإقدام، بأن لا تأخذه خور الطبيعة عن ضرب الرقاب
والتنكيل بمستوجبي الحدود. 6 - ومن شرائطها عند أصحابنا - يعني الشافعية - أن
يكون الإمام من قريش، لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " الأئمة من قريش. " (1) وقال: " قدموا
قريشا ولا تقدموها. " وهذا مما يخالف فيه بعض الناس. وللاحتمال فيه عندي مجال،
والله اعلم بالصواب. لاخفاء في اشتراط حرية الإمام واسلامه. وأجمعوا على ان
المرأة لا يجوز ان تكون إماما، وان اختلفوا في جواز كونها قاضية فيما يجوز شهادتها
فيه. " (2)
9 - وعن الجويني أيضا:
انه قال في كتابه المسمى: " غياث الأمم في التياث الظلم ":
" يجب على الحاكم مراجعة العلماء فيما يأتي ويذر، فإنهم قدوة الأحكام وأعلام

1 - رواه النسائي.
2 - نظام الحكم والإدارة في الإسلام / 222.
268

الإسلام وورثة النبوة وقادة الأمة. وهم على الحقيقة أصحاب الأمر استحقاقا...
وإذا كان صاحب الأمر مجتهدا فهو المتبوع الذي يستتبع الكافة في اجتهاده ولا يتبع.
فأما إذا كان سلطان الزمان لم يبلغ مبلغ الاجتهاد فالمتبوعون العلماء، والسلطان
نجدتهم وشوكتهم وقوتهم. فعالم الزمان في المقصود الذي نحاوله والفرض الذي
نزاوله كنبي الزمان، والسلطان مع العالم كملك في زمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مأمور بالانتهاء
إلى ما ينهيه اليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). " (1)
10 - كلام النووي:
وفي كتاب المنهاج للنووي، أحد عظماء الشافعية - ولآرائه عندهم قيمة كبيرة:
" شرط الإمام كونه مسلما مكلفا حرا ذكرا قرشيا مجتهدا شجاعا ذا رأي وسمع
وبصر ونطق. وتنعقد الإمامة بالبيعة... وباستخلاف الإمام... وباستيلاء جامع، وكذا
فاسق وجاهل في الأصح. " (2)
أقول: قد ترى انه في الذيل نقض ما ذكره في الصدر من شرط الاجتهاد. ويرجع
ذيل كلامه إلى ما مر عن أحمد.
11 - آراء ابن حزم الأندلسي:
وقال ابن حزم في الفصل:
" وجب أن ينظر في شروط الإمامة التي لا تجوز الإمامة لغير من هن فيه، فوجدناها:

1 - النظام السياسي للدولة الإسلامية / 277.
2 - المنهاج / 518، (كتاب البغاة).
269

أن يكون صليبة من قريش، لإخبار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ان الإمامة فيهم (1). وأن
يكون بالغا مميزا، لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): رفع القلم عن ثلاثة. فذكر الصبي حتى يحتلم،
والمجنون حتى يفيق. وأن يكون رجلا، لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا يفلح قوم أسندوا أمرهم
إلى امرأة. (2) وأن يكون مسلما، لأن الله - تعالى - يقول: ولن يجعل الله للكافرين على
المؤمنين سبيلا. (3) والخلافة أعظم السبيل، ولأمره بإصغار أهل الكتاب وأخذهم
بأداء الجزية وقتل من لم يكن من أهل الكتاب حتى يسلموا. وان يكون متقدما
لأمره، عالما بما يلزمه من فرائض الدين، متقيا لله - تعالى - بالجملة، غير معلن
بالفساد في الأرض، لقول الله - تعالى -: وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على
الإثم والعدوان (4)...، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد
(5)، وقال - عليه السلام -: يا أبا ذر، انك ضعيف لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم (6)،
وقال تعالى -: فان كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا. الآية (7).
فصح ان السفيه والضعيف ومن لا يقدر على شئ فلابد له من ولى، ومن لابد له
من ولى فلا يجوز ان يكون وليا للمسلمين، فصح ان ولاية من لم يستكمل هذه
الشروط الثمانية باطل لا يجوز ولا ينعقد أصلا.
ثم يستحب أن يكون عالما بما يخصه من أمور الدين من العبادات والسياسة
والأحكام، مؤديا للفرائض كلها لا يخل بشئ منها، مجتنبا لجميع الكبائر سرا وجهرا،
مستترا بالصغائر ان كانت منه.
فهذه أربع صفات يكره أن يلي الأمة من لم ينتظمها، فان ولي فولايته صحيحة
ونكرهها. وطاعته فيما أطاع الله فيه واجبة. ومنعه مما لم يطع الله فيه واجب.

1 - جامع الأصول 4 / 438، كتاب الخلافة، الباب 1، الحديث 2020.
2 - راجع مسند أحمد 5 / 38.
3 - سورة النساء (4)، الآية 141.
4 - سورة المائدة (5)، الآية 2.
5 - جامع الأصول 1 / 197، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، الباب 1.
6 - جامع الأصول 4 / 448، كتاب الخلافة، الباب 1، الحديث 2037.
7 - سورة البقرة (2)، الآية 282.
270

والغاية المأمولة فيه أن يكون رفيقا بالناس في غير ضعف، شديدا في إنكار
المنكر من غير عنف ولا تجاوز للواجب، مستيقظا غير غافل، شجاع النفس، غير مانع
للمال في حقه ولا مبذر له في غير حقه.
ويجمع هذا كله أن يكون الإمام قائما بأحكام القرآن وسنن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهذا
يجمع كل فضيلة. " (1)
12 - وقال ابن حزم أيضا في المحلى:
" ولا تحل الخلافة الا لرجل من قريش صليبة من ولد فهربن مالك من قبل آبائه.
ولا تحل لغير بالغ وان كان قرشيا. " (2)
13 - وقال أيضا في المحلى:
" مسألة: وصفة الإمام أن يكون مجتنبا للكبائر، مستترا بالصغائر، عالما بما يخصه،
حسن السياسة، لأن هذا هو الذي كلف. ولا معنى لأن يراعى أن يكون غاية الفضل،
لأنه لم يوجب ذلك قرآن ولا سنة. " (3)

1 - الفصل في الملل والأهواء والنحل 4 / 166.
2 - المحلى 6 / 359، كتاب الإمامة، المسألة 1769.
3 - المحلى 6 / 362، كتاب الإمامة، المسألة 1773.
271

14 - كلام ابن خلدون:
وفي مقدمة ابن خلدون:
" وأما شروط هذا المنصب فهي أربعة: العلم والعدالة والكفاية وسلامة الحواس
والأعضاء، مما يؤثر في الرأي والعمل. واختلف في شرط خامس وهو النسب
القرشي. فأما اشتراط العلم فظاهر، لأنه إنما يكون منفذا لأحكام الله - تعالى - إذا كان
عالما بها، وما لم يعلمها لا يصح تقديمه لها. ولا يكفي من العلم إلا أن يكون مجتهدا،
لأن التقليد نقص، والإمامة تستدعي الكمال في الأوصاف والأحوال... " (1)
15 - كلام القلقشندي:
قال في مآثر الإنافة في معالم الخلافة:
" الفصل الثاني في شروط الإمامة، وقد اعتبر أصحابنا الشافعية لصحة عقدها
أربعة عشر شرطا في الإمام: الأول: الذكورة، فلا تنعقد إمامة المرأة... الثاني: البلوغ
... الثالث: العقل... الرابع: البصر، فلا تنعقد إمامة الأعمى... الخامس: السمع...
السادس: النطق، فلا تنعقد إمامة الأخرس... السابع: سلامة الأعضاء من نقص يمنع
استيفاء الحركة وسرعة النهوض... الثامن: الحرية... التاسع: الإسلام... العاشر:
العدالة... الحادي عشر: الشجاعة والنجدة... الثاني عشر: العلم المؤدي إلى الاجتهاد
في النوازل والأحكام، فلا تنعقد إمامة غير العالم بذلك، لأنه محتاج لأن يصرف
الأمور على النهج القويم

1 - مقدمة ابن خلدون / 135 (= طبعة أخرى / 193)، الفصل 26 من الفصل الثالث من الكتاب
الأول.
272

ويجريها على الصراط المستقيم، ولأن يعلم الحدود ويستوفي الحقوق ويفصل
الخصومات بين الناس. وإذا لم يكن عالما مجتهدا لم يقدر على ذلك. الثالث عشر:
صحة الرأي والتدين فلا تنعقد إمامة ضعيف الرأي... الرابع عشر: النسب، فلا تنعقد
الإمامة بدونه، والمراد أن يكون من قريش. " (1)
16 - وفي الفقه على المذاهب الأربعة ما ملخصه:
" إنهم اتفقوا على أن الإمام يشترط فيه أن يكون مسلما مكلفا حرا ذكرا قرشيا
عدلا عالما مجتهدا شجاعا ذا رأي صائب سليم السمع والبصر والنطق. " (2)
أقول: هذه بعض كلماتهم في المقام، وتفصيل الأدلة على الشروط يأتي في
الفصول الآتية.
ويظهر لك بالدقة فيما مر من الكلمات أن ولاية الفقيه ليست أمرا بدعا أبدعه
فقهاء الشيعة في عصرنا، بل المشهور بين المحققين من علماء السنة أيضا اشتراط
الاجتهاد والفقاهة في الإمام والوالي.
ولا يخفى أيضا أن اعتبار أكثرهم لوصف القرشية في الإمام إنما هو بلحاظ
الأخبار الواردة في هذا الشأن، وسيأتي بيانها، فانتظر.

1 - مآثر الإنافة 1 / 31.
2 - الفقه على المذاهب الأربعة 5 / 416، مبحث شروط الإمامة.
273

الفصل الثاني
في بيان ما يحكم به العقل والعقلاء في المقام مع قطع النظر عن
الآيات والروايات:
لا يخفى أن المرجع في إثبات الشرائط المعتبرة في الوالي هو العقل والكتاب و
السنة، فلنتعرض هنا لحكم العقل إجمالا، فنقول: إن العقلاء إذا أرادوا أن يفوضوا أمرا
من الأمور إلى شخص فلا محالة يراعون فيه أمورا: الأول: أن يكون الشخص
المفوض اليه عاقلا. الثاني: أن يكون عالما بكيفية العمل وفنونه. الثالث: أن يكون
قادرا على إيجاده وتحصيله على ما هو حقه. الرابع: أن يكون أمينا يعتمد عليه، وإلا
لجاز أن يخون في أصل العمل أو في كيفيته. مثلا إذا أردتم أن تستأجروا أحدا
لإحداث بناء فلا محالة تراعون فيه بحكم الفطرة وجود هذه الشرائط الأربعة.
والولاية وإدارة شؤون الأمة من أهم الأمور وأعضلها وأدقها، فلا محالة يشترط
في الوالي بحكم العقل والفطرة أن يكون عاقلا عالما بالعمل قادرا عليه أمينا يعتمد
عليه.
وإذا فرض أن المفوضين لأمر الولاية إلى شخص خاص يعتقدون بمبدأ خاص
وايديولوجية خاصة متضمنة لقوانين مخصوصة في نظام الحياة، وأرادوا إدارة
شؤونهم
275

السياسية على أساس هذا المبدأ وهذه المقررات الخاصة فلا محالة ينتخبون لذلك
من يعتقد بهذا المبدأ ويطلع على مقرراته، بل ينتخبون من يكون أعلم وأكثر اطلاعا،
اللهم إلا أن يزاحم ذلك جهة أقوى وأهم.
فهذا أمر طبيعي لا يعدل عنه العقلاء بفطرتهم وارتكازهم.
مثلا إذا كان أهل منطقة خاصة معتقدين بالمبدأ المادي والاقتصاد الماركسي
فبالطبع يراعون في الوالي المنتخب كونه عاقلا، قادرا على أمر الولاية، معتقدا بهذا
المبدأ الخاص، أكثر اطلاعا على قوانينه ومقرراته المرتبطة بإدارة الملك. أمينا معتمدا
عليه في أقواله وأفعاله.
وعلى هذا فالمسلمون المعتقدون بالإسلام وأن الإسلام حاو لجميع ما يحتاج إليه
البشر في حياتهم الفردية والعائلية، وفي علاقاتهم الاقتصادية والاجتماعية
والسياسية مع المسلمين وغير هم من الأمم لا محالة يراعون في الوالي العقل، والقدرة
على الولاية، واعتقاده بالاسلام، واطلاعه على مقرراته وأحكامه، بل أعلميته في
ذلك، وكذلك أمانته واستقامته المعبر عنها بالعدالة.
فهذه شرائط للوالي، يحكم العقل بلزوم رعايتها مع الإمكان، سواء كان انتخاب
الوالي ونصبه من قبل الله - تعالى -، كما نعتقده نحن بالنسبة إلى الأئمة الاثني
عشر (عليهم السلام) بلا إشكال، أو كان من قبل الأمة، كما يعتقده إخواننا السنة مطلقا.
ولعلنا نعتقده بالنسبة إلى الفقهاء العدول في عصر الغيبة.
وبالجملة اشتراط هذه الشرائط واعتبارها في والي المسلمين بما هم مسلمون أمر
لا يحتاج إلى التعبد الشرعي، بل يدركه الإنسان بعقله وفطرته، ولا نريد بولاية الفقيه
إلا هذا الأمر الفطري الارتكازي.
وقد مر في صحيحة عيص بن القاسم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) انه قال: " وانظروا
لأنفسكم. فوالله إن الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي، فإذا وجد رجلا هو أعلم بغنمه من
الذي هو فيها يخرجه ويجئ بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها. " (1)

1 - الوسائل 11 / 35، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
276

فالإمام (عليه السلام) أرجع الراوي إلى فطرته وارتكازه، والى أمر يلتزم به العقلاء بما هم
عقلاء. وما ذكرناه حقيقة وجدانية، تقبلها طباع جميع البشر وعقولهم إذا خلوا من
العناد والتعصب، من أي ملة ودين كانوا.
ولو فرض كون أكثر الناس في منطقة خاصة مسلمين متعهدين ملتزمين ويوجد
بينهم أقليات غير مسلمة فلا محالة يجب أن تكون الحكومة على أساس موازين
الإسلام مع حفظ حقوق الأقليات أيضا. وحفظ حقوقهم أيضا بنفسه يعد من مقررات
الإسلام وموازينه، كما لا يخفى على أهله.
وقد تلخص مما ذكرنا أن العقل يحكم باعتبار العقل، والقدرة، والإسلام، والعلم
بل الأعلمية، والعدالة في حاكم الإسلام وواليه. والمعرفة بالإدارة والتدبير أيضا
يدخلان بعناية ما في مفهوم العلم، لاحتمال أن يراد به ما هو الأعم من العلم بالكليات
والعلم بطرق التطبيق وعواقب الأمر ونحو ذلك. كما يحتمل دخولهما في عنوان
القدرة. وسيأتي تفصيل ذلك في محله، فلاحظ وتأمل.
277

الفصل الثالث
في ذكر آيات الباب
لا يخفى أن الآيات التي يمكن أن يتمسك بها لشرائط الإمام والوالي كثيرة، ونحن
قبل الورود في تفصيل الشرائط نذكر جملة من هذه الآيات في فصل مستقل بلا شرح
وتفسير إذ في جمعها نحو فائدة، ونحيل الشرح إلى الفصول الآتية. قال الله - تعالى -:
1 - " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا. " (1)
2 - " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، ومن يفعل ذلك فليس من الله
في شئ، إلا أن تتقوا منهم تقية، ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير. " (2)
3 - " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض، ومن
يتولهم منكم فإنه منهم، إن الله لا يهدي القوم الظالمين. " (3)

1 - سورة النساء (4)، الآية 141.
2 - سورة آل عمران (3)، الآية 28.
3 - سورة المائدة (5)، الآية 51.
279

4 - " يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم
كافرين. " (1)
5 - " ومن يشاقق الرسول من بعدما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما
تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا. " (2)
6 - " اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء، قليلا ما تذكرون. " (3)
7 - " الله ولى الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور، والذين كفروا أولياؤهم
الطاغوت، يخرجونهم من النور إلى الظلمات، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. " (4)
8 - " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما انزل إليك وما أنزل من قبلك، يريدون أن
يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به، ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا
بعيدا. " (5)
9 - " ولا تطع الكافرين والمنافقين، ودع أذاهم وتوكل على الله، وكفى بالله وكيلا. " (6)
10 - " فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا. " (7)
11 - " وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا. " (8)
12 - " ولا تطيعوا أمر المسرفين * الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون. " (9)

1 - سورة آل عمران (3)، الآية 100.
2 - سورة النساء (4)، الآية 115.
3 - سورة الأعراف (7)، الآية 3.
4 - سورة البقرة (2)، الآية 257.
5 - سورة النساء (4)، الآية 60.
6 - سورة الأحزاب (33)، الآية 48.
7 - سورة الإنسان (76)، الآية 24.
8 - سورة الأحزاب (33)، الآية 67.
9 - سورة الشعراء (26)، الآية 151 و 152.
280

13 - " ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا. " (1)
14 - " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار، ومالكم من دون الله من أولياء ثم
لا تنصرون. " (2)
15 - " قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة، وكذلك
يفعلون. " (3)
16 - " فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم * أولئك الذين
لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم. " (4)
17 - " ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين * من فرعون، إنه كان عاليا من
المسرفين. " (5)
18 - " أفنجعل المسلمين كالمجرمين * مالكم، كيف تحكمون. " (6)
19 - " أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا، لا يستوون. " (7)
20 - " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن، قال: إني جاعلك للناس إماما. قال ومن
ذريتي، قال: لا ينال عهدي الظالمين. " (8)
21 - " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، ولكن المنافقين لا يعلمون. " (9)

1 - سورة الكهف (18)، الآية 28.
2 - سورة هود (11)، الآية 113.
3 - سورة النمل (27)، الآية 34.
4 - سورة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) (47)، الآية 22 و 23.
5 - سورة الدخان (44)، الآية 30 و 31.
6 - سورة القلم (68)، الآية 35 و 36.
7 - سورة السجدة (32)، الآية 18.
8 - سورة البقرة (2)، الآية 124.
9 - سورة المنافقين (63)، الآية 8.
281

22 - " ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو
ينفق منه سرا وجهرا، هل يستوون، الحمد لله، بل أكثرهم لا يعلمون * وضرب الله مثلا
رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير، هل
يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم. " (1)
23 - " قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك، إن اتبع
إلا ما يوحى إلي. قل هل يستوي الأعمى والبصير؟ أفلا تتفكرون. " (2)
24 - " أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله؟ " (3)
25 - " ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز * الذين إن مكناهم في الأرض
أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور. " (4)
26 - " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما. " (5)
27 - " أفمن يهدي إلى الحق أحق ان يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى، فمالكم، كيف
تحكمون. " (6)
28 - " وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا. قالوا أنى يكون له الملك علينا و
نحن أحق بالملك منه، ولم يؤت سعة من المال؟ قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في
العلم والجسم، والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم. " (7)
29 - " قل هل يستوي الذي يعلمون والذين لا يعلمون; إنما يتذكر أولوا الألباب. " (8)

1 - سورة النحل (16)، الآية 75 و 76.
2 - سورة الأنعام (6)، الآية 50.
3 - سورة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) (47)، الآية 14.
4 - سورة الحج (22)، الآية 40 و 41.
5 - سورة النساء (4)، الآية 5.
6 - سورة يونس (10)، الآية 35.
7 - سورة البقرة (2)، الآية 247.
8 - سورة الزمر (39)، الآية 9.
282

30 - " قال اجعلني على خزائن الأرض، إني حفيظ عليم. " (1)
31 - " قالت إحديهما يا أبت استأجره، إن خير من استأجرت القوي الأمين. " (2)
32 - " قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك، وإني عليه لقوى
أمين. " (3)
33 - " الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض، وبما أنفقوا من
أموالهم. الآية. " (4)
34 - " أو من ينشؤ في الحلية وهو في الخصام غير مبين. " (5)
35 - " ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف، وللرجال عليهن درجة، والله عزيز حكيم. " (6)
36 - " وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى. " (7)

1 - سورة يوسف (12)، الآية 55.
2 - سورة القصص (28)، الآية 26.
3 - سورة النمل (27)، الآية 39.
4 - سورة النساء (4)، الآية 34.
5 - سورة الزخرف (43)، الآية 18.
6 - سورة البقرة (2)، الآية 228.
7 - سورة الأحزاب (33)، الآية 33.
283

الفصل الرابع
في اعتبار العقل الوافي
قد مر انه يشترط في الوالي أمور: الأول العقل، وقد بينا في الفصل الثاني ان
العقلاء بحسب فطرتهم لا يفوضون أمورهم إلى غيرهم إلا إذا أحرزوا فيه شروطا و
منها العقل. هذا في الأمور المتعارفة فكيف بالولاية التي هي سلطة على الدماء
والأعراض والأموال.
وفي الغرر والدرر عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " يحتاج الإمام إلى قلب عقول، ولسان
قؤول، وجنان على إقامة الحق صؤول. " (1)
هذا مضافا إلى ان المجنون رفع عنه القلم ويكون مولى عليه فكيف يجعل وليا
على المسلمين؟! والسفيه أيضا محجور عليه.
قال الله - تعالى -: " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما. " (2)
والمراد بالأموال في الآية الأموال العامة المتعلقة بالمجتمع أو مطلق الأموال وان
كانت للأشخاص. والوالي مسلط على الأموال والنفوس قهرا، فلا يجوز أن يكون
سفيها.

1 - الغرر والدرر 6 / 472، الحديث 11010.
2 - سورة النساء (4)، الآية 5.
285

وفي رواية الشحام عن أبي عبد الله (عليه السلام) " لا يكون السفيه إمام التقى. " (1)
وفي نهج البلاغة: " ولكنني آسى أن يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها وفجارها، فيتخذوا مال
الله دولا وعباده خولا والصالحين حربا والفاسقين حزبا. " (2)
وفي كنز العمال: " إذا أراد الله بقوم خيرا ولى عليهم حلماءهم وقضى عليهم علماؤهم،
وجعل المال في سمحائهم. وإذا أراد الله بقوم شرا ولى عليهم سفهاءهم، وقضى بينهم
جهالهم، وجعل المال في بخلائهم. " (فر، عن مهران). (3)
فيعتبر في الوالي مضافا إلى العقل، الرشد في قبال السفاهة أيضا. وان شئت قلت:
يعتبر فيه العقل الكامل، فهما شرط واحد. وبالجملة المسألة واضحة لا تحتاج إلى
بحث.

1 - الكافي 1 / 175، كتاب الحجة، باب طبقات الأنبياء و... الحديث 2.
2 - نهج البلاغة، فيض / 1050; عبده 3 / 131; لح / 452، الكتاب 62.
3 - كنز العمال 6 / 7، الباب 1 من كتاب الإمارة، الحديث 14595.
286

الفصل الخامس
في اعتبار الاسلام والايمان
الشرط الثاني للوالي: الإسلام والإيمان. فلا يجعل الكافر واليا على المسلمين. و
قد مر في الفصل الثاني بيان اعتباره من طريق العقل.
ويدل على ذلك من الكتاب آيات كثيرة:
منها قوله - تعالى -: " لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا. " (1)
إذ الولاية على الغير من أقوى السبل عليه.
ومنها قوله: " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، ومن يفعل ذلك
فليس من الله في شئ. " (2)
ومنها قوله: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء
بعض. " (3)
إلى غير ذلك من الآيات.

1 - سورة النساء (4)، الآية 141.
2 - سورة آل عمران (3)، الآية 28.
3 - سورة المائدة (5)، الآية 51.
287

والروايات الدالة على ذلك أيضا كثيرة جدا، ومنها ما عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " الإسلام
يعلو ولا يعلى عليه. " (1) هذا.
وكيف ينتظر ويتوقع ممن لا يعتقد بالإسلام أن يكون مجريا لأحكام الإسلام و
مديرا لشؤون المسلمين على أساس موازين الإسلام. وبذلك يظهر عدم كفاية
الإسلام بالمعنى الأعم، لصدقه على الإقرار اللفظي أيضا، بل يعتبر الإيمان المركب
من الإقرار باللسان والاعتقاد بالجنان والعمل بالأركان. ووجهه واضح.
وإذا كان الإيمان شرطا في إمام الجماعة فاشتراطه في الإمام الأعظم يثبت
بطريق أولى، فتدبر.

1 - الفقيه 4 / 334، باب ميراث أهل الملل، الحديث 5719.
288

الفصل السادس
في اعتبار العدالة
الشرط الثالث: العدالة. فلا ولاية للظالم والفاسق على المسلمين.
ويدل على ذلك مضافا إلى حكم العقل كما عرفت الآيات والروايات الكثيرة من
طرق الفريقين.
1 - فمن الآيات قوله - تعالى -: " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن، قال: إني
جاعلك للناس إماما، قال: ومن ذريتي، قال: لا ينال عهدي الظالمين. " (1)
قال في أقرب الموارد:
" ظلم فلان ض ظلما وظلما ومظلمة: وضع الشئ في غير موضعه، ومنه المثل:
" من استرعى الذئب فقد ظلم. " وفلانا: جار عليه... والأرض حفرها في غير
موضع حفرها... " (2)
فكل ما يخالف الحق يصح أن يطلق عليه الظلم ويكون مشمولا لإطلاقه. وعليهذا
فكل فاسق ظالم، وكل منحرف عن الحق كذلك.

1 - سورة البقرة (2)، الآية 124.
2 - أقرب الموارد 2 / 731.
289

2 - ومن الآيات أيضا قوله - تعالى -: " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم
النار... " (1)
قال على بن إبراهيم في ذيل الآية:
" قال: ركون مودة ونصيحة وطاعة. " (2)
3 - ومنها أيضا قوله: " ولا تطيعوا أمر المسرفين * الذين يفسدون في الأرض و
لا يصلحون. " (3)
4 - ومنها قوله: " ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا. " (4)
5 - ومنها قوله: " فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا. " (5)
6 - ومنها قوله - حكاية عن أهل النار -: " وقالوا: ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا
فأضلونا السبيلا. " (6)
إلى غير ذلك من الآيات التي يظهر منها أن الظالم والفاسق لا يجعل إماما وواليا
مفترض الطاعة، ودلالتها واضحة ظاهرة.
وأما الروايات ففي غاية الكثرة. نذكر عدة منها:
1 - ما رواه في أصول الكافي بسنده عن حنان، عن أبيه، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا تصلح الإمامة إلا لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن معاصي
الله، وحلم يملك به غضبه، وحسن الولاية على من يلي حتى يكون لهم كالوالد الرحيم. "
وفي رواية أخرى " حتى يكون للرعية كالأب الرحيم. " (7)
2 - ما رواه أيضا بسند صحيح عن محمد بن مسلم، قال سمعت أبا جعفر (عليه السلام)

1 - سورة هود (11)، الآية 113.
2 - تفسير علي بن إبراهيم (القمي) / 315 (= طبعة أخرى 1 / 338).
3 - سورة الشعراء (26)، الآية 151 و 152.
4 - سورة الكهف (18)، الآية 28.
5 - سورة الإنسان (76)، الآية 24.
6 - سورة الأحزاب (33)، الآية 67.
7 - الكافي 1 / 407، كتاب الحجة، باب ما يجب من حق الإمام على الرعية...، الحديث 8.
290

يقول: "... والله يا محمد، من أصبح من هذه الأمة لا إمام له من الله - عز وجل -
ظاهر عادل أصبح ضالا تائها. وإن مات على هذه الحالة مات ميتة كفر ونفاق. واعلم
يا محمد، أن أئمة الجور وأتباعهم لمعزولون عن دين الله، قد ضلوا وأضلوا... " (1)
3 - ما في المحكم والمتشابه: " وإنما هلك الناس حين ساووا بين أئمة الهدى وأئمة
الكفر، فقالوا: إن الطاعة مفترضة لكل من قام مقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) برا كان أو فاجرا، فأتوا من
قبل ذلك.
قال الله - تعالى -: أفنجعل المسلمين كالمجرمين، مالكم، كيف تحكمون. " (2)
وهل يكون جميع الكتاب رواية عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أولا؟ قد مر الكلام فيه في
الدليل الخامس من أدلة لزوم الولاية، فراجع.
4 - ما في نهج البلاغة بعد ما ذكر (عليه السلام) سابقته في الإسلام قال: " وقد علمتم أنه لا ينبغي
أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل، فتكون
في أموالهم نهمته، ولا الجاهل فيضلهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف
للدول فيتخذ قوما دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون
المقاطع، ولا المعطل للسنة فيهلك الأمة. " (3)
أقول: قوله (عليه السلام): " وقد علمتم "، يعني من الآيات القرآنية التي يعلم بها شرائط
الولاية، أو من بيان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو من بياناته السابقة، أو مما رأوه من أعمال من
سبقه.
وقوله: " لا ينبغي " ليس ظاهرا في الكراهة، وإن شاع في اصطلاح الفقهاء في
أعصارنا إرادتها منه، فإنه بحسب اللغة صالح للحرمة أو ظاهر فيها. ففي لسان العرب:

1 - الكافي 1 / 184، كتاب الحجة، باب معرفة الإمام والرد اليه، الحديث 8.
2 - المحكم والمتشابه / 71، وبحار الأنوار 90 / 57 (= طبعة إيران 93 / 57)، باب ما ورد في
أصناف آيات القرآن. والآيتان المذكورتان من سورة القلم (68)، الرقم 35 و 36.
3 - نهج البلاغة، فيض / 407; عبده 2 / 19; لح / 189، الخطبة 131.
291

" يقال: انبغى لفلان أن يفعل كذا، أي صلح له أن يفعل كذا، وكأنه قال: طلب فعل كذا
فانطلب له، أي طاوعه... وانبغى الشيء تيسر وتسهل. " (1)
وعلى هذا فقوله: " لا ينبغي " أي لا يصلح ولا يتيسر تحققه.
ويشهد لذلك موارد استعمال الكلمة في الكتاب العزيز، كقوله - تعالى -: " قالوا
سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء. " (2) وقوله: " لا الشمس ينبغي لها أن
تدرك القمر، ولا الليل سابق النهار. " (3) إلى غير ذلك من الآيات الشريفة. وفي صحيحة
زرارة المشهورة في الاستصحاب: " فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك
أبدا. " (4) هذا.
و " النهمة " بالفتح: الحاجة وبلوغ الشهوة، وبالفتحتين: إفراط الشهوة في الطعام. و
" الجفاء ": سوء الخلق وخلاف البر والصلة. " والحيف ": الظلم. و " الدول " بضم الدال
جمع دولة بالضم: المال الذي تتداوله الأيدي.
وروي: " الخائف " بالمعجمة، و " الدول " بكسر الدال جمع دولة بالفتح، أي الغلبة في
الحرب وغيره. فيراد به من يخاف من تقلبات الدهر وغلبة أعدائه عليه، فيتخذ قوما
يتوقع نصرهم ويقويهم بالتفضيل في العطاء.
و " مقاطع الحكم " حدودها المعينة من قبل الله - تعالى -.
وقوله: " فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع "، أي يقف عند مقطع الحكم
فلا يقطعه بالحق بل يحكم بالجور، أو يقف عن أصل الحكم ويسوفه حتى لا يصل
المحق إلى حقه أو يضطر إلى الصلح.
والمراد بالسنة أحكام الله المبينة بطريقة النبي وقوله وفعله.
وكيف كان فدلالة الكلام على اعتبار العدالة واضحة، فتدبر.
5 - ما في نهج البلاغة أيضا: " ولكنني آسى أن يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها وفجارها،

1 - لسان العرب 14 / 77.
2 - سورة الفرقان (25)، الآية 18.
3 - سورة يس (36)، الآية 40.
4 - الوسائل 2 / 1062، الباب 41 من أبواب النجاسات، الحديث 1.
292

فيتخذوا مال الله دولا وعباده خولا والصالحين حربا والفاسقين حزبا. " (1)
6 - ما فيه أيضا خطابا لعثمان: " فاعلم أن أفضل عباد الله عند الله إمام عادل هدى
وهدى، فأقام سنة معلومة وأمات بدعة مجهولة... وأن شر الناس عند الله إمام جائر ضل و
ضل به، فأمات سنة معلومة وأحيا بدعة متروكة. وإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: يؤتى
يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر، يلقى في نار جهنم فيدور فيها كما تدور
الرحى ثم يرتبط في قعرها. " (2)
7 - ما في خطبة الحسن بن علي (عليه السلام) بمحضر معاوية، قال (عليه السلام): " إنما الخليفة من سار
بكتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وليس الخليفة من سار بالجور. " (3)
8 - ما رواه في الإرشاد عن سيد الشهداء - عليه السلام - في جوابه لكتب أهل
الكوفة إليه: " فلعمري ما الإمام إلا الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحق،
الحابس نفسه على ذات الله. " (4) ونحوه في الكامل. (5)
9 - ما في نهج البلاغة: " من نصب نفسه للناس إماما فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره،
وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه. ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس
ومؤدبهم. " (6)
فتأمل، إذ يشكل دلالة الحديث على اعتبار العدالة في الإمام.
10 - ما رواه في إثبات الهداة، عن الصدوق بسنده، عن حبيب السجستاني، عن
أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " قال الله - عز وجل -: لأعذبن كل رعية في

1 - نهج البلاغة، فيض / 1050; عبده 3 / 131; لح / 452، الكتاب 62.
2 - نهج البلاغة، فيض / 526; عبده 2 / 85; لح / 234، الخطبة 164.
3 - مقاتل الطالبيين / 47.
4 - الإرشاد للمفيد / 186 (= طبعة أخرى / 204).
5 - الكامل لابن أثير 4 / 21.
6 - نهج البلاغة، فيض / 1117; عبده 3 / 166; لح / 480، الحكمة 73.
293

الإسلام دانت بولاية إمام جائر ظالم ليس من الله وإن كانت الرعية عند الله بارة تقية.
ولأعفون عن كل رعية في الإسلام دانت بولاية كل إمام عادل من الله وإن كانت الرعية في
أعمالها ظالمة مسيئة. " (1)
11 - ما رواه في الكافي بسند صحيح، عن هشام بن سالم وحفص بن البختري،
عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " قيل له بأي شئ يعرف الإمام؟ قال: بالوصية الظاهرة
وبالفضل. إن الإمام لا يستطيع أحد أن يطعن عليه في فم ولا بطن ولا فرج فيقال: كذاب ويأكل
أموال الناس وما أشبه هذا. " (2)
12 - ما رواه في الدعائم عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) أنه قال: " ولاية أهل العدل الذين
أمر الله بولايتهم وتوليتهم وقبولها والعمل لها فرض من الله - عز وجل -، وطاعتهم
واجبة. ولا يحل لمن أمروه بالعمل لهم أن يتخلف عن أمرهم و (ولاية ظ) ولاة أهل
الجور واتباعهم والعاملون لهم في معصية الله غير جائزة لمن دعوه إلى خدمتهم و
العمل لهم وعونهم ولا القبول منهم. " (3)
13 - ما في تحف العقول عن الصادق - عليه السلام -: " فوجه الحلال من الولاية
ولاية الوالي العادل الذي أمر الله بمعرفته وولايته والعمل له في ولايته، وولاية ولاته و
ولاة ولاته، بجهة ما أمر الله به الوالي العادل، بلا زيادة فيما أنزل الله به ولا نقصان منه
ولا تحريف لقوله ولا تعد لأمره إلى غيره. فإذا صار الوالي والى عدل بهذه الجهة فالولاية له
والعمل معه ومعونته في ولايته وتقويته حلال محلل، وحلال الكسب معهم. وذلك أن في
ولاية والي العدل وولاته إحياء كل حق وعدل وإماتة كل ظلم وجور وفساد، فلذلك كان
الساعي في تقوية سلطانه والمعين له على ولايته ساعية إلى طاعة الله مقويا لدينه.
وأما وجه الحرام من الولاية فولاية الوالي الجائر وولاية ولاته، الرئيس منهم وأتباع
الوالي فمن دونه من ولاة الولاة إلى أدناهم بابا من أبواب الولاية على من هو وال عليه.
والعمل لهم والكسب

1 - إثبات الهداة 1 / 123.
2 - الكافي 1 / 284، كتاب الحجة، باب الأمور التي توجب حجة الإمام (عليه السلام)، الحديث 3.
3 - دعائم الإسلام 2 / 527، كتاب آداب القضاة، الحديث 1876.
294

معهم بجهة الولاية لهم حرام ومحرم، معذب من فعل ذلك على قليل من فعله أو كثير، لأن
كل شئ من جهة المعونة معصية كبيرة من الكبائر. وذلك أن في ولاية الوالي الجائر درس
الحق كله وإحياء الباطل كله، وإظهار الظلم والجور والفساد وإبطال الكتب وقتل الأنبياء
والمؤمنين وهدم المساجد وتبديل سنة الله وشرائعه. فلذلك حرم العمل معهم ومعونتهم و
الكسب معهم إلا بجهة الضرورة، نظير الضرورة إلى الدم والميتة. " (1)
وآثار الصدق والحقيقة على الحديث لائحة، كما أن دلالته واضحة. وقال في
ديباجة تحف العقول:
" وأسقطت الأسانيد تخفيفا وايجازا، وإن كان أكثره لي سماعا، ولأن أكثره آداب وحكم
تشهد لأنفسها. "
14 - ما رواه في الوسائل بسنده عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، عن آبائه، قال
أمير المؤمنين (عليه السلام): " لا يخرج المسلم في الجهاد مع من لا يؤمن على الحكم. ولا ينفذ في
الفيء أمر الله - عز وجل - فإنه إن مات في ذلك المكان كان معينا لعدونا في حبس حقنا
والإشاطة بدمائنا، وميتته ميتة جاهلية. " (2)
15 - ما رواه النعماني في كتاب الغيبة عن محمد بن يعقوب بسنده، عن أبي وهب،
عن محمد بن منصور، قال: سألته، يعني أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله - عز وجل -: " و
إذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها. قل إن الله لا يأمر بالفحشاء. أتقولون
على الله ما لا تعلمون. " (3) قال: فقال: " فهل رأيت أحدا زعم أن الله أمره بالزنا وشرب
الخمر أو شئ من هذه المحارم؟ فقلت: لا. قال: " فما هذه الفاحشة التي يدعون أن الله
أمرهم؟ قلت: الله أعلم ووليه. قال: " فان هذا في أولياء أئمة الجور، ادعوا أن الله أمرهم
بالايتمام بقوم لم يأمرهم الله بالايتمام بهم، فرد الله ذلك عليهم وأخبرهم أنهم قد قالوا عليه
الكذب وسمي ذلك منهم

1 - تحف العقول / 332.
2 - الوسائل 11 / 34، الباب 12 من أبواب جهاد العدو، الحديث 8.
3 - سورة الأعراف (7)، الآية 28.
295

فاحشة. " (1)
إلى غير ذلك مما دل على حرمة إطاعة أئمة الجور، فإن الإمام إنما جعل إماما
ليؤتم به، فإذا حرمت الإطاعة فلا إمامة، كما هو واضح.
16 - وفي تفسير نور الثقلين عن روضة الواعظين للمفيد، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات. قال الله - تعالى - لداود: حرام على كل قلب
عالم محب للشهوات أن أجعله إماما للمتقين. " (2)
17 - ما في كنز العمال عن على (عليه السلام) قال: " ثلاثة من كن فيه من الأئمة صلح أن يكون
إماما اضطلع بأمانته: إذا عدل في حكمه، ولم يحتجب دون رعيته، وأقام كتاب الله - تعالى -
في القريب والبعيد. " (الديلمي). (3)
18 - وفي الغرر والدرر: " سبع أكول حطوم خير من وال ظلوم غشوم. " (4)
19 - وفيه أيضا: " ولاة الجور شرار الأمة وأضداد الأئمة. " (5)
20 - وقد مر في رواية الفضل بن شاذان: " ومنها أنه لو لم يجعل لهم إماما قيما أمينا
حافظا مستودعا لدرست الملة. " (6)
21 - وفي رواية سليم: " يختاروا لأنفسهم إماما عفيفا عالما ورعا عارفا بالقضاء و
السنة. " (7) هذا.
والأخبار والروايات في ذم ولاة الجور وحرمة تقويتهم وإعانتهم في غاية

1 - الغيبة للنعماني / 82 (= طبعة أخرى / 130)، الباب 7 (باب ما روي فيمن شك في واحد من
الأئمة...).
2 - تفسير نور الثقلين 4 / 44 (في تفسير سورة الفرقان).
3 - كنز العمال 5 / 764، الباب 2 من كتاب الخلاقة من قسم الأفعال، الحديث 14315.
4 - الغرر والدرر 4 / 145، الحديث 5626.
5 - الغرر والدرر 6 / 239، الحديث 10122.
6 - علل الشرائع 1 / 95 (= طبعة أخرى 1 / 253)، الباب 182 (باب علل الشرائع وأصول
الإسلام)، الحديث 9.
7 - كتاب سليم بن قيس / 182.
296

الكثرة، وأي إعانة أقوى من الانقياد لهم والتسليم لأوامرهم؟ إذ لا تبقى الحكومة
إلا بإطاعة الأمة.
وفي رواية السكوني عن جعفر بن محمد، عن آبائه - عليهم السلام - قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إذا كان يوم القيامة نادى مناد أين أعوان الظلمة ومن لاق لهم دواتا أو
ربط كيسا أو مدلهم مدة قلم، فاحشروهم معهم. " (1)
وفي رواية أخرى عن كتاب ورام: " قال - عليه السلام -: إذا كان يوم القيامة نادى
مناد أين الظلمة وأعوان الظلمة وأشباه الظلمة حتى من برى لهم قلما ولاق لهم دواتا. قال:
فيجتمعون في تابوت من حديد ثم يرمى بهم في جهنم. " (2)
وفي كنز العمال عن كعب بن عجرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا كعب بن عجرة
أعيذك بالله من إمارة السفهاء. قلت: يا رسول الله وما إمارة السفهاء؟ قال: يوشك أن
تكون أمراء إن حدثوا كذبوا وإن عملوا ظلموا، فمن جاءهم فصدقهم بكذبهم وأعانهم على
ظلمهم فليس مني ولست منه ولا يردون على حوضي غدا، ومن لم يأتهم ولم يصدقهم ولم
يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه وهو يرد على حوضي غدا. " (ابن جرير) (3).
كما أن الروايات الواردة في مدح الإمام العادل وبركاته أيضا كثيرة وقد مر بعضها
في الدليل العاشر. وكفاك خبر حفص بن عون، رفعه، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" ساعة إمام عادل أفضل من عبادة سبعين سنة، وحد يقام لله في الأرض أفضل من مطر
أربعين صباحا. " (4)
وهنا روايات كثيرة تدل على اعتبار العدالة في القاضي، ووجوب التجنب عن
قضاة الجور، ذكر بعضها في الوسائل في الباب 1 و 3 من أبواب صفات القاضي، و
منها خبر سليمان بن خالد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " اتقوا الحكومة، فإن

1 - الوسائل 12 / 130، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 11.
2 - الوسائل 12 / 131، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 16.
3 - كنز العمال 5 / 797، الباب 2 من كتاب الخلافة من قسم الأفعال، الحديث 14412.
4 - الوسائل 18 / 308، الباب 1 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 5.
297

الحكومة إنما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبي (كنبي خ. ل) أو وصي
نبي. " (1)
وإذا اعتبرت العدالة في القاضي ففي الوالي المسلط على دماء المسلمين
والأعراض والأموال تعتبر بطريق أولى. بل القضاء شعبة من شعب الولاية المطلقة،
وربما يتصدى له الوالي بنفسه، كما كان أمير المؤمنين (عليه السلام) كذلك.
وإذا اخترنا اعتبار العدالة في إمام الجمعة والجماعة فاعتبارها في الإمام الذي هو
القدرة في جميع الشؤون وبيده زمام أمر المسلمين ويكون مسلطا على النفوس
والأعراض والأموال آكد. بل الحق أن تعيين إمام الجمعة والعيدين من شؤونه، وهو
الأحق بإقامتهما مع حضوره. فعن أمير المؤمنين (عليه السلام): " إذا قدم الخليفة مصرا من الأمصار
جمع الناس، ليس ذلك لأحد غيره. " (2)
وإمامة المسلمين مقام إلهي شامخ، فان كانت من قبل الله - تعالى - فيبعد جدا من
لطفه - تعالى - بل يقبح عليه عقلا أن ينصب على الأمة إماما جائرا فاسقا، ويوجب
الانقياد والتسليم له. وإن كانت بانتخاب الأمة فالعقل يحكم بقبح انتخاب الظالم
الجائر وتسليطه على الدماء والأعراض والتسليم له وإطاعته.
وأوهن من ذلك عند العقل القول بوجوب الإطاعة للجائر الفاسق الذي غلب
بالسيف بلا انتخاب ولا بيعة، وقد قال الله - تعالى -: " لا ينال عهدي الظالمين " (3)، و
قال: " ولا تطيعوا أمر المسرفين * الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون " (4)، وقال:
" ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار. " (5)
وكفت هذه الآيات جوابا عن كل من يتوهم لزوم الانقياد للطواغيت والظلمة
ووجوب إطاعتهم.
وكيف يجب إطاعة الجائرين ولا سيما عبدة الكفار والملاحدة وعملاء الشرق

1 - الوسائل 18 / 7، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.
2 - الوسائل 5 / 36، الباب 20 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 1.
3 - سورة البقرة (2)، الآية 124.
4 - سورة الشعراء (26)، الآية 151 و 152.
5 - سورة هود (11)، الآية 113.
298

والغرب منهم وخصوصا في الأمور التي تعد معصية لله - سبحانه؟! وما يجري على
أفواه أعوان الظلمة من أن المأمور معذور! فعذر شيطاني لا أساس له، لا في الكتاب و
السنة، ولا في الفطرة. هذا.
وفي كنز العمال عن أحمد، عن أنس: " لا طاعة لمن لم يطع الله. " (1)
وفي نهج البلاغة: " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. " (2)
وفي صحيح مسلم عن ابن عمر، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " على المرء المسلم السمع
والطاعة فيما أحب وكره، إلا ان يؤمر بمعصية. فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة. " (3)
وفيه أيضا عن علي (عليه السلام): " إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث جيشا وأمر عليهم رجلا فأوقد نارا و
قال: ادخلوها، فأراد ناس أن يدخلوها وقال الآخرون: إنا قد فررنا منها، فذكر ذلك
لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال للذين أرادوا أن يدخلوها: لو دخلتموها لم تزالوا فيها إلى يوم القيامة.
وقال للآخرين قولا حسنا، وقال: لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف. (4)
وفي المصنف لعبد الرزاق الصنعاني: " ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث عبد الله بن حذافة على
سرية، فأمر أصحابه، فأوقدوا نارا، ثم أمرهم أن يثبوها فجعلوا يثبونها، فجاء شيخ
ليثبها فوقع فيها فاحترق منه بعض ما احترق، فذكر شأنه لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: ما
حملكم على ذلك؟ قالوا: يا رسول الله، كان أميرا وكانت له طاعة. قال: أيما أمير أمرته
عليكم فأمركم بغير طاعة الله فلا تطيعوه، فإنه لا طاعة في معصية الله. " (5) إلى غير ذلك
من الأخبار ولعل كونه معصية من جهة خوف الضرر والهلاك، أو من جهة كونه إحياء
لرسم المجوس من تعظيم النار أو للتشبه بهم.

1 - كنز العمال 6 / 67، الباب 1 من كتاب الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14872.
2 - نهج البلاغة، فيض / 1167; عبده 3 / 193; لح / 500، الحكمة 165.
3 - صحيح مسلم 3 / 1469، كتاب الإمارة، الباب 8، (باب وجوب طاعة الأمراء...)، الحديث
1839.
4 - صحيح مسلم 3 / 1469، كتاب الإمارة، الباب 8، (باب وجوب طاعة الأمراء...)، الحديث
1840.
5 - المصنف 11 / 335، باب لا طاعة في معصية، الحديث 20699.
299

وكيف كان فإطاعة أمراء الجور بما هو عصيان لله - تعالى - غير واجبة، بل غير
جائزة بلا إشكال ولا أظن أن يلتزم بوجوبها أحد ممن له دين أو عقل.
نعم، يوجد هنا بعض الأخبار والفتاوى من السنة ربما يستفاد منها وجوب
الإطاعة والتسليم للأمراء والسلاطين مطلقا، وسيأتي البحث في ذلك بالتفصيل في
المسألة السادسة عشرة من الفصل السادس من الباب الخامس. وهو بحث لطيف
مبتلى به في هذه الأعصار ينبغي للفضلاء متابعته، فانتظر.
وقد ورد من طرق الشيعة أيضا روايات ربما يستدل بها على وجوب السكون
والسكوت في قبال المظالم والجنايات، وان لم تدل على وجوب التسليم والطاعة.
وقد ذكرها في الوسائل في الباب الثالث عشر من الجهاد، والعلامة النوري في
الباب الثاني عشر من جهاد المستدرك. وأسناد أكثرها مخدوشة وقد تعرضنا لها و
للجواب عنها في الفصل الرابع من الباب الثالث، فراجع.
نعم، هنا نكتة يجب التنبيه عليها، وهي أن الأمير المنصوب من قبل الإمام
لجيش خاص أو لجهة خاصة إذا فرض تحقق معصية منه أوجبت سقوطه عن العدالة،
فهذا بنفسه لا يوجب سقوطه عن منصبه وجواز التخلف عن أوامره ونواهيه في الجهة
المشروعة التي نصب لها، بل يجب على من يكون تحت إمارته - مضافا إلى وعظه و
إرشاده - إطاعته في الجهة الخاصة المشروعة التي نصب لها. فإن لم يرتدع بالوعظ
رفع أمره إلى الإمام الذي نصبه أميرا، حتى يكون هو الذي يعزله إن أراد.
وأما التخلف عنه مطلقا أو عزله من قبل كل شخص فلا يصح قطعا، فإنه يوجب
الهرج والمرج.
ولعل بعض الروايات الواردة في كتب السنة ناظرة إلى مثل هذه الصورة، كما في
حديث عوف بن مالك عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إذا رأيتم من ولاتكم شيئا تكرهونه فاكرهوا
عمله ولا تنزعوا يدا من طاعة. " (1)

1 - صحيح مسلم 3 / 1481، كتاب الإمارة، الباب 17، (باب خيار الأئمة وشرارهم)، الحديث
1855.
300

الفصل السابع
في اعتبار الفقاهة
الرابع من شروط الامام: الفقاهة والعلم بالإسلام وبمقرراته اجتهادا، فلا يصح
إمامة الجاهل بالإسلام وبمقرراته، أو العالم بها تقليدا.
ويدل على ذلك - مضافا إلى ما مر من حكم العقل وبناء العقلاء - الآيات
والروايات من طرق الفريقين.
أما الآيات:
1 - فمنها قوله - تعالى -: " أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى،
فمالكم، كيف تحكمون. " (1)
والإمام ممن يجب أن يتبع بلا إشكال، فاذن العالم الذي يهدي إلى الحق أحق بهذا
المنصب الشريف.
والصيغة منسلخة عن معنى التفضيل، نظير قوله - تعالى -: " وأولوا الأرحام بعضهم

1 - سورة يونس (10)، الآية 35.
301

أولى ببعض في كتاب الله. " (1)
وإن شئت قلت: التفضيل وقع جدلا، حيث إن الناس بحسب عاداتهم يثبتون حقا
ما لبعض من لا يهدي إلا أن يهدى. فيراد أن لمن يهدي إلى الحق مزية عليه بلا إشكال
وبحكم الفطرة. والمزية تبلغ حد الإلزام، ولذا أرجعهم في آخر الآية إلى الفطرة، و
وبخهم على الحكم بخلافها.
2 - ومنها أيضا قوله - تعالى - في قصة طالوت: " إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة
في العلم والجسم. " (2)
والمراد باصطفاء الله له اصطفاؤه تشريعا بالنصب له، أو تكوينا فيكون ما بعده
بيانا له. وبالجملة يستفاد من الآية أن العلم ملاك للتقدم في الملك.
3 - ومنها أيضا قوله - تعالى -: " قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، انما
يتذكر أولوا الألباب. " (3)
فمفاد الآية أن العالم مقدم على غيره، وأن تقديم المفضول على الفاضل لا يصدر
إلا ممن لا لب له.
وأما الروايات الدالة على اعتبار العلم - بل الأعلمية - في الوالي فكثيرة جدا:
1 - ما مر من نهج البلاغة في شرائط الوالي من قوله (عليه السلام): " ولا الجاهل فيضلهم
بجهله. " (4)
2 - ما في نهج البلاغة أيضا: " أيها الناس، إن أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه و
أعلمهم بأمر الله فيه، فإن شغب شاغب استعتب، فإن أبى قوتل. " (5)

1 - سورة الأحزاب (33)، الآية 6.
2 - سورة البقرة (2)، الآية 247.
3 - سورة الزمر (39)، الآية 9.
4 - نهج البلاغة، فيض / 407; عبده 2 / 19; لح / 189، الخطبة 131.
5 - نهج البلاغة، فيض / 558; عبده 2 / 104; لح / 247، الخطبة 173.
302

أقول: الشغب: تهييج الفساد. والاستعتاب: الاسترضاء.
وقد مر آنفا أن قوله: " أحق "، منسلخ عن معنى التفضيل، أو يكون التفضيل بلحاظ
الجدل، كما مر.
وكيف كان فالمزية تبلغ حد الإلزام، نظير قوله - تعالى -: " وأولوا الأرحام بعضهم
أولى ببعض في كتاب الله "، المستشهد به في الأخبار والفتاوى على ترتيب طبقات
الإرث، وظاهر أن الترتيب فيها على حد اللزوم والتعين.
لكن في شرح ابن أبي الحديد المعتزلي:
" وهذا لا ينافي مذهب أصحابنا البغداديين في صحة إمامة المفضول، لأنه ما قال:
إن إمامة غير الأقوى فاسدة، ولكنه قال: إن الأقوى أحق، وأصحابنا لا ينكرون انه -
عليه السلام - أحق ممن تقدمه بالإمامة، مع قولهم بصحة إمامة المتقدمين، لأنه
لا منافاة بين كونه أحق وبين صحة إمامة غيره. " (1)
أقول: يرد عليه ما مر من كون المزية موجبة للأحقية على حد الإلزام، ولذا عقبها
الله - تعالى - بالتوبيخ في سورة يونس بقوله: " فما لكم، كيف تحكمون. " كما أن
الأولوية في آية: " أولوا الأرحام " وترتيب طبقات الإرث كذلك.
كيف؟! ولو لم تكن الأحقية ملزمة لم يكن وجه لقتال الشاغب الآبي عن الرضا و
قد قال (عليه السلام): " فإن أبى قوتل. "
والظاهر أن المراد بالقوة هو القدرة على الولاية المفوضة اليه بشؤونها المختلفة،
فتشمل كمال العقل والتدبير والشجاعة وحسن السياسة والإدارة، كما لا يخفى.
3 - ما في كتاب سليم بن قيس عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " أفينبغي أن يكون الخليفة على
الأمة إلا أعلمهم بكتاب الله وسنة نبيه، وقد قال الله: " أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع
أمن لا يهدي إلا أن يهدى. " وقال: " وزاده بسطة في العلم والجسم. " وقال: " أو أثارة من
علم. " (2)

1 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9 / 328.
2 - سورة الأحقاف (46)، الآية 4.
303

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما ولت أمة قط أمرها رجلا وفيهم أعلم منه إلا لم يزل أمرهم
يذهب سفالا حتى يرجعوا إلى ما تركوا. " يعني الولاية. فهي غير الإمارة على الأمة؟! " (1)
4 - ما رواه البرقي في المحاسن عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من أم قوما وفيهم أعلم
منه أو أفقه منه لم يزل أمرهم في سفال إلى يوم القيامة. " (2)
ولاوجه لحمله على خصوص إمام الجماعة، كما لا يخفى.
5 - ما في غاية المرام للبحراني عن مجالس الشيخ الطوسي بسنده، عن علي بن
الحسين (عليهما السلام)، عن الحسن بن علي (عليهما السلام) في خطبته بمحضر معاوية، قال: " قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما ولت أمة أمرها رجلا قط وفيهم من هو أعلم منه إلا لم يزل أمرهم يذهب
سفالا حتى يرجعوا إلى ما تركوا. " (3)
وفيه أيضا عن مجالس الشيخ بسنده، عن زاذان، عن الحسن بن علي (عليه السلام) في
خطبتة نحو ذلك. (4)
6 - ما عن تفسير النعماني بسنده، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في بيان صفات الإمام:
" وأما اللواتي في صفات ذاته فإنه يجب أن يكون أزهد الناس، وأعلم الناس، وأشجع
الناس، وأكرم الناس وما يتبع ذلك لعلل تقتضيه... وأما إذا لم يكن عالم بجميع ما فرضه الله
- تعالى - في كتابه وغيره، قلب الفرائض فأحل ما حرم الله، فضل وأضل... والثاني: أن
يكون أعلم الناس بحلال الله وحرامه وضروب أحكامه وأمره ونهيه وجميع ما يحتاج إليه
الناس، فيحتاج الناس إليه ويستغني عنهم. " (5) ورواه عنه في المحكم والمتشابه (6).
والبحث عن ماهية الكتاب وكتاب سليم قد مر في الدليل الخامس والسادس

1 - كتاب سليم بن قيس / 118.
2 - المحاسن 1 / 93، الباب 18 من كتاب عقاب الأعمال، الحديث 49.
3 - غاية المرام / 298.
4 - غاية المرام / 299.
5 - بحار الأنوار 90 / 44 و 45 و 64 (= طبعة إيران 93 / 44 و 45 و 64)، باب ما ورد في أصناف
آيات القرآن.
6 - المحكم والمتشابه / 55.
304

من أدلة إثبات لزوم الولاية، فراجع.
7 - ما في أصول الكافي عن الرضا (عليه السلام): " والإمام عالم لا يجهل، وراع لا ينكل... نامي
العلم، كامل الحلم، مضطلع بالإمامة، عالم بالسياسة، مفروض الطاعة، قائم بأمر الله، ناصح
لعباد الله، حافظ لدين الله. " (1)
أقول: قوله: " لا ينكل "، اي لا يضعف ولا يجبن. والمضطلع بالأمر: القوي عليه، من
الضلاعة بمعنى القوة.
وغرض الإمام في الحديث وإن كان بيان أحقية الأئمة الإثنى عشر بالأمر لأجل
واجديتهم للصفات المذكورة ولكن بالملاك يثبت الحكم لكل من يصير واليا على
المسلمين بما هم مسلمون، غاية الأمر أن الإمامة مع وجود الأئمة المعصومين
وظهورهم حق ثابت لهم من الله، ولم يكن لأحد تقمصها، كما هو مبنى مذهبنا.
8 - ما في الوسائل بسند صحيح، عن عبد الكريم بن عتبة الهاشمي، قال: كنت عند
أبي عبد الله (عليه السلام) بمكة إذ دخل عليه أناس... ثم أقبل على عمرو بن عبيد فقال: " يا عمرو،
اتق الله، وأنتم أيها الرهط فاتقوا الله، فإن أبي حدثني - وكان خير أهل الأرض وأعلمهم
بكتاب الله وسنة نبيه - أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من ضرب الناس بسيفه ودعاهم إلى نفسه
وفي المسلمين من هو أعلم منه فهو ضال متكلف. " (2)
9 - ما في الوسائل أيضا بسنده، عن الفضيل بن يسار، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام)
يقول: " من خرج يدعو الناس وفيهم من هو أعلم منه فهو ضال مبتدع. ومن ادعى الإمامة و
ليس بإمام فهو كافر. " (3)
ولا يخفى أن للكفر مراتب، كما ذكر في محله. فقد يستعمل في قبال الإسلام، وقد
يستعمل في قبال الإيمان، وقد يطلق على أهل العصيان أيضا.

1 - الكافي 1 / 202، كتاب الحجة، باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته، الحديث 1.
2 - الوسائل 11 / 28، الباب 9 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
3 - الوسائل 18 / 564، الباب 10 من أبواب حد المرتد، الحديث 36.
305

10 - ما في تحف العقول عن الصادق (عليه السلام): " من دعا الناس إلى نفسه وفيهم من هو أعلم
منه فهو مبتدع ضال. " (1)
11 - ما رواه المفيد في الاختصاص، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من تعلم علما ليماري به
السفهاء ويباهي به العلماء ويصرف به الناس إلى نفسه يقول: انا رئيسكم فليتبوء مقعده من
النار. " ثم قال: " إن الرياسة لا تصلح إلا لأهلها. فمن دعا الناس إلى نفسه وفيهم من هو أعلم
منه لم ينظر الله اليه يوم القيامة. " (2)
12 - ما في كتاب سليم بن قيس عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في بيان أحقيته (عليه السلام) بالخلافة:
" إنهم قد سمعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول عودا وبدء: ما ولت أمة رجلا قط أمرها وفيهم من هو
أعلم منه إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالا حتى يرجعوا إلى ما تركوا، فولوا أمرهم قبلي ثلاثة
رهط ما منهم رجل جمع القرآن ولا يدعي أن له علما بكتاب الله ولا سنة نبيه، وقد علموا أني
أعلمهم بكتاب الله وسنة نبيه وأفقههم وأقرأهم لكتاب الله وأقضاهم بحكم الله. " (3)
13 - ما في الاحتجاج عن أمير المؤمنين (عليه السلام) بعدما طلبوا منه البيعة لأبي بكر: " أنا
أولى برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيا وميتا، وأنا وصيه ووزيره ومستودع سره وعلمه، وأنا الصديق
الأكبر والفاروق الأعظم، أول من آمن به وصدقه، وأحسنكم بلاء في جهاد المشركين، و
أعرفكم بالكتاب والسنة، وأفقهكم في الدين، وأعلمكم بعواقب الأمور، وأذربكم لسانا، و
أثبتكم جنانا. " (4)
14 - ما رواه ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة عن نصر بن مزاحم، عن
أمير المؤمنين (عليه السلام) في كتابه إلى معاوية وأصحابه، قال (عليه السلام): " فإن أولى الناس بأمر هذه
الأمة قديما وحديثا أقربها من الرسول، وأعلمها بالكتاب، وأفقهها في الدين، أولها
إسلاما، وأفضلها

1 - تحف العقول / 375.
2 - الاختصاص / 251.
3 - كتاب سليم بن قيس / 148.
4 - الاحتجاج 1 / 46 (= طبعة أخرى 1 / 95)، باب ما جرى بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)...
306

جهادا، وأشدها بما تحمله الأئمة من أمر الأمة اضطلاعا. " (1)
15 - ما رواه ابن قتيبة في كتاب الإمامة والسياسة عن على (عليه السلام) في مقام الاحتجاج:
" فوالله يا معشر المهاجرين، لنحن أحق الناس به، لأنا أهل البيت، ونحن أحق بهذا الأمر منكم
ما كان فينا القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالم بسنن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، المضطلع
بأمر الرعية، المدافع عنهم الأمور السيئة، القاسم بينهم بالسوية. " (2)
ولا يخفى أن كونهم من أهل البيت سببا للأحقية إنما هو بملاك أن أهل البيت أدرى
بما في البيت وأعلم بسنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مضافا إلى ما فيهم من الفضائل النفسية.
وكيف كان فدلالة الحديث وأمثاله على كون الفقاهة في دين الله ملاكا للتقدم
واضحة.
16 - ما رواه ابن قتيبة أيضا عنه (عليه السلام) في كتابه لأهل العراق في بيان تفضيلهم على
أصحاب معاوية في التصدي لشؤون الولاية وأعمالها. والكتاب طويل، وفيه:
" وهؤلاء الذين لو ولوا عليكم لأظهروا فيكم الغضب والفخر والتسلط بالجبروت والتطاول
بالغضب والفساد في الأرض، ولا تبعوا الهوى وحكموا بالرشاء، وأنتم - على ما فيكم من
تخاذل وتواكل - خير منهم وأهدى سبيلا: فيكم الحكماء والعلماء والفقهاء وحملة القرآن
والمتهجدون بالأسحار، والعباد والزهاد في الدنيا وعمار المساجد وأهل تلاوة القرآن; أفلا
تسخطون وتنقمون أن ينازعكم الولاية عليكم سفهاؤكم والأراذل والأشرار منكم؟ " (3)
وروى نحو ذلك في نهج السعادة، مستدرك نهج البلاغة، وفيه: " ألا تسخطون و
تنقمون أن ينازعكم الولاية السفهاء البطاء عن الإسلام الجفاة فيه؟ " (4) ونحوه أيضا في
شرح

1 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3 / 210.
2 - الإمامة والسياسة 1 / 19، باب إباءة علي (عليه السلام) بيعة أبي بكر.
3 - الإمامة والسياسة 1 / 136.
4 - نهج السعادة 5 / 252، الكتاب 156.
307

ابن أبي الحديد (1).
يظهر من الرواية أن العلم والفقه كما يعتبر في الإمام الأعظم يعتبر في عماله أيضا
مهما أمكن، فإنهم يريدون إجراء أحكام الإسلام وتنفيذها وإدارة شؤون المسلمين
على أساس ضوابطه، فيجب أن يكونوا مطلعين على موازينه ملتزمين بها.
والمراد بالفقيه هو العالم بالمسائل المبتلى بها في الجهات المختلفة من الحياة من
العبادات والمعاملات والسياسات والاقتصاديات وعلاقات الأمم ونحو ذلك.
فالأعلم الأبصر بالأحكام الكلية، وبالموضوعات وماهية الحوادث الواقعة،
والظروف المحيطة ومسائل العصر أحق من غيره. وهذا أمر تحكم به الفطرة أيضا،
مضافا إلى الآيات والروايات التي مضت.
17 - وقد مر في صحيحة العيص بن القاسم عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله (عليه السلام):
" وانظروا لأنفسكم. فوالله إن الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي، فإذا وجد رجلا هو أعلم
بغنمه من الذي هو فيها يخرجه ويجىء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان
فيها. " (2) هذا.
وهيهنا روايات كثيرة وردت في مواصفات العمال، وأنه لا يستعمل إلا من هو
أرضى وأعلم بكتاب الله وسنة نبيه. ومنها يستفاد حكم الوالي الأعظم بطريق أولى.
ونحن نذكر جملة كثيرة من هذا الروايات في الفصل الرابع من الباب السادس عند
البحث عن مواصفات الوزراء والعمال، فلنذكر بعضها هنا نموذجا:
18 - ما رواه البيهقي بسنده، عن ابن عباس، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من استعمل
عاملا من المسلمين وهو يعلم أن فيهم أولى بذلك منه وأعلم بكتاب الله وسنة نبيه فقد خان
الله ورسوله وجميع المسلمين. " (3) ورواه عنه العلامة الأميني في كتاب الغدير. (4)
19 - ما رواه العلامة الأميني في كتاب الغدير عن تمهيد الباقلاني: " من تقدم

1 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6 / 99.
2 - الوسائل 11 / 35، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
3 - سنن البيهقي 10 / 118، كتاب آداب القاضي، باب لا يولي الوالي امرأة ولا فاسقا و...
4 - الغدير 8 / 291.
308

على قوم من المسلمين وهو يرى أن فيهم من هو أفضل منه فقد خان الله ورسوله
والمسلمين. " (1) بناء على كونه حديثا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما هو الظاهر.
20 - ما في كنز العمال عن حذيفة: " أيما رجل استعمل رجلا على عشرة أنفس علم أن
في العشرة أفضل ممن استعمل فقد غش الله وغش رسوله وغش جماعة المسلمين. " (2)
21 - ما في كنز العمال أيضا عن ابن عباس: " من استعمل رجلا من عصابة وفيهم من
هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين. " (3)
ولاشك أن الأعلم أرضى من غير الأعلم وإن كان لفظ الحديث يعم سائر الفضائل
أيضا.
ويظهر من هذه الروايات وأمثالها أن اعتبار العلم بالكتاب والسنة ليس مقصورا
على الإمام الأعظم، بل لو أريد تعيين وزير أو أمير أو وال لمنطقة خاصة، وكان هنا
فردان متفاوتان في العلم ومتماثلان في سائر الفضائل فلا يجوز تقديم غير الأعلم. و
لعل العقل السليم أيضا يحكم بذلك، فإنه ترجيح للمرجوح على الراجح وهو قبيح.
نعم، مع تزاحم الفضائل وعدم إمكان الجمع بينها يأتي البحث في الأهم منها في
الباب الخامس، فانتظر.
22 - ومن الأخبار الدالة على اعتبار العلم على ما قيل ما رواه الآمدي في الغرر
عن أمير المؤمنين (عليه السلام) من قوله: " العلماء حكام على الناس. " (4)
أقول: المحتملات في الرواية ثلاثة:
الأول: أن تحمل الجملة على الخبر، فيراد بيان فضل العلم والعلماء، وأن العلماء

1 - الغدير 8 / 291، عن التمهيد / 190.
2 - كنز العمال 6 / 19، الباب 1 من كتاب الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14653.
3 - كنز العمال 6 / 25، الباب 1 من كتاب الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14687.
4 - الغرر والدرر 1 / 137، الحديث 506.
309

بحسب العادة والطبع يحكمون على المجتمع، والناس تبع لهم قهرا، من غير فرق
بين المذاهب والملل. ففي كل مذهب يكون الحاكم على عقولهم وأفكارهم علماؤهم،
بل لا ينحصر ذلك في علم الدين أيضا. فالجملة نظير قوله (عليه السلام): " العلم حاكم والمال
محكوم عليه. " (1)
الثاني: أن تحمل على الإنشاء ويراد بها جعل منصب الحكومة والولاية للعلماء،
نظير جعلها لأمير المؤمنين (عليه السلام) في غدير خم بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من كنت مولاه فعلى مولاه. "
الثالث: أن تحمل على الإنشاء أيضا ويراد بها التكليف، أي إيجاب انتخاب
العلماء للحكومة وتعينهم لذلك بحسب حكم الشرع.
فعلى الأخيرين يرتبط الحديث بالمقام، وأما على الأول فلا ربط له به.
ومقتضى الاحتمال الثاني أن أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذه الجملة جعل منصب
الحكومة لجميع العلماء. فلو كان في عصر واحد ألف عالم مثلا يكون جميعهم حكاما
بجعل أمير المؤمنين (عليه السلام) ونصبه. وهذا بعيد، بل لعله مقطوع الفساد، مع أن اللفظ مطلق
يعم علماء الدين وغيرهم، وعلماء الإسلام وسائر الأديان، والعدول من العلماء
والفساق منهم.
فنظير هذه الرواية ما رواه في البحار عن كنز الكراجكي، قال: قال الصادق (عليه السلام):
" الملوك حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك. " (2)
ولا يخفى أن قوله: " الملوك حكام على الناس "، يراد به الاخبار قطعا. فلعله قرينة
على إرادة الإخبار في الجملة الثانية أيضا، لوحدة السياق. فيكون المراد أن الملوك
حكام على الناس خارجا كما يرى، والعلماء نافذون مؤثرون في الملوك وفي
آرائهم قهرا، إما للإيمان بهم، أو كونهم مجبورين في الأغلب على الالتفات إليهم وإلى

1 - نهج البلاغة، فيض / 1155; عبده 3 / 187; لح / 496، الحكمة 147.
2 - بحارالأنوار 1 / 183، كتاب العلم، باب فرض العلم، الحديث 92.
310

آرائهم والاحترام لهم لجلب رضى الأمة وجذبهم، أو لاحتياجهم إلى علمهم في
إدارة شؤون الأمة ورفع حوائجها ولا سيما إذا أريد بالعلم الأعم من علم الدين ومن
سائر العلوم.
وعلى هذا فالروايتان أجنبيتان عن المقام، وإنما تعرضنا لهما تبعا للقوم.
23 - ما رواه في تحف العقول من قوله (عليه السلام): " مجاري الأمور والأحكام على أيدي
العلماء بالله، الأمناء على حلاله وحرامه. "
وحيث إن الحديث يشتمل على مضامين عالية ناسب المقام نقله بتمامه فنقول:
روى في تحف العقول عن السبط الشهيد (عليه السلام)، قال: ويروى عن أمير المؤمنين (عليه السلام):
" اعتبروا أيها الناس بما وعظ الله به أولياءه من سوء ثنائه على الأحبار، إذ يقول:
" لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الاثم. " (1) وقال: " لعن الذين كفروا من بني
إسرائيل - إلى قوله - لبئس ما كانوا يفعلون. " (2)
وإنما عاب الله ذلك عليهم، لأنهم كانوا يرون من الظلمة الذين بين أظهرهم المنكر
والفساد، فلا ينهونهم عن ذلك، رغبة فيما كانوا ينالون منهم، ورهبة مما يحذرون، والله
يقول: " فلا تخشوا الناس واخشون. " (3)
وقال: " المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف وينهون عن
المنكر. " (4) فبدأ الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة منه، لعلمه بأنها إذا أديت
وأقيمت استقامت الفرائض كلها، هينها وصعبها. وذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر دعاء إلى الإسلام، مع رد المظالم، ومخالفة الظالم، وقسمة الفيء والغنائم، وأخذ
الصدقات من مواضعها ووضعها في حقها.
ثم أنتم أيتها العصابة، عصابة بالعلم مشهورة، وبالخير مذكورة، وبالنصيحة معروفة، وبالله في
أنفس الناس مهابة، يهابكم الشريف، ويكرمكم الضعيف، ويؤثركم من لافضل لكم عليه ولا يد لكم
عنده. تشفعون في الحوائج إذا امتنعت من طلابها، وتمشون في الطريق بهيبة الملوك وكرامة

1 - سورة المائدة (5)، الآية 63.
2 - سورة المائدة (5)، الآية 78 و 79.
3 - سورة المائدة (5)، الآية 44.
4 - سورة التوبة (9)، الآية 71.
311

الأكابر.
أليس كل ذلك إنما نلتموه بما يرجى عندكم من القيام بحق الله وإن كنتم عن أكثر حقه
تقصرون؟ فاستخففتم بحق الأئمة. فأما حق الضعفاء فضيعتم، وأما حقكم بزعمكم فطلبتم.
فلا مالا بذلتموه، ولا نفسا خاطرتم بها للذي خلقها، ولا عشيرة عاديتموها في ذات الله.
أنتم تتمنون على الله جنته ومجاورة رسله وأمانا من عذابه. لقد خشيت عليكم أيها
المتمنون على الله أن تحل بكم نقمة من نقماته، لأنكم بلغتم من كرامة الله منزلة فظلتم بها، و
من يعرف بالله لا تكرمون، وأنتم بالله في عباده تكرمون، وقد ترون عهود الله منقوضة فلا
تفزعون وأنتم لبعض ذمم آبائكم تفزعون، وذمة رسول الله محقورة (مخفورة خ. ل)، والعمى
والبكم والزمني في المدائن مهملة لا ترحمون، ولا في منزلتكم تعملون، ولا من عمل فيها
تعينون (تعنون خ. ل)، وبالادهان والمصانعة عند الظلمة تأمنون، كل ذلك مما أمركم الله به
من النهي والتناهي وأنتم عنه غافلون.
وأنتم أعظم الناس مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تشعرون (تسعون خ. ل
وفي الوافي: " لو يسعون "). ذلك بأن مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله،
الأمناء على حلاله وحرامه. فأنتم المسلوبون تلك المنزلة، وما سلبتم ذلك إلا بتفرقكم عن
الحق واختلافكم في السنة بعد البينة الواضحة، ولو صبرتم على الأذى، وتحملتم المؤونة
في ذات الله كانت أمور الله عليكم ترد، وعنكم تصدر، وإليكم ترجع، ولكنكم مكنتم الظلمة
من منزلتكم، واستسلمتم أمور الله في أيديهم، يعملون بالشبهات ويسيرون في الشهوات.
سلطهم على ذلك فراركم من الموت، وإعجابكم بالحياة التي هي مفارقتكم، فأسلمتم
الضعفاء في أيديهم، فمن بين مستعبد مقهور، وبين مستضعف على معيشته مغلوب. يتقلبون
في الملك بآرائهم، ويستشعرون الخزي (الجري - وافي) بأهوائهم، اقتداء بالأشرار وجرأة
على الجبار. في كل بلد منهم على منبره خطيب يصقع (مسقع - وافي). فالأرض لهم شاغرة و
أيديهم فيها مبسوطة، والناس لهم خول، لا يدفعون يد لامس، فمن بين جبار عنيد، وذي
سطوة على الضعفة شديد، مطاع لا يعرف المبدئ المعيد. فيا عجبا! ومالي لا أعجب: والأرض
(كلمة " والأرض " ليست في الوافي، ولعله أصح.) من غاش غشوم، ومتصدق ظلوم،
وعامل على المؤمنين بهم غير رحيم. فالله الحاكم فيما فيه تنازعنا، والقاضي بحكمه فيما
شجر بيننا.
اللهم إنك تعلم أنه لم يكن ما كان منا تنافسا في سلطان، ولا التماسا من فضول الحطام، ولكن
312

لنرى المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك، ويعمل
بفرائضك وسننك وأحكامك، فإنكم إن لا تنصرونا وتنصفونا قوى الظلمة عليكم، وعملوا في
إطفاء نور نبيكم، وحسبنا الله، وعليه توكلنا، واليه أنبنا، وإليه المصير. " (1)
وذكر قطعتان من الرواية في نهج البلاغة بتفاوت ما. (2)
ويظهر من الحديث الشريف شدة اهتمام الشارع بالأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر بمفهومهما الوسيع، ولذا رتب عليهما رد المظالم، ومخالفة الظالم، وقسمة
الفيء والغنائم، وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقها.
وأنت تعلم أن اجراء هما بهذه السعة يقتضي تحصيل القدرة وإقامة الدولة الحقة، و
لذا قلنا سابقا إن نفس أدلة الجهاد والدفاع عن بيضة الإسلام، وأدلة الأمر بالمعروف و
النهي عن المنكر من أقوى الأدلة على لزوم إقامة الدولة الحقة.
وبالجملة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بمفهومهما الوسيع بمعنى إشاعة
المعروف والعدل وقطع جذور المنكر والفساد، يلازمان الحكومة العادلة، وإذا تركا
خلا الجو والمحيط قهرا لتسلط الأشرار ودولتهم، كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيته
المعروفة قبل وفاته: " لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولى عليكم شراركم
ثم تدعون فلا يستجاب لكم. " (3)
فتسلط الأشرار أثر طبيعي لتفرق الناس وعدم مراقبة بعضهم لبعض وعدم
اهتمامهم بما يجري في المجتمع، فتدبر.
والعجب من أهل التخاذل والتواكل، كيف أغمضوا عن الآيات والأخبار الكثيرة
الواردة من طرق الفريقين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو تلاعبوا بها و
حصروها في الأمر والنهي الواقعين خفية في الموارد الجزئية؟! مع أن الظاهر من
بعض الأخبار كون الجهاد بسعته شعبة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وفي زيارة السبط الشهيد (عليه السلام): " أشهد أنك قد أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، وأمرت

1 - تحف العقول / 237، والوافي 2 " م 9 " / 30، باب الحث على الأمر بالمعروف... من أبواب الأمر
بالمعروف....
2 - نهج البلاغة، فيض / 317 و 406; عبده 1 / 204 و 2 / 19; لح / 154 و 189، الخطبة 106 و
131.
3 - نهج البلاغة، فيض / 978; عبده 3 / 86; لح / 422، الكتاب 47.
313

بالمعروف ونهيت عن المنكر. " ففيها إشارة إلى أن قيامه (عليه السلام) في قبال حكومة يزيد كان
لإجراء فرائض الإسلام، ومن باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقوله (عليه السلام) في الحديث: " فاستخففتم بحق الأئمة "، لعله من جهة أن الإمامة الكبرى
في تلك الأعصار كانت متعينة لأمير المؤمنين (عليه السلام) وبعده للحسنين (عليهما السلام)، فكان الواجب
على العلماء المخاطبين في الحديث إعانة الإمام وتقويته، والتصدي للأعمال من
قبله حتى لا يتسلط الجبابرة، وهم قد تركوا هذا الواجب.
ويحتمل ضعيفا أن يكون المراد به أن الإمامة وشؤونها كانت حقا للعلماء،
فاستخففتم بحق الإمامة، أي تركتموها لغير أهلها.
ويحتمل أيضا أن تكون كلمة: " الأئمة " مصحف: " الأمة ". ويؤيد ذلك التفريع عليه
بقوله: " فأما حق الضعفاء فضيعتم. "
وقوله: " غلبتم عليه من منازل العلماء "، مبني للمفعول كما يظهر بالدقة فيما بعده من
قوله: " فأنتم المسلوبون تلك المنزلة. "
وأما قوله: " مجاري الأمور "، فالمجاري إما جمع للمصدر الميمي، أو لاسم المكان.
فإن المجاري المتشعبة لجريان الأمور يجب أن تنتهي في النهاية إلى العلماء.
وإضافة " العلم " إلى الله من جهة أن العلم به - تعالى - إذا تحقق واقعا تعقبه العلم
والعمل بتكاليفه.
ويشهد بذلك قوله - تعالى -: " إنما يخشى الله من عباده العلماء. " (1) إذا الظاهر منه
العلم بالله، المنتج عن العلم بآياته، كما يشهد بذلك سياق الآية، حيث عد فيها آيات
الله - تعالى - في نظام التكوين. والعلم بالآيات بما هي آيات له يوجب العلم بقدرته
وسطوته، فيوجب الخشية قهرا.
وقوله: " الأمناء على حلاله وحرامه "، يدل على العلم بالأحكام، وحفظها عن التغيير
والتأويل، فإنه مقتضى الأمانة.
وقوله: " شاغرة " من شغرت الأرض، أي لم يبق لها من يحميها ويضبطها.

1 - سورة الفاطر (35)، الآية 28.
314

والخطيب المسقع بكسر الميم، أي البليغ العالي الصوت. ويصح فيه الصاد و
السين.
وكيف كان فالخطاب في الحديث للعلماء المعاصرين له (عليه السلام) من الصحابة
والتابعين. ويستفاد منه وجوب كون المرجع لأمور المسلمين، العلماء وان هذه
المنزلة كانت لهم شرعا فسلبت عنهم باختلافهم وتشتتهم، وعدم رعايتهم لتكاليفهم،
ورهبتهم من الظلمة ورغبتهم في الدنيا، فمكنوا الظلمة من المنزلة التي كانت لهم
واستسلموا أمور الله في أيديهم... ولا ينافي هذا كون الإمامة الكبرى حقا
لشخصه (عليه السلام)، إذ الإمام يحتاج إلى مشاورين وقضاة وعمال، والواجب انتخابهم من
أهل العلم الملتزمين بالشريعة الحقه. هذا.
وفي منية الطالب:
" من المحتمل قريبا كون العلماء فيها هم الأئمة (عليهم السلام)... فإن فيه قرائن تدل على أن
المراد من العلماء فيه هم الأئمة (عليهم السلام) فإنهم هم الأمناء على حلال الله وحرامه. " (1)
وفي حاشية العلامة الإصفهاني على المكاسب:
" وأورد عليه بأن الرواية منقولة في تحف العقول، وسياقها يدل على أنها في
خصوص الأئمة (عليهم السلام). والظاهر أنه كذلك، فإن المذكور فيها هم العلماء بالله، لا العلماء
بأحكام الله. ولعل المراد أنهم (عليهم السلام) بسبب وساطتهم للفيوضات التكوينية والتشريعية
تكون مجاري الأمور كلها حقيقة بيدهم (عليهم السلام)، لا جعلا. فهي دليل على الولاية الباطنية
لهم كولايته - تعالى -، لا الأولوية الظاهرية التي هي من المناصب المجعولة. " (2)
أقول: الظاهر عدم مراجعة هذين العلمين الشريفين - طاب ثراهما - لمجموع
الرواية، وإلا ظهر لهما عدم إمكان حمل العلماء فيها على الأئمة (عليهم السلام). ومن هنا يظهر

1 - منية الطالب 1 / 326.
2 - حاشية المكاسب 1 / 214.
315

أنه يجب على العلماء والفضلاء في مقام الاستدلال بنص الكتاب أو الحديث،
المراجعة التامة لنفس الكتاب وكتب الحديث، وعدم الاكتفاء بالمقطعات المنقولة في
بعض الكتب والمؤلفات. هذا.
فإن قلت: المتأمل في الحديث يشاهد أن الإمام (عليه السلام) بصدد توبيخ العصابة
المعاصرة له، وأنها لم تقم بما عليها من التكاليف وداهنوا الظلمة وتفرقوا عن الحق،
فكيف يمكن أن يعبر عنهم بالعلماء بالله، الأمناء على حلاله وحرامه؟ فالمراد بالعلماء
بالله في الحديث هم الأئمة الإثنى عشر، كما ذكره هذان العلمان. ويؤيد ذلك قول
الإمام الصادق (عليه السلام): " نحن العلماء وشيعتنا المتعلمون. " (1)
وأما قوله (عليه السلام): " وأنتم أعظم الناس مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم
تشعرون "، فلا يراد أن منازل العلماء كانت لهذه العصابة فسلبت عنهم، بل المراد أن
قيادة الأئمة الذين هم العلماء بالحقيقة لو استقرت كانت لهم وبنفعهم وكانت بركاتها
تعود إليهم، فلما اختلفت العصابة في الحق وتفرقوا عن الأئمة (عليهم السلام) سلبت عنهم قيادة
الأئمة وبركاته، ولذا قال الإمام (عليه السلام): " منازل العلماء "، ولم يقل: " منازلكم ".
واما قوله (عليه السلام) بعد ذلك: " ولو صبرتم على الأذى وتحملتم المؤونة في ذات الله كانت
أمور الله عليكم ترد وعنكم تصدر و إليكم ترجع "، فالمراد به أنكم لو لم تتخاذلوا عن نصرة
الإمام ولم تستخفوا بحق الأئمة استقرت سلطة الإمام فصرتم أنتم بالطبع من
المشاورين له ومن بطانته وأمرائه والمراجع لأمور المسلمين. والقضية قضية شخصية
خارجية، فليس في الحديث دلالة لا على نصب العلماء ولاعلى اشتراط العلم
والفقاهة.
ويشهد لما ذكرناه من إرادة الأئمة (عليهم السلام) قول الإمام (عليه السلام): " فاستخففتم بحق الأئمة "، و
قوله في آخر الحديث: " فالله الحاكم فيما فيه تنازعنا " إلى قوله: " فإنكم إن لا تنصرونا
وتنصفونا قوى الظلمة عليكم. "

1 - الكافي 1 / 34، كتاب فضل العلم، باب أصناف الناس، الحديث 4.
316

قلت: هذه غاية ما يوجه به الحديث لتطبيقه على خصوص الأئمة الاثني عشر، و
لكن كونه مخالفا لظاهر الحديث واضح، فالظاهر أن المراد به مطلق العلماء بالله، و
مراده (عليه السلام) أنكم لو عملتم بواجباتكم كنتم من العلماء بالله، الأمناء على حلاله وحرامه،
وجرت الأمور بأيديكم، وكانت أمور الله عليكم ترد وعنكم تصدر وإليكم ترجع،
ولكنكم تركتم تكاليفكم، فسلبت عنكم منزلتكم، وتمكنت الظلمة من منزلتكم.
ثم على فرض التسليم لما ذكره هذا القائل فنقول: لا نسلم كون القضية شخصية، إذ
يستفاد من الحديث اجمالا أن جريان الأمور السياسية يجب أن يكون على أيدي
العلماء بالله، الأمناء على حلاله وحرامه. والأئمة الاثنا عشر هم المصاديق البارزة
لهذا العنوان، لا أنه منحصر فيهم، فتدبر. هذا.
وعلى ما ذكرنا فهل يريد (عليه السلام) بكلامه النصب وجعل الولاية للعلماء من قبل الله -
تعالى - أو من قبل الإمام (عليه السلام) نظير ما نعتقده من نصب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
لأمير المؤمنين (عليه السلام) في غدير خم، أو يريد بيان أنه يشترط في الحكام على المسلمين
أن يكونوا من العلماء بالله، الأمناء على حلاله وحرامه، فيجب على العلماء وعلى
الأمة أن يحققوا ذلك حتى تصير أمور الله عليهم ترد وعنهم تصدر، وذلك بأن يتحد
العلماء ويأخذوا بالكتاب والسنة ويدعوا الناس إلى المعروف وتقبل الأمة إليهم و
يساعدوهم على ذلك فلا يخلو ميدان السياسة لأهل الهوى والظلمة، فالحديث في
مقام بيان الحكم الشرعي وأن الشرط في الحكام كونهم من أهل العلم والأمانة؟
ظاهر بعض الأساتذة الاحتمال الأول. ومقتضاه كون جميع الفقهاء الواجدين
للشرائط في عصر صدور الحديث وفيما بعده حكاما منصوبين بالفعل.
ولكن الالتزام بهذا مشكل ولا سيما في عصر صدوره، حيث كانت الإمامة الكبرى
لنفس الإمام (عليه السلام) عندنا. وسيأتي تفصيل المسألة، وأن فعلية الولاية للفقهاء بالنصب أو
بانتخاب الأمة في الباب الخامس، فانتظر.
317

24 - ومما يدل على اشتراط العلم والفقاهة في الوالي أيضا ما مر من كتاب سليم،
حيث قال (عليه السلام): " والواجب في حكم الله وحكم الإسلام على المسلمين... أن يختاروا
لأنفسهم إماما عفيفا عالما ورعا عارفا بالقضاء والسنة... " (1)
إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة. ولو تتبعت كتب التاريخ والحديث
والاحتجاجات الواردة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) وأولاده المعصومين (عليهم السلام) لعثرت على
شواهد كثيرة تشهد على المدعى، فراجع.

1 - كتاب سليم بن قيس / 182.
318

الفصل الثامن
في اعتبار القوة وحسن الولاية
الشرط الخامس للوالي: القوة وحسن الولاية.
قد عرفت في الفصل الثاني من هذه الفصول أن العقلاء لو أرادوا تفويض أمر من
الأمور إلى الغير راعوا فيه بحسب الفطرة وجود أمور، ومنها قدرته وقوته على الأمر
المفوض إليه. فإذا كان هذا حال الأعمال الجزئية فعدم جواز تفويض إدارة شؤون
الأمة التي هي من أدق الأعمال وأحمزها إلى من لا يقدر ولا يقوى عليها يثبت بطريق
أولى. وقدرة الشخص على ذلك تتوقف:
أولا: على استعداده لذلك بالذات ويسمى ذلك بالشم السياسي، فإن الناس
مختلفون في الاستعداد والانسجام مع الأعمال والأشغال المختلفة.
وثانيا: على الإحاطة بكيفية العمل وفنونه، والاطلاع على نفسيات أمته
وحاجاتهم، وشرائط الزمان والبيئة.
وثالثا: على الشجاعة النفسية والقاطعية في التصميم وقوة الإرادة حتى يتمكن
319

من اتخاذ القرار في المسائل المهمة ولا يضعف، إذ كم من سائس مطلع يضعف عن
الإرادة والتصميم لضعفه روحا.
ورابعا: على سلامة الحواس والأعضاء من السمع والبصر واللسان ونحوها
بمقدار ما يرتبط بعمله المفوض إليه أو يوجب عدمه شينا يسبب نفرة الناس منه و
عدم تأثير حكمه فيهم، إذ ربما لا يتسلط على الملك وما يجري في مجال عمله إلا
بمباشرة الإدراك والمقاولة والنطق، وقد يحتاج إلى النهوض والحركة أيضا. و
التشويه في الخلقة يوجب نفرة الناس منه فلا يناسب الولاية المتوقع فيها جذبهم.
أضف إلى جميع ذلك صفة الحلم، فإنه لو كان الشخص جافيا غضوبا قطع الأمة
بجفائه.
والظاهر أن التعبير بحسن الولاية، وكذا القوة المذكورين في بعض الأخبار الآتية
أحسن تعبير يستفاد منه جميع ما ذكر. فنذكرها بعنوان شرط واحد مضافا إلى اشتراك
رواياتها غالبا كما يظهر لك.
ولا يخفى أن المراد بالعلم والاطلاع هنا غير العلم المذكور شرطا في الفصل
السابق، إذ المراد بالعلم هنا الاطلاع على المسائل الجزئية وفنون السياسة وحوادث
الزمان، وفي الفصل السابق العلم بالمسائل الكلية المستنبطة من الكتاب والسنة،
المعبر عنه بالفقاهة.
وكيف كان فمن أدلة اعتبار القوة في الوالي حكم العقل والعقلاء، كما عرفت
كيف؟ والوالي على الأمة يراد منه جبر نقص المولى عليه، فيجب أن يكون قويا يقدر
على ذلك بل وأقوى من جميع من يكون تحت ولايته ونظارته. والتاريخ يشهد بأنه
ربما ابتليت الأمة بأضرار وآفات كثيرة، بل ربما سقطت بالكلية، بضعف الولاة وعدم
كفايتهم.
ويدل على اعتبار القوة بسعتها أيضا الكتاب والسنة:
320

1 - فمن الآيات قوله - تعالى - في قصة طالوت: " ان الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة
في العلم والجسم. " (1)
والظاهر من بسط الجسم وان كان كبره فقط ويناسب هذا لقائد الجيش أيضا، و
لكن يمكن أن يكون كناية عن الشجاعة والقدرة الروحية أيضا، لتناسب الجسم
والروح غالبا.
ولعل المراد بالعلم هنا أيضا العلم بفنون الحرب المفوضة اليه، لا العلم بالمسائل
الكلية وإن كان يحتمل الأعم أيضا.
2 - ومن الآيات أيضا قوله حكاية عن يوسف النبي (عليه السلام): " قال اجعلني على خزائن
الأرض، إني حفيظ عليم. " (2)
إذ الظاهر إرادة كونه أمينا في حفظ الخزائن والأموال، عليما بفنون حفظها
وصرفها في مصارفها اللازمة.
3 - ومنها أيضا قوله - تعالى - حكاية عن بنت شعيب في حق موسى (عليه السلام): " قالت
إحديهما يا أبت استأجره، إن خير من استأجرت القوي الأمين. " (3)
فإذا اشترطت القوة في راعي الغنم بحكم الفطرة فاشتراطها في والي الأمة بطريق
أولى، كما لا يخفى.
4 - ومنها قوله حكاية عن العفريت: " قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من
مقامك، وإني عليه لقوى أمين. " (4)
فالآية تشعر بأن العمل يجب أن يفوض إلى القوى الأمين.
5 - ومنها أيضا قوله - تعالى -: " وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على
شئ

1 - سورة البقرة (2)، الآية 247.
2 - سورة يوسف (12)، الآية 55.
3 - سورة القصص (28)، الآية 26.
4 - سورة النمل (27)، الآية 39.
321

وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير، هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على
صراط مستقيم. " (1)
ونحو ذلك من الآيات التي يمكن أن يستفاد منها - ولو بعناية - اعتبار القوة
الكاملة فيمن يفوض إليه عمل عظيم.
وأما الروايات: فهي في غاية الكثرة:
1 - ما في الكافي بسنده عن حنان، عن أبيه، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " قال رسول الله:
" لا تصلح الإمامة إلا لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن معاصي الله، وحلم يملك به
غضبه، وحسن الولاية على من يلي حتى يكون لهم كالوالد الرحيم. " وفي رواية أخرى:
" حتى يكون للرعية كالأب الرحيم. " (2)
وقد مر أن حسن الولاية بسعة معنى الكلمة يعم الشجاعة والسياسة والحلم
ونحوها، مما له دخل في حسن قيادة الأمة.
2 - ما مر من نهج البلاغة: " أيها الناس، إن أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه، وأعلمهم
بأمر الله فيه. فإن شغب شاغب استعتب، فإن أبى قوتل. " (3)
3 - ما في الاحتجاج عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " أنا أولى برسول الله...، وأفقهكم في
الدين، وأعلمكم بعواقب الأمور، وأذربكم لسانا، وأثبتكم جنانا. " (4)
4 - ما رواه ابن أبي الحديد، عن نصر بن مزاحم، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في كتابه إلى
معاوية وأصحابه: " فان أولى الناس بأمر هذه الأمة قديما وحديثا أقربها من الرسول، و
أعلمها بالكتاب، وأفقهها في الدين، أولها إسلاما، وأفضلها جهادا، وأشدها بما تحمله الأئمة
من

1 - سورة النحل (16)، الآية 76.
2 - الكافي 1 / 407، كتاب الحجة، باب ما يجب من حق الإمام على الرعية و...، الحديث 8.
3 - نهج البلاغة، فيض / 558; عبده 2 / 104; لح / 247، الخطبة 173.
4 - الاحتجاج 1 / 46 (= طبعة أخرى 1 / 95)، باب ما جرى بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)...
322

أمر الأمة اضطلاعا. " (1)
5 - ما في أصول الكافي عن الرضا (عليه السلام): " والإمام عالم لا يجهل، وراع لا ينكل... نامي
العلم، كامل الحلم، مضطلع بالإمامة، عالم بالسياسة، مفروض الطاعة، قائم بأمر الله، ناصح
لعباد الله، حافظ لدين الله. " (2)
قال في المنجد:
" نكل نكولا عن كذا أو من كذا: نكص وجبن. " وفيه أيضا:
" ضلع ضلاعة: كان قويا شديد الأضلاع... اضطلع بحمله: نهض وقوى عليه. " (3)
6 - ما رواه ابن قتيبة في الإمامة والسياسة عن على (عليه السلام): " فوالله يا معشر المهاجرين،
لنحن أحق الناس به، لأنا أهل البيت، ونحن أحق بهذا الأمر منكم ما كان فينا القاري لكتاب
الله، الفقيه في دين الله، العالم بسنن رسول الله، المضطلع بأمر الرعية، المدافع عنهم الأمور
السيئة، القاسم بينهم بالسوية. " (4)
7 - ما في المحكم والمتشابه في صفات الإمام: " وأما اللواتي في صفات ذاته، فإنه
يجب أن يكون أزهد الناس، وأعلم الناس، وأشجع الناس، وأكرم الناس وما يتبع ذلك لعلل
تقتضيه. " (5)
8 - ما في البحار عن أمالي الطوسي بسنده عن أبي ذر أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " يا باذر،
إني أحب لك ما أحب لنفسي، إني أراك ضعيفا، فلا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال

1 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3 / 210.
2 - الكافي 1 / 202، كتاب الحجة، باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته، الحديث 1.
3 - المنجد / 838 و 454.
4 - الإمامة والسياسة 1 / 19، باب إباءة علي (عليه السلام) بيعة أبي بكر.
5 - المحكم والمتشابه / 55، وبحار الأنوار 90 / 44 (= طبعة إيران 93 / 44)، كتاب القرآن، الباب
128 (باب ما ورد في أصناف آيات القرآن).
323

يتيم. " (1)
9 - ما في صحيح مسلم عن أبي ذر، قال: قلت: يا رسول الله، ألا تستعملني؟ قال:
فضرب بيده على منكبي ثم قال: " يا أبا ذر، إنك ضعيف وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي
وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها. " (2)
هذا، والخبران على فرض صحتهما فقداسة أبي ذر وفضائله الجمة لا تنافي ضعفه
عن التدبير والإدارة.
10 - ما في الغرر والدرر عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " من حسنت سياسته وجبت
طاعته. " (3)
11 - وفيه أيضا: " من أحسن الكفاية استحق الولاية. " (4)
12 - وفيه أيضا: " يحتاج الإمام إلى قلب عقول، ولسان قؤول، وجنان على إقامة الحق
صؤول. " (5)
13 - ما في الكافي عن مفضل بن عمر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " يا مفضل،...
والعالم بزمانه لا يهجم عليه اللوابس. " (6)
14 - ما فيه أيضا عن طلحة بن زيد، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " العامل على
غير بصيرة كالسائر على غير الطريق; لا يزيده سرعة السير إلا بعدا. " (7)

1 - بحارالأنوار 22 / 406، كتاب تاريخ نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، باب كيفية إسلام أبي ذر و...، والبحار
72 / 342 (= طبعة إيران 75 / 342)، كتاب العشرة، باب أحوال الملوك والأمراء.
2 - صحيح مسلم 3 / 1457، كتاب الإمارة، الباب 4، (باب كراهة الإمارة بغير ضرورة)، الحديث
1825.
3 - الغرر والدرر 5 / 211، الحديث 8025.
4 - الغرر والدرر 5 / 349، الحديث 8692.
5 - الغرر والدرر 6 / 472، الحديث 11010.
6 - الكافي 1 / 26، كتاب العقل والجهل، الحديث 29.
7 - الكافي 1 / 43، كتاب فضل العلم، باب من عمل بغير علم، الحديث 1.
324

15 - ما فيه أيضا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " قال رسول الله: " من عمل على غير علم
كان ما يفسد أكثر مما يصلح. " " (1) بناء على كون المراد بالعلم العلم بكيفية عمله وبفنونه،
لا العلم بالكتاب والسنة.
16 - ما مر من نهج البلاغة في شرائط الوالي: " وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي
على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل، فتكون في أموالهم
نهمته، ولا الجاهل فيضلهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه... " (2)
وقد مر معنى الحديث مفصلا، وأن المراد بالنهمة بالفتح إفراط الشهوة في الطعام،
وبالجفاء سوء الخلق.
17 - ما في نهج البلاغة فيما كتبه لمالك: " فول من جنودك أنصحهم في نفسك لله و
لرسوله ولامامك، وأنقاهم جيبا، وأفضلهم حلما، ممن يبطئ عن الغضب ويستريح إلى
العذر ويرأف بالضعفاء وينبو على الأقوياء، وممن لا يثيره العنف ولا يقعد به الضعف. ثم
الصق بذوي (المروءات) الأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة، ثم أهل
النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة. " (3)
أقول: جيب القميص: طوقه. ويقال: " نقي الجيب "، أي طاهر الصدر والقلب. و
العنف: الشدة. وينبو; أي يشتد.
ورواه في تحف العقول هكذا: " وأفضلهم حلما، وأجمعهم علما وسياسة... " (4)
وفى الدعائم: " ول أمر جنودك أفضلهم في نفسك حلما، وأجمعهم للعلم وحسن
السياسة

1 - الكافي 1 / 44، كتاب فضل العلم، باب من عمل بغير علم، الحديث 3.
2 - نهج البلاغة، فيض / 407; عبده 2 / 19; لح / 189، الخطبة 131.
3 - نهج البلاغة، فيض / 1005; عبده 3 / 101; لح / 432، الكتاب 53.
4 - تحف العقول / 132.
325

وصالح الأخلاق... " (1)
18 - ما في نهج البلاغة أيضا: " ولا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل
ويعدك الفقر، ولا جبانا يضعفك عن الأمور، ولا حريصا يزين لك الشره بالجور. فان البخل
والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله. " (2)
19 - ما في نهج البلاغة أيضا: " ثم انظر في أمور عمالك، فاستعملهم اختبارا ولا تولهم
محاباة وأثرة، فإنهم جماع من شعب الجور والخيانة. وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من
أهل البيوتات الصالحة والقدم في الاسلام المتقدمة، فإنهم أكرم أخلاقا، وأصح أعراضا، و
أقل في المطامع إشرافا وأبلغ في عواقب الأمور نظرا. " (3)
20 - ما في نهج البلاغة في كتابه إلى أهل مصر لما ولى عليهم الأشتر: " أما بعد، فقد
بعثت إليكم عبدا من عباد الله لا ينام أيام الخوف، ولا ينكل عن الأعداء ساعات الروع. أشد
على الكفار من حريق النار. وهو مالك بن الحارث، أخو مذحج، فاسمعوا له وأطيعوا أمره
فيما طابق الحق، فانه سيف من سيوف الله، لا كليل الظبة، ولا نابي الضريبة. فإن أمركم أن
تنفروا فانفروا، وإن أمركم أن تقيموا فأقيموا، فإنه لا يقدم ولا يحجم ولا يؤخر ولا يقدم إلا عن
أمري، وقد آثرتكم به على نفسي، لنصيحته لكم وشدة شكيمته على عدوكم. " (4)
أقول: نكل عنه: نكص وجبن. والروع: الخوف. والظبة بالضم فالفتح مخففا: حد
السيف والسنان. والكليل: الذي لا يقطع. والضريبة: المضروب بالسيف ونحوه. ونبا
السيف: لم يؤثر. والشكيمة في اللجام: الحديدة المعترضة في فم الفرس، وشدتها
كناية عن قوة النفس.

1 - دعائم الإسلام 1 / 358.
2 - نهج البلاغة، فيض / 998; عبده 3 / 97; لح / 430، الكتاب 53.
3 - نهج البلاغة، فيض / 1011; عبده 3 / 105; لح / 435، الكتاب 53.
4 - نهج البلاغة، فيض / 951; عبده 3 / 70; لح / 411، الكتاب 38.
326

إلى غير ذلك من الروايات التي يستفاد منها اعتبار القوة بسعة معناها في الوالي
والأمير. هذا.
وفي منهاج البراعة:
" قد قيل لحكيم: ما بال انقراض دولة آل ساسان؟ قال: لأنهم استعملوا أصاغر العمال على
أعاظم الأعمال فلم يخرجوا من عهدتها، واستعملوا أعاظم العمال على أصاغر الأعمال فلم
يعتنوا عليها، فعاد وفاقهم إلى الشتات ونظامهم إلى البتات. " (1)
وإذا اعتبرت القوة في العمال فكيف بنفس الأئمة المفوض إليهم إدارة الأمة.

1 - منهاج البراعة 11 / 144.
327

الفصل التاسع
في اعتبار أن لا يكون الوالي من أهل البخل والطمع والمصانعة
الشرط السادس في الوالي: أن لا يكون من أهل البخل والطمع والحرص
والمصانعة وحب الجاه. فإن الوالي يصير مسلطا على نفوس المسلمين وأموالهم،
ويتوقع منه رعاية مصالح الأمة في القبض والبسط والأعمال والأخلاق. والصفات
المذكورة لا تناسب ذلك وإن فرض عدم بلوغها حدا يضر بالعدالة.
فالبخيل بحسب الطبع مثلا ربما يمسك عن صرف المال في مصلحة اجتماعية
مهمة، فيضر بالأمة قهرا، وان فرض عدم تعمده لذلك.
وبالجملة الحب الشديد للمال والجاه وشؤون الدنيا يعمي ويصم قهرا، فلا يناسب
القيادة العادلة الحكيمة، سواء رجع ذلك إلى سلب العدالة أم لا.
ويستفاد جميع ذلك من خلال الروايات المختلفة المروية من طرق الفريقين:
1 - فمنها ما مر من نهج البلاغة من قوله - عليه السلام -: " وقد علمتم أنه لا ينبغي أن
يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل، فتكون في
أموالهم نهمته...، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق. " (1)

1 - نهج البلاغة، فيض / 407; عبده 2 / 19; لح / 189، الخطبة 131.
329

2 - وما مر منه أيضا في كتابه لمالك: " ولا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن
الفضل ويعدك الفقر، ولا جبانا يضعفك عن الأمور، ولا حريصا يزين لك الشره بالجور. فإن
البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله. " (1)
إذ لو اعتبر عدم البخل والحرص في من يشاوره الوالي فاعتبارهما في نفس الوالي
يكون بطريق أولى، بل المشاور للوالي يكون من الولاة غالبا وينتخب واليا بعنوان
المشاور، كما هو المتعارف في عصرنا.
3 - ما فيه أيضا: " لا يقيم أمر الله - سبحانه - إلا من لا يصانع، ولا يضارع، ولا يتبع
المطامع. " (2)
أقول: الظاهر أن المراد بالأمر الولاية، وقد شاع استعماله فيها. منها قوله (عليه السلام):
" فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة... " (3)
وفي شرح ابن أبي الحديد: " المصانعة: بذل الرشوة. " (4)
ولكن الظاهر كونها بمعنى المداراة والمداهنة مطلقا. نعم، من مصاديقها المداهنة
بأخذ الرشوة. فالمراد أن الوالي لا يكون مقيما لأمر الله إلا أن يكون منفذا للقوانين
والمقررات ولا يداهن أحدا بأخذ الرشوة، أو بسبب الصداقة، أو لكونه من الأقوياء أو
نحو ذلك فيعطل أحكام الله لذلك.
والمضارعة: المشابهة. فلعل المراد أن الحاكم الحق يجب عليه أن يكون مستقلا
في الفكر والعمل، ولا يقع أسيرا تحت تأثير العوامل الخارجية أو الداخلية، فيترك
محاسن الأخلاق والأعمال وما يقتضيه العقل السليم بسبب الأجواء والتقاليد الباطلة.
ولعل في كلامه (عليه السلام) نحو طعن على معاوية وأمثاله. فقد روي ان عمر بن الخطاب
اعترض عليه في سفره إلى الشام لما شاهد من زيه، فاعتذر بأنا في بلد

1 - نهج البلاغة، فيض / 998; عبده 3 / 97; لح / 430، الكتاب 53.
2 - نهج البلاغة، فيض / 1137; عبده 3 / 176; لح / 488، الحكمة 110.
3 - نهج البلاغة، فيض / 51; عبده 1 / 31; لح / 49، الخطبة 3.
4 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 18 / 274.
330

أمراؤه كذلك.
وقد أفرط بعده الأمويون والعباسيون في الترف والفساد، حتى صارت الخلافة
الإسلامية على طريقة الملوك الجبابرة. وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام): " إن الله فرض على
أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس، كيلا يتبيغ بالفقير فقره. " (1)
وكان - عليه السلام - يكتفي من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه. وشاهد هو في
مسيره إلى الشام دهاقين الأنبار قد ترجلوا له واشتدوا بين يديه، فقال: " ما هذا الذي
صنعتموه؟ " فقالوا: خلق منا نعظم به أمراءنا، فقال: " والله ما ينتفع بهذا أمراؤكم وإنكم
لتشقون على أنفسكم في دنياكم وتشقون به في آخرتكم. وما أخسر المشقة وراءها العقاب،
وأربح الدعة معها الأمان من النار. " (2)
والعجب منا بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران، ورفع النداء بشعار: " لا شرقية
ولا غربية "، لماذا ما زلنا نحتفظ بعد بكثير من أزياء الغرب والشرق وعاداتهم
الباطلة؟! اللهم فوفقنا للأخذ بسنة النبي وآله (عليهم السلام) والسير بسيرتهم المرضية.
4 - ما في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري - عليه السلام -: " فأما من كان من
الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا لدينه، مخالفا على هواه، مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه.
وذلك لا يكون إلا بعض فقهاء الشيعة، لا جميعهم. " (3)
فإذا كان صاحب الهوى والحرص على الدنيا وشؤونها لا يجوز تقليده في
الأحكام فعدم جواز تسليطه على نفوس الناس وأموالهم يثبت بالأولوية القطعية، كما
لا يخفى.
5 - ما في صحيح مسلم عن أبي موسى، قال: دخلت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنا ورجلان
من بني عمي، فقال أحد الرجلين: يا رسول الله، أمرنا على بعض ما ولاك

1 - نهج البلاغة، فيض / 663; عبده 2 / 213; لح / 325، الخطبة 209.
2 - نهج البلاغة، فيض / 1104; عبده 3 / 160; لح / 475، الحكمة 37.
3 - التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (عليه السلام) / 102 (المطبوع بهامش تفسير علي بن إبراهيم)،
ذيل الآية 78 من سورة البقرة. (الاحتجاج / 255).
331

الله - عز وجل -، وقال الآخر مثل ذلك. فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " إنا والله لا نولي على هذا العمل
أحدا سأله، ولا أحدا حرص عليه. " (1)
وروى نحوه البخاري أيضا في كتاب الأحكام من صحيحه. (2)
6 - وفي سنن أبي داود، قال أبو موسى قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " لن نستعمل - أو لا نستعمل -
على عملنا من أراده. " (3)
7 - وفي العقد الفريد: " طلب رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يستعمله، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " إنا
لا نستعمل على عملنا من يريده. " (4)
8 - وروى ابن قتيبة في الإمامة والسياسة قال: قال ابن عباس لعلي (عليه السلام): أرى أنهما
(طلحة والزبير) أحبا الولاية، فول البصرة الزبير وول طلحة الكوفة...، فضحك
على (عليه السلام) ثم قال: " ويحك، إن العراقين بهما الرجال والأموال، ومتى تملكا رقاب الناس
يستميلا السفيه بالطمع، ويضربا الضعيف بالبلاء، ويقويا على القوي بالسلطان. ولو كنت
مستعملا أحدا لضره ونفعه لاستعملت معاوية على الشام. ولولا ما ظهر لي من حرصهما على
الولاية لكان لي فيهما رأي. " (5) هذا.
ودفاع أمير المؤمنين (عليه السلام) عن حقه ومطالبته له في الفرص المختلفة لم يكن عن
حرص منه، بل لبيان الحق ولحرصه على ما فيه صلاح حال المسلمين. وإلا فهو
القائل أيضا: " والله ما كانت لي في الخلافة رغبة، ولا في الولاية إربة. " (6)
كما أن اقتراح يوسف النبي (عليه السلام) بقوله: " اجعلني على خزائن الأرض، إني حفيظ عليم " (7)
أيضا لم يكن إلا للحرص على ما فيه صلاح أهل مصر في ذلك العصر. ومن

1 - صحيح مسلم 3 / 1456، كتاب الإمارة، الباب 3 (باب النهي عن طلب الإمارة).
2 - صحيح البخاري 4 / 235، كتاب الأحكام، باب ما يكره من الحرص على الإمارة.
3 - سنن أبي داود 2 / 269، كتاب الأقضية، الباب 3 (باب في طلب القضاء والتسرع إليه).
4 - العقد الفريد 1 / 21.
5 - الإمامة والسياسة 1 / 51، باب اختلاف الزبير وطلحة على علي (عليه السلام).
6 - نهج البلاغة، فيض / 656; عبده 2 / 210; لح / 322، الخطبة 205.
7 - سورة يوسف (12)، الآية 55.
332

رأى نفسه أهلا للولاية، وأراد بها صلاح الدين والمجتمع فلا يصدق على ترشيح
نفسه لها عنوان الحرص والطمع، بل قد يجب ذلك إذا انحصر الصالح فيه. وإنما
الحرص المذموم هو أن يكون الشخص طالبا للرياسة، مولعا بها. والفرق بين الأمرين
واضح.
9 - وفي صحيح مسلم بسنده عن أبي حميد الساعدي، قال: استعمل
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رجلا من الأسد يقال له: ابن اللتبية على الصدقة، فلما قدم قال: هذا
لكم وهذا لي أهدي لي. قال: فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على المنبر فحمد الله وأثنى عليه و
قال: " ما بال عامل أبعثه فيقول، هذا لكم وهذا أهدي لي! أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمه
حتى ينظر أيهدى إليه أم لا. والذي نفس محمد بيده لا ينال أحد منكم منها شيئا إلا جاء به يوم
القيامة يحمله على عنقه: بعير له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر. ثم رفع يديه حتى رأينا
عفرتي إبطيه، ثم قال: " اللهم هل بلغت؟ - مرتين. " (1) وقد روي هذا المضمون بطرق
مختلفة، فراجع.
أقول: تيعر، أي تصيح، واليعار: صوت الشاة. والعفرة بضم العين وفتحها: بياض
غير خالص كلون الأرض.
ويستفاد من هذا الحديث الاعتراض والاشكال على المسؤولين الذين ربما
يستفيدون من موقعيتهم السياسية أموالا باسم الهدية والصلة، ولا يتحاشون عن ذلك.
ويعجبني هنا نقل كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة، حيث قال بعد نقل قصة
عقيل والحديدة المحماة: " وأعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة في وعائها، ومعجونة
شنئتها كأنما عجنت بريق حية أو قيئها، فقلت: أصلة، أم زكاة، أم صدقة؟ فذلك محرم علينا
أهل البيت. فقال: لاذا ولا ذاك، ولكنها هدية. فقلت: هبلتك الهبول، أعن دين الله أتيتني
لتخدعني؟
أمختبط أم ذو جنة أم تهجر؟ والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن
أعصي الله في

1 - صحيح مسلم 3 / 1463، كتاب الإمارة، الباب 7 (باب تحريم هدايا العمال)، الحديث 1832.
333

نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت، وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة
تقضمها. ما لعلي ولنعيم يفنى ولذة لا تبقى؟ " (1)
فعلى مثل هذا ينبغي أن يكون شيعته الموظفون في مؤسسات الحكومة الإسلامية.
وقد تحصل من هذا الفصل أن الوالي يجب أن لا يكون بخيلا طماعا حريصا على
المال والملك، فتدبر.

1 - نهج البلاغة، فيض / 713; عبده 2 / 244; لح / 347، الخطبة 224.
334

الفصل العاشر
في اعتبار الذكورة
الشرط السابع في الوالي: الذكورة.
ولا يخفى أن المسألة غير معنونة في كتب الفقهاء منا. نعم، ذكروا في باب القضاء
اعتبار الذكورة في القاضي، وادعوا فيه الاتفاق وعدم الخلاف، بل الإجماع.
والظاهر أن القضاء شعبة من شعب الولاية، بل من أهم شعبها، بل هو أولا وبالذات
من شؤون الإمام، كما صرح به في خبر سليمان بن خالد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
" اتقوا الحكومة، فإن الحكومة إنما هي للإمام العالم بالقضاء، العادل في المسلمين: لنبي
(كنبي) أو وصى نبي. " (1) وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) قد يتصدى بنفسه للقضاء، ولما ولى
شريحا القضاء اشترط عليه أن لا ينفذ القضاء حتى يعرضه عليه. (2)
وعلى هذا فاشتراط الذكورة في القاضي لعله يقتضي اشتراطها في الولاية،
ولاسيما في الإمامة الكبرى أيضا. وأدلة المسألتين أيضا كما يأتي مشتركة.

1 - الوسائل 18 / 7، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.
2 - الوسائل 18 / 6، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.
335

وأما علماء السنة فالظاهر اتفاقهم على اشتراطها في الولاية. نعم، اختلفوا في
القضاء: فالشافعية والمالكية والحنابلة قالوا بالاشتراط، والحنفية قائلون بالتفصيل،
حيث جعلوا القضاء مثل الشهادة، فما يقبل فيه شهادة النساء يقبل فيه قضاؤهن أيضا.
ومحمد بن جرير الطبري ينفي الاشتراط مطلقا.
قال في الخلاف (كتاب القضاء، المسألة 6):
" لا يجوز أن تكون المرأة قاضية في شيء من الأحكام، وبه قال الشافعي. وقال
أبو حنيفة: يجوز أن تكون قاضية فيما يجوز أن تكون شاهدة فيه، وهو جميع
الأحكام إلا الحدود والقصاص. وقال ابن جرير: يجوز أن تكون قاضية في كل
ما يجوز أن يكون الرجل قاضيا فيه، لأنها تعد من أهل الاجتهاد. دليلنا أن جواز ذلك
يحتاج إلى دليل، لأن القضاء حكم شرعي فمن قال: تصلح له يحتاج إلى دليل شرعي،
وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " لا يفلح قوم وليتهم امرأة " وقال - عليه السلام -:
" أخروهن من حيث أخرهن الله. " فمن أجاز لها أن تولي القضاء فقد قدمها وأخر الرجل
منها. وقال: " من فاته شئ في صلاته فليسبح، فإن التسبيح للرجال والتصفيق للنساء. "
فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منعها من النطق لئلا يسمع كلامها مخافة الافتتان بها، فبأن تمنع القضاء
الذي يشتمل على الكلام وغيره أولى. " (1)
أقول: في مسند أحمد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إذا نابكم في الصلاة شئ فليسبح
الرجال، وليصفق النساء. " (2)
فالظاهر كون " فاته " في الخلاف مصحف: " نابه ".
وظاهر كلام الشيخ أن نفوذ القضاء خلاف الأصل، كالولاية. ففي مورد الشك
يتمسك بالأصل.

1 - الخلاف 3 / 311.
2 - مسند أحمد 5 / 333.
336

وفي قضاء الشرائع:
" ويشترط فيه البلوغ، وكمال العقل، والإيمان، والعدالة، وطهارة المولد، والعلم،
والذكورة... ولا ينعقد القضاء للمرأة وان استكملت الشرائط. " (1)
وفي الجواهر:
" بلا خلاف أجده في شئ منها، بل في المسالك: هذه الشرائط عندنا موضع
وفاق، " إلى أن قال: " وأما الذكورة فلما سمعت من الإجماع. " (2)
وفي المغني لابن قدامة الحنبلي بعدما اختار في القضاء اعتبار الذكورة قال:
" ولنا قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة "، ولأن القاضي يحضره محافل
الخصوم والرجال ويحتاج فيه إلى كمال الرأي وتمام العقل والفطنة، والمرأة ناقصة
العقل، قليلة الرأي، ليست أهلا للحضور في محافل الرجال. ولا تقبل شهادتها ولو كان
معها ألف امرأة مثلها ما لم يكن معهن رجل. وقد نبه الله على ضلالهن ونسيانهن بقوله -
تعالى -: " أن تضل إحديهما فتذكر إحديهما الأخرى. " (3)
ولا تصلح للإمامة العظمى، ولا لتولية البلدان. ولهذا لم يول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا أحد من
خلفائه ولا من بعدهم امرأة قضاء ولا ولاية بلد فيما بلغنا. ولو جاز ذلك لم يخل منه
جميع الزمان غالبا. " (4)
أقول: ما ذكره من عدم قبول شهادة النساء إذا لم يكن معهن رجل بنحو الإطلاق
ممنوع، إذ يقبل شهادتهن منفردات أيضا في الأمور المرتبطة بالنساء، كالعذرة
والولادة ونحوهما.
والضلال في الآية إما بمعنى النسيان كما قيل، أو بمعنى الضياع. فيكون المراد أن
تضيع إحدى الشهادتين بالنسيان فتذكر إحدى المرأتين الأخرى.

1 - الشرائع 4 / 67 - 68.
2 - الجواهر 40 / 12 - 14.
3 - سورة البقرة (2)، الآية 282.
4 - المغني 11 / 380.
337

وكيف كان فيظهر من الآية نقصان المرأة بالنسبة إلى الرجل في التحمل والحفظ.
وقوله أخيرا: " ولو جاز ذلك لم يخل منه جميع الزمان "، شاهد صدق على المقام.
فإن الأمويين والعباسيين ولوا أمر هذه الأمة أكثر من ستة قرون وكانوا مولعين
مغرمين بالنساء والإماء كثيرا، ونفوذ نسائهم وبناتهم وأخواتهم مشهور، وكان يوجد
فيهن أهل الفضل والعلم أيضا، وقد ولوا الأعمال كثيرا ممن لا يليق، حتى من عبيدهم
أيضا ومع ذلك لم يسمع نصبهم أحدا من النساء للولاية أو القضاء. فيعلم بذلك
استيحاش الناس من ذلك، وكونه مستنكرا عندهم بحيث لم يمكن الخلفاء مخالفتهم.
هذا.
وفي الفقه على المذاهب الأربعة ما حاصله:
" إنهم اتفقوا على أن الإمام يشترط فيه أن يكون مسلما، مكلفا، حرا، ذكرا، قرشيا،
عدلا، عالما، مجتهدا، شجاعا، ذا رأي صائب، سليم السمع والبصر والنطق. " (1)
وفي كتاب الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور الزحيلي:
" أجمع الفقهاء على كون الإمام ذكرا. " (2)
وقال في القضاء:
" وأما الذكورة فهي شرط أيضا عند المالكية والشافعية والحنابلة، فلا تولى امرأة
القضاء... وقال الحنيفة: يجوز قضاء المرأة في الأموال، أي المنازعات المدنية. لأنه
تجوز شهادتها فيها... وأجاز ابن جرير الطبري قضاء المرأة في كل شئ، لجواز
إفتائها. " (3)
أقول: ليس الغرض استقصاء الكلمات في المقام، بل الغرض هو إلفات نظر

1 - الفقه على المذاهب الأربعة 5 / 416، مبحث شروط الإمامة.
2 - الفقه الإسلامي وأدلته 6 / 693.
3 - الفقه الإسلامي وأدلته 6 / 745.
338

القارئ إجمالا إلى نظر الفريقين في المسألة، فذكرنا نماذج من كلمات الفريقين.
فإن شئت الاطلاع الوافي على الكلمات، فراجع مظانها.
بحث حول الاجماع
لا يخفى أن مسألة الإمامة لم تكن معنونة في فقه الشيعة الإمامية. ولعله لكونها
مقصورة على الأئمة الاثني عشر عند فقهائنا.
وأما القضاء فصاحب الجواهر وغيره وإن ادعوا الاتفاق وعدم الخلاف بل
الإجماع على اعتبار الذكورة فيه وذكروه من أدلة المسألة.
ولكن ليعلم اني لم أجد المسألة في مثل المقنعة والمقنع والهداية والنهاية وفقه
الرضا، من الكتب المعدة لنقل المسائل المأثورة، وإنما تعرض لها الشيخ في خلافه و
في مبسوطه الذي وضعه لجمع الفروع الاجتهادية المستنبطة، ثم تعرض له بعده
المتأخرون في كتبهم. فثبوت الإجماع فيها بنحو يكشف عن تلقي المسألة من
المعصومين (عليهم السلام) يدا بيد مشكل، حتى ان الشيخ في الخلاف أيضا كما رأيت لم يستدل
لها بالإجماع بل بالأصل وبالروايات في قبال الحنفية وابن جرير.
وكان السيد الأستاد المرحوم آية الله العظمى البروجردي - طاب ثراه - يقول مرة
بعد مرة:
" إن المسائل المعنونة في فقه الشيعة الإمامية على قسمين:
1 - المسائل الأصلية المتلقاة يدا بيد عن الأئمة المعصومين - سلام الله عليهم -.
2 - المسائل التفريعية التي استنبطها الفقهاء من تلك المسائل بالاجتهاد.
والقدماء من فقهائنا كانوا لا يتعرضون في تأليفاتهم الفقهية إلا للقسم الأول من
المسائل، وكانوا يحافظون فيها غالبا على ألفاظ الروايات أيضا، بحيث كان الناظر
في كتبهم يتخيل أنهم لم يكونوا أهلا للاجتهاد وأن الأواخر منهم كانوا يقلدون
الأوائل، فراجع كتب الصدوق كالفقيه والمقنع والهداية، ومقنعة المفيد، ورسائل
339

علم الهدى، ونهاية الشيخ، ومراسم سلار، والكافي لأبي الصلاح، والمهذب لابن
البراج ونحو ذلك.
وذكر الشيخ في أول المبسوط ما حاصله: " أن استمرار هذه الطريقة بين أصحابنا
صار سببا لطعن المخالفين، فكانوا يستحقرون فقه أصحابنا الإمامية، مع أن جل
ما ذكروه من المسائل موجود في أخبارنا، وما كثروا به كتبهم به من مسائل الفروع
أيضا له مدخل في أصولنا ومخرج على مذهبنا لا على وجه القياس. وكنت على
قديم الوقت وحديثه متشوق النفس إلى عمل كتاب يشتمل على هذه الفروع،
فيقطعني عن ذلك القواطع. وكنت عملت على قديم الوقت كتاب النهاية، وذكرت فيها
جميع ما رواه أصحابنا في مصنفاتهم وأصلوها من المسائل، وعملت بآخره مختصر
جمل العقود، ووعدت فيه أن أعمل كتابا في الفروع خاصة، ثم رأيت أن ذلك يكون
مبتورا يصعب فهمه على الناظر فيه، لأن الفرع إنما يفهمه إذا ضبط الأصل معه، فعدلت
إلى عمل كتاب يشتمل على عدد جميع كتب الفقه، وأعقد فيه الأبواب وأقسم فيه
المسائل وأجمع بين النظائر وأستوفيه غاية الاستيفاء وأذكر أكثر الفروع التي ذكرها
المخالفون. " (1)
فالشيخ - قدس سره - صنف النهاية على طريقة أصحابنا لنقل المسائل الأصلية
فقط، وصنف المبسوط جامعا للأصول والفروع.
وعلى هذا فإذا ذكرت المسألة في تلك الكتب المعدة لنقل المسائل الأصيلة
المأثورة فاحدس بتلقيها عن المعصومين (عليهم السلام) ويكون إطباقهم في تلك المسائل، بل
الاشتهار فيها أيضا حجة شرعية لاستكشاف قول المعصوم.
وأما المسائل التفريعية المستنبطة فلا يفيد الإجماع فيها، إذ الاجماع فيها نظير
الإجماع في المسائل العقلية. ونحن الإمامية لا موضوعية عندنا للإجماع والاتفاق
بما هو إجماع، وإنما نعتبره طريقا لكشف قول المعصوم - عليه السلام -. "
انتهى كلام الأستاذ - طاب ثراه -.

1 - راجع مقدمة المبسوط 1 / 1 - 3.
340

وقد ظهر لك أن مسألتنا هذه لم تكن من المسائل المتلقاة، ولذا لم تذكر في تلك
الكتب، فلا يفيد فيها الإجماع وإن اعتمد عليه صاحب الجواهر وغيره. فاللازم
الرجوع إلى الآيات والأخبار المستدل بها في المقام.
التنبيه على أمرين
وينبغي التنبيه قبل ذلك على أمرين يمكن أن ينتفع بهما في المقام:
أما الأمر الأول فيتوقف بيانه على مقدمات:
تفاوت الرجل والمرأة:
الأولى: لا إشكال في تفاوت الرجل والمرأة في جهات وخصائص طبيعية ذاتية
بحسب الجسم والروح، لا بمعنى أن يكون أحدهما أنقص من الآخر، بل بمعنى أن
نظام الخلقة الرباني أوجد التفاوت لتحكيم نظام العائلة، حيث إن نظام الأسرة يحتاج
إلى التدبير والى العواطف معا. فالتفاوت بينهما نظير تفاوت أعضاء الإنسان، كالعين و
الأذن واليد والرجل ونحوها، المفوض إلى كل منها وظيفة خاصة مناسبة لبنائه. و
لا ريب أن بعضا منها كالعين مثلا أظرف وألطف من الآخر، وليس هذا نقصا فيه. و
لا يكون الإنسان موجودا كاملا إلا بجمع هذه الأعضاء وخواصها وأفعالها المختلفة.
والحاصل ان التفاوت بينهما يرجع إلى التناسب في نظام العائلة، لا إلى نقص و
كمال. وقد خلقا كذلك ليحصل التماس والتعاون، وليجذب أحدهما الآخر ويلتذ من
الكون معه والإيثار بالنسبة إليه. ولو كانا متماثلين في الجسم والغرائز لاستقل كل
منهما وانفرد ولم ينتظم نظام الأسرة.
341

وبالجملة التفاوت بين الرجل والمرأة واضح:
فالرجل مظهر العقل والتدبير، والمرأة مظهر الرأفة والعاطفة، والنظام يحتاج إلى
كليهما.
المرأة ظريفة غالبا في الجسم والروح والصوت ونحو ذلك، والرجل خشن فيها.
المرأة كالريحانة الطريفة، والرجل كالشجرة البرية.
المرأة تميل غالبا إلى السكون والسكوت والدعة، والرجل إلى الأعمال الشاقة
والتحرك والجهاد.
الرجل يغلب عليه القوة والشدة، وعلى المرأة الرقة والانفعال.
التهور في الرجل أكثر، والجبن في المرأة.
المرأة تبلغ قبل الرجل وتيأس قبله.
المرأة تميل إلى الزينة والتجمل والتلون والتجدد، بخلاف الرجل.
المرأة تريد من الرجل الشجاعة والحماسة، والرجل يريد منها الحسن والجمال.
المرأة إلى الفن والأدب أميل، والرجل إلى العلم والتفكر.
غليان الإحساس في المرأة أكثر، وفي الرجل الكتمان.
التفات المرأة إلى تربية الأولاد والنظافة وإدارة أمور البيت أكثر من الرجل.
هم الرجل تسخير العالم، وهم المرأة تسخير الرجل.
الرجل يرى سعادته في المقام والشهرة وجمع المال، والمرأة في تسخير قلب
الرجل وصيده.
ويختلفان في كثير من الأخلاق. وربما يكون خلق واحد في أحدهما فضيلة، و
في الآخر رذيلة.
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): " خيار خصال النساء شرار خصال الرجال: الزهو، والجبن، و
البخل. فإذا كانت المرأة ذات زهو لم تمكن من نفسها، وإذا كانت بخيلة حفظت مالها ومال
342

بعلها، وإذا كانت جبانة فرقت من كل شئ يعرض لها. " (1)
هذا، مضافا إلى ما ذكروا لهما من الاختلاف في المتوسط من الطول والوزن و
حجم البدن والرأس والدماغ والجمجمة والقلب والدم، والشدة والقوة في العظم و
العضلات والأعصاب وسائر الأعضاء والحواس الخمسة، وليس المقام مقام
التعرض لها، فراجع محله.
وحكى الأخ الشهيد، آية الله المطهري - طاب ثراه - في كتابه: " نظام حقوق المرأة
في الإسلام " عن المرأة المتخصصة في علم معرفة النفس المسماة " كليود السن "
ما حاصله:
" المرأة بحسب الفطرة تحب أن تكون تحت رياسة الغير ونظارته، وأن يحس
الغير أنه يحتاج إليها. وتنشأ هاتان الخصلتان من كون النساء تابعة للإحساس، و
الرجال تابعين للتعقل وربما كثر إدراك المرأة ولكن إحساسها يغلب على عقلها. فكر
الرجل وأطروحته إلى الواقعية أقرب، وهو في القضاء والهداية أدق. والنساء
لكونهن أشد إحساسا ووحشة يفرض عليهن الإذعان باحتياجهن إلى الرجال. "
هذا وقد اقتبسنا ما ذكرناه من وجوه التفاوت بين الرجل والمرأة من الكتاب
المذكور، وإن شئت التفصيل فراجع مظانه.
مفهوم العدل
المقدمة الثانية: ليس معنى العدل تساوي جميع أفراد النوع في الإمكانات و
الوظائف، بل العدل أن يبذل كل فرد ما يقتضيه طبعه وحاجته، وان يراد منه ما يطيقه و
يقدر عليه. فالريحانة الظريفة تتفاوت مع الشجرة البرية في الطاقة وسنخ الحاجة. و
الإنسانة الظريفة المليئة بالعواطف تتفاوت مع الإنسان الخشن في الطاقة وفيما يمكن
أن يتحمل من المسؤولية. ومن أفحش الظلم أن يحمل على فرد ما لا يقدر

1 - سفينة البحار 2 / 586، ذيل كلمة نسأ. عن البحار 100 / 238 (= طبعة إيران 103 / 238).
343

حمله. وبالجملة الأفراد في الحاجات وفي الطاقات مختلفون والعدل يقتضي
رعاية التناسب مع طباعهم وطاقتهم.
الولاية مسؤولية وأمانة
المقدمة الثالثة: الولاية بشعبها ومنها القضاء وإن كانت مقاما ومنصبا يتنافس
فيه، ولكنها بنظر الإسلام وأوليائه أمانة الهية تستعقب مسؤولية خطيرة. وكلما اتسع
نطاقها صارت المسؤولية فيها أكثر. وقد كتب أمير المؤمنين - عليه السلام - إلى أشعث
بن قيس، عامله على آذربيجان: " إن عملك ليس لك بطعمة، ولكنه في عنقك أمانة. " (1)
والعدل يقتضي أن لا يحمل عبأ المسؤولية إلا على من يقدر على تحملها وأدائها،
وإلا كان ظلما له ولمن يقع تحت حيطته. وهذا أيضا واضح.
وفي الحديث: " من استعمل رجلا من عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله
ورسوله والمؤمنين. " (2)
الولاية تنافى طباع المرأة وظرافتها:
وإذا عرفت هذه المقدمات الثلاث فنقول: الولاية بشعبها ومنها القضاء من
الوظائف الخطيرة المرتبطة بمصالح الأمة ومقدراتهم. فالقصور فيها فضلا عن
التقصير يستعقب أضرارا كثيرة. وهي وإن احتاجت إلى العواطف أيضا ولكن
احتياجها إلى العقل والتدبير والنظر في عواقب الأمور أشد من ذلك بمراتب، كما
لا يخفي على أهله. مضافا إلى استلزامها لتحمل مشاق كثيرة أيضا تنافي ظرافة المرأة
واحتياجها

1 - نهج البلاغة، فيض / 839; عبده 3 / 7; لح / 366، الكتاب 5.
2 - كنز العمال 6 / 25، الباب 1 من كتاب الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14687.
344

إلى السكون والدعة.
ففي أصول الكافي بسند صحيح، عن معلى بن خنيس، قال: " قلت لأبي
عبد الله (عليه السلام) يوما: جعلت فداك ذكرت آل فلان وما هم فيه من النعيم، فقلت: لو كان
هذا إليكم لعشنا معكم. فقال: " هيهات يا معلى، أما والله لو كان ذاك ما كان إلا سياسة الليل
وسياحة النهار ولبس الخشن وأكل الجشب، فزوي ذلك عنا. فهل رأيت ظلامة قط صيرها
الله - تعالى - نعمة إلا هذه؟ " (1)
وإذا كانت الولاية تستعقب مسؤولية خطيرة فحملها على من لا يطيقها ظلم في
حقه وفي حقوق من يقع تحت ولايته. والمرأة كما عرفت مظهر الرحمة والعواطف،
وطبعها غالبا يناسب السكون والدعة. والرجل مظهر التدبير والنظر في عواقب
الأمور، وهو يميل إلى التحرك والجهاد. فالمناسب تفويض هذه المسؤولية الخطيرة
المرتبطة بشؤون الإسلام والمسلمين إلى من يكون قدرته على التحمل أكثر.
ولا يراد بذلك، الحط من كرامة المرأة واحتقارها، وإنما يراد رعاية التناسب
الطبيعي في تفويض المسؤولية. والتشريع الصحيح هو التشريع المبتني على التكوين.
ويشهد لما ذكرناه من عدم مناسبة طباع المرأة غالبا للولاية أنك ترى في أكثر
البلدان في العالم أن رؤساء الجمهوريات والدول ينتخبون غالبا من الرجال دون
النساء، مع أنه ليس في محيطهم منع قانوني لانتخاب المرأة.
وقد اشتبه الأمر على الذين قاموا باسم الدفاع عن المرأة، حيث استدلوا بأن نصف
المجتمع الإنساني يكون معطلا ان لم تشتغل المرأة في الدوائر والمؤسسات.
أفلا يرون أن المجتمع لا يتشكل إلا من البيوت والأسر، ولا يصلح إلا بصلاح
الأسر؟ وإنما تصلح الأسرة بالمرأة الحنونة العطوفة على زوجها وولدها. أيكون
حفظ الأسرة والعائلة، والتقوية الروحية للزوج، وتربية الأولاد من البنين والبنات
أعمالا صغيرة محقرة؟!
لا، بل عمل المرأة بإمومتها وعطوفتها من أحمز الأعمال وأفضلها. وهو الحجر

1 - الكافي 1 / 410، كتاب الحجة، باب سيرة الإمام في نفسه و...، الحديث 2.
345

الأساس لصلاح مستقبل المجتمع. ولا يقدر عليه الرجل بما جبل عليه من خشونة
الطبع والغلظة.
وفي الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " الجنة تحت أقدام الأمهات. " (1)
وعن الإمام الباقر (عليه السلام): " إن للأم ثلثي البر، وللأب الثلث. " (2)
والتقوية الروحية للبعل ليتمكن من الجهاد والقيام بسائر النشاطات أيضا عمل
شريف يساوي الجهاد في الفضل. وفي نهج البلاغة: " جهاد المرأة حسن التبعل. " (3)
ولا يخفى أن تربية الأولاد وحسن التبعل كليهما من ثمرات العواطف الذاتية التي
جعلت في طباع النساء. وإذا تأملت ودققت النظر ظهر لك أن الأعمال الشاقة وإن
كانت في عهدة الرجال ولكن أخلاق النساء هي المؤثرة في كمية نشاط الرجل و
حسن عمله. فهي الشريكة حقيقة في داخل البيت وخارجه، فتدبر.
واعلم: أنه بما ذكرناه من التفاوت الطبيعي بين الرجل والمرأة يظهر حكمة جعل
الطلاق بيد الرجل، وحكمة التفاوت في الميراث والديات أيضا. اذ قد مر أن
العواطف والأحاسيس على المرأة غالبة، وضرر الطلاق عظيم جدا. فلو جعل أمره
بيد المرأة أمكن وقوعه كثيرا من جانبها كلما غلب عليها الإحساس أو ثارت فيها
العواطف لجهة من الجهات.
وأما الرجل فحيث تغلب عليه روح التدبير والنظر في عواقب الأمور فهو يجتنب
عنه غالبا إذا فكر في عواقبه من انهدام أسرته وتضرر نفسه وأولاده.
وأما الميراث فانا إذا نظرنا إلى مجموع الرجال والنساء جيلا بعد جيل وانتقال
الثروات من نسل إلى نسل لرأينا ان المال يحتاج في الحفظ والتكثير إلى العقل و
التدبير. فجعل الله - تعالى - في مرحلة الحفظ والتكثير اختيار ثلثي المال بيد الرجال

1 - مستدرك الوسائل 2 / 628، الباب 70 من أبواب أحكام الأولاد، الحديث 4.
2 - الوسائل 15 / 209، الباب 94 من أبواب أحكام الأولاد، الحديث 4.
3 - نهج البلاغة، فيض / 1152; عبده 3 / 184; لح / 494، الحكمة 136.
346

والثلث إلى النساء، حفظا لكرامتهن.
وأما في مرحلة صرف المال في المعاش فهما يتساويان غالبا في المصرف، بل
لعل المصرف للنساء أكثر. إذ الأولاد متعلقون بكليهما بالتساوي، والمرأة تحتاج
غالبا إلى وسائل التزين والتجمل أيضا، وقد جعل الله النفقات بأجمعها على عهدة
الرجال. فالمرأة تختص بثلث نفسها ويصرف لها نصف ما للرجل أيضا. ففي مرحلة
التمليك المحتاج فيها إلى الحفظ والتكثير جعل الثلثان للرجل، وأما في مرحلة
الصرف فيصرف الثلثان للمرأة. فلو كان هذا ظلما لكان ظلما على الرجال، لا النساء.
وأما في القصاص والديات فلعله لأن الرجل بعقله وتدبيره أكثر فائدة في الحياة.
إذ هو القائم بالبناء والعمران والاختراعات غالبا، وعلى عاتقهم تقع مسؤولية
الأعمال الثقيلة وكذا الفكرية الدقيقة. والعقل ملاك التقويم الأتم، وإن كان للعواطف
أيضا قيمتها المناسبة ولها أجرها العظيم أيضا كما مر، فتدبر. ولا يخفى ابتناء جميع
هذه الأحكام على الأعم الأغلب.
المرأة والتستر
الأمر الثاني من الأمرين: ان المتتبع للآيات والروايات المروية. بطرق الفريقين
يظهر له أن المرأة لظرافتها ومطلوبيتها، واحتمال الافتتان بها ووقوعها في الفتنة
يطلب منها شرعا، ولا سيما من الشابة، الاحتجاب والاستتار، وعدم الخروج من
البيت مهما أمكن، وعدم المخالطة والمحادثة مع الرجال الأجانب إلا مع اقتضاء
الضرورة أو المصلحة خروجها وورودها في أندية الرجال مع التحفظ، كما في موارد
إثبات الحق، والمعالجات، والتعلم والتعليم والتربية ونحوها.
والأخبار في هذا الباب كثيرة على الإحصاء. فعليك بمراجعة أبواب مقدمات
النكاح من الوسائل وغيرها. وفي كتاب أمير المؤمنين لابنه الحسن - عليهما السلام -:
347

" وإن استطعت أن لا يعرفن غيرك فافعل. " (1) والوالي وكذا القاضي لابد له من أن
يحضر محافل الرجال كثيرا ويحادثهم ويخاصمهم، فلا يناسب للمرأة التصدي لهما.
فهذان أمران تعرضنا لهما قبل الشروع في الاستدلال للمسألة. ولعلهما يفيدان
فيها. فلنشرع في ذكر أدلة اعتبار الذكورة في الوالي والقاضي. وقد عرفت تمسك
البعض بالإجماع، ومناقشتنا فيه. فلنذكر الآيات والروايات.
آيات المسألة
أما الآيات: 1 - فمنها قوله - تعالى -: " الرجل قوامون على النساء، بما فضل الله
بعضهم على بعض، وبما أنفقوا من أموالهم. " (2)
وقد ورد في شأن نزولها - على ما في مجمع البيان: " أن امرأة من الأنصار نشزت
على زوجها، فلطمها، فانطلق أبوها معها إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: أفرشته كريمتي فلطمها،
فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " لتقتص من زوجها. فانصرفت مع أبيها لتقتص منه، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
ارجعوا، فهذا جبرائيل أتاني وأنزل الله هذه الآية. فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أردنا أمرا وأراد الله
أمرا. والذي أراد الله خير. ورفع القصاص. " (3)
ولا يخفى أن بعض مراتب النشوز يستعقب جواز الضرب للتأديب، كما صرح به
في القرآن الكريم: " واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن، واهجروهن في المضاجع، و
اضربوهن. " (4)
وفي مجمع البيان أيضا:

1 - نهج البلاغة، فيض / 939; عبده 3 / 63; لح / 405، الكتاب 31.
2 - سورة النساء (4)، الآية 34.
3 - مجمع البيان 2 / 43. (الجزء 3).
4 - سورة النساء (4)، الآية 34.
348

" يقال: رجل قيم وقيام وقوام. وهذا البناء للمبالغة والتكثير. " وفيه أيضا: " أي
قيمون على النساء، مسلطون عليهن في التدبير والتأديب والرياضة والتعليم. " (1)
أقول: فكأن الصيغة أريد بها من يكون قائما بذاته، ومقيما لغيره. فكأن الزيادة
أوجبت السراية إلى الغير. كالطهور لما يكون طاهرا بذاته، مطهرا لغيره. والظاهر أنه
لايراد بقوله: " فضل الله " جعل الفضيلة له تشريعا، بل يراد به الفضيلة التكوينية في
طباعه، أعني قوة العقل والتدبير. والعلة الثانية أيضا من شؤون الأولى وفروعها، إذا
قوة عقله أوجبت جعل اختيار المال وإنفاقه بيده، كما لا يخفى.
وكيف كان فهل الحكم في الآية يراد به العموم، أو قيمومة خصوص الأزواج على
أزواجهم؟ وجهان.
ولا يخفى أن الاستدلال بالآية في المقام يبتني على الأول، ومورد النزول هو
الثاني. ويظهر من بعض الأعاظم تقوية العموم.
ففي مجمع البحرين:
" أي لهم عليهن قيام الولاء والسياسة. وعلل ذلك بأمرين: أحدهما موهوبي لله. و
هو أن الله فضل الرجال عليهن بأمور كثيرة من كمال العقل وحسن التدبير وتزايد
القوة في الأعمال والطاعات، ولذلك خصوا بالنبوة والإمامة والولاية وإقامة
الشعائر والجهاد وقبول شهادتهم في كل الأمور ومزيد النصيب في الإرث وغير
ذلك. وثانيهما كسبي. وهو أنهم ينفقون عليهن ويعطونهن المهور، مع أن فائدة النكاح
مشتركة بينهما. " (2)
وفي مسالك الإفهام للفاضل الجواد الكاظمي:

1 - مجمع البيان 2 / 43. (الجزء 3).
2 - مجمع البحرين / 486.
349

" أي الرجال على النساء. وذلك بالعلم والعقل وحسن الرأي والتدبير والعزم و
مزيد القوة في الأعمال والطاعات والفروسية والرمي، وأن منهم الأنبياء والأئمة و
العلماء، وفيهم الإمامة الكبرى وهي الخلافة، والصغرى وهي الاقتداء بهم في
الصلاة، وانهم أهل الجهاد والأذان والخطبة، إلى غير ذلك مما أوجب الفضل عليهن.
قال في الكشاف: وفيه دليل على أن الولاية إنما يستحق بالفضل، لا بالتغليب و
الاستطالة والقهر. " (1)
وقال العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان:
" وعموم هذه العلة يعطي أن الحكم المبني عليها، أعني قوله: " الرجال قوامون على
النساء "، غير مقصور على الأزواج بأن يختص القوامية بالرجل على زوجته، بل الحكم
مجعول لقبيل الرجال على قبيل النساء في الجهات العامة التي ترتبط بها حياة القبيلين
جميعا. فالجهات العامة التي ترتبط بفضل الرجال، كجهتي الحكومة والقضاء مثلا اللتين
يتوقف عليهما حياة المجتمع، وإنما يقومان بالتعقل الذي هو في الرجال بالطبع أزيد منه في
النساء، وكذا الدفاع الحربي الذي يرتبط بالشدة وقوة التعقل، كل ذلك مما يقوم به الرجال
على النساء. وعلى هذا فقوله: " الرجال قوامون على النساء " ذو اطلاق تام. " (2)
هذه بعض كلماتهم في المقام.
ولكن عندي في التمسك بالآية للمقام إشكال. إذ شأن النزول وكذا السياق
شاهدان على كون المراد قيمومة الرجال بالنسبة إلى أزواجهم. إذ لا يمكن الالتزام
بأن كل رجل بمقتضى عقله الذاتي، وبمقتضى إنفاقه على خصوص زوجه له قيمومة
على جميع النساء حتى الأجنبيات. ولو سلم الشك أيضا فصرف الاحتمال يكفي في
عدم صحة الاستدلال.

1 - مسالك الافهام 3 / 257.
2 - الميزان 4 / 343 (= طبعة أخرى 4 / 365).
350

فان قلت: عموم العلة - كما مر عن تفسير الميزان - يقتضي ذلك، فيؤخذ به إلا فيما
ثبت خلافه.
قلت: أولا إن العلة الثانية لا عموم لها. إذ إنفاق الرجل يختص بزوجه ولا يرتبط
بسائر النساء.
وثانيا إن الأخذ بالعموم وتخصيص ما ثبت خلافه يوجب تخصيص الأكثر. إذ
لا قيمومة لرجل على سائر النساء إلا في مورد الولاية أو القضاء. أللهم إلا أن يقال إن
مفاد الآية من أول الأمر بمقتضى الانصراف ومناسبة الحكم والموضوع خصوص
موارد القيمومة كالولاية ونحوها لا مطلقا. فيكون مفادها أن في الموارد التي يحتاج
فيها إلى القيمومة فالرجال قوامون على النساء دون العكس، فتأمل.
فان قلت: مفاد الآية العموم قطعا. إذ لا يمكن الالتزام بأن المرأة لا شأن لها في
الدار مع زوجها، ولكن لها السلطة على الرجال الأجانب.
قلت: بل يمكن الالتزام بذلك. إذ محيط البيت والأسرة لا محالة يحتاج إلى قيم،
فلعل الشارع جعل الرجل بمقتضى أولويته قيما في البيت، دفعا للنزاع. فالرجل عقل
الأسرة. وهذا لا ينافي ولاية المرأة في خارج البيت مع وجدانها للشروط.
هذا مضافا إلى أن الآية لا تنفي قيمومة المرأة على النساء. فلم لا يصح صيرورتها
قاضية للنساء؟!
فان قلت: الإجماع المركب يقتضي ذلك. قلت: ما هو الحجة على القول بها هو
القول بعدم الفصل، لا عدم القول بالفصل، فتأمل.
2 - ومن الآيات أيضا قوله - تعالى -: " ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف، وللرجال
351

عليهن درجة، والله عزيز حكيم. " (1)
ويرد على الاستدلال: بها ما مر في السابقة، طابق النعل بالنعل، بل ظهورها في
الاختصاص بحقوق الزوجية أقوى. فيكون المراد أن لكل من الزوجين حقا على
الآخر، وللرجل على زوجه درجة بجواز تأديبه لها مع النشوز وبكون الطلاق أيضا
بيده.
3 - ومنها أيضا قوله - تعالى -: " أو من ينشؤ في الحلية وهو في الخصام غير
مبين. " (2)
وهي في مقام الإنكار على المشركين، حيث جعلوا الملائكة الذين هم عباد
الرحمن إناثا وقالوا هم بنات الله، وجعلوا لله البنات ولأنفسهم البنين. وتحكي
الآية عن طبيعة المرأة، وأنها ظريفة الإحساس، ميالة إلى الزينة، وأنه ليس لها منطق
قوي في مقام الخصام.
قال العلامة الطباطبائي - طاب ثراه - في تفسير الميزان:
" وإنما ذكر هذين النعتين، لأن المرأة بالطبع أقوى عاطفة وشفقة، وأضعف تعقلا بالقياس
إلى الرجل. وهو بالعكس. ومن أوضح مظاهر قوة عواطفها تعلقها الشديد بالحلية والزينة،
وضعفها في تقرير الحجة المبني علي قوة التعقل. " (3)
وحيث ان الولاية بشعبها ومنها القضاء تقتضي قوة التعقل والتفكير والتفوق في
إثبات الحق فيمكن الاستشهاد بالآية للمقام بنحو التأييد، كما لا يخفى.
4 - ومنها أيضا قوله - تعالى -: " وقرن في بيوتكن، ولا تبرجن تبرج الجاهلية
الأولى... " (4)
وتصدي المرأة للولاية وكذا القضاء يستدعي خروجها من البيت واختلاطها
بالرجال وإسماع صوتها لهم وغير ذلك من الأمور المرغوب عنها شرعا. وقد عير
الأصحاب عائشة بهذه الآية على خروجها إلى البصرة، كما في التواريخ.

1 - سورة البقرة (2)، الآية 228.
2 - سورة الزخرف (43)، الآية 18.
3 - الميزان 18 / 90 (= طبعة أخرى 18 / 93).
4 - سورة الأحزاب (33)، الآية 33.
352

وبالجملة فالآية أيضا تصلح للتأييد في المقام. اللهم إلا أن يقال إن المخاطب بها
نساء النبي. فلعل لهن لانتسابهن إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خصوصية، وقال الله - تعالى -: " يا
نساء النبي، لستن كأحد من النساء إن اتقيتن، فلا تخضعن بالقول... " (1) فيكون التستر و
التحجب فيهن آكد، فتدبر.
روايات المسألة:
وأما الروايات التي يمكن ان يستدل بها في المسألة فكثيرة من طرق الفريقين، و
إن كان في دلالة بعضها نظر:
الأولى: ما في البخاري بسنده عن أبي بكرة، قال: لقد نفعني الله بكلمة سمعتها من
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أيام الجمل بعد ما كدت أن ألحق بأصحاب الجمل فأقاتل معهم. قال:
لما بلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى قال: " لن يفلح قوم
ولوا أمرهم امرأة. " (2)
وروي مثله أيضا النسائي عن أبي بكرة (3). والترمذي عنه وقال:
" هذا حديث صحيح. " (4)
ورواه أحمد في مسنده عن أبي بكرة، عن النبي بهذا الفظ: " لن يفلح قوم أسندوا
أمرهم إلى امرأة. " (5)
ورواه كذلك مرسلا في تحف العقول عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (6).

1 - سورة الأحزاب (33)، الآية 32.
2 - صحيح البخاري 3 / 90، كتاب المغازي، باب كتاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى كسرى وقيصر.
3 - سنن النسائي 8 / 227، كتاب آداب القضاة، باب النهي عن استعمال النساء في الحكم.
4 - سنن الترمذي 3 / 360، الباب 64 من أبواب الفتن، الحديث 2365.
5 - مسند أحمد 5 / 38.
6 - تحف العقول / 35.
353

وفي نهاية ابن الأثير: " ما أفلح قوم قيمهم امرأة. " وفي حاشيتها عن اللسان و
الهروي: " ما أفلح قوم قيمتهم امرأة. " (1)
ومضى من الخلاف عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا يفلح قوم وليتهم امرأة. " (2)
وفي كنز العمال: " لا يقدس الله أمة قادتهم امرأة. " (طب، عن أبي بكرة) (3)
وكيف كان فالحديث مشهور وإن اختلفوا في لفظه. ولعل الشهرة تجبر ضعفه. و
دلالته على المسألة واضحة.
الثانية: ما رواه الصدوق في الخصال بسنده عن جابر بن يزيد الجعفي، قال:
سمعت أبا جعفر، محمد بن على الباقر (عليه السلام) يقول: " ليس على النساء أذان ولا إقامة، و
لا جمعة، ولا جماعة، ولا عيادة المريض، ولا اتباع الجنائز ولا إجهار بالتلبية، ولا الهرولة بين
الصفا والمروة، ولا استلام الحجر الأسود، ولا دخول الكعبة، ولا الحلق إنما يقصرن من
شعورهن، ولا تولى المرأة القضاء، ولا تولى الإمارة، ولا تستشار، ولا تذبح إلا من
اضطرار.... " (4)
ورواه في الوسائل إلا أنه قال: " ولا تلي الإمارة. " (5)
وظاهر العبارة الوضع، لا التكليف فقط. فتكون الذكورة شرطا في الإمارة و
القضاء. وظاهر الفقرات السابقة وإن كان نفي الوجوب والاستحباب المؤكد ولكن
قوله: " ولا تولى المرأة القضاء " وما بعده يخالف ما قبله في السياق، لكونه بصورة النفي
المراد به النهي، وظاهره الحرمة والفساد إلا فيما ثبت خلافه.
الثالثة: ما رواه في آخر الفقيه بإسناده عن حماد بن عمرو وأنس بن محمد، عن
أبيه، عن جعفر بن محمد، عن آبائه في وصايا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام): " يا علي، ليس على
النساء جمعة ولا جماعة، ولا أذان ولا إقامة، ولا عيادة مريض، ولا اتباع جنازة، ولا هرولة بين

1 - النهاية لابن أثير 4 / 135.
2 - الخلاف 3 / 311.
3 - كنز العمال 6 / 40، الباب 1 من كتاب الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14763.
4 - الخصال / 585 (الجزء 2)، أبواب السبعين وما فوقه، الحديث 12.
5 - الوسائل 14 / 162، الباب 23 من أبواب مقدمات النكاح، الحديث 1.
354

الصفا والمروة، ولا استلام الحجر، ولا حلق، ولا تولى القضاء، ولا تستشار... " (1)
قوله: " ولا تولى القضاء "، يحتمل فيه المصدرية والفعل. فعلى الأول يكون معطوفا
على ما قبله، فلا يدل إلا على نفي الوجوب والاستحباب المؤكد، فلا ينافي الصحة إذا
تصدت. وان كان فعلا فظاهره الوضع، كما مر. ولعله أصح بقرينة ما بعده، وما مر في
رواية جابر. إذ الظاهر كونهما رواية واحدة، فتدبر.
الرابعة: ما في نهج البلاغة: " يأتي على الناس زمان لا يقرب فيه إلا الماحل، ولا يظرف
فيه إلا الفاجر، ولا يضعف فيه إلا المنصف. يعدون الصدقة فيه غرما، وصلة الرحم منا، و
العبادة استطالة على الناس. فعند ذلك يكون السلطان بمشورة النساء، وإمارة الصبيان و
تدبير الخصيان. " (2)
أقول: " الماحل " الساعي بالوشاية. و " لا يظرف "، أي لا يعد ظريفا. و " لا يضعف "،
أي لا يعد ضعيفا، أو لا يجعل ضعيفا. و " الاستطالة ": التفوق. والمراد بإمارة الصبيان
إمارة من يقل سنه، فلم يحصل له التجربة والكفاية، أو إمارة من يكون عقله عقل
الصبيان وإن كبر في السن. وإذا كانت السلطنة بمشورة النساء مذمومة فتفويضها
إليهن بالكلية أولى بالذم، كما لا يخفى.
الخامسة: ما في سنن الترمذي بسنده عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" إذا كانت أمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم سمحاءكم، وأموركم شورى بينكم فظهر الأرض خير
لكم من بطنها. وإذا كانت أمراؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلاءكم وأموركم إلى نسائكم فبطن
الأرض خير لكم من ظهرها. " (3)
ورواه في تحف العقول أيضا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (4).

1 - الفقيه 4 / 364، باب النوادر، الحديث 5762.
2 - نهج البلاغة، فيض / 1132; عبده 3 / 173; لح / 485، الحكمة 102.
3 - سنن الترمذي 3 / 361، الباب 64 من أبواب الفتن، الحديث 2368.
4 - تحف العقول / 36.
355

السادسة: ما في نهج البلاغة في كتاب أمير المؤمنين إلى ابنه الحسن - عليهما
السلام -: " وإياك ومشاورة النساء. فان رأيهن إلى أفن، وعزمهن إلى وهن. واكفف عليهن
من أبصارهن بحجابك إياهن. فإن شدة الحجاب أبقي عليهن. وليس خروجهن بأشد من
إدخالك من لا يوثق به عليهن. وإن استطعت أن لا يعرفن غيرك فافعل. ولا تملك المرأة من
أمرها ما جاوز نفسها، فإن المرأة ريحانة، وليست بقهرمانة. ولا تعد بكرامتها نفسها، و
لا تطمعها في أن تشفع بغيرها (لغيرها خ. ل). " (1)
وروى مضمون الرواية بتفاوت ما في الكافي بإسناده عن عمرو بن أبي المقدام،
عن أبي جعفر (عليه السلام). وعن عبد الرحمن بن كثير، عن أبي عبد الله في رسالة
أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى ابنه الحسن. وعن الأصبغ بن نباتة، عنه (عليه السلام) في كتابه إلى ابنه
محمد. وكذا الصدوق في نوادر آخر الفقيه عنه (عليه السلام) في كتابه إلى محمد، فراجع. (2)
والأفن بالسكون - ويروى بالتحريك أيضا: الضعف.
ولا يخفى ما في تشبيه المرأة بالريحانة من كمال اللطف والظرافة، حيث إنها
للطافتها وظرافتها تتأثر من التماس مع أي شيء كان. فكمالها وبهاؤها بأن تبقي في
منبتها فيلتذ بصفائها ومنظرها، وإلا ضاعت.
والقهرمان من يحكم في الأمور ويتصرف فيها.
وكيف كان فيمكن الاستشهاد للمقام بموارد من الرواية. إذ لو لم تصلح المرأة
للمشاورة لضعف رأيها فعدم صلاحها لتفويض الولاية أو القضاء المحتاج فيهما إلى
الفكر والرأي الصائب القوي بطريق أولى. والأمر بحجابها والمنع من خروجها و
معرفتها غيرها وكذا إدخال غيرها عليها في بيتها دليل على عدم جواز تصديها لما
يستلزم الظهور في أندية الرجال والمخالطة والمحاجة معهم. وتفويض الولاية إليها
تمليك لها لما جاوز نفسها إلا أن يقال إن المنهي عنه تمليكها ما يكون من أمرها، أي
خصوص ما يكون بينها وبين زوجها. فلا يشمل الأمور العامة، فتدبر.
ولا يخفى أهمية ما أوصى (عليه السلام) به أخيرا من أن لا تطمع في الشفاعة للغير. فمن

1 - نهج البلاغة، فيض / 938; عبده 3 / 63; لح / 405، الكتاب 31.
2 - الوسائل 14 / 120، الباب 87 من أبواب مقدمات النكاح، الحديث 1 و 2 و 3.
356

المصائب تدخل نساء الرجال والشخصيات السياسية والاجتماعية في شؤونهم،
ورجوع أرباب الحوائج إليهن للشفاعة مع الإصرار. وقد وقع كثيرا نقض القوانين و
الضوابط من هذا الطريق. وفى شرح ابن أبي الحديد:
إن الخيزران، أم موسى الهادي، كانت تتكلم معه كثيرا في حوائج المراجعين،
فكانت المواكب تقدو إلى بابها. وآل الأمر بالأخرة إلى أن قال لأمه: " لئن بلغني أنه
وقف أحد من قوادي وخاصتي وخدمي وكتابي على بابك لأضربن عنقه ولأقبضن
ماله. " (1)
فبذلك فلتعتبر الشخصيات البارزة ومصادر الأمور، ولا يطمعوا نساءهم في
التدخل في السياسات والشفاعة لأهل التوقعات.
السابعة: ما في البحار عن كنز الكراجكي، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " إياك ومشاورة
النساء، إلا من جربت بكمال عقل. فإن رأيهن يجر إلى الأفن وعزمهن إلى وهن... وإن
استطعت أن لا يعرفن غيرك فافعل. ولا تملك المرأة من أمرها ما يجاوز نفسها. فإن ذلك أنعم
لبالها وبالك. وإنما المرأة ريحانة وليست بقهرمانة. الحديث. " (2)
الثامنة: ما في نهج البلاغة من وصية له (عليه السلام) لعسكره: " ولا تهيجوا النساء بأذى وإن
شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم. فإنهن ضعيفات القوى والأنفس والعقول. إن كنا لنؤمر
بالكف عنهن وإنهن لمشركات. وإن كان الرجل ليتناول المرأة في الجاهلية بالفهر أو
الهراوة فيعير بها وعقبه من بعده. " (3)
قالوا: الفهر: الحجر على مقدار ما يكسر به الجوز. والهراوة بالكسر: العسا أو شبه
الدبوس من الخشب. وتناولها بالفهر أو الهراوة كناية عن ضربها بهما. هذا.

1 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16 / 125.
2 - بحار الأنوار 100 / 253 (= طبعة إيران 103 / 253)، باب أحوال الرجال والنساء، الحديث
56.
3 - نهج البلاغة، فيض / 859; عبده 3 / 16; لح / 373، الكتاب 14.
357

وفي فروع الكافي في حديث عن مالك بن أعين: " ولا تهيجوا امرأة بأذى وإن
شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم وصلحاءكم. فإنهن ضعاف القوى والأنفس والعقول. و
قد كنا نؤمر بالكف عنهن وهن مشركات. وإن كان الرجل ليتناول المرأة فيعير بها وعقبه من
بعده. " (1)
التاسعة: ما في نهج البلاغة أيضا بعد حرب الجمل: " معاشر الناس، إن النساء نواقص
الإيمان، نواقص الحظوظ، نواقص العقول. فأما نقصان إيمانهن فقعودهن عن الصلاة و
الصيام في أيام حيضهن. وأما نقصان عقولهن فشهادة امرأتين كشهادة الرجل الواحد. وأما
نقصان حظوظهن فمواريثهن على الأنصاف من مواريث الرجال. فاتقوا شرار النساء وكونوا
من خيارهن على حذر. ولا تطيعوهن في المعروف حتى لا يطمعن في المنكر. " (2)
أقول: قد مر بالتفصيل تفاوت الرجل والمرأة في طباعهما، وأنها إنسانة يغلب
عليها الظرافة والإحساس والعواطف، وعلى الرجل الغلظة والعقل والتفكير. ونظام
الوجود يحتاج إلى كليهما. فمثلهما كمثل أعضاء الإنسان الواحد، حيث إن لكل منها
وظيفتها في الحياة، وليس عدم قدرة إحديها على القيام بوظائف الأخرى نقصا لها.
فالعين ألطف من الرجل، والرجل أخشن. وليست اللطافة نقصا للعين، ولا الخشونة
للرجل. وهذه هي الحكمة لعدم مشاورتهن وإطاعتهن أيضا. فإنهن لغليان الإحساس
وسرعته فيهن لا يعتمد على رأيهن. ولو أحسسن بالاعتماد عليهن وترتيب الأثر
على رأيهن غلب الطمع عليهن وتسلطن على الرجل وعقله، فبطل التدبير والفكر في
عواقب الأمور وانهدم أساس الأسرة والبيئة.
وفي شرح عبده في ذيل الحديث:
" لا يريد أن يترك المعروف لمجرد أمرهن به، فإن في ترك المعروف مخالفة السنة
الصالحة، خصوصا إن كان المعروف من الواجبات، بل يريد أن لا يكون فعل المعروف
صادرا عن مجرد طاعتهن. فإذا فعلت معروفا فافعله لأنه معروف ولا تفعله

1 - الكافي 5 / 39، كتاب الجهاد، باب ما كان يوصي أمير المؤمنين (عليه السلام) به عند القتال، الحديث 4.
2 - نهج البلاغة، فيض / 179; عبده 1 / 125; لح / 105، الخطبة 80.
358

امتثالا لأمر المرأة. ولقد قال الإمام قولا صدقته التجارب في الأحقاب المتطاولة،
ولا استثناء مما قال إلا بعضا منهن وهبن فطرة تفوق في سموها ما استوت به الفطن أو
تقاربت أو أخذت بسلطان من التربية طباعهن على خلاف ما غرز فيها، وحولتها إلى
غير ما وجهتها الجبلة إليه. " (1)
أقول: ونعم ما قال.
العاشرة: ما في سنن ابن ماجة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطاب له (صلى الله عليه وآله وسلم) لامرأة: " ما
رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن. قالت: يا رسول الله وما نقصان العقل و
الدين؟ قال: أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل، فهذا من نقصان العقل. و
تمكث الليالي ما تصلي وتفطر في رمضان، فهذا من نقصان الدين. " (2)
الحادية عشرة: ما في نهج البلاغة أيضا: " وأما فلانة فأدركها رأي النساء، وضغن
غلا في صدورها... " (3)
الثانية عشرة والثالثة عشرة: ما في فروع الكافي بسند مرسل عن أبي
عبد الله (عليه السلام) قال: " قال أمير المؤمنين (عليه السلام): " في خلاف النساء البركة. "
وبهذا الإسناد قال: " قال أمير المؤمنين (عليه السلام): " كل امرئ تدبره امرأة فهو ملعون. " (4)
ورواهما في الوسائل عنه باشتباه في نقل السند، فراجع (5). ورواهما في الفقيه
أيضا في نوادر النكاح، فراجع (6).
الرابعة عشرة: ما في الكافي عن عدة من أصحابنا، عن احمد بن محمد، عن ابن
محبوب، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " ذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) النساء

1 - نهج البلاغة، عبده 1 / 126.
2 - سنن ابن ماجة 2 / 1326، كتاب الفتن، الباب 19 (باب فتنة النساء)، الحديث 4003.
3 - نهج البلاغة، فيض / 487; عبده 2 / 63; لح / 218، الخطبة 156.
4 - الكافي 5 / 518، كتاب النكاح، باب في ترك طاعة النساء، الحديث 9 و 10.
5 - الوسائل 14 / 131، الباب 96 من أبواب مقدمات النكاح، الحديث 3 و 4.
6 - الفقيه 3 / 468، باب نوادر النكاح، الحديث 4623، و 4622.
359

فقال: " اعصوهن في المعروف قبل أن يأمرنكم بالمنكر، وتعوذوا بالله من شرارهن و
كونوا من خيارهن على حذر. " (1)
والسند في غاية الصحة. إلى غير ذلك من الأخبار المذكورة في هذا الباب بهذا
المضمون، فراجع.
الخامسة عشرة: ما في اختصاص المفيد عن ابن عباس في مسائل عبد الله بن
سلام للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " فأخبرني عن آدم; خلق من حواء، أو حواء خلقت من آدم؟ قال:
" بل خلقت حواء من آدم. ولو أن آدم خلق من حواء لكان الطلاق بيد النساء ولم يكن بيد
الرجال. قال: من كله أو من بعضه؟ قال: بل من بعضه. ولو خلقت حواء من كله لجاز
القضاء في النساء كما يجوز في الرجال. " (2)
السادسة عشرة: ما في مستدرك الوسائل عن كتاب تحفة الإخوان، عن أبي
بصير، عن الصادق (عليه السلام): " قال ابن عباس: فنوديت يا حواء... الآن أخرجي أبدا. فقد جعلتك
ناقصة العقل والدين والميراث والشهادة... ولم أجعل منكن حاكما، ولا أبعث منكن
نبيا. " (3)
السابعة عشرة: ما في كنز العمال: " لا تكون المرأة حكما تقضي بين العامة. "
(الديلمي، عن عائشة) (4)
إلى غير ذلك من الأخبار المتفرقة في الأبواب المختلفة، المقطوع بصدور بعضها
إجمالا. مضافا إلى صحة سند البعض. ودلالتها - بعد ضم بعضها إلى بعض - على عدم
تناسب الولاية بشعبها ومنها القضاء مع طباع المرأة وتكليفها في التستر والتحجب.
مما لا تخفى. فالظاهر وضوح المسألة. والتشكيك فيها بلا وجه.
هذا، مضافا إلى ان مجرد الشك كاف في المقام. إذا الأصل كما عرفت عدم

1 - الكافي 5 / 516، كتاب النكاح، باب في ترك طاعة النساء، الحديث 2.
2 - الإختصاص / 50.
3 - مستدرك الوسائل 2 / 557، الباب 94 من أبواب مقدمات النكاح، الحديث 2.
4 - كنز العمال 6 / 79، الباب 1 من كتاب الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14921.
360

ثبوت الولاية لأحد على أحد. وليس لنا عموم أو إطلاق يدعى شموله للمرأة.
وقد يستدل أيضا: بخبر أبي خديجة، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " إياكم أن يحاكم بعضكم
بعضا إلى أهل الجور. ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا، فاجعلوه بينكم.
فإني قد جعلته قاضيا، فتحاكموا إليه. " (1)
قلت: الظاهر انه ليس محط النظر في الحديث بيان شرائط القاضي، بل الردع عن
الرجوع إلى قضاة الجور. ولعل ذكر الرجل كان من باب التغليب. فالاستدلال بمفهوم
الرجل في المقام كأنه تمسك بمفهوم اللقب، ولا حجية فيه قطعا. وبعبارة أخرى: إن
كان لنا عموم أو إطلاق في باب جعل الولاية أو القضاء فالتخصيص أو التقييد بهذا
الحديث مشكل. نعم، لو لم يكن هنا عموم ولا إطلاق فالأصل يقتضي عدم الثبوت،
كما مر. فيكون المرجع هو الأصل، لا هذا الحديث.
وقد يستدل للمسألة أيضا: بعدم جواز إمامة المرأة للرجال بل للنساء أيضا
عند بعض في الصلاة، فلا تنعقد لها الإمامة الكبرى ولا القضاء أيضا بطريق أولى.
أقول: عدم جواز إمامتها للرجال مقطوع به ظاهرا وان لم أجد به رواية معتبرة.
نعم، في المستدرك عن الدعائم، عن جعفر بن محمد (عليه السلام): " لا تؤم المرأة الرجال، وتصلي
بالنساء. " (2) وكيف كان فالظاهر صحة الأولوية المدعاة. نعم، لا يثبت هذا عدم جواز
كونها قاضية للنساء، إذ الظاهر جواز إمامتها لهن، فراجع.

1 - الوسائل 18 / 4، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث 5.
2 - مستدرك الوسائل 1 / 491، الباب 18 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 1.
361

الفصل الحادي عشر
في اعتبار طهارة المولد
الثامن من شروط الوالي وكذا القاضي: طهارة المولد.
ولم أعثر على كلام من علماء السنة لبيان اعتبار هذا الشرط، لا في الوالي ولا في
القاضي. وتعرض له أصحابنا في شروط القاضي، وكذا في المفتي الذي يراد تقليده.
وربما ادعوا عليه الاجماع.
قال في القضاء من الشرائع:
" ولا ينعقد القضاء لولد الزنا مع تحقق حاله، كما لا تصح إمامته ولا شهادته في
الأشياء الجليلة. " (1)
وفي الجواهر:
" كما هو واضح بناء على كفره. أما على غيره فالعمدة الإجماع المحكى وفحوى
ما دل على المنع من إمامته وشهادته ان كان وقلنا به مؤيدا بنفر طباع الناس منه. " (2)

1 - الشرائع 4 / 67.
2 - الجواهر 40 / 13.
363

أقول: قد مر في مسألة اعتبار الذكورة أن الإجماع إنما يفيد في المسائل الأصلية
المأثورة المذكورة في الكتب المعدة لنقل هذا السنخ من المسائل، وليست المسألة
كذلك لعدم ذكرها في مثل كتب الصدوقين والمقنعة والنهاية ونحوها. نعم التمسك
بالفحوى صحيح.
وكيف كان فالقائل بعدم الاشتراط يمكن أن يتمسك بالعمومات والإطلاقات
الأولية على فرض ثبوتها، وبسيرة العقلاء، إذ الملاك عندهم هو القوة وحسن الولاية
فقط، وبإمارة زياد من قبل أمير المؤمنين (عليه السلام) في فارس مع ما ورد من إلحاق معاوية
إياه بأبي سفيان.
ويمكن أن يجاب عن الأول بالتخصيص بما يأتي على فرض ثبوته. وعن الثاني
بعدم ثبوت استمرارها إلى عصر المعصومين (عليهم السلام) مضافا إلى ردعها بما سنذكره من
الأخبار. وعن الثالث أولا بعدم كونه واليا من قبل أمير المؤمنين (عليه السلام) بل من قبل واليه.
وثانيا بأنه ولد في فراش عبيد، والولد للفراش. فإلحاقه بأبي سفيان كان على خلاف
الموازين الشرعية وكتب أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى زياد في ذلك: " وقد كان من أبي سفيان
في زمن عمر بن الخطاب فلتة من حديث النفس ونزغة من نزغات الشيطان لا يثبت بها
نسب ولا يستحق بها إرث. " (1) هذا.
ويدل على الاشتراط في الوالي والقاضي والمفتي مضافا إلى الأصل أمور:
الأول: فحوى ما دل على اشتراطه في الشاهد:
ففي الخلاف: (المسألة 57 من الشهادات):
" شهادة ولد الزنا لاتقبل وان كان عدلا... دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم.
وروي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " ولد الزنا شر الثلاثة. " (2)

1 - نهج البلاغة، فيض / 963; عبده 3 / 77; لح / 416، الكتاب 44.
2 - الخلاف 3 / 345.
364

وعن الكافي بسنده عن أبي بصير " قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن ولد الزنا أتجوز
شهادته؟ فقال: لا. فقلت: إن الحكم بن عتيبة يزعم أنها تجوز. الحديث. "
وبسند صحيح عن محمد بن مسلم، قال: " قال أبو عبد الله: " لا تجوز شهادة ولد الزنا. "
إلى غير ذلك من الأخبار، فراجع. (1)
الثاني: فحوى ما دل على اشتراطه في إمام الجماعة، كصحيحة أبي بصير عن أبي
عبد الله (عليه السلام) قال: " خمسة لا يؤمون الناس على كل حال، وعد منهم المجنون وولد الزنا. "
وصحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " قال أمير المؤمنين (عليه السلام): " لا يصلين أحدكم
خلف المجنون وولد الزنا. " إلى غير ذلك من الروايات. (2)
الثالث: الأخبار الظاهرة في نجاسته وقذارته، فلا يصلح لإمامة المسلمين و
لا يناسبها. كخبر الوشاء، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) " أنه كره سؤر ولد الزنا، وسؤر
اليهودي، والنصراني، والمشرك، وكل من خالف الإسلام... " (3)
وخبر ابن أبي يعفور، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " لا تغتسل من البئر التي يجتمع فيها
غسالة الحمام، فان فيها غسالة ولد الزنا، وهو لا يطهر إلى سبعة آباء، وفيها غسالة الناصب،
وهو شرهما... " (4)
إلى غير ذلك، وإن كان الأقوى عدم النجاسة الظاهرية، ويراد منها القذارة
المعنوية والخباثة الذاتية، كما يشهد بذلك قوله: " لا يطهر إلى سبعة آباء. " إذ النجاسة
الظاهرية على القول بها لا تسوي إلى نسله بلا إشكال. وليس المقام مقام البحث في
هذه المسألة، وأنه على القول بنجاسته هل هي لكفره أو إنها ثابتة وإن اخترنا إسلامه
أو كونه بين الكافر والمسلم، فراجع مظانها.

1 - الوسائل 18 / 275، الباب 31 من أبواب الشهادات، الحديث 1 و 3 و....
2 - الوسائل 5 / 397، الباب 14 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 1 و....
3 - الوسائل 1 / 165، الباب 3 من أبواب الأسآر، الحديث 2.
4 - الوسائل 1 / 159، الباب 11 من أبواب ماء المضاف، الحديث 4.
365

الرابع: ما دل على كون ديته كدية الذمي، كخبر إبراهيم بن عبد الحميد، عن
جعفر (عليه السلام) قال: قال: " دية ولد الزنا دية الذمي: ثمانمأة درهم. " إلى غير ذلك من الأخبار،
فراجع. (1)
الخامس: ما دل على كونه أسوء من الكافر، كصحيحة محمد بن مسلم، عن أبي
جعفر (عليه السلام): " لبن اليهودية والنصرانية والمجوسية أحب إلى من ولد الزنا. " (2)
السادس: ما دل على كونه أسوء حالا من الكلب والخنزير، كخبر أبي بصير، عن
أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " إن نوحا حمل في السفينة الكلب والخنزير، ولم يحمل فيها ولد الزنا.
وإن الناصب شر من ولد الزنا. " (3)
السابع: ما دل على عدم الخير فيه، كخبر زرارة، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول:
" لا خير في ولد الزنا، ولا في بشره، ولا في شعره، ولا في لحمه، ولا في دمه، ولا في شئ
منه. " يعني ولد الزنا (4).
الثامن: ما ورد في أنه لا يدخل الجنة، كخبر سعد بن عمر الجلاب، قال: قال لي أبو
عبد الله (عليه السلام): " إن الله - عز وجل - خلق الجنة طاهرة مطهرة، فلا يدخلها إلا من طابت ولادته.
وقال أبو عبد الله (عليه السلام): " طوبى لمن كانت أمه عفيفة. " (5) إلى غير ذلك من الأخبار.
وفي خبر أبي بكر، قال: كنا عنده، يعني الصادق (عليه السلام)، ومعنا عبد الله بن

1 - الوسائل 19 / 164، الباب 15 من أبواب ديات النفس، الحديث 3 و....
2 - الوسائل 15 / 184، الباب 75 من أبواب أحكام الأولاد، الحديث 2.
3 - بحار الأنوار 5 / 287، باب علة عذاب الاستيصال وحال ولد الزنا، الحديث 13.
4 - بحار الأنوار 5 / 285، باب علة عذاب الاستيصال وحال ولد الزنا، الحديث 6.
5 - بحار الأنوار 5 / 285، باب علة عذاب الاستيصال وحال ولد الزنا، الحديث 4.
366

عجلان، فقال عبد الله بن عجلان: معنا رجل يعرف ما نعرف ويقال إنه ولد زنا،
فقال: " ما تقول؟ فقلت: إن ذلك ليقال له، فقال: " إن كان ذلك كذلك بني له بيت في النار
من صدر يرد عنه وهج جهنم ويؤتى برزقه. " (1)
والوهج كفرس: اتقاد النار. وفي البحار:
" من صدر، أي يبني له ذلك في صدر جهنم وأعلاه. والظاهر أنه مصحف " صبر "
بالتحريك، وهو الجمد. "
أقول: ولا نريد الحكم بصحة جميع هذه الأخبار ووضوح دلالتها ولا سيما ما كان
منها مخالفا لحكم العقل والعدل، بل نقول: إنه يستفاد من جميع ذلك خسة ولد الزنا
جدا وإن كان مسلما عدلا، فلا يناسب منصب الولاية والقضاء والمرجعية.
وأما التحقيق في مفاد هذه الأخبار فله محل آخر.
قال في البحار:
" فهذه المسألة مما قد تحير فيها العقول، وارتاب به الفحول. والكف عن الخوض
فيها أسلم، ولا نرى فيها شيئا أحسن من أن يقال: الله أعلم. " (2)
وكيف كان فالظاهر وضوح المسألة بما ذكر، ولا سيما وان صرف الشك كاف في
المسألة لأن الأصل يقتضي عدم الولاية إلا فيما ثبت.

1 - بحار الأنوار 5 / 287، باب علة عذاب الاستيصال وحال ولد الزنا، الحديث 12.
2 - بحار الأنوار 5 / 288، آخر باب علة عذاب الاستيصال.
367

الفصل الثاني عشر
في ذكر أمور أخر اختلفوا في اعتبارها في الإمام
قد ذكرنا إلى هنا ثمانية شروط للوالي: 1 - العقل الوافي 2 - الإسلام والإيمان. 3 -
العدالة. 4 - الفقاهة. 5 - القوة وحسن الولاية. 6 - أن لا يكون من أهل البخل والحرص
والطمع. 7 - الذكورة. 8 - طهارة المولد.
بقي هنا أمور أخر وقع البحث في اعتبارها، وهي ستة: 1 - البلوغ. 2 - سلامة
الأعضاء والحواس. 3 - الحرية. 4 - القرشية. 5 - العصمة. 6 - كونه منصوصا عليه.
فنذكر هذه الستة في هذا الفصل:
الأول: البلوغ. وقد تعرض لاعتباره في الوالي وكذا القاضي علماء السنة، و
تعرض فقهاؤنا أيضا لاعتباره في القاضي. وقد مر بعض كلمات السنة في الفصل
الأول، فراجع.
وفي قضاء الشرائع:
" ويشترط فيه البلوغ، وكمال العقل، والإيمان، والعدالة، وطهارة المولد، والعلم،
369

والذكورة، فلا ينعقد القضاء لصبي ولو مراهق. " (1)
وقال في الجواهر:
" ولا مجنون ولو أدوارا حال جنونه، لسلب أفعالهما وأقوالهما وكونهما مولى
عليهما، فلا يصلحان لهذا المنصب العظيم. ومنصب الإمامة ليحيى (عليه السلام) وللصاحب -
روحي له الفدا - إنما كان لنوع من القضاء الإلهي، نحو عيسى بن مريم (عليه السلام) (2).
أقول: السر في عدم ذكرنا للبلوغ في عداد الشرائط أن موضوع البحث في بعض
الكتب عنوان الإمامة، ونحن لا نقول باشتراط البلوغ في الإمام، كما لا نقول به في
النبي، لما أشار إليه في الجواهر من نبوة عيسى ويحيى وإمامة الجواد وصاحب
الأمر (عليه السلام) وايتائهم الحكم صبيا.
اللهم إلا أن يقال: النبي والإمام المعصوم خارجان عن موضوع البحث الفقهي، إذ
البحث هنا في ولاية الفقيه العادل في عصر الغيبة، فالصبي لعدم استقلاله وكونه
مرفوعا عنه القلم والعبارة مولى عليه بحكم الشرع، فلا يصلح للإمامة ولا للقضاء وان
حصلت فيه سائر الشروط. مضافا إلى أن الأصل أيضا يقتضي العدم. فالأولى ذكره
شرطا كما ذكروه في القضاء، فتدبر. وقد مر في عبارة نهج البلاغة: " فعند ذلك يكون
السلطان بمشورة النساء، وإمارة الصبيان، وتدبير الخصيان. " (3)
الثاني: سلامة الأعضاء والحواس. وقد مر بعض الكلمات في الفصل الأول،
ففي الماوردي في عداد شرائط الإمام:
" الثالث: سلامة الحواس من السمع والبصر واللسان ليصح معها مباشرة ما يدرك
بها. والرابع: سلامة الأعضاء من نقص يمنع عن استيفاء الحركة وسرعة

1 - الشرائع 4 / 67.
2 - الجواهر 40 / 12.
3 - نهج البلاغة، فيض / 1132; عبده 3 / 173; لح / 486، الحكمة 102.
370

النهوض. " (1)
وفي منهاج السنة للنووي:
" ذا رأي وسمع وبصر ونطق. " (2)
وفي مقدمة ابن خلدون:
" وسلامة الحواس والأعضاء، مما يؤثر في الرأي والعمل. " (3)
وفي الفقه على المذاهب الأربعة:
" سليم السمع والبصر والنطق، ليتأتى منه فصل الأمور ومباشرة أحوال
الرعية. " (4)
وفي قضاء الشرائع:
" وفي انعقاد قضاء الأعمى تردد، أظهره انه لا ينعقد لافتقاره إلى التمييز بين
الخصوم ". (5)
أقول: الظاهر عدم وجود دليل بالخصوص على اعتبار سلامة الأعضاء و
الحواس. نعم، قد مر أن القوة وحسن الولاية من الشروط المعتبرة، فإن أوجب فقد
بعض الأعضاء أو الحواس أو ضعفه عدم القوة على العمل أو التشويه في الخلقة،
بحيث يوجب النفرة منه، اعتبرت السلامة لذلك وإلا فلا دليل عليه.
وقدأشرنا إلى ذلك في تلك المسالة، فراجع.
وقد وردت روايات كثيرة في صحة إمامة الأعمي في الجماعة، فراجع. (6)
فلااستبعاد في تصديه للإمامة.
وفي سنن أبي داود بسنده عن أنس " أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) استخلف ابن أم مكتوم على

1 - الأحكام السلطانية / 6.
2 - المنهاج / 518، كتاب البغاة.
3 - مقدمة ابن خلدون / 135، الفصل 26 من الفصل 3 من الكتاب الأول.
4 - الفقه على المذاهب الأربعة 5 / 417، مبحث شروط الإمامة.
5 - الشرائع 4 / 68.
6 - الوسائل 5 / 409 - 410، الباب 21 من أبواب صلاة الجماعة.
371

المدينة مرتين. " (1)
الثالث: الحرية.
وقدذكرها الأكثر شرطا في البابين، فذكرها أبو يعلى والنووي شرطا في الإمام، و
كذلك في الفقه على المذاهب الأربعة، مدعيا الاتفاق.
وفي قضاء المبسوط في شرائط القاضي:
" أن يكون بالغا عاقلا حرا ذكرا. " (2)
ولكن في قضاء الشرائع:
" وهل يشترط الحرية؟ قال في المبسوط: نعم. والأقرب انه ليس شرطا. " (3)
وفي المسالك:
" اشتراط الحرية في القاضي مذهب الأكثر ومنهم الشيخ واتباعه، لأن القضاء
ولاية والعبد ليس محلا لها، لاشتغاله عنها باستغراق وقته لحقوق المولى. ولأنه من
المناصب الجليلة التي لا تليق بحال العبد. " (4)
وفي قضاء بداية المجتهد:
" وأما اشتراط الحرية فلا خلاف فيه. " (5)
أقول: يمكن أن يستدل لاشتراط الحرية بقوله - تعالى -: " ضرب الله مثلا عبدا
مملوكا لا يقدر على شئ، ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا، هل
يستوون؟ " (6)
وقداستدلوا بالآية على الحجر عليه في العقود والإيقاعات أيضا. والولاية
والقضاء يستلزمان التصرف في الأمور، فلايناسبان الحجر الشرعي. هذا.
ولكن يمكن أن يقال إن الظاهر من عدم القدرة في الآية عدم القدرة عرفا

1 - سنن أبي داود 2 / 118، كتاب الخراج والفيء والإمارة، الباب 3 (باب في الضرير يولى).
2 - المبسوط 8 / 101.
3 - الشرائع 4 / 68.
4 - المسالك 2 / 351.
5 - بداية المجتهد 2 / 449.
6 - سورة النحل (16)، الآية 75.
372

لاشرعا، حيث إن العبد لوقوعه تحت سلطة الغير خارجا ينعزل غالبا عن النشاطات
إلا فيما أمر به المولى. ويشهد لذلك قسميه، أعني قوله: " فهو ينفق منه سرا وجهرا. "
وكذا قوله في الآية التالية: " وضرب الله مثلا رجلين: أحدهما أبكم لا يقدر على
شئ... " فلوفرض عبد شجاع قوى الإرادة، بحيث لاتمنعه عبوديته عن تدبيره و
نشاطه، وأذن له المولى أيضا في قبول المسؤولية فأي مانع عن ذلك، على فرض
شمول عمومات الأدلة وإطلاقاتها له؟ وكون ارتفاع الحجر الشرعي دائرا مدار الإذن
لا يضر بعد الاطمينان ببقاء الإذن، أو استيجاره من مولاه مدة ممتدة لذلك. مضافا إلى
أن احتمال ارتفاع الإذن كاحتمال طرو الموت، فلا يكون مانعا عن قبول الولاية. و
ليست العبودية نقصا شرعيا كي تمنع عن قبول الولاية، ولذا يصح إمامته للجماعة كما
دلت عليها أخبار كثيرة، فراجع. (1)
وفي صحيح مسلم عن يحيى بن حصين، قال سمعت جدتي تحدث أنها سمعت
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يخطب في حجة الوداع وهو يقول: " ولواستعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب
الله فاسمعوا له وأطيعوا. " (2)
وفي رواية أخرى: " إن أمر عليكم عبد مجدع - حسبتها قالت أسود - يقودكم بكتاب
الله فاسمعوا له وأطيعوا. " (3)
والذي يسهل الخطب أن موضوع البحث منتف في أعصارنا.
الرابع: القرشية. وقدشرطها في الإمامة أكثر من تعرض للمسألة من علماء
السنة، كالماوردي، وأبي يعلى، والنووي، والفقه على المذاهب الأربعة وغيرهم، بل
ادعى كثير منهم الاتفاق عليها. نعم، في مقدمة ابن خلدون:

1 - الوسائل 5 / 400، الباب 16 من أبواب صلاة الجماعة.
2 - صحيح مسلم 3 / 1468، كتاب الإمارة، الباب 8 (باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية)،
الحديث 1838.
3 - صحيح مسلم 3 / 1468، كتاب الإمارة، الباب 8 (باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية).
373

" واختلف في شرط خامس، وهو النسب القرشي. " (1)
وأما نحن الإمامية القائلون بإمامة الأئمة الاثني عشر بالنص فكونهم -
عليهم السلام - من قريش من ولدها شم واضح. ولكن اشتراط القرشية في الحكام في
عصر الغيبة مما لا دليل عليه عندنا، بل لعله مقطوع العدم ولا سيما على القول بكون
الفقهاء منصوبين من قبل الأئمة (عليهم السلام) فإنهم يصيرون نظير مالك الأشتر وغيره من
المنصوبين من قبل أمير المؤمنين، ونظير العمال المنصوبين من قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
في عصره. نعم، مع تعدد الواجد للشرائط والتساوي فيها يمكن تفضيل الهاشمي على
غيره، كما قيل به في إمام الجماعة أيضا وإن لم نجد به دليلا.
وكيف كان فلنذكر بعض الأخبار المتعرضة لوصف القرشية في المقام مع بيان
المراد منها:
1 - ما في البحار عن العيون، عن الرضا (عليه السلام) عن آبائه (عليه السلام) قال: " قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" الأئمة من قريش. " (2)
2 - ما في نهج البلاغة: " إن الأئمة من قريش، غرسوا في هذا البطن من هاشم، لا تصلح
على سواهم ولاتصلح الولاة من غيرهم. " (3)
أقول: قوله: " في هذا البطن "، لعله إشارة إلى نفسه. والظاهر أن الحصر إضافي
بالنسبة إلى المدعين في قباله وقبال ولده المنصوصين. فليس ناظرا إلى الولاة في
عصر الغيبة. هذا.

1 - مقدمة ابن خلدون / 135، الفصل 26 من الفصل 3 من الكتاب الأول.
2 - بحار الأنوار 25 / 104، كتاب الإمامة، باب أن الأئمة من قريش...، الحديث 1، عن عيون أخبار
الرضا 2 / 63، الباب 31، الحديث 272.
3 - نهج البلاغة، فيض / 437; عبده 2 / 37; لح / 201، الخطبة 144.
374

وابن أبي الحديد المعتزلي لما رأى عدم موافقة كلامه - عليه السلام - هنا لمايعتقده
قال:
" إن المراد به كمال الإمامة، كما حمل قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا صلاة لجار المسجد إلا في
المسجد "، على نفي الكمال، لانفي الصحة. " (1)
وفيه انه خلاف الظاهر جدا، ولا سيما بملاحظة التعبير بقوله " لا تصلح ".
3 - ما في رواية عبد العزيز بن مسلم، عن الرضا (عليه السلام) في أوصاف الإمام: " وهو نسل
المطهرة البتول، لا مغمز فيه في نسب ولا يدانيه ذو حسب، في البيت من قريش والذروة من
هاشم والعترة من آل الرسول. " (2)
4 - ما في رواية طارق بن شهاب عن أمير المؤمنين: " فهو في الذروة من قريش و
الشرف من هاشم. " (3)
وأما الأخبار من طرق السنة فكثيرة وقدكانت مستمسكا في السقيفة للاحتجاج
على الأنصار وتخطئتهم حين قالوا " منا أمير ومنكم أمير. " منها:
5 - ما في صحيح مسلم عن أبي هريرة: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " الناس تبع لقريش في
هذا الشأن; مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافر هم تبع لكافرهم. " (4) ونحوه غيره. وفي حاشية
الكتاب قال:
" جملة الحديث وإن كانت خبرية لكنها بمعنى الأمر، أي ايتموا بقريش وكونوا
تبعا لهم. "
أقول: لا يخفى بطلان هذا الكلام. إذ لا معنى لأمره (صلى الله عليه وآله وسلم) كفار الناس بمتابعة

1 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9 / 88.
2 - بحار الأنوار 25 / 126، باب جامع في صفات الإمام و...، الحديث 4.
3 - بحار الأنوار 25 / 172، باب جامع في صفات الإمام و...، الحديث 38.
4 - صحيح مسلم 3 / 1451، كتاب الإمارة، الباب 1 (باب الناس تبع لقريش...)، الحديث 1818.
والحاشية من طبعة أخرى 6 / 2.
375

كفار قريش، فبقرينة الجملة الثانية يعلم كون كل منهما جملة خبرية. وليس الخبر
عاما لجميع الأعصار والأمصار، وإلا لكان كذبه واضحا، فالمراد الإخبار عن زمانه
وبيئته، نظير ما يقول أحدنا: الناس كذا وكذا، ويريد الإخبار عن الناس في عصره و
بيئته.
ويشهد لذلك ما رواه عبد الرزاق في المصنف عن الزهري، قال: قال رسول الله:
" الأنصار أعفة صبر. والناس تبع لقريش; مؤمنهم تبع لمؤمنهم، وفاجرهم تبع لفاجرهم. " (1)
فبقرينة المقابلة للأنصار يعرف أن المراد أن قريشا لقوتهم في الجسم والروح، أو
لشخصيتهم واعتبارهم بين الناس وكون سدانة الكعبة لهم يتقدمون قهرا ويصير
الأنصار تبعا لهم.
وكيف كان فلايستفاد من هذا الحديث حكم شرعي.
ونظيره ما رواه جابر بن عبد الله، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " الناس تبع لقريش في الخير و
الشر. " (2) لوضوح أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يأمر بالمتابعة في الشر، فليس الكلام إنشاء.
6 - وفي صحيح البخاري عن جابر بن سمرة، قال: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول:
" يكون اثنا عشر أميرا. " فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: إنه قال: " كلهم من قريش. " (3)
وفي الترمذي عن جابر بن سمرة، قال: قال رسول الله: " يكون من بعدي اثنا عشر
أميرا. " قال: ثم تكلم بشئ لم افهمه، فسألت الذي يليني، فقال: قال: " كلهم من
قريش. " (4)

1 - المصنف 11 / 55، باب فضائل قريش، الحديث 19894.
2 - صحيح مسلم 3 / 1451، كتاب الإمارة الباب 1 (باب الناس تبع لقريش...)، الحديث 1819.
3 - صحيح البخاري 4 / 248، كتاب الأحكام.
4 - سنن الترمذي 3 / 340، الباب 40 من كتاب الفتن، الحديث 2323.
376

وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة، قال دخلت مع أبي على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فسمعته
يقول: " إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة. " قال: ثم تكلم بكلام
خفي على، قال فقلت لأبي: ما قال؟ قال: " كلهم من قريش. "
وفي بعض رواياته: " لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا. "
وفي بعضها: " لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة. "
وفي بعضها: " لا يزال هذا الأمر عزيزا إلى اثني عشر خليفة. "
وفي بعضها: " لا يزال هذا الدين عزيزا منيعا إلى اثني عشر خليفة. "
وفي بعضها: " لا يزال الدين قائما حتى تقوم الساعة، أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة. "
وفي ذيل الجميع قوله: " كلهم من قريش " (1)
أقول: الراوي في جميع هذه الروايات هو جابر بن سمرة بن جندب، وكان مع
أبيه ولم يسمع الجملة الأخيرة بنفسه حتى رواها له أبوه. وربما نطمئن بعدم تعدد
الواقعة. فهي واقعة واحدة وانما اختلف النقل باختلاف الرواة عن جابر. والنقل
بالمعنى كان شائعا بين الرواة.
وبالجملة على فرض صحة الخبر لا يعرف عين الجملة الصادرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
فالمعتبر هو القدر المشترك منها.
واختلف الشراح في المراد من الرواية. فقيل: المراد بالاثني عشر خليفة:
مستحقوا الخلافة من أئمة العدل. وقيل الخلفاء الذين اجتمعت عليهم الأمة كلها. و
قيل غير ذلك. والظاهر هو الأول. وينطبق هذا الخبر على ما نذهب إليه من امامة
الأئمة الاثني عشر، المنصوص عليهم من قريش ومن بطن هاشم.
ولعل المقصود تكليف الناس بقبول إمامة الاثني عشر والتسليم لهم، فتأمل.

1 - صحيح مسلم 3 / 1452 و 1453، كتاب الإمارة، الباب 1 (باب الناس تبع لقريش...)، الحديث
1821 و 1822.
377

وكيف كان فلادلالة في الحديث على اعتبار القرشية في الفقيه العادل المنتخب في
عصر الغيبة، إذ الجملة ترتبط بالاثني عشر، فلا تدل على اعتبار القرشية في غيرهم.
7 - وما في غيبة النعماني عن البزاز بسنده، عن أنس بن مالك، قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لن يزال هذا الأمر قائما إلى اثني عشر قيما من قريش. " وروي أيضا
عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) نحو ذلك بعبارة أخرى. (1)
8 - وما في الغيبة أيضا عن عمر بن شيبة (عثمان بن أبى شبية خ. ل) بسنده، عن أبي
جحيفة، قال: كنت عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يخطب وعمي جالس بين يدي
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا يزال أمرنا صالحا حتى يصير اثنا عشر خليفة، كلهم من قريش. " (2) و
وزان هذين الخبرين أيضا وزان ما سبق.
9 - وما في مسلم عن عبد الله، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا يزال هذا الأمر في
قريش ما بقي من الناس اثنان. " (3) ورواه البخاري أيضا عن ابن عمر، إلا أنه قال: " ما
بقي منهم اثنان. " (4) والظاهر أن نقل مسلم أصح كما لا يخفى. وظاهر الجملة الخبر،
لاالإنشاء.
وعلى فرض صحة الخبر فهو ينطبق على مانعتقده من بقاء الإمام الثاني عشر حيا.
وفي أصول الكافي عن يونس بن يعقوب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول:
" لو لم يكن في الأرض إلا اثنان لكان الإمام أحدهما. " (5) بناء على كون المراد

1 - الغيبة للنعماني / 75 (= طبعة أخرى / 119)، الباب 6 (باب ما روي في الأئمة الاثني عشر من
طرق العامة).
2 - الغيبة للنعماني / 78 (= طبعة أخرى / 125)، الباب 6.
3 - صحيح مسلم 3 / 1452، كتاب الإمارة، الباب 1 (باب الناس تبع لقريش...)، الحديث 1820.
4 - صحيح البخاري 2 / 265، باب مناقب قريش.
5 - الكافي 1 / 180، كتاب الحجة، باب أنه لو لم يبق في الأرض إلا رجلان لكان أحدهما الحجة،
الحديث 5.
378

بالإمام فيه إمام الأصل المعصوم.
ولعل قوله (عليه السلام) في حديث الثقلين: " لن يتفرقا حتى يردا على الحوض "، أيضا دليل
على بقاء العترة ملازمة للكتاب إلى يوم اللقاء. فيكون الحديث من أدلة حياة
المهدي (عليه السلام) وبقائه، فتدبر.
10 - وما في الترمذي: كان ناس من ربيعة عند عمرو بن العاص، فقال رجل من
بكر بن وائل: لتنتهين قريش، أو ليجعلن الله هذا الأمر في جمهور من العرب غيرهم،
فقال عمرو بن العاص: كذبت، سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " قريش ولاة الناس في
الخير والشر إلى يوم القيامة. " (1)
وفيه أولا أن الراوي لا يعتمد عليه. وثانيا ما عرفت من أن ذكر الشر دليل على
عدم كون الجملة بمعنى الأمر، فيكون خبرا ولا محالة يجب تأويله بنحو وإلا يكون
كذبه واضحا. وثالثا أن خبرا آخر رواه قرينه: معاوية يكذب إطلاق هذا الخبر.
ففي البخاري عن محمد بن جبير بن مطعم أنه بلغ معاوية وهو عنده في وفد من
قريش أن عبد الله بن عمرو بن العاص يحدث أنه سيكون ملك من قحطان، فغضب
معاوية فقام فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد، فإنه بلغني أن رجالا منكم
يتحدثون أحاديث ليست في كتاب الله ولا تؤثر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأولئك
جهالكم. فإياكم والأماني التي تضل أهلها، فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " ان
هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ماأقاموا الدين. " (2) فقيده
بإقامتهم للدين.
وقدأطلنا البحث في المسألة من جهة اعتبار أكثر إخواننا السنة وصف القريشية
في الولاة إلى يوم القيامة.

1 - سنن الترمذي 3 / 342، الباب 42 من أبواب الفتن، الحديث 2328.
2 - صحيح البخاري 2 / 265، باب مناقب قريش.
379

ونحن نقول: إن الأئمة الاثني عشر من قريش ومن بطن هاشم، وهم
أمير المؤمنين وأولاده الأحد عشر (عليهم السلام). وأما الحكام في عصر الغيبة فهم نظير الحكام
المنصوبين من قبل رسول الله وأميرالمؤمنين لا يعتبر فيهم القرشية ولاالعصمة. نعم،
يشترط فيهم ما مر من الشروط. هذا.
ولكن في المصنف لعبد الرزاق عن معمر عن الزهري، عن سليمان بن أبي حثمة
أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " لاتعلموا قريشا وتعلموا منها، ولاتتقدموا قريشا ولاتتأخروا
عنها، فأن للقرشي قوة الرجلين من غيرهم، يعني في الرأي. " (1)
فلوصح سند الحديث وتم أمكن القول بلزوم تقديم القرشي أو رجحانه على غيره
على فرض تحقق سائر الصفات المعتبرة فيه. ويؤيد مضمون الحديث أن اليأس في
نسائهم يتحقق بعد الستين. والجسم والرأي توأمان غالبا في القوة والضعف. اللهم الا
أن يقال: إن ظاهر الحديث هو الإرشاد المحض، وليس بصدد بيان التكليف أو
الوضع، فتأمل.
الخامس: العصمة. فقد قال باعتبارها في الإمام أصحابنا الإمامية. ويستفاد
ذلك من أخبار كثيرة.
قال العلامة في كشف المراد - شرح تجريد الاعتقاد:
" ذهبت الإمامية والإسماعيلية إلى أن الإمام يجب أن يكون معصوما. وخالف فيه جميع
الفرق. والدليل على ذلك وجوه... " (2)
وقال في التذكرة ما حاصله:
" يجب أن يكون الإمام معصوما عند الشيعة. لأن المقتضي لوجوب الإمامة و
نصب الإمام جواز الخطأ على الأمة، فلا يجوز وقوع الخطأ منه وإلا لوجب أن يكون
له إمام آخر، ويتسلسل. فلهذا وجب أن يكون معصوما. ولأنه أوجب علينا

1 - المصنف 11 / 54، باب فضائل قريش، الحديث 19893.
2 - كشف المراد / 286، المسألة 2 من المقصد 5.
380

طاعته وامتثال أوامره، لقوله - تعالى -: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر
منكم. " فلو لم يكن معصوما لجاز أن يأمر بالخطأ; فإن وجب علينا اتباعه لزم الأمر
بالضدين وهو محال.
ويجب أن يكون منصوصا عليه من الله أو من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو ممن ثبتت إمامته
بالنص منهما، لأن العصمة من الأمور الخفية التي لا يمكن الاطلاع عليها، فلو لم يكن
منصوصا عليه لزم تكليف ما لا يطاق. " (1)
فاستدل على اعتبار العصمة في الإمام بوجهين، وجعل اعتبارها دليلا على كون
الإمامة بالنص. اشعارا برد المخالفين القائلين بانعقادها بالبيعة والانتخاب العمومي.
وقد كثر كلام الأصحاب في تفسير العصمة. وفي رواية عن علي بن الحسين (عليه السلام):
" قيل له يا بن رسول الله، فما معنى المعصوم؟ فقال: " هو المعتصم بحبل الله. وحبل الله
هو القرآن، لا يفترقان إلى يوم القيامة. " (2)
وفي رواية هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله: " المعصوم هو الممتنع بالله من جميع
محارم الله. وقد قال الله - تبارك وتعالى -: ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط
مستقيم. " (3)
أقول: البحث في عصمة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الاثني عشر، أو الأنبياء و
أوصيائهم بحث كلامي اعتقادي، وليس المقام مقام التعرض له. ونحن الشيعة
الإمامية نعتقد بذلك للإجماع والأخبار الكثيرة: ففي بعضها: " على (عليه السلام) والأئمة من
ولده معصومون. " وفي بعضها: " كاتبا علي (عليه السلام) لم يكتبا عليه ذنبا. " وفي بعضها " الإمام منا
لا يكون إلا معصوما. " وفي بعضها: " الأنبياء وأوصياؤهم لا ذنوب لهم لأنهم معصومون
مطهرون. " إلى غير ذلك من المضامين. (4) وليس بحثنا هنا في هذه الأمور.

1 - التذكرة 1 / 452 - 453.
2 - بحار الأنوار 25 / 194، كتاب الإمامة، باب عصمتهم ولزوم عصمة الإمام (عليه السلام)، الحديث 5.
3 - بحار الأنوار 25 / 194، باب عصمتهم ولزوم عصمة الإمام (عليه السلام)، الحديث 6.
4 - راجع بحار الأنوار 25 / 191 - 211، باب عصمتهم ولزوم عصمة الإمام (عليه السلام).
381

وإنما البحث في أنه هل تعتبر العصمة في والي المسلمين مطلقا أم لا؟ ولا يخفى
أنه لو قيل بذلك فكأنه صار نقضا وهدما لما أثبتناه إلى هنا من ثبوت الولاية للفقيه
العادل في عصر الغيبة.
ولا يصح الاستدلال لهذه المسألة المطلقة بتلك الأخبار المشار إليها، لاختصاصها
بالأنبياء وأوصيائهم والأئمة الاثني عشر، بل بالأخبار التي يستفاد منها اعتبار
العصمة في الإمام بنحو الاطلاق وأن الإمامة مقام شامخ إلهي تثبت بالنص لا
بالاختيار والانتخاب.
1 - فمن هذه الأخبار الخبر الطويل لعبد العزيز بن مسلم، رواه الكليني في أصول
الكافي، والصدوق في كتبه، وذكر في تحف العقول، وغيبة النعماني، والاحتجاج
أيضا باختلاف في بعض الالفاظ وذكره في البحار (1).
ففي الكافي: " أبو محمد القاسم بن العلا - رفعه - عن عبد العزيز بن مسلم، قال: كنا مع
الرضا (عليه السلام) بمرو فاجتمعنا في الجامع يوم الجمعة في بدء مقدمنا، فأداروا أمر الإمامة، وذكروا
كثرة الاختلاف فيها، فدخلت على سيدي (عليه السلام) فأعلمته خوض الناس فيه، فتبسم (عليه السلام) ثم قال:
" يا عبد العزيز، جهل القوم وخدعوا عن آرائهم. ان الله - عز وجل - لم يقبض نبيه حتى أكمل
له الدين... وأقام لهم عليا (عليه السلام) علما وإماما. وما ترك لهم شيئا يحتاج إليه الأمة إلا بينه. فمن
زعم أن الله - عزوجل - لم يكمل دينه فقد رد كتاب الله، ومن رد كتاب الله فهو كافر به. هل
يعرفون قدر الإمامة ومحلها من الأمة فيجوز فيها اختيارهم؟! إن الإمامة أجل قدرا وأعظم
شأنا وأعلا مكانا وأمنع جانبا وأبعد غورا من أن يبلغها الناس بعقولهم أو ينالوها بآرائهم أو
يقيموا إماما باختيارهم... فهي في ولد علي (عليه السلام) خاصة إلى يوم القيامة، إذ لا نبي بعد
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فمن

1 - راجع الأمالي للصدوق / 536 - 540، المجلس 97، الحديث 1; وعيون أخبار الرضا 1 / 216
- 222، الباب 20، الحديث 1; وكمال الدين / 675 - 681 (الجزء 2)، الباب 58، الحديث 31; و
معاني الاخبار / 96 - 101، باب معنى الإمام المبين، الحديث 2; وتحف العقول / 436 - 442; و
الغيبة للنعماني / 145 - 149 (= طبعة أخرى / 216 - 224)، الباب 13 (باب ما روي في صفته...)،
الحديث 6; والاحتجاج / 238 - 240 (الجزء 2)، (= طبعة أخرى 2 / 226 - 230); وبحار الأنوار
25 / 120 - 128 كتاب الإمامة، باب جامع في صفات الإمام... الحديث 4.
382

أين يختار هؤلاء الجهال؟ إن الإمامة هي منزلة الأنبياء وارث الأوصياء. إن الإمامة
خلافة الله وخلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومقام أمير المؤمنين وميراث الحسن والحسين -
عليهما السلام -. إن الإمامة زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح الدنيا وعز المؤمنين. إن
الإمامة أس الإسلام النامي وفرعه السامي. بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج و
الجهاد، وتوفير الفيء والصدقات، وإمضاء الحدود والأحكام، ومنع الثغور والأطراف.
الإمام يحل حلال الله ويحرم حرام الله، ويقيم حدود الله ويذب عن دين الله، ويدعو إلى
سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة البالغة. الإمام كالشمس الطالعة المجللة
بنورها للعالم... الإمام أمين الله في خلقه وحجته على عباده وخليفته في بلاده، والداعي
إلى الله والذاب عن حرم الله. الإمام المطهر من الذنوب والمبرأ عن العيوب، المخصوص
بالعلم، الموسوم بالحلم. نظام الدين وعز المسلمين وغيظ المنافقين وبوار الكافرين. الإمام
واحد دهره; لا يدانيه أحد ولا يعادله عالم ولا يوجد منه بدل ولاله مثل ولا نظير. مخصوص
بالفضل كله من غير طلب منه له ولا اكتساب، بل اختصاص من المفضل الوهاب. فمن ذا
الذي يبلغ معرفة الإمام أو يمكنه اختياره... فأين الاختيار من هذا وأين العقول عن هذا؟ و
أين يوجد مثل هذا؟! أتظنون أن ذلك يوجد في غير آل الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كذبتهم والله
أنفسهم ومنتهم الأباطيل... رغبوا عن اختيار الله واختيار رسول الله وأهل بيته إلى
اختيارهم، والقرآن يناديهم: " وربك يخلق ما يشاء ويختار. ما كان لهم الخيرة، سبحان الله و
تعالى عما يشركون. " (1) وقال - عزوجل -: " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله و
رسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم. " (2)... فكيف لهم باختيار الإمام؟ والإمام عالم
لا يجهل، وراع لا ينكل، معدن القدس والطهارة والنسك والزهادة والعلم والعبادة،
مخصوص بدعوة الرسول ونسل المطهرة البتول، لا مغمز فيه في نسب ولا يدانيه ذو حسب،
فالبيت من قريش والذروة من هاشم والعترة من الرسول والرضا من الله - عزوجل -،
شرف الأشراف والفرع من عبد مناف. نامي العلم، كامل الحلم، مضطلع بالإمامة، عالم
بالسياسة، مفروض الطاعة، قائم بأمر الله - عزوجل -، ناصح لعباد الله، حافظ لدين الله... و
إن العبد إذا اختاره الله - عزوجل - لأمور عباده شرح صدره لذلك، وأودع قلبه ينابيع
الحكمة، وألهمه العلم إلهاما فلم يعي بعده بجواب ولا يحير فيه عن الصواب. فهو معصوم
مؤيد موفق مسدد قد أمن من الخطايا والزلل

1 - سورة القصص (28)، الآية 68.
2 - سورة الأحزاب (33)، الآية 36.
383

والعثار، يخصه الله بذلك ليكون حجة على عباده وشاهده على خلقه. وذلك فضل الله
يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. فهل يقدرون على مثل هذا فيختارونه أو يكون
مختارهم بهذه الصفة فيقدمونه؟ الحديث. " (1)
2 - وفي خبر سليمان بن مهران، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " عشر خصال من صفات
الإمام: العصمة، والنصوص، وأن يكون أعلم الناس وأتقاهم لله، وأعلمهم بكتاب الله، وأن
يكون صاحب الوصية الظاهرة، ويكون له المعجز والدليل... " (2)
3 - وفي خبر العياشي، عن أبي عمرو الزبيري، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " ان مما
استحقت به الإمامة التطهير والطهارة من الذنوب والمعاصي الموبقة التي توجب النار، ثم
العلم المنور بجميع ما يحتاج إليه الأمة من حلالها وحرامها، والعلم بكتابها... " (3)
4 - وعن تفسير النعماني، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " والإمام المستحق للإمامة له
علامات. فمنها أن يعلم أنه معصوم من الذنوب كلها، صغيرها وكبيرها، لا يزل في الفتيا و
لا يخطئ في الجواب، ولا يسهو، ولا ينسى، ولا يلهو بشئ من أمر الدنيا. " (4)
5 - وفي خبر سليم بن قيس، قال سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: " إنما الطاعة لله -
عزوجل - ولرسوله ولولاة الأمر، وإنما أمر بطاعة أولي الأمر لأنهم معصومون مطهرون
لا يأمرون بمعصية. " (5)
6 - وفي خبر العيون فيما كتب الرضا (عليه السلام) للمأمون: " لا يفرض الله - تعالى - طاعة من
يعلم انه يضلهم ويغويهم... " (6)

1 - الكافي 1 / 198، كتاب الحجة، باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته، الحديث 1.
2 - بحار الأنوار 25 / 140، كتاب الإمامة، باب جامع في صفات الإمام و... الحديث 12.
3 - بحار الأنوار 25 / 149، باب جامع في صفات الإمام و... الحديث 24.
4 - بحار الأنوار 25 / 164، باب جامع في صفات الإمام و... ذيل الحديث 32.
5 - بحار الأنوار 25 / 200، باب عصمتهم ولزوم عصمة الإمام (عليه السلام)، الحديث 11.
6 - بحار الأنوار 25 / 199، باب عصمتهم ولزوم عصمة الإمام (عليه السلام)، الحديث 9.
384

7 - وفي خبر الخصال: " قوله - عزوجل -: لا ينال عهدي الظالمين (1)، عنى به أن
الإمامة لا تصلح لمن قد عبد صنما أو وثنا، أو أشرك بالله طرفة عين وإن أسلم بعد ذلك. و
الظلم وضع الشئ في غير موضعه. وأعظم الظلم الشرك. قال الله - عزوجل -: إن الشرك
لظلم عظيم. (2)
وكذلك لا تصلح الإمامة لمن قد ارتكب من المحارم شيئا، صغيرا كان أو كبيرا وإن تاب
منه بعد ذلك. وكذلك لا يقيم الحد من في جنبه حد. فإذا لا يكون الإمام إلا معصوما. ولا تعلم
عصمته إلا بنص الله - عزوجل - عليه على لسان نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن العصمة ليست في ظاهر
الخلقة فترى كالسواد والبياض وما أشبه ذلك. وهي مغيبة لا تعرف إلا بتعريف علام الغيوب
- عز وجل -. " (3)
أقول: الخبر الأخير وقع في ذيل خبر طويل رواه الصدوق في أبواب الخمسة من
الخصال عن مفضل بن عمر، عن الصادق (عليه السلام) والظاهر كون قطعة كبيرة من آخر الخبر
من كلام الصدوق لامن الرواية، كما ذكر في حاشية الخصال أيضا. (4)
وما ذكرناه هنا أيضا من هذه القطعة، فراجع.
وأما سائر الأخبار التي ذكرناها فمحصل الكلام فيها أن لفظ الإمام كما مر سابقا
بمشتقاته كأنه مأخوذ من كلمة الأمام بفتح الهمزة، فيراد به من يكون أمام الإنسان
حقيقة أو اعتبارا، ويكون قدوة له في صلاته أو حجه أو جميع أموره.
ولا محالة طبع القدوة يقتضي أن يكون معصوما من الخطأ والعصيان حتى يصح
الأمر بإطاعته بنحو الإطلاق. والعصمة وسائر الفضائل النفسية مما لا يطلع عليها
غالبا إلا الباري - تعالى - أو نبيه بالوحي. فالإمام لا يكون إلا منصوبا من قبل الله -
تعالى -، منصوصا عليه. والمنصوب من قبل الله - تعالى - للإمامة مباشرة لا يكون إلا
معصوما. وهذا هو المراد بالأخبار المذكورة ولا سيما خبر عبد العزيز الطويل.

1 - سورة البقرة (2)، الآية 124.
2 - سورة لقمان (31)، الآية 13.
3 - بحار الأنوار 25 / 199، باب عصمتهم ولزوم عصمة الإمام (عليه السلام) الرقم 10، عن الخصال.
4 - الخصال / 305.
385

ولكن هنا ملاحظة أخرى، وهي أن أصول مسؤوليات الإمام وتكاليفه ثلاثة:
1 - بيان أحكام الله - تعالى - وحفظها من البدع والأوهام. 2 - حفظ نظام
المسلمين على أساس الإسلام وإجراء أحكام الإسلام وقوانينه. 3 - إدارة أمر القضاء
وفصل الخصومات.
وقد تعرض في خبر عبد العزيز للأول بقوله: " الإمام يحلل حلال الله، ويحرم حرام
الله. " وللثاني بقوله: " نظام المسلمين، " إلى قوله: " ومنع الثغور والأطراف. " وذكر
الثالث في خبر سليمان بن خالد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " اتقوا الحكومة، فإن
الحكومة إنما هي للإمام العالم بالقضاء، العادل في المسلمين: لنبي (كنبي) أو وصى
نبي. " (1)
فهذه الثلاثة من شؤون الإمام. والإمام هو المرجع فيها أولا وبالذات. وأنت تعلم
أن كل واحد من هذه الشؤون الثلاثة اتسعت دائرته بسعة أراضي الإسلام وبلاده. و
الإمام المنصوب حتى في عصر الظهور أيضا لم يكن يتمكن من المباشرة لجميع
الأعمال. ولا يمكن الالتزام بتعطيلها أيضا لذلك. فلا محالة يفوض كل أمر إلى شخص
أو مؤسسة.
وقد دلت أخبار كثيرة على إحالة الفتيا إلى مثل أبان بن تغلب، وزكريا بن آدم، و
العمري، وابنه وغيرهم من فقهاء الأصحاب.
وكذلك أمر القضاء، كما دلت عليه مقبولة عمر بن حنظلة وغيرها. بل السياسة
بشؤونها أيضا كذلك. فمالك الأشتر مثلا نصب حاكما على مصر من قبل
أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد أمره (عليه السلام) بتفويض كل عمل إلى أهله من العمال والقضاة، و
لم يكن مالك وسائر الأصحاب معصومين.
فكذلك لا مانع من تفويض الأعمال الثلاثة في عصر الغيبة إلى الفقهاء العدول. و
الأصحاب لا يخالفون في جواز تصدي الفقهاء لمنصبي الفتيا والقضاء في عصر الغيبة،
بل يوجبون ذلك مع تطرق احتمال الخطأ وتسر به إلى ما يصدر عنهم أيضا وعدم
كونهم معصومين. فلم لا يلتزمون بذلك في حفظ النظام والسياسة؟

1 - الوسائل 18 / 7، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.
386

وقد قال الإمام (عليه السلام) في هذا الخبر: " إن الإمامة زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح
الدنيا وعز المؤمنين. إن الإمامة أس الإسلام النامي وفرعه السامي. بالإمام تمام الصلاة و
الزكاة والصيام والحج والجهاد، وتوفير الفيء والصدقات، وإمضاء الحدود والأحكام و
منع الثغور والأطراف. "
فهل يمكن الالتزام بتعطيل جميع ذلك في عصر الغيبة وأن الله - تعالى - أعرض
عن نظام المسلمين وصلاح الدنيا وعز المؤمنين وإقامة الفرائض ومنع الثغور و
الأطراف بسبب غياب الإمام المعصوم؟!
وكيف يجوز للفقهاء العدول الأقوياء أن يتركوا المسلمين مأسورين تحت سيطرة
عملاء الكفر والفساد والصهاينة الطغاة، ولا يوجبون الإقدام على نجاتهم بعذر
الانتظار لدولة ولى العصر (عليه السلام)؟! وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام): " أخذ الله على العلماء أن
لا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم. " (1)
وقد ورد أن موسى بن جعفر (عليه السلام) قال لعلى بن يقطين: " إن لله - تبارك وتعالى - مع
السلطان أولياء يدفع بهم عن أوليائه. " (2) وكان وزيرا لهارون فكتب إلى الإمام (عليه السلام): " إن
قلبي يضيق مما أنا عليه من عمل السلطان، فإن أذنت - جعلني الله فداك - هربت
منه. " فرجع الجواب: " لا آذن لك بالخروج من عملهم، واتق الله. " (3)
وقال زيد الشحام: سمعت الصادق، جعفر بن محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " من تولى أمرا من
أمور الناس فعدل وفتح بابه ورفع ستره ونظر في أمور الناس كان حقا على الله أن يؤمن
روعته يوم القيامة ويدخله الجنة. " (4)
فنقول: لو فرض أن أمثال علي بن يقطين العاملين في حكومات الظلمة تمكنوا من
هدم حكومة أمثال هارون من أساسها والقيام مقامهم لغرض إشاعة العدل

1 - نهج البلاغة، فيض / 52; عبده 1 / 32; لح / 50، الخطبة 3.
2 - الوسائل 12 / 139، الباب 46 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.
3 - الوسائل 12 / 143، الباب 46 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 16.
4 - الوسائل 12 / 140، الباب 46 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 7.
387

والدفع عن أولياء الله ورفع الفساد، فهل يمكن القول بعدم جواز ذلك لعدم كونهم
معصومين، وأنه إنما يجب عليهم البقاء تحت سيطرة هارون وأمثاله من الظالمين و
المفسدين فقط ليدفعوا خفية وتقية عن بعض الأولياء؟! لا نظن أن أحدا يلتزم بذلك.
فالحق أن يقال: إنه مع وجود الإمام المعصوم والتمكن منه لا يجوز لغيره تقمص
الخلافة والإمارة قطعا، وعلى هذه الصورة تحمل الأخبار المذكورة ولكن مع عدم
التمكن منه - بأي دليل كان، كما في عصر الغيبة - يجب أن ينوب عنه الفقهاء العدول
الأقوياء بقدر الكفاية، لعدم رضا الله - تعالى - بتعطيل شؤون الإمامة.
بل قد عرفت منا سابقا أن حفظ بيضة الإسلام ونظام المسلمين أهم بمراتب من
حفظ أموال الغيب والقصر وغير ذلك من الأمور الحسبية الجزئية التي يعلم بعدم
رضا الشارع بإهمالها. وقد أفتي الفقهاء بالتصدي لها من قبل الفقيه، فإن لم يكن
فعدول المؤمنين، بل وفساقهم أيضا مع عدم العدول. فالحكم ثابت بنحو الترتيب.
وقد اشعر خبر سليم، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أيضا بهذا الترتيب. ففيه: " والواجب في
حكم الله وحكم الإسلام على المسلمين بعد ما يموت إمامهم أو يقتل... أن لا يعملوا عملا و
لا يحدثوا حدثا ولا يقدموا يدا ورجلا ولا يبدؤوا بشئ قبل أن يختاروا لأنفسهم إماما عفيفا
عالما ورعا عارفا بالقضاء والسنة يجمع أمرهم... هذا أول ما ينبغي أن يفعلوه: أن يختاروا
إماما يجمع أمرهم إن كانت الخيرة لهم ويتابعوه ويطيعوه، وإن كانت الخيرة إلى الله -
عزوجل - والى رسوله فإن الله قد كفاهم النظر في ذلك والاختيار. " (1)
إذ يظهر من الرواية تقدم الإمام المعصوم الذي اختاره الله، ولكن مع عدم التمكن
منه - بأي دليل كان - فالإمامة وأحكامها لا تعطل، ولا تفوض أمور المسلمين و
كيانهم إلى الكفار والصهاينة والطواغيت العتاة. بل تصل النوبة إلى الإمام المنتخب
من قبل الأمة، ويجب الإقدام على اختياره وانتخابه بشرائطه، فتدبر.

1 - كتاب سليم بن قيس / 182.
388

فإن قلت: خطأ العمال والقضاة واشتباهاتهم في عصر الإمام المعصوم تجبر من
ناحية الإمام المعصوم بعد انكشاف الخلاف والخطأ، فلعل هذا هو الفارق بينهم وبين
الفقيه في عصر الغيبة.
قلت: خطأ الفقيه وعماله أيضا يجبر بعد الانكشاف، إذ المفروض عدالة الفقيه و
حسن ولايته.
وكيف كان: فالأخبار الدالة على لزوم عصمة الإمام لا تهدم ما أصلناه وأثبتناه
من ولاية الفقيه العادل في عصر الغيبة، بل هو في الحقيقة نائب عن الإمام المعصوم
الغائب وإن فرض كون انتخاب شخصه مفوضا إلى الأمة. كما كان مالك الأشتر مثلا
نائبا عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ومفترضا طاعته في نطاق حكومته. والعصمة إنما تكون
شرطا في خصوص المنصوب من قبل الله أو من قبل النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) مباشرة باسمه
وشخصه. فعليك بالتدبر التام في ما حررناه دليلا على دوام الإمامة بالمعنى الأعم، و
عدم جواز تعطيلها في عصر من الأعصار.
السادس: كون الإمام منصوصا عليه. فقد قال باعتبار هذا الشرط أيضا
أصحابنا الإمامية، ودلت عليه أخبارنا.
قال المحقق الطوسي " ره " في التجريد بعد اشتراط العصمة في الإمام:
" والعصمة تقتضي النص وسيرته. "
وقال العلامة الحلي " ره " في شرحه:
" ذهبت الإمامية خاصة إلى أن الإمام يجب أن يكون منصوصا عليه. وقالت
العباسية إن الطريق إلى تعيين الإمام النص أو الميراث. وقالت الزيدية تعيين الإمام
بالنص أو الدعوة إلى نفسه. وقال باقي المسلمين: الطريق إنما هو النص أو اختيار
أهل الحل والعقد. والدليل على ما ذهبنا إليه وجهان:
الأول: أنا قد بينا أنه يجب أن يكون الإمام معصوما، والعصمة أمر خفى لا يعلمها
389

الا الله - تعالى -، فيجب أن يكون نصبه من قبله - تعالى -، لأنه العالم بالشرط دون
غيره.
الثاني: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان أشفق على الناس من الوالد على ولده، حتى أنه (عليه السلام)
أرشدهم إلى أشياء لا نسبة لها إلى الخليفة بعده، كما أرشدهم في قضاء الحاجة إلى
أمور كثيرة مندوبة وغيرها من الوقائع. وكان - عليه وعلى آله السلام - إذا سافر عن
المدينة يوما أو يومين استخلف فيها من يقوم بأمر المسلمين. ومن هذه حاله كيف
ينسب إليه إهمال أمته وعدم إرشادهم في أجل الأشياء وأسناها وأعظمها قدرا و
أكثرها فائدة وأشد حاجة إليها، وهو المتولي لأمورهم بعده؟! فوجب من سيرته (صلى الله عليه وآله وسلم)
نصب إمام بعده والنص عليه وتعريفهم إياه، وهذا برهان لمي. " (1)
وقال فيما مر عنه من التذكرة في شروط الإمام:
" 13 - أن يكون منصوصا عليه من الله - تعالى -، أو من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو ممن ثبتت
إمامته بالنص منهما، لأن العصمة من الأمور الخفية التي لا يمكن الاطلاع عليها.
فلو لم يكن منصوصا عليه لزم تكليف ما لا يطاق. " (2)
وأما الأخبار في هذه المسألة: 1 - فمنها رواية عبد العزيز بن مسلم الطويلة
التي مرت في مسألة اعتبار العصمة، عن الرضا (عليه السلام) وفيها: " وأقام لهم عليا (عليه السلام) علما و
إماما وما ترك لهم شيئا يحتاج إليه الأمة إلا بينه. فمن زعم أن الله - عزوجل - لم يكمل دينه
فقد رد كتاب الله، ومن رد كتاب الله فهو كافر به. هل يعرفون قدر الإمامة ومحلها من الأمة
فيجوز فيها اختيارهم؟ إن الإمامة أجل قدرا وأعظم شأنا وأعلا مكانا وأمنع جانبا وأبعد غورا
من أن يبلغها الناس بعقولهم أو ينالوها بآرائهم أو يقيموا إماما باختيارهم. إن الإمامة خص
الله - عزوجل - بها إبراهيم الخليل (عليه السلام) بعد النبوة... فهي في ولد علي (عليه السلام) خاصة إلى يوم
القيامة. إذ لا نبي بعد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فمن أين يختار هؤلاء الجهال؟... الإمام واحد دهره،
لا يدانيه أحد ولا يعادله عالم

1 - تجريد الاعتقاد وشرحه كشف المراد / 288، المسألة 4 من المقصد 5.
2 - التذكرة 1 / 453.
390

ولا يوجد منه بدل ولاله مثل ولا نظير. مخصوص بالفضل كله من غير طلب منه له و
لا اكتساب، بل اختصاص من المفضل الوهاب، فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام أو يمكنه
اختياره؟!... وكيف يوصف بكله أو ينعت بكنهه أو يفهم شئ من أمره أو يوجد من يقوم
مقامه ويغني غناه. لا، كيف وأنى وهو بحيث النجم من يد المتناولين ووصف الواصفين؟
فأين الاختيار من هذا وأنى العقول عن هذا وأين يوجد مثل هذا؟ أتظنون أن ذلك يوجد في
غير آل الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)... راموا إقامة الإمام بعقول حائرة بائرة ناقصة وآراء مضلة، فلم
يزدادوا منه إلا بعدا... رغبوا عن اختيار الله واختيار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته إلى
اختيارهم والقرآن يناديهم: " وربك يخلق ما يشاء ويختار. ما كان لهم الخيرة، سبحان الله و
تعالى عما يشركون. " وقال - عزوجل -: " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله
أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم. "... فكيف لهم باختيار الإمام؟ والإمام عالم لا يجهل
وراع لا ينكل... فهو معصوم مؤيد موفق مسدد، قد أمن من الخطايا والزلل والعثار. يخصه
الله بذلك ليكون حجة على عباده وشاهده على خلقه. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله
ذو الفضل العظيم، فهل يقدرون على مثل هذا فيختارونه أو يكون مختارهم بهذه الصفة
فيقدمونه؟ " (1)
2 - وفي البحار عن العيون بسنده عن الحسن بن الجهم، قال: حضرت مجلس
المأمون يوما وعنده علي بن موسى الرضا (عليه السلام) وقد اجتمع الفقهاء وأهل الكلام من
الفرق المختلفة، فسأله بعضهم فقال له: " يا بن رسول الله، بأي شئ تصح الإمامة
لدعيها؟ " قال: " بالنص والدلائل. " (2)
3 - وفيه أيضا عن الخصال بسنده عن سليمان بن مهران، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
" عشر خصال من صفات الإمام: العصمة، والنصوص (والنص خ. ل)، وأن يكون أعلم الناس
وأتقاهم لله، وأعلمهم بكتاب الله، وأن يكون صاحب الوصية الظاهرة... " (3)

1 - الكافي 1 / 198، كتاب الحجة، باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته، الحديث 1.
2 - بحار الأنوار 25 / 134، باب جامع في صفات الإمام و... من كتاب الإمامة، الحديث 6.
3 - بحار الأنوار 25 / 140، باب جامع في صفات الإمام و... الحديث 12.
391

4 - وفيه أيضا عن معاني الأخبار بسنده، عن أبي الجارود، قال: سألت أبا جعفر
الباقر (عليه السلام) بم يعرف الإمام؟ قال بخصال: أولها نص من الله - تبارك وتعالى - عليه ونصبه
علما للناس حتى يكون عليهم حجة، لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نصب عليا... " (1)
5 - وفيه أيضا عن معاني الأخبار أيضا بسنده عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال:
" الإمام منا لا يكون إلا معصوما. وليست العصمة في ظاهر الخلقة فيعرف بها، فلذلك
لا يكون إلا منصوصا. " (2)
6 - وفيه أيضا عن الاحتجاج، عن سعد بن عبد الله القمي، قال: " سألت القائم (عليه السلام)
في حجر أبيه، فقلت: أخبرني يا مولاي عن العلة التي تمنع القوم من اختيار إمام
لأنفسهم. قال: مصلح أو مفسد؟ قلت: مصلح. قال: " هل يجوز أن تقع خيرتهم على المفسد
بعد أن لا يعلم أحد ما يخطر ببال غيره من صلاح أو فساد؟ " قلت: بلى. قال: فهي العلة. "
الحديث. " (3)
7 - وفيه أيضا عن الصدوق في كمال الدين بسنده عن عمرو بن الأشعث، قال:
سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " أترون الأمر إلينا نضعه حيث نشاء؟ كلا، والله إنه لعهد
معهود من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى رجل فرجل، حتى ينتهي إلى صاحبه. " (4)
8 - وفيه أيضا عن المناقب، عن محمد بن سنان، عن الصادق (عليه السلام) في قوله: " يخلق
ما يشاء ويختار "، قال: " اختار محمدا وأهل بيته. " (5)
9 - وفيه أيضا عن المناقب، عن أنس، قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن الله خلق آدم من طين
كيف يشاء، ثم قال: " ويختار. " إن الله اختارني وأهل بيتي على جميع الخلق فانتجبنا،
فجعلني

1 - بحار الأنوار 25 / 141، باب جامع في صفات الإمام و... الحديث 13.
2 - بحار الأنوار 25 / 194، باب عصمتهم ولزوم عصمة الإمام (عليه السلام)، الحديث 5.
3 - بحار الأنوار 23 / 68، كتاب الإمامة، باب أن الإمامة لا تكون إلا بالنص، الحديث 3.
4 - بحار الأنوار 23 / 70، باب أن الإمامة لا تكون إلا بالنص، الحديث 7.
5 - بحار الأنوار 23 / 74، باب أن الإمامة لا تكون إلا بالنص، الحديث 22.
392

الرسول وجعل علي بن أبي طالب (عليه السلام) الوصي، ثم قال: " ما كان لهم الخيرة. " يعني
ما جعلت للعباد أن يختاروا. ولكني أختار من أشاء فأنا وأهل بيتي صفوة الله وخيرته من
خلقه. (1)
10 - وفيه أيضا عن الخصال بسنده، عن المفضل، عن الصادق (عليه السلام) قال: قلت له:
يا بن رسول الله، كيف صارت الإمامة في ولد الحسين (عليه السلام) دون ولد الحسن (عليه السلام) وهما
جميعا ولدا رسول الله وسبطاه وسيدا شباب أهل الجنة؟ فقال: " إن موسى وهارون (عليهما السلام)
كانا نبيين مرسلين أخوين، فجعل الله النبوة في صلب هارون دون صلب موسى، ولم يكن
لأحد أن يقول: لم فعل الله ذلك؟ وإن الإمامة خلافة الله - عزوجل -، ليس لأحد أن يقول: لم
جعلها الله في صلب الحسين دون صلب الحسن، لأن الله هو الحكيم في أفعاله; لا يسأل عما
يفعل وهم يسألون. " (2) إلى غير ذلك من الاخبار المساوقة لما ذكر.
أقول: بالتأمل التام في الروايات المذكورة وغيرها، وفي كلمات الأصحاب التي
مر بعضها يظهر أن النص إنما اعتبر طريقا إلى تشخيص العصمة وسائر الكمالات و
المقامات العالية المعنوية الخفية التي لا يطلع عليها إلا الله - تعالى -. ولا توجد إلا في
الإمام المعصوم، أعني الأئمة الاثني عشر من العترة المعينين بالاسم والشخص.
فلا دليل على اعتباره في الفقهاء العدول الذين أثبتنا ولايتهم في عصر الغيبة
إجمالا.
كما لم نعتبر فيهم العصمة أيضا، كما مر بيانه.
بل الظاهر من لفظ النص ليس إلا تعيين الفرد باسمه وشخصه. فلا يطلق على الفقيه
العادل على فرض القول بنصبه بالنصب العام أيضا أنه إمام منصوص عليه.
كما أن الظاهر من اختيار الله واختيار رسوله أيضا اختيار الأشخاص المعينين.
اسما وشخصا، كأمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمة الطاهرين من ولده، كما يظهر من خبر ابن
سنان وخبر انس. ولو قيل باعتبار ذلك في عصر الغيبة أيضا كان مقتضاه تعطيل
الحكومة بالكلية، لوضوح أن تعيين الأشخاص واختيارها من بين الواجدين

1 - بحار الأنوار 23 / 74، باب أن الإمامة لا تكون إلا بالنص، ذيل الحديث 22.
2 - بحار الأنوار 23 / 70، باب ان الإمامة لا تكون إلا بالنص، الحديث 6.
393

للشرائط في عصر الغيبة لا يقع من قبل الله أو رسوله أو الأئمة (عليهم السلام) وإنما الذي يقع
من قبلهم بيان المواصفات المعتبرة فيهم، والتشخيص يقع من قبل الأمة أو خبرائها،
كما هو واضح.
وعمدة النظر في خبر عبد العزيز بن مسلم الطويل وكذا غيره هو رد العامة،
الراغبين عن اختيار الله ورسوله لأمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمة المعصومين من ولده. كما
يشهد بذلك قوله: " رغبوا عن اختيار الله واختيار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأهل بيته إلى
اختيارهم "، وقوله: " فهو معصوم مؤيد " إلى قوله: " فهل يقدرون على مثل هذا فيختارونه أو
يكون مختارهم بهذه الصفة فيقدمونه؟ "
وقد تقدم منا: ويأتي التفصيل أن انتخاب الأمة على القول بصحته إنما يفيد إذا
لم يوجد النص. فإن اختيار الله واختيار رسوله مقدم على اختيار الأمة قطعا.
والصفات التي ذكرت في الخبر للإمام لا توجد إلا في الإمام المعصوم المنصوب
بالاسم والشخص. كما هو واضح لمن راجعها.
والفقهاء العدول على فرض كونهم منصوبين من قبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو من قبل الأئمة
المعصومين (عليهم السلام) بالنصب العام لا محيص فيهم عن الانتخاب والخيرة إذا تعددوا في
عصر واحد. إذ مع التعدد والتساوي في جميع الصفات تكون الأمة مخيرة في
الرجوع إلى من تختاره من بينهم. كما ذكروا نظيره في باب القضاء في القضاة
المتعددين الواجدين للشرائط.
وبالجملة، فالروايات والكلمات مرتبطة بالإمامة بالمعنى الأخص عند الشيعة،
المرتبطة بالأشخاص، لا الإمامة بالمعنى الأعم التي لا يجوز تعطيلها وإهمال أمرها
في عصر من الأعصار. فكما لا يشترط فيها العصمة - كما مر - لا يشترط النص الذي
هو طريق لتشخيصها أيضا.
وعليك بإعادة النظر فيما ذكرناه لنفي اعتبار العصمة في الإمامة بالمعنى الأعم،
حيث بينا هناك أن شؤونها الثلاثة، أعني الإفتاء والولاية والقضاء، لا تهمل
394

ولا تعطل في عصر الغيبة. مع أن المتصدي لها ليس معصوما ولا منصوصا
عليه.
وإن شئت قلت: الفقهاء في عصر الغيبة صالحون لنيابة ولي العصر - عجل الله
تعالى فرجه -، كنيابة مالك الأشتر وأمثاله من أمير المؤمنين (عليه السلام) ولكن لما لم يمكن
تعيينهم واختيارهم بالاسم والشخص، ولم يجز تعطيل الإمامة وإهمالها ذكر الأئمة -
عليهم السلام - الصفات والشرائط، وأحالوا تعيين واجدها وانتخاب فرد من بين
الواجدين إلى الأمة أو خبرائها. فالواجدون للصفات كلهم صالحون للإمامة، ولكن
الإمام بالفعل هو الذي انتخبته الأمة من بينهم. فبالانتخاب يصير الشخص إماما
بالفعل واجب الإطاعة، فتأمل.
395

الباب الخامس
في كيفية تعيين الوالي وانعقاد الإمامة
وفيه ستة فصول:
397

الفصل الأول
في ذكر الأقوال في المسألة ونقل بعض الكلمات
اعلم أنه قد مر في الباب الأول أن الأصل عدم ولاية أحد على أحد.
وفي الباب الثاني بحث إجمالي في ولاية النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة
المعصومين (عليهم السلام) عندنا.
وفي الباب الثالث مرور إجمالي بأبواب فقه الإسلام ورواياته المذكور فيها لفظ
الإمام أو الوالي أو السلطان أو نحو ذلك، ثم بيان ضرورة الولاية في جميع الأعصار و
ما يمكن أن يستدل به لذلك.
وفي الباب الرابع الشروط التي تعتبر في الوالي عقلا أو شرعا كتابا أو سنة. فالآن
يجب البحث فيما تنعقد به الإمامة، وكيفية تعيين الوالي.
وليس غرضنا هنا الرجوع إلى مسائل صدر الإسلام وطرح مسألة الإمامة و
الخلافة المختلف فيها بين الفريقين. فإنها مسألة كلامية تطلب من مظانها. بل الغرض
هنا البحث في كيفية تعيين الوالي في عصر الغيبة إذا فرض تعدد الواجد للشرائط.
ولكن نقل بعض ما ذكروه من طرق انعقاد الإمامة مما لا محيص عنه، لتوقف
البحث على معرفة ذلك. فنقول:
399

1 - قال الماوردي في الأحكام السلطانية:
" والإمامة تنعقد من وجهين: أحدهما اختيار أهل العقد والحل. والثاني بعهد
الإمام من قبل. فأما انعقادها باختيار أهل الحل والقعد فقد اختلف العلماء في عدد من
تنعقد به الإمامة منهم على مذاهب شتى: فقالت طائفة: لا تنعقد إلا بجمهور أهل العقد و
الحل من كل بلد، ليكون الرضا به عاما والتسليم لإمامته اجماعا.
وهذا مذهب مدفوع ببيعة أبي بكر على الخلافة باختيار من حضرها ولم ينتظر
ببيعته قدوم غائب عنها. وقالت طائفة أخرى: أقل من تنعقد به منهم الإمامة خمسة
يجتمعون على عقدها أو يعقدها أحدهم برضا الأربعة، استدلالا بأمرين: أحدهما أن
بيعة أبي بكر انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها، ثم تابعهم الناس فيها. وهم عمر بن
الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح، وأسيد بن حضير، وبشير بن سعد، وسالم مولى أبي
حذيفة. والثاني أن عمر جعل الشورى في ستة ليعقد لأحدهم برضا الخمسة وهذا
قول أكثر الفقهاء والمتكلمين من أهل البصرة. وقال آخرون من علماء الكوفة: تنعقد
بثلاثة يتولاها أحدهم برضا الاثنين ليكونوا حاكما وشاهدين، كما يصح عقد النكاح
بولي وشاهدين. وقالت طائفة أخرى: تنعقد بواحد، لأن العباس قال لعلي (عليه السلام): أمدد
يدك أبايعك فيقول الناس: عم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بايع ابن عمه فلا يختلف عليك اثنان، و
لأنه حكم، وحكم واحد نافذ. " (1)
أقول: لقائل أن يقول: إن الولاية على المسلمين أمر يرتبط بجميع المسلمين،
فيجب أن يكون نصب الإمام إما من قبل الله - تعالى -، مالك الملوك، أو من ناحية
جميع المسلمين ولا أقل من ناحية أكثرهم، أو من ناحية أهل الحل والعقد إذا تعقبه
رضا الجميع أو الأكثر. وأما نفوذ تعيين عدد قليل كخمسة مثلا في حق الجميع و
وجوب التسليم لهم ومتابعتهم فلا ملاك له، لا في العقل ولا في الشرع.

1 - الاحكام السلطانية / 6 - 7.
400

والمحذور الذي أشار إليه من بيعة أبي بكر ليس محذورا فإن الأكثر منهم
لا يعتقدون العصمة في الإمام ولا في الصحابة. وعمر بنفسه حكم بكون بيعة أبي بكر
فلتة وقى الله شرها (1) فيظهر من ذلك انها لم تكن عنده قائمة على أساس، ولم يكن
يرضى بصيرورتها قاعدة وسنة متبعة، كما زعم هؤلاء.
قال عبد الكريم الخطيب من علماء السنة في كتاب الخلافة والإمامة ما نصه:
" وقد عرفنا أن الذين بايعوا أول خليفة للمسلمين - أبي بكر - لم يتجاوزوا أهل
المدينة، وربما كان بعض أهل مكة، أما المسلمون جميعا في الجزيرة كلها فلم
يشاركوا في هذه البيعة، ولم يشهدوها، ولم يروا رأيهم فيها; وإنما ورد عليهم الخبر
بموت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع الخبر باستخلاف أبي بكر. فهل هذه البيعة أو هذا الأسلوب في
اختيار الحاكم يعتبر معبرا عن إرادة الأمة حقا؟! وهل يرتفع هذا الأسلوب إلى أنظمة
الأساليب الديموقراطية في اختيار الحكام؟! لقد فتح هذا الأسلوب الفريد الذي عرف
في المجتمع الاسلامي لاختيار الحاكم - فتح أبوابا للجدل فيه والخلاف عليه. " (2)
وعن الشيخ علي عبد الرزاق من علماء الجامع الأزهر أنه قال في كتابه: (الإسلام و
أصول الحكم):
" إذا أنت رأيت كيف تمت البيعة لأبي بكر، واستقام له الأمر تبين لك أنها كانت
بيعة سياسية ملكية عليها طابع الدولة المحدثة، وأنها قامت كما تقوم الحكومات على
أساس القوة والسيف. " (3)
إلى غير ذلك من الكلمات، فراجع.
2 - وقال القاضي أبو يعلى:
" والإمامة تنعقد من وجهين: أحدهما باختيار أهل الحل والعقد. والثاني بعهد
الإمام من قبل... وروي عنه (أي عن أحمد) ما دل على أنها تثبت بالقهر والغلبة

1 - راجع صحيح البخاري 4 / 180، باب رجم الحبلى من الزنا...
2 - الخلافة والإمامة / 272.
3 - فلسفة التوحيد والولاية / 194، نقلا عن " الإسلام وأصول الحكم " ص 183.
401

ولا تفتقر إلى العقد، فقال - في رواية عبدوس بن مالك العطار - (القطان خ. ل): " و
من غلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين فلا يحل لأحد يؤمن
بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماما، برا كان أو فاجرا. " وقال أيضا - في رواية
أبي الحرث - في الإمام يخرج عليه من يطلب الملك، فيكون مع هذا قوم ومع هذا
قوم: " تكون الجمعة مع من غلب. " واحتج بأن ابن عمر صلى بأهل المدينة في زمن
الحرة وقال: " نحن مع من غلب. " (1)
3 - وفي المغني لابن قدامة الحنبلي:
" وجملة الأمر أن من اتفق المسلمون على إمامته وبيعته ثبتت إمامته ووجبت
معونته، لما ذكرنا من الحديث والإجماع. وفي معناه من ثبتت إمامته بعهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
أو بعهد إمام قبله إليه. فإن أبا بكر ثبتت إمامته بإجماع الصحابة على بيعته، وعمر
ثبتت إمامته بعهد أبي بكر إليه، وأجمع الصحابة على قبوله ولو خرج رجل على
الإمام فقهره وغلب الناس بسيفه حتى أقروا له وأذعنوا بطاعته وتابعوه صار إماما
يحرم قتاله والخروج عليه، فإن عبد الملك بن مروان خرج على ابن الزبير فقتله و
استولى على البلاد وأهلها حتى بايعوه طوعا وكرها فصار إماما يحرم الخروج
عليه. " (2)
4 - وفي المنهاج للنووي الذي هو من أعاظم الشافعية:
" وتنعقد الإمامة بالبيعة. والأصح بيعة أهل الحل والعقد من العلماء والرؤساء و
وجوه الناس الذين يتيسر اجتماعهم. وشرطهم صفة الشهود. وباستخلاف الإمام. فلو
جعل الأمر شورى بين جمع فكاستخلاف، فيرتضون أحدهم. وباستيلاء جامع
الشروط، وكذا فاسق وجاهل في الأصح. " (3)
5 - وقال العلامة الحلي - طاب ثراه - في التذكرة:
" مسألة: وإنما تنعقد الإمامة بالنص عندنا على ما سبق. ولا تنعقد بالبيعة خلافا

1 - الأحكام السلطانية / 23.
2 - المغنى 10 / 52.
3 - المنهاج / 518، كتاب البغاة.
402

للعامة بأسرهم، فإنهم أثبتوا إمامة أبي بكر بالبيعة. ووافقونا على صحة الانعقاد
بالنص، لكنهم جوزوا انعقادها بأمور: أحدها: البيعة... الثاني: استخلاف الإمام قبله و
عهده إليه، كما عهد أبو بكر إلى عمر... الثالث: القهر والاستيلاء... " (1)
6 - وقال في كشف المراد:
" ذهبت الإمامية خاصة إلى أن الإمام يجب أن يكون منصوصا عليه. وقالت
العباسية: إن الطريق إلى تعيين الإمام النص أو الميراث. وقالت الزيدية: تعيين الإمام
بالنص أو الدعوة إلى نفسه. وقال باقي المسلمين: الطريق إنما هو النص أو اختيار
أهل الحل والعقد. " (2)
7 - وفي الفقه على المذاهب الأربعة:
" واتفق الأئمة على أن الإمامة تنعقد ببيعة أهل الحل والعقد من العلماء والرؤساء
ووجوه الناس، الذين يتيسر اجتماعهم من غير شرط عدد محدد. ويشترط في
المبايعين للإمام صفة الشهود من عدالة وغيرها. وكذلك تنعقد الإمامة باستخلاف
الإمام شخصا عينه في حياته ليكون خليفته على المسلمين بعده... وانعقد إجماع
الأمة على جوازه. " (3)
8 - وفي الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبة الزحيلي:
" ذكر فقهاء الإسلام طرقا أربعة في كيفية تعيين الحاكم الأعلى للدولة وهي النص،
والبيعة، وولاية العهد، والقهر والغلبة. وسنتبين أن طريقة الإسلام الصحيحة عملا
بمبدأ الشورى وفكرة الفروض الكفائية هي طريقة واحدة. وهي بيعة أهل الحل و
العقد وانضمام رضا الأمة باختياره. وأما ما عدا ذلك فمستنده ضعيف. " (4)
9 - وقال أيضا:

1 - التذكرة 1 / 453.
2 - كشف المراد / 288، المسألة 4 من المقصد 5.
3 - الفقه على المذاهب الأربعة 5 / 417، مبحث شروط الإمامة.
4 - الفقه الإسلامي وأدلته 6 / 673.
403

" رأى فقهاء المذاهب الأربعة وغيرهم أن الإمامة تنعقد بالتغلب والقهر. إذ يصير
المتغلب إماما دون مبايعة أو استخلاف من الإمام السابق، وإنما بالاستيلاء. و
قد يكون مع التغلب المبايعة أيضا فيما بعد. " (1)
أقول: لا يخفي أن مقتضى ما ذكروه من إمامة المتغلب مطلقا أن الخارج على
الإمام الموجود في أول الأمر باغ يجب قتاله ودفعه، ثم إذا فرض غلبته انقلب إماما
واجب الإطاعة وان كان من أفسق الفسقة والظلمة! وهذا أمر عجيب لا يقبله الطبع
السليم.
والظاهر أن هؤلاء المصنفين من السنة كانوا غالبا بصدد التوجيه للوضع الموجود
خارجا في أمر الولاية على المسلمين، وتبريره شرعا. فلذا قالوا بكفاية التغلب أو
ولاية العهد أو بيعة عدة قليلة.
ولكن المنصف المتحري للحق ليس من شأنه السعي في تبرير ما وقع، بل بيان
ما يحكم به العقل والشرع بذاتهما. وقد عرفت أن الإمامة على المسلمين أمر يتعلق
بجميع المسلمين، فيجب أن تكون من قبل الله المالك للجميع أو برضا جميع الأمة أو
أكثرهم، ولا أقل من أهل الحل والعقد منهم، فإنه يستعقب رضا الجميع عادة.
ولا ريب أن النصب من قبل الله على فرض تحققه - كما هو معتقدنا بالنسبة إلى
الأئمة الاثني عشر - مقدم على انتخاب الأمة قطعا. فالطريق الثاني في طول الأول،
لا في عرضه. وقد قال الله - عزوجل -: " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله و
رسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم. " (2)
والحاصل أن لأرباب التحقيق من علماء المسلمين في مبدأ الحكومة قولان:

1 - الفقه الإسلامي وأدلته 6 / 682.
2 - سورة الأحزاب (33)، الآية 36.
404

الأول: أن السيادة والحاكمية لله - تعالى - فقط، وبيده التشريع والحكم (إن
الحكم إلا لله). والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا لم يكن له حق الحكم إلا بعد ما فوض الله إليه
ذلك، ولم يكن يتبع في حكمه إلا ما كان يوحى إليه. والأئمة أيضا قد انتخبوا من قبل
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمر الله - تعالى - بلا واسطة أو مع الواسطة. حتى ان الفقهاء في عصر الغيبة
أيضا نصبوا من قبل أئمتنا (عليهم السلام) لذلك، وإلا لم يكن لهم حق الحكم. وليس لانتخاب
الناس أثر في هذا المجال أصلا. فالحكومة الإسلامية تيوقراطية محضة. وهذا القول
هو الظاهر من أصحابنا الإمامية.
الثاني: أن الأمة بنفسها هي صاحب السيادة ومصدر السلطات، وأهل الحل و
العقد يمثلون سلطة الأمة. ويشهد لذلك، مضافا إلى سلطة الناس على أنفسهم تكوينا،
قوله - تعالى -: " وأمرهم شورى بينهم. " وما ورد من الأخبار الكثيرة المتضافرة في
بيعة الناس للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والخلفاء والأئمة. فيظهر بذلك أنهم مبدأ السلطة والسيادة.
نعم، ليس للحكام التخلف عما أمر الله به - تعالى - في كل مورد.
والحق هو الجمع بين القولين بنحو الطولية. فإن كان من قبل الله - تعالى - نصب
لذلك - كما في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكذا في الأئمة الاثني عشر عندنا - فهو المتعين للإمامة، و
لا ينعقد الإمامة لغيره مع وجوده والتمكن منه. وإلا كان للأمة حق الانتخاب، ولكن
لا مطلقا بل لمن وجد الشرائط والمواصفات المعتبرة. ولعل إمامة الفقهاء في عصر
الغيبة من هذا القبيل، كما سيأتي بيانه.
فالإمامة تنعقد أولا وبالذات بالنصب، وبعده بانتخاب الأمة بمرحلة واحدة أو
بمراحل.
وأما التغلب بالقهر، أو ولاية العهد، أو بيعة بعض الناس فلا يكون ملاكا للإلزام و
ايجاب الطاعة عند العقل والوجدان. فإذا فرض أن الأمة انتخبت فردا للإمامة وصار
هذا إماما بذلك فلا محالة يكون المنتخب نفس هذا الشخص، ولم يفوض إليه تعيين
غيره لما بعده. فبأي حق يعين غيره؟ وبأي دليل يصير تعيينه
405

نافذا لازم الاتباع على الأمة ولاسيما إذا لم يكن الفرد الذي عينه واجدا للشروط
والمواصفات الثمانية التي مر اعتبارها في الوالي؟!
وما دل من الآية والروايات على وجوب إطاعة أولي الأمر لايراد بها إطاعة كل
من تسلط وتأمر ولو بالقهر والغلبة، ولا في جميع قرارات الوالي ولو في تعيين الغير
لما بعده من دون تحصيل رضا الأمة، بل المقصود بالآية إطاعة من حق له الولاية و
الأمر في خصوص ما فوض إليه أمره. فوجوب الإطاعة هنا حكم شرعي يدور مدار
موضوعه الخاص. ولا يحقق الحكم موضوع نفسه، كما هو واضح. وقد مر بيان الآية
والاحتمالات المتطرقة إليها في الباب الثاني عند التعرض لها.
نعم، لو كان الإمام معصوما - كما نعتقده في الأئمة الاثني عشر - فلا محالة يكون
تعيينه للإمام بعده حجة شرعية على تعينه من قبل الله - تعالى -، أو من قبل
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو كون التعيين مفوضا إليه، أو كون المعين أفضل الأفراد وأجمعها
للشرائط، فيلزم اتباعه.
ثم هذا إذا لم يستعقب التغلب، أو ولاية العهد، أو بيعة البعض رضا جميع الأمة و
بيعتهم له طوعا، وإلا صار من مصاديق انتخاب الأمة، كما هو واضح، هذا.
وليس كلامنا هنا في الإمامة في صدر الإسلام. فإنها مسألة كلامية مفصلة تطلب
من مظانها وإن اتضح نظرنا فيها. وإنما البحث هنا في ولاية الفقيه العادل الواجد
للشرائط في عصر الغيبة، وهي مسألة فقهية. فإن ثبت كونها بالنصب من قبل
الأئمة (عليهم السلام) من طريق المقبولة وغيرها فهو، وإلا كانت فعليتها بالانتخاب على فرض
صحته كما هو المختار ولكن في طول النصب، كما مر. وسيأتي البحث في أدلة
النصب وأدلة الانتخاب في الفصول الآتية، فانتظر.
وكيف كان فالظاهر أن الطريق لانعقاد الإمامة ينحصر فيهما ولا ثالث لهما، فتدبر.
406

الفصل الثاني
في البحث في مقام الثبوت وذكر المحتملات فيه
قد تحصل لك مما فصلناه في الأبواب والفصول السابقة:
أولا: لزوم الحكومة وضرورتها في جميع الأعصار حتى في عصر الغيبة، وكونها
داخلة في نسج الإسلام ونظامه، وأن إهمالها وتعطيلها يساوق تعطيل الإسلام.
وثانيا: أن الحاكم على المسلمين يشترط فيه شروط ثمانية: 1 - العقل الوافي. 2 -
الإسلام والإيمان. 3 - العدالة. 4 - العلم بموازين الإسلام ومقرراته المعبر عنه
بالفقاهة. 5 - القوة وحسن الولاية. 6 - الذكورة. 7 - طيب الولادة. 8 - أن لا يكون من
أهل البخل والحرص والطمع والمصانعة. وقد أقمنا الأدلة عليها من العقل والكتاب
والسنة. ونعبر عن الواجد لهذه الشروط الثمانية بالفقيه الجامع للشرائط.
وقد أشرنا في الفصل السابق إلى أن الإمامة بالمعنى الأعم الشامل لولاية الفقيه
تنعقد إما بالنصب من الجهة العليا، وإما بانتخاب الأمة. فلها طريقان عندنا وإن كان
اعتبار الثاني في طول الأول وفي طول الشروط المذكورة، فلا مجال للانتخاب مع
وجود الإمام المنصوب من قبل الله أو من قبل الرسول، ولا مجال
407

أيضا لانتخاب الفاقد للشروط مع وجود الواجد لها.
ففي عصر الغيبة إن ثبت نصب الأئمة - عليهم السلام - للفقهاء الواجدين للشرائط
بالنصب العام بعنوان الولاية الفعلية فهو، وإلا وجب على الأمة تشخيص الفقيه الواجد
للشرائط وترشيحه وانتخابه، إما بمرحلة واحدة أو بمرحلتين: بأن ينتخب أهل كل
صقع وناحية بعض أهل الخبرة، ثم يجتمع أهل الخبرة وينتخبون الفقيه الواجد
للشرائط واليا على المسلمين. والظاهر كون الثاني أحكم وأتقن وأقرب إلى الحق،
كما يأتي بيانه. وكيف كان فالفقيه الواجد للشرائط هو المتعين للولاية، إما بالنصب أو
بالانتخاب.
ولا يخفي أن مساق كلمات الأعاظم والأعلام في تأليفاتهم كان إلى تعين النصب،
وكون الطريق منحصرا فيه. ولم يكونوا يلتفتون إلى انتخاب الأمة. فعندهم الفقهاء
منصوبون من قبل الأئمة المعصومين (عليهم السلام) بالنصب العام ويستدلون على ذلك بمقبولة
عمر بن حنظلة والروايات الكثيرة الواردة في شأن العلماء والفقهاء والرواة. كما أن
الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) منصوبون من قبل الله - تعالى -، أو من قبل الرسول الأكرم. و
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان منصوبا من قبل الله - تعالى -. فإلى الله تنتهي جميع الولايات، و
لا اعتبار لولاية لا تنتهي إليه. قال الله - تعالى -: " إن الحكم إلا لله. " (1)
وقد يقرب ذلك بأن الوجدان لا يلزم أحدا بإطاعة غيره إلا بإطاعة مالك الملوك أو
من يكون منصوبا من قبله ولو بالواسطة. والحكومة الحقة الصالحة هي التي لها
جذور في وجدان الناس وفطرتهم.
قال المحقق النراقي - طاب ثراه - في العوائد:
" وأما غير الرسول وأوصيائه فلاشك أن الأصل عدم ثبوت ولاية أحد على أحد
إلا من ولاه الله - سبحانه -، أو رسوله، أو أحد من أوصيائه على أحد في أمر. وحينئذ
فيكون هو وليا على من ولاه فيما ولاه فيه. " (2)

1 - سورة يوسف (12)، الآية 40.
2 - العوائد / 185.
408

أقول: لو صح ما ذكروه من تعين النصب من الجهة العليا وانحصار الطريق فيه
فبضرورة وجود الحكومة الحقة وعدم جواز إهمال الشارع لها في عصر من الأعصار
يستكشف النصب قهرا، حتى وإن لم يوجد ما يدل عليه في مقام الإثبات أو نوقش في
دلالة ما استدل به.
ولكن يمكن الخدشة في هذا المبنى لما سيأتي منا من إقامة أدلة كثيرة على صحة
الانتخاب من قبل الأمة أيضا. غاية الأمر كونه في طول النصب وفي صورة عدم
ثبوته، وقبل الانتخاب تثبت الصلاحية والشأنية فقط.
وإذا فرض تصحيح الشارع الحكيم للانتخاب أيضا صار الإمام المنتخب بشرائطه
مثل الإمام المنصوب في وجوب طاعته وحرمة مخالفته.
وحينئذ فيجب البحث في دلالة ما ذكروه لنصب الفقيه في عصر الغيبة. فإن تمت
دلالته على نصبه وولايته بالفعل فهو، وإلا وصلت النوبة إلى انتخاب الأمة قهرا، و
قبل التعرض للأدلة التي استدلوا بها على النصب يجب الالتفات إلى أمرين:
الأمر الأول:
إن البحث في النصب العام إثباتا يتوقف على صحته في مقام الثبوت. ولكن
قد يخدش في صحته ثبوتا بتقريب أنه لو وجد في عصر واحد فقهاء كثيرون واجدين
للشرائط فالمحتملات فيه خمسة:
الأول: أن يكون المنصوب من قبل الأئمة (عليهم السلام) جميعهم بنحو العموم الاستغراقي،
فيكون لكل واحد منهم بانفراده الولاية الفعلية وحق إعمالها مستقلا.
الثاني: أن يكون المنصوب الجميع كذلك، ولكن لا يجوز إعمال الولاية إلا
409

لواحد منهم.
الثالث: أن يكون المنصوب واحدا منهم فقط.
الرابع: أن يكون المنصوب الجميع، ولكن يتقيد إعمال الولاية لكل واحد منهم
بالاتفاق مع الآخرين.
الخامس: أن يكون المنصوب للولاية هو المجموع من حيث المجموع، فيكون
المجموع بمنزلة إمام واحد ويجب إطباقهم في إعمال الولاية. ومآل هذين
الاحتمالين إلى واحد، كما لا يخفى.
ويرد على الاحتمال الأول قبح هذا النصب على الشارع الحكيم. فإن اختلاف
أنظار الفقهاء غالبا في استنباط الأحكام وفي تشخيص الحوادث اليومية و
الموضوعات المبتلى بها ولاسيما الأمور المهمة منها مثل موارد الحرب والصلح مع
الدول والأمم المختلفة مما لا ينكر. فعلى فرض نصب الجميع وتعدد الولاة بالفعل
لو تصدى كل واحد منهم للولاية وأراد إعمال فكره وسليقته لزم الهرج والمرج و
نقض الغرض. إذ من الأغراض الأساسية للحكومة هو حفظ النظام وتوحيد الكلمة،
وقد مرت روايات دالة على كون الإمامة نظاما للأمة:
منها: قوله (عليه السلام) على ما في الغرر والدرر للآمدي: " الإمامة نظام الأمة. " (1)
هذا مضافا إلى دلالة الروايات على بطلان هذا الفرض:
1 - ففي الغرر والدرر: " الشركة في الملك تؤدي إلى الاضطراب. " (2)

1 - الغرر والدرر 1 / 274، الحديث 1095.
2 - الغرر والدرر 2 / 86، الحديث 1941.
410

2 - وفي رواية العلل التي مرت قطعة منها في الدليل الثالث من أدلة لزوم الحكومة
عن الرضا (عليه السلام): " فإن قال: فلم لا يجوز أن يكون في الأرض إمامان في وقت واحد أو أكثر من
ذلك؟ قيل: لعلل:
منها: أن الواحد لا يختلف فعله وتدبيره والاثنين لا يتفق فعلهما وتدبيرهما. وذلك أنا
لم نجد اثنين إلا مختلفي الهمم والإرادة. فإذا كانا اثنين ثم اختلفت هممهما وإرادتهما و
تدبيرهما وكانا كلاهما مفترضي الطاعة لم يكن أحدهما أولى بالطاعة من صاحبه، فكان
يكون في ذلك اختلاف الخلق والتشاجر والفساد، ثم لا يكون أحد مطيعا لأحدهما إلا وهو
عاص للآخر، فتعم المعصية أهل الأرض، ثم لا يكون لهم مع ذلك السبيل إلى الطاعة و
الإيمان ويكونون إنما أتوا في ذلك من قبل الصانع الذي وضع لهم باب الاختلاف و
التشاجر، إذ أمرهم باتباع المختلفين.
ومنها: أنه لو كانا إمامين كان لكل من الخصمين أن يدعو إلى غير ما يدعو إليه صاحبه في
الحكومة، ثم لا يكون أحدهما أولى بأن يتبع من صاحبه، فتبطل الحقوق والأحكام والحدود.
ومنها: أنه لا يكون واحد من الحجتين أولى بالنطق والحكم والأمر والنهي من الآخر. فإذا
كان هذا كذلك وجب عليهما أن يبتدءا بالكلام وليس لأحدهما أن يسبق صاحبه بشيء إذا كانا
في الإمامة شرعا واحدا. فإن جاز لأحدهما السكوت جاز السكوت للآخر مثل ذلك. وإذا جاز
لهما السكوت بطلت الحقوق والأحكام وعطلت الحدود وصار الناس كأنهم لا إمام لهم. " (1)
وقد مر البحث في سند الحديث هناك، فراجع. وآثار الصدق والحقيقة ظاهرة
على مضمونه. فكم قد سفكت الدماء المحترمة وهتكت الأعراض وتعطلت مصالح
المسلمين في موارد اختلاف الولاة النافذين وإن كانوا بأنفسهم مقدسين منزهين، كما
لا يخفى على أهل الدراية والاطلاع على الحوادث التاريخية.
3 - وفي صحيحة الحسين بن أبي العلا: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): تكون الأرض ليس
فيها إمام؟ قال: لا. قلت: يكون إمامان؟ قال: لا إلا وأحدهما صامت. (2)

1 - عيون أخبار الرضا 2 / 101 الباب 34، الحديث 1. وعلل الشرائع 1 / 254، الباب 182 (باب
علل الشرائع)، الحديث 9.
2 - الكافي 1 / 178 كتاب الحجة، باب أن الأرض لا تخلو من حجة، الحديث 1.
411

4 - وفي البحار عن الصدوق في كمال الدين بسند صحيح، عن ابن أبي يعفور أنه
سأل أبا عبد الله (عليه السلام) هل يترك الأرض بغير إمام؟ قال: لا. قلت: فيكون إمامان؟ قال: لا
إلا وأحدهما صامت. (1)
5 - وفيه أيضا عنه بسند موثق عن هشام بن سالم، قال: قلت للصادق (عليه السلام): هل
يكون إمامان في وقت؟ قال: لا إلا أن يكون أحدهما صامتا مأموما لصاحبه، والآخر ناطقا
إماما لصاحبه. وأما أن يكون إمامين ناطقين في وقت واحد فلا. (2)
6 - وفيه أيضا عن بصائر الدرجات بسنده عن عبيد بن زرارة، قال: قلت لأبي
عبد الله (عليه السلام): ترك الأرض بغير إمام؟ قال: لا. قلنا: تكون الأرض وفيها إمامان؟ قال:
لا إلا إمامان أحدهما صامت لا يتكلم، ويتكلم الذي قبله. والإمام يعرف الإمام الذي
بعده. (3)
7 - وفي صحيح مسلم بسنده عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما. " (4) إلى غير ذلك من الروايات. هذا.
وأمير المؤمنين (عليه السلام) مع كراماته الباهرة وفضائله الظاهرة لم يكن يتدخل في الأمور
الولائية في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا باذنه وتحت أمره ونظره. وكذلك سيد الشهداء (عليه السلام)
في عصر الإمام المجتبى (عليه السلام).
وفي خبر عمران بن حصين، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "... ما تريدون من على؟ إن عليا مني و
أنا منه، وهو ولي كل مؤمن من بعدي. " (5) فجعل الولاية له (عليه السلام) من بعده.

1 - بحار الأنوار 25 / 106، كتاب الإمامة، باب أنه لا يكون إمامان في زمان واحد...، الحديث 2.
2 - بحار الأنوار 25 / 106، باب أنه لا يكون إمامان في زمان واحد....، الحديث 3.
3 - بحار الأنوار 25 / 107، باب أنه لا يكون إمامان في زمان واحد...، الحديث 6.
4 - صحيح مسلم 3 / 1480، كتاب الإمارة الباب 15 (باب إذا بويع لخليفتين)، الحديث 1853.
5 - سنن الترمذي 5 / 296، الباب 82 (باب مناقب علي بن أبي طالب) من أبواب المناقب،
الحديث 3796.
412

وإذا لم تصح ولاية إمامين معصومين في عصر واحد مع عصمتها فكيف تصح
الإمامة والولاية الفعلية المطلقة لعشر فقهاء مثلا في عصر واحد على أمة واحدة؟!
كيف؟! ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فكيف بتعدد الولاة والسلطات البشرية؟
ومجرد اشتراط الأعلمية في الوالي على القول به لا يكفي في رفع المحذور،
لإمكان التساوي في العلم، ولاختلاف أنظار الأمة وأهل الخبرة في تشخيص
الأعلم، كما هو المشاهد خارجا في أعصارنا. ولا يرد هذا الإشكال على نظرية
الانتخاب، لكون الملاك فيه هو الأكثرية، كما يأتي بيانه في الفصول الآتية.
والحاصل أن مضار تعدد الحاكم وتكثر مراكز القرار والتصميم في وقت واحد
مع اختلاف الآراء والأنظار كثيرة جدا، ولا سيما في المواقع الحساسة ومظان
التصادم والقتال والحرب والإصلاح. فنصب ولاة بالفعل متعددين مستقلين لعصر
واحد وصقع واحد إعانة على التنازع والتشاجر، فلا يصح من الشارع الحكيم.
نعم، لو كان تدخل الفقهاء منحصرا في الأمور الجزئية المحلية كتعيين القيم للصغار
والمجانين مثلا، كما لعله هو المأنوس في أذهان الأكثر من عنوان ولاية الفقيه، أمكن
منع التشاجر والنزاع. ولكن محل البحث هو تصدي الفقيه لجميع شؤون الحكومة في
مجتمع المسلمين وترسيم الخطوط الكلية لجميع البلاد والعباد. وحينئذ فمضار تعدد
مركز القرار ظاهرة واضحة.
وبالجملة فاللازم فرض موضوع البحث وسيعا بسعة بلاد المسلمين ونفوسهم. هذا
كله بالنسبة إلى الاحتمال الأول.
ويرد على الاحتمال الثاني أولا: أنه كيف يعين من له حق التصدي فعلا؟ فإن
لم يكن طريق إلى تعيينه صار الجعل لغوا، وهو قبيح. وإن كان بانتخاب الأمة أو أهل
الحل والعقد أو خصوص الفقهاء لواحد منهم صار الانتخاب معتبرا ومعيارا لتعيين
الوالي، فوجب إعماله وتعيين الوالي به. اللهم إلا أن يقال إن النصب أيضا مما لابد منه
لمشروعية الولاية وانتهائه إلى الله - تعالى -. فالنصب للمشروعية،
413

والانتخاب لتعيين من له التصدي فعلا. ولكن نقول إنه على أي حال فغير المنتخب
لا يجوز له التدخل، كما هو المفروض.
وثانيا: أن جعل الولاية حينئذ للباقين لغو قبيح. نعم، الشأنية والصلوح ثابتة
للجميع.
ويرد على الاحتمال الثالث: أنه كيف يعين من جعل له الولاية الفعلية؟ فإن
لم يكن طريق إلى التعيين صار الجعل لغوا وهو قبيح. وإن قيل إنه بالانتخاب، قلنا
فيصير النصب لغوا والإمامة انعقدت بالانتخاب لا به. اللهم إلا أن يقال بالجمع بينهما،
كما مر.
فان قلت: تتعين الحكومة الفعلية للأعلم من الفقهاء.
قلت: أولا: يمكن وجود شخصين أو اشخاص متساوين في العلم والفضيلة. و
ثانيا: إن الناس وكذا أهل الخبرة كثيرا ما يختلفون في تشخيص الأعلم، فيلزم تعدد
الولاة بالفعل في عصر واحد لمنطقة واحدة، فلا تحصل الوحدة والانسجام بل يختل
النظام كما مر، فلا محيص إلا أن يقال بلزوم الانتخاب العام وتعين منتخب الأكثرية
للولاية الفعلية، فتدبر.
ويرد على الاحتمال الرابع، وكذا الخامس: أنه مخالف لسيرة العقلاء و
المتشرعة. ومما لم يقل به أحد. وقد كنت في مجلس الخبراء في بادي الأمر مدافعا
عن هذه الفكرة ولكنه ظهر لي بالتأمل أن إدارة شؤون الأمة ولا سيما في المواقع
الحساسة المهمة تتوقف على وحدة مركز القرار والتصميم. والتعدد يوجب غالبا
تعطل أكثر المصالح. وقد مر كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) أن: " الشركة في الملك تؤدي إلى
الاضطراب. " (1)
والله - تبارك وتعالى - خاطب نبيه فقال: " وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل
على

1 - الغرر والدرر 2 / 86، الحديث 1941.
414

الله. " (1) فجعل العزم والقرار النهائي لشخص النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، فتدبر.
والحاصل أن نصب الأئمة - عليهم السلام - للفقهاء في عصر الغيبة بحيث تثبت
الولاية الفعلية بمجرد النصب بمحتملاته الخمسة قابل للخدشة ثبوتا. وإذا لم يصح
بحسب مقام الثبوت فلا تصل النوبة إلى البحث فيه إثباتا. نعم، يصح ترشيحهم لذلك
من قبل الشارع حتى لا تحوم الأمة حول غيرهم، بل يلتفتون إليهم وينتخبون واحدا
منهم ويفوضون إليه الولاية فيصير بالانتخاب والاختيار واليا بالفعل. ويجب على
الأمة الإقدام على ذلك، بل هو من أهم الفرائض والدعائم، وتركه من أشد المعاصي،
لاستتباعه تعطيل الحقوق والحدود والأحكام وتسلط الكفار والعتاة على شؤون
المسلمين. ويأتي بيان ذلك والاستدلال عليه بالتفصيل، فانتظر.
الأمر الثاني:
لو قلنا بكون جميع الفقهاء الواجدين للشرائط في عصر واحد منصوبين بالنصب
العام من قبل الأئمة (عليهم السلام) لأمر الولاية كان مقتضى ذلك جواز بل وجوب تصدي كل
واحد منهم بالوجوب الكفائي لشؤون الولاية والرياسة، من القضاء وإجراء الحدود و
التعزيرات، والتصرف في أموال الغيب والقصر ونصب القوام لهم والتصدي لأمور
زواجهم وطلاقهم، والمطالبة بالضرائب الإسلامية من الخمس والزكاة والجزية و
نحوها، بل والجهاد الابتدائي للدعوة إلى الإسلام على ما قويناه فضلا عن الدفاعي، و
إعداد مقدماته من الجنود والقوى، وعقد المعاهدات مع سائر الأمم إلى غير ذلك من
شؤون الحكومة. ووجب قهرا على الأمة الإسلامية إطاعتهم والتسليم لهم وإن
لم يكونوا مقلدين لهم في أخذ المسائل الفقهية. بل يجب على كل

1 - سورة آل عمران (3)، الآية 159.
415

من الفقهاء أيضا إطاعة الآخر فيما حكم به ولا يجوز مزاحمته له، إذ لا يجوز
التخلف عن حكم من جعله الإمام المعصوم واليا بالفعل ونصبه لذلك، كما لا يجوز
مزاحمته. فإذا حكم أحدهم في حادثة بحكم لم يجز للآخر الحكم بخلافه. وإذا كانت
المصارف على واحد منهم فلا يجوز للآخرين أخذ الضرائب بدون إذنه، فإنه من أشد
المزاحمات، كما لا يخفى.
هذا إذا أذعنوا بكون الحاكم المتصدي واجدا للشرائط التي اعتبرها الشرع في
الوالي.
وأما إذا لم يذعنوا بذلك فلا تجب الإطاعة قهرا وإن أمكن القول بحرمة التجاهر
بالمخالفة. ولا يخفى أنه من هذه النقطة أيضا ينشأ التشاجر والاختلاف واختلال
النظام وفوت المصالح المهمة لذلك، وليس هذا الفرض بقليل فإن كثيرا منا ممن يكثر
منه الجهل أو الاشتباه بالنسبة إلى أحوال غيره أو ممن يغلب عليه الهوى أحيانا و
لا يخلو في عمق ذاته من نحو من الإعجاب بالنفس وعدم الاعتناء بالغير والتحقير له
أو الحسد له ويعسر عليه التسليم لفرد مثله والإطاعة له إلا من عصمه الله - تعالى -.
هذا.
وأما إذا قلنا بعدم كون الفقهاء منصوبين للولاية فعلا، للخدشة فيه ثبوتا أو اثباتا،
بل قلنا بكون الفقيه الواجد للشرائط أهلا للولاية وصالحا له وأصلح من غيره، و
ما ورد في فضل العلماء والفقهاء أيضا لا يدل على أكثر من الصلاحية والترشيح
للولاية، وإنما تنعقد ولايتهم بالفعل بانتخاب الأمة بمرحلة واحدة أو بمرحلتين،
فلا محالة يصير الوالي بالفعل من الفقهاء من انتخبته الأمة وفوضت إليه الأمانة الإلهية.
فهو الذي يحق له التصدي لشؤون الولاية بالفعل، ولا يجوز للباقي وإن وجدوا
الشرائط مباشرتها إلا تحت أمره ونظره، من غير فرق بين الأمور المالية وغيرها و
الجزئية والكلية.
وإذا كانت الأمة باختيارها هي المفوضة لأمر الولاية فبالطبع تصير مدافعة عنها و
قوة تنفيذية لها، فتستحكم الولاية ويحصل النظام ويدفع الفساد وينحى غير الآهلين
لها قهرا. وللأمة عزل الحاكم المنتخب إذا فقد الشرائط أو تخلف عن
416

الوظائف المحولة إليه بتفصيل يأتي في الفصول الآتية.
وبالجملة على هذا الفرض أمر الولاية الفعلية بيد الأمة وإن وجب عليهم في مقام
الانتخاب رعاية الشرائط التي اعتبرها الشارع في الوالي من الفقاهة وغيرها.
نعم، لو ترك الناس العمل بهذه الفريضة المهمة ولم يسعوا الانتخاب الحاكم الصالح
أمكن القول على ما يأتي بوجوب تصدي الفقهاء الواجدين للشرائط للأمور المعطلة
من باب الحسبة، فان الأمور الحسبية لا تنحصر في الأمور الجزئية كحفظ أموال الغيب
والقصر ونحوها، بل تعين القول بذلك كما سيأتي بيانه.
وكيف كان فالولاية في عصر الغيبة مختصة بالفقيه الجامع للشرائط التي مرت،
إما بالنصب عموما، أو بالانتخاب من قبل الأمة، أو بالتصدي للوظائف حسبة مع
عدمهما. فلا يجوز تقدم غيره عليه في ذلك مع وجوده، بل يجب الايتمار بأوامره، لما
مر من اعتبار الشروط الثمانية في الوالي فتنطبق قهرا على الفقيه الجامع لها.
417

تنبيهان
الأول - بحث حول تعدد الدولة:
قد عرفت أنه إذا تعدد الفقهاء الواجدون للشرائط في عصر واحد فالمحتملات فيه
خمسة. وقد مر مقتضى جميعها.
فان قال قائل: أليس من الممكن أن يقيم حكم الله غير واحد من الفقهاء في عصر
واحد، ولكن نطاق حكم كل واحد منهم عشيرة خاصة أو بلد خاص، فتوجد دويلات
صغيرة كلها إسلامية يحكم فيها الإسلام وتوجد بينها العلاقات إن لزمت؟ بل يشكل
جدا إجماع جميع المسلمين في عصر واحد على إمام واحد مع اتساع البلدان و
تباعدها وتعدد القوميات وتباين المذاهب والعادات واللغات.
فهذا احتمال سادس في البين، وقد وقع نظيره في صدر الإسلام. فقد ذكر الطبري
في وقائع سنة الأربعين ما هذا لفظه:
" وفي هذه السنة - فيما ذكر - جرت بين علي (عليه السلام) وبين معاوية المهادنة بعد
مكاتبات جرت بينهما... كتب معاوية إلى على (عليه السلام): أما إذا شئت فلك العراق ولي
الشام، وتكف السيف عن هذه الأمة ولا تهريق دماء المسلمين. ففعل ذلك وتراضيا
على ذلك، فأقام معاوية بالشام بجنوده يجبيها وما حولها، وعلى بالعراق يجبيها و
يقسمها بين جنوده. " (1)
وأجاز هذا بعض الفقهاء في بعض الشرائط. فعن عبد القاهر البغدادي أنه

1 - تاريخ الطبري 6 / 3452.
418

قال:
" فقال أصحابنا: لا يجوز أن يكون في الوقت الواحد إمامان واجبا الطاعة، وإنما
تنعقد إمامة واحد في الوقت ويكون الباقون تحت رايته. وإن خرجوا عليه من غير
سبب يوجب عزله فهم بغاة، إلا أن يكون بين البلدين بحر مانع من وصول نصرة أهل
كل واحد منهما إلى الآخرين، فيجوز حينئذ لأهل كل واحد منهما عقد الإمامة لواحد
من أهل ناحيته. وزعم قوم من الكرامية أنه يجوز أن يكون في وقت واحد إمامان و
أكثر... " (1)
وعن إمام الحرمين الجويني أنه قال في كتاب الإرشاد:
" ذهب أصحابنا إلى منع عقد الإمامة لشخصين في طرفي العالم... والذي عندي
فيه أن عقد الإمامة لشخصين في صقع واحد متضايق الخطط والمخالف غير جائز و
قد حصل الإجماع عليه. وأما إذا بعد المدى، وتخلل بين الإمامين شسوع النوى
فللاحتمال في ذلك مجال، وهو خارج عن القواطع. " (2)
قلنا: نحن لا نأبى ما ذكرت إن فرض وجود العلقة التامة بين الدويلات وجعل على
رأس الجميع إمام واحد يجمع شملهم ويربطهم ويحكم عليهم في المواقف اللازمة
بحكم عام، بحيث يعد الجميع دولة واحدة مقتدرة يساند بعضها بعضا. نظير الولايات
المتحدة الأمريكية واتحاد الجماهير السوفياتية.
وأما تعدد الحكام المستقلين في الرأي والإرادة في جميع الشؤون بلا زعيم واحد
ينظم شتاتهم ويقطع خلافاتهم فمظنة للفرقة والفشل.
ألا ترى أن الله - تعالى - جعل لكل إنسان أذنين تسمعان، وعينين تبصران، و
يدين ورجلين وأعضاء وجهازات مختلفة يعمل كل منها عمله، ولكن جعل له فوق
الجميع رأسا واحدا وعقلا فاردا يدبر الجميع، ولسانا واحدا يعبر عن منوياته؟

1 - نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي / 322.
2 - نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي / 326.
419

فالإمام رأس الأمة، وعقلها المدبر لها، ولسانها الناطق عنها.
وهل لم تشاهد أن الأجانب والمستعمرين حينما أرادوا ضعف المسلمين ووهنهم
والسلطة على بلادهم وذخائرهم مزقوهم كل ممزق، وفرقوهم دويلات صغار
يحكم عليها الخلافات الطائفية والوطنية واللغوية ونحوها. وقال أحد زعماء
بريطانيا جملته المشهورة: " فرق تسد. " فبذلك يعرف أن الوحدة حليف القوة والنصر،
وأن الفرقة والتعدد مصدر الضعف والوهن، هذا. والأخبار الحاكمة بوجوب وحدة
الإمام التي قد مر كثير منها تنفي بإطلاقها هذا النحو من تعدد الإمام أيضا، فراجع.
وأما ما مر من الطبري من رضا أمير المؤمنين (عليه السلام) بقسمة الملك بينه وبين معاوية
فعلى فرض صحته فإنما كان بعد حروب وقعت بينهما وتخاذل جنود
أمير المؤمنين (عليه السلام) وتقاعسهم عن القتال، وإلا فهو (عليه السلام) لم يكن يرضى بحكومة معاوية
قط، كما يظهر من كتبه (عليه السلام) وخطبه.
وإجماع جميع الأمة في مرحلة واحدة على إمام واحد مع اتساع البلدان و
تباعدها وإن أشكل وتعسر، ولكن يسهل ذلك إن وقع الانتخاب في مرحلتين أو
مراحل، فينتخب الخبراء من قبل الناس، وينتخب الإمام الأعظم من ناحية الخبراء
المبعوثين لذلك.
هذا كله على فرض القدرة والإمكان، وإلا فلو فرض عدم إمكان تأسيس دولة
إسلامية واحدة تعم جميع المسلمين فلا إشكال في أن تأسيس دويلة صغيرة أو
دويلات على أساس موازين الإسلام أولى من إهمال الأمور حتى يتحكم على
المسلمين ويتغلب عليهم الطواغيت والجبابرة الأشرار. فيتعين ذلك دفعا للظلم و
الفساد، فتدبر.
420

التنبيه الثاني - نقل كلام ابن طاووس:
اعلم أن مسألة ولاية الفقيه وإقامة الدولة الحقة المطابقة لموازين الإسلام من
أعظم المسائل الأساسية في الإسلام، فإنها الوسيلة الوحيدة لحفظ بيضة الإسلام و
نظام المسلمين وكيانهم وتنفيذ قوانين الإسلام وأحكامه وإجراء الأمر بالمعروف و
النهي عن المنكر بمفهومهما الواسع. وواضح أن أهمية وجوب المقدمة بأهمية وجوب
ذيها.
ولكن فقهاؤنا - رضوان الله عليهم - تركوا البحث فيها في الكتب الفقهية بحثا
أساسيا واسعا مع ما رأوا من أن أخبارنا ملاء من ارجاع أمور كثيرة إلى السلطان أو
الوالي أو الحاكم، وذكر السجن أو بيت المال ونحو ذلك من لوازم الحكومة. وهم
أيضا أفتوا بمضامينها في الأبواب المختلفة من فقههم.
والسر في ذلك أن علماء السنة كان نظرهم واسعا في مسألة الحكومة وشرائط
الحاكم، وكان الأكثر منهم يبررون الحكومات الدارجة الموجودة في أعصارهم.
ولكن نحن معاشر الشيعة الإمامية حسب اعتقادنا نرى الحكومة في عصر ظهور
الأئمة (عليهم السلام) من حقوقهم. وفي عصر الغيبة كان الشيعة وفقهاؤهم مشردين غالبا في
شدة وتقية، فكانوا آيسين من رجوع الحكومة إليهم ويرون كأنه بمنزلة أمر ممتنع.
فكان البحث فيها وفي فروعها وفي شرائط الحاكم ونحو ذلك عندهم بحثا لغوا و
بلا فائدة، فلذلك لم يبحث فيها إلا بعض فقهائنا بنحو التطفل وبالنسبة إلى التصرفات
الجزئية المحلية. فترى الشيخ الأعظم الأنصاري - قدس سره - مثلا يبحث فيها
بحثا ما في مكاسبه في مسألة التصرف في مال الطفل. فكأن ولاية الفقيه كانت عندهم
نظير ولاية الأب والجد محدودة بدائرة ضيقة صغيرة، ولم يكن ينقدح في أذهانهم
تصدي الفقيه العادل لإقامة دولة مقتدرة في بلاد المسلمين في قبال الدول الجائرة
المقتدرة.
421

وقد بلغ يأس فقهائنا من رجوع الأمر إليهم وشدة التقية فيهم إلى حد ترى السيد
ابن طاووس - قدس سره - يرى نحو إقبال من الحكومة المغولية إليه وإلى علماء
الشيعة وإطلاقها لسراحهم في الإرشاد وإجراء بعض الأحكام نحو عناية من الله -
تعالى - به، ونحو قدرة له أخبر بها الإمام الصادق وتكون مقدمة لظهور ولى الأمر (عليه السلام)
وقيامه.
فقال في كتاب الإقبال في أعمال شهر الربيع الأول:
" وجدت حديثا في كتاب الملاحم للبطائني عن الصادق (عليه السلام) يتضمن وجود الرجل
من أهل بيت النبوة بعد زوال ملك بني العباس يحتمل أن يكون للإشارة إلينا والإنعام
علينا. وهذا ما ذكره بلفظه من نسخة عتيقة بخزانة مشهد الكاظم (عليه السلام). وهذا ما رويناه و
رأينا: عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: الله أجل وأكرم وأعظم من أن يترك
الأرض بلا إمام عادل، قال: قلت له: جعلت فداك فأخبرني بما استريح إليه. قال: يا أبا
محمد، ليس يرى أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فرجا أبدا ما دام لولد بني فلان ملك حتى ينقرض ملكهم.
فإذا انقرض ملكهم أتاح الله لأمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) رجلا (برجل خ. ل) منا أهل البيت يشير بالتقى،
ويعمل بالهدى، ولا يأخذ في حكمه الرشى. والله إني لأعرفه باسمه واسم أبيه. ثم يأتينا
الغليظ القصرة، ذو الخال والشامتين، القائم العادل الحافظ لما استودع، يملأها قسطا وعدلا
كما ملأها الفجار جورا وظلما. ثم ذكر تمام الحديث.
أقول: ومن حيث انقرض ملك بني العباس لم أجد ولم أسمع برجل من أهل البيت
يشير بالتقى، ويعمل بالهدى، ولا يأخذ في حكمه الرشى كما قد تفضل الله به علينا
باطنا وظاهرا. وغلب ظني أو عرفت أن ذلك إشارة إلينا... وقد رجوت أن يكون الله
- تعالى - برحمته قد شرفني بذكري في الكتب السالفة على لسان الصادق (عليه السلام)... و
لم يتمكن أحد في هذه الدول القاهرة (دولة مغول) من العترة الطاهرة كما تمكنا نحن
من صدقاتها المتواترة واستجلاب الأدعية الباهرة والفرامين المتضمنة لعدلها و
رحمتها المتظاهرة. " (1) انتهى كلام الإقبال.

1 - الإقبال / 71 (= طبعة أخرى / 599)، الباب 4، فصل فيما نذكره مما يختص بيوم 13 من ربيع
الأول.
422

أقول: وبالجملة كان يأس أصحابنا من رجوع الحكومة إليهم سببا لعدم بحثهم في
فروع الحكومة وشروطها بحثا واسعا، ولكن بعدما شملت عناية الله للمسلمين في
إيران الإسلامية، ونجحت ثورتهم بقيادة الأستاذ الإمام - مد ظله -، وخرجت إيران
من تحت نير الاستبداد والاستعمار الشرقي والغربي، وانتقضت المعادلات السياسية
الدارجة صار البحث في الحكومة الإسلامية بشؤونها المختلفة ضروريا. اللهم إلا أن
يتفضل الله علينا بظهور إمام العصر - عجل الله تعالى فرجه - فيغنينا من هذه الأبحاث
العريضة. وقد طرحنا في هذا الكتاب أبحاثا لعلها تكون ناقصة وغير ناضجة، و
لا أدعي صحة جميع ما تبادر إلى ذهني. فأرجو من الفضلاء الكرام أن يتابعوا الأبحاث
حتى تنحل المشكلات والحوادث الواقعة بالتدريج في تدبير الأمور. وإذا مثلت
لعقلك سعة الحكومة وكثرة مسائلها المستحدثة ظهر لك لزوم أن يكون مبدأ القرار و
التصميم فيها واحدا، وأن الشركة تؤدي إلى الاضطراب، وان تدخل كل فقيه يوجب
الهرج والمرج. نعم، يجب قبل القرار والعزم المشاورة وتبادل الآراء مع
المتخصصين في المسائل المختلفة، ولكن صاحب العزيمة رجل واحد، كما يأتي
تفصيله في الباب السادس، فانتظر.
423

الفصل الثالث
في ذكر أدلة القائلين بنصب الفقهاء عموما
قد عرفت إلى هنا أولا: ضرورة الحكومة في جميع الأعصار وأن تعطيلها
يساوق بنحو تعطيل الإسلام.
وثانيا: أنه يشترط في الحاكم الإسلامي ثمانية شروط لا تنطبق قهرا إلا على
الفقيه الجامع للشرائط.
وثالثا: أن الولاية لا تنعقد إلا بالنصب من العالي، أو بالانتخاب من قبل الأمة على
ما يأتي بيانه، وأن الانتخاب في طول النصب وفي صورة عدمه.
ورابعا: أن نصب أمير المؤمنين والأئمة المعصومين من ولده ثابت عندنا بالأدلة
القطعية، فلا اعتبار بالانتخاب في أعصارهم.
وخامسا: أن الظاهر من الأصحاب والأساتذة أن الفقهاء أيضا منصوبون في
عصر الغيبة بالنصب العام، فهم ولاة بالفعل عندهم بالنصب من قبل الأئمة
425

المعصومين (عليهم السلام) وعرفت منا إجمالا أن هذا إنما يصح مع الإمكان ثبوتا، وقيام
الدليل عليه إثباتا وإلا وصلت النوبة إلى الانتخاب.
وقد مر في الفصل الثاني المناقشة في إمكان النصب عموما بحسب مقام الثبوت.
فالآن حان وقت البيان لما ذكروه من الأدلة لذلك في مقام الإثبات، وهي أمور
فلنتعرض لها ولما أوردوا عليها من المناقشات:
426

الأمر الأول:
مقبولة عمر بن حنظلة
روى الكليني عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن عيسى،
عن صفوان بن يحيى، عن داود بن الحصين، عن عمرو بن حنظلة، قال: " سألت أبا
عبد الله (عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى
السلطان أو إلى القضاة; أيحل ذلك؟ فقال: من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم
إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتا وإن كان حقا ثابتا له، لأنه أخذه بحكم
الطاغوت وقد أمر الله أن يكفر به، قال الله - تعالى -: " يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت و
قد أمروا أن يكفروا به. " قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران (إلى) من كان منكم ممن
قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكما فإني قد جعلته
عليكم حاكما، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما استخف بحكم الله، وعلينا رد، والراد
علينا الراد على الله، وهو على حد الشرك بالله. " (1)
ورواه الشيخ أيضا في التهذيب في موضعين (2) والسند في أحدهما محمد بن
يحيى، عن محمد بن الحسن بن شمون، عن محمد بن عيسى. وفي الآخر محمد بن
علي بن محبوب، عن محمد بن عيسى...
وقد تلقى الأصحاب الرواية بالقبول حتى اشتهرت بالمقبولة. وصفوان بن يحيى

1 - أصول الكافي 1 / 67، باب اختلاف الحديث، الحديث 10; والفروع منه 7 / 412، باب كراهية
الارتفاع إلى قضاة الجور من كتاب القضاء، الحديث 5; والوسائل 18 / 98، الباب 11 من أبواب
صفات القاضي، الحديث 1.
2 - تهذيب الأحكام 2 / 68 و 91، من طبعه القديم، المطابق مع 6 / 218 و 301، الحديث 514 و
845.
427

من أصحاب الإجماع، وعن الشيخ في العدة أنه لا يروي إلا عن ثقة. (1)
وبالجملة، الظاهر أنه لا بأس بالخبر من جهة السند وإن وقع بعض المناقشات في
محمد بن عيسى، وداود بن الحصين، وعمر بن حنظلة:
اما محمد بن عيسى اليقطيني ففي تنقيح المقال أن فيه قولين:
الأول أنه ضعيف. صرح به جمع، منهم الشيخ في فهرسته وفي موضعين من
رجاله. قال في الفهرست: " محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني ضعيف، استثناه
أبو جعفر بن بابويه من رجال نوادر الحكمة وقال: لا أروي ما يختص بروايته. وقيل
إنه يذهب مذهب الغلاة. " الثاني أنه ثقة. صرح به النجاشي فقال: إنه جليل في
أصحابنا، ثقة، عين، كثير الرواية، حسن التصانيف، روى عن أبي جعفر الثاني مكاتبة
ومشافهة. وقال الكشي: قال القتيبي: كان الفضل بن شاذان يحب العبيدي ويثني
عليه ويمدحه ويميل إليه ويقول: ليس في أقرانه مثله. (2)
أقول: أما استثناء ابن بابويه فالمستثنى عنده هو ما رواه محمد بن عيسى عن
يونس، فلعله لم يكن هذا لاعتقاد ضعف فيه، بل للاشكال في سنه وإدراكه ليونس. و
أما الرمي بالغلو فلا يخفى أنه شاع في تلك الأعصار رمي بعض الأصحاب الأجلاء
أيضا بالغلو لاعتقادهم بثبوت بعض المقامات العالية للأئمة (عليه السلام). نظير ما ترى في
أعصارنا من رمي بعض العرفاء والفلاسفة بالكفر والزندقة، فلعل المقام كان من هذا
القبيل، فتأمل.
وأما داود بن الحصين الأسدي (بضم الحاء) ففي تنقيح المقال:
ان الشيخ عده في رجاله من أصحاب الصادق والكاظم (عليه السلام) وقال: إنه واقفي.
وقال النجاشي: إنه كوفي، ثقة، روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن، كان يصحب
أبا العباس البقباق، له كتاب. (3)

1 - راجع عدة الأصول 1 / 386 - 387، وتنقيح المقال 2 / 100 - 101.
2 - راجع تنقيح المقال 3 / 167.
3 - راجع تنقيح المقال 1 / 408.
428

هذا، ولا يخفى عدم التهافت بين الكلامين، لإمكان كونه واقفيا ثقة.
وأما عمر بن حنظلة، ففي تنقيح المقال:
" عده الشيخ تارة من أصحاب الباقر (عليه السلام) وأخرى من أصحاب الصادق (عليه السلام).
وشرح الحال أنه لم ينص على الرجل في كتب الرجال بشئ، ولكن روى في
الكافي (1) في باب وقت الصلاة عن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن
يونس، عن يزيد بن خليفة، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) إن عمر بن حنظلة أتانا عنك
بوقت، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا لا يكذب علينا.
وفي التهذيب (2) في باب العمل في ليلة الجمعة ويومها عن الحسين بن سعيد، عن
فضالة، عن أبان، عن إسماعيل الجعفي، عن عمر بن حنظلة، قال: قلت لأبي
عبد الله (عليه السلام): القنوت يوم الجمعة؟ فقال: أنت رسولي إليهم في هذا إذا صليتم في جماعة.
الحديث. ويفهم من هذين الحديثين توثيقه. " (3)
أقول: ويرد على التمسك بالخبرين أن في سند الأول يزيد بن خليفة، وهو واقفي
على ما صرح به الشيخ. (4) ولم يثبت وثاقته. والخبر الثاني رواية نفس عمر بن
حنظلة; فكيف يثبت به وثاقته.
نعم، يمكن أن يجعل كثرة روايته عن الأئمة (عليهم السلام) نحو شاهد على وثاقته، كما قيل.
وكيف كان، فالأصحاب تلقوا الخبر بالقبول حتى أطلقوا عليه مقبولة عمر بن
حنظلة.

1 - الكافي 3 / 275، باب وقت الظهر والعصر، الحديث 1. (= طبعه القديم 1 / 76).
2 - تهذيب الأحكام 3 / 16، باب العمل في ليلة الجمعة ويومها، الحديث 57 (= طبعه القديم
1 / 249).
3 - تنقيح المقال 2 / 342.
4 - رجال الطوسي / 364، (عده في أصحاب الكاظم (عليه السلام)).
429

مشهورة أبي خديجة
وروى الشيخ بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب، عن أحمد بن محمد، عن
الحسين بن سعيد، عن أبي الجهم، عن أبي خديجة، قال: بعثني أبو عبد الله -
عليه السلام - إلى أصحابنا فقال: قل لهم: " إياكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تدارى بينكم
في شئ من الأخذ والعطاء أن تتحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفساق. اجعلوا بينكم رجلا ممن
قد عرف حلالنا وحرامنا، فإني قد جعلته قاضيا. وإياكم أن يخاصم بعضكم بعضا إلى السلطان
الجائر. "
هكذا في التهذيب المطبوع بطبعتيه (1) ولكن في الوسائل: " فإني قد جعلته عليكم
قاضيا " بإضافة كلمة: " عليكم ". فلعله سهو من النساخ أو منه، أو أن نسخة التهذيب من
صاحب الوسائل كانت كذلك. (2)
وروى الصدوق بإسناده عن أحمد بن عائذ، عن أبي خديجة سالم بن مكرم
الجمال، قال: قال أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): " إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا
إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم، فإني
قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه. " ورواه الكليني عن الحسين بن محمد، عن معلى بن
محمد، عن الحسن بن علي، عن أبي خديجة مثله إلا أنه قال: " شيئا من قضائنا. " ورواه
الشيخ بإسناده عن الحسين بن محمد، مثله. (3)
وأبو الجهم كنية لبكير بن أعين وثوير بن أبي فاختة، والأول ثقة والثاني ممدوح.

1 - تهذيب الأحكام - طبعه القديم 2 / 92، كتاب القضاء; وطبعه الجديد 6 / 303، باب من
الزيادات في القضايا والأحكام، الحديث 53.
2 - الوسائل 18 / 100، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 6.
3 - الوسائل 18 / 4، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث 5.
430

وأحمد بن عائذ أيضا ثقة (1).
وإنما الأشكال في أبي خديجة، فعن الشيخ في الفهرست أنه ضعيف، وعن
النجاشي أنه قال:
" ثقة ثقة، روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن (عليه السلام)، له كتاب. " (2) هذا.
تفسير الآيات الثلاث، ومعنى أولي الأمر
أقول: حيث إن الإمام (عليه السلام) تمسك في المقبولة بالآية الشريفة من القرآن الكريم
فالأولى التعرض لها ولمفادها مقدمة، لنكون في بيان مفاد الخبرين على بصيرة من
أمرنا. قال الله - تعالى - في سورة النساء: " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، و
إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل، إن الله نعما يعظكم به، إن الله كان سميعا بصيرا *
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شئ
فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلا * ألم
تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى
الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا. " (3)
ولا يخفى أن الآيات الثلاث مرتبطة بحسب المضمون جدا.
والظاهر أن الأمانات في الآية مفهوم عام: تشمل أمانات الناس بينهم من الأموال
وغيرها، وأمانات الله عند عباده من الكتاب العزيز وأوامره ونواهيه، وأمانته عند
الولاة; فإن الإمامة أمانة إلهية عندهم، وهم مأمورون بأداء حقوق الرعية والعدل
بينهم واللطف بهم وحملهم على موجب الدين والشريعة وتوفير الصدقات والغنائم
عليهم وتسليم ودائع الإمامة إلى الإمام بعده.

1 - تنقيح المقال 1 / 181 و 197 و 63.
2 - تنقيح المقال 2 / 5، والفهرست للطوسي / 79 (ط. أخرى / 105) ورجال النجاشي / 134.
3 - سورة النساء (4)، الآية 58 و 59 و 60.
431

وإذا فرض كون الإمامة في مورد بالانتخاب فآراء الناس وبيعتهم أيضا أمانة
منهم عند الوالي تستعقب تكليفا خطيرا عليه.
والأئمة المعصومون من عترة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا كانوا من أنفس الأمانات عند
الناس، ومن الأسف أن الأكثر خانوا في هذه الأمانة الإلهية.
وبالجملة، فالآية تدل على مفهوم عام وإن كان بعض المصاديق أنفس وأهم.
والروايات الواردة من طرق الفريقين في المقام تحمل على بيان المصاديق
المهمة، وتكون من باب الجري والتطبيق فلا تفيد الحصر.
ففي الجمع: " قال أبو جعفر (عليه السلام): إن أداء الصلاة والزكاة والصوم والحج من
الأمانة. " (1)
وفيه أيضا: " روي عنهم (عليهم السلام) أنهم قالوا: آيتان إحديهما لنا والأخرى لكم: قال الله
- تعالى - إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها. الآية. وقال: يا أيها الذين آمنوا
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم. الآية. " (2)
وفي نور الثقلين عن الكافي بسنده، عن بريد العجلي قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن
قول الله - عزوجل -: " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس
أن تحكموا بالعدل "، قال: إيانا عنى أن يؤدي الأول إلى الإمام الذي بعده الكتب والعلم و
السلاح. " وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل " الذي في أيديكم، ثم قال للناس: " يا
أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم. " إيانا عنى خاصة. أمر
جميع المؤمنين إلى يوم القيامة بطاعتنا. (3)
وفي الدر المنثور عن زيد بن أسلم في قوله: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى
أهلها، قال:

1 - مجمع البيان 2 / 63 (الجزء 3).
2 - مجمع البيان 2 / 63 (الجزء 3).
3 - نور الثقلين 1 / 497; والكافي 1 / 276، كتاب الحجة، باب أن الإمام يعرف الإمام...، الحديث
1.
432

" أنزلت هذه الآية في ولاة الأمر وفيمن ولى من أمور الناس شيئا. "
وعن شهر بن حوشب، قال:
" نزلت في الأمراء خاصة ". وعن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: " حق على الإمام أن
يحكم بما أنزل الله وأن يؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك فحق على الناس أن يسمعوا له وأن
يطيعوا وأن يجيبوا إذا دعوا. " (1)
وفي كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الأشعث بن قيس عامله على آذربيجان:
" وإن عملك ليس لك بطعمة، ولكنه في عنقك أمانة. " (2)
فظهر بما ذكر أن الآية وإن كانت عامة لفظا ومفهوما فتشمل جميع الأمانات،
ولكن الولاية المفوضة من قبل الله - تعالى - أو من قبل الأمة من أعظمها، والتكليف
بالنسبة إليها خطير.
ولعل مقارنة الأمانة في الآية للحكم بالعدل قرينة على إرادة هذا المصداق قطعا،
فيكون الحكم بالعدل من شؤون الولاية ومن فروعها ومن مصاديق أداء الأمانة إلى
أهلها. فتدبر. هذا كله بالنسبة إلى الأمانة.
وأما الحكم فقال الراغب في المفردات:
" حكم، أصله: منع منعا لإصلاح، ومنه سميت اللجام حكمة الدابة... وحكمت
الدابة: منعتها بالحكمة، وأحكمتها: جعلت لها حكمة... والحكم بالشيء أن تقضي بأنه
كذا أو ليس بكذا، سواء ألزمت ذلك غيرك أو لم تلزمه، قال - تعالى -: " وإذا حكمتم بين
الناس أن تحكموا بالعدل. "... ويقال: حاكم وحكام لمن يحكم بين الناس، قال الله -
تعالى -: " وتدلوا بها إلى الحكام. " والحكم: المتخصص بذلك فهو أبلغ، قال الله - تعالى
-: " أفغير الله ابتغي حكما "، وقال - عز وجل -: " فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها. "
وإنما قال: حكما ولم يقل:

1 - الدر المنثور 2 / 175.
2 - نهج البلاغة، فيض / 839; عبده 3 / 7; لح / 366، الكتاب 5.
433

حاكما تنبيها أن من شرط الحكمين أن يتوليا الحكم عليهم ولهم حسب
ما يستصوبانه من غير مراجعة إليهم في تفصيل ذلك. " (1)
وفي المقاييس:
" الحاء والكاف والميم أصل واحد، وهو المنع، وأول ذلك الحكم وهو المنع من
الظلم. وسميت حكمة الدابة لأنها تمنعها... والحكمة هذا قياسها لأنها تمنع من
الجهل... وحكم فلان في كذا إذا جعل أمره إليه. " (2)
وفي النهاية:
" في أسماء الله الحكم والحكيم، هما بمعنى الحاكم وهو القاضي. والحكيم: فعيل
بمعنى فاعل أو هو الذي يحكم الأشياء ويتقنها... والحكم: العلم والفقه والقضاء
بالعدل وهو مصدر حكم يحكم... يقال: أحكمت فلانا أي منعته، وبه سمي الحاكم
لأنه يمنع الظالم. " (3)
وفي لسان العرب:
" والحاكم: منفذ الحكم، والجمع حكام. " (4)
أقول: بالتتبع في الكتاب والسنة يظهر لك أن الحكم والحكومة والحاكم و
الحكام كان أكثر استعمالها في القضاء والقاضي، وربما استعملت في الولاية العامة و
الوالي أيضا.
ولعله من الأول قوله - تعالى -: " وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس
بالإثم. " (5)

1 - مفردات الراغب / 126.
2 - مقاييس اللغة 2 / 91.
3 - النهاية لابن الأثير 1 / 418.
4 - لسان العرب 12 / 142.
5 - سورة البقرة (2)، الآية 188.
434

وعن ابن فضال نقلا عن خط أبي الحسن الثاني (عليه السلام) في تفسير هذه الآية: " الحكام:
القضاة. " (1)
وكذا قوله: " وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل "، بل وقوله: " يريدون أن
يتحاكموا إلى الطاغوت " بملاحظة مورد النزول كما يأتي عن قريب.
وقول الصادق (عليه السلام) في خبر سليمان بن خالد: " اتقوا الحكومة، فإن الحكومة إنما هي
للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبي (كنبي) أو وصى نبي. " (2) فتأمل.
وقول أمير المؤمنين في خطابه لمالك لاختيار القضاة: " ثم اختر للحكم بين الناس
أفضل رعيتك... " (3)
إلى غير ذلك من الاستعمالات.
ومن قبيل الثاني ما في نهج البلاغة في الخطبة القاصعة: " فأبدلهم العز مكان الذل، و
الأمن مكان الخوف فصاروا ملوكا حكاما، وأئمة أعلاما... فهم حكام على العالمين وملوك
في أطراف الأرضين. " (4)
وفيه أيضا: " فتقربوا إلى أئمة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والبهتان، فولوهم
الأعمال وجعلوهم حكاما على رقاب الناس. " (5)
وما في البحار عن كنز الكراجكي، قال: قال الصادق (عليه السلام): " الملوك حكام على
الناس، والعلماء حكام على الملوك. " (6)

1 - الوسائل 18 / 5، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث 9.
2 - الوسائل 18 / 7، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.
3 - نهج البلاغة، فيض / 1009; عبده 3 / 104; لح / 434، الكتاب 53.
4 - نهج البلاغة، فيض / 802; عبده 2 / 177; لح / 296، الخطبة 192.
5 - نهج البلاغة، فيض / 666; عبده 2 / 214; لح / 326، الخطبة 210.
6 - بحار الأنوار 1 / 183، كتاب العلم، الباب 1 من أبواب العلم وآدابه، الحديث 92.
435

وفيه أيضا عن الاختصاص: قال أبو عبد الله (عليه السلام): " تكون شيعتنا في دولة القائم (عليه السلام)
سنام الأرض وحكامها. " (1)
وفيه أيضا عن الخصال بسنده عن علي بن الحسين: " ويكونون حكام الأرض و
سنامها. " (2)
وما في إعلام الورى في خطبة أبي طالب عند تزويجه خديجة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" الحمد لله الذي جعلنا من زرع إبراهيم... وأنزلنا حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء، و
جعلنا الحكام على الناس. " (3)
إلى غير ذلك من موارد الاستعمال.
وبالجملة، فالحاكم قد يراد به القاضي، وقد يراد به الوالي. وكذا سائر المشتقات.
ولا يخفى أن الاشتراك معنوي لا لفظي، إذ كل منهما بقراره وكلامه القاطع يمنع عن
الفساد، والأول شعبة من الثاني، وتكون قوته الخارجية غالبا بقوة الوالي وجنوده، و
إلا فهو بنفسه لا قوة له على المنع والتنفيذ.
وأما قوله: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم "، فقد مر تفسيره بالتفصيل
في الباب الثاني.
وملخص ما ذكرناه هناك ان الأمر بإطاعة الله - تعالى - ناظر إلى إطاعته في
أحكامه. وإطاعة الرسول والأئمة (عليهم السلام) في مقام بيان هذه الأحكام ليست أمرا وراء
إطاعة الله، وأوامرهم في هذا المجال إرشادية لا مولوية. نظير أوامر الفقيه.
نعم، للرسول غير مقام الرسالة مقام الإمامة والولاية أيضا، وله (صلى الله عليه وآله وسلم) وللأئمة بعده
مضافا إلى بيان الأحكام الكلية، أو امر مولوية صادرة عنهم بما أنهم ولاة الأمر
وساسة العباد. فقوله: " أطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " ناظر إلى هذا السنخ من

1 - بحار الأنوار 52 / 372، تاريخ الإمام الثاني عشر، (الباب 27) باب سيره وأخلاقه...، الحديث
164.
2 - بحار الأنوار 52 / 317، تاريخ الإمام الثاني عشر، (الباب 27) باب سيره وأخلاقه...، الحديث
12.
3 - إعلام الورى / 85، الباب الخامس.
436

الأوامر الولائية، ولذا كررت لفظة: " أطيعوا ".
والمحتملات في " أولي الأمر " ثلاثة:
الأول: أن يراد بهم جميع الأمراء والحكام مطلقا، كما لعله الظاهر مما روي عن
أبي هريرة أنه قال:
" هم الأمراء منكم. " (1)
الثاني: أن يراد بهم خصوص الأئمة الاثني عشر المعصومين (عليهم السلام) كما وردت بذلك
روايات مستفيضة.
الثالث: أن يراد بهم بمناسبة الحكم والموضوع كل من له حق الأمر والحكم
شرعا، فمن ثبت له هذا الحق شرعا وجبت لا محالة إطاعته في ذلك وإلا لصار جعل
هذا الحق له لغوا.
وحق الأمر والحكم لا ينحصر في الإمام المعصوم، بل يثبت لكل من كانت
حكومته مشروعة بالنصب أو بالانتخاب.
فكما وجبت إطاعة أمير المؤمنين (عليه السلام) مثلا في أوامره الولائية تجب إطاعة
المنصوبين من قبله، كمالك الأشتر مثلا.
قال الشيخ الأعظم الأنصاري " قده " في مكاسبه في معنى أولي الأمر:
" الظاهر من هذا العنوان عرفا من يجب الرجوع إليه في الأمور العامة التي
لم تحمل في الشرع على شخص خاص. " (2)
ولا محالة يتقيد الأمر بما إذا لم يكن معصية لله، إذ ليس لولي الأمر حق الأمر

1 - الدر المنثور 2 / 176.
2 - المكاسب للشيخ الأنصاري / 153.
437

بالمعصية.
وعلى ما ذكرنا فالفقيه الجامع للشرائط أيضا على فرض ولايته شرعا يصير
مصداقا للآية قهرا.
وما ورد من اختصاص الآية بالأئمة المعصومين (عليهم السلام) فالمراد به الحصر الإضافي
في قبال أئمة الجور المدعين ما ليس لهم. والحصر لا ينحصر في الحقيقي فقط.
وكيف يمكن الالتزام بولاية شخص ولو في ظرف خاص ولا تجب إطاعته؟ مع
أن الغرض من جعل المنصب لا يحصل إلا بإطاعة والتسليم.
وإن شئت قلت: إن إطاعته إطاعة الإمام المعصوم أيضا، فإنه منصوب من قبله أو
مديم طريقته، فتدبر.
والمخاطب في قوله - تعالى -: " فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول " (1)،
هم المؤمنون المنادون في صدر الآية، والظاهر منه التنازع الواقع بين أنفسهم لا بينهم
وبين أولي الأمر، كما يظهر من بعض علماء السنة.
ويظهر من خبر بريد العجلي أن هذا التفسير كان شائعا في عصر الإمام الباقر (عليه السلام)
أيضا، فتصدى هو (عليه السلام) لرده حيث قال: " وكيف يأمرهم الله - عزوجل - بطاعة ولاة الأمر و
يرخص في منازعتهم؟ إنما قيل ذلك للمأمورين الذين قيل لهم: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول و
أولي الأمر منكم. " (2)
فهو - تعالى - أوجب عليهم أن يردوا المنازعات إلى الله والرسول في قبال الذين
يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت.
ولعل المراد بالرد إلى الله والرسول الأخذ بحكم الله المنزل على رسوله، ولذا
لم يذكر أولوا الأمر ثانيا، إذ ليس لهم أن يشرعوا حكما في قبال حكم الله - تعالى - و
ليس إعمال الولاية إلا تطبيق ما حكم الله به، لا تشريع حكم جديد. أو لعلهم لم
يذكروا ثانيا لكونهم من فروع الرسول وأغصانه.

1 - سورة النساء (4)، الآية 59.
2 - الكافي 1 / 276، كتاب الحجة، باب أن الإمام (عليه السلام) يعرف الإمام الذي...، الحديث 1.
438

وربما ينقدح في الذهن أن صدر الآية ذكر توطئة وتمهيدا للذيل، فيكون المراد
أنه لما كانت إطاعة الله وإطاعة رسوله وأولي الأمر واجبة فلا محالة يجب أن يكون
المرجع في المنازعات هو الله ورسوله لا الطاغوت الذي أرادوا أن يتحاكموا إليه
المذكور في الآية التالية، فتدبر.
واما قوله - تعالى -: " ألم تر إلى الذين يزعمون الآية "، ففي مجمع البيان:
" كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة، فقال اليهودي: أحاكم
إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنه علم أنه لا يقبل الرشوة ولا يجوز في الحكم، فقال المنافق: لا، بل
بيني وبينك كعب بن الأشرف، لأنه علم أنه يأخذ الرشوة فنزلت الآية. " (1)
والطاغوت: فعلوت من الطغيان للمبالغة، ففيه قلب كما لا يخفى. هذا.
وقد تحصل مما ذكرناه أن الحكم بالعدل في الآية الأولى من الآيات الثلاث ظاهر
في القضاء، وأن مورد الآية الثالثة أيضا هو القضاء، كما أن التنازع المذكور في الآية
الثانية أيضا يناسب القضاء.
ولكن لا يخفى أن القضاء بنفسه ليس قسيما للإمامة والولاية، بل هو من شؤون
الإمامة، وكثيرا ما كان الإمام بنفسه يتصدى له، وتصدى القضاة له أيضا كان من جهة
كونهم منصوبين من قبله.
وقد مر في خبر سليمان بن خالد قوله (عليه السلام): " فإن الحكومة إنما هي للإمام العالم
بالقضاء " وفي المقبولة: " فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة. " ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا
كان يقضي بإمامته وولايته، وكذلك أمير المؤمنين (عليه السلام). وقال الله - تعالى - مخاطبا
لداود النبي (عليه السلام): " يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض، فاحكم بين الناس بالحق. " (2)
ففرع جواز الحكم ونفوذه على كونه خليفة.
فيظهر بجميع ذلك أن القضاء من شؤون الإمامة والخلافة.
والآيات الثلاث كما مر مرتبطة بحسب المضمون، وقد مر تفسير الأمانة في الآية

1 - مجمع البيان 2 / 66 (الجزء 3).
2 - سورة ص (38)، الآية 26.
439

الأولى بالإمامة والولاية، وكون الحكم بالعدل متفرعا عليها.
والمذكور في الآية الثانية أيضا وجوب إطاعة الرسول وأولي الأمر، يعني الأئمة،
وفرع عليها وجوب إرجاع التنازع إلى الله والرسول.
ويحتمل أن يراد بالتنازع في الآية الأعم من التنازع في الحكم الكلي وفي
الموضوع المرتبط بالقضاء.
والطاغوت في الآية الثالثة أيضا لكونه للمبالغة ظاهر في الوالي الجائر، إذ القاضي
بما هو قاض لا قوة له حتى يطغى. ولو طغى يكون بالاعتماد على قوة الوالي و
جنوده.
وقال في مجمع البيان في تفسير الآية الأولى:
" أمر الله لولاة والحكام أن يحكموا بالعدل والنصفة. "
وفي تفسير الآية الثالثة:
" لما أمر الله أولي الأمر بالحكم والعدل وأمر المسلمين بطاعتهم وصل ذلك بذكر
المنافقين. " (1)
وعلى هذا فتكون الآيات الثلاث مرتبطة إجمالا بمسألة الإمامة والولاية
الكبرى، ويكون أمر القضاء والحكم بالعدل في المنازعات من فروعها وأحكامها.
كلام الأستاذ الإمام حول المقبولة:
إذا عرفت تفسير الآيات الثلاث إجمالا فلنرجع إلى بيان دلالة المقبولة، فنقول:
قال الأستاذ الإمام - مد ظله - في تقريب الاستدلال بها على نصب الفقيه واليا
ما محصله بتوضيح منا:
" إن قول الراوي: " بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان أو إلى

1 - مجمع البيان 2 / 63 و 66 (الجزء 3).
440

القضاة "، لا شبهة في شموله للمنازعات التي يرجع فيها إلى القضاة، كدعوى أن
فلانا مديون أو وارث مثلا وإنكار الطرف الآخر مما يحتاج إلى الترافع وإقامة البينة
أو اليمين. والمنازعات التي يرجع فيها إلى الولاة والأمراء، كالتنازع الحاصل بينهما
لأجل عدم أداء دينه أو ميراثه بعدما كان ثابتا ومعلوما مما تحتاج إلى إعمال السلطة
والقدرة فقط ويكون مرجعها الأمراء والسلاطين. فلو قتل ظالم شخصا من طائفة و
وقع النزاع بين الطائفتين فلا مرجع لرفعه إلا الولاة بقدرتهم. ولذا قال: " فتحاكما إلى
السلطان، أو إلى القضاة " ومن الواضح عدم تدخل الخلفاء في ذلك العصر بل مطلقا
في المرافعات التي ترجع فيها إلى القضاة، وكذلك العكس. وقول الإمام - عليه السلام
-: " من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت "، انطباقه على الولاة
أوضح، بل لولا القرائن لكان الظاهر منه خصوص الولاة.
وكيف كان، فلا إشكال في دخول الطغاة من الولاة فيه، سيما مع مناسبات الحكم و
الموضوع، ومع استشهاده بالآية التي هي ظاهرة فيهم في نفسها.
وقول الراوي بعد ذلك: " فكيف يصنعان " يكون استفسارا عن المرجع في البابين.
واختصاصه بأحدهما سيما القضاة في غاية البعد.
وقول الإمام - عليه السلام -: " فليرضوا به حكما " يكون تعيينا للحاكم في التنازع
مطلقا.
ولو توهم من قوله: " فليرضوا " اختصاصه بمورد تعيين الحكم فلا شبهة في عدم
إرادة خصوصه، بل ذكر من باب المثال، وإلا فالرجوع إلى القضاة الذي هو المراد
جزما لا يعتبر فيه الرضا من الطرفين.
فاتضح من جميع ذلك أنه يستفاد من قوله (عليه السلام): " فإني قد جعلته عليكم حاكما " أنه (عليه السلام)
قد جعل الفقيه حاكما فيما هو من شؤون القضاء، وما هو من شؤون الولاية. فالفقيه
ولي الأمر في البابين وحاكم في القسمين، سيما مع عدوله (عليه السلام) عن قوله: " قاضيا " إلى
قوله: " حاكما. " بل لا يبعد أن يكون القضاء أيضا أعم من قضاء القاضي ومن أمر الوالي
وحكمه. قال الله - تعالى -: " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا
441

قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم. " (1)
وكيف كان فلا ينبغي الإشكال في التعميم للبابين.
ويشهد لذلك أيضا مشهورة أبي خديجة التي مرت، إذا الظاهر من صدرها إلى
قوله: " فإني قد جعلته قاضيا " هي المنازعات التي يرجع فيها إلى القضاة. ومن تحذيره
بعد ذلك من الإرجاع إلى السلطان الجائر وجعله مقابلا له بقوله (عليه السلام): " وإياكم أن
يخاصم بعضكم بعضا إلى السلطان الجائر "، هي المنازعات التي يرجع فيها إلى السلطان
لرفع التجاوز والتعدي لا لفصل الخصومة ".
هذا ما ذكره الأستاذ الإمام - مد ظله - لتقريب الاستدلال بالمقبولة والمشهورة
على نصب الفقيه واليا وقاضيا.
ثم تعرض - مد ظله - لبعض الشبهات الواردة والجواب عنه، فقال ما حاصله:
" ثم إنه قد تنقدح شبهة في بعض الأذهان بأن أبا عبد الله (عليه السلام) في أيام إمامته إذا
نصب شخصا أو أشخاصا للإمارة أو القضاء كان أمده إلى زمان إمامته (عليه السلام)، وبعد وفاته
يبطل النصب.
وفيها ما لا يخفى، فإنه مع الغض عن أن مقتضى المذهب أن الإمام إمام حيا وميتا
وقائما وقاعدا، إن النصب لمنصب الولاية أو القضاء أو نصب المتولي للوقف أو القيم
على السفهاء أو الصغار لا يبطل بموت الناصب. إذ من الضروري في طريقة العقلاء أنه
مع تغيير السلطان أو هيئة الدولة ونحوهما لا ينعزل الولاة والقضاة وغيرهم من
المنصوبين. نعم للرئيس الجديد عزلهم متى أراد، ومع عدم العزل تبقى المناصب على
حالها.
وفي المقام لا يعقل هدم الأئمة اللاحقين لنصب الإمام الصادق (عليه السلام)، لأنه يرجع إما
إلى نصب غير الفقهاء العدول مع كونهم أصلح وأرجح، أو إلى إرجاع الشيعة إلى ولاة
الجور وقضاته، أو إلى الإهمال لهذا الأمر الضروري الذي يحتاج إليه الأمم. والكل
ظاهر الفساد.

1 - سورة الأحزاب (33)، الآية 36.
442

فمن نصبه الإمام الصادق (عليه السلام) منصوب إلى زمان ظهور ولي الأمر - عليه السلام -.
وهنا شبهة أخرى أيضا، وهي أن الإمام وإن كان خليفة رسول الله وله نصب
الولاة والقضاة لكن لم تكن يده مبسوطة، بل كان في سيطرة خلفاء الجور، فلا أثر
لجعل منصب الولاية لأشخاص لا يمكن لهم القيام بأمرها. وأما نصب القضاة فله أثر
في الجملة.
وفيها أنه مع وجود الأثر في الجملة لبعض الشيعة ولو سرا إن لهذا الجعل سرا
سياسيا عميقا، وهو طرح حكومة عادلة إلهية وتهيئة بعض أسبابها حتى لا يتحير
المتفكرون لو وفقهم الله لتشكيل حكومة إلهية.
ولقد تصدى بعض المتفكرين لطرح الحكومة وتخطيطها في السجن لرجاء
تحققها في الآتي.
بل الغالب في العظماء من الأنبياء وغير هم الشروع في الطرح أو العمل من الصفر
تقريبا.
وأبو عبد الله (عليه السلام) قد أسس بهذا الجعل أساسا قويما للأمة والمذهب، بحيث لو نشر
هذا الطرح والتأسيس في جامعة التشيع وأبلغه الفقهاء والمتفكرون إلى الناس و
لاسيما إلى الجوامع العلمية وذوي الأفكار الراقية لصار ذلك موجبا لانتباه الأمة و
التفاتهم وقيام شخص أو أشخاص لتأسيس حكومة إسلامية عادلة تقطع أيادي
الأجانب. " (1) انتهى كلامه - مد ظله -.
توضيح لكلام الأستاذ
أقول: قد صار حاصل كلامه - مد ظله - أن قول السائل: " فتحاكما إلى السلطان،
أو إلى القضاة " بملاحظة أن فصل الخصومات كان من وظائف القضاة،

1 - كتاب البيع 2 / 478 - 482.
443

وأن سائر الأحكام المتوقفة على إعمال القوة والقدرة كانت من شؤون الولاة. و
كذا قول الإمام (عليه السلام): " فإنما تحاكم إلى الطاغوت " حيث استعمل لفظ الطاغوت واستشهد
بالآية الشريفة، وكذا قوله: " فإني قد جعلته عليكم حاكما " بدل قوله: " قاضيا " كل ذلك
قرينة على أن المقصود هو تعيين المرجع لجميع الأمور المرتبطة بالولاة التي منها
القضاء. فيراد بالحاكم مطلق من يرجع إليه في الأمور للبت والقرار. وإلى هذا البيان
أيضا يرجع كلام كل من استدل بالمقبولة في المقام، فتكون المقبولة دليلا على نصب
الوالي والقاضي معا، لا بأن يستعمل لفظ الحاكم في المعنيين، بل لأن القضاء أيضا من
شؤون الولاة ولذا قد ينصبون القضاة لذلك وقد يتصدون له بأنفسهم، كما كان يصنع
أمير المؤمنين (عليه السلام). وقد مر في خبر سليمان بن خالد، عن الصادق (عليه السلام): " إن الحكومة إنما
هي للإمام العالم بالقضاء ". (1)
وبعبارة أخرى: ليس المراد أن هنا نصبين: نصب الفقيه واليا، ونصبه قاضيا وإن
كان ربما يوهم ذلك كلام الأستاذ - مد ظله - بل المراد نصبه واليا ولكن القضاء أيضا
من شؤون الوالي.
ويمكن أن يؤيد كون المراد بالحاكم هو الوالي بقوله (عليه السلام): " عليكم " فإن العلو إنما
يكون للوالي المتسلط، ولو أريد القضاء فقط كان المناسب أن يقول: " بينكم. " وقد مر
منا أيضا أن الظاهر كون الآيات الثلاث مرتبطة بمسألة الولاية.
ويظهر من قول الإمام (عليه السلام): " من كان منكم "، اعتبار كون الوالي والقاضي للشيعة
الإمامية من الشيعة. ومن قوله: " روى حديثنا "، كون روايات العترة وحديثهم أساس
حكمه وقضائه. ولا يصدق هذا إلا على المجتهد المستنبط من الأحاديث، إذ المقلد
أساس علمه فتوى مرجعه لا أحاديث أهل البيت.
ويظهر من قوله: " نظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا " أيضا اعتبار الاجتهاد، إذ
لا يصدق على المقلد المحض أنه نظر وعرف، فإن المتبادر من النظر في الشئ إعمال
الدقة فيه، ومن معرفته الإحاطة به تفصيلا. ومعنى النظر في حلالهم وحرامهم النظر

1 - الوسائل 18 / 7، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.
444

في الفتاوى والأحكام الصادرة عن الأئمة (عليهم السلام) وليس هذا إلا شأن المجتهد، كما
لا يخفى.
ولو تعدد المجتهد واختلفوا في الفتيا كان المرجع أفقههم، كما يدل على ذلك ذيل
المقبولة حيث قال: " فإن كان كل رجل اختار رجلا من أصحابنا، فرضيا أن يكونا
الناظرين في حقهما، واختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ قال: الحكم
ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به
الآخر. " (1)
ولا يخفى ان من قوله: " أفقههما " أيضا يستفاد اعتبار أصل الفقاهة. هذا.
مناقشات حول كلام الأستاذ
ولكن مع ذلك كله يمكن أن يناقش في استدلال بالمقبولة على نصب الفقيه واليا
بوجوه:
الأول: ما ذكرناه في الفصل السابق من الإشكال في النصب العام ثبوتا بشقوقه
الخمسة، فراجع. وإذا فرض عدم الإمكان ثبوتا لم تصل النوبة إلى مقام الإثبات. و
لو فرض وجود ظاهر يدل عليه وجب تأويله بأن يحمل على بيان الصلاحية لا الفعلية،
وإنما تتحقق الفعلية بالرضا والانتخاب ولذا قال: " فليرضوا به حكما. " وإنما أمر بذلك
ردعا عن انتخاب الجائر أو انتخاب غير من ذكره من الفقيه الواجد للشرائط، فتأمل.
الثاني: أن الولاية بالنصب كانت ثابتة عندنا للإمام الصادق (عليه السلام) بنفسه،

1 - الكافي 1 / 67، كتاب فضل العلم، باب اختلاف الحديث، الحديث 10.
445

وبعده أيضا للأئمة من ولده، فما معنى نصب الفقهاء ولاة بالفعل مع وجوده و
ظهوره؟ ولو قيل بعدم السلطة له بالفعل، قلنا إن الفقيه المنصوب من قبله أيضا كذلك.
والسائل سأل عن المرجع للمحاكمات في عصر الإمام الصادق (عليه السلام)، فلا مجال لأن
يقال إن النصب منه (عليه السلام) كان لعصر الغيبة فإن السؤال على هذا يبقي بلا جواب ويصير
المقام من قبيل استثناء المورد وهو قبيح.
نعم يعقل نصب القاضي للمخاصمات الواقعة بين الشيعة لعصر الإمام الصادق (عليه السلام)
أيضا بعد عدم جواز الرجوع إلى قضاة الجور.
ومورد السؤال أيضا التخاصم، كما أن مورد نزول الآية المستشهد بها أيضا كان
هو النزاع والتخاصم، كما مر.
والمجعول في خبر أبي خديجة بنقليه أيضا هو منصب القضاء.
والمرجع للأمور الحسبية وولاية الغيب والقصر والممتنع أيضا كان هم القضاة،
كما هو المتعارف في عصرنا أيضا. وقد ذكر الماوردي وأبو يعلى أن نظر القاضي
يشتمل على عشرة أحكام أحدها فصل الخصومات، فراجع (1).
وذكر السلطان في المقبولة ومشهورة أبي خديجة أيضا كان من جهة أن المرجع
للقضاء في الأمور المهمة المعتنى بها كان هو شخص السلطان، مضافا إلى أن التنفيذ و
الإجراء أيضا كان بقدرته وقوته، ولولاه لم يتمكن القضاة من تنفيذ أحكامهم.
اللهم إلا أن يجاب عن هذا الإشكال بأنه ليس المقصود الاستدلال بالمقبولة
لجعل الولاية الكبرى للفقيه، بل الإمارة والعمل من قبل الإمام المعصوم، كما في
العمال المنصوبين من قبل الخلفاء. نظير مالك الأشتر من قبل أمير المؤمنين (عليه السلام).
فيصح نصب الفقهاء لذلك في عصر الحضور وعصر الغيبة معا غاية الأمر كون
تصرفاتهم في زمن عدم بسط اليد محدودة، فتأمل.

1 - الأحكام السلطانية للماوردي / 70، والأحكام السلطانية لأبي يعلى / 65.
446

الثالث: أن الظاهر أن الإمام الصادق (عليه السلام) لم يكن بصدد الثورة ضد السلطة الحاكمة
في عصره لكي ينصب واليا في قبالها، لعدم مساعدة الظروف على ذلك.
بل كان بصدد رفع مشكلة الشيعة في عصره في باب المخاصمات. كيف؟ ولم يعهد
تدخله (عليه السلام) بنفسه في المسائل الولائية المرتبطة بالولاة مع كونه حقا له عندنا، فكيف
ينصب لذلك الفقهاء في عصره؟
وكون النصب لعصر الغيبة دون عصره مساوق للإعراض عن جواب السؤال و
لاستثناء المورد وهو قبيح، كما مر.
اللهم إلا أن يقال: إن القضاء كما مر ليس منحازا عن الولاية الكبرى، بل هو من
شؤون الوالي. فالإمام (عليه السلام) جعل الولاية الكبرى للفقيه لعصره ولما بعده غاية الأمر أن
هذا الجعل بالنسبة إلى عصره كان منشئا للأثر بالنسبة إلى خصوص القضاء والأمور
الحسبية فقط، ولعله في الأعصار المتأخرة يفيد بالنسبة إلى جميع الآثار كما تراه في
عصرنا حيث تهيأ الجو لإقامة دولة إسلامية في إيران.
ويكفي في الابتلاء بموضوع، الابتلاء ببعض شؤونه.
ويؤيد ذلك أنه (عليه السلام) بعدما أرجع المتخاصمين إلى من وجد الصفات المذكورة وأمر
برضاهما به حكما قال: " فإني قد جعلته عليكم حاكما. " إذ الظاهر من هذا التعبير أن
الذيل بمنزلة التعليل لما سبقه، وقد مر أن لفظة " عليكم " قرينة على إرادة الولاية وإلا
كان الأنسب أن يقول: " بينكم. " فيكون المراد: " إني جعلت الفقيه واليا عليكم "، فهو
بجهة ولايته المشروعة يصح منه القضاء فيجب أن يرضوا به حكما.
وإنما قال ذلك مع أن قضاء الوالي وقضاته نافذ ولا يشترط فيه رضا الطرفين،
لأن الوالي المتسلط وقضاته تكون لحكمهم ضمانة إجرائية وأما الوالي الذي نصبه
الإمام الصادق (عليه السلام) فهو نظير نفس الإمام لم تكن ضمانة إجرائية لحكمه إلا إيمان
الشخص ورضاه، ولأجل ذلك أيضا عبر بلفظ " الحكم "، الظاهر في قاضي التحكيم
المنتخب برضا الطرفين.
وبالجملة، فالذيل كبرى كلية ذكرت علة للحكم، فيجب الأخذ بعمومها.
447

الرابع: أن الحكومة ومشتقاتها قد غلب استعمالها في الكتاب والسنة في
خصوص القضاء، كقوله - تعالى -: " وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل " (1)، و
قوله: " وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم. " (2)
وفي حديث ابن فضال نقلا عن خط أبي الحسن الثاني (عليه السلام) في تفسير الآية:
" الحكام: القضاة. " (3)
وقد مر في خبر سليمان بن خالد عن الإمام الصادق (عليه السلام): " اتقوا الحكومة، فإن
الحكومة إنما هي للإمام العالم بالقضاء. " (4) وقد مر في أوائل هذا الفصل في تفسير
الآيات الثلاث بعض كلمات أهل اللغة وموارد الاستعمال للحكم والحاكم والحكام،
فراجع.
بل يمكن أن يقال: إن إطلاق الحاكم والحكام على الوالي والولاة كقوله (عليه السلام):
" فصاروا ملوكا حكاما، وأئمة أعلاما " (5)، وقوله: " وجعلوهم حكاما على رقاب
الناس " (6)، وقوله (عليه السلام): " الملوك حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك " (7)، و
نحو ذلك من موارد الاستعمال أيضا كان بملاحظة أن القضاء وفصل الخصومات كان
من أهم شؤون الولاة. والقضاة أيضا إنما كانوا يتصدون لذلك بنصبهم وبالنيابة عنهم.
وبالجملة، ليس إطلاق الحاكم على الوالي بالاشتراك اللفظي، أو بان ينخلع اللفظ
عن معنى القضاء ويستعمل في الوالي مجازا. بل من جهة أن الوالي قاض حقيقة وأن
القضاء من أهم شؤونه ولا تتم الولاية إلا به.
فيكون قوله: " حاكما " في المقبولة مساوقا لقوله: " قاضيا " في خبر أبي خديجة
بنقليه.

1 - سورة النساء (4)، الآية 58.
2 - سورة البقرة (2)، الآية 188.
3 - الوسائل 18 / 5، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث 9.
4 - الوسائل 18 / 7، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.
5 - نهج البلاغة، فيض / 802; عبده 2 / 177; لح / 296، الخطبة 192.
6 - نهج البلاغة، فيض / 666; عبده 2 / 215; لح / 326، الخطبة 210.
7 - بحار الأنوار 1 / 183، كتاب العلم، الباب 1 من أبواب العلم وآدابه، الحديث 92.
448

والتعليل كان بملاحظة أن القضاء لم يكن إلا لنبي أو وصي نبي كما في خبر
سليمان بن خالد وغيره، ولا يكون مشروعا إلا بإجازة الوصي ونصبه. ومورد
السؤال أيضا المنازعات. فالإمام الصادق (عليه السلام) أرجع المتنازعين من الشيعة إلى الفقيه
وأمر بوجوب الرضا به حكما من جهة أنه - عليه السلام - بولايته المطلقة الثابتة عندنا
جعله قاضيا، فصار قضاؤه بذلك مشروعا فلم يجز التخلف عنه. وقد مر آنفا وجه
الأمر بالرضا والتعبير بالحكم.
وليس ذكر السلطان في المقبولة وخبر أبي خديجة دليلا على إرادة الأعم من
القضاء بعد كون السؤال عن تكليف المتنازعين.
وإنما ذكر السلطان من جهة أن الرجوع إلى القاضي المنصوب من قبل السلطان
نحو رجوع إلى السلطان، ولأنه ربما كان السلطان بنفسه يتصدى للقضاء في الأمور
المهمة.
والتنازع سواء كان لادعاء طرف وإنكار آخر أو كان لاستنكاف أحد عن أداء
دينه بعد معلوميته كان مرجعه القضاة، وكذلك جميع الأمور الحسبية كما هو المتعارف
في أعصارنا أيضا. كما قد يشهد بذلك خبر إسماعيل بن سعد عن الرضا (عليه السلام): " وعن
الرجل يصحب الرجل في سفر فيحدث به حدث الموت ولا يدرك الوصية كيف يصنع بمتاعه
وله أولاد صغار وكبار، أيجوز أن يدفع متاعه ودوابه إلى ولده الأكابر أو إلى القاضي، وإن
كان في بلدة ليس فيها قاض كيف يصنع؟ " (1)
إذ يظهر بذلك أن مرجع أمر الصغار كان هو القاضي. وقد مر الإشارة إلى كلام
الماوردي وأبي يعلى وأنهما جعلا تكليف القاضي أوسع من فصل الخصومات.
وعلى هذا فما ذكره الأستاذ الإمام - مد ظله - في بيان المقبولة من تقسيم التنازع
إلى قسمين وإرادة استفادة جعل الولاية الكبرى من هذا الطريق قابل للخدشة

1 - الوسائل 13 / 475، الباب 88 من أحكام الوصايا، الحديث 3.
449

جدا، فتأمل.
وقد تحصل مما ذكرناه بطوله أن المقبولة، وكذا خبر أبي خديجة بنقليه كليهما في
مقام نصب القاضي للشيعة الإمامية لرفع مشاكلهم في الأمور التي كانت ترتبط
بالقضاة بعدما حرم عليهم الرجوع إلى قضاة الجور. فلا يصح الاستدلال بهما لإثبات
الولاية المطلقة بالنصب.
فإن قلت: التعبير بالطاغوت والاستشهاد بالآية الشريفة لا يناسبان إرادة
خصوص القضاء.
قلت: الرجوع إلى قضاة الجور والاعتناء بهم وبحكمهم كان في الحقيقة رجوعا
إلى السلاطين. فإن القضاة كانوا من أذنابهم ومنصوبين من قبلهم، وقوتهم كانت
بقوتهم. ألا ترى أن من رجع إلى أحد العمال في دولة واعتنى به بما أنه عامل هذه
الدولة يصدق عليه أنه اعتنى بهذه الدولة وأمضى مشروعيتها. ومورد نزول الآية
أيضا كان هو القضاء، كما مر.
فان قلت: استعمال حرف الاستعلاء في قوله: " عليكم " يناسب الولاية المطلقة، لما
مر من أن المناسب للقضاء أن يقال: " بينكم ".
قلت: ليس استعمال حرف الاستعلاء في القضاء غلطا، إذ في القضاء أيضا يوجد
نحو استيلاء واستعلاء. فإن القاضي المنصوب من قبل السلطان له علو وقدرة بقدرة
من نصبه. والقاضي المنصوب من قبل الإمام الصادق (عليه السلام) أيضا له نحو قدرة معنوية
لوجوب العمل بحكمه والتسليم له، فيصح استعمال حرف الاستعلاء على أي تقدير.
450

الخامس: أن الظاهر كون المخاطب في " منكم " و " عليكم " خصوص الشيعة
الإمامية الاثني عشرية، كما يشهد بذلك كلمة: " أصحابنا " في كلام السائل. والشيعة
في عصر الإمام الصادق (عليه السلام) كانوا قليلين جدا مستهلكين بين سائر المسلمين، فلم
يمكن تحقق دولة وحكومة لهم. فيعلم بذلك أن الإمام (عليه السلام) لم يكن بصدد نصب الوالي،
بل كان غرضه رفع مشكلة الشيعة في منازعاتهم فأرجعهم إلى تعيين قاضي التحكيم
بأن يختاروا رجلا منهم ويرضوا به حكما. ولو كان بصدد نصب الوالي لكان المناسب
نصبه على جميع الأمة لاعلى الشيعة فقط.
اللهم إلا أن يقال، كما مر في كلام الأستاد - مد ظله -: إن نظر الإمام الصادق (عليه السلام)
لم يكن مقصورا على عصره فقط، بل كان بصدد طرح حكومة عادلة إلاهية وبيان
شرائطها ومواصفاتها حتى لا يتحير المفكرون لو وفقهم الله - تعالى - لإقامة دولة حقة
ولو في الأعصار الآتية. ويكفي في صحة هذا الجعل بنحو يشمل عصره أيضا ترتب
بعض الآثار في عصره، أعني الأمور المرتبطة بالقضاة من القضاء والأمور الحسبية و
نحوها، فتدبر.
السادس: سلمنا أن الحكم بمشتقاته بحسب الوضع والمفهوم يعم القضاء وغيره
مما يشتمل على البت والفصل ولكن لما كانت المقبولة سؤالا وجوابا متعرضة لمسألة
المنازعة في الأموال والقضاء فيها، فالقضاء هو القدر المتيقن من الكلام، ولا دليل
على إرادة الأعم.
والتمسك بالإطلاق إنما يجري في الموضوعات لا في المحمولات.
فلو قيل: " النار حارة " بلا ذكر قيد نحكم بكون الموضوع طبيعة النار بإطلاقها
فتشمل جميع الأفراد، ولا نحكم بكون المحمول جميع مراتب الحرارة وأفرادها. و
لو قال المولى: " أكرم عالما " نجري فيه مقدمات الحكمة فنقول: كان المولى في مقام
البيان وجعل الموضوع لحكمه طبيعة العالم فيثبت الإطلاق، ونتيجته كفاية أي عالم
كان.
وأما إذا قال: " زيد عالم " فلا يجري الإطلاق في المحمول، ولا نحكم بكونه عالما
بكل ما يحتمل كونه عالما به.
451

فكذلك إذا قال: " الفقيه حاكم أو خليفتي أو حجتي أو وارثي أو أميني أو نحو
ذلك " لا يثبت به إلا الحاكمية أو الخلافة أو نحوهما بالإجمال بلا عموم وشمول.
نعم، لو لم يوجد في البين قدر متيقن وكان المولي في مقام بيان الوظيفة والتكليف
حكمنا بالإطلاق وإلا صار الجعل لغوا. وأما مع وجود القدر المتيقن فلا لغوية و
لا إطلاق. هذا.
ولكن يمكن أن يقال: إنا لا نرى فرقا بين الموضوعات وبين المحمولات. إذ
لو كان المولى في مقام الإهمال والإجمال فلا إطلاق أصلا. وإن كان في مقام البيان
فإن لم يوجد قدر متيقن ثبت الإطلاق في كليهما. وإن وجد القدر المتيقن في البين
فإن قلنا بأن وجوده مضر بالإطلاق لم يثبت الإطلاق لا في الموضوع ولا في
المحمول، وإن لم يكن مضرا به ثبت الإطلاق في كليهما. فالفرق بينهما بلا وجه.
والحق أنه لو كانت هنا قرينة لفظية متصلة أو لبية بينة بحيث كانت كاللفظية
المتصلة منعت هذه من انعقاد الإطلاق قهرا.
وأما صرف وجود القدر المتيقن بعد إعمال الدقة فلا يصلح مانعا من انعقاد
الإطلاق ولا حجة لرفع اليد منه من غير فرق بين الموضوع وغيره.
فلو قال المولى: " جئني برجل راكبا " وكان في مقام البيان من كل جهة فكما
تجري مقدمات الحكمة في الرجل ويثبت فيه الإطلاق ونتيجته التخيير والعموم
البدلي بالنسبة إلى كل رجل فكذلك تجري في المجيء به وفي الركوب أيضا،
فلا يتعين نحو خاص من المجيء أو الركوب بل يتخير المكلف بين أنواع كل منهما.
ولو قال: " أكرم عالما " فكما تجري مقدمات الحكمة في الموضوع ونتيجته كفاية
أي عالم كان فكذلك تجري في متعلق الحكم أعني الإكرام ونتيجته كفاية أي نوع من
الإكرام.
وفي مقام الإنشاء قد يجعل المتعلق للحكم محمولا في القضية فيقال مثلا: " زيد
مكرم " ويراد وجوب إكرامه فلو كان في مقام البيان يثبت الإطلاق في المحمول
بلا إشكال.
452

نعم، الإطلاق ربما ينتج العموم الاستغراقي وربما ينتج العموم البدلي، وهذا
بحسب اختلاف الموارد، كما لا يخفى.
هذا مضافا إلى أن قوله: " جعلته عليكم حاكما " يصير مفاده أن " حاكمية الفقيه
مجعولة " فتصير الحاكمية موضوعا للجعل، اللهم إلا أن يقال هذا خلط بين الموضوع
المصطلح في علم الأصول والموضوع المصطلح في علم النحو، والحاكمية بحسب
المفاد محمول على الفقيه وإن جعلت في القضية موضوعا.
وقد تلخص مما ذكرناه هنا أن الحكم بالإطلاق مع تحقق مقدماته لا يفرق فيه بين
الموضوع وبين غيره، وأن كون القضاء هو القدر المتيقن من لفظ الحاكم في المقبولة
لا يوجب حمله على خصوص القضاء، وكون المورد خصوص المنازعة أيضا
لا يوجب الاختصاص فإن المورد لا يخصص بعد كون الجواب عاما. فالإشكال
السادس مدفوع وباطل من أساسه.
السابع: أن لفظ الحكم في المقبولة ظاهر في قاضي التحكيم، أي المحكم من قبل
المتخاصمين، فيكون المراد بالحاكم أيضا ذلك لتتلائم الجملتان.
وعلى هذا فليس في المقبولة نصب لا للوالي ولا للقاضي. وليس لفظ: " الجعل "
هنا بمعنى الإنشاء والإيجاد، بل بمعنى القول والتعريف. فيصير محصل كلام
الإمام (عليه السلام) أني أقول لكم وأرشدكم أن الرجل الكذائي صالح لأن تختاروه وترضوا به
حكما بينكم.
قال في لسان العرب في معاني الجعل:
" جعل الطين خزفا والقبيح حسنا: صيره إياه. وجعل البصرة بغداد: ظنها إياه... و
قوله: " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا "، قال الزجاج: الجعل هيهنا بمعنى
القول والحكم على الشئ. كما تقول: قد جعلت زيدا أعلم الناس، أي قد وصفته بذلك
وحكمت به. " (1)

1 - لسان العرب 11 / 111.
453

أقول: يظهر من الأخبار المستفيضة أن القضاء لا يجوز ولا ينفذ إلا من النبي أو
الوصي، ففي خبر إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لشريح:
" يا شريح، قد جلست مجلسا لا يجلسه (ما جلسه خ. ل) إلا نبي أو وصى نبي أو شقي. " (1)
وفي خبر سليمان بن خالد عنه (عليه السلام)، قال: " اتقوا الحكومة، فإن الحكومة إنما هي
للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبي (كنبي خ. ل) أو وصى نبي. " (2)
وعلى هذا فلأحد أن يقول إن الإمام الصادق (عليه السلام) قد صار بصدد نصب الفقيه قاضيا
ليصح وينفذ قضاؤه، وفي الحقيقة يصير وصيا للوصي، وأوصى للمتخاصمين من
الشيعة أن يختاروه ويرضوا به حكما في قبال قضاة الجور. وقد مر أن اعتبار الرضا
لعله يكون من جهة أنه ليس لقضاء هذا القاضي لعدم سلطته ضمانة إجرائية سوى رضا
الطرفين وإيمانهما، وبهذه الملاحظة أيضا عبر عنه بالحكم. فيصير مفاد كلام
الإمام (عليه السلام) أنه يحرم عليكم الرجوع إلى قضاة الجور، ويجب عليكم تحكيم رجل
منكم وجد الصفات المذكورة، ويجب الرضا بقضائه لأني جعلته قاضيا أو واليا فصار
قضاؤه مشروعا نافذا بذلك.
وبالجملة، الظاهر من الجملة تحقق النصب، كما هو الظاهر من مشهورة أبي
خديجة أيضا. وجعل الجعل في الحديث بمعنى القول خلاف الظاهر جدا. وما ذكرناه
في الفصل السابق من الخدشة ثبوتا في نصب الوالي بنحو العموم لا يجري في نصب
القاضي، فإن عمل القاضي محدود فيمكن تعدد القضاة بتعدد الفقهاء، وكل منهم يعمل
بتكليفه في ظرف خاص ومنطقة محدودة، وهذا بخلاف الولاية بالمفهوم الوسيع
الشامل لجميع أعمال الولاة.
والحاصل أنه لا يترتب كثير إشكال على جعل الإمام الصادق (عليه السلام) جميع الفقهاء في
عصره والأعصار المتأخرة قضاة ينفذ قضاؤهم.
وأما جعل الجميع ولاة نافذي الكلمة في جميع ما يرجع إلى الولاة من الأمور فهو
الذي يوجب الاختلاف والهرج والمرج، كما مر.

1 - الوسائل 18 / 7، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2.
2 - الوسائل 18 / 7، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.
454

وقد طال الكلام في البحث في المقبولة، وتحصل لك إمكان الخدشة في
الاستدلال بها لنصب الفقهاء ولاة بالفعل.
نعم، بعدما أثبتنا ضرورة الحكومة في جميع الأعصار وعدم جواز تعطيلها ودلت
المقبولة على حرمة التسليم للطواغيت والرجوع إليهم يظهر منها قهرا أن المتعين
للولاية هو الواجد للصفات التي ذكرها الإمام (عليه السلام)، فيجب على الأمة انتخابه ولا مجال
لانتخاب غيره.
وبالجملة، دلالة المقبولة على أن الصالح للولاية والمتعين لها إجمالا هو الفقيه
الجامع للشرائط مما لا إشكال فيه، وإنما الإشكال في أن فعليتها تتحقق بالنصب من
قبل الإمام (عليه السلام) أو بالانتخاب من قبل الأمة.
اللهم إلا أن يقال: أنه إذا فرض عدم صحة القضاء بدون النصب وعدم نفوذه فعدم
نفوذ الولاية بدون النصب يثبت بطريق أولى، فإن القضاء شأن من شؤون الوالي وفرع
من فروع الولاية، فتدبر.
455

تتمة
نقل كلام الأستاذ آية الله العظمى البروجردي ونقده
اعلم أن السيد الأستاذ المرحوم آية الله العظمى البروجردي - طاب ثراه -، - على
ما كتبنا عنه في سنة 1367 الهجرية القمرية في تقريرات لبحثه سميناه: البدر الزاهر في
صلاة الجمعة والمسافر، المطبوع في تلك الأيام - ذكر مقبولة عمر بن حنظلة دليلا
على ولاية الفقيه، ثم ذكر كلاما في هذا الباب نرى هنا نقل ملخصه تتميما للفائدة و
أداء لبعض حقوقه - طاب ثراه - قال:
" إن اثبات ولاية الفقيه وبيان الضابطة لما يكون من شؤون الفقيه ومن حدود
ولايته يتوقف على تقديم أمور:
الأول: إن في المجتمع أمورا لا تكون من وظائف الأشخاص ولا ترتبط بهم، بل
تكون من الأمور العامة الاجتماعية التي يتوقف عليها حفظ نظام المجتمع، كالقضاء و
الولاية على الغيب والقصر ونحوها وحفظ النظام الداخلي وسد الثغور والأمر
بالجهاد والدفاع عند هجوم الأعداء ونحو ذلك، فليست هذه الأمور مما يتصدى لها
كل شخص بل تكون من وظائف قيم المجتمع ومن بيده أزمة الأمور الاجتماعية.
الثاني: لا يبقي شك لمن تتبع قوانين الإسلام وضوابطه في أنه دين سياسي
اجتماعي، وليست أحكامه مقصورة على العباديات المحضة المشرعة لتكميل
الأفراد وتأمين سعادة الآخرة فقط، بل يكون أكثر أحكامه مرتبطة بسياسية المدن و
تنظيم الاجتماع وتأمين سعادة هذه النشأة أو جامعة للحسنيين ومرتبطة بالنشأتين،
وذلك كأحكام المعاملات والسياسات والجزائيات من الحدود والقصاص و
الديات، والأحكام القضائية، والضرائب التي يتوقف عليها حفظ دولة الإسلام
كالأخماس
456

والزكوات ونحوهما.
ولأجل ذلك اتفق الخاصة والعامة على أنه يلزم في محيط الإسلام وجود سائس
وزعيم يدبر أمور المسلمين. بل هو من ضروريات الإسلام وإن اختلفوا في شرائطه
وخصوصياته وأن تعيينه من قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو بالانتخاب العمومي.
الثالث: لا يخفى أن سياسة المدن وتأمين الجهات الاجتماعية في دين الإسلام
لم تكن منحازة عن الجهات الروحانية والشؤون المربوطة بتبليغ الأحكام وإرشاد
المسلمين، بل كانت السياسة فيه من الصدر الأول مختلطة بالديانة ومن
شؤونها. فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بشخصه يدبر أمور المسلمين ويسوسهم ويرجع إليه
لفصل الخصومات وكان ينصب الحكام والعمال للولايات ويطلب الأخماس و
الزكوات ونحوهما من الماليات، وهكذا كانت سيرة الخلفاء من بعده الراشدين و
غيرهم وكانوا في بادي الأمر يعملون بالوظائف السياسية في مراكز الإرشاد و
الهداية كالمساجد، فكان امام المسجد بنفسه أميرا لهم، وبعد ذلك أيضا استمرت
السيرة على بناء المسجد الجامع قرب دار الإمارة. وكان الخلفاء والأمراء بأنفسهم
يقيمون الجمعات والأعياد، بل ويدبرون أمر الحج ومواقفه، حيث إن العبادات
الثلاث مع كونها عبادية قد احتوت على فوائد سياسية لا يوجد نظيرها في غيرها. و
هذا النحو من الخلط بين الجهات الروحية والجهات السياسية من خصائص الإسلام
وميزاته.
الرابع: قد تلخص مما ذكرناه: 1 - أن لنا حاجات اجتماعية تكون من وظائف
سائس الاجتماع وقائده. 2 - وأن الديانة المقدسة الإسلامية لم تهمل هذه الأمور، بل
اهتمت بها أشد الاهتمام وشرعت بلحاظها أحكاما كثيرة وفوضت إجراءها إلى
سائس المسلمين. 3 - وأن سائس المسلمين في بادي الأمر لم يكن إلا شخص
النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم الخلفاء بعده.
وحينئذ فنقول: إنه لما كان من معتقداتنا معاشر الشيعة الإمامية أن خلافة
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وزعامة المسلمين من بعده كانت للأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) وأن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يهمل أمر الخلافة بل عين لها من بعده أمير المؤمنين (عليه السلام) ثم انتقلت
منه إلى أولاده عترة الرسول فكانوا هم المراجع الأحقاء للأمور السياسية
457

والاجتماعية وكان على المسلمين الرجوع إليهم وتقويتهم في ذلك، فلا محالة
كان هذا مركوزا في أذهان أصحاب الأئمة (عليهم السلام) أيضا وكان أمثال زرارة ومحمد بن
مسلم من فقهاء أصحاب الأئمة وملازميهم لا يرون المرجع لهذه الأمور إلا الأئمة (عليهم السلام)
أو من نصبوه لذلك، فلذلك كانوا يراجعون إليهم فيما يتفق لهم مهما أمكن كما يعلم
ذلك بمراجعة أحوالهم.
إذا عرفت هذه المقدمات فنقول: لما كان هذه الأمور والحوائج الاجتماعية
مما يبتلى بها الجميع مدة عمرهم غالبا ولم يكن الشيعة في عصر الأئمة (عليهم السلام) متمكنين
من الرجوع إليهم (عليهم السلام) في جميع الأحوال، كما يشهد بذلك مضافا إلى تفرقهم في
البلدان عدم كون الأئمة (عليهم السلام) مبسوطي اليد بحيث يرجع إليهم في كل وقت لأي حاجة
اتفقت، فلا محالة يحصل لنا القطع بأن أمثال زرارة ومحمد بن مسلم وغيرهما من
خواص الأئمة (عليهم السلام) سألوهم عمن يرجع إليه في مثل تلك الأمور إذا لم يتمكنوا
منهم (عليهم السلام) ونقطع أيضا بأن الأئمة (عليهم السلام) لم يهملوا هذه الأمور العامة البلوى التي لا يرضى
الشارع بإهمالها بل نصبوا لها من يرجع إليه شيعتهم إذا لم يتمكنوا منهم (عليهم السلام) ولاسيما
مع علمهم (عليهم السلام) بعدم تمكن أغلب الشيعة من الرجوع إليهم بل عدم تمكن الجميع في
عصر الغيبة التي كانوا يخبرون عنها غالبا ويهيئون شيعتهم لها.
وهل لأحد أن يحتمل انهم (عليهم السلام) نهوا شيعتهم عن الرجوع إلى الطواغيت وقضاة
الجور ومع ذلك أهملوا لهم هذه الأمور ولم يعينوا من يرجع إليه الشيعة في فصل
الخصومات والتصرف في أموال الغيب والقصر والدفاع عن حوزة الإسلام ونحو
ذلك من الأمور المهمة التي لا يرضى الشارع بإهمالها؟
وكيف كان، فنحن نقطع بأن صحابة الأئمة (عليهم السلام) سألوهم عمن يرجع إليه الشيعة في
تلك الأمور مع عدم التمكن منهم (عليهم السلام) وأن الأئمة (عليهم السلام) أيضا أجابوهم ونصبوا للشيعة
مع عدم التمكن منهم (عليهم السلام) أشخاصا يتمكنون منهم إذا احتاجوا.
غاية الأمر سقوط تلك الأسئلة والأجوبة من الجوامع الحديثية التي بأيدينا، و
لم يصل إلينا إلا ما رواه عمر بن حنظلة وأبو خديجة.
458

وإذا ثبت بهذا البيان النصب من قبلهم (عليهم السلام) وأنهم لم يهملوا هذه الأمور المهمة التي
لا يرضى الشارع بإهمالها (ولا سيما مع إحاطتهم بحوائج شيعتهم في عصر الغيبة)
فلا محالة يتعين الفقيه لذلك، إذ لم يقل أحد بنصب غيره. فالأمر يدور بين عدم النصب
وبين نصب الفقيه العادل، وإذا ثبت بطلان الأول بما ذكرناه صار نصب الفقيه مقطوعا
به وتصير مقبولة ابن حنظلة أيضا من شواهد ذلك.
وإن شئت ترتيب ذلك على النظم القياسي فصورته هكذا: إما إنه لم ينصب
الأئمة (عليهم السلام) أحدا لهذه الأمور العامة البلوى وأهملوها، وإما إنهم نصبوا الفقيه لها، لكن
الأول باطل فثبت الثاني.
فهذا قياس استثنائي مؤلف من قضية منفصلة حقيقية، وحملية دلت على رفع
المقدم، فينتج وضع التالي وهو المطلوب.
وبما ذكرناه يظهر أن مراده (عليه السلام) بقوله في المقبولة: " حاكما " هو الذي يرجع إليه في
جميع الأمور العامة الاجتماعية التي لا تكون من وظايف الأفراد ولا يرضى الشارع
أيضا بإهمالها (ولو في عصر الغيبة وعدم التمكن من الأئمة (عليهم السلام)) ومنها القضاء و
فصل الخصومات، ولم يرد به خصوص القاضي.
ولو سلم فنقول: إن المترائي من بعض الأخبار أنه كان شغل القضاء ملازما عرفا
لتصدي سائر الأمور العامة البلوى، كما يظهر من خبر إسماعيل بن سعد عن
الرضا (عليه السلام): " وعن الرجل يصحب الرجل في سفر فيحدث به حدث الموت ولا يدرك
الوصية كيف يصنع بمتاعه وله أولاد صغار وكبار، أيجوز أن يدفع متاعه ودوابه إلى
ولده الأكابر أو إلى القاضي، وإن كان في بلدة ليس فيها قاض كيف يصنع؟... " (1)
وبالجملة، كون الفقيه العادل منصوبا من قبل الأئمة (عليهم السلام) لمثل تلك الأمور العامة المهمة
التي يبتلى بها العامة مما لا إشكال فيه إجمالا بعدما بيناه، ولا نحتاج في إثباته إلى مقبولة
ابن

1 - الوسائل 13 / 475، الباب 88 من أحكام الوصايا، الحديث 3.
459

حنظلة. غاية الأمر كونها أيضا من الشواهد، فتدبر. " (1)
أقول: أما ما ذكره - طاب ثراه - من كون الأئمة الاثني عشر ولاة في الأمور
السياسية والاجتماعية بالاستحقاق والنصب فحق عندنا، ومحل بحثه الكتب
الكلامية.
وأما أن أصحاب الأئمة (عليهم السلام) كانوا يرجعون إليهم فيما يتفق لهم من هذه الأمور
السياسية فأمر يحتاج إلى تتبع، ولا يتيسر لي ذلك فعلا.
وأما ما ذكره أخيرا من أن الأئمة (عليهم السلام) إما إنهم لم ينصبوا لهذه الأمور أحدا و
أهملوها، أو إنهم نصبوا الفقيه لذلك وإذا ثبت بطلان الأول صار نصب الفقيه مقطوعا
به.
ففيه أن طريق انعقاد الولاية إن كان منحصرا في النصب من العالي كما هو الظاهر
منه - طاب ثراه - بل من سائر الأعاظم المتعرضين للمسألة كان ما ذكره صحيحا.
وأما إن نوقش في ذلك وقيل بما قويناه من أنها تنعقد بانتخاب الأمة أيضا غاية
الأمر كونه في طول النصب وفي صورة عدمه فنقول: لعل الأئمة - عليهم السلام -
أحالوا الأمور الولائية في عصر الغيبة إلى انتخاب الأمة، غاية الأمر لزوم كون
المنتخب واجدا للشرائط والصفات التي اعتبرها الشارع في الوالي.
فعلى الأمة في عصر الغيبة أن يختاروا فقيها جامعا للشرائط ويولوه على
أنفسهم. وباختيارهم وتوليتهم يصير واليا بالفعل. ولا يبقى محذور في البين، فانتظر
ما نحرره في الفصل الرابع من هذا الباب دليلا على صحة الانتخاب واعتباره.

1 - البدر الزاهر / 52.
460

الأمر الثاني:
حديث اللهم ارحم خلفائي
مما استدل به على نصب الفقهاء ولاة بالفعل ما رواه الصدوق في آخر الفقيه، قال:
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " اللهم ارحم خلفائي. " قيل: يا رسول الله، ومن
خلفاؤك؟ قال: " الذين يأتون من بعدي يروون حديثي وسنتي. " (1)
ورواه أيضا في أواخر المعاني عن أبيه، عن علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه،
عن الحسين بن يزيد النوفلي، عن علي بن داود اليعقوبي، عن عيسى بن عبد الله بن
محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب (عليه السلام)
قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " اللهم ارحم خلفائي، اللهم ارحم خلفائي، اللهم ارحم خلفائي. "
قيل له: يا رسول الله... " (2)
ورواه في المجالس عن الحسين بن احمد بن إدريس، قال: حدثنا أبي، عن محمد
بن أحمد بن يحيى بن عمران الأشعري، عن محمد بن حسان الرازي، عن محمد بن
على عن عيسى بن عبد الله العلوي العمري، عن أبيه، عن آبائه، عن علي (عليه السلام) قال:
" قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " اللهم ارحم خلفائي " - ثلاثا - قيل: يا رسول الله، ومن خلفاؤك؟ قال:
" الذين يبلغون حديثي وسنتي ثم يعلمونها أمتي. " (3)

1 - الفقيه 4 / 420، باب النوادر، الحديث 5919.
2 - معاني الأخبار 2 / 374، الباب 423 (باب معنى قول النبي: " اللهم ارحم خلفائي " - ثلاثا).
3 - الأمالي للصدوق / 109، المجلس 34، الحديث 4.
461

ورواه أيضا في العيون عن أبي الحسن محمد بن علي بن الشاه الفقيه المرورودي،
قال: حدثنا أبو بكر بن محمد بن عبد الله النيسابوري، قال: حدثنا أبو القاسم عبد الله
بن أحمد بن عامر بن سليمان (سلمويه خ. ل) الطائي، قال: حدثنا أبي، قال: حدثني
على بن موسى الرضا (عليه السلام).
وحدثنا أبو منصور أحمد بن إبراهيم بن بكر الخوري، قال: حدثنا أبو إسحاق
إبراهيم بن هارون (مروان خ. ل) بن محمد الخوري، قال: حدثنا جعفر بن محمد بن
زياد الفقيه الخوري، قال: حدثنا أحمد بن عبد الله الهروي الشيباني، عن الرضا (عليه السلام).
وحدثني أبو عبد الله الحسين محمد الأشناني الرازي، قال: حدثنا علي بن محمد
بن مهرويه القزويني، عن داود بن سليمان الفراء، عن علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، عن
آبائه، عن علي بن أبي طالب، قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " اللهم ارحم خلفائي. " قيل له:
" ومن خلفاؤك؟ قال: " الذين يأتون من بعدي ويروون أحاديثي وسنتي فيعلمونها الناس من
بعدي. " (1)
ورواه في المستدرك عن صحيفة الرضا (عليه السلام) مثل ما في العيون، وعن عوالي اللئالي
أيضا مثله. وزاد في آخره: " أولئك رفقائي في الجنة. " (2)
وفي البحار عن منية المريد: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " رحم الله خلفائي. " فقيل: يا
رسول الله، ومن خلفاؤك؟ قال: " الذين يحيون سنتي ويعلمونها عباد الله. " (3)
وفي كنز العمال: " رحمة الله على خلفائي. قيل: ومن خلفاؤك يا رسول الله؟ قال: الذين
يحيون سنتي ويعلمونها الناس. " (أبو نصر السجزي في الإبانة، وابن عساكر، عن

1 - عيون أخبار الرضا 2 / 37، الباب 31، الحديث 94. وروى ما في الفقيه والمعاني والأمالي و
العيون في الوسائل 18 / 65 و 66 و 100، الباب 8 من أبواب صفات القاضي، الحديث 50 و 53، و
الباب 11 منها، الحديث 7. وجعل رواية المعاني مثل ما في العيون، وليست كذلك على ما في
العيون المطبوع، فراجع.
2 - مستدرك الوسائل 3 / 182، الباب 8 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10 و 11.
3 - بحار الأنوار 2 / 25، الباب 8 من كتاب العلم، الحديث 83، عن منية المريد / 12.
462

الحسن بن علي) (1)
وبالجملة، كثرة أسناد الحديث لعلها توجب الاطمينان بصدوره إجمالا.
مضافا إلى أن الصدوق في الفقيه إذا أسند الحديث بنحو الجزم إلى المعصوم -
عليه السلام - كما في المقام ظهر منه أنه كان قاطعا بصدوره عنه أو كان له حجة شرعية
على ذلك.
نعم، لو عبر بقوله: " روي عنه " مثلا أمكن كون الإرسال مضرا.
وقال " قده " في أول الفقيه:
" ولم أقصد فيه قصد المصنفين في إيراد جميع ما رووه، بل قصدت إلى إيراد
ما أفتى به وأحكم بصحته وأعتقد فيه أنه حجة فيما بيني وبين ربي. وجميع ما فيه
مستخرج من كتب مشهورة عليها المعول وإليها المرجع. " (2)
هذا كله بالنسبة إلى سند الحديث.
وأما الدلالة فنقول: إن أمهات شؤون النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت ثلاثة:
الأول: تبليغ آيات الله وأحكامه وإرشاد الناس. الثاني: فصل الخصومات و
القضاء بينهم. الثالث: الولاية عليهم وتدبير أمورهم.
وإطلاق الخلافة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) يقتضي العموم لجميع الشؤون الثلاثة لو لم نقل بكون
الأخير هو القدر المتيقن، إذ المعهود من لفظ الخلافة عنه في صدر الإسلام كان هو
الخلافة عنه في الرياسة العظمي على الأمة وتدبير أمورهم. والخلفاء جمع الخليفة.
وهل يحتمل أحد أن المفاد من لفظ الجمع كان يغاير المفاد من المفرد سنخا؟
وتوهم إرادة خصوص الأئمة الاثني عشر في غاية الوهن، إذ التعبير عنهم (عليهم السلام)

1 - كنز العمال 10 / 229، الباب 3 من كتاب العلم من قسم الأقوال، الحديث 29209.
2 - الفقيه 1 / 2.
463

برواة الحديث غير معهود فإنهم عترة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وآله وخزان علمه.
وليس المراد من قوله (عليه السلام): " يرون حديثي وسنتي ": الحفاظ لألفاظ الحديث نظير
المسجلات، بل المتفقهون في أقواله وسنته.
ويشهد لذلك قوله في بعض النقول: " فيعلمونها الناس من بعدي. " إذ التعليم شأن من
درى الرواية وتفهمها. بل رب راو لا يعلم بكون ما يرويه كلاما للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسنة له
حقيقة، فإن تشخيص السنة الصادقة عن الأخبار المختلقة أو المحرفة، ومعرفة ما هو
الحق من الأخبار المتعارضة إنما هو من شؤون أهل الدراية والفقه وأهل التحقيق و
المعرفة، كما لا يخفى على علماء الرجال والدراية.
هذا مضافا إلى أنه بمناسبة الحكم والموضوع يظهر لنا عدم إرادة الراوي المحض،
إذ لا يناسب جعل منصب خلافة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لمن لا شأن له إلا حفظ ألفاظ
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بلا دراية ودرك لمفاهيمها وتفقه فيها، كما هو واضح.
فإن قلت: قوله: " يروون حديثي وسنتي "، وكذلك قوله: " فيعلمونها الناس من بعدي
" قرينة على إرادة الخلافة في خصوص بيان الروايات وتعليم الأحكام.
قلت: أولا: لم يكن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) راويا حتى يخلفه الرواة في الرواية.
وثانيا: إن الظاهر أن الذيل ذكر معرفا للخلفاء لا محددا للخلافة، فيكون المراد
توصيف من له أهلية الخلافة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) وإن كانت الخلافة مطلقة.
بل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا كان الملاك المهم لخلافته المطلقة عن الله معارفه وعلومه و
تعليماته، وكذلك أبونا آدم (عليه السلام).
ألا ترى أن الله - تعالى - بعدما قال للملائكة: " إني جاعل في الأرض خليفة. "، وقال
الملائكة: " نحن نسبح بحمدك ونقدس لك " قال - تعالى -: " وعلم آدم الأسماء كلها ثم
عرضهم على الملائكة فقال أنبؤوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين... " (1)؟ إذ يظهر من
الآيات

1 - سورة البقرة (2)، الآية 30 و 31.
464

أن الحجر الأساسي للخلافة عن الله هو الإحاطة العلمية، فتدبر.
فإن قلت: إنما ينعقد الإطلاق في الموضوعات بإجراء مقدمات الحكمة و
لا يجري في المحمولات; فإذا قال المولى: " أكرم عالما " ينعقد الإطلاق إذا كان في
مقام البيان، بخلاف ما إذا قال: " زيد عالم "، فإنه لا يحمل على كونه عالما بكل شئ.
والخلفاء في الحديث الشريف بمنزلة المحمول، فلا يؤخذ فيه بالإطلاق. والقدر
المتيقن منه هو الخلافة في التعليم والإرشاد، كما يدل عليه ذيل الحديث.
قلت: قد مر هذا الاعتراض في عداد الاعتراضات على المقبولة، وقلنا هناك: إنا
لا نرى فرقا بين الموضوع والمحمول في ذلك، إذ المولى إن لم يكن في مقام البيان
لم ينعقد إطلاق أصلا. وإن كان في مقام البيان فإن لم يكن في البين قدر متيقن حكمنا
بالإطلاق حذرا من حمل كلامه على الإجمال واللغوية. وإن وجد قدر متيقن فإن
أضر وجوده بالإطلاق أضر في المقامين، وإن لم يضر به لم يضر مطلقا فالفرق بين
الموضوع والمحمول بلا وجه. وقد مر أن الحق أنه لو كان هنا قرينة لفظية متصلة أو لبية
بينة بحيث كانت كاللفظية المتصلة أضرت هذه بانعقاد الإطلاق، وأما صرف وجود
المتيقن واقعا بعد إعمال الدقة فلا يضر بانعقاده، فتدبر.
فإن قلت: مقتضى إطلاق الخلافة في المقام أن يكون للفقيه مثل ما للنبي
الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) من الولاية والأولوية بالنسبة إلى الأموال والنفوس. وبعبارة أخرى:
يكون الفقيه في خلافته عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نظير أمير المؤمنين (عليه السلام) في خلافته عنه، و
هل يمكن الالتزام بذلك؟
قلت: نبوته (صلى الله عليه وآله وسلم) ورسالته من خصائصه التي لا يشاركه فيهما أحد، كما أن
الفضائل المعنوية والكرامة الذاتية له وكذلك لأئمة المعصومين (عليهم السلام) من خصائصهم.
465

ولكن البحث ليس في هذه الكمالات الذاتية، بل الكلام هنا في الولاية الاعتبارية
الجعلية التي بها يتكفل الشخص بتدبير الأمور وسياسة البلاد والعباد وتنفيذ مقررات
الإسلام وحدوده وتعيين الأمراء والقضاة وجباية الضرائب ونحو ذلك من وظائف
الولاة.
وليست الولاية الاعتبارية كما مر في الباب الثاني ميزة وأثرة، بل هي مجرد
وظيفة ومسؤولية خطيرة، ولا يفرق في ذلك بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) بل والفقيه
الجامع للشرائط الذي تحمل هذه المسؤولية، فله وعليه مثل ما لهم وعليهم فيما
يرجع إلى الوظائف السياسية.
فهل لأحد أن يحتمل مثلا أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يجلد الزاني مأة جلدة والفقيه يجلده أقل
من ذلك؟ أو أن ما يطلب منه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الزكاة غير ما يطلب منه الفقيه؟ أو أن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) له أن يعين الأمراء والقضاة للبلاد والفقيه ليس له ذلك؟ إلى غير ذلك من
وظائف الولاة.
هذه غاية تقريب الاستدلال بالحديث الشريف، ولكن مع ذلك كله في النفس منه
شئ: فإن قوله (عليه السلام): " فيعلمونها الناس من بعدي " له ظهور قوى في تحديد الخلافة و
أن الغرض منها هو الخلافة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) في التعليم والتبليغ. والاحتفاف بما يصلح
للقرينية مانع من انعقاد الإطلاق. فإثبات الخلافة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) في الولاية والقضاء
يحتاج إلى دليل أقوى من ذلك.
وعدم وجود الذيل في بعض النقول لا يوجب الحكم بالإطلاق فيه، إذ الظاهر كون
الجميع رواية واحدة ربما نقلت تامة وربما نقلت مقطعة، والتقطيع في نقل الأحاديث
كان شائعا، فتدبر.
466

الأمر الثالث:
حديث العلماء ورثة الأنبياء، وما يقرب منه
1 - ما رواه في الكافي عن محمد بن الحسن وعلي بن محمد، عن سهل بن زياد. و
محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد جميعا عن جعفر بن محمد الأشعري، عن عبد الله
بن ميمون القداح. وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى عن القداح، عن
أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به
طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا به، وإنه يستغفر لطالب
العلم من في السماء ومن في الأرض حتى الحوت في البحر، وفضل العالم على العابد
كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر، وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا
دينارا ولا درهما ولكن ورثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر. " (1)
والرواية ببعض طرقها صحيحة، كما لا يخفى على أهله.
ورواه في البحار عن أمالي الصدوق، عن المكتب، عن على، عن أبيه، عن القداح،
عن الصادق، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله، وذكر مثله. وعن ثواب
الأعمال، عن أبيه، عن على، عن أبيه مثله. وعن بصائر الدرجات، عن أحمد بن
محمد، عن الحسين بن سعيد، عن حماد بن عيسى، عن القداح مثله (2).
والظاهر سقوط حماد من سند الصدوق، كما يظهر من ملاحظة سند الكافي.
2 - وفي الكافي عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن

1 - الكافي 1 / 34، كتاب فضل العلم، باب ثواب العالم والمتعلم، الحديث 1.
2 - بحار الأنوار 1 / 164، الباب 1 من كتاب العلم، الحديث 2.
467

خالد، عن أبي البختري، عن أبي عبد الله، قال: " إن العلماء ورثة الأنبياء. وذاك أن
الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا وإنما أورثوا أحاديث من أحاديثهم، فمن أخذ بشئ منها
فقد أخذ حظا وافرا. فانظروا علمكم هذا عمن تأخذونه، فإن فينا أهل البيت في كل خلف
عدولا ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين. " (1)
والسند لا بأس به إلا أبو البختري، فإنه ضعيف اللهم إلا أن يكون نقل أحمد بن
محمد بن عيسى والكليني موجبا للوثوق بالصدور. وفي العوائد عبر عنه بالصحيحة
وهو سهو.
3 - وفي نهج البلاغة: " وقال (عليه السلام): إن أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاؤوا به. " (2)
4 - وفى البحار عن العوالي، قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل. " (3)
5 - وفي فقه الرضا: " وروي أنه (العالم) قال: منزلة الفقيه في هذا الوقت كمنزلة
الأنبياء في بني إسرائيل. " (4)
6 - وفي العوائد عن جامع الأخبار عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " أفتخر يوم القيامة
بعلماء أمتي فأقول: علماء أمتي كسائر أنبياء قبلي. " (5)
وتقريب الاستدلال بهذه الروايات أن كون العلماء ورثة للأنبياء أو أولى الناس
بهم أو كالأنبياء يقتضي أن ينتقل إليهم ويكون لهم كل ما كان للأنبياء من الشؤون إلا
ما ثبت عدم صحة انتقاله أو عدم انتقاله. وإن شئت قلت: المراد انتقال الشؤون العامة
إلى العلماء لا الشؤون الفردية.

1 - الكافي 1 / 32. نقله الوسائل 18 / 53، الباب 8 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2، ورواه
عن البصائر أيضا.
2 - نهج البلاغة، فيض / 1129; عبده 3 / 171; لح / 484، الحكمة 96. ورواه الآمدي أيضا في
الغرر والدرر 2 / 409، الحديث 3056، وج 2 / 505، الحديث 3453.
3 - بحار الأنوار 2 / 22، الباب 8 من كتاب العلم، الحديث 67.
4 - فقه الرضا / 338، في ذيل الديات، باب حق النفوس.
5 - العوائد / 186.
468

ومن الأنبياء نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) وإبراهيم، وموسى وغيرهم ممن كان لهم الولاية العامة، و
قد قال الله - تعالى - في حق نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم): " النبى أولى بالمؤمنين من أنفسهم. " ولا نريد
بالولاية في المقام الولاية التكوينية أو الفضائل المعنوية والكمالات الذاتية غير القابلة
للانتقال، بل الولاية الاعتبارية القابلة للانتقال والتوارث عند العقلاء، كما يشهد له
ما في نهج البلاغة: " أرى تراثي نهبا. " (1)
فإطلاق الروايات يقتضي انتقال الولاية التي كانت للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى علماء أمته.
والاعتراض بعدم جريان الإطلاق في المحمولات قد مر ومر الجواب عنه بعدم
الفرق بينها وبين الموضوعات، فراجع ما ذكرناه في جواب المناقشة السادسة على
المقبولة.
ودعوى كون المراد بالعلماء خصوص الأئمة الاثني عشر، كما ربما يشهد بذلك
ما في خبر جميل عن أبي عبد الله (عليه السلام): " نحن العلماء وشيعتنا المتعلمون وسائر الناس
غثاء. " (2)
مدفوعة أولا: بعدم الدليل على الاختصاص. وخبر جميل لعله يراد به العلماء
الكاملون في العلم وإلا فيكثر ذكر العلماء والفقهاء في الأخبار مع وجود القرائن
على عدم إمكان الانطباق على الأئمة الاثني عشر.
وثانيا: بأن قوله (عليه السلام) في صحيحة القداح: " من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به
طريقا إلى الجنة " (3)، وقوله (عليه السلام) في خبر أبي البختري: " فمن أخذ بشئ منها فقد أخذ
حظا وافرا... " (4) ظاهران في عدم إرادة الأئمة (عليهم السلام)، كما لا يخفى.
فإن قلت: المتبادر من قوله (عليه السلام): " ورثة الأنبياء "، وراثتهم لهم بما هم أنبياء، أعني
دخالة الوصف العنواني في الموضوع، وشأن الأنبياء بما هم أنبياء ليس إلا الإنباء و
التبليغ.

1 - نهج البلاغة، فيض / 46; عبده 1 / 26; لح / 48، الخطبة 3.
2 - الكافي 1 / 34، كتاب فضل العلم، باب أصناف الناس، الحديث 4.
3 - الكافي 1 / 34، كتاب فضل العلم، باب ثواب العالم والمتعلم، الحديث 1.
4 - الوسائل 18 / 53، الباب 8 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2.
469

قلت: بل المتبادر من لفظ الأنبياء في المقام كونه عنوانا مشيرا إلى الذوات
الخارجية، فكأنه قال: العلماء ورثة إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) مثلا. و
لو قيل كذلك كان الظاهر منه الوراثة في جميع شؤونهم إلا ما ثبت خلافه.
هذا مضافا إلى أن الموضوع لأولوية نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) في الآية الشريفة هو عنوان نبوته،
فمقتضى - وراثة العلماء منه انتقال الأولوية إليهم.
هذه غاية تقريب الاستدلال بالروايات المذكورة.
ولكن لا يخفى أن الظاهر عدم كون الجملة إنشائية متضمنة للجعل والتشريع، بل
خبرية حاكية عن أمر تكويني وهو انتقال العلم إلى العلماء. ولسان الروايات لسان
بيان الفضيلة للعلم والتعلم والطالبين للعلم، كما يشهد بذلك قوله: " إن الأنبياء لم يورثوا
دينارا ولا درهما ولكن ورثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر. " فالمراد بالوراثة هي
الوراثة في العلوم والمعارف. ومع وجود هذه القرينة المتصلة يشكل الحمل على
الإنشاء وإثبات جميع شؤون الأنبياء لهم بالجعل والتشريع.
هذا مضافا إلى أن ما يشترك فيه جميع الأنبياء هو العلم بالمعارف والأحكام.
وأما الولاية فلا دليل على ثبوتها للجميع ولاسيما في الأنبياء الموجودين في
عصر وصقع واحد، ككثير من أنبياء بني إسرائيل. وعدم دخالة الوصف العنواني في
الموضوع وكونه عنوانا مشيرا خلاف الظاهر جدا.
وكيف كان فالاستدلال بالروايات المذكورة لإثبات نصب الفقيه واليا بالفعل في
غاية الإشكال، فتدبر.
470

الأمر الرابع:
حديث الفقهاء حصون الإسلام
روى في الكافي، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن
علي بن أبي حمزة، قال: سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) يقول: " إذا مات
المؤمن بكت عليه الملائكة وبقاع الأرض التي كان يعبد الله عليها وأبواب السماء التي
كان يصعد فيها بأعماله وثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شئ، لأن المؤمنين الفقهاء حصون
الإسلام كحصن سور المدينة لها. " (1)
وليس في السند من يناقش فيه إلا علي بن أبي حمزة، وهو من عمد الواقفة.
والمشهور بين الفقهاء وعلماء الرجال ضعفه، ولكن الراوي عنه هنا هو ابن
محبوب وقد عدوه ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه، مضافا إلى ما عن
الشيخ في العدة من أن الطائفة عملت بأخبار علي بن أبي حمزة، وعن ابن الغضائري
في ابنه الحسن:
" أبوه أوثق منه. "
وروى عنه كثيرا الأعاظم من أصحابنا، كصفوان وابن أبي عمير والبزنطي وابن
محبوب وغيرهم من الأجلاء (2)، فلعل ذلك كله يوجب الوثوق بخبره وإن كان فاسد
المذهب، ولعل النقل كان في حال استقامته، فإن الوقف حدث بعد وفات الإمام
الكاظم (عليه السلام). هذا.

1 - الكافي 1 / 38، كتاب فضل العلم، باب فقد العلماء، الحديث 3.
2 - راجع تنقيح المقال 2 / 262.
471

ومن المحتمل سقوط لفظ الفقيه من صدر الرواية، فإن الجهات المذكورة في
الرواية تناسب موت الفقيه، والذيل أيضا قرينة على ذلك، وكذلك قوله في مرسلة ابن
أبي عمير، عن الصادق (عليه السلام): " إذا مات المؤمن الفقيه ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها
شئ. " (1) هذا.
وقد روي الرواية بعينها في فروع الكافي عن عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد.
وعلي بن إبراهيم، عن أبيه جميعا عن ابن محبوب، عن علي بن رئاب، قال: سمعت
أبا الحسن الأول (عليه السلام) يقول، وذكر الحديث وأسقط لفظ الفقهاء. (2) والسند صحيح.
ولكن إذا دار الأمر بين الزيادة والنقيصة فأصالة عدم الزيادة مقدمة عند العقلاء، لأن
الخطأ بالسقط كثير بخلاف الزيادة فإنها بلا وجه. وعرفت أن الأمور والجهات
المذكورة في الرواية ولاسيما قوله: " ثلم في الإسلام ثلمة "، وقوله: " حصون الإسلام "
إنما تناسب موت الفقيه لا موت كل مؤمن. ومرسلة ابن أبي عمير أيضا شاهدة على
ذلك، فتدبر.
وأما بيان الدلالة، فنقول: إن الإسلام كما مر بالتفصيل في الباب الثالث ليس
مقصورا على أحكام عبادية ومراسيم شخصية فقط، بل له أحكام كثيرة - غاية الكثرة
- في المعاملات، والضرائب الإسلامية، وكيفية تنظيم العائلة، وسياسة المدن، والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد والدفاع، وفصل الخصومات، والحدود و
القصاص والديات ونحو ذلك.
وليس حفظ الإسلام بالاعتزال في زاوية والتلاعب بالكتب فحسب. وإنما يحفظ
باستنباط الأحكام، ونشرها، وتعليمها، وتطبيقها على الحوادث الواقعة و
الموضوعات المستحدثة، وإجرائها وتنفيذها، وبسط العدالة، وإجراء الحدود
الشرعية، وسد الثغور، ودفع هجمات الأعداء ورفعها، وجمع الضرائب وصرفها في

1 - الكافي 1 / 38، كتاب فضل العلم، باب فقد العلماء، الحديث 2.
2 - الكافي 3 / 254، باب النوادر من كتاب الجنائز، الحديث 13.
472

مصالح المسلمين. ولا يحصل جميع ذلك إلا بإقامة الدولة وتحصيل القدرة و
نصب العمال والقضاة ونحو ذلك. وهكذا صنع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و " لكم في رسول الله
أسوة حسنة. " (1)
وهل يصدق على فقيه اعتزل الناس وقبع في زاوية من زوايا داره ولم يهتم
بأمور المسلمين ولم يسع في إصلاح شؤونهم بل أطلق المجال والعرصات لأعداء
الإسلام والمسلمين فأغاروا عليهم وأراقوا دماءهم وأهلكوا الحرث والنسل و
منعوا من بث الإسلام وإعلاء كلمته ونشر كتبه كما صنعت الصهاينة في فلسطين و
لبنان، والروس في أفعانستان مثلا - فهل يصدق على مثل هذه الفقيه أنه حصن
الإسلام كحصن سور المدينة لها؟!
فالسعي في إقامة الدولة الحقة واجب بلا إشكال والمكلف به جميع المسلمين، و
القائد لهم في ذلك والمتصدي لإقامتها هو الفقيه الجامع للشرائط.
وكما أن " الجنود بإذن الله حصون الرعية... وليس تقوم الرعية إلا بهم " كما في
نهج البلاغة (2) فكذلك الفقهاء يكون وزانهم وزان الجنود في حفظ الإسلام و
المسلمين.
وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام) - على ما في نهج البلاغة -: " لو لا حضور الحاضر وقيام
الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم
لألقيت حبلها على غاربها. " (3)
فيظهر بذلك أن وظيفة العلماء في قبال تعدي الظالمين وحرمان المظلومين خطيرة
جدا ولا يجوز لهم إهمال هذا السنخ من المسائل الاجتماعية.
هذه غاية تقريب الاستدلال بالحديث الشريف لنصب الفقهاء ولاة.

1 - سورة الأحزاب (33)، الآية 21.
2 - نهج البلاغة، فيض / 1003; عبده 3 / 100; لح / 432، الكتاب 53.
3 - نهج البلاغة، فيض / 52; عبده 1 / 31; لح / 50، الخطبة 3.
473

ولكن لأحد أن يقول: نعم، الولاية على المسلمين حق للفقهاء، وهم المتعينون
لإقامة الدولة وحفظ الإسلام ولكن لا يتعين كون ذلك بالنصب من قبل الأئمة (عليهم السلام)
قهرا، بل لعل المراد بذلك أنه يجب عليهم ترشيح أنفسهم وإعداد القوى، ويجب على
المسلمين القيام والتعاون وانتخابهم لذلك. كما يجب على أهل المدينة وقيمها بناء
السور للمدينة حفظا لها من الهجمات. فيصير المنتخب بانتخاب الأمة واليا. وكما أنه
ليس للمدينة إلا سور واحد فكذلك ليس لمجتمع المسلمين إلا وال واحد بالفعل، و
هو الذي انتخبه المسلمون من بين الفقهاء، والباقون لهم الصلاحية فقط. وقد مر في
الفصل السابق الإشكال ثبوتا في النصب العام، فراجع.
نعم، لو تقاعس المسلمون عن العمل بهذه الوظيفة المهمة وجب على الفقهاء
التصدي لشؤونها حسبة، كما يأتي تفصيله.
ويمكن أن يقال أيضا إن المتبادر من حفظ الإسلام والقدر المتيقن منه إنما هو
النشاط العلمي بالنسبة إلى أحكامه من الاستنباط والتفسير والتبليغ ودفع الشبهات
عنها ونشر الكتب ونحو ذلك. وأما الإجراء والتنفيذ في المجتمع فهو أمر آخر لا يعلم
كونه مشمولا للحديث.
وهل الإمام الصادق (عليه السلام) مثلا الذي بين معارف الإسلام وأحكامه وربى فقهاء
كثيرين لم يكن حصنا للإسلام؟ اللهم إلا أن يقال: إن " الحصون " مطلق، فيشمل
بإطلاقه حفظ الإسلام علما وسياسة وتنفيذا، فلاوجه للأخذ بالقدر المتيقن منه، و
الإمام الصادق (عليه السلام) قال: " لو كان لي شيعة بعدد هذه الجداء ما وسعني القعود. " (1) كما مر
في محله.

1 - الكافي 2 / 243، باب في قلة عدد المؤمنين، من كتاب الإيمان والكفر، الحديث 4.
474

الأمر الخامس:
حديث الفقهاء أمناء الرسل
روى في الكافي عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن
أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا.
قيل: يا رسول الله، وما دخولهم في الدنيا؟ قال: اتباع السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم
على دينكم. " (1)
ورواه في المستدرك أيضا، عن دعائم الإسلام، عن جعفر بن محمد، عن آبائه،
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). (2)
ورواه أيضا عن نوادر الراوندي بإسناده الصحيح، عن موسى بن جعفر، عن آبائه،
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (3). ورواه في البحار عن نوادر الراوندي أيضا. (4) إلا أن في
الدعائم والنوادر: " فاحذروهم على أديانكم ".
وفي كنز العمال عن علي (عليه السلام): " الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا ويتبعوا
السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم " (5). هذا.
وسند الكليني موثوق به قد اعتمد فقهاؤنا على هذا السند في الأبواب المختلفة من
الفقه.

1 - الكافي 1 / 46، كتاب فضل العلم، باب المتشاكل بعلمه...، الحديث 5.
2 - مستدرك الوسائل 3 / 187، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 5.
3 - مستدرك الوسائل 2 / 437، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 8.
4 - بحار الأنوار 2 / 36، الباب 9 من كتاب العلم، الحديث 38.
5 - كنز العمال 10 / 183، الباب 2 من كتاب العلم من قسم الأقوال، الحديث 28953.
475

بيان الاستدلال بالرواية هو أن أهم شؤون الرسل ومنهم رسولنا الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) على
ما مر منا ثلاثة: بيان أحكام الله - تعالى -، وفصل الخصومات، وإجراء العدالة
الاجتماعية بإقامة دولة حقة على أساس أحكام الله - تعالى - وقوانينه العادلة كما
صنع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). وليس شأن الرسل مجرد بيان أحكام الله فقط.
وعلى هذا فالفقيه إذا جعل أمينا للرسل صار أمينا لهم في جميع شؤونهم العامة
على ما يقتضيه إطلاق اللفظ. والاعتراض بعدم جريان الإطلاق في المحمولات قد مر
الجواب عنه بالتفصيل، وأنه لافرق بينها وبين الموضوعات.
وقد مر في تفسير قوله - تعالى -: " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها " أخبار
يظهر منها كون الولاية من أوضح مصاديق الأمانة.
ومر في رواية العلل في بيان علل جعل أولي الأمر قوله (عليه السلام): " منها: أن الخلق لما
وقفوا على حد محدود وأمروا أن لا يتعدوا ذلك الحد لما فيه من فسادهم لم يكن يثبت ذلك و
لا يقوم إلا بأن يجعل عليهم فيه أمينا يمنعهم من التعدي والدخول فيما حظر عليهم. " فعبر
عن الوالي بالأمين.
ويمكن أن يقال: إن هم كل رسول صلاح أمته، ولا تصلح الأمة ولا تبقى إلا بدولة
عادلة تدبر أمورها وتضمن بقاءها، فمعنى كون الفقهاء أمناء الرسل كونهم أمناء في
حفظ الأمة، والأمانة المفوضة إلى الفقيه هي أمة الرسول، فيجب تأمين صلاحها و
بقائها بإقامة الدولة العادلة. هذا.
ولكن بعد اللتيا والتي، يمكن الخدشة في الاستدلال بالرواية على مسألة الولاية
أولا بما مر من الإشكال ثبوتا. وثانيا بأنه بالتعمق في ذيلها يظهر أن المراد بيان الفقيه
الذي يعتمد عليه في بيان أحكام الله - تعالى -.
فالفقيه الملتزم بالدين المستقل بالرأي يكون أمينا يعتمد عليه في بيان الأحكام، و
الفقيه الداخل في الدنيا المتبع للسلطان تجب الحذر منه في الدين فإن علماء السوء
المرتزقة من السلاطين يحرفون كلام الله ويأولونه على وفق أهواء
476

السلاطين فلا اعتبار لآرائهم وفتاواهم.
والحاصل أن لفظ الأمناء وإن كان مطلقا ولكن احتفافه بما يصلح للقرينية، أعني
قوله: " فاحذروهم على دينكم " يمنع من انعقاد الإطلاق. هذا مضافا إلى أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لو قال:
" أمنائي " أمكن ادعاء كونه إنشاء لنصب الفقهاء من أمته، وأما قوله: " أمناء الرسل "
فظهوره في الإنشاء ضعيف كما لا يخفى، فتدبر.
477

الأمر السادس:
حديث وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا
روى الصدوق في كتاب كمال الدين، قال: حدثنا محمد بن محمد بن عصام
الكليني، قال: حدثنا محمد بن يعقوب الكليني، عن إسحاق بن يعقوب، قال: سألت
محمد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتابا قد سألت فيه عن مسائل أشكلت على،
فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان (عليه السلام): " أما ما سألت عنه - أرشدك الله وثبتك -
من أمر المنكرين لي من أهل بيتنا وبني عمنا... وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى
رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم. " (1)
وفي غيبة الشيخ الطوسي " قده ":
" أخبرني جماعة عن جعفر بن محمد بن قولويه وأبي غالب الزراري وغيرهما،
عن محمد بن يعقوب الكليني، عن إسحاق بن يعقوب، وفي آخره: " وأنا حجة الله
عليكم. " (2)
ورواه في آخر الاحتجاج أيضا عن محمد بن يعقوب الكليني وقال: " وأنا حجة
الله. " (3)
وسند الشيخ لا بأس به. وابن عصام وإن لم يذكر في كتب الرجال بمدح ولكن
كونه من مشايخ الصدوق ونقله عنه مترضيا عليه لعله يكفي في الاعتماد عليه.
وإنما الاشكال في إسحاق بن يعقوب، فإنه مجهول. والرواية بمضمونها وإن

1 - كمال الدين 2 / 483، الباب 45، الحديث 4.
2 - الغيبة للشيخ الطوسي / 176.
3 - الوسائل 18 / 101، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 9.
478

كانت تدل على جلالته، ولكن الراوي لها نفسه.
اللهم إلا أن يقال إن نقل الكليني عنه يدل على اعتماده عليه. ولكن في النفس منه
شئ وهو أن الكليني لم يذكر الرواية في الكافي، فما هو الوجه في ذلك؟
والمراد برواة حديثنا في الحديث ليس الرواة لألفاظ حديثهم بلا تفهم وتفقه
لمفاده نظير ضبط المسجلات، بداهة أن الإمام (عليه السلام) لم يرجع أصحابه إلى الروايات بل
إلى الرواة، وقال: " إنهم حجتي " ولم يقل: " رواياتهم حجتي ". ولا معنى لإرجاع
الأصحاب إلى حفاظ الألفاظ بلا درك لمفاهيمها، فلا محالة يراد بذلك الفقهاء المستند
فقههم إلى روايات العترة، الحاكية لسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، في قبال الفتاوى الصادرة
عن الأقيسة والاستحسانات الظنية غير المعتبرة.
قال الشيخ المحقق الأنصاري " قده " في المكاسب في تقريب الاستدلال بالرواية
على ولاية الفقيه:
" فإن المراد بالحوادث ظاهرا مطلق الأمور التي لابد من الرجوع فيها عرفا أو
عقلا أو شرعا إلى الرئيس، مثل النظر في أموال القاصرين لغيبة أو موت أو صغر أو
سفه.
وأما تخصيصها بخصوص المسائل الشرعية فبعيد من وجوه:
منها: أن الظاهر وكول نفس الحادثة إليه ليباشر أمرها مباشرة أو استنابة،
لا الرجوع في حكمها إليه.
ومنها: التعليل بكونهم حجتي عليكم وأنا حجة الله، فإنه إنما يناسب الأمور التي
يكون المرجع فيها هو الرأي والنظر. فكان هذا منصب ولاه الإمام من قبل نفسه لا أنه
واجب من قبل الله - سبحانه - على الفقيه بعد غيبة الإمام وإلا كان المناسب أن يقول:
إنهم حجج الله عليكم. كما وصفهم في مقام آخر بأنهم أمناء الله على الحلال والحرام.
ومنها: أن وجوب الرجوع في المسائل الشرعية إلى العلماء الذي هو من
بديهيات الإسلام من السلف إلى الخلف مما لم يكن يخفى على مثل إسحاق بن
يعقوب حتى يكتبه في عداد مسائل أشكلت عليه، بخلاف وجوب الرجوع
في المصالح العامة
479

إلى رأي أحد ونظره فانه يحتمل أن يكون الإمام (عليه السلام) قد وكله في غيبته إلى شخص
أو أشخاص من ثقاته في ذلك الزمان.
والحاصل أن الظاهر أن لفظ الحوادث ليس مختصا بما اشتبه حكمه ولا
بالمنازعات. " (1) انتهى بيانه " قده ".
أقول وإن شئت: قلت اطلاق الرجوع إلى رواة حديثهم يقتضى الرجوع إليهم في
أخذ الروايات وفي أخذ الفتاوى، وفي فصل الخصومات ورفع المنازعات، وفي
تنفيذ الأحكام الشرعية واجرائها وإعمال الولاية حسب اختلاف الحاجات و
الموارد.
وظاهر المقابلة بين حجية نفسه وحجيتهم أيضا تساوي اللفظين بحسب المفهوم و
الانطباق. والإمام المعصوم حجة عندنا في الإفتاء وفي القضاء وفي إعمال الولاية،
ولا يجوز التخلف عنه في المراحل الثلاث بلا إشكال. فكل ما ثبت له من قبل الله -
تعالى - من الشؤون الثلاثة يثبت للفقهاء أيضا من قبل الإمام (عليه السلام).
والاعتراض بعدم جريان الإطلاق في المحمولات قد مر الجواب عنه بالتفصيل، و
أنه لا نرى فرقا بينها وبين الموضوعات. وعلى هذا فيجوز التمسك بكل من إطلاق
الحكم وإطلاق العلة، أعني قوله: " فإنهم حجتي عليكم. "
هذه غاية تقريب الاستدلال بالتوقيع الشريف.
أقول: يمكن أن يناقش في الاستدلال أولا: بما مر في الفصل السابق من
الإشكال في مقام الثبوت، وأن جعل الولاية الفعلية لجميع الفقهاء في عصر واحد
بمحتملاته الخمسة قابل للخدشة، فراجع.

1 - المكاسب للشيخ الأنصاري / 154.
480

وثانيا: أنه بالرجوع إلى التوقيع يظهر أن كتاب إسحاق بن يعقوب إلى الناحية
المقدسة كان مشتملا على أسئلة كثيرة معهودة للسائل، وفي كل جواب منه (عليه السلام) أشير
إلى سؤال منها. فاللام في قوله: " وأما الحوادث الواقعة " لعلها إشارة إلى حوادث
وقعت في السؤال ولا يعلم ما هي، فلعلها كانت حوادث خاصة فيشكل الحمل على
الاستغراق. اللهم إلا أن يقال إن عموم التعليل يقتضي كونهم حجة في جميع الحوادث،
فتأمل.
وثالثا: أن القدر المتيقن من الجواب بمناسبة الحكم والموضوع هو الأحكام
الشرعية للحوادث، فإن رواياتهم (عليهم السلام) مناشئ ومدارك لاستنباط الأحكام الشرعية
الكلية. فالأخذ بالإطلاق مع وجود القدر المتيقن وما يصلح للقرينية مشكل، فتأمل.
ورابعا: أن الظاهر من الحجية أيضا هو الاحتجاج بالنسبة إلى كشف الأحكام
الكلية الواقعية. وتعليل الإمام (عليه السلام) بكونهم حجتي عليكم لعله من جهة أنه (عليه السلام) هو
المأمور أولا ببيان أحكام الله - تعالى - والفقهاء نواب عنه في ذلك.
وخامسا: أن المراد بالحوادث التي أرجعها (عليه السلام) إلى الفقهاء لا يخلو إما أن يراد بها
بيان الأحكام الكلية للحوادث الواقعة، أو فصل الخصومات الجزئية والأمور الحسبية
الجزئية التي كان يرجع فيها أيضا إلى القضاة كتعيين الولي للقاصر والممتنع، أو
الحوادث الأساسية المرتبطة بالدول كالجهاد وعلاقات الأمم وتدبير أمور البلاد و
العباد ونحوها، فعلى الأولين لا يرتبط الحديث بأمر الولاية الكبرى، كما هو واضح. و
على الثالث يحتاج في حل الحوادث إلى إقامة دولة وتحصيل قدرة.
فيصير مفاد الحديث وجوب الرجوع إلى الفقهاء وتقويتهم وتحصيل الشوكة لهم
حتى يتمكنوا من حل الحادثة وإلا كان الرجوع إليهم لغوا.
وعلى هذا فتحصل الولاية لهم بالانتخاب لا بالنصب. فلا مجال للاستدلال
481

بالتوقيع الشريف على نصب الفقيه.
نعم، يدل على صلاحية الفقيه وأنه المتعين للانتخاب، فلا يجوز الرجوع إلى غيره
وانتخابه لذلك، فتأمل.
1 - ومن قبيل التوقيع الشريف بوجه ما ما رواه الكشي بسنده عن أبي عبد الله (عليه السلام)،
قال: " اعرفوا منازل الرجال منا على قدر رواياتهم عنا. " (1)
2 - وفي أواخر الاحتجاج عن الحسن العسكري (عليه السلام) في حديث طويل قيل
لأمير المؤمنين (عليه السلام): " من خير خلق الله بعد أئمة الهدى ومصابيح الدجى؟ قال: العلماء إذا
صلحوا. " (2)

1 - الوسائل 18 / 108، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 37.
2 - الاحتجاج للطبرسي 2 / 255 (من طبعه القديم).
482

الأمر السابع:
حديث العلماء حكام على الناس
روى في الغرر والدرر عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: " العلماء حكام على الناس. " (1)
أقول: قد مر في فصل اعتبار العلم في الوالي أن المحتملات في الرواية ثلاثة:
الأول: أن تحمل الجملة على الإخبار ويراد بها بيان فضل العلم والعلماء وأن
العلماء بحسب الأغلب يحكمون على قلوب الناس، والناس تبع لهم بالطبع من غير
فرق بين المذاهب والملل وبين طبقات المجتمع، فأهل كل مذهب وجميع طبقات
المجتمع حتى الملوك يكون الحاكم على عقولهم وأفكارهم علماءهم. بل لا ينحصر
ذلك في علم الأديان أيضا، فالعلم بفنونه وشعبه يكون محكما في المجتمع، و
المجتمع بطبقاته المختلفة يعيش تحت ظل العلوم الرافعة لحاجاته. فالجملة نظير
قوله (عليه السلام): " العلم حاكم والمال محكوم عليه. " (2)
الثاني: أن تحمل على الإنشاء ويراد بها جعل منصب الحكومة والولاية للعلماء.
نظير جعلها لأمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: " من كنت مولاه فعلي مولاه. "

1 - الغرر والدرر 1 / 137، الحديث 506.
2 - نهج البلاغة، فيض / 1155; عبده 3 / 187; لح / 496، الحكمة 147.
483

الثالث: أن تحمل على الإنشاء أيضا ويراد بها إيجاب انتخاب العلماء للحكومة و
تعينهم لذلك بحكم الشرع.
والاستدلال بالرواية على نصب الفقهاء يتوقف على الاحتمال الثاني، وأن يراد
بالعلماء فيها خصوص فقهاء الإسلام ولا دليل على تعينهما. وإذا جاء الاحتمال بطل
الاستدلال. هذا مضافا إلى أن مقتضاه أن يكون أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذه الجملة
قد جعل منصب الحكومة لجميع العلماء في جميع الأعصار. فلو كان في عصر واحد
ألف عالم مثلا يكون الجميع حكاما منصوبين، وهذا بعيد بل لعله مقطوع الفساد و
قد مر الإشكال فيه ثبوتا في الفصل السابق، فراجع. هذا.
وفي البحار عن كنز الكراجكي، قال: قال الصادق (عليه السلام): " الملوك حكام على الناس، و
العلماء حكام على الملوك. " (1) ولا يخفى أن قوله: " الملوك حكام على الناس " يراد به
الإخبار قطعا، فلعله قرينة على إرادة الإخبار في الجملة الثانية أيضا لوحدة السياق،
بل قرينة على المراد في الخبر السابق أيضا. فلا مجال للاستدلال بالروايتين في
المقام. وقد مر شرح الروايتين في فصل اعتبار العلم في الحاكم أيضا، فراجع.

1 - بحار الأنوار 1 / 183، الباب 1 من كتاب العلم، الحديث 92.
484

الأمر الثامن:
حديث مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء
روى في تحف العقول عن أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) في خطبة طويلة يخاطب بها
علماء عصره. قال: ويروى عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "... وأنتم أعظم الناس مصيبة لما
غلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تشعرون. ذلك بأن مجاري الأمور والأحكام على أيدي
العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه. فأنتم المسلوبون تلك المنزلة، وما سلبتم ذلك إلا
بتفرقكم عن الحق واختلافكم في السنة بعد البينة الواضحة. ولو صبرتم على الأذى و
تحملتم المؤونة في ذات الله كانت أمور الله عليكم ترد وعنكم تصدر وإليكم ترجع،
ولكنكم مكنتم الظلمة من منزلتكم... " (1)
وحيث إن الرواية عالية المضامين، كثيرة البركات ذكرناها بطولها مع شرحها في
الباب الرابع في فصل اعتبار العلم في الحاكم، فراجع ما ذكرناه هناك. وقد مر ما ذكره
بعض الأعاظم من أن المراد بالعلماء بالله في هذه الرواية خصوص الأئمة
المعصومين - سلام الله عليهم أجمعين - وعرفت أنه خلاف الظاهر جدا، فراجع
هناك.
والمقصود بالعلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه: الفقهاء الملتزمون بالشريعة
والتكاليف.
والاستدلال بالرواية في المقام مبنى على كون المراد بالجملة نصب العلماء لتدبير
أمور المسلمين.
ولكنك عرفت بطلان ذلك، إذ لازمه أن يكون جميع العلماء المخاطبين في عصر

1 - تحف العقول / 237.
485

صدور هذه الخطبة حكاما منصوبين مع أن الإمام المنصوب عندنا كان نفسه
الشريف المخاطب لهم.
فالظاهر أن الجملة وإن كانت خبرية وقعت في مقام الإنشاء وبيان التكليف، فيراد
أن المرجع لأمور المسلمين يجب أن يكون هم العلماء الملتزمين ولكن تفرقهم في
الحق واختلافهم في السنة وفرارهم من الموت وإعجابهم بالحياة وبعبارة أخرى
عدم التزامهم بتكاليفهم قد مكن الظلمة من منزلتهم وسلطهم على المسلمين.
وبالجملة، فالمقصود أن جريان الأمور يجب أن يكون بيد العلماء بالله بأن
يتحدوا ويتعاونوا مع المسلمين فيقيموا دولة عادلة وبقيادتهم وثورتهم يخرجون
الظلمة من عرصة السياسة والحكم.
فالواجب على العلماء ترشيح أنفسهم للمناصب، والواجب على المسلمين
انتخابهم لذلك وتقويتهم وطرد الحكام غير المؤهلين.
وإن شئت قلت: إن الرواية في مقام بيان أن الحكومة على المسلمين للعلماء
الأمناء، وأما كونها بالنصب أو بالانتخاب فمسكوت عنه، فلعلها تكون بالانتخاب،
فتدبر.
فهذه روايات استدل بها الأصحاب على كون الفقهاء منصوبين للولاية في عصر
الغيبة.
486

ذكر اخبار اخر ربما يتوهم دلالتها على النصب:
وهنا روايات كثيرة أيضا وردت من طرق الفريقين في فضل العلم والعالم ذكر
المحقق النراقي في العوائد بعضا منها في هذا الباب، فلنذكر بعضا من هذه الروايات
في هذه المناسبة وإن كان لا دلالة لها على مسألة الولاية بوجه.
1 - ففي العوائد عن المجمع، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " فضل العالم على الناس كفضلي على
أدناهم. " (1)
2 - وفي البحار عن منية المريد: قال مقاتل بن سليمان: وجدت في الإنجيل أن
الله - تعالى - قال لعيسى (عليه السلام): " عظم العلماء واعرف فضلهم، فإني فضلتهم على جميع
خلقي إلا النبيين والمرسلين كفضل الشمس على الكواكب، وكفضل الآخرة على الدنيا، و
كفضلي على كل شئ. " (2)
3 - وفيه عن العوالي، قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن الله لا ينتزع العلم انتزاعا ولكن ينتزعه
بموت العلماء حتى إذا لم يبق منهم أحد اتخذ الناس رؤساء جهالا، فأفتوا الناس بغير علم
فضلوا وأضلوا. " (3)
4 - وفيه عن العوالي، قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " فقيه واحد أشد على إبليس من ألف عابد. " (4)

1 - العوائد / 186.
2 - بحار الأنوار 2 / 25، الباب 8 من كتاب العلم، الحديث 91، ومنية المريد / 30.
3 - بحار الأنوار 2 / 24، الباب 8 من كتاب العلم، الحديث 74.
4 - بحار الأنوار 1 / 177، الباب 1 من كتاب العلم، الحديث 48.
487

5 - وفي التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (عليه السلام)، قال: " وأشد من يتم هذا اليتيم
يتيم ينقطع عن إمامه لا يقدر على الوصول إليه ولا يدري كيف حكمه فيما يبتلى به من شرائع
دينه. ألا فمن كان من شيعتنا عالما بعلومنا، وهذا الجاهل بشريعتنا المنقطع عن مشاهدتنا
يتيم في حجره، ألا فمن هداه وأرشده وعلمه شريعتنا كان معنا في الرفيق الأعلى. حدثني
بذلك أبي، عن آبائه، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وقال علي بن أبي طالب (عليه السلام): من كان من شيعتنا عالما بشريعتنا وأخرج ضعفاء شيعتنا من
ظلمة جهلهم إلى نور العلم الذي حبوناه به جاء يوم القيامة وعلى رأسه تاج من نور يضيء
لأهل جميع تلك العرصات...
قال الحسن بن علي (عليه السلام): فضل كافل يتيم آل محمد المنقطع عن مواليه الناشب في تيه
الجهل يخرجه من جهله ويوضح له ما اشتبه عليه على فضل كافل يتيم يطعمه ويسقيه كفضل
الشمس على السهى.
وقال الحسين بن علي (عليه السلام): ما كفل لنا يتيما قطعته عنا محبتنا باستتارنا فواساه من علومنا
التي سقطت إليه حتى أرشده وهداه إلا قال الله - تعالى - له: يا أيها العبد الكريم المواسي،
أنا أولى بالكرم اجعلوا له يا ملائكتي في الجنان بعدد كل حرف علمه ألف ألف قصر وضموا
إليها ما يليق بها من سائر النعم...
وقال موسى بن جعفر (عليه السلام): فقيه واحد ينقذ يتيما من أيتامنا المنقطعين عنا وعن مشاهدتنا
بتعليم ما هو محتاج إليه أشد على إبليس من ألف عابد...
وقال علي بن محمد: لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم من العلماء الداعين إليه والدالين
عليه والذابين عن دينه بحجج الله... لما بقي أحد إلا ارتد عن دين الله... أولئك هم
الأفضلون عند الله - عزوجل. " (1)
إلى غير ذلك من الروايات الواردة في فضل العلم والعالم والتعليم.

1 - التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (عليه السلام) / 114 (- المطبوع بهامش تفسير علي بن إبراهيم)،
ذيل الآية 83 من سورة البقرة.
488

أقول: عدم دلالة هذه الروايات على نصب الفقيه واليا واضح. بل نحن قد ناقشنا
في دلالة الروايات السابقة التي استدل بها الأساتذة أيضا حتى في المقبولة التي هي
رأسها.
نعم، دلالة جميع هذه الروايات على تقدم الفقيه على غيره وصلاحيته لذلك وأنه
أصلح من غيره مما لا إشكال فيها.
وقد مر بالتفصيل لزوم الحكومة وضرورتها وعدم جواز إهمالها وأنه يشترط في
الحاكم شروط ثمانية منها الفقاهة بل الأفقهية، وأن الولاية تنعقد إما بالنصب من
العالي أو بانتخاب الأمة، فإن ثبت النصب فهو وإلا وصلت النوبة إلى الانتخاب.
بل لو تقاعست الأمة عن العمل بهذه الوظيفة المهمة كان على الفقيه تصدي شؤون
الولاية بقدر الإمكان حسبة. فالفقيه مقدم على غيره على أي حال.
وليس عدم اطلاع الفقهاء غالبا على رموز السياسة والتدبير عذرا في انعزالهم عن
ميدان السياسة، بل يجب عليهم تعلمها وكسبها مقدمة لأداء الواجب.
وبالجملة، فدلالة هذه الروايات بكثرتها على صلاحية الفقيه وأصلحيته من غيره
مما لا إشكال فيه.
489

نقل كلام العوائد في المقام:
قال في العوائد - بعد ذكر الأخبار ودعوى أن كل ما كان للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام الذين
هم سلاطين الأنام وحصون الإسلام فيه الولاية وكان لهم فللفقيه أيضا ذلك إلا
ما أخرجه الدليل من إجماع أو نص أو غيرهما - قال - رحمه الله -:
" فالدليل عليه بعد ظاهر الإجماع حيث نص به كثير من الأصحاب بحيث يظهر
منهم كونه من المسلمات ما صرح به الأخبار المتقدمة من كونه وارث الأنبياء، أو أمين
الرسل، وخليفة الرسول، وحصن الإسلام، ومثل الأنبياء وبمنزلتهم، والحاكم و
القاضي والحجة من قبلهم، وأنه المرجع في جميع الحوادث، وأن على يده مجاري
الأمور والأحكام، وأنه الكافل لأيتامهم الذين يراد بهم الرعية.
فإن من البديهيات التي يفهمه كل عامي وعالم ويحكم به، أنه إذا قال نبي لأحد
عند مسافرته أو وفاته: فلان وارثي، ومثلي وبمنزلتي، وخليفتي، وأميني، وحجتي
والحاكم من قبلي عليكم، والمرجع لكم في جميع حوادثكم، وبيده مجاري أموركم
وأحكامكم، وهو الكافل لرعيتي، فإن له كل ما كان لذلك النبى في أمور الرعية و
ما يتعلق بأمته، بحيث لا يشك فيه أحد ويتبادر منه ذلك.
كيف لا!؟ مع أن أكثر النصوص الواردة في حق الأوصياء المعصومين المستدل بها
في مقامات إثبات الولاية والإمامة المتضمنين لولاية جميع ما للنبي فيه الولاية ليس
متضمنا لأكثر من ذلك سيما بعد انضمام ما ورد في حقهم أنهم خير خلق الله بعد
الأئمة (عليهم السلام)، وأفضل الناس بعد النبيين، وفضلهم على الناس كفضل الله على كل شئ،
وكفضل الرسول على أدنى الرعية.
وإن أردت توضيح ذلك فانظر إلى أنه لو كان حاكم أو سلطان في ناحية وأراد
المسافرة إلى ناحية أخرى وقال في حق شخص بعض ما ذكر فضلا عن جميعه
490

فقال: فلان خليفتي، وبمنزلتي، ومثلي، وأمني، والكافل لرعيتي، والحاكم من
جانبي، وحجتي عليكم، والمرجع في جميع الحوادث لكم، وعلى يده مجاري
أموركم وأحكامكم فهل يبقى لأحد شك في أن له فعل كل ما كان للسلطان في أمور
رعية تلك الناحية إلا ما استثناه؟ وما أظن أحدا يبقى له ريب في ذلك ولاشك و
لا شبهة.
ولا يضر ضعف تلك الأخبار بعد الانجبار بعمل الأصحاب وانضمام بعضها ببعض
وورود أكثرها في الكتب المعتبرة. " (1)
أقول: قد نقلنا كلام العوائد بطوله لأنه أحسن بيان لدلالة الروايات السابقة، ولكن
لا يخفى وجود مغالطة ما في البين، إذ ليست هذه الجملات مجتمعة متعاقبة في رواية
واحدة حسبما سردها في العوائد. بل كل جملة منها ذكرت في رواية مستقلة مع قرينة
متصلة صالحة لتقييدها بجهة خاصة غير جهة الولاية الكبرى، كما مر تفصيل ذلك.
فإن أراد " قده " الاستدلال بالروايات للنصب والولاية الفعلية جرت المناقشات
فيها.
نعم، إن أراد دلالتها على أصلحية الفقيه بل تعينه وأنه على الانتخاب أيضا يكون
مقدما على غيره ومتعينا لذلك صح ما ذكره.
وعلى هذا فالأحوط مع تعدد الفقهاء الواجدين للشرائط تعين الإمامة لخصوص
من انتخبته الأمة لذلك، وعدم جواز مزاحمة غيره له بل عدم جواز تصرف غير
المنتخب في شؤون الولاية بدون إذن المنتخب بالفعل من غير فرق بين الأمور المالية
وغيرها.
ويعجبني هنا نقل كلام للعوائد أيضا يناسب المقام، قال:
" نرى كثيرا من غير المحتاطين من أفاضل العصر وطلاب الزمان إذا وجدوا في
أنفسهم قوة الترجيح والاقتدار على التفريع يجلسون مجلس الحكومة ويتولون أمور

1 - العوائد / 188.
491

الرعية، فيفتون لهم في مسائل الحلال والحرام ويحكمون بأحكام لم يثبت لهم
وجوب القبول عنهم كثبوت الهلال ونحوه ويجلسون مجلس القضاء والمرافعات و
يجرون الحدود والتعزيرات ويتصرفون أموال اليتامى والمجانين والسفهاء و
الغياب ويتولون أنكحتهم ويعزلون الأوصياء وينصبون القوام ويقسمون الأخماس
ويتصرفون المال المجهول مالكه ويوجرون الأوقاف العامة إلى غير ذلك من لوازم
الرياسة الكبرى، وتراهم ليس بيدهم فيما يفعلون دليل ولم يهتدوا في أعمالهم إلى
سبيل، بل اكتفوا بما رأوا وسمعوا من العلماء الأطياب، فيفعلون تقليدا بلا اطلاع لهم
على محط فتاويهم، فيهلكون ويهلكون. أذن الله لهم أم على الله يفترون؟ " (1)

1 - العوائد / 185.
492

الفصل الرابع من الباب الخامس
فيما يمكن أن يستدل به لصحة انعقاد الإمامة بانتخاب الأمة وهي
أمور:
الأمر الأول:
حكم العقل الذي هو أم الحجج، فإنه يحكم بالبداهة بقبح الفوضى والهرج والفتنة،
ووجوب إقامة النظام وحفظ المصالح العامة الاجتماعية، وبسط المعروف ورفع
الظلم والفساد، والدفاع عن المجتمع في قبال الهجمات والإغارات. ولا يحصل ذلك
كله إلا تحت ظل دولة صالحة عادلة نافذة ذات شوكة وقدرة تحقق كيانهم. ولا تستقر
الدولة إلا بخضوع الأمة في قبالها والإطاعة لها، فيجب تحقيق جميع ذلك بحكم
العقل. وكل ما حكم به العقل حكم به الشرع، كما قرر في محله.
والدولة لا تخلوا من أن توجد بالنصب من قبل الله - تعالى - مالك الملوك والأمة،
أو بقهر قاهر على الأمة، أو بالانتخاب من قبلها.
فإن تحققت بالنصب فلا كلام لما قدمناه وبيناه مرارا من تقدمه على الانتخاب،
ولكن المفروض في المقام عدمه أو عدم ثبوته بالأدلة.
والثاني ظلم على الأمة يحكم العقل بقبحه، فإنه خلاف سلطنة الناس على أموالهم
ونفوسهم، ولا يحكم العقل أيضا بوجوب الخضوع والإطاعة له.
493

فيتعين الثالث، أعني الانتخاب وهو المطلوب.
ولأجل ذلك استمرت سيرة العقلاء في جميع الأعصار والظروف على الاهتمام
بذلك وتعيين الولاة والحكام بانتخاب ما هو الأصلح والأليق بنظر هم وإظهار
التسليم والإطاعة له بالبيعة ونحوها من الطرق، ولم تخل حياة البشر حتى في
الغابات وفي العصور الحجرية أيضا من دويلة ما تحقق كيانهم وتدافع عن مصالحهم.
والله - تعالى - جعل في الإنسان غريزة الانتخاب، ومدح عباده على إعمال هذه
الغريزة وانتخاب المصداق الأحسن فقال: " فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون
أحسنه. " (1)
الأمر الثاني:
استمرار سيرة العقلاء في جميع الأعصار والظروف على الاستنابة في بعض
الأعمال، وعلى تفويض ما يعسر إنفاذه مباشرة إلى من يقدر عليه ويتيسر له. ومن
جملة ذلك، الأمور العامة التي يحتاج إليها المجتمع أو خوطب بها المجتمع ويتوقف
إنفاذها على مقدمات كثيرة وقوات متعاضدة، كالدفاع عن البلاد وإيجاد الطرق و
وسائل الارتباط والمخابرات العامة ونحوها مما لا يتيسر لكل فرد فرد تحصيلها
شخصا ومباشرة، فينتخبون لذلك واليا متمكنا ويفوضونها إليه ويساعدونه على
تحصيلها. ومن هذا القبيل أيضا إجراء الحدود والتعزيرات وفصل الخصومات،
حيث إنه لا يتيسر لكل فرد فرد التصدي لها، بل يوجب ذلك الهرج والمرج واختلال
النظام، فيفوض إجراؤها وتنفيذها إلى من يتبلور فيه كل المجتمع، وهو الوالي
المنتخب من قبلهم. فوالي المجتمع كأنه ممثل لهم ونائب عنهم في إنفاذ الأمور العامة.
والاستنابة والتوكيل أمر عقلائي استمرت عليه السيرة في جميع الأعصار و
أمضاه الشرع أيضا.

1 - سورة الزمر (39)، الآية 17 و 18.
494

وفي نهج البلاغة في كتاب له (عليه السلام) إلى أصحاب الخراج: " فإنكم خزان الرعية ووكلاء
الأمة وسفراء الأئمة. " (1)
فعبر (عليه السلام) عن أصحاب الخراج الذين هم شعبة من شعب الولاة بوكلاء الأمة، فتأمل.
الأمر الثالث:
فحوى قاعدة السلطنة، فإن العقل العملي يشهد ويحكم بسلطة الناس على الأموال
التي حازوها أو أنتجوها بنشاطاتهم، واستمرت سيرة العقلاء أيضا على الالتزام بذلك
في حياتهم ومعاملاتهم ويحكمون بحرمة التعدي على مال الغير وكونه ظلما، و
قد نفذ الشرع أيضا ذلك بحيث صار هذا من مسلمات فقه الفريقين يتمسكون بها في
الأبواب المختلفة.
وروى في البحار عن عوالي اللئالي، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " إن الناس مسلطون
على أموالهم. " (2)
وفي رواية أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): " إن لصاحب المال أن يعمل بماله ما شاء
ما دام حيا. الحديث. " (3)
إلى غير ذلك من الروايات التي يستفاد منها هذه القاعدة الشاملة.
فإذا فرضنا أن الناس مسلطون على أموالهم بحيث يكون لهم التصرف فيها إلا
ما حرمه الله - تعالى - وليس لغيرهم أن يتصرفوا في مال الغير إلا باذنه، فهم بطريق
أولى مسلطون على أنفسهم وذواتهم. فإن السلطة على الذات قبل السلطة على المال
بحسب الرتبة، بل هي العلة والملاك لها، حيث إن مال الإنسان محصول عمله،

1 - نهج البلاغة، فيض / 984; عبده 3 / 90; لح / 425، الكتاب 51.
2 - بحار الأنوار 2 / 272، الباب 33 من كتاب العلم، الحديث 7.
3 - الوسائل 13 / 381، الباب 17 من أحكام الوصايا، الحديث 2.
495

وعمله نتيجة فكره وقواه، فهو بملكه لذاته وفكره وقواه تكوينا يملك أمواله
المنتجة منها. والله - تعالى - خلق الإنسان مسلطا على ذاته حرا مختارا، فليس
لأحد أن يحدد حريات الأفراد أو يتصرف في مقدراتهم بغير إذنهم. وللأفراد أن
ينتخبوا الفرد الأصلح ويولوه على أنفسهم، بل يجب ذلك بعدما حكم العقل بأن
المجتمع لابد له من نظام وحكم وأنهما من ضروريات حياة البشر.
ولا يخفى أن توافق أنظار المجتمع وتعاضدها في تشخيص لياقة الشخص و
كفايته يوجب كون التشخيص أقرب إلى الواقع وأوقع في النفوس وأشد بعثا على
الإطاعة والخضوع وانتظام أمر الأمة.
نعم، مع وجود الإمام المنصوص عليه كما هو معتقدنا في الأئمة الاثني عشر
لا مجال للانتخاب، كما مر. كما أن شارع الإسلام بعد ما شرع في الوالي شروطا خاصة
يجب أن يكون الانتخاب في إطارها ومع رعايتها، فلا يصح انتخاب الفاقد لها.
الأمر الرابع:
إن انتخاب الأمة للوالي وتفويض الأمور إليه وقبول الوالي لها نحو معاقدة و
معاهدة بين الأمة وبين الوالي، فيدل على صحتها ونفاذها جميع ما دل على صحة
العقود ونفاذها من بناء العقلاء، وقوله - تعالى -: " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " (1)،
وقول الإمام الصادق (عليه السلام) في صحيحة عبد الله بن سنان: " المسلمون عند شروطهم إلا
كل شرط خالف كتاب الله - عزوجل - فلا يجوز. " (2) ونحوه غيره بناء على شمول الشرط
للقرار الابتدائي أيضا كما لا يبعد.
لا يقال: وجوب الوفاء بالعقد يتوقف على كون العمل المعقود عليه تحت اختيار

1 - سورة المائدة (5)، الآية 1.
2 - الوسائل 12 / 353، الباب 6 من أبواب الخيار، الحديث 2.
496

الطرفين ومما يقبل العقد عليه، وكون الولاية والحكم في اختيار الأمة وصحة
تفويضهم إياها إلى الغير أول الكلام.
فإنه يقال: قد مر أن تعيين الوالي من قبل المجتمع وتفويض الولاية إلى الغير من
قبلهم كان أمرا رائجا متعارفا في جميع الأعصار والقرون شائعا بين القبائل و
العشائر والأمم حتى في الغابات والعصور الحجرية أيضا، وهي أمر اعتباري قابل
للإنشاء وكانوا ينشؤونها بالبيعة ونحوها.
والآية الشريفة ناظرة إلى العقود العقلائية المتعارفة بينهم، فيستدل بها على صحة
كل عقد عقلائي إلا ما دل الدليل على بطلانه كالإنتخاب مع وجود النص على خلافه،
فتدبر.
الأمر الخامس:
ما دل من الآيات والروايات على الحث على الشورى والأمر بها في الأمر و
الولاية كقوله - تعالى -: " والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى
بينهم. " (1)
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إذا كانت أمراؤكم خياركم واغنياؤكم سمحاءكم وأموركم
شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها. " (2)
وفي العيون عن الرضا (عليه السلام) بإسناده عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من جاءكم يريد
أن يفرق
الجماعة ويغصب الأمة أمرها ويتولى من غير مشورة فاقتلوه، فإن الله قد أذن ذلك. " (3)
إذ الظاهر منه ثبوت الولاية بالمشورة بناء على كون المراد المشورة في التصدي
لأصل الولاية لا المشورة في إعمالها. هذا.

1 - سورة الشورى (42)، الآية 38.
2 - سنن الترمذي 3 / 361، الباب 64 من أبواب الفتن، الحديث 2368; وتحف العقول / 36.
3 - عيون أخبار الرضا 2 / 62، الباب 31، الحديث 254.
497

وكلمة الأمر في الآية الشريفة وفي الروايات ينصرف إلى الحكومة، أو هي القدر
المتيقن منه.
فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة. " (1)
وفي نهج البلاغة: " فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة. " (2)
وفي كتاب الحسن المجتبى (عليه السلام) إلى معاوية: " ولاني المسلمون الأمر بعده. " (3)
إلى غير ذلك من موارد استعمال الكلمة.
وعلى هذا فالولاية تنعقد بشورى أهل الخبرة وانتخابهم ويتعقبه انتخاب الأمة
قهرا، فإن انتخاب أهل الخبرة لأحد إذا كانوا منتخبين من قبل الأمة أو معتمدين
عندها يستعقب بالطبع غالبا رضا الأمة وانتخابها أيضا، كما هو المشاهد في جميع
الملل.
وقد جعل أكثر المسلمين الشورى أساسا للخلافة بعد النبى الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، ونحن
الشيعة الإمامية وإن ناقشناهم في ذلك لثبوت النص عندنا على ولاية
أمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمة من ولده. ولكن عند فقد النص كما في عصر الغيبة إن قلنا
بدلالة المقبولة ونظائرها على النصب العام فهو وإلا وصلت النوبة إلى الشورى قهرا
بمقتضى عموم الآية والروايات.
لا يقال: الموضوع في الآية الأمور المضافة إلى المؤمنين. وكون الولاية منها أول
الكلام لأنها عهد الله - تعالى - كما يشهد به قوله في قصة إمامة إبراهيم وطلبه إياها
لذريته: " لا ينال عهدي الظالمين ". فالولاية والإمامة أمر الله وعهده، لا أمر المؤمنين.
فإنه يقال: لا منافاة بين كونها أمر الله وعهده بعناية، وبين كونها من أمور الأمة كما
يشهد بذلك مضافا إلى وضوح ارتباطها بهم التعبيرات الواردة في الأخبار وقد مر
بعض منها.

1 - صحيح البخاري 3 / 91، كتاب المغازي، باب كتاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى كسرى وقيصر.
2 - نهج البلاغة، فيض / 51; عبده 1 / 31; لح / 49، الخطبة 3.
3 - مقاتل الطالبيين / 36.
498

لا يقال: يحتمل أن يراد بالآية، الشورى في إجراء الأمر وتنفيذه لا في أصل عقده
كما هو المراد قطعا في قوله - تعالى - مخاطبا لنبيه: " وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت
فتوكل على الله. " (1) إذ الولاية في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت له قطعا وكان هو بنفسه واليا
على المسلمين بجعل الله - تعالى - ولكن الله أمره بالمشاورة معهم في تنفيذ الأمور و
إجرائها إكراما لهم ولكونها أبعث لهم في مرحلة الإطاعة والعمل.
فإنه يقال: إطلاق الآية يقتضي مطلوبية الشورى ونفاذها في أصل الولاية وفي
فروعها وإجرائها. والعلم بالمقصود في الآية الأخرى المخاطب بها شخص النبي
الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يوجب رفع اليد عن الإطلاق في هذه الآية.
نعم، يبقي الإشكال في كيفية إجراء الشورى والجواب عن الاعتراضات التي
أوردوها في المقام. وسيأتي التعرض لها في فصل مستقل، فانتظر.
الأمر السادس:
الآيات والروايات المتضمنة للتكاليف الاجتماعية التي لوحظ فيها مصالح
المجتمع الإسلامي بما هو مجتمع وخوطب بها الأمة مع توقف تنفيذها على القدرة و
بسط اليد.
فإن المجتمع بما أنه مجتمع وإن لم يكن له بالنظر الدقي الفلسفي وجود واقعي وراء
وجودات الأفراد ولكنه عند علماء الاجتماع يتمتع بواقعية عرفية عقلائية. ويعتبر له
في قبال الفرد وجود، وعدم، وحياة، وموت، ورقي، وانحطاط، وحقوق وواجبات.
وقد اعتنى القرآن الكريم بتواريخ الأمم كاعتنائه بقصص الأشخاص. والشريعة
الإسلامية كما أوجبت على الفرد في حياته الفردية واجبات عبادية وغيرها فكذلك

1 - سورة آل عمران (3)، الآية 159.
499

وضعت على عاتق المجتمع واجبات وتكاليف خوطبت بها الأمة الاسلامية.
قال الله - تعالى -: " وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا. " (1)
وقال: " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحديهما على
الأخرى فقاتلوا التي حتى تفيء إلى أمر الله، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا، إن
الله يحب المقسطين. " (2)
وقال: " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل، ترهبون به عدو الله و
عدوكم... " (3)
وقال: " ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن
المنكر. " (4)
وقال: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله. " (5)
وقال: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو
يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض... " (6)
وقال: " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مأة جلدة. " (7)
إلى غير ذلك من التكاليف التي خوطب بها المجتمع وروعي فيها مصالحه.
وحيث إن تنفيذها يتوقف على جماعة متفرقة لذلك وقدرة متركزة وجهاز حكم
يتولى ذلك فلا محالة يجب على المجتمع الإسلامي أن يقوم بتشكيل دولة مقتدرة و
يفوض إليها مهمة القيام بهذه التكاليف والوظائف، إذ لا يعقل أن يتوجه إلى المجتمع
التكليف ولا يكون على عاتقه إعداد ما يتوقف الامتثال عليه، فيجب عليه

1 - سورة البقرة (2)، الآية 190.
2 - سورة الحجرات (49)، الآية 9.
3 - سورة الأنفال (8)، الآية 60.
4 - سورة آل عمران (3)، الآية 104.
5 - سورة المائدة (5)، الآية 38.
6 - سورة المائدة (5)، الآية 33.
7 - سورة النور (24)، الآية 2.
500

ذلك من جهة المقدمية، وليس لكل فرد التصدي لأدائها ارتجالا، للزوم الهرج و
المرج.
الأمر السابع:
ما دل على استخلاف الله - تعالى - للإنسان، واستعماره في أرضه، ووراثة
الإنسان لها.
1 - قال الله - تعالى -: " هو الذي جعلكم خلائف في الأرض. " (1)
2 - وقال: " أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض. " (2)
3 - وقال: " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما
استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم. " (3)
4 - وقال: " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة " (4) بناء على إرادة
نوع آدم لا شخصه كما قيل.
تقريب الاستدلال هو أن الخلافة عن الله - تعالى - في أرضه تستلزم بإطلاقها
جواز تصرف الإنسان فيها تكوينا بالإحياء والاستنماء، وتشريعا بالحكومة عليها.
وقد فرع الله - تعالى - جواز الحكم لداود في أرضه على جعله خليفة.
5 - فقال: " يا داود، إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق. " (5)
فيظهر من الآية الشريفة أنه لولا خلافته عن الله - تعالى - لم يحق له الحكم في
أرضه.

1 - سورة فاطر (35)، الآية 39.
2 - سورة النمل (27)، الآية 62.
3 - سورة النور (24)، الآية، 55.
4 - سورة البقرة (2)، الآية 30.
5 - سورة ص (38)، الآية 26.
501

6 - وقال - تعالى -: " هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها. " (1)
وعمران الأرض إنما يكون بإحيائها وعمرانها تكوينا، وبإجراء العدل فيها.
فتشمل الآية للحكومة العادلة أيضا ولذا قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ساعة إمام عدل
أفضل من عبادة سبعين سنة. وحد يقام لله في الأرض أفضل من مطر أربعين صباحا. " (2)
هذا مضافا إلى أن العمران التكويني لا يحصل عادة إلا في ظل نظام العدل و
الحكومة الصالحة الحافظة للحقوق والمانعة عن الإفساد.
7 - وقال - تعالى -: " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي
الصالحون. " (3)
8 - وقال: " قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من
عباده، والعاقبة للمتقين. " (4)
9 - وقال: " ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم
الوارثين. " (5)
ووراثة الأرض تقتضي عمرانها وإدارتها تكوينا، وتشريعا بالحكم فيها.
وبالجملة، يستفاد من هذه الآيات الشريفة أن للإنسان أن يزاول العمران و
التصرفات التكوينية في الأرض، وكذا الحكومة فيها والقيادة الاجتماعية بسبب
خلافته عن الله - تعالى - ووراثته للأرض. هذا.
ولكن لأحد أن يمنع كون المقصود بالخلائف والخلفاء الخلافة عن الله - تعالى -.
إذ لعل المراد بها خلافة جيل عن جيل ونسل عن نسل، نظير قوله: " إن يشأ يذهبكم

1 - سورة هود (11)، الآية 61.
2 - الوسائل 18 / 308، الباب 1 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 5.
3 - سورة الأنبياء (21)، الآية 105.
4 - سورة الأعراف (7)، الآية 128.
5 - سورة القصص (28)، الآية 5.
502

ويستخلف من بعدكم ما يشاء " (1)، وقوله: " فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب " (2).
وأما قوله - تعالى -: " إني جاعل في الأرض خليفة " (3) فيحتمل أن يراد به آدم
النبي (عليه السلام) ولا يسري إلى ولده. وليس في اعتراض الملائكة بقولهم: " أتجعل فيها من
يفسد فيها ويسفك الدماء "، دلالة على إرادة نوع آدم. إذ لعل اعتراضهم بذلك كان من
جهة اطلاعهم على طبع آدم النبي (عليه السلام) وأنه بالطبع يولد له نسل يوجد فيهم الفساد و
سفك الدماء، فتأمل.
ويحتمل بعيدا أن يراد من الآية جعل آدم خليفة للجن والنسناس الذين كانوا قبله
في الأرض، والملائكة شاهدوا إفسادهم وسفكهم للدماء فقاسوا بهم أولاد آدم هذا.
ولأحد أيضا أن يمنع الإطلاق في قوله - تعالى -: " واستعمركم فيها " أيضا بتقريب
أن العمران ظاهر في التكويني فقط، فلا تدل الآية على تفويض الحكومة إلى الناس، و
مثله الكلام في وراثة الأرض أيضا، فتدبر.
الامر الثامن:
ما في نهج البلاغة لما أرادوا بيعته بعد قتل عثمان قال (عليه السلام): " دعوني والتمسوا
غيري... واعلموا إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب، وإن
تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، وأنالكم وزيرا
خير لكم مني أميرا. " ونحوه في تاريخ الطبري والكامل لابن الأثير. (4)
يظهر من الحديث أن الأمر أمر المسلمين وأن توليته بأيديهم.

1 - سورة الأنعام (6)، الآية 133.
2 - سورة الأعراف (7)، الآية 169.
3 - سورة البقرة (2)، الآية 30.
4 - نهج البلاغة، فيض / 271; عبده 1 / 182; لح / 136، الخطبة 92. ونحوه في تاريخ الطبري
6 / 3076، والكامل لابن الأثير 3 / 193.
503

لا يقال: هذا منه (عليه السلام) جدل في قبال المنكرين لنصبه (عليه السلام).
فإنه يقال: نعم، ولكنه ليس جدلا بأمر باطل خلاف الواقع، بل النص كما عرفت
مقدم على الانتخاب، وحيث إنهم لم يسلموا نصبه (عليه السلام) ذكر الانتخاب المتأخر عنه
رتبة. وسيأتي توضيح ذلك في بحث البيعة، فانتظر.
الامر التاسع:
ما في تاريخ الطبري بسنده عن محمد بن الحنفية، قال:
" كنت مع أبي حين قتل عثمان فقام فدخل منزله فأتاه أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
فقالوا: إن هذا الرجل قد قتل، ولابد للناس من إمام، ولا نجد اليوم أحدا أحق بهذا
الأمر منك، لا أقدم سابقة ولا أقرب من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فقال: " لا تفعلوا، فإني أكون
وزيرا خير من أن أكون أميرا. " فقالوا: لا والله، ما نحن بفاعلين حتى نبايعك.
قال: " ففي المسجد، فإن بيعتي لا تكون خفيا (خفية) ولا تكون إلا عن رضى
المسلمين. " (1)
فجعل - عليه السلام - لرضى المسلمين اعتبارا وجعل الإمامة ناشئة منه.
الأمر العاشر:
ما في الكامل بعد ما مر منه:
" ولما أصبحوا يوم البيعة، وهو يوم الجمعة، حضر الناس المسجد وجاء على (عليه السلام)

1 - تاريخ الطبري 6 / 3066.
504

فصعد المنبر وقال: " أيها الناس - عن ملأ وأذن - إن هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلا
من أمرتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر وكنت كارها لأمركم فأبيتم إلا أن أكون عليكم، ألا و
إنه ليس لي دونكم إلا مفاتيح مالكم، وليس لي أن آخذ درهما دونكم. " (1)
الأمر الحادي عشر:
ما في نهج البلاغة: " وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل و
سموه إماما كان ذلك (لله) رضا، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج
منه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى. " (2)
الأمر الثاني عشر:
ما في كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى شيعته: " وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عهد إلي عهدا
فقال: يا بن أبي طالب لك ولاء أمتي، فإن ولوك في عافية وأجمعوا عليك بالرضا فقم بأمرهم،
وإن اختلفوا عليك فدعهم وما هم فيه. " (3)
فإن الولاء وإن كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) بالنصب عندنا ويدل عليه الخبر أيضا،
ولكن يظهر منه أن لتولية الأمة أيضا أثرا وأن الأمر أمرهم فيكون في طول النص و
في الرتبة المتأخرة، فتأمل.

1 - الكامل لابن الأثير 3 / 193، ورواه الطبري أيضا مقطعا 6 / 3077 و 3067.
2 - نهج البلاغة، فيض / 840; عبده 3 / 8; لح / 367، الكتاب 6.
3 - كشف المحجة لابن طاووس / 180.
505

الأمر الثالث عشر:
ما في شرح ابن أبي الحديد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " إن تولوها عليا تجدوه
هاديا مهديا. " (1)
فنسب (صلى الله عليه وآله وسلم) التولية إلى الأمة.
الأمر الرابع عشر:
ما في كتاب الحسن بن علي - عليهما السلام - إلى معاوية: " إن عليا لما مضى
لسبيله... ولاني المسلمون الأمر بعده... فدع التمادي في الباطل وادخل فيما دخل فيه الناس
من بيعتي فإنك تعلم أني أحق بهذا الأمر منك. " (2)
يظهر من الحديث أن التولية حق للمسلمين. والاعتراض على ذلك بكونه جدلا
قد مر الجواب عنه ويأتي أيضا.
الأمر الخامس عشر:
ما في كتاب صلح الحسن (عليه السلام) مع معاوية: " صالحه على أن يسلم إليه ولاية أمر
المسلمين على أن يعمل فيهم بكتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيرة الخلفاء الصالحين. وليس

1 - شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد 11 / 11.
2 - مقاتل الطالبيين / 35.
506

لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد إلى أحد من بعهده عهدا، بل يكون الأمر من بعده شورى
بين المسلمين. " (1)
يظهر من الحديث أنه مع عدم التمكن من العمل بالنص بأي دليل كان تصل النوبة
إلى شورى المسلمين وآرائهم، فتأمل.
الأمر السادس عشر:
ما رويناه بطرق مختلفة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " ما ولت أمة قط أمرها رجلا و
فيهم أعلم منه إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالا حتى يرجعوا إلى ما تركوا. " (2)
إذ دلالته على كون الأمر أمر الأمة وأن توليته بأيديهم واضحة.
الأمر السابع عشر:
ما في العيون عن الرضا (عليه السلام) بإسناده عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من جاءكم يريد أن يفرق
الجماعة ويغصب الأمة أمرها ويتولى من غير مشورة فاقتلوه. " (3)
إذ الظاهر من إضافة الأمر إلى الأمة كون اختياره بيدها، فتأمل.

1 - بحار الأنوار 44 / 65، الباب 19 (باب كيفية المصالحة) من تاريخ الإمام الحسن المجتبي،
الرقم 13.
2 - كتاب سليم بن قيس / 118، وغيره، فراجع فصل اعتبار العلم في الحاكم.
3 - عيون أخبار الرضا 2 / 62، الباب 31، الحديث 254.
507

الأمر الثامن عشر:
ما مر عن البخاري وغيره من قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة. " (1) و
دلالته كسابقه.
الأمر التاسع عشر:
ما في كتاب سليم عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: " والواجب في حكم الله وحكم الإسلام
على المسلمين بعدما يموت إمامهم أو يقتل... أن لا يعملوا عملا ولا يحدثوا حدثا ولا يقدموا
يدا ولا رجلا ولا يبدؤوا بشيء قبل أن يختاروا لأنفسهم إماما عفيفا عالما ورعا عارفا بالقضاء
والسنة يجمع أمرهم... " (2)
حيث يظهر من الحديث وجوب اختيار الناس وكونه منشئا للأثر ولكن في الرتبة
المتأخرة عن اختيار الله، فإذا لم يكن منصوب كما في زمان الغيبة مثلا فاختيار
الناس هو الذي تنعقد به الإمامة، فراجع تمام الحديث.
الأمر العشرون:
ما في كتاب أعاظم الكوفة إلى سيد الشهداء (عليه السلام) وما في جوابه (عليه السلام):

1 - صحيح البخاري 3 / 91، كتاب المغازي، باب كتاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى كسرى وقيصر.
2 - كتاب سليم بن قيس / 182.
508

ففي كتابهم إليه:
" أما بعد فالحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الأمة
فابتزها أمرها وغصبها فيئها وتأمر عليها بغير رضى منها. "
وفي جوابه (عليه السلام) إليهم: " وإني باعث إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم
بن عقيل، فإن كتب إلى أنه قد اجتمع رأي ملأكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل
ما قدمت به رسلكم وقرأت في كتبكم فإني أقدم إليكم وشيكا. " (1)
فأعاظم الكوفة أمثال حبيب بن مظاهر عدوا الإمامة أمر الأمة واعتبروا فيها
رضاها، والإمام (عليه السلام) جعل الملاك رأي الملأ وذوي الحجى والفضل، أي أهل الحل و
العقد المستعقب قهرا لرضا الأمة ورأيها.
الأمر الحادي والعشرون:
ما في الدعائم عن جعفر بن محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " ولاية أهل العدل الذين أمر الله
بولايتهم، وتوليتهم وقبولها والعمل لهم فرض من الله. " (2)
إذ الظاهر منه أن التولية من قبل الأمة فريضة من الله - تعالى - فتكون صحيحة
نافذة قهرا.
الأمر الثاني والعشرون:
ما في تاريخ اليعقوبي في غزوة موتة عن بعضهم ما ملخصه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)

1 - إرشاد المفيد / 185، والكامل لابن الأثير 4 / 20 و 21.
2 - دعائم الإسلام 2 / 527، كتاب آداب القضاة.
509

قال: " أمير الجيش زيد بن حارثة، فإن قتل فجعفر بن أبي طالب; فإن قتل فعبد الله بن
رواحة، فإن قتل فليرتض المسلمون من أحبوا. " (1)
فوض (صلى الله عليه وآله وسلم) انتخاب الأمير بعد ابن رواحة إلى أنفسهم، فيظهر منه صحة ذلك و
انعقاد الإمارة له بأحكامها ولوازمها التي منها لزوم التسليم والطاعة.
الأمر الثالث والعشرون:
ما في سنن أبي داود بسنده عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " إذا
خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم. " (2) وبسنده عن أبي هريرة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) نحوه.
وفي مسند أحمد عن عبد الله بن عمرو ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " لا يحل لثلاثة نفر
يكونون بأرض فلاة إلا أمروا عليهم أحدهم. " (3)
فيعلم بذلك أن الاجتماع لا يصلح ولا ينتظم إلا بأمير وأنه تصلح الأمة لانتخابه إذا
لم يكن منصوبا.
الأمر الرابع والعشرون:
ما في معاهدة النبى (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أهل مقنا: " وان ليس عليكم أمير إلا من أنفسكم أو من
أهل رسول الله والسلام. " (4)
وظاهره انتخابهم لأحد من أنفسهم.

1 - تاريخ اليعقوبي 2 / 49. وروى نحوه الماوردي أيضا في الأحكام السلطانية / 13.
2 - سنن أبي داود 2 / 34، كتاب الجهاد، باب في القوم يسافرون يؤمرون أحدهم.
3 - مسند أحمد 2 / 177.
4 - الوثائق السياسية / 120، الرقم 33.
510

إلى غير ذلك من الموارد التي يعثر عليها المتتبع في خلال الروايات.
واعلم أنه ليس الغرض هو الاستدلال بكل واحد واحد من هذه الأخبار المتفرقة
حتى يناقش في سندها أو دلالتها، بل المقصود أنه يستفاد من خلال مجموع هذه
الأخبار الموثوق بصدور بعضها إجمالا كون انتخاب الأمة أيضا طريقا عقلائيا
لانعقاد الإمامة والولاية، وقد أمضاه الشارع أيضا فلا ينحصر الطريق في النصب من
طرف المقام العالي، وإن تقدمت رتبته على الانتخاب ولا مجال للانتخاب مع
وجوده.
الأمر الخامس والعشرون:
فحوى ما أفتوا به من الاختيار والانتخاب فيما إذا تعدد المفتي أو القاضي أو إمام
الجماعة، وجواز انتخاب قاضي التحكيم من قبل المترافعين.
اللهم إلا أن يقال إن الانتخاب هنا بعد تحقق النصب العام وتحقق المشروعية به.
الأمر السادس والعشرون:
آيات وأخبار البيعة بكثرتها على ما هو الأظهر من كونها من طرق إنشاء الولاية و
عقدها.
وحيث إن البيعة بنفسها مسألة مهمة اعتنى بها في الكتاب والسنة فالأولى البحث
فيها وفي ماهيتها في فصل مستقل فنقول:
511

الفصل الخامس
في البيعة
هل البيعة وسيلة لإنشاء الولاية وإعطائها للوالي، أو أنها وسيلة للاعتراف بالولاية
المتحققة وتقوية لها، أو أنها ميثاق بين فردين أو قبيلتين أو بين الوالي وأمته بالنسبة
إلى أمر ما من الأمور الإجرائية والتنفيذية، أو أنها قد تكون لعقد الولاية وقد تكون
لغيره؟ وجوه:
فلنتعرض أولا لبعض الآيات والروايات المتعرضة لها، ثم نبحث في ماهيتها.
فنقول:
1 - قال الله - عزوجل -: " لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة، فعلم
ما في قلوبهم، فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا. " (1)
2 - وقال: " إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله، يد الله فوق أيديهم، فمن نكث فإنما
ينكث على نفسه، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما. " (2)

1 - سورة الفتح (48)، الآية 18.
2 - سورة الفتح (48)، الآية 10.
513

والآيتان واردتان في بيعة الحديبية في السنة السادسة من الهجرة. وسميت بيعة
الرضوان أخذا من الآية.
والمراد بما في قلوبهم هو الخوف من المشركين، أو صدق النية والصبر.
وبالسكينة: سكون النفس والطمأنينة. وقوله: " يد الله فوق أيديهم " تأكيد للجملة التي
قبله، فكأنه جعل يده (صلى الله عليه وآله وسلم) يد الله، أو أنه لما جعل بيعته (صلى الله عليه وآله وسلم) بيعة الله فكأنه خيل له -
تعالى - يد وقعت فوق أيديهم في المبايعة. وقيل: معناه أن قوة الله - تعالى - في نصر
نبيه فوق نصرهم إياه، أي ثق بنصر الله لا بنصرتهم فلا يضرك نكثهم. ويحتمل أيضا أن
يراد باليد القوة والقدرة، ويراد أن قوة الله فوق قوتهم فهو يقويهم بقوته. هذا.
ويظهر من الآية أن البيعة بنفسها وإن كان لها أهميتها ولكن طبعها يحتمل كلا من
الوفاء والنكث. والأخر العظيم إنما هو في إبقائها بالوفاء. فلا اعتناء ببيعة من بايع
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم نكثها وانقلب على عقبيه.
3 - وفي مسند أحمد:
" قلت لسلمة بن الأكوع على أي شئ بايعتم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الحديبية؟ قال:
بايعناه على الموت. " (1)
4 - وفيه أيضا عن جابر:
" بايعنا نبي الله يوم الحديبية على أن لا نفر. " (2)
5 - وفي المجمع عن عبد الله بن معقل:
" لم يبايعهم على الموت وإنما بايعهم على أن لا يفروا. " (3)
6 - وقال الله - تعالى -: " يا أيها النبى إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن
بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن و
أرجلهن ولا يعصينك

1 - مسند أحمد 4 / 51. ونحوه في الدر المنثور 6 / 74 عن معقل بن يسار، وعن سمرة.
2 - مسند أحمد 3 / 292.
3 - مجمع البيان 5 / 117 (الجزء 9).
514

في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله، إن الله غفور رحيم. " (1)
7 - وفي تفسير نور الثقلين عن الكافي بسند صحيح، عن أبان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)،
قال: " لما فتح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة بايع الرجال ثم جاءت النساء يبايعنه، فأنزل الله -
عزوجل -: يا أيها النبي. الآية... قالت أم حكيم... يا رسول الله، كيف نبايعك؟ قال: إنني
لا أصافح النساء، فدعا بقدح من ماء فأدخل يده ثم أخرجها فقال: أدخلن أيديكن في هذا
الماء. " (2)
وروي فيه روايات أخر أيضا بهذا المضمون.
8 - وروي عن البخاري، عن عائشة، قالت: " كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يبايع النساء بالكلام
بهذه الآية أن لا يشركن بالله شيئا. وما مست يد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يد امرأة قط إلا امرأة
يملكها. " (3)
9 - وروي أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا بايع النساء دعا بقدح فغمس يده فيه ثم غمسن أيديهن
فيه. وقيل إنه كان يبايعهن من وراء الثوب. (4)
وبالجملة، فبيعة رسول الله في الحديبية وفي فتح مكة ذكرتا في القرآن، فيعلم
بذلك كون البيعة من الأمور التي يهتم بها في الإسلام.
10 - وفي سيرة ابن هشام عن الزهري ما حاصله:
" إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أتى بني عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم
نفسه، فقال له رجل منهم:... إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من
خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: " الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء. "
قال: فقال: أفتهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا،

1 - سورة الممتحنة (60)، الآية 12.
2 - نور الثقلين 5 / 307.
3 - صحيح البخاري 4 / 247، كتاب الأحكام، باب بيعة النساء. وروى عنه في نور الثقلين
5 / 309.
4 - نور الثقلين 5 / 309، تفسير سورة الممتحنة، الحديث 36، ومجمع البيان 5 / 276 (الجزء 9
من التفسير).
515

لا حاجة لنا بأمرك. فأبوا عليه. " (1)
والظاهر من لفظ الأمر هو القيادة والحكومة، فيظهر من الرواية أن البيعة كانت
على الحكم، أو على قبول الرسالة المستتبعة للحكم.
11 - وفيه أيضا في بيعة العقبة الأولى:
" فبايعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض عليهم الحرب. " (2)
12 - وعن عبادة بن الصامت، قال:
" كنت فيمن حضر العقبة الأولى وكنا اثني عشر رجلا فبايعنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على
بيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض الحرب. " (3)
والمراد ببيعة النساء مضمون الآية في سورة الممتحنة، حيث لم يذكر فيها الجهاد.
13 - وفيه في بيعة العقبة الثانية:
" فتكلم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغب في الإسلام ثم قال:
" أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم. " قال فأخذ البراء بن معرور
بيده ثم قال: نعم... فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحروب وأهل الحلقة... قال
كعب: وقد قال رسول الله: أخرجوا إلى منكم اثني عشر نقيبا ليكونوا على قومهم بما فيهم
فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا... قال ابن إسحاق وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة
أن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري
أخو بني سالم بن عوف: يا معشر الخزرج، هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا:
نعم. قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس... قالوا: ابسط يدك
فبسط يده فبايعوه... فقال كعب بن مالك: فلما بايعنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صرخ الشيطان
من رأس العقبة بأنفذ صوت سمعته قط: يا أهل الجباجب - والجباجب: المنازل - هل
لكم في مذمم والصباة

1 - سيرة ابن هشام 2 / 66.
2 - سيرة ابن هشام 2 / 73.
3 - سيرة ابن هشام 2 / 75.
516

معه قد اجتمعوا على حربكم. " (1)
أقول: 14 - وروى القصة في إعلام الورى، وفي آخرها عن علي بن إبراهيم:
" فلما اجتمعوا وبايعوا رسول الله صاح بهم إبليس يا معشر قريش والعرب، هذا
محمد والصباة من الأوس والخزرج على هذه العقبة يبايعونه على حربكم. " (2)
15 - ولما فتح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة جلس للبيعة على الصفا وعمر بن الخطاب
تحته، واجتمع الناس لبيعة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على الإسلام، فكان يبايعهم على السمع و
الطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا، فكانت هذه بيعة الرجال. وأما بيعة النساء فإنه لما
فرغ من الرجال بايع النساء فأتاه منهن نساء من نساء قريش... (3)
هذا كله بعض ما يرتبط ببيعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المذكورة في القرآن والحديث.
16 - وفي الاحتجاج في قصة غدير خم وخطبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الباقر (عليه السلام): " و
كذلك أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) البيعة لعلى (عليه السلام) بالخلافة على عدد أصحاب موسى، فنكثوا
البيعة...
فأقمه للناس علما وجدد عهده وميثاقه وبيعته وذكرهم ما أخذت عليهم من بيعتي و
ميثاقي الذي واثقتهم وعهدي الذي عهدت إليهم من ولاية وليي ومولاهم ومولى كل
مؤمن ومؤمنة علي بن أبي طالب (عليه السلام)... فأقم يا محمد عليا علما وخذ عليهم البيعة...
معاشر الناس، قد بينت لكم وأفهمتكم وهذا على يفهمكم بعدي. ألا وإن عند انقضاء
خطبتي أدعوكم إلى مصافقتي على بيعته والإقرار به ثم مصافقته بعدي. ألا وإني قد بايعت
الله، وعلى قد بايعني، وأنا آخذكم بالبيعة له عن الله - عز وجل -، ومن نكث فإنما

1 - سيرة ابن هشام 2 / 84.
2 - إعلام الورى / 40، الفصل السابع.
3 - الكامل لابن الأثير 2 / 252.
517

ينكث على نفسه...
معاشر الناس، فاتقوا الله وبايعوا عليا أمير المؤمنين (عليه السلام) والحسن والحسين والأئمة،
كلمة طيبة باقية يهلك الله من غدر ويرحم الله من وفى...
فنادته القوم سمعنا وأطعنا على أمر الله وأمر رسوله بقلوبنا وألسنتنا وأيدينا، وتداكوا
على رسول الله وعلى على (عليه السلام) فصافقوا بأيديهم... وصارت المصافقة سنة ورسما يستعملها
من ليس له حق فيها. " (1) هذا.
17 - وفي إرشاد المفيد:
" ومن كلامه (على) (عليه السلام) حين تخلف عن بيعته عبد الله بن عمر بن الخطاب، وسعد
بن أبي وقاص، ومحمد بن مسلمة، وحسان بن ثابت، وأسامة بن زيد ما رواه
الشعبي، قال: لما اعتزل سعدو من سميناه أمير المؤمنين، وتوقفوا عن بيعته حمد الله و
أثني عليه ثم قال: أيها الناس، إنكم بايعتموني على ما بويع عليه من كان قبلي، وإنما الخيار
للناس قبل أن يبايعوا; فإذا بايعوا فلا خيار لهم، وإن على الإمام الاستقامة وعلى الرعية
التسليم. وهذه بيعة عامة من رغب عنها رغب عن دين الإسلام واتبع غير سبيل أهله، ولم
تكن بيعتكم إياي فلتة، وليس أمري وأمركم واحدا وإني أريدكم لله وأنتم تريدونني
لأنفسكم. " (2)
وروى القطعة الأخيرة في نهج البلاغة، فراجع (3).
18 - وفي نهج البلاغة: " فأقبلتم إلى إقبال العوذ المطافيل على أولادها تقولون: البيعة،
البيعة. قبضت يدي فبسطتموها ونازعتكم يدي فجذبتموها. اللهم إنهما قطعاني وظلماني و
نكثا بيعتي وألبا الناس على. " (4)

1 - الاحتجاج للطبرسي 1 / 34 - 41.
2 - إرشاد المفيد / 116.
3 - نهج البلاغة، فيض / 417; عبده 2 / 26; لح / 194، الخطبة 136.
4 - نهج البلاغة، فيض / 420; عبده 2 / 28; لح / 195، الخطبة 137، ولكن في الفيض والصالح:
" قبضت كفي " بدل " قبضت يدي ". وكذا في الصالح: " فجاذبتموها " بدل " فجذبتموها ".
518

أقول: العوذ جمع العائذ: الحديثة النتاج. والمطفل: ذات الطفل، وجمعها مطافيل.
والتأليب: التحريض والإفساد.
19 - وفي نهج البلاغة أيضا: " وبسطتم يدي فكففتها ومددتموها فقبضتها ثم تداككتم
على تداك الإبل الهيم على حياضها يوم ورودها، حتى انقطعت النعل وسقط الرداء ووطئ
الضعيف وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إياي أن ابتهج بها الصغير وهدج إليها الكبير و
تحامل نحوها العليل وحسرت إليها الكعاب. " (1)
أقول: الهدج، مشية الضعيف. وحسرت، أي كشفت الجواري عن وجوهها
متوجهة إلى البيعة. والكعاب كسحاب: الجارية حين يبدو ثديها للنهود. وكشفهن
حدث عن شوقهن وإسراعهن.
20 - وفي نهج البلاغة أيضا في كتابه (عليه السلام) إلى طلحة والزبير: " أما بعد، فقد علمتما - و
إن كتمتما - أنى لم أرد الناس حتى أرادوني، ولم أبايعهم حتى بايعوني، وإنكما ممن أرادني و
بايعني، وإن العامة لم تبايعني لسلطان غالب ولا لعرض حاضر. فإن كنتما بايعتماني طائعين
فارجعا وتوبا إلى الله من قريب. وإن كنتما بايعتماني كارهين فقد جعلتما لي عليكما السبيل
بإظهاركما الطاعة وإسراركما المعصية. " (2)
21 - وفيه أيضا في كتابه إلى معاوية: " إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر و
عثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى
للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماما كان ذلك (لله) رضا. فإن خرج
عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل
المؤمنين وولاه الله ما تولى. " (3)

1 - نهج البلاغة، فيض / 722; عبده 2 / 249; لح / 350 و 351، الخطبة 229.
2 - نهج البلاغة، فيض / 1035; عبده 3 / 122; لح / 445، الكتاب 54.
3 - نهج البلاغة، فيض / 840; عبده 3 / 8; لح / 366، الكتاب 6.
519

22 - وفيه أيضا في كتابه (عليه السلام) إلى معاوية: " لأنها بيعة واحدة لا يثني فيها النظر و
لايستأنف فيها الخيار. الخارج منها طاعن، والمروي فيها مداهن. " (1)
إلى غير ذلك مما ورد في بيعة أمير المؤمنين - عليه السلام -. وكتب التاريخ
كالطبري والكامل والإرشاد، وكذا نهج البلاغة وغيرها من الكتب ملاء من ذلك،
فراجع نهج البلاغة مضافا إلى ما مر، الخطب 8 - 34 - 37 - 73 - 136 - 172 - 173 -
218، والكتب 1 - 8 - 75 (2). وسيأتي بعضها في أثناء البحث.
23 - وفي إرشاد المفيد بسنده عن أبي إسحاق السبيعي وغيره، قالوا:
" خطب الحسن بن علي (عليه السلام) في صبيحة الليلة التي قبض فيها أمير المؤمنين (عليه السلام)... ثم
جلس فقام عبد الله بن العباس " ره " بين يديه فقال: معاشر الناس، هذا ابن نبيكم و
وصى إمامكم فبايعوه، فاستجاب له الناس فقالوا: ما أحبه إلينا وأوجب حقه علينا، و
بادروا إلى البيعة له بالخلافة. " (3)
24 - وبعدما كتب أهل الكوفة إلى الحسين بن علي (عليه السلام) أنه ليس علينا إمام فأقبل
لعل الله أن يجمعنا بك على الحق، وبعث هو (عليه السلام) ابن عمه مسلم بن عقيل إلى الكوفة
رائدا وممثلا له أقبلت الشيعة تختلف إلى مسلم، فلما اجتمع إليه منهم جماعة قرأ
عليهم كتاب الحسين (عليه السلام) وهم يبكون وبايعه الناس حتى بايعه منهم ثمانية عشر ألفا،
فكتب مسلم إلى الحسين (عليه السلام) يخبره ببيعة ثمانية عشر ألفا ويأمره بالقدوم. (4)
وبيعتهم لا محالة كانت على قبول إمامة الحسين (عليه السلام) وطاعته.
25 - وروى الصدوق في العيون بسنده إلى الريان بن شبيب:
أن المأمون لما أراد أن يأخذ البيعة لنفسه بإمرة المؤمنين، ولأبي الحسن علي بن
موسى الرضا (عليه السلام) بولاية العهد، وللفضل بن سهل بالوزارة، أمر بثلاثة كراسي

1 - نهج البلاغة، فيض / 843; عبده 3 / 9; لح / 367، الكتاب 7.
2 - راجع نهج البلاغة، مع شرحه للشيخ محمد عبده، ج 1 ص 38، 80، 85 و 120، وج 2 ص 26،
104، 105 و 228، وج 3 ص 3، 9 و 149.
3 - إرشاد المفيد / 170.
4 - راجع إرشاد المفيد / 186.
520

فنصبت لهم فلما قعدوا عليها أذن للناس فدخلوا يبايعون، فكانوا يصفقون بأيمانهم
على أيمان الثلاثة من أعلى الإبهام إلى الخنصر ويخرجون، حتى بايع في آخر الناس
فتى من الأنصار فصفق بيمينه من أعلى الخنصر إلى أعلى الإبهام، فتبسم
أبو الحسن (عليه السلام) ثم قال: كل من بايعنا بايع بفسخ البيعة غير هذا الفتى فإنه بايعنا بعقدها. فقال
المأمون: وما فسخ البيعة من عقدها؟ قال أبو الحسن (عليه السلام): عقد البيعة من أعلى الخنصر
إلى أعلى الإبهام، وفسخها من أعلى الإبهام إلى أعلى الخنصر. قال: فماج الناس في ذلك
وأمر المأمون بإعادة الناس إلى البيعة على ما وصفه أبو الحسن (عليه السلام). وقال الناس: كيف
يستحق الإمامة من لا يعرف عقد البيعة؟ إن من علم أولى بها ممن لا يعلم. قال: فحمله
ذلك على ما فعله من سمه (عليه السلام).
ورواه عنه في نور الثقلين. (1)
26 - وفي خبر أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) في أمر القائم (عليه السلام): " فوالله لكأني أنظر
إليه بين الركن والمقام يبايع الناس بأمر جديد وكتاب جديد وسلطان جديد من السماء. " (2)
ولعل المراد بالأمر الجديد الحكومة الإسلامية الصالحة العادلة أو خالص الإسلام
ومصفاة الذي أتى به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). وبالكتاب الجديد القرآن الكريم بشرحه وتفسيره
بإملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخط أمير المؤمنين (عليه السلام)، كما ورد بذلك أخبار كثيرة، وإلا
فالكتاب الذي بأيدينا حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من
حكيم حميد.
27 - وفي خبر عبيد بن زرارة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: " ينادى باسم القائم (عليه السلام)
فيؤتى وهو خلف المقام فيقال له: قد نودي باسمك فما تنتظر؟ ثم يؤخذ بيده فيبايع. " (3)
28 - وفي خبر السراج، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " فيظهر عند ذلك صاحب هذا الأمر

1 - عيون أخبار الرضا 2 / 238، الباب 59، الحديث 2. ورواه عنه نور الثقلين 5 / 60.
2 - غيبة النعماني / 175 (= طبعة أخرى / 262)، الباب 14 (باب ما روي في العلامات...)،
الحديث 22.
3 - غيبة النعماني / 176 (= طبعة أخرى / 263)، الباب 14، الحديث 25.
521

فيبايعه الناس ويتبعونه. " (1)
إلى غير ذلك من الروايات.
وليست البيعة في عصر ظهور المهدي (عليه السلام) للتقية أو الجدل بلا إشكال. فيعلم بذلك
كون البيعة منشأ للأثر في تثبيت الحكومة والخلافة قطعا، فتدبر.
وكيف كان فقد ظهر بالآيات والأخبار المتواترة إجمالا عناية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و
اهتمامه بالبيعة التي كانت نحو معاهدة بين الرئيس وأمته قبل الهجرة وبعدها، وهكذا
أمير المؤمنين والأئمة من ولده والمسلمون جميعا.
والظاهر أنها لم تكن من مخترعات الإسلام، بل كانت من رسوم العرب وعاداتها
الممضاة في الإسلام، بل لعلها كانت معمولا بها في سائر الأمم أيضا. وقد أكد الكتاب
والسنة وجوب الوفاء بها وحرمة نكثها، كما يظهر مما مر.
29 - وفي أصول الكافي عن محمد الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " من فارق
جماعة المسلمين ونكث صفقة الإمام جاء إلى الله - عز وجل - أجذم. " (2)
وفي ذيل الصفحة:
" في بعض النسخ: صفقة الإبهام. والأجذم: المقطوع اليد. "
30 - وعن الخصال أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " ثلاث موبقات: نكث الصفقة، وترك السنة، و
فراق الجماعة. " (3)

1 - غيبة النعماني / 181 (= طبعة أخرى / 270)، الباب 14، الحديث 43.
2 - الكافي 1 / 405، كتاب الحجة، باب ما أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنصيحة لأئمة المسلمين، الحديث 5.
3 - بحار الأنوار 27 / 68، الباب 3 (باب ما أمر به النبي...) من كتاب الإمامة، الحديث 4.
522

الكلام في ماهية البيعة
لا يخفى ان البيع والبيعة مصدران لباع، وحقيقتهما واحدة; فكما أن البيع معاملة
خاصة تنتج تبادل المالين فكذلك المبايع للرئيس كأنه ببيعته له يجعل ماله وإمكاناته
تحت تصرفه ويتعهد هو في قبال ذلك بالسعي في إصلاح شؤونه وتأمين مصالحه،
فكأنها نحو تجارة بينهما.
وأنت تعلم أن المتعاملين حسب المتعارف يتقاولان أولا في مقدار العوضين و
خصوصياتهما، ويتعقب ذلك الرضا من الطرفين، ولكن المقاولة والرضا من مقدمات
المعاملة، وحقيقة المعاملة إنما تتحقق بإنشائها بالإيجاب والقبول أو بالمعاطاة أو
بمصافقة الأيدي أو نحو ذلك.
فالمصافقة كانت من طرق إنشاء المعاملة عندهم، كما هو المعروف في أعصارنا
أيضا في كثير من البلاد والقبائل، وكانت من أحكمها وأتقنها بحيث يقبح عندهم
نقضها.
وعلى هذا فالذي ينسبق إلى الذهن في ماهية البيعة أنها كانت وسيلة لإنشاء
التولية بعدما تحققت المقاولة والرضا; فكانت القبائل إذا أحست بالاحتياج إلى
رئيس لحفظ نظامها والدفاع عنها في قبال الأجانب اجتمعت عند من تراه أهلا لذلك
فتقاولوا وذكروا الحاجات والشروط، وبعد حصول التراضي كانوا ينشؤون
ما تقاولوا عليه وتراضوا به بمصافقة الأيدي. وبالانشاء كانت تثبت الولاية، كما في
البيع طابق النعل بالنعل. وكما أن المصافقة بالأيادي في البيع كانت إحدى الطرق
للإنشاء ولكنها أحكم الطرق عندهم فكذلك في الولاية، فلذا كانوا يهتمون بخصوص
البيعة.
فهذا، الذي نفهمه في تصوير ماهية البيعة، ولعله المستفاد من كلمات أهل اللغة
أيضا.
523

1 - قال الراغب في المفردات:
" بايع السلطان: إذا تضمن بذل الطاعة له بما رضخ له، ويقال لذلك: بيعة و
مبايعة. " (1)
2 - وفي نهاية ابن الأثير:
" وفي الحديث أنه قال: ألا تبايعوني على الإسلام، هو عبارة عن المعاقدة عليه و
المعاهدة; كأن كل واحد منهما باع ما عنده من صاحبه وأعطاه خالصة نفسه وطاعته
ودخيلة أمره. وقد تكرر ذكرها في الحديث. " (2)
3 - وفي الصحاح:
" بايعته من البيع والبيعة جميعا، والتبايع مثله. " (3)
4 - وفي لسان العرب:
" والبيعة: الصفقة على إيجاب البيع، وعلى المبايعة والطاعة. والبيعة: المبايعة و
الطاعة. وقد تبايعوا على الأمر كقولك: أصفقوا عليه. وبايعه عليه مبايعة: عاهده. و
بايعته من البيع والبيعة جمعيا، والتبايع مثله. وفي الحديث أنه قال: ألا تبايعوني على
الإسلام، هو عبارة عن المعاقدة والمعاهدة; كأن كل واحد منهما باع ما عنده من
صاحبه وأعطاه خالصة نفسه وطاعته ودخيلة أمره. " (4)
5 - وفي مقدمة ابن خلدون:
" فصل في معنى البيعة: أعلم أن البيعة هي العهد على الطاعة; كأن المبايع يعاهد
أميره على أنه يسلم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين، ولا ينازعه في شئ من
ذلك، ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر على المنشط والمكره. وكانوا إذا بايعوا الأمير و
عقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده تأكيدا للعهد فأشبه ذلك فعل البايع والمشتري
فسمى بيعة; مصدر باع. وصارت البيعة مصافحة بالأيدي. هذا مدلولها في عرف

1 - المفردات للراغب / 66.
2 - النهاية لابن الأثير 1 / 174.
3 - الصحاح للجوهري 3 / 1189.
4 - لسان العرب 8 / 26.
524

اللغة ومعهود الشرع، وهو المراد في الحديث في بيعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلة العقبة وعند
الشجرة وحيثما ورد هذا اللفظ. " (1)
6 - وقال العلامة الطباطبائي - قدس سره - في تفسير الميزان:
" والكلمة مأخوذة من البيع بمعناه المعروف; فقد كان من دأبهم أنهم إذا أرادوا
إنجاز البيع أعطى البايع يده للمشتري، فكأنهم كانوا يمثلون بذلك نقل الملك بنقل
التصرفات التي يتحقق معظمها باليد إلى المشتري بالتصفيق. وبذلك سمي التصفيق
عند بذل الطاعة بيعة ومبايعة. وحقيقة معناه إعطاء المبايع يده للسلطان مثلا ليعمل به
ما يشاء. " (2)
فإن قلت: ما ذكرت من كون التولية نحو عقد وتجارة بين الوالي والأمة وأن
البيعة والمصافقة كانت وسيلة لإنشائها وتنجيزها كما في البيع وإن كان قريبا إلى
الذهن وربما يلوح من كلمات أهل اللغة أيضا ولكن نحن نعلم أن الرسالة والولاية
لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكذلك الإمامة لأمير المؤمنين والأئمة من ولده عندنا لم تحصلا
بتفويض الأمة وبيعتهم بل بجعل الله - تعالى - ونصبه، بايعت الأمة أم لا.
فأهل المدينة في بيعة العقبة الأولى أو الثانية مثلا لم يريدوا تفويض النبوة أو
الرياسة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنما بايعوه بعد قبول نبوته وزعامته على العمل بما جاء به و
الدفاع عنه، فكانت البيعة تأكيدا للاعتراف القلبي وميثاقا بينهما على تنفيذ ما التزموا
به.
قلت: نعم، رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان رسولا لله ووليا من قبل الله - تعالى - بلا إشكال و
إن لم تبايعه الأمة ولم تسلم له، وكذلك الإمامة لأمير المؤمنين والأئمة من ولده
عندنا.

1 - مقدمة ابن خلدون / 147، الفصل 29 من الفصل الثالث من الكتاب الأول.
2 - تفسير الميزان 18 / 274، (في تفسير " إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ").
525

ولكن لما ارتكز في أذهان الناس على حسب عادتهم وسيرتهم ثبوت الرياسة و
الزعامة بتفويض الأمة وبيعتهم وكانت البيعة أوثق الوسائل لإنشائها وتنجيزها في
عرفهم طالبهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك لتحكيم ولايته خارجا، فإن تمسك الناس بما عقدوه
بأنفسهم والتزامهم بوفائه واحتجاجهم به أكثر وأوثق بمراتب.
فالمراد بالتأكيد إيجاد ما هو الوسيلة لتحقق الولاية عند الناس أيضا ليكون تحقق
المسبب أقوى وأحكم، ولا محالة يترتب عليه الإطاعة والتسليم خارجا.
والظاهر أن البيعة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت على حكمه وولايته لاعلى رسالته، إذ
الرسالة يكفي فيها الإيمان والتصديق، فتدبر.
وبالجملة، إذا كان لتحقق أمر طريقان وكان أحدهما أعهد عند الناس وأوثق و
أنفذ فإيجاده بالطريقين يوجب تأكده قهرا، كما هو مقتضى اجتماع العلل على معلول
واحد.
وقد عرفت منا أن الإمامة كما تحصل بنصب الله تحصل بنصب الأمة أيضا بالبيعة.
وعلى هذا فإمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) وإن تحققت عندنا بنصب الله أو نصب
الرسول، ولكن لما كان إنشاؤها وجعلها من قبل الأمة بالبيعة مما يوجب تأكدها و
أوقعيتها في النفوس واستسلام الناس لها خارجا وإمكان الاحتجاج بها فلذا أخذ له
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) البيعة بعد نصبه على ما مر. وفي سورة الفتح أطلق على البيعة عهد الله
حيث قال: " ومن أوفى بما عاهد عليه الله. الآية. " (1) وكم له مناسبة مع كلمة " عهدي "
المراد به الإمامة في قوله " لا ينال عهدي الظالمين. " (2) فتدبر.
ولو قيل - كما لا يبعد - بكون البيعة وسيلة لإنشاء الميثاق مطلقا ولو على بعض
الأمور الجزئية الإجرائية.

1 - سورة الفتح (48)، الآية 10.
2 - سورة البقرة (2)، الآية 124.
526

قلنا: نفس الولاية والرياسة أيضا من أظهر مصاديق الميثاق، فإذا كان المقام مقام
جعل الولاية كما في قصة غدير خم وفي بيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد عثمان كانت البيعة
حينئذ وسيلة لإنشاء الولاية.
وإنشاء ما جعله الله - تعالى - مما لا مانع منه، فإن الإنشاء خفيف المؤونة والغرض
منه تأكيد ما جعله الله - تعالى -.
وما يقال من أن تمسك أمير المؤمنين (عليه السلام) لإثبات خلافته في مكاتباته ومناشداته
ببيعة المهاجرين والأنصار وقع منه جدلا، فلا يراد منه أنه - عليه السلام - لم يكن يرى
للبيعة أثرا وأنها كانت عنده كالعدم. بل الجدل منه (عليه السلام) كان في تسليم ما كان يزعمه
الخصم من عدم النصب من قبل الله - تعالى -.
وقد مر منا أن الانتخاب من قبل الأمة إنما يعتبر في طول النصب من الله. فلو كان
هنا إمام منصوب من قبل الله - تعالى - فانتخاب الأمة لغيره مما لا أثر له فإن أمر الله
قبل أمرنا.
وكيف كان فالبيعة مما تتحقق به الولاية إجمالا. كيف! ولو لم يكن لها أثر في
تثبيت الإمامة وتحقيقها فلم طلبها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لنفسه ولأمير المؤمنين (عليه السلام)؟ ولم
كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يصر عليها في بعض الموارد؟ ولم يبايع صاحب الأمر (عليه السلام) بعد
ظهوره بالسيف والقدرة؟
وما قد يقال من أنها لتأكيد النصب فمآله إلى ما نقول أيضا، إذ لو لم يكن يترتب
عليها تحقيق الإمامة لم تكن مؤكدة فإن الشئ الأجنبي عن الشئ لا يؤكده وإنما
يطلق المؤكد على السبب الوارد على سبب آخر.
نعم، البيعة باليد احدى الوسائل لإنشاء الولاية وتنجيزها وهي أتقنها عند الناس
ولكن لا تتعين، لكفاية الإنشاء باللفظ وبالمكاتبة أيضا كما في البيع وسائر
المعاملات. هذا.
وقد مر في خبر الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: " من فارق جماعة المسلمين
527

ونكث صفقة الإمام جاء إلى الله أجذم. " (1)
وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " ثلاث موبقات: نكث الصفقة، وترك السنة، وفراق
الجماعة. " (2)
والمراد بنكث الصفقة نقض الإمامة المستعقب للخروج عن الطاعة، فإن الإمامة
كما عرفت منصب جعلي اعتباري وإنما تتبلور خارجا في طاعة الأمة وتسليمهم.
فالخروج عن طاعة الإمام نقض لامامته خارجا، فتدبر.
كما أن المراد بالإمام، الإمام العدل الواجد لشرائط الإمامة لا أمثال يزيد والوليد.
والمراد بالجماعة جماعة الحق لا كل جماعة، كما يشهد بذلك مضافا إلى حكم
العقل ومذاق الشرع أخبار مستفيضة كخبر علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر،
عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من فارق جماعة المسلمين فقد خلع ربقة الإسلام
من عنقه. قيل: يا رسول الله وما جماعة المسلمين؟ قال: جماعة أهل الحق وإن قلوا. " (3)
وفي مرفوعة العلوي قيل لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما جماعة أمتك؟ قال: " من كان على
الحق وإن كانوا عشرة. " (4)
وفي مرفوعة ابن حميد: جاء رجل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: أخبرني عن السنة
والبدعة، وعن الجماعة وعن الفرقة. فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): " السنة ما سن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والبدعة ما أحدث من بعده. والجماعة أهل الحق وإن كانوا قليلا، والفرقة
أهل الباطل وإن كانوا كثيرا. " (5)

1 - الكافي 1 / 405، كتاب الحجة، باب ما أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنصيحة لأئمة المسلمين، الحديث 5.
2 - بحار الأنوار 27 / 68، الباب 3 (باب ما أمر به النبي...) من كتاب الإمامة، الحديث 4.
3 - بحار الأنوار 27 / 67، الباب 3 (باب ما أمر به النبي...) من كتاب الإمامة، الحديث 1.
4 - بحار الأنوار 2 / 266، الباب 32 (باب البدعة والسنة...) من كتاب الإمامة، الحديث 22.
5 - بحار الأنوار 2 / 266، الباب 32 (باب البدعة والسنة...) من كتاب العلم، الحديث 23.
528

وفي كنز العمال عن سليم بن قيس العامري، قال: " سأل ابن الكوا عليا عن السنة و
البدعة، وعن الجماعة والفرقة. فقال: " يا ابن الكوا، حفظت المسألة فافهم الجواب:
السنة والله سنة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، والبدعة ما فارقها. والجماعة والله مجامعة أهل الحق وإن
قلوا، والفرقة مجامعة أهل الباطل وإن كثروا. " (1)
إلى غير ذلك من الأخبار.
كيف! وقد ثار السبط الشهيد على يزيد وجماعته، وثار زيد على هشام وجنده و
القيام على الباطل والفساد واجب مع القدرة كما مر في فصل الجهاد ويأتي في
الفصل السادس أيضا بالتفصيل.
وقال الإمام الصادق (عليه السلام) لسدير الصيرفي: " والله يا سدير، لو كان لي شيعة بعدد هذه
الجداء ما وسعني القعود. " وكانت الجداء سبعة عشر. (2)
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: " اعرفوا الله بالله والرسول بالرسالة وأولي الأمر
بالمعروف والعدل والاحسان. " (3)
فأهل المنكر والجور لا ولاية لهم ولا كرامة لجماعتهم.

1 - كنز العمال 1 / 378، الباب 2 من كتاب الإيمان من قسم الأفعال الحديث 1644.
2 - الكافي 2 / 243، باب في قلة عدد المؤمنين من كتاب الإيمان والكفر، الحديث 4.
3 - نور الثقلين 1 / 501 في ذيل تفسير آية أطيعوا الله...
529

الفصل السادس
في ست عشرة مسألة مهمة يجب الالتفات إليها والبحث فيها
قد تحصل لك مما ذكرناه بطوله أن الإمامة تنعقد بالنص بلا إشكال.
والظاهر أن علماء السنة أيضا لا ينكرون صحة انعقادها بالنص وإنما ناقشوا في
تحقق الصغرى.
والظاهر من أصحابنا الإمامية المتعرضين لمسألة الإمامة عدم انعقادها بغير
النص، ولكنا قوينا انعقاد الإمامة بالمعنى الأعم بانتخاب الأمة أيضا، ولكن لا مطلقا
بل في صورة عدم النص، ومع رعاية الشروط الثمانية التي مر اعتبارها في الإمام.
فالانتخاب مقيد ومحدود من وجهين، ويكون في الرتبة المتأخرة عنهما.
فمع وجود الإمام المنصوب كما هو معتقدنا في أمير المؤمنين والأئمة المعصومين
من ولده (عليهم السلام) لا مجال لانتخاب غيره ولا يصير بذلك إماما مفترض الطاعة.
وفي عصر الغيبة حيث إن الإمامة بالمعنى الأعم لا تتعطل وتجب إقامة الدولة
الحقة في كل عصر وزمان - كما مر تفصيل ذلك - فلو فرض كون الفقهاء العدول
الواجدين للشرائط منصوبين من قبل الأئمة (عليهم السلام) لهذا المنصب فعلا وثبت ذلك بالأدلة
كما ادعاه الأعاظم الباحثون في المسألة فهو، وإلا كانت ولاية الفقيه
531

الواجد للشرائط ثابتة بانتخاب الأمة وتوليتها له، ووجب عليهم السعي في
التعرف عليه وترشيحه لذلك وانتخابه بمرحلة واحدة أو بمرحلتين.
وقد مر في الفصل الثالث البحث الوافي فيما استدلوا به لنصب الفقيه من قبل
الأئمة (عليهم السلام) كمقبولة عمر بن حنظلة ونحوها، فراجع.
وقد يتوهم أن طريق انعقاد الإمامة ينحصر في انتخاب الأمة فقط، والذي ثبت
بالنص من الله - تعالى - أو رسوله هو الترشيح وبيان الفرد الأصلح فقط، إذ ما لم
يتحقق انتخاب الأمة وتسليمها وبيعتها لم تتحقق فعلية الإمامية وإمكان القبض و
البسط والتصرفات الولائية.
أقول: قد مر منا في التنبيه الرابع من تنبيهات الباب الثاني أن للإمامة مراتب
ثلاث:
الأولى: مرتبة الصلوح والشأنية.
الثانية: المنصب المجعول للشخص اعتبارا من قبل من له ذلك.
الثالثة: السلطة الفعلية الحاصلة بمبايعة الناس ومتابعتهم. فأمير المؤمنين (عليه السلام) مثلا
عندنا منصوب من قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في غدير خم وجعل له منصب الإمامة كما
جعل للرسول منصب الأولوية ولإبراهيم الخليل منصب الإمامة، وكانت الولاية ثابتة
لهم بالنصب وإن فرض انه لم يتابعهم أحد. ونظير ذلك ثبوت منصب الولاية شرعا
للأب والجد بالنسبة إلى مال الصغير وإن منعهما ظالم من التصرف فيه.
إذا عرفت ما ذكرناه فنقول هنا أسئلة واعتراضات يجب الالتفات إليها والجواب
عنها:
الأولى: هل الترشيح بمقدار الكفاية للولاية الكبرى ولشعبها من القضاء والوزارة
وإمارة الجند ونحوها لمن وجد الشرائط واجب ولا يجوز اعتزال الكل فيصيرون
بذلك عصاة كما هو مقتضى الوجوب الكفائي، أو لا يجب ذلك بل - كما ربما نسمعه
من
532

بعض المعاصرين - يكون الاعتزال عنها أحوط وإن بدا للإسلام والمسلمين
ما بدا؟!
الثانية: ما هو الفرق بين الحكومة الاسلامية، وبين الحكومة الديموقراطية
المتداولة في عصرنا المعبر عنها بحكومة الشعب على الشعب؟
الثالثة: هل الشروط الثمانية التي اعتبرناها في الوالي تجب رعايتها تكليفا فقط
بحيث يترتب العصيان على تركها، أو انه لابد منها وضعا بحيث إن المنتخب وإن
أطبقت عليه الأمة لو فقد الشرائط أو بعضها لم يصر بالانتخاب إماما واجب الإطاعة و
كان انتخابه كالعدم كما هو الظاهر من التعبير بالشرط؟
الرابعة: على فرض اللابدية الوضعية فهل هي شروط واقعية أو علمية فقط؟ فعلى
الأول لو فرض رعايتها حين الانتخاب ثم انكشف الخلاف بطل الانتخاب ولم يترتب
عليه أثر. وعلى الثاني لا يبطل كما في بعض شروط الصلاة أو شرط العدالة في إمام
الجماعة مثلا.
الخامسة: إذا لم يوجد من يجتمع فيه جميع الشروط - والمفروض أن الإمامة و
الولاية لا يجوز تعطيلها - فوجد بعض الشروط في بعض وبعضها في آخر كما إذا كان
أحدهما أعلم مثلا والآخر أقوى في التدبير أو أشجع فما هو التكليف حينئذ؟
وقد تعرض للمسألة ابن سينا في الشفاء والماوردي وأبو يعلى كما يأتي.
السادسة: قد يقال إنه لو كانت الشورى والانتخاب من قبل الأمة مصدرا للولاية
شرعا كان على شارع الإسلام تثقيف الأمة بالنسبة إلى هذا الأمر المهم وبيان شرائطه
وحدوده كما وكيفا، مع أنك لا تجد في الكتاب والسنة إلا مجرد عنوان الشورى بنحو
الإهمال والإجمال بلا تعرض لمواردها وحدودها وكيفية أخذ الآراء والمقدار
اللازم منها.
533

السابعة: إن من معضلات الانتخاب أن أكثر أفراد المجتمع جاهلون غالبا بالنسبة
إلى المسائل السياسية وأهلها وليس لهم استقلال في التفكير فتغلب عليهم العواطف
والأحاسيس الآنية وتؤثر فيهم الدعايات الكاذبة، وقد لا يكون للأكثر منهم التزام
ديني وتعهد أخلاقي فيمكن اشتراء آرائهم بالتطميع المالي والوعود البراقة أو التأثير
عليهم بأساليب غريزية وإراءة الفتيات والأفلام المنكرة ونحو ذلك، وقد لا تكون
لهم شجاعة وقوة نفسانية فيؤثر فيهم النفوذ المحلي والتهديدات ونحو ذلك، كما هو
المشاهد في أعصارنا حتى في بعض الأمم التي يدعي أنها راقية. ففي الحقيقة لا تكون
الآراء والأصوات ناشئة عن انتخاب أصيل واختيار من الناخبين.
الثامنة: هل الملاك في الانتخاب على القول به هو رأي الجميع، أو الأكثر، أو
جميع أهل الحل والعقد، أو أكثرهم، أو رأي الحاضرين في بلد الإمام كالمدينة مثلا
في العصر الأول؟ ما هو الحق في المسألة؟
التاسعة: إن حصول الإطباق والاتفاق مما يندر جدا بل لعله لا يقع، والأخذ
بالأكثرية ولا سيما النسبية منها أو النصف بإضافة الواحد يوجب سحق حقوق الأقلية
وضياعها، فكيف المخلص؟
ثم إنه ليس هنا مجتمع إلا ويوجد فيه الغائبون والقاصرون ومن يولد بعد
الانتخاب، فكيف ينفذ انتخاب غيرهم بالنسبة إليهم؟ وكيف تحفظ حقوقهم في
الثروات والأموال العامة كالمعادن والغابات والمفاوز ونحوها مما خلقه الله لكافة
الناس؟ فهذه مشكلة عظيمة ربما لم يجد المفكرون لها مخلصا مقنعا.
العاشرة: لو قيل باعتبار الأكثرية في قبال الأقلية فلو فرض أن المفكرين و
المثقفين وأهل الصلاح والسداد في طرف الأقلية، والهمج الرعاع وضعفاء العقول
في طرف الأكثرية - كما لعله الغالب في كثير من البلاد - فهل تقدم الأكثرية الكذائية
على الأقلية الصالحة؟ وبعبارة أخرى: هل الاعتبار بالكمية أو بالكيفية؟
534

الحادية عشرة: إذا كان هنا أمور لا يجوز لآحاد الأمة التصدي لها ومباشرتها،
كإجراء الحدود والتعزيرات والقضاء وإصدار الأحكام الولائية في موارد الاضطرار
مثلا، فكيف يجوز للحاكم المنتخب من قبل الأمة التصدي لها مع أن ولايته من قبلهم و
هو فرع لهم؟ وكيف يزيد الفرع على الأصل ويتصدى هو لما لم يكن لهم أن يتصدوا
له بأنفسهم وكيف يفوضونه إليه؟
الثانية عشرة: على فرض كفاية رأي الأكثرية لو فرض تقاعس الأكثرية و
استنكافهم عن الاشتراك في الانتخابات فما هو التكليف؟ وهل يكفي حينئذ انتخاب
الأقلية وينفذ بالنسبة إلى الجميع أو يجبر الأكثرية من قبل الحاكم المتسلط فعلا
بالانتخاب السابق على الشركة في الانتخابات؟
الثالثة عشرة: إذا لم تقدم الأمة على الانتخاب ولم يكن إجبارها، ولم نقل بكون
الفقيه منصوبا بالفعل من قبل الأئمة - عليهم السلام - فهل تبقى الأمور معطلة أو يجب
على كل فقيه من باب الحسبة التصدي لما أمكنه من هذه الأمور؟
الرابعة عشرة: هل الانتخاب عقد جائز من قبيل التوكيل فيجوز للأمة فسخه و
نقضه مهما أرادت، أو هو عقد لازم من قبيل البيع ونحوه فلا يجوز نقضه إلا مع تخلف
الوالي عما شرط عليه؟
الخامسة عشرة: هل يشترط في الناخبين أيضا شروط معينة وراء العقل والتميز،
أو يكون الانتخاب حقا لكل مسلم مميز بل وغير المسلمين أيضا؟ وقد ذكر
الماوردي وأبو يعلى شروطا للناخبين أيضا، كما يأتي.
السادسة عشرة: هل يجوز للأمة مواجهة الإمام والوالي والقيام والثورة عليه و
الكفاح المسلح إذا فقد بعض الشرائط كالعدالة مثلا، أو لا يجوز، أو يفصل بين
535

الشروط، أو بين ما إذا خيف على بيضة الإسلام وأساسه وبين غيره، أو بين
الأخطاء الجزئية والانحرافات الأساسية؟
فهذه ستة عشر سؤالا سردناها بالإجمال فلنتعرض لها ولأجوبتها بالتفصيل.
فنقول:
536

المسألة الأولى
الظاهر أن وجوب الترشيح للولاية ولشعبها لمن يقدر عليها واضح، إذ الحكومة
كما عرفت من ضروريات حياة البشر، وعليها يتوقف حفظ كيان الإسلام والمسلمين
وحفظ ثغورهم وبلادهم ودفع الكفار والطواغيت عنهم. وتعطيلها يوجب تضييع
الحقوق وتعطيل الحدود والأحكام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وبعبارة أخرى يوجب تعطيل الإسلام بمفهومه الوسيع.
فإن اخترنا كون الفقهاء الواجدين للشرائط منصوبين من قبل الأئمة - عليهم السلام
- للولاية، فعليهم التصدي لشؤونها كفاية، وعلى المسلمين إطاعتهم والتسليم لهم
فيما يرتبط بأمر الحكومة.
وإن قلنا بصلوحهم لذلك فقط، وأن الولاية الفعلية تتوقف على انتخاب الأمة،
فعليهم عرض أنفسهم وعلى المسلمين ترشيحهم وانتخابهم. والتارك لذلك من
الفريقين مع الإمكان عاص بلا إشكال، كما هو مقتضى الوجوب الكفائي.
537

المسألة الثانية
تفترق الحكومة الإسلامية عن الحكومة الديموقراطية بوجهين أساسين:
الأول: أنه يشترط في حاكم المسلمين مطلقا، سواء كان بالنصب أو بالانتخاب،
أن يكون أعلم الناس وأعدلهم وأتقاهم وأقواهم بالأمر وأبصرهم بمواقع الأمور و
بالجملة أجمعهم للفضائل. ففي عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان هو بنفسه إماما للمسلمين وأولى
بالمؤمنين من أنفسهم، وبعده كانت الإمامة عندنا حقا للأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) على
ما فصل في الكتب الكلامية. وفي عصر الغيبة للفقيه العادل العالم بزمانه البصير
بالأمور والحوادث الحافظ لحقوق الناس حتى الأقليات غير المسلمة، فلا يجوز
للأمة انتخاب غيره. وقد مر تفصيل الشروط وأدلتها في الباب السابق، فراجع.
وبالجملة في صورة عدم النصب تكون آراء الأمة معتبرة ولكنها في طول
الشروط المذكورة وفي الرتبة المتأخرة عنها، فلا تصح إمامة الفاقد لها.
الثاني: أن الحكومة الإسلامية بشعبها الثلاث: من التشريع والتنفيذ والقضاء
تكون في إطار قوانين الإسلام وموازينه وليس لها أن تتخلف عما حكم به الإسلام
قيد شعرة. فالحكومة مشروطة مقيدة، والحاكم في الحقيقة هو الله - تعالى - والدين
الحنيف بمقرراته الجامعة. ولذا يعبر عنها بالحكومة الثئوقراطية في قبال الحكومة
الديموقراطية. فالمراد بالحكومة الثئوقراطية حكومة القانون الإلهي، لا حكومة رجال
الدين حكومة استبدادية على نحو ما كان لرجال الكنيسة والبابا في القرون الوسطى.
هذا.
538

ولو فرض وجود أقليات من غير المسلمين أيضا. فالإسلام بقوانينه الجامعة
قد ضمن حقوقهم أيضا على ما فصل في محله.
قال الله - تعالى -: " إن الحكم إلا لله. " وقال: " ألا له الحكم. " (1)
وقال: "... ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون... ومن لم يحكم بما أنزل
الله فأولئك هم الظالمون... ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون. " (2)
وقال مخاطبا لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): " وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب
ومهيمنا عليه، فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق... وأن احكم
بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك. " (3)
إلى غير ذلك من الآيات الشريفة.
فهذان الأمران خصيصتان للحكومة الإسلامية.
وأما في الحكومة الديموقراطية الغربية فلا تقيد للشعب ولا للحاكم، لا بالنسبة إلى
إيدئولوجية خاصة، ولا بالنسبة إلى المصالح النوعية والفضائل الأخلاقية، بل ترى
الشعب ينتخب من يجري وينفذ نواياه وأهواءه. والحاكم لا يتخلف عن ذلك قهرا،
فيكون الشعب بأهوائه منشأ للتشريع والتنفيذ معا. والحاكم يكيف نفسه وفق أهواء
الشعب وإن خالفت مصالحهم الواقعية ومصالح النوع والفضائل الأخلاقية.
فما أكثر الحكام الذين تجاوبوا مع أهواء شعبهم وتجاهلوا نداءات الضمير و
الوجدان طمعا في الانتخاب المجدد!!
وأما الحاكم الإسلامي فبعدله وتقواه لا يتخلف قهرا عن أحكام الله - تعالى - و
عن الحق والفضيلة، ولا يفكر في الانتخاب المجدد إذا فرض توقفه على الانحراف

1 - سورة الأنعام (6)، الآية 57 و 62.
2 - سورة المائدة (5)، الآية 44، 45 و 47.
3 - سورة المائدة (5)، الآية 48 و 49.
539

والتخطي عن الحق.
بل واضح أن انحرافه يوجب سقوط عدالته وعدم جواز انتخابه قهرا، فتدبر.
540

المسألة الثالثة
هل الشروط الثمانية التي اعتبرناها في الوالي تجب رعايتها تكليفا فقط حين
الانتخاب، أو لابد منها وضعا بحيث يبطل الانتخاب ولا تنعقد الإمامة بدونها؟
فنقول: أما على القول بنصب الفقهاء من قبل الأئمة المعصومين (عليهم السلام) فلا إشكال في
المسألة، إذ المنصوب هو العنوان الواجد للشرائط المذكورة على ما تقتضيه الأدلة، و
غير الواجد لم ينصب فلا يكون واليا.
وأما على القول بالانتخاب فظاهر الآيات والروايات المتعرضة للأوصاف أيضا
كونها في مقام بيان الحكم الوضعي وأن الإسلام والفقاهة والعدالة وغيرها شروط
للوالي، فلا تنعقد الولاية لمن فقدها وإن اختاروه بآرائهم. فتأمل في قوله - تعالى -:
" لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا. " (1)
وقوله: " لا ينال عهدي الظالمين. " (2)
وقوله: " ولا تطيعوا أمر المسرفين * الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون. " (3)
وقوله حكاية عن يوسف النبي (عليه السلام): " اجعلني على خزائن الأرض، إني حفيظ
عليم. " (4)
وقول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا تصلح الإمامة إلا لرجل فيه ثلاث خصال: ورع

1 - سورة النساء (4)، الآية 141.
2 - سورة البقرة (2)، الآية 124.
3 - سورة الشعراء (26)، الآية 151 و 152.
4 - سورة يوسف (12)، الآية 55.
541

يحجزه عن معاصي الله، وحلم يملك به غضبه، وحسن الولاية على من يلي. " (1)
وقول أمير المؤمنين (عليه السلام): " لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم و
الأحكام وإمامة المسلمين، البخيل فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجاهل فيضلهم
بجهله... " (2)
وقول الإمام المجتبي (عليه السلام) في خطبته بمحضر معاوية: " إنما الخليفة من سار بكتاب
الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) وليس الخليفة من سار بالجور. " (3)
وقول سيد الشهداء (عليه السلام) في جوابه لأهل الكوفة: " فلعمري ما الإمام إلا الحاكم
بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحق... " (4)
إلى غير ذلك من الآيات والروايات المتعرضة للشرائط.
والأمر والنهي في هذا السنخ من الأمور أيضا ظاهران في الإرشاد إلى الشرطية و
المانعية. هذا.
ولكن المسألة لا تخلو من غموض، إذ لو فرض أن الأمة ولو لعصيانهم اختاروا
أميرا غير واجد للشرائط وأطبقوا عليه وانتخبوه وبايعوه، وفرض أنه ينفذ مقررات
الإسلام ولا يتخلف عنها فهل تبطل إمامته ويجوز لهم نقض بيعته والتخلف عنه؟!
مشكل جدا، إذ الخطأ والاشتباه وكذا العصيان مما يكثر وقوعها في أفراد البشر، و
جواز نقض البيعة والتخلف عنها حينئذ يوجب تزلزل النظام وعدم قراره أصلا،
فلا يقاس المقام بما إذا ظهر التخلف في المبيع ذاتا أو وصفا كما إذا باع الشيء على أنه
خل فبان أنه خمر أو على أنه صحيح فبان معيبا، حيث يحكمون فيهما بفساد البيع أو
الخيار فيه، فتأمل.
وبذلك يظهر وجه الإشكال في المسألة التالية أيضا.
قال الماوردي:

1 - الكافي 1 / 407، كتاب الحجة، باب ما يجب من حق الإمام...، الحديث 8.
2 - نهج البلاغة، فيض / 407; عبده 2 / 19; لح / 189، الخطبة 131.
3 - مقاتل الطالبيين / 47.
4 - إرشاد المفيد / 186.
542

" ولو ابتدؤوا بيعة المفضول مع وجود الأفضل نظر; فإن كان ذلك لعذر دعا إليه -
من كون الأفضل غائبا أو مريضا أو كون المفضول أطوع في الناس وأقرب في
القلوب - انعقدت بيعة المفضول وصحت إمامته. وإن بويع لغير عذر فقد اختلف في
انعقاد بيعته وصحة إمامته; فذهبت طائفة منهم الجاحظ إلى أن بيعته لا تنعقد لأن
الاختيار إذا دعا إلى أولى الأمرين لم يجز العدول عنه إلى غيره مما ليس بأولى
كالاجتهاد في الأحكام الشرعية. وقال الأكثر من الفقهاء والمتكلمين تجوز إمامته و
صحت بيعته ولا يكون وجود الأفضل مانعا من إمامة المفضول إذا لم يكن مقصرا عن
شروط الإمامة، كما يجوز في ولاية القضاء تقليد المفضول مع وجود الأفضل لأن
زيادة الفضل مبالغة في الاختيار وليست معتبرة في شروط الاستحقاق. " (1)
وما ذكره غير مورد البحث ولكنه يقرب منه كما لا يخفى.

1 - الأحكام السلطانية للماوردي / 8.
543

المسألة الرابعة
هل الشروط واقعية أو علمية فقط كما في اشتراط العدالة في إمام الجماعة؟
فنقول: إذا فرض استنباط الشرطية من الأدلة فظاهرها شرطية نفس هذه
الأوصاف لا إحرازها والعلم بها كما هو واضح.
نعم، يقع الإشكال على الانتخاب، إذ لو أحرزت الأمة جامعية الفرد للشرائط و
اختاروه بآرائهم ثم انكشف الخلاف فكيف ينقضون بيعتهم ويتخلفون عنها بعد
ما جعلوه إماما وبايعوه؟ وهل لا يصير تجويز هذا الأمر وسيلة لتخلف بعض الناس
عن إمامهم مستمسكا بهذا العذر؟ فيلزم الهرج والمرج.
وبالجملة فالحكم في المسألتين لا يخلو من غموض.
544

المسألة الخامسة
إذا فرض وجود بعض الشرائط في بعض وبعضها في آخر ولم يوجد الواجد
للجميع فما هو التكليف حينئذ؟
قال الماوردي في الأحكام السلطانية:
" ولو كان أحدهما أعلم والآخر أشجع روعي في الاختيار ما يوجبه حكم الوقت;
فإن كانت الحاجة إلى فضل الشجاعة أدعى لانتشار الثغور وظهور البغاة كان الأشجع
أحق. وإن كانت الحاجة إلى فضل العلم أدعى لسكون الدهماء وظهور أهل البدع
كان الأعلم أحق. "
ونحو ذلك في الأحكام السلطانية للقاضي أبي يعلى الفراء (1).
وقال ابن سينا في الشفاء:
" والمعول عليه الأعظم، العقل وحسن الإيالة، فمن كان متوسطا في الباقي و
متقدما في هذين بعد أن لا يكون غريبا في البواقي وصائرا إلى أضدادها فهو أولى
ممن يكون متقدما في البواقي ولا يكون بمنزلته في هذين، فيلزم أعلمهما أن يشارك
أعقلهما ويعاضده، ويلزم أعقلهما أن يعتضد به ويرجع إليه; مثل ما فعل عمر وعلى -
عليه السلام -. " (2)
أقول: عندنا فيما ذكره ابن سينا من المثال نقاش; وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام) على
ما في نهج البلاغة: " والله ما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويفجر. ولولا كراهية الغدر
لكنت من أدهى الناس. " (3)

1 - الأحكام السلطانية للماوردي / 7، ولأبي يعلى / 24.
2 - الشفاء / 452 (= طبعة أخرى / 564)، أواخر الإلهيات، فصل في الخليفة والإمام.
3 - نهج البلاغة، فيض / 648; عبده 2 / 206; لح / 318، الخطبة 200.
545

وقال ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه:
" واعلم أن قوما ممن لم يعرف حقيقة فضل أمير المؤمنين (عليه السلام) زعموا أن عمر كان
أسوس منه (عليه السلام)، وإن كان هو أعلم من عمر، وصرح الرئيس أبو علي بن سينا بذلك في
الشفاء. " (1) هذا.
وموارد التزاحم لا تنحصر فيما ذكروه من الأمثلة بل هي كثيرة جدا بلحاظ
الشروط الثمانية المعتبرة في الإمام، كما لا يخفى.
والظاهر أن هذا البحث لا مجال له على القول بالنصب من قبل الأئمة (عليهم السلام)، إذ
المستفاد من أدلته المذكورة هو نصب الفقيه الجامع للشرائط ولا دليل على نصب
غيره. فإذا لم يوجد الجامع لها فإن قلنا بصحة الانتخاب في هذه الصورة جرى البحث
وإلا وجب كفاية على من يقدر، التصدي للشؤون من باب الحسبة، كما يأتي وجهه.
هذا.
والظاهر صحة الانتخاب وعموم أدلته لهذه الصورة أيضا.
لا يقال: أدلة اعتبار الشروط الثمانية في الوالي مخصصة لهذه العمومات بل لها
نحو حكومة عليها.
فإنه يقال: لا يبعد كونها بنحو تعدد المطلوب; فمع إمكان الشرائط يجب رعايتها
وجوبا شرطيا ولا تنعقد الإمامة لغير الواجد، ولكن مع عدم التمكن منها يكون أصل
انتخاب الحاكم مطلوبا شرعا لعدم جواز تعطيل الحكومة وشدة اهتمام الشارع بها.
وحمل المطلق على المقيد إنما هو فيما إذا أحرزت وحدة الحكم في الجملتين، و
في الأمور المهمة الضرورية على أي تقدير، لا تحرز وحدته لاحتمال تعدد المطلوب;
نظير ما إذا قال المولى لعبده: " أنقذ ابني الأسير بوسيلة كذا. " فإذا فرض أن العبد
لا يتمكن من الوسيلة الخاصة السريعة فهل لا يجب عليه إنقاذه بغير هذه الوسيلة

1 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 10 / 212.
546

ويجوز له تركه رأسا؟ لا أظن أن أحدا يلتزم بذلك.
ولا يخفى أن الحكومة من هذا القبيل; فتأمل في أدلتها الدالة على ضرورتها و
اهتمام الشارع بها وعدم جواز تعطيلها ولاسيما مثل كلام أمير المؤمنين (عليه السلام): " هؤلاء
يقولون لا إمرة إلا لله وإنه لابد للناس من أمير بر أو فاجر. " (1)
وقوله (عليه السلام): " وال ظلوم خير من فتنة تدوم. " (2) إلى غير ذلك من الأدلة.
وعلى هذا فلا يجوز تعطيل الحكومة على أي حال ولكن يجب رعاية الشرائط
مهما أمكن. ومع عدم التمكن من الواجد للجميع يجب رعاية الأهم فالأهم من ناحية
نفس الشرائط ومن ناحية الظروف والحاجات. فالعقل والإسلام وقوة التدبير بل و
العدالة من أهم الشرائط، كما أن الحاجات والظروف أيضا كما أشار إليه الماوردي و
أبو يعلى مختلفة. والتشخيص لا محالة محول إلى الخبراء في كل عصر ومكان.
ومن أهم موارد التزاحم وأكثرها ابتلاء التزاحم بين الفقاهة، وبين القوة وحسن
التدبير كما تعرض له ابن سينا وإن ناقشنا في مثاله.
ولعل الثاني أهم، إذ النظام وتأمين المصالح ودفع الكفار والأجانب لا تحصل إلا
بالقوة وحسن التدبير والسياسة. وحيث فرض تحقق الإسلام والعدالة فيه فهما
يلزمانه قهرا بتعلم الأحكام من أهلها وعدم الإقدام بغير علم.
ويمكن أن يفصل بحسب الشرائط وبحسب الأزمنة والأمكنة، كما قال الماوردي
وأبو يعلى.
فقد تكون الأوضاع بحرانية متأزمة والأجواء السياسية مسمومة، فيكون
الاحتياج إلى القوة وحسن التدبير أكثر.
وقد يكون الأمر بالعكس، فتكون الشرائط والأوضاع عادية والأجواء سليمة
ولكن الاحتياج إلى التقنين والتشريع والاطلاع على الموازين الإسلامية بأدلتها أو
رفع الاشتباهات والبدع الظاهرة كثير جدا، فتلزم الفقاهة والاطلاع العميق على
مقررات الإسلام وموازينه، فتدبر.

1 - نهج البلاغة، فيض / 125; عبده 1 / 87; لح / 82، الخطبة 40.
2 - الغرر والدرر 6 / 236، الحديث 10109.
547

المسألة السادسة
قد يعترض بأنه لو كانت الشورى والانتخاب من قبل الأمة مصدرا للولاية شرعا
كان على شارع الإسلام تثقيف الأمة وتنويرها بالنسبة إلى هذا الأمر المهم وبيان
حدوده وشرائطه وكيفياته.
ويمكن أن يجاب عن هذا الاعتراض بأن عدم التحديد للشورى والانتخاب
بحسب الكيفية ومواصفات الناخب كما وكيفا وغير ذلك وعدم صوغهما في قالب
معين يجب أن يعد من ميزات الشريعة السمحة السهلة ومن مزاياها البارزة، حيث
أراد الشارع بقاءها إلى يوم القيامة وانطباقها على مختلف الأعصار والبلاد و
الظروف الاجتماعية والإمكانات الموجودة.
فحال تعيين الوالي حال سائر شرائط الحياة والبقاء من الغذاء واللباس والدواء و
السكنى ووسائل السفر والاستضاءة وغير ذلك من لوازم المعيشة، حيث لا تتقدر
بقدر خاص وشكل معين لاقتضاء كل ظرف شكلا معينا.
فأنت ترى أن الانتخاب للوالي الأعظم وأخذ الآراء له بالوضع الممكن فعلا
لم يكن متيسرا في تلك الأعصار، وكل يوم توجد امكانيات جديدة.
والأمة الإسلامية حيث جاءت في آخر الزمان فقد انتهت إليها تجارب الأمم
السابقة وامتازت عن سائر الأمم بحسب التفكير والتعقل، فيجوز بيان الأصول لها و
إحالة الخصوصيات إلى تشخيص المتشرعين أنفسهم.
وطبع الشريعة الباقية الدائمة يقتضي بيان الأصول وإحالة الأشكال والقوالب و
الخصوصيات إلى المتشرعة المطلعين على الحاجات والإمكانات والظروف.
وأصل الشورى قد ورد في الكتاب والسنة مؤكدا كما مر.
548

وفي كلام أمير المؤمنين (عليه السلام): " وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار; فإن اجتمعوا على
رجل وسموه إماما كان ذلك (لله) رضا. " (1)
وقال أيضا: " ولعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتى تحضرها عامة الناس فما إلى
ذلك سبيل، ولكن أهلها يحكمون على من غاب عنها، ثم ليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن
يختار. " (2)
فهو (عليه السلام) تعرض لبعض خصوصيات الشورى أيضا وجعل الملاك شورى أهل الحل
والعقد وأهل العلم والمعرفة، ولا يخفى أن شورى أهل الحل والعقد تستعقب غالبا
رضا جميع الأمة أو أكثرهم قهرا.
ولعل هذا كان في صورة عدم إمكان تحصيل آراء الأمة مباشرة، وأما مع إمكان
تحصيلها بمرحلة واحدة أو بمرحلتين كما في أعصارنا فالواجب تحصيلها لتكون
الحكومة أقوى وأحكم.
وكيف كان فما هو الواجب على الشارع الحكيم بيان أصل الشورى والحث عليها;
وقد بين. وأما الكيفيات والخصوصيات والشرائط فمفوضة إلى العقلاء وأهل العلم
الواقفين على حاجات الزمان والظروف والإمكانيات.
ولا يخفى أن تبيين جميع الفروع والأحكام في الإسلام من العبادات والمعاملات
والسياسات ونحوها أيضا كان على هذا النحو. فكما أنه ليس في الكتاب والسنة
اقتصاد منظم مدون وإنما وردت فيها كليات وأصول رتبها وشرحها الفقهاء، و
صاغها في القوالب الخاصة علماء الاقتصاد حسب ظروف الزمان، فكذلك الأمر في
الحكومة والدولة، حيث ترى أصولها وشرائط الحاكم ومواصفاته مذكورة في
الكتاب والسنة كما مر. وكذلك الشورى وبعض خصوصياتها.
فعلى الفقهاء جمع الأدلة وبيانها، وعلى المتخصصين في فنون السياسة والواقفين
على ظروف الزمان وإمكاناتها تطبيقها على أساس الإمكانات المختلفة المتكاملة
بحسب الظروف والأمكنة والأزمنة كسائر الحاجات الاجتماعية وغيرها.

1 - نهج البلاغة، فيض / 840; عبده 3 / 8; لح / 367، الكتاب 6.
2 - نهج البلاغة، فيض / 558; عبده 2 / 105; لح / 248، الخطبة 173.
549

ولم يكن الانتخاب على أساس الشورى أمرا مستحدثا بل كان رائجا بين العقلاء
كما مر; ففوض الشرع إليهم الكيفيات والخصوصيات.
وقد أراد شارع الإسلام انفتاح باب الاجتهاد وبقاء المجتهدين في جميع الأعصار
ليبقي الفقه ناميا وبتكامل الزمان وظهور الموضوعات الحديثة.
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): " إنما علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن تفرعوا. " (1)
وعن الرضا (عليه السلام): " علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع. " (2)

1 - الوسائل 18 / 41، الباب 6 من أبواب صفات القاضي (كتاب القضاء)، الحديث 51.
2 - الوسائل 18 / 41، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 52.
550

المسألة السابعة
قد يقال إن من معضلات الانتخاب أن أكثر الناس بسطاء تؤثر فيهم الدعايات
الكاذبة، أو لا يكون لهم تقوى فتشترى آراؤهم بالتطميع، أو لا يكون فيهم شجاعة و
قوة نفسية فتشترى الآراء بالتهديدات.
ويمكن أن يجاب عن ذلك أولا: بالنقض بانتخاب المفتي ومرجع التقليد،
حيث فوض ذلك إلى الأمة والطريق إليه هو العلم الشخصي، أو الشياع المفيد له، أو
شهادة أهل الخبرة العدول.
وثانيا: بأن جهل الناخبين وبساطتهم أو عدم صلاحهم لا يضرنا كثيرا بعدما بينا
أن المنتخب في الحكومة الإسلامية يشترط فيه شروط خاصة من الإسلام والعدالة و
الفقاهة وغير ذلك من الشروط الثمانية، فلا تنعقد الولاية لفاقدها.
وفي مقام العمل والتنفيذ أيضا يكون الحاكم مقيدا بموازين الإسلام ومقرراته و
ليس له حرية مطلقة.
نعم، يبقى احتمال اشتباه الناخبين أو تعمدهم لانتخاب حاكم فاسد.
ويمكن أن يجبر ذلك بإحالة تشخيص واجد الشرائط إلى هيئة متخصصة، نظير
هيئة المحافظة على الدستور الذين هم من أهل الخبرة في دستور إيران الإسلامية.
فلا يصلح للانتخاب ولا ينتخب إلا من يرشح من قبلهم لذلك.
نعم، ترد هذه الاعتراضات جدا على الديموقراطية الغربية، حيث لا تقيد فيها
551

بإيدئولوجية خاصة. والأساس والمحور فيها هو أهواء الناخبين ومشتهياتهم
كيف ما كانت، فتدبر.
وثالثا: بأن لنا أن نشترط في الناخبين شروطا خاصة كما هو عند الماوردي وأبي
يعلى; حيث شرطا فيهم العدالة والعلم والتدبير المؤديين إلى اختيار من هو للإمامة
أصلح. وسيأتي بيانه في المسألة الخامسة عشرة. ولعل مرجع ذلك إلى كون الرأي
لأهل الحل والعقد لا لجميع الأمة. وسيأتي البحث فيه.
ورابعا: أن معرفة الأمة جميعا لشخص واحد والاطلاع على حقيقة حاله و
انتخابه مباشرة مما يمكن أن يصادف إشكالات وعقبات.
ولكن معرفة أهل كل بلد لفرد خبير أو أفراد خبراء من أهل بلدهم وصقعهم مما
يسهل جدا ولا سيما بعد الترشيح والاعلام الصحيح من أهل الصلاح، فتنتخب الأمة
الخبراء العدول، والخبراء ينتخبون الوالي الأعظم فيكون الانتخاب ذا مرحلتين كما
هو متعارف في أعصارنا ومذكور في دستور إيران الإسلامية لانتخاب القائد. (1)
وبالجملة، الأمة جميعا يشتركون في الانتخابات فلا تختص بأهل الحل والعقد،
ولكن النتيجة تحصل في المرحلة الثانية. والاطمينان بالصحة في هذه الصورة أكثر و
أقوى بمراتب، إذ الخبراء قلما يحتمل فيهم ما كان يحتمل في البسطاء من الأمة.
واحتمال رعاية الخبراء لمصالحهم الفردية دون مصالح المجتمع والمصالح
النفس الأمرية، يدفعه اشتراط العدالة فيهم مضافا إلى الخبرة، فتدبر.

1 - راجع دستور إيران الإسلامية، الأصل 107.
552

المسألة الثامنة
هل الملاك في الانتخاب آراء الجميع، أو الأكثر، أو جميع أهل الحل والعقد أو
أكثرهم، أو آراء الحاضرين في بلد الإمام؟ وجوه.
والتحقيق أن يقال: إنه بعدما أثبتنا صحة الانتخاب وانعقاد الإمامة به عند عدم
النص نقول: إن حصول الإطباق والاتفاق في مقام الانتخاب على فرد واحد مما
يندر جدا لو لم نقل بعدم وقوعه عادة ولاسيما في المجتمعات الكبيرة وإن فرض
كون جميعهم أهل علم وصلاح، أو قلنا بأن الرأي يختص بأهل العلم والصلاح و
لا اعتبار بآراء غيرهم.
وذلك لاختلاف الأنظار والسلائق في هذا السنخ من الأمور. فلا مجال لحمل
الأدلة الدالة على صحة الإمامة بالانتخاب على صورة حصول الإطباق فقط.
وقد استمرت سيرة العقلاء في جميع الأعصار والأصقاع على تغليب الأكثرية
على الأقلية في هذه الموارد، فتكون الأدلة الشرعية التي أقمناها على صحة
الانتخاب إمضاء لهذه السيرة قهرا.
وقد حكي:
أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في غزوة أحد مع كون نظره (صلى الله عليه وآله وسلم) الشخصي هو عدم الخروج من
المدينة إلا أنه لما رأى (صلى الله عليه وآله وسلم) أن رأي الأكثر هو الخروج أخذ بآرائهم وترك رأيه و
رأي الأقل. (1)
وبعبارة أخرى: بعد فرض ضرورة الحكومة في حفظ النظام وحفظ الحقوق،

1 - راجع الكامل لابن الأثير 2 / 150.
553

وعدم تحقق النصب من العالي، وعدم تحقق الإطباق من قبل الأمة يدور الأمر
بين تعطيل الحكومة أو الأخذ بآراء الأكثرية أو بآراء الأقلية، وحيث إن الأول
يوجب اختلال النظام وتضييع الحقوق بأجمعها فالأمر يدور بين الأخيرين، و
لا إشكال في ترجح الأكثرية على الأقلية من وجهين: من الوجهة الحقوقية ومن جهة
الكشف عن الواقع، إذ تأمين حقوق الأكثر أهم وأوجب، وجهة الكشف في آرائهم
أيضا أقوى كما لا يخفى. فترجيح الأقلية على الأكثرية يوجب ترجيح المرجوح على
الراجح وهو قبيح.
وفي نهج البلاغة: " والزموا السواد الأعظم، فإن يد الله على الجماعة. وإياكم والفرقة،
فإن الشاذ من الناس للشيطان كما أن الشاذ من الغنم للذئب. " (1)
وفي مقبولة عمر بن حنظلة في الخبرين المتعارضين: " ويترك الشاذ الذي ليس
بمشهور عند أصحابك، فإن المجمع عليه لا ريب فيه. " (2)
وروى الترمذي في الفتن من سننه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن الله لا يجمع أمتي - أو
قال: أمة محمد - على ضلالة، ويد الله على الجماعة. ومن شذ شذ إلى النار. " (3)
وفي كنز العمال، عن ابن عباس وابن عمر: " لا يجمع الله أمر أمتي على ضلالة أبدا،
اتبعوا السواد الأعظم يد الله على الجماعة. من شذ شذ في النار. " (4)
وعن أسامة بن شريك: " يد الله على الجماعة، فإذا اشتذ الشاذ منهم اختطفه الشيطان،
كما يختطف الذئب الشاة الشاذة من الغنم. " (5)
فيستأنس من جميع ذلك أنه في مقام تعارض الأكثرية والأقلية الشاذة يؤخذ

1 - نهج البلاغة، فيض / 392; عبده 2 / 11; لح / 184، الخطبة 127.
2 - الكافي 1 / 68، كتاب فضل العلم، باب اختلاف الحديث، الحديث 10.
3 - سنن الترمذي 3 / 315، الباب 7 من أبواب الفتن، الحديث 2255.
4 - كنز العمال 1 / 206، الباب 2 من كتاب الإيمان من قسم الأقوال، الحديث 1030.
5 - كنز العمال 1 / 206، الباب 2 من كتاب الإيمان من قسم الأقوال، الحديث 1032.
554

بالأكثرية.
نعم، يقع الإشكال في سحق حقوق الأقلية والغيب والقصر ومن يولد بعد
الانتخاب. ويأتي الجواب عنه في المسألة الآتية.
وبالجملة، الاتفاق في مقام الانتخاب مما لا يحصل غالبا ولا يلزم قطعا، بل تتبع
آراء الأكثرية وتقدم على الأقلية.
نعم، يقع الكلام في أن اللازم هل هو شركة الأمة في مرحلة واحدة لانتخاب الوالي
مباشرة، أو في مرحلتين بأن تنتخب العامة الخبراء، والخبراء ينتخبون الوالي الأعظم،
أو أن الانتخاب وظيفة وحق لأهل الحل والعقد فقط، أو الحاضرين في بلد الإمام
فقط إما لعدم إمكان شركة الجميع فيلزم تعطيل الإمامة ولو لمدة أو لأنه يشترط في
الناخبين أن يكونوا أهل علم وعدالة وتدبير فلا تصح شركة الجميع ولا تلزم؟ في
المسألة وجوه:
1 - ففي نهج البلاغة: " ولعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتى تحضرها عامة الناس
فما إلى ذلك سبيل. ولكن أهلها يحكمون على من غاب عنها، ثم ليس للشاهد أن يرجع و
لا للغائب أن يختار. " (1)
والمراد بأهلها أهل الإمامة أو أهل المدينة المنورة. ولعل الثاني أظهر بقرينة قوله:
" غاب عنها ". ولازم الاحتمال الأول عدم كون العامة أهلا لتعيين الإمامة أصلا، بل له
أهل خاص فينطبق قهرا على أهل الحل والعقد المنطبق في ذلك العصر على
المهاجرين والأنصار.
والظاهر أنه (عليه السلام) أشار بقوله: " ليس للشاهد أن يرجع " إلى نكث طلحة والزبير،
وبقوله: " ولا للغائب أن يختار " إلى معاوية وأمثاله المتأبين عن البيعة له.
2 - وفيه أيضا في كتابه (عليه السلام) إلى معاوية: " إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر و
عثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد. وإنما الشورى
للمهاجرين

1 - نهج البلاغة، فيض / 558; عبده 2 / 105; لح / 248، الخطبة 173.
555

والأنصار; فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماما كان ذلك (لله) رضا. فإن خرج عن أمرهم
خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه. فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين و
ولاه الله ما تولى. " (1)
وفي كتاب وقعة صفين لنصر بن مزاحم، والإمامة والسياسة لابن قتيبة: " أما بعد،
فان بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام، لأنه بايعني القوم. " (2) وذكرا نحو ما في
نهج البلاغة.
وفي ذيل كلامه (عليه السلام) إشارة إلى قوله - تعالي -: " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين
له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا. " (3)
قال ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه:
" واعلم أن هذا الفصل دال بصريحه على كون الاختيار طريقا إلى الإمامة، كما
يذكره أصحابنا المتكلمون...
فأما الإمامية فتحمل هذا الكتاب منه (عليه السلام) على التقية وتقول: إنه ما كان يمكنه أن
يصرح لمعاوية في مكتوبه بباطن الحال ويقول أنا منصوص على من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
ومعهود إلى المسلمين أن أكون خليفة فيهم بلا فصل فيكون في ذلك طعن على الأئمة
المتقدمين وتفسد حاله مع الذين بايعوه من أهل المدينة. وهذا القول من الإمامية
دعوى لو عضدها دليل لوجب أن يقال بها ويصار إليها، ولكن لا دليل لهم على
ما يذهبون إليه من الأصول التي تسوقهم إلى حمل هذا الكلام على التقية. " (4)
أقول: دليل الإمامية التصريحات الكثيرة منه (صلى الله عليه وآله وسلم) على أمير المؤمنين (عليه السلام) في
المواقف المختلفة من أول بعثته إلى حين وفاته، وقد ذكرنا نموذجا منها في أوائل

1 - نهج البلاغة، فيض / 840; عبده 3 / 8; لح / 366، الكتاب 6.
2 - وقعة صفين / 29، والإمامة والسياسة 1 / 84.
3 - سورة النساء (4)، الآية 115.
4 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 14 / 36.
556

الكتاب (1) في بيان قوله - تعالى -: " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم. "
وهو (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أراد إبرام ذلك بالكتابة عند وفاته، فدعا بدواة وقرطاس ولكنهم
خالفوه في ذلك.
وكيف كان فعند الشيعة الإمامية إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) ثابتة بالنص، وكان (عليه السلام)
يحاج بذلك في خطبه وكتبه أيضا. وكلامه في هذا المقام وفي أمثاله صدر عنه تقية
أو مماشاة وجدلا. ولكن قد عرفت منا أنه ليس معنى الجدل هنا بطلان البيعة بالكلية و
كونها كالعدم، بل الاختيار والبيعة أيضا طريق إلى الإمامة ولكنه في طول النص وفي
صورة عدمه. فالمماشاة هنا ليست بتسليم ما ليس حقا أصلا بل بتسليم عدم النص مع
كونه ثابتا، فراجع ماحررناه في فصل البيعة.
وعلى أي حال فهذا الكلام منه (عليه السلام) أيضا يدل على عدم الاحتياج إلى بيعة جميع
الأمة وكفاية بيعة أهل الحل والعقد المنطبق في ذلك العصر على المهاجرين و
الأنصار، كما لا يخفى.
3 - وفيما وقع بين أمير المؤمنين (عليه السلام) ومعاوية في صفين أن معاوية قال:
" إن كان الأمر كما يزعمون فما له ابتز الأمر دوننا على غير مشورة منا ولا ممن
هيهنا معنا؟ " فقال على - عليه السلام -: " إنما الناس تبع المهاجرين والأنصار وهم شهود
المسلمين في البلاد على ولايتهم وأمر دينهم، فرضوا بي وبايعوني ولست أسنحل أن أدع
ضرب معاوية يحكم على الأمة ويركبهم ويشق عصاهم. " فرجعوا (أي القراء) إلى معاوية
فأخبروه بذلك فقال: " ليس كما يقول; فما بال من هيهنا من المهاجرين والأنصار
لم يدخلوا في هذا الأمر فيؤامروه. " فانصرفوا إلى على (عليه السلام) فقالوا له ذلك وأخبروه
فقال على (عليه السلام): " ويحكم، هذا للبدريين دون الصحابة. ليس في الأرض بدري إلا قد بايعني و
هو معي أو قد قام ورضى. " (2)
وقوله: " ضرب معاوية " أي مثله وشبيهه. ويحتمل أن يكون بمعنى السير، وأن

1 - راجع ص 37 وما بعدها من الكتاب.
2 - وقعة صفين / 189 وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4 / 17.
557

تكون الكلمة مصحفة عن " حزب ".
والظاهر من كلامه (عليه السلام) أن حق البيعة والرأي ليس لعامة المسلمين، بل لفئة خاصة
منهم. ولعل الحصر بالبدريين كان لبقائهم على العدالة والصرافة والدفاع عن الحق،
أو لكونهم من الصحابة الأولين السابقين، فكان وقوفهم واطلاعهم على موازين
الإسلام وأهدافه وأهداف النبي الأكرم أكثر.
4 - وفي تاريخ الخلفاء للسيوطي فيما وقع بعد قتل عثمان وبلوغ خبره إلى
أمير المؤمنين (عليه السلام) قال:
" وجاء الناس يهرعون إليه فقالوا له: نبايعك، فمد يدك، فلابد من أمير، فقال
على (عليه السلام): " ليس ذلك إليكم، إنما ذلك إلى أهل بدر فمن رضي به أهل بدر فهو خليفة. " فلم
يبق أحد من أهل بدر إلا أتى عليا فقالوا له: ما نرى أحدا أحق بها منك، مد يدك،
نبايعك، فبايعوه. " (1)
أقول: والعبارة صريحة في أن الانتخاب حق لفئة خاصة.
5 - وفي كتاب الإمامة والسياسة لابن قتيبة قريب من ذلك، قال:
" فقام الناس فأتوا عليا (عليه السلام) في داره فقالوا: نبايعك، فمد يدك، لابد من أمير فأنت
أحق بها فقال: ليس ذلك إليكم، إنما هو لأهل الشورى وأهل بدر، فمن رضي به أهل
الشورى وأهل بدر فهو الخليفة فنجتمع وننظر في هذا الأمر، فأبى ان يبايعهم... " (2)
6 - وفي الكامل لابن الأثير في خطاب أمير المؤمنين لابنه الحسن (عليهما السلام): " وأما
قولك: " لا تبايع حتى يبايع أهل الأمصار "، فإن الأمر أمر أهل المدينة وكرهنا أن يضيع هذا
الأمر. " (3)
وظهوره في اختصاص الحق أيضا ظاهر.

1 - تاريخ الخلفاء / 109.
2 - الإمامة والسياسة لابن قتيبة 1 / 47.
3 - الكامل لابن الأثير 3 / 223.
558

نعم، يحتمل بعيدا أن يكون هذا الكلام، وكذا قوله: " إنما الناس تبع المهاجرين و
الأنصار. " خبرا لا إنشاء. فهو - عليه السلام - بعد أن انعقدت إمامته بالنص أراد بيان أن
بيعة أهل المدينة تكفي في تثبيت الأمر وارتفاع الخلاف، لكون الناس تابعين لهم
قهرا فلا حاجة إلى بيعة أهل الأمصار، ولم يرد بيان انعقاد الإمامة بالبيعة وأن البيعة
حق أهل المدينة فقط، فتأمل.
7 - وفي تاريخ الطبري بعد قتل عثمان:
" فلما اجتمع لهم أهل المدينة قال لهم أهل مصر: أنتم أهل الشورى، وأنتم تعقدون
الإمامة، وأمركم عابر على الأمة; فانظروا رجلا تنصبونه ونحن لكم تبع. فقال
الجمهور: علي بن أبي طالب نحن به راضون. " (1) ونحوه في الكامل (2).
8 - ما مر من جواب سيد الشهداء (عليه السلام) لكتب أهل الكوفة: " وإني باعث إليكم أخي و
ابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل. فإن كتب إلى أنه قد اجتمع رأي ملئكم وذوي
الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم وقرأت في كتبكم فإني أقدم إليكم
وشيكا. " (3)
إلى غير ذلك من الروايات والكلمات الظاهرة في اختصاص الشورى والبيعة
بالمهاجرين والأنصار، أو بأهل المدينة، أو بالبدريين، أو بأهل الحجى والفضل وأن
الإمامة تنعقد ببيعتهم خاصة ولا يحتاج إلى بيعة العامة ورضاهم.
ما يختلج بالبال عاجلا في هذه الروايات أمور:
الأول: أن يحمل جميع هذه الروايات وأمثالها مما مر في فصل البيعة على التقية
أو كونها من باب الجدل.

1 - تاريخ الطبري 6 / 3075 طبع ليدن; والكامل لابن الأثير 3 / 192.
2 - تاريخ الطبري 6 / 3075 طبع ليدن; والكامل لابن الأثير 3 / 192.
3 - إرشاد المفيد / 185، والكامل لابن الأثير 4 / 21.
559

أقول: قد عرفت منا أن إمامة أمير المؤمنين والأئمة من ولده (عليه السلام) عندنا كانت
بالنص وأن الإمامة تنعقد بالانتخاب والبيعة أيضا ولكن في صورة عدم النص.
فالجدل في هذه الروايات ليس بتسليم ما ليس بحق أصلا، بل بتسليم كون المورد
مورد عدم النص والاحتياج إلى الانتخاب.
الثاني: أن يقال إن الشورى بطبعها تستدعي كون المشاور من أهل الخبرة و
الاطلاع ولا سيما في الأمور المهمة كالولاية، فليس لكل أحد الشركة في الشورى و
انتخاب الوالي، بل يشترط في الناخب أن يكون من أهل العلم والتدبير والعدالة كما
قاله الماوردي وأبو يعلى.
وحيث إن المهاجرين والأنصار كانوا في المدينة مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في جميع
المواقف والمراحل وكانوا واقفين على سننه وأهدافه فلذلك خصوا بهذا الأمر.
ولعل التخصيص بالبدريين في بعض الروايات كان باعتبار كونهم من الصحابة
الأولين، فكان وقوفهم واطلاعهم أكثر أو لبقائهم على صفة العدالة والدفاع عن الحق
وإظهاره.
وبالجملة، فانتخاب الوالي يرتبط بأهل الخبرة وأهل الحل والعقد لا بالجميع.
فوزانه وزان جميع الأمور التخصصية التي يرجع فيها إلى الأخصاء.
الثالث: أن يقال: إن انتخاب الوالي حق لجميع الأمة لا لفئة خاصة، ولكنه يجب أن
يكون بمرحلتين: فالعامة تنتخب الخبراء العدول، والخبراء ينتخبون الإمام والوالي،
فإن معرفة العامة لشخص واحد والاطلاع على حقيقة حاله وانتخابه مباشرة مما
يمكن أن يواجه ببعض العقبات، إذ لعل الأكثر جاهلون بالسياسة وأهلها، أو تغلب
عليهم العواطف الآنية وتؤثر فيهم الدعايات، أو لا يكون لهم تدين وتقوى فتشترى
آراؤهم بالتطميع والوعود البراقة، أو لا يكون لهم قوة وشجاعة فيؤثر فيهم
التهديدات. فلا يبقى اطمينان بهذا النحو من الانتخاب العمومي.
فلا محالة يكون الانتخاب المباشر حقا لخصوص الخبراء وأهل الحل والعقد
560

بشرط التقوى والعدالة. والعامة تنتخب الخبراء أو ترضى بانتخابهم. ومعرفة كل
فرد لفرد من أهل صقعه وبلده مما يسهل جدا.
بل في تلك الأعصار السابقة لم يكن اشتراك الجميع في الانتخابات ميسورا أصلا،
لبعد البلاد وفقد الوسائل; كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): " لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتى
تحضرها عامة الناس فما إلى ذلك سبيل. " (1)
ولكن كان انتخاب المهاجرين والأنصار السابقين موردا لرضا العامة. فكان هذا
في حكم وقوع الانتخاب بمرحلتين.
وأما في أعصارنا فحيث يمكن اشتراك الجميع فلا محالة يرشح الخبراء العدول
فينتخبون من قبل الأمة، ثم ينتخب الخبراء الإمام والقائد الأعظم، كما هو المقرر في
دستور إيران الإسلامية.
وبالجملة، حيث إن الأمر امر جميع الأمة فالواجب رضا الجميع بل شركتهم مع
الإمكان ولو بمرحلتين، وقد قال الله - تعالى -: " وأمرهم شورى بينهم. " (2) والظاهر
منه اتحاد مرجع الضميرين; فكما أن الأمر أمر جميع الأمة فالشورى أيضا يجب أن
تكون بينهم جميعا.
نعم، ظاهر بعض الروايات التي مرت ربما لا يساعد على هذا المعنى، إذ الظاهر
منها كون انتخاب الوالي من وظائف أهل الحل والعقد ولا يرتبط بالعامة أصلا بل
عليهم القبول والتسليم.
ولكن الاحتياط والحرص على استحكام الأمر والحكومة يقتضيان شركة الجميع
ولكن بمرحلتين جمعا بين الحقين والدليلين. اللهم إلا أن تكون الأمة بأجمعها أو
بأكثريتها على درجة عالية من التعقل والوعي السياسي والتقوى والعدالة، فيكفي
حينئذ الانتخاب مباشرة في مرحلة واحدة. فكأن الجميع صاروا حينئذ من أهل

1 - نهج البلاغة، فيض / 558; عبده 2 / 105; لح / 248، الخطبة 173.
2 - سورة الشورى (42)، الآية 38.
561

الحل والعقد، فتدبر.
ثم على فرض كون الانتخاب حقا للجميع فلا محالة تتساوى فيه جميع الطبقات
من الغنى والفقير، والشيخ والشاب، والأسود والأبيض، والشريف والوضيع،
كسائر الأحكام من النكاح والطلاق والإرث والحدود والقصاص والديات ونحو
ذلك، فإن الاختلاف الطبقي لا أثر له في الإسلام.
بل لعله لافرق في المقام بين الرجل والمرأة، فإن اختلافهما في بعض الأحكام
بدليل، لا يقتضي إسراءه إلى المقام. والقاعدة تقتضي التساوي إلا فيما ثبت خلافه.
والسر في ذلك أن الولاية نظام للمجتمع، والمرأة جزء منه، كما هو واضح، مضافا
إلى أن انتخاب الحاكم من قبيل التوكيل ويجوز للمرأة توكيل غيرها بلا إشكال،
فتأمل.
وما مر من عدم صحة ولايتها لا يدل على عدم الرأي لها في عداد الرجال،
لوضوح الفرق بين المقامين. وقد بايع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) - بعد فتح مكة والبيعة لرجالها -
النساء أيضا بأمر من الله - تعالى - في الكتاب الكريم (1) كما مر. اللهم إلا أن يقال إن
البيعة له كانت بيعة الإطاعة والتسليم لا بيعة الانتخاب والتعيين، ولم يعهد بعده (صلى الله عليه وآله وسلم)
شركة النساء في البيعة لتعيين الولاة. هذا.
وأما شمول ما ورد من النهي عن مشاورتهن للمقام فغير واضح، إذ المقام يرتبط
بالنظام الذي هي جزء منه، كما عرفت. ومن المحتمل أن يكون النهي مختصا بما إذا
كانت المشورة مقدمة للتصميم والقرار في الأمور المهمة واقتنع بالمشورة معها، و
حيث إن الإحساس فيها يغلب على الفكر فلا محالة لا يصلح رأيها بانفرادها لأن
يكون منشأ للقرار، فتأمل. هذا.
ولو قلنا باشتراط العلم والتدبير والعدالة في الناخب كما سيأتي البحث فيه
فلا محالة يقع التفاوت بين واجد الصفات وفاقدها.

1 - سورة الممتحنة (60)، الآية 12.
562

المسألة التاسعة
ومما يعترض به على الشورى والانتخاب أن الاتفاق مما لا يحصل غالبا.
والأخذ بالأكثرية ولا سيما النسبية منها أو النصف بإضافة الواحد يوجب ضياع
حقوق الأقلية.
وفي خبر الكناسي، عن أبي جعفر (عليه السلام): " لا تبطل حقوق المسلمين فيما بينهم. " (1)
وفي خبر أبي عبيدة، عن أبي جعفر (عليه السلام): " لا يبطل حق امرئ مسلم. " (2)
هذا مضافا إلى أنه قلما يوجد مجتمع لا يكون فيه الغيب والقصر ومن يولد بعد
الانتخابات فكيف ينفذ انتخاب غيرهم بالنسبة إليهم؟ وكيف يحفظ حقوقهم في
الأموال العامة التي خلقها الله - تعالى - لكافة الناس كالمعادن والمفاوز والغابات و
نحوها؟
ولا يجري هذا الإشكال في الإمام المنصوب من قبل الله - تعالى - ولو بالواسطة،
فإنه - تعالى - مالك الملوك وحكمه نافذ في حق الجميع بلا إشكال. هذا.
ويمكن أن يجاب عن هذا الاعتراض بأن الإنسان مدني بالطبع وله مضافا إلى
الحياة الفردية والحياة العائلية حياة اجتماعية. ولا تتم له الحياة إلا في ظل المجتمع
بإمكانياته. ولازم استقرار الاجتماع وانتظامه تحديد المصالح والحريات الفردية
في إطار المصالح الاجتماعية.

1 - الوسائل 14 / 210، الباب 6 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، الحديث 9.
2 - الوسائل 19 / 65، الباب 35 من أبواب القصاص، الحديث 1.
563

ودخول الإنسان في الحياة الاجتماعية وفي ظل المجتمع يقتضي طبعا التزامه
بكل لوازمها. وإذا بدت فكرتان مختلفتان في حفظ النظام وتأمين المصالح العامة
فحفظ النظام واستقراره يتوقف قهرا على ترجيح إحديهما على الأخرى في مقام
العمل.
وفي هذه الصورة لا مناص من تغليب الأكثرية على الأقلية، وعليه استمرت سيرة
العقلاء أيضا في جميع الأعصار والأمصار كما مر. إذ تغليب الأقلية ترجيح للمرجوح
على الراجح والعقل يحكم بقبحه.
فالأقلية الداخلة في المجتمع بدخولها فيه كأنها التزمت بقبول فكرة الأكثرية في
مقام العمل، والتنازل عن فكرة نفسها عند تزاحم الفكرتين.
ففي الحقيقة وقع الإطباق والاتفاق على الأخذ بفكرة الأكثرية في مقام العمل و
إن أذعنت الأقلية ببطلانها ذاتا.
نظير ما إذا استدعى الإنسان تبعية دولة خاصة، فإنها تقتضي التزامه بمقررات هذه
الدولة أو ساهم في مؤسسة تجارية مبتنية على برنامج خاص، فإن نفس مساهمته في
هذه المؤسسة التزام منه ببرامجها وأحكامها.
وبالجملة، لكل من أقسام الحياة الفردية والعائلية والاجتماعية لوازم وأحكام.
والتزام الإنسان بكل منها ووروده فيها التزام منه بآثارها ولوازمها. فكما أن التزامه
بالحياة العائلية التزام منه بآثارها من تحديد الحريات الفردية والالتزام بأداء حقوق
العائلة من الزوجة والأولاد، فكذلك وروده في الحياة الاجتماعية والاستمتاع من
إمكانياتها التزام منه بلوازمها، ومن جملتها قبول فكرة الأكثرية وترجيحها عند
التزاحم في المسائل الاجتماعية المختلفة التي من أهمها مسألة انتخاب الحاكم. فإنه
أمر أذعن به العقلاء واختاروه حلا للمعضلة، حيث إن الأمر يدور بين اختلال النظام
أو الأخذ بإحدى الفكرتين، والأول مما لا يجوز عقلا وشرعا، فيتعين الأخذ
بالأكثرية، لترجح آراء الأكثرية على آراء الأقلية من وجهين، كما مر.
وقد مر بالتفصيل بيان استمرار سيرة العقلاء على تعيين الحاكم بالانتخاب، وأقمنا
أدلة كثيرة على إمضاء الشارع لهذه الطريقة عند فقد النص. وحصول
564

الاتفاق في مقام الانتخاب لحاكم خاص مما يقل ويندر جدا لو لم نقل بعدم
وقوعه عادة، فلا مجال لحمل الأدلة على هذه الصورة فلا محالة يكفي الأكثرية. و
الشارع الحكيم أمضى هذه السيرة بلوازمها.
ثم لو قلنا بالانتخاب بمرحلة واحدة مباشرة فالمراد بالأكثرية فيها أكثرية
المجتمع. وإن قلنا بمرحلتين فالمراد بها في المرحلة الأولى أكثرية المجتمع وفي
المرحلة الثانية أكثرية أهل الخبرة. هذا.
وكما أن حصول الاتفاق مما لا يقع عادة فعدم وجود الغيب والقصر ومن يولد بعد
الانتخاب أيضا مما لا يقع عادة ولاسيما في المجتمع الكبير. فيعلم بذلك نفوذ انتخاب
الأكثرية بالنسبة إلى الأقلية، وكذا بالنسبة إلى الغيب والقصر والمتولد بعد الانتخاب.
كل ذلك لاستمرار سيرة العقلاء على ذلك وإمضاء الشارع الحكيم لها بما مر من
الأدلة.
والسر في جميع ذلك أن المجتمع بما أنه مجتمع له لوازم وأحكام خاصة عند
العقلاء، ولا يحصل النظم والاستقرار فيه إلا مع الالتزام بها. والمفروض أن الشارع
المقدس أيضا أمضاها حفظا للنظام والحقوق بقدر الإمكان.
ولا يضر تضرر الأقلية أو القصر أحيانا في ظل المجتمع ومقرراته بعدما يكون
غنمهما ببركة المجتمع أكثر بمراتب. ومن له الغنم فعليه الغرم; يحكم بذلك الوجدان و
العقل.
وقد عرفت أن الأولى والأحوط كون الانتخاب للوالي بمرحلتين; فالعامة
ينتخبون الخبراء العدول، والخبراء ينتخبون الوالي. وعقل الخبراء والوالي وعدالتهم
يقتضيان رعايتهم لحقوق الغيب والقصر ومن يولد بعد الانتخاب أيضا حتى في
الثروات العامة كالمعادن والمفاوز ونحوهما، فتدبر.
فإن قلت: قد ورد في آيات كثيرة من الكتاب العزيز نفي العلم أو العقل عن الأكثر،
كقوله - تعالى -: " قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون. " (1)

1 - سورة الأعراف (7)، الآية 187.
565

وقوله: " ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون. " (1)
إلى غير ذلك من الآيات الشريفة، فكيف تقول باعتبار آراء الأكثرية وإثبات
الولاية بها؟
قلت: يظهر بالمراجعة أن موارد الآيات المذكورة هي المسائل الغيبية التي أخفى
علمها عن العامة، كصفات الباري وأفعاله ومسائل القضاء والقدر وخصوصيات
القيامة، أو التقاليد وعادات الجاهلية المخالفة للعقل والوجدان ونحو ذلك.
فلا تشمل العقود والمقررات الاجتماعية التي لا محيص عنها في استقرار الحياة ثم
لا مجال فيها لتقديم الأقلية على الأكثرية. كيف! وإلا لزم تعطيل الحكومة أو تقديم
المرجوح على الراجح، وكلاهما واضح البطلان.
ثم لو فرض إطلاق الآيات المذكورة بحيث تشمل المسائل الحقوقية والاجتماعية
أيضا وعدم انصرافها عنها فنقول: إن الأقلية العالمة العاقلة ليست متميزة منحازة، بل
هي متفرقة منتشرة في خلال المجتمع، فإذا انقسم المجتمع إلى أكثرية وأقلية في
الانتخابات فلا محالة يكون عدد أهل العلم والعقل في طرف الأكثرية أكثر من
عددهم في الطرف الآخر، فيكون الرجحان لآراء الأكثرية أيضا. وهذا واضح لمن
تدبر. وعليك بالرجوع إلى ماحررناه في المسألة الثامنة أيضا لاشتباك المسألتين و
ارتباط كل منهما بالأخرى.

1 - سورة المائدة (5)، الآية 103.
566

المسألة العاشرة
على القول باعتبار الأكثرية - كما اخترناه - فلو فرض أن أهل التفكير والسداد و
الثقافة والصلاح كانوا في طرف الأقلية، وكان الهمج الرعاع وضعفاء العقول في
طرف الأكثرية - كما لعله الغالب في كثير من البلاد - فهل تقدم هذه الأكثرية الكذائية
على الأقلية الصالحة أيضا؟ وبعبارة أخرى هل الاعتبار حينئذ بالكمية أو بالكيفية؟
ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن ما فرضته نادر جدا، إذ لا ننكر إمكان كون أكثر
الناس في زمان أو مكان خاص بسطاء غير مطلعين على فنون السياسة أو غير
صالحين ولكن الأقلية المفكرة الصالحة كما مر ليست متميزة منحازة بل هي منتشرة
في خلال المجتمع، فإذا افترقت الأمة فرقتين في مقام الانتخاب فبالطبع يكون عدد
الأفراد الصالحين المفكرين في خلال الأكثرية أكثر من عددها في طرف الأقلية،
فيكون الرجحان لآراء الأكثرية أيضا ولو بلحاظ أفرادها المفكرين الصالحين.
نعم، لو فرض انحياز الأقلية الصالحة المفكرة في مقام الانتخاب أمكن القول
بتقدمها على الأكثرية غير الصالحة ولاسيما على القول باشتراط العدالة والعلم و
التدبير في الناخبين كما قال به الماوردي وأبو يعلى، أي على القول بكون الانتخاب
حقا لأهل الحل والعقد كما مر بيانه في المسألة الثامنة.
ويمكن أن يحمل كلام أمير المؤمنين (عليه السلام): " وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن
اجتمعوا على رجل وسموه إماما كان ذلك (لله) رضا " (1) على هذا الفرض حيث إن

1 - نهج البلاغة، فيض / 840; عبده 3 / 8 لح / 367، الكتاب 6.
567

المهاجرين والأنصار ولا سيما البدريين منهم كانوا هم الواقفين على مذاق الشرع
وسياسة الإسلام، وكانوا منحازين عن سائر الفرق الذين كانوا حديثي العهد بالإسلام
ولم يتركز الإسلام بعد في أعماق قلوبهم، فتأمل.
568

المسألة الحادية عشرة
إذا كان هنا أمور لا يجوز لآحاد الأمة التصدي لها ومباشرتها كإجراء الحدود و
التعزيرات والقضاء واصدار الأحكام الولائية في موارد الاضطرار ونحو ذلك فكيف
يجوز للحاكم المنتخب من قبل الأمة التصدي لها وهو فرع لهم ومنصوب من قبلهم، و
الفرع لا يزيد على الأصل؟
ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن التكاليف الشرعية على قسمين: تكاليف فردية،
وتكاليف اجتماعية. فالصلاة مثلا تكليف فردي وإن كان الخطاب فيها بلفظ العموم و
الجمع كقوله " أقيموا الصلاة. " (1) فإنه ينحل إلى أوامر متعددة بعدد المكلفين والعام
فيها عام استغراقي.
وأما التكاليف الاجتماعية فهي الوظائف التي خوطب بها المجتمع بما هو مجتمع
وروعي فيها مصالحه والعام فيها عام مجموعي.
ففي قوله - تعالى -: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " (2)، وقوله: " الزانية و
الزاني فاجلدوا كل واحد منهما مأة جلدة " (3)، وقوله: " وأعدوا لهم ماستطعتم من قوة ومن
رباط الخيل " (4)، وقوله: " وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة " (5)، ونحو ذلك
يكون الخطاب متوجها إلى المجتمع ويكون التكليف على عاتقه بما هو مجتمع، و
ليس التكليف متوجها إلى

1 - سورة الروم (30)، الآية 31 وسورة المزمل (73)، الآية 20.
2 - سورة المائدة (5)، الآية 38.
3 - سورة النور (24)، الآية 2.
4 - سورة الأنفال (8)، الآية 60.
5 - سورة التوبة (9)، الآية 36.
569

كل فرد فرد. فلا محالة يجب أن يكون المتصدي لامتثاله قيم المجتمع ومن يتمثل
ويتبلور فيه المجتمع إما بجعل الله - تعالى - أو بانتخاب نفس الأمة.
هذا مضافا إلى أن تنفيذ كل واحد من هذه التكاليف يستدعي تشخيص الموضوع
وإحرازه، والأنظار في هذه الموارد تختلف كثيرا، وأكثر الناس لا يخلون من الأهواء
وكثيرا ما يستعقب تصدي كل فرد لها التنازع والخصام والهرج والمرج، فلأجل ذلك
منع الشارع من تصدي الأفراد لها بل جعلها وظيفة لممثل المجتمع، قطعا لمادة النزاع
والفساد.
وأنت ترى أن العقلاء ربما يحيلون الأمور التي لا يتفق فيها الآراء ويتنافس فيها
الأهواء إلى شخص معتمد متفق عليه ويظهرون التسليم له في كل ما حكم به، فيرتفع
بذلك النزاع والتشاجر. فهذا أمر استقرت عليه سيرتهم.
وبالجملة، الشارع الحكيم وضع هذه التكاليف على عاتق المجتمع رعاية
لمصالحه، فيجب أن يتصدى لها ممثل المجتمع ومن صار قيما له، إما بجعل الله -
تعالى -، أو بانتخاب المجتمع. فلا يجوز تصدي الأفراد لها لعدم كون التكليف متوجها
إلى الأفراد ولاستلزامه التنازع والفساد، فارتفع الإشكال من أصله وأساسه.
570

المسألة الثانية عشرة
على فرض تقاعس الأكثرية واستنكافهم عن الاشتراك في الانتخابات فما هو
التكليف حينئذ، وهل يكفي انتخاب الأقلية وينفذ على الجميع أو يجبر الأكثرية على
الاشتراك؟
ويمكن أن يجاب بأنه بعدما ثبتت ضرورة الحكومة وكونها من أهم الفرائض
لتوقف حفظ الحقوق وتنفيذ سائر الفرائض عليها فإن كان هنا حاكم منصوص عليه
فهو، وإلا وجب على من وجد فيه الشرائط، ترشيح نفسه لذلك ووجب على سائر
المسلمين السعي لتعيينه وانتخابه.
والتقاعس عن ذلك معصية كبيرة فيجوز للحاكم المنتخب في المرحلة السابقة
إجبارهم على ذلك، كما هو المتعارف في بعض البلاد في عصرنا.
ولو فرض عدم إمكان ذلك فتقاعس الأكثرية وابتدر الأقلية إلى الانتخاب فإن
كان منتخبهم واجدا للشرائط وجب على الأكثرية إما التسليم له أو انتخاب فرد آخر
واجد للشرائط ويصير التسليم له على الفرض الأول انتخابا له في الحقيقة.
بل لو فرض عصيان الجميع وعدم إمكان إجبارهم وجب على من وجد فيه
الشرائط التصدي لوظائف الحكومة حسبة بنحو الوجوب الكفائي، كما يأتي بيانه و
وجب على الآخرين مساعدته على ذلك.
والظاهر وضوح كل ذلك بعدما بيناه من ضرورة الحكومة في جميع الأعصار و
عدم جواز تعطيلها.
571

المسألة الثالثة عشرة
إذا لم تقدم الأمة على الانتخاب ولم يمكن إجبارهم ولم نقل بكون الفقيه منصوبا
بالفعل من قبل الأئمة (عليهم السلام) فهل تبقى الأمور العامة معطلة، أو يجب من باب الحسبة
تصدي كل فقيه لما أمكنه من هذه الأمور؟
أقول: الظاهر عدم الإشكال في وجوب تصدي الفقهاء الواجدين للشرائط للأمور
المعطلة من باب الحسبة إذا أحرز عدم رضا الشارع الحكيم بإهمالها وتركها في أي
ظرف من الظروف.
ولا تنحصر الأمور الحسبية في الأمور الجزئية، كحفظ أموال الغيب والقصر مثلا.
إذ حفظ نظام المسلمين وثغورهم ودفع شرور الأعداء عنهم وعن بلادهم وبسط
المعروف فيهم وقطع جذور المنكر والفساد عن مجتمعهم من أهم الفرائض ومن
الأمور الحسبية التي لا يرضى الشارع الحكيم بإهمالها قطعا، فيجب على من تمكن
منها أو من بعضها التصدي للقيام بها وإذا تصدى واحد منهم لذلك وجب على باقي
الفقهاء فضلا عن الأمة مساعدته على ذلك.
والعجب ممن يهتم بحفظ دراهم معدودة للصغير أو الغائب من باب الحسبة و
لا يهتم بحفظ كيان الإسلام ونظام المسلمين وثغورهم وبلادهم، وهل هذا إلا نحو
من قصور الفهم وعدم نيل بمذاق الشرع وأهدافه؟!
والفقهاء العدول الواجدون للشرائط هم القدر المتيقن لهذه الأمور، لصلوحهم
للحكومة وتحقق الشرائط فيهم على ما مر من الأدلة. فهم مقدمون على غيرهم كما
لا يخفى.
572

فإن قلت: إذا سلمنا أن شؤون الحكومة لا تتعطل على أي حال وأنه إذا فقد النص
والانتخاب وجب على الفقهاء التصدي لها حسبة فلأحد أن يقول: لا يبقي على هذا
وجه لوجوب إقدام الأمة على الانتخاب، إذ المفروض عدم تعطل الحكومة.
قلت: فعلية الحكومة تحتاج إلى قوة وقدرة حتى يتمكن الحاكم من إجراء
الحدود وتنفيذ الأحكام، وواضح أن بيعة الأمة وانتخابهم مما يوجب قوة الحكومة و
نجدتها. وأما المتصدي حسبة فكثيرا ما لا يجد قدرة تنفيذية فيتعطل قهرا كثير من
الشؤون، فتدبر.
573

المسألة الرابعة عشرة
هل الانتخاب للوالي عقد جائز من قبيل الوكالة فيجوز للأمة فسخه ونقضه مهما
أرادت، أو هو عقد لازم من قبيل البيع فلا يجوز نقضه إلا مع تخلف الوالي عما شرط
عليه وتعهده؟
أقول: كنت قد كتبت في سالف الزمان في هامش كتابي المسمى بالبدر الزاهر
المطبوع سابقا ما هذا لفظه:
" وأما الانتخاب العمومي فلا يغني عن الحق شيئا ولا يلزم الوجدان أحدا على
إطاعة منتخب الأكثرية، إذا المنتخب بمنزلة الوكيل، والموكل ليس ملزما على إطاعة
وكيله، بل له أن يعزله متى شاء. هذا بالنسبة إلى الأكثرية، وأما بالنسبة إلى الأقلية
فالأمر أوضح، إذ لا يجب على أحد بحسب الوجدان أن يطيع وكيل غيره. وعلى هذا
فيختل النظام فلابد لتنظيم الاجتماع من وجود سائس تجب بحسب الوجدان إطاعته
وينفذ حكمه ولو كان بضرر المحكوم عليه، وليس ذلك إلا من كانت حكومته و
ولايته بتعيين الله - تعالى - ومن شؤون سلطنته المطلقة ولو بوسائط كالفقيه العادل
المنصوب من قبل الأئمة (عليهم السلام) المتعينين بتعيين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي جعله الله أولى
بالمؤمنين من أنفسهم. " (1) هذا ما كتبناه سابقا.
وقد كنت أرى آنذاك أن الانتخاب والبيعة لا تؤثر شيئا ولا تعطي لصاحبها حقا
حتى مع عدم النص فضلا عن وجوده.
ولكن التعمق في أدلة إقامة الدولة ونصوص البيعة واستقرار السيرة عليها وغير

1 - البدر الزاهر / 55.
574

ذلك كما مر منا بالتفصيل يلزمنا بالقول بصحة الانتخاب مع عدم وجود النص. و
بما أن النص على نصب أمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمة من ولده (عليهم السلام) ثابت عندنا بلا إشكال
فلا مجال للانتخاب مع وجودهم وظهورهم.
أما في أعصارنا فمع عدم النص يصح الانتخاب أو يجب لما أقمناه من الأدلة، و
يكون عقدا شرعيا بين الأمة وبين المنتخب يجب الوفاء به بحكم الفطرة مضافا إلى
قوله - تعالى -: " أوفوا بالعقود. " (1)
وكما أن الوجدان يلزمنا بإطاعة الإمام المنصوب يلزمنا بإطاعة الإمام المنتخب
أيضا، فإن طبع ولاية الأمر إذا كانت عن حق يقتضي الإطاعة وإلا لما تم الأمر ولما
حصل النظام. والشرع أيضا بإمضائه للانتخاب يلزمنا بالإطاعة. وقد استظهرنا في
تفسير قوله - تعالى -: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم " (2) شمول الآية
بعمومها لكل من صار ولي الأمر عن حق وإن كان بالانتخاب إذا كان واجدا للشرائط
وكان انتخابه على أساس صحيح، فراجع. (3)
وبالجملة لافرق في حكم الوجدان بين الإمام المنصوب والإمام المنتخب مع
فرض صحة الانتخاب وإمضاء الشرع له.
والانتخاب وإن أشبه الوكالة بوجه بل هو قسم من الوكالة بالمعنى الأعم، أعني
إيكال الأمر إلى الغير أو تفويضه إليه، وفي كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى أصحاب
الخراج " فإنكم خزان الرعية ووكلاء الأمة وسفراء الأئمة. " (4)
ولكن إيكال الأمر إلى الغير قد يكون بالإذن له فقط، وقد يكون بالاستنابة بأن
يكون النائب وجودا تنزيليا للمنوب عنه وكأن العمل عمل المنوب عنه، وقد يكون
بإحداث الولاية والسلطة المستقلة للغير مع قبوله.
والأول ليس عقدا، والثاني عقد جائز على ما ادعوه من الإجماع، وأما الثالث

1 - سورة المائدة (5)، الآية 1.
2 - سورة النساء (4)، الآية 59.
3 - راجع ص 64 وما بعدها من الكتاب.
4 - نهج البلاغة، فيض / 984; عبده 3 / 90; لح / 425، الكتاب 51.
575

فلا دليل على جوازه بل إطلاق قوله - تعالى -: " أوفوا بالعقود " (1) يقتضي لزومه.
كيف واستيجار الغير للعمل أيضا نحو توكيل له مع لزومه قطعا. وقد مر في فصل
البيعة أن البيعة والبيع من باب واحد والمادة واحدة; فحكمها حكمه والبيع لازم
قطعا.
وطبع الولاية أيضا يقتضي اللزوم والثبات وإلا لم يحصل النظام. وسيرة العقلاء
أيضا استقرت على ترتيب آثار اللزوم عليها، بحيث يذمون الناقص لها - اللهم إلا مع
تخلف الوالي عن تكاليفه وتعهداته - وقد مر في خبر الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه
قال: " من فارق جماعة المسلمين ونكث صفقة الإمام جاء إلى الله أجذم. " (2) وفي
نهج البلاغة: " وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والإجابة
حين أدعوكم والطاعة حين آمركم. " (3)
نعم، لو كان الانتخاب موقتا فالولاية تنقضي بانقضاء الوقت، كما لا يخفى. هذا.
وأما كفاية آراء الأكثرية ونفاذها حتى بالنسبة إلى الأقلية فقد مر بيانه في المسألة
التاسعة، ومحصله أن الفرد بدخوله في الحياة الاجتماعية قد التزم بكل لوازمها التي
منها تغليب الأكثرية على الأقلية عند التزاحم، فالأقلية في الحقيقة قد التزمت بالتنازل
عن فكرة نفسها وقبول فكرة الأكثرية في مقام العمل وإن اعتقدت بطلانها ذاتا. ففي
الحقيقة وقع الإطباق والاتفاق على كون فكرة الأكثرية مدار العمل، فلا إشكال.

1 - سورة المائدة (5)، الآية 1.
2 - الكافي 1 / 405، كتاب الحجة، باب ما أمر النبي بالنصيحة لأئمة المسلمين، الحديث 5.
3 - نهج البلاغة، فيض / 114; عبده 1 / 80; لح / 79، الخطبة 34.
576

المسألة الخامسة عشرة
هل يشترط في الناخب شرط خاص، أو يكون الانتخاب حقا لكل مسلم مميز، بل
وغير المسلمين أيضا إذا كانوا في بلاد المسلمين وفي ذمتهم؟
قال الماوردي في الأحكام السلطانية:
" فصل: فإذا ثبت وجوب الإمامة ففرضها على الكفاية كالجهاد وطلب العلم، فإذا
قام بها من هو من أهلها سقط فرضها عن الكافة. وإن لم يقم بها أحد خرج من الناس
فريقان: أحدهما: أهل الاختيار حتى يختاروا إماما للأمة، والثاني: أهل الإمامة حتى
ينتصب أحدهم للإمامة...
فأما أهل الاختيار فالشروط المعتبرة فيهم ثلاثة: أحدها: العدالة الجامعة
لشروطها، والثاني: العلم الذي يتوصل به إلى معرفة من يستحق الإمامة على الشروط
المعتبرة فيها، والثالث: الرأي والحكمة المؤديان إلى اختيار من هو للإمامة أصلح و
بتدبير المصالح أقوم وأعرف. وليس لمن كان في بلد الإمام على غيره من أهل البلاد
فضل مزية يقدم بها عليه. وإنما صار من يحضر ببلد الإمام متوليا لعقد الإمامة عرفا
لا شرعا، لسبوق علمهم بموته، ولأن من يصلح للخلافة في الأغلب موجودون في
بلده. " (1)
وقال القاضي أبو يعلى الفراء في الأحكام السلطانية:
" وهي فرض على الكفاية، مخاطب بها طائفتان من الناس: إحداهما: أهل
الاجتهاد (الاختيار. ظ) حتى يختاروا. والثانية: من يوجد فيه شرائط الإمامة حتى
ينتصب أحدهم للإمامة. أما أهل الاختيار فيعتبر فيهم ثلاثة شروط: أحدها:

1 - الأحكام السلطانية / 5.
577

العدالة. والثاني: العلم الذي يتوصل به إلى معرفة من يستحق الإمامة. والثالث: أن
يكون من أهل الرأي والتدبير الموديين إلى اختيار من هو للإمامة أصلح. وليس لمن
كان في بلد مزية على غيره من أهل البلاد يتقدم بها. وإنما صار من يختص ببلد
الإمام متوليا لعقد الإمامة، لسبق علمه بموته، ولأن من يصلح للخلافة في الغالب
موجودون في بلده. " (1)
أقول: حيث إن الإمام المنتخب يشترط فيه الفقاهة والعدالة والسياسة ونحوها
كما مر، وحيث إن المترقب منه هو تنفيذ قوانين الإسلام وأحكامه وإدارة شؤون
المسلمين على أساس مقرراته العادلة لا كيف ما شاء وأراد، فلا محالة قد يقرب في
الذهن اشتراط كون الناخب عادلا ملتزما مطلعا على أحوال الرجال وأوصافهم.
وإلا فلو كان الأكثر غير مبالين بمقررات الإسلام أو كانوا من البسطاء والجهال
فلربما باعوا آراءهم وأصواتهم بمتاع الدنيا وشؤونها، أو اغتروا بالدعايات الكاذبة،
أو تأثروا بالتهديدات، وأنتج ذلك كله انتقال الملك والقدرة إلى أهل الجور والفساد
كما نشاهده في أكثر البلاد.
وقد مر في المسألة الثامنة الروايات من نهج البلاغة وغيره، الدالة على كون
الشورى والبيعة والرأي للمهاجرين والأنصار، أو لأهل المدينة، أو للبدريين، أو
لأهل الحجى والفضل، فراجع.
وهذا كله يدل على ما ذكرناه; فان المهاجرين والأنصار كانوا من أهل الخبرة و
من أهل الحل والعقد. وأهل المدينة المنورة والبدريون كانوا مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في جميع
المواقف والمراحل، فكانوا مطلعين على سننه وأهدافه وإلا فليس لمدينة يثرب بما
هي هي خصوصية بلا اشكال. هذا.
وفي أعصارنا يمكن حل المشكلة بأن يحال إلى هيئة المحافظة على الدستور - و
هم فقهاء عدول من أهل الخبرة - تعيين الواجدين للشروط من المرشحين واعلامهم

1 - الأحكام السلطانية / 19.
578

للأمة فتنتخب الأمة واحدا منهم، كما في دستور إيران بالنسبة إلى رئيس
الجمهورية، أو بأن يتحقق الانتخاب بمرحلتين فتنتخب الأمة الخبراء، والخبراء
الإمام، كما في دستور إيران في انتخاب القائد والزعيم. فيندر الاشتباه والخطأ
حينئذ، إذ معرفة أهل كل بلد لفرد خبير من أهل بلدهم وصقعهم أيسر من معرفة
المستحق للولاية الكبرى، فتأمل.
وكيف كان فإحالة الانتخاب إلى العامة بلا تحديد في البين مع فرض كون الأكثر
من أهل الأهواء والأجواء أو جهلاء بالمصالح والمفاسد مشكلة جدا. وفي كلام سيد
الشهداء - عليه السلام - حينما نزل كربلاء: " الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على
ألسنتهم; يحوطونه ما درت معايشهم، فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون. " (1)
نعم، لو فرض كون الأكثر أهل عدالة وعلم ووعي سياسي لم يبق إشكال في البين،
كما لا يخفى. وعليك بمراجعة ماحررناه في المسألة الثامنة.

1 - نفس المهموم / 111
579

المسألة السادسة عشرة
هل يجوز للأمة الكفاح المسلح والخروج على الحاكم المتسلط إذا فقد بعض
الشرائط كالعدالة مثلا، أو لا يجوز، أو يفصل بين الشروط المهمة وغيرها، أو بين ما إذا
خيف على أساس الإسلام وبيضته وبين غيره، أو بين الأخطاء الجزئية والانحرافات
الأساسية؟ وجوه.
وربما ظهر حكم المسألة إجمالا مما ذكرناه في الباب الثالث في فصل الجهاد و
في فصل توجيه الأخبار التي ربما يدعى ظهورها في وجوب السكوت والسكون في
عصر الغيبة، وفي الباب الرابع حينما تعرضنا لاشتراط العدالة في الحاكم. (1)
ولكن الأولى أن نتعرض للمسألة هنا بصورة مستقلة، ونكتفي فيها ببيان متوسط
ونحيل التفصيل إلى محله، فنقول:
قد يظهر من بعض الأخبار والفتاوى من السنة وجوب الإطاعة والتسليم في قبال
الحاكم وإن كان جائرا فاجرا، وعدم جواز الخروج عليه. فلنذكر من ذلك بعض
النماذج:
1 - فروى مسلم في صحيحه بسنده عن حذيفة بن اليمان، قال: " قلت: يا
رسول الله، إنا كنا بشر فجاء الله بخير فنحن فيه، فهل من وراء هذا الخير شر؟ قال:
نعم. قلت: هل وراء ذلك الشر خير؟ قال: نعم. قلت: فهل وراء ذلك الخير شر؟ قال:
نعم. قلت: كيف؟ قال: يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم
رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس. قال: قلت: كيف أصنع

1 - راجع الفصل 6 من الباب الرابع.
580

يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك وأخذ
مالك فاسمع وأطع. " (1)
أقول: لو كان هنا إمام عادل حق ضرب ظهر رجل مجرم حدا أو تعزيرا وأخذ منه
الزكاة مثلا ولو قهرا عليه فإطاعته واجبة قطعا.
وأما الطواغيت الشياطين الذين لا يهتدون بهدى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فكيف يجب إطاعتهم
مع ظلمهم وتعديهم؟ وهل لا يكون هذا الأمر مخالفا لصريح القرآن الكريم الناهي
عن إطاعة المسرف المفسد؟ وسيأتي توضيحه.
2 - وروى فيه أيضا بسنده أن سلمة بن يزيد الجعفي سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال:
" يا نبي الله، أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا فما تأمرنا؟
فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم سأله في الثانية أو في الثالثة فجذبه الأشعث
بن قيس وقال: " اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم. " (2)
وفي رواية أخرى فيه: " فجذبه الأشعث بن قيس فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اسمعوا و
أطيعوا، فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم. " (3)
3 - وفيه أيضا عن عبادة بن الصامت، قال: " دعانا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فبايعناه، فكان فيما
أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا و
أن لا ننازع الأمر أهله. قال: " إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان. " (4)
قال النووي في شرحه:

1 - صحيح مسلم 3 / 1476، كتاب الإمارة، الباب 13، الحديث 1847.
2 - صحيح مسلم 3 / 1474، كتاب الإمارة، الباب 12، الحديث 1846.
3 - صحيح مسلم 3 / 1475، كتاب الإمارة، الباب 12، في حديث آخر ذيل حديث 1846.
4 - صحيح مسلم 3 / 1470، كتاب الامارة، الباب 8، في حديث آخر ذيل حديث 1840 (الرقم
42).
581

" في معظم النسخ بواحا بالواو، وفي بعضها براحا، والباء مفتوحة فيهما ومعناهما
كفرا ظاهرا. " (1)
4 - وفيه أيضا عن عوف بن مالك، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " خيار أئمتكم الذين
تحبونهم ويحبونكم ويصلون عليكم وتصلون عليهم. وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم و
يبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم. قيل: يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: لا،
ما أقاموا فيكم الصلاة. وإذا رأيتم من ولاتكم شيئا تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يدا من
طاعة. " (2)
5 - وفيه أيضا عن أم سلمة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " ستكون أمراء فتعرفون و
تنكرون. فمن عرف برئ ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع. قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال:
لا، ما صلوا. " (3)
قيل: إن المراد بقوله: " فمن عرف برئ " أن من عرف المنكر فله طريق إلى البراءة
من إثمه وعقوبته بأن يغيره بيده أو بلسانه أو بقلبه.
وفي رواية أخرى: " فمن كره فقد برئ. " (4) وعليه فالمعنى واضح.
6 - وفيه أيضا عن ابن عباس، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: " من كره من أميره شيئا
فليصبر عليه فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبرا فمات عليه إلا مات ميتة
جاهلية. " (5)
7 - وفيه أيضا عن نافع، قال: جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع حين كان
من أمر الحرة ما كان زمن يزيد بن معاوية، فقال: اطرحوا لأبي عبد الرحمان وسادة،
فقال: إني لم آتك لأجلس، أتيتك لأحدثك حديثا سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقوله،
سمعت

1 - شرح صحيح مسلم للنووي 8 / 34 (المطبوع بهامش إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري.).
2 - صحيح مسلم 3 / 1481، كتاب الإمارة، الباب 17، الحديث 1855.
3 - صحيح مسلم 3 / 1480، كتاب الامارة، الباب 16، الحديث 1854.
4 - صحيح مسلم 3 / 1481، كتاب الإمارة، الباب 16.
5 - صحيح مسلم 3 / 1478، الباب 13 من كتاب الإمارة، الحديث 1849.
582

رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن
مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية. " (1)
وفي حاشية الصحيح:
" قال السنوسي: وفي هذا دليل على أن مذهب عبد الله بن عمر كمذهب الأكثرين
في منع القيام على الإمام وخلعه إذا حدث فسقه، أما إذا كان فاسقا قبل عقدها فاتفقوا
على أنها لا تنعقد له، لكن إذا انعقدت له تغلبا أو اتفاقا ووقعت كما اتفق ليزيد صار
بمنزلة من حدث فسقه بعد انعقادها له، فيمتنع القيام عليه.
ويدل على ذلك ذكر ابن عمر الحديث في سياق الإنكار على ابن مطيع في قيامه
على يزيد.
وقد احتج من أجاز القيام بخروج الحسين، وابن الزبير، وأهل المدينة على بني
أمية. واحتج الأكثر على المنع بأنه الظاهر من الأحاديث كما ترى، وبأن القيام ربما
أثار فتنة وقتالا وانتهاك حرم، كما اتفق ذلك في وقعة الحرة. " (2)
أقول: فاجعة الحرة من أفجع الحوادث التاريخية التي سودت تاريخ يزيد وبني
أمية بعد فاجعة كربلاء فقد هجم فيها جند يزيد بن معاوية بأمره على مدينة الرسول و
مهبط الوحي وفيها صحابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من المهاجرين والأنصار والتابعون لهم
بإحسان وأهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقتلوا فيها آلافا من المسلمين وأغاروا عليهم و
أباح يزيد المدينة لجنده ثلاثة أيام حتى روي أنها ولدت ألف امرأة في واقعة الحرة
من غير أزواج.
كما هجم جند يزيد على مكة بالمجانيق والعرادات وهدموا البيت الشريف و
أحرقوه. وقد أفرط يزيد في سفك الدماء وشرب المسكرات والفسق والفجور.
وعبد الله بن مطيع كان ممن ثار على يزيد لذلك، فأنكر ذلك عليه عبد الله بن

1 - صحيح مسلم 3 / 1478، الباب 13 من كتاب الإمارة، الحديث 1851.
2 - حاشية الصحيح 6 / 22 (المجلد الثاني) باب الأمر بلزوم الجماعة (من طبعة أخرى بمصر).
583

عمر وخطأه. وتخطئته له في الحقيقة تخطئة لقرة عين الرسول السبط الشهيد أيضا
في قيامه وثورته.
ثم لو صح ما حدثه ابن عمر من لزوم كون البيعة في العنق فما هو عذره وعذر أمثاله
في التخلف عن بيعة أمير المؤمنين (عليه السلام)؟!
وأعجب من ذلك التخلف عن بيعة مظهر الزهد والتقوى وباب علم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و
البيعة لمثل حجاج سفاك الدماء بمس رجله كما في ابن أبي الحديد. (1)
كما أن من أظهر مظالم التاريخ تخطئة الخروج على مثل يزيد من جانب، وتبرير
عمل الخارجين على أمير المؤمنين أخي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع بيعة المهاجرين و
الأنصار له من جانب آخر مع ما ترتب على خروجهم من إهدار دماء المسلمين في
الجمل وصفين. وكيف لم يمس هذا الخروج قداسة الخارجين وكرامتهم! هذا.
8 - وفي كتاب الخراج لأبي يوسف القاضي، عن الحسن البصري، قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا تسبوا الولاة، فإنهم إن أحسنوا كان لهم الأجر وعليكم الشكر وإن
أساؤوا فعليهم الوزر وعليكم الصبر، وإنما هم نقمة ينتقم الله بهم ممن يشاء فلا تستقبلوا
نقمة الله بالحمية والغضب واستقبلوها بالاستكانة والتضرع. " (2)
9 - وفي سنن أبي داود، عن أبي هريرة، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " الجهاد واجب عليكم
مع كل أمير برا كان أو فاجرا، والصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم برا كان أو فاجرا وإن
عمل الكبائر. " (3)
إلى غير ذلك من الروايات الظاهرة في وجوب التسليم لحكام الجور وعدم جواز
الخروج عليهم.
وهذه الروايات تشبه بوجه الأخبار المستفيضة الواردة بطرقنا المذكورة في الباب

1 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 13 / 242.
2 - كتاب الخراج لأبي يوسف / 10.
3 - سنن أبي داود 2 / 17، كتاب الجهاد، باب في الغزو مع أئمة الجور.
584

الثالث عشر من جهاد الوسائل والباب الثاني عشر من جهاد المستدرك المستدل
بها على وجوب السكوت والسكون في عصر الغيبة، وقد ذكرنا المراد منها بالتفصيل
في الفصل الرابع من الباب الثالث من هذا الكتاب، فراجع.
نعم، ظاهر هذه الأخبار الواردة بطرقنا - لو سلم ظهورها - ليس إلا عدم جواز
التحرك والخروج ضد الطواغيت. وأما الأخبار الواردة من طرق السنة فظاهر كثير
منها وجوب الإطاعة والتسليم أيضا في قبالهم. هذا.
10 - وفي شرح النووي لصحيح مسلم في ذيل ما مر من رواية عبادة بن الصامت،
قال:
" ومعنى الحديث: لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا
منهم منكرا محققا تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأنكروه عليهم وقولوا بالحق
حيث ما كنتم، وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام باجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين.
وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته، وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق.
وأما الوجه المذكور في كتب الفقه لبعض أصحابنا أنه ينعزل وحكي عن المعتزلة أيضا
فغلط من قائله مخالف للاجماع.
قال العلماء: وسبب عدم انعزاله وتحريم الخروج عليه ما يترتب على ذلك من الفتن و
إراقة الدماء وفساد ذات البين فتكون المفسدة في عزله أكثر منها في بقائه...
فلو طرأ على الخليفة فسق قال بعضهم: يجب خلعه إلا أن يترتب عليه فتنة وحرب، وقال
جماهير أهل السنة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين: لا ينعزل بالفسق والظلم وتعطيل
الحقوق ولا يخلع ولا يجوز الخروج عليه بذلك، بل يجب وعظه وتخويفه للأحاديث الواردة
في ذلك. " (1)
11 - وحكى العلامة الأميني - طاب ثراه - في الغدير عن الباقلاني في التمهيد أنه
قال:

1 - شرح صحيح مسلم للنووي 8 / 34، (المطبوع بهامش إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري).
585

" قال الجمهور من أهل الإثبات وأصحاب الحديث: لا ينخلع الإمام بفسقه وظلمه بغصب
الأموال، وضرب الأبشار، وتناول النفوس المحرمة، وتضييع الحقوق وتعطيل الحدود، و
لا يجب الخروج عليه بل يجب وعظه وتخويفه وترك طاعته في شيء مما يدعو إليه من
معاصي الله. واحتجوا في ذلك بأخبار كثيرة متظافرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن الصحابة في
وجوب طاعة الأئمة وإن جاروا واستأثروا بالأموال. " (1)
12 - وقال القاضي أبو يعلى الفراء الحنبلي في الأحكام السلطانية:
" وقد روي عن الإمام أحمد ألفاظ تقتضي اسقاط اعتبار العدالة والعلم والفضل فقال -
في رواية عبدوس بن مالك القطان -: " ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسمى
أمير المؤمنين لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماما عليه، برا كان أو
فاجرا، فهو أمير المؤمنين. " وقال أيضا في رواية المروزي: " فان كان أميرا يعرف بشرب
المسكر والغلول يغزو معه، إنما ذاك له في نفسه. " (2)
13 - وقال فيه أيضا:
" وإذا وجدت هذه الصفات حالة العقد ثم عدمت بعد العقد نظرت فان كان جرحا في
عدالته وهو الفسق، فانه لا يمنع من استدامة الإمامة، سواء كان متعلقا بأفعال الجوارح وهو
ارتكاب المحظورات وإقدامه على المنكرات اتباعا لشهوته أو كان متعلقا بالاعتقاد وهو
المتأول لشبهة تعرض يذهب فيها إلى خلاف الحق. " (3)
14 - وفي المغني لابن قدامة الحنبلي حكاية عن أحمد:
" فان كان القائد يعرف بشرب الخمر والغلول يغزى معه، إنما ذلك في نفسه.
ويروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر. " (4)

1 - الغدير 7 / 137، عن التمهيد / 186.
2 - الأحكام السلطانية / 20.
3 - الأحكام السلطانية / 20.
4 - المغنى لابن قدامة 10 / 371.
586

15 - وفي العقد الفريد:
" قالوا: إذا زادك السلطان إكراما فزده إعظاما، وإذا جعلك عبدا فاجعله ربا. " (1)
فهذه نماذج من الروايات والفتاوى المحكية عن السنة الظاهرة في عدم جواز
الخروج على الوالي إذا صار فاسقا أو جائرا بل يجب التسليم له وإطاعته والصبر
عليه. وقد رأيت بعضهم أنه ادعى الاجماع على ذلك.
16 - نعم، حكى أبو بكر الجصاص الحنفي في أحكام القرآن مخالفة أبي حنيفة
لما ذكر فقال نقلا عنه:
" كان مذهبه مشهورا في قتال الظلمة وأئمة الجور، ولذلك قال الأوزاعي: احتملنا
أبا حنيفة على كل شيء حتى جاءنا بالسيف، يعني قتال الظلمة، فلم نحتمله. "
وكان من قول: وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض بالقول، فان لم يؤتمر له
فبالسيف على ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وسأله إبراهيم الصائغ - وكان من فقهاء أهل خراسان ورواة الأخبار ونساكهم - عن
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال: هو فرض وحدثه بحديث عن عكرمة، عن ابن
عباس أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر
فأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر فقتل. "
فرجع إبراهيم إلى مرو وقام إلى أبي مسلم صاحب الدولة فأمره ونهاه وأنكر عليه ظلمه
وسفكه الدماء بغير حق فاحتمله مرارا ثم قتله.
وقضيته في أمر زيد بن علي مشهورة وفي حمله المال إليه وفتياه الناس سرا في
وجوب نصرته والقتال معه وكذلك أمره مع محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن.
وقال لأبي إسحاق الفزاري حين قال له: لم أشرت على أخي بالخروج مع إبراهيم حتى
قتل؟ قال: مخرج أخيك أحب إلي من مخرجك، وكان أبو إسحاق قد خرج إلى البصرة. وهذا
إنما أنكره عليه اغمار أصحاب الحديث الذين بهم فقد الأمر

1 - العقد الفريد 1 / 18.
587

بالمعروف والنهي عن المنكر حتى تغلب الظالمون على أمور الإسلام. " (1)
أقول: الظاهر أن مراده بأصحاب الحديث: الحنابلة الآخذون بظواهر ما مر من
الأخبار.
17 - وقال أبو الحسن الماوردي في الأحكام السلطانية:
" والذي يتغير به حاله فيخرج به عن الإمامة شيئان: أحدهما: جرح في عدالته، والثاني:
نقص في بدنه. فأما الجرح في عدالته وهو الفسق فهو على ضربين: أحدهما: ما تابع فيه
الشهوة. والثاني: ما تعلق فيه بشبهة.
فأما الأول منهما فمتعلق بأفعال الجوارح وهو ارتكابه للمحظورات وإقدامه على
المنكرات تحكيما للشهوة وانقيادا للهوى; فهذا فسق يمنع من انعقاد الإمامة ومن
استدامتها، فإذا طرأ على من انعقدت إمامته خرج منها، فلو عاد إلى العدالة لم يعد إلى
الإمامة إلا بعقد جديد. وقال بعض المتكلمين: يعود إلى الإمامة بعوده إلى العدالة من غير أن
يستأنف له عقد ولا بيعة، لعموم ولايته ولحوق المشقة في استيناف بيعته.
واما الثاني منهما فمتعلق بالاعتقاد المتأول بشبهة تعترض فيتأول لها خلاف الحق.
فقد اختلف العلماء فيها، فذهب فريق منهم إلى أنها تمنع من انعقاد الإمامة ومن
استدامتها ويخرج بحدوثه منها، لأنه لما استوى حكم الكفر بتأويل وغير تأويل وجب أن
يستوى حال الفسق بتأويل وغير تأويل. وقال كثير من علماء البصرة: انه لا يمنع من انعقاد
الإمامة ولا يخرج به منها، كما لا يمنع من ولاية القضاء وجواز الشهادة. " (2)
18 - وقال أبو محمد ابن حزم الأندلسي - بعدما صار بصدد توجيه الروايات التي
مرت:
" والواجب ان وقع شيء من الجور وإن قل أن يكلم الإمام في ذلك ويمنع منه،

1 - أحكام القرآن للجصاص 1 / 81.
2 - الأحكام السلطانية / 17.
588

فان امتنع وراجع الحق وأذعن للقود من البشرة أو من الأعضاء، ولإقامة حد
الزنا والقذف والخمر عليه فلا سبيل إلى خلعه وهو إمام كما كان، لا يحل خلعه. فان
امتنع من إنفاذ شيء من هذه الواجبات عليه ولم يراجع وجب خلعه وإقامة غيره
ممن يقوم بالحق، لقوله - تعالى -: " تعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم و
العدوان. " (1) ولا يجوز تضييع شيء من واجبات الشرائع. " (2)
19 - وفي شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي في شرح قول
أمير المؤمنين (عليه السلام): " لا تقاتلوا الخوارج بعدي " قال:
" وعند أصحابنا أن الخروج على أئمة الجور واجب، وعند أصحابنا أيضا أن
الفاسق المتغلب بغير شبهة يعتمد عليها لا يجوز أن ينصر على من يخرج عليه ممن
ينتمي إلى الدين ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، بل يجب أن ينصر الخارجون
عليه وإن كانوا ضالين في عقيدة اعتقدوها بشبهة دينية دخلت عليهم، لأنهم أعدل منه
وأقرب إلى الحق. ولا ريب في تلزم الخوارج بالدين، كما لا ريب في أن معاوية
لم يظهر عنه مثل ذلك. " (3)
20 - وعن شرح المقاصد لإمام الحرمين:
" إن الإمام إذا جار وظهر ظلمه وغشه، ولم يرعو لزاجر عن سوء صنيعه فلأهل
الحل والعقد التواطؤ على ردعه ولو بشهر السلاح ونصب الحروب. " (4)

1 - سورة المائدة (5)، الآية 2.
2 - الفصل في الملل والأهواء والنحل 4 / 175.
3 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 5 / 78.
4 - نظام الحكم والإدارة في الإسلام لباقر شريف القرشي / 54.
589

البحث في أمرين
وكيف كان كان فهناك أمران يجب البحث فيهما إجمالا:
الأول: أنه لا يجوز إطاعة الجائر الفاسق في فسقه وجوره.
الثاني: أنه هل يجوز القيام والكفاح المسلح ضده أم لا؟
أما الأمر الأول
فنقول: إن الحاكم الفاسق الجائر لا يجب بل لا يجوز إطاعته فيما أمر به من الجور و
المعصية. والظاهر عدم الإشكال في ذلك. ويكفيك:
1 - قوله - تعالى -: " ومن يشاقق الرسول من بعدما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل
المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا. " (1) فتأمل.
2 - وقوله - تعالى -: " ولا تطيعوا أمر المسرفين * الذين يفسدون في الأرض و
لا يصلحون. " (2)
3 - وقوله - تعالى - في اعتذار أهل النار: " وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا
فأضلونا السبيلا. " (3)
إلى غير ذلك من الآيات التي مرت في الباب السابق.

1 - سورة النساء (4)، الآية 115.
2 - سورة الشعراء (26)، الآية 151 و 152.
3 - سورة الأحزاب (33)، الآية 67.
590

4 - وفي نهج البلاغة: " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. " (1)
5 - وعن الفقيه، قال: ومن ألفاظ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا طاعة لمخلوق في معصية
الخالق. " (2)
6 - وعن العيون بسنده عن الرضا، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من
أرضى سلطانا بما أسخط الله خرج من دين الله. " (3)
7 - وفي الوسائل عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله - تعالى -: " اتخذوا أحبارهم و
رهبانهم أربابا من دون الله "، قال: " والله ما صلوا لهم ولا صاموا ولكن أطاعوهم في معصية
الله. " (4)
8 - وفي صحيح مسلم بسنده عن ابن عمر، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " على المرء
المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع و
لا طاعة. " (5)
9 - وفيه أيضا بسنده عن على (عليه السلام): " إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث جيشا وأمر عليهم رجلا
فأوقد نارا وقال: ادخلوها فأراد ناس أن يدخلوها وقال الآخرون: إنا قد فررنا منها. فذكر ذلك
لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال للذين أرادوا أن يدخلوها: " لو دخلتموها لم تزالوا فيها إلى يوم القيامة،
وقال للآخرين قولا حسنا، وقال: لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف. " (6)

1 - نهج البلاغة، فيض / 1167; عبده 3 / 193; لح / 500، الحكمة 165.
2 - الوسائل 11 / 422، الباب 11 من أبواب الأمر والنهي و...، الحديث 7.
3 - الوسائل 11 / 422، الباب 11 من أبواب الأمر والنهي و...، الحديث 7.
4 - الوسائل 18 / 96، الباب 10 من أبواب صفات القاضي، الحديث 25.
5 - صحيح مسلم 3 / 1469، كتاب الإمارة، الباب 8، الحديث 1839. وروى نحوه البخاري أيضا
4 / 234، كتاب الأحكام.
6 - صحيح مسلم 3 / 1469، كتاب الإمارة، الباب 8، الحديث 1840، ونحوه رواية أخرى
عنه (عليه السلام).
591

10 - وفي كنز العمال عن أحمد عن أنس، قال: " لا طاعة لمن لم يطع الله. " (1)
إلى غير ذلك من الأخبار المتظافرة، فراجع.
وأما ما دل على وجوب إطاعة أولي الأمر فإنما يدل على وجوب الإطاعة و
التسليم لمن يكون له ولاية الأمر وحق الأمر، والجائر الفاسق ليس وليا للأمر
بمقتضى ما مر من الأدلة على شرائط الوالي، وليس لأحد حق الأمر فيما نهى الله عنه،
فتدبر.
وأما ما على أفواه بعض أعوان الظلمة من أن المأمور معذور فإعتذار
شيطاني لا أساس له لا في الكتاب والسنة، ولا في العقل والفطرة.

1 - كنز العمال 6 / 67، الباب 1 من كتاب الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14872.
592

الأمر الثاني
إن الحاكم إذا صدرت عنه معصية أو صار جائرا بعدما كانت حكومته مشروعة في
بادئ الأمر فالظاهر أنه لا يمكن القول بانعزاله عن الولاية قهرا، أو بجواز الخروج
عليه بمجرد صدور معصية جزئية أو ظلم منه في مورد خاص أو صدور أمر منه بهما
مع بقاء النظام على ما كان عليه من كونه على أساس موازين الإسلام.
وهذا من غير فرق بين أن تكون المعصية الجزئية في محاوراته وأموره الشخصية
أو في تكاليفه بالنسبة إلى المجتمع، ومن غير فرق في ذلك بين الوالي الأعظم
المنتخب وبين الوزراء والمدراء والأمراء والعمال المنصوبين من قبله.
بداهة أن الحكام غير المعصومين يكثر منهم صدور الهفوات والأخطاء والمزالق
ولاسيما من العمال المنصوبين من قبل الوالي الأعظم، وربما يكون لبعضهم اعتذار
أو تأويل أو اختلاف في الفتوى أو في تشخيص الموضوع.
فالحكم بالانعزال القهري أو الخروج عليهم، بل العصيان والتخلف عن أوامرهم
المشروعة بلا ضابطة معينة يكون مخلا بنظام المسلمين ووحدتهم ويوجب الفوضى
والهرج والمرج وإراقة الدماء وإثارة الفتن في كل صقع وناحية في كل يوم بل في
كل ساعة، ولاسيما بالنسبة إلى الأمراء والعمال لكثرتهم وكثرة المزالق فيهم.
بل يمكن الخدشة في صدق عنوان الفاسق أو الجائر أو الظالم على هذا الشخص،
إذ المتبادر من هذه العناوين هو الوصف الثبوتي والملكة، لا صدور المبدأ ولو دفعة
ما، فتأمل. بل ربما يصح إطلاق العادل عليه أيضا بناء على كونه عبارة عن الملكة.
فالظاهر في هذه الموارد بقاء المنصب المفوض إليه ووجوب النصح والإرشاد و
وجوب إطاعتهم فيما يرتبط بشؤون الأمة من التكاليف وإن لم تجز إطاعتهم في
الجور
593

والمعصية، كما مر.
وبالجملة، التخلفات عن الموازين الشرعية مختلفة; فقد يكون التخلف جزئيا في
مورد خاص، وقد يكون انحرافا أساسيا.
والظاهر أنه يجري في المسألة، المراتب المذكورة في باب النهي عن المنكر من
الإنكار بالقلب وباللسان ثم باليد بمراتبها بقدر الإمكان إلى أن تصل النوبة في النهاية
إلى الخروج والقيام بالسيف بل المسألة من مصاديق الباب بمفهومه الوسيع.
وفي الحديث أنه قيل لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أي الجهاد أحب إلى الله - عز وجل -؟ "
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " كلمة حق تقال لإمام جائر. " (1)
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " الدين النصيحة. " قلنا: لمن؟ قال: " لله ولكتابه و
لرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم. " (2)
والحاصل أنه إذا أخطأ الحاكم خطأ جزئيا أو عصى معصية جزئية لا تمس أصول
الشريعة ومصالح الإسلام والمسلمين بل كان أساس عمله وحكمه الكتاب والسنة
فلا يجب بل لا يجوز الخروج عليه ولا يحكم بانعزاله أيضا، وإنما يجب الإرشاد و
النصح مع احتمال الإصرار. نعم، في الوزراء والمدراء والعمال يجوز للوالي الأعظم
عزلهم إذا رآه صلاحا.
وأما إذا انحرف الحاكم انحرافا أساسيا عن موازين الإسلام والعدالة وصار
متهتكا وجعل أساس حكمه الاستبداد والهوى، وجعل مال الله دولا وعباده خولا،
أو صار عميلا للاستعمار ومنفذا لأهواء الكفرة والأجانب وتغلبوا من هذا الطريق
على سياسة المسلمين وثقافتهم واقتصادهم، ولم يرتدع هو بالنصح والتذكير بل
لم يزده ذلك إلا عتوا واستكبارا - وإن فرض أنه يظهر الإسلام باللسان بل ويتعبد
ببعض المراسيم الظاهرية من الصلاة والحج والشعارات الإسلامية، كما تراه ونراه
في أكثر الملوك والرؤساء في بلاد المسلمين في أعصارنا - ففي الوزراء والأمراء و
العمال يرفع

1 - مسند أحمد 5 / 251.
2 - صحيح مسلم 1 / 74، كتاب الإيمان، الباب 23، الحديث 55.
594

أمرهم إلى الوالي الذي نصبهم حتى يكون هو الذي يعزلهم إن رآه صلاحا. وفي
الوالي الأعظم يجوز بل يجب السعي في خلعه ورفع يده ولو بالكفاح المسلح مع
حفظ المراتب، ولكن يجب إعداد الأسباب: من إيجاد الوعي السياسي في الأمة و
تشكيل الفئات والأحزاب والجمعيات واللجان وتهية القوى والمعدات خفية أو
علنا حسب اقتضاء الشرائط والظروف. فإن حصل المقصود بالتكتل والمظاهرات
فهو، وإلا فبالكفاح المسلح. فتجب رعاية المراتب والأخذ بالأقل ضررا والأكثر
نفعا إلى أن يحصل النصر والظفر. بل الظاهر أنه ينعزل قهرا وإن لم تقدر الأمة على
خلعه; فليست حكومته حينئذ حكومة مشروعة.
ويدل على جواز ما ذكر بل وجوبه أمور:
الأول:
آيات شريفة من الكتاب العزيز وروايات مستفيضة يستفاد منها ذلك ولو
بالملازمة.
1 - كقوله - تعالى -: " لا ينال عهدي الظالمين. " (1)
دل على أن الظالم لا ينال الإمامة التي هي عهد الله. وإطلاق الآية يشمل الحدوث
والبقاء معا.
2 - وقوله: " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار. " (2)
وحيث لا محيص عن الدولة والحكومة لما مر من الأدلة، ولا يجوز تصدي الظالم
لها

1 - سورة البقرة (2)، الآية 124.
2 - سورة الهود (11)، الآية 113.
595

ولا الركون إليه بمقتضى الآيتين الشريفتين فلا محالة يجب نفيه وخلعه مع القدرة
حتى تخلفه الحكومة العادلة الصالحة.
3 - وقوله - تعالى - في قصة طالوت وداود: " فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت
وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء. ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت
الأرض، ولكن الله ذو فضل على العالمين. " (1)
يظهر من الآية الشريفة أن الله - تعالى - بفضله على العالمين يسلط أهل الصلاح
أمثال داود وطالوت على من يفسد في الأرض ليقطعوا جذور الفساد. ولا يختص
هذا بزمان دون زمان أو بلد دون بلد; فإن فضله عام للعالمين جميعا إلى يوم القيام.
4 - وقوله: " ولول ا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات و
مساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا، ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوى عزيز * الذين إن
مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ولله
عاقبة الأمور. " (2)
يظهر من الآية الشريفة أن الله - تعالى - يبغض الفساد وهدم المساجد والمعابد، و
يحب أن يقوم أهل الصلاح الذين إن تمكنوا في الأرض وصاروا حكاما فيها أقاموا
فرائض الله - تعالى - يقوموا فينصروا الله - تعالى - بدفع أهل الفساد وحفظ المعابد و
إقامة دعائم الدين وفرائضه. ولا يخفى أن دفع أهل الفساد ربما لا يتحقق إلا بالكفاح
المسلح.
5 - وقوله - تعالى -: " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم
الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله
بالغيب، إن الله قوى عزيز. " (3)
يستفاد من الآية الشريفة أن من الأهداف في إرسال الرسل وأنزل الكتب

1 - سورة البقرة (2)، الآية 251.
2 - سورة الحج (22)، الآية 40 و 41.
3 - سورة الحديد (57)، الآية 25.
596

قيام الناس بالقسط، وأن الله - تعالى - أنزل الحديد ضمانة لإجراء ذلك، فيجب
تحقيقه ولو بالكفاح المسلح، ويكون هذا القيام والكفاح نصرا لله - تعالى - ولرسله،
فتدبر في الآية الشريفة وغيرها.
6 - وقوله - تعالى -: " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من
قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به، ويريد الشيطان أن يضلهم
ضلالا بعيدا. " (1)
يظهر من الآية وجوب الكفر بالطاغوت وحرمة التحاكم إليه، وإذا حرم التحاكم
إليه فلا محالة وجب إسقاطه من عرش القدرة حتى تخلفه حكومة صالحة عادلة، إذ
لا محيص عن وجود الحكم والحاكم قطعا.
7 - وقوله: " ولا تطيعوا أمر المسرفين * الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون. " (2)
8 - وقوله: " ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا. " (3)
9 - وقوله حكاية عن أهل النار: " وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا
السبيلا. " (4)
10 - وقوله: " فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا. " (5)
إلى غير ذلك من الآيات الناهية عن إطاعة أهل الإثم والفساد. هذا.
11 - وفي الخصال بسنده عن على (عليه السلام)، قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا علي، أربعة من
قواصم الظهر: إمام يعصى الله ويطاع أمره... " (6)

1 - سورة النساء (4)، الآية 60.
2 - سورة الشعراء (26)، الآية 151 و 152.
3 - سورة الكهف (18)، الآية 28.
4 - سورة الأحزاب (33)، الآية 67.
5 - سورة الإنسان (76)، الآية 24.
6 - الخصال 1 / 206.
597

12 - وفي الخطبة القاصعة من نهج البلاغة: " ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم و
كبرائكم! الذين تكبروا عن حسبهم وترفعوا فوق نسبهم وألقوا الهجينة على ربهم، و
جاحدوا الله على ما صنع بهم، مكابرة لقضائه ومغالبة لآلائه. فإنهم قواعد أساس العصبية و
دعائم أركان الفتنة وسيوف اعتزاء الجاهلية. فاتقوا الله ولا تكونوا لنعمه عليكم أضدادا و
لا لفضله عندكم حسادا، ولا تطيعوا الأدعياء الذين شربتم بصفوكم كدرهم، وخلطتم بصحتكم
مرضهم، وأدخلتم في حقكم باطلهم، وهم أساس الفسوق وأحلاس العقوق، اتخذهم إبليس
مطايا ضلال وجندا بهم يصول على الناس وتراجمة ينطق على ألسنتهم استراقا لعقولكم و
دخولا في عيونكم ونفثا في أسماعكم. " (1)
فتأمل في هذا الحديث الشريف، وانظر كيف ينطبق مضامينه على الرؤساء الطغاة
الحاكمين في أعصارنا. وكيف يصول بهم الشيطان على الناس!!
وحيث لا تجوز إطاعتهم - والمفروض أن الحكومة مما لا محيص عنها ولا تتم
هي إلا بالإطاعة والتسليم - فلا محالة يجب اسقاط الحكومة المسرفة الفاسدة لتخلفها
الحكومة العادلة الصالحة المفترض طاعتها. وإسقاطها من عرش القدرة لا يتحقق
غالبا إلا بالكفاح المسلح.
فإن قلت: لعل النهي في الآيات والروايات متوجه إلى إطاعة أهل الإثم والفساد
في خصوص ما أمروا به من الإثم، وقد مر حكمها في الأمر الأول، فلا ينافي ذلك بقاء
حكومتهم ووجوب طاعتهم في الشؤون الاجتماعية التي يتوقف عليها حفظ النظام.
قلت: ظاهر الآيات والروايات حرمة طاعتهم بنحو الإطلاق في كل ما أمروا به.
وأنت ترى أن أهل الفساد والتزوير كثيرا ما يستفيدون حتى من الأمور العبادية و
مظاهر الشرع المبين استفادة سياسية شيطانية، وربما أحكموا بذلك قواعد ملكهم
ليكثروا فيها الفساد. فلا تستغرب أن ينهى الشارع عن إطاعتهم بالكلية حتى في
الأمور التي تكون صلاحا بالذات حذرا من استحكام دولتهم وحكومتهم بذلك،

1 - نهج البلاغة، فيض / 785; عبده 2 / 166; لح / 289، الخطبة 192.
598

فتدبر فإن في دلالة بعض ما ذكر على المقصود نوع خفاء.
الثاني:
إن الحكومة الإسلامية إنما شرعت لتنفيذ أحكام الإسلام وإقامة العدل في الأمة،
كما يشهد بذلك صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام). فإنه بعدما حكم ببناء الإسلام على
خمس وسئل (عليه السلام) عن أفضلها قال: " الولاية أفضل، لأنها مفتاحهن والوالي هو الدليل
عليهن. " (1)
وفي رواية المحكم والمتشابه عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " أولها الصلاة ثم الزكاة ثم
الصيام ثم الحج ثم الولاية، وهي خاتمتها والحافظة لجميع الفرائض والسنن. " (2)
وفي رواية العيون والعلل جعل الرضا (عليه السلام) علة جعل الإمام المنع عن الفساد و
إقامة الحدود والأحكام وأنه لو لم يجعل لهم إماما لدرست الملة وذهب الدين و
غيرت السنن والأحكام، ولزاد فيه المبتدعون ونقص منه الملحدون وشبهوا ذلك
على المسلمين. (3)
وفي خبر عبد العزيز بن مسلم: " إن الإمامة زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح
الدنيا وعز المؤمنين. إن الإمامة أس الإسلام النامي وفرعه السامي. بالإمام تمام الصلاة و
الزكاة والصيام والحج والجهاد وتوفير الفيء والصدقات وإمضاء الحدود والأحكام و
منع الثغور والأطراف. الحديث. " (4)
إلى غير ذلك من الروايات الدالة على الغرض من الإمامة والحكومة الحقة،

1 - الكافي 2 / 18، باب دعائم الإسلام من كتاب الإيمان والكفر، الحديث 5.
2 - راجع الدليل الثامن مما ذكرناه دليلا لضرورة الحكومة.
3 - راجع الدليل الثالث من أدلة ضرورة الحكومة.
4 - الكافي 1 / 200، باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته من كتاب الحجة، الحديث 1.
599

وسيجئ بعضها في أوائل الباب السادس.
وعلى هذا فإذا انحرفت الحكومة عن المسير المقرر لها ولم يترتب عليها الآثار
المترقبة منها كان حفظها وبقاؤها ووجوب الإطاعة والتسليم لها ناقضا للغرض
المطلوب، فيجب إسقاطها وتعيين حاكم صالح لئلا يتعطل الإسلام وحدوده.
الثالث:
ما دل من الآيات والروايات من طرق الفريقين على وجوب الأمر بالمعروف و
النهي عن المنكر بمفهومهما الوسيع، أعني السعي في إشاعة المعروف وبسطه وقطع
جذور المنكر والفساد مهما أمكن.
فإذا انحرف الحاكم عن مسير الحق والعدالة وأشاع البدع والمنكرات بجنوده و
قدرته - والناس على دين ملوكهم بالطبع - فلا محالة يجب على المسلمين مواصلة
العمل لتحقيق أهداف الأنبياء والمرسلين من السعي في بسط المعروف ورفع
المنكرات ودفعها مع القدرة والإمكان، ولكن مع رعاية المراتب; فإذا لم يؤثر النصح
والإرشاد والتهديد والوعيد فلا محالة تصل النوبة إلى المظاهرات الجماعية، ثم
القيام والكفاح المسلح، قطعا لمادة الفساد. نعم، يجب أن يكون القيام والكفاح تحت
نظام صحيح وقيادة رجل عالم عادل يقود الثوار، كيلا يلزم الهرج والمرج.
1 - ففي خبر جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام): " فأنكروا بقلوبكم وألفظوا بألسنتكم وصكوا
بها جباههم ولا تخافوا في الله لومة لائم. " (1)
2 - وفي خبر يحيى الطويل، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " ما جعل الله بسط اللسان و
كف اليد، ولكن جعلهما يبسطان معا ويكفان معا. " (2)

1 - الوسائل 11 / 403، الباب 3 من أبواب الأمر والنهي و...، الحديث 1.
2 - الوسائل 11 / 404، الباب 3 من أبواب الأمر والنهي و...، الحديث 2.
600

3 - وروى الصدوق بإسناده عن مسعدة بن صدقة، عن جعفر بن محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
" قال أمير المؤمنين (عليه السلام): " إن الله لا يعذب العامة بذنب الخاصة إذا عملت الخاصة بالمنكر
سرا من غير أن تعلم العامة، فإذا عملت الخاصة بالمنكر جهارا فلم تغير ذلك العامة استوجب
الفريقان العقوبة من الله - عز وجل -. " قال: وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن المعصية إذا عمل بها
العبد سرا لم يضر إلا عاملها، فإذا عمل بها علانية ولم يغير عليه أضرت بالعامة. " قال
جعفر بن محمد (عليه السلام): " وذلك أنه يذل بعمله دين الله ويقتدي به أهل عداوة الله. " (1)
4 - وفي مرفوعة محمد بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " ما أقر قوم بالمنكر بين
أظهرهم لا يغيرونه إلا أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده. " (2)
5 - وفي مسند أحمد بسنده عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " إن الله - عز وجل - لا يعذب
العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه
فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة. " (3)
6 - وعن الطبري في تاريخه، عن عبد الرحمان بن أبي ليلى، قال: إني سمعت
عليا (عليه السلام) يقول - يوم لقينا أهل الشام: " أيها المؤمنون، أنه من رآى عدوانا يعمل به ومنكرا
يدعى إليه فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ. ومن أنكره بلسانه فقد أجر، وهو أفضل من صاحبه.
ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله العليا وكلمة الظالمين السفلى فذلك الذي أصاب سبيل
الهدى وقام على الطريق ونور في قلبه اليقين. " (4)
7 - وفي نهج البلاغة: " ولعمري ما على من قتال من خالف الحق وخابط الغي من إدهان
ولا إيهان، فاتقوا الله عباد الله وامضوا في الذي نهجه لكم، وقوموا بما عصبه بكم فعلى
ضامن

1 - الوسائل 11 / 407، الباب 4 من أبواب الأمر والنهي و...، الحديث 1.
2 - الوسائل 11 / 408، الباب 4 من أبواب الأمر والنهي و...، الحديث 3.
3 - مسند أحمد 4 / 192.
4 - الوسائل 11 / 405، الباب 3 من أبواب الأمر والنهي و...، الحديث 8. ورواه أيضا في
نهج البلاغة، فيض / 1262; عبده 3 / 243; لح / 541، الحكمة 373.
601

لفلجكم آجلا إن لم تمنحوه عاجلا. " (1)
وأمير المؤمنين (عليه السلام): إمام المتقين وأسوة المؤمنين، وإنما جعل الإمام إماما ليؤتم
به فيجب التأسي بهداه.
8 - وفي الوسائل بسنده، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " الخير كله
في السيف وتحت ظل السيف، ولا يقيم الناس إلا السيف، والسيوف مقاليد الجنة و
النار. " (2)
9 - وفي صحيح مسلم بسنده، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من رآى منكم منكرا فليغيره
بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان. " (3)
10 - وفيه أيضا بسنده، عن جابر بن عبد الله، يقول: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول:
" لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة. " (4)
11 - وفيه أيضا بسنده، عن جابر بن سمرة، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " لن يبرح هذا
الدين قائما يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة. " (5)
12 - وفي سنن أبي داود بسنده، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا، اتق الله ودع
ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده. فلما
فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض. " ثم قال: " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على
لسان داود وعيسى بن مريم إلى قوله: فاسقون. " ثم قال: " كلا والله لتأمرن بالمعروف و
لتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا ولتقصرنه على الحق

1 - نهج البلاغة، فيض / 87; عبده 1 / 58; لح / 66، الخطبة 24. وفي الفيض والصالح هكذا:
" فاتق والله عباد الله وفروا إلى الله من الله و... ".
2 - الوسائل 11 / 5، الباب 1 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
3 - صحيح مسلم 1 / 69، كتاب الإيمان، الباب 20، الحديث 49.
4 - صحيح مسلم 3 / 1524، كتاب الإمارة، الباب 53، الحديث 1923.
5 - صحيح مسلم 3 / 1524، كتاب الإمارة، الباب 53، الحديث 1922.
602

قصرا. " (1)
أقول: لتأطرنه على الحق اي لتردنه عليه.
ورواه أيضا بسند آخر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نحوه، وزاد: " أو ليضربن الله بقلوب بعضكم
على بعض ثم ليلعننكم كما لعنهم. " (2)
13 - وفيه أيضا بسنده، عن قيس، قال: قال أبو بكر - بعد أن حمد الله وأثنى عليه:
يا أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها: " عليكم أنفسكم،
لا يضركم من ضل إذا اهتديتم. " قال عن خالد: وإنا سمعنا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " إن الناس
إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب. " وقال عمرو عن هشيم:
وإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن
يغيروا ثم لا يغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب. " (3)
14 - وفيه أيضا بسنده، عن جرير، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " مامن رجل
يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا عليه فلا يغيروا إلا أصابهم الله
بعذاب من قبل أن يموتوا. " (4)
أقول: وربما لا يقدر كل فرد فرد منفردا ولكن يقدرون مع التجمع والتشكل،
فيجب عليهم ذلك مقدمة لتحصيل القدرة، فإن المقدور بالواسطة مقدور.
15 - وفي سنن ابن ماجة، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: " لا تزال طائفة من أمتي

1 - سنن أبي داود 2 / 436، كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي.
2 - سنن أبي داود 2 / 436، كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي.
3 - سنن أبي داود 2 / 436، كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي.
4 - سنن أبي داود 2 / 437، كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي.
603

قوامة على أمر الله لا يضرها من خالفها. " (1)
16 - وفي الدر المنثور، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن رحى الإسلام ستدور; فحيث ما دار
القرآن فدوروا به يوشك السلطان والقرآن أن يقتتلا ويتفرقا. إنه سيكون عليكم ملوك
يحكمون لكم بحكم ولهم بغيره، فإن أطعتموهم أضلوكم وإن عصيتموهم قتلوكم " قالوا:
يا رسول الله، فكيف بنا إن أدركنا ذلك؟ قال: تكونوا كأصحاب عيسى (عليه السلام): نشروا
بالمناشير ورفعوا على الخشب. موت في طاعة خير من حياة في معصية. " (2)
17 - وفي نهج السعادة مستدرك نهج البلاغة: قال أبو عطاء: خرج علينا
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) محزونا يتنفس فقال: " كيف أنتم وزمان قد أظلكم؟
تعطل فيه الحدود ويتخذ المال فيه دولا ويعادي فيه أولياء الله ويوالي فيه أعداء الله؟
قلنا: يا أمير المؤمنين، فإن أدركنا ذلك الزمان فكيف نصنع؟ قال: " كونوا كأصحاب
عيسى (عليه السلام): نشروا بالمناشير وصلبوا على الخشب. موت في طاعة الله - عز وجل - خير من
حياة في معصية الله. " (3)
18 - وفي كنز العمال: " سيكون عليكم أئمة يملكون أرزاقكم، يحدثونكم فيكذبونكم و
يعملون فيسيؤون العمل، لا يرضون منكم حتى تحسنوا قبيحهم وتصدقوا كذبهم، فأعطوهم
الحق ما رضوا به فإذا تجاوزوا فمن قتل على ذلك فهو شهيد. " (طب، عن أبي سلالة) (4)
إلى غير ذلك من الأخبار التي مر بعضها في ذيل الرواية السادسة من الفصل الرابع
من الباب الثالث، فراجع.
ولا يخفى أن إطلاق هذه الروايات يشمل محل البحث وإن لا يخل بعضها عن
إشكال. وضعف السند في بعضها لا يضر بعد معاضدة بعضها لبعض والعلم إجمالا
بصدور بعضها، فتأمل.

1 - سنن ابن ماجة 1 / 5، باب اتباع سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، الحديث 7.
2 - الدر المنثور 2 / 301.
3 - نهج السعادة 2 / 639.
4 - كنز العمال 6 / 67، الباب 1 من كتاب الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14876.
604

الرابع:
قيام سيد الشهداء - عليه السلام - وثورته على يزيد بن معاوية، مع أنه كان يحكم
باسم الإسلام واسم خلافة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وربما كان يقيم شعائر الله من الصلاة والحج
ونحوهما. والحسين الشهيد عندنا إمام معصوم، وعمله حجة شرعية كقوله، إذ الإمام
إنما جعل إماما ليؤتم به ويهتدى بهداه، وقد بين هو (عليه السلام) أهدافه من ثورته في خطبه
التي ألقاها في مسيره:
فروى الطبري في تاريخه وابن الأثير في الكامل أن الحسين (عليه السلام) خطب أصحابه و
أصحاب الحر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: " أيها الناس، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من
رأى سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله، ناكثا لعهد الله، مخالفا لسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، يعمل في
عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغير عليه بفعل ولاقول كان حقا على الله أن يدخله مدخله. ألا
وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمان، وأظهروا الفساد، وعطلوا
الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله، وأنا أحق من غير. " (1)
وروى الطبري أيضا عنه (عليه السلام) في خطبة خطبها بذي حسم: " ألا ترون أن الحق لا يعمل
به، وأن الباطل لا يتناهى عنه؟ ليرغب المؤمن في لقاء الله محقا; فإني لا أرى الموت إلا
شهادة ولا الحياة مع الظالمين إلا برما. " (2) ورواه في تحف العقول أيضا إلا أنه قال:
" لا أرى الموت إلا سعادة " وزاد في آخره: " إن الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على
ألسنتهم: يحوطونه ما درت معايشهم، فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون. " (3)
وهو - عليه السلام - من العترة، وعترة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أحد الثقلين، وقد أوصى

1 - تاريخ الطبري (طبع ليدن) 7 / 300، والكامل لابن الأثير 4 / 48.
2 - تاريخ الطبري 7 / 301.
3 - تحف العقول / 245.
605

النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحديث المتواتر بين الفريقين بالتمسك بهما. فقوله (عليه السلام) حجة
بلا إشكال، مضافا إلى أنه (عليه السلام) روى الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). ونقله عنه لا يقل عن نقل
سائر الرواة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بلا إشكال.
وما رواه عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) عام يبين التكليف لجميع المسلمين في جميع الأعصار في قبال
سلاطين الجور وطواغيت الزمان، ولا يختص بفريق خاص أو عصر خاص.
وهل لا يكون أكثر من يحكم في هذه الأعصار باسم الإسلام من مصاديق ما حكاه
هو (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وممن يسير في طريق يزيد وأمثاله؟!
وفي تحف العقول أيضا عنه (عليه السلام) - في كتابه إلى أهل الكوفة لما سار إليهم ورأى
خذلانهم إياه -: " أما بعد فتبا لكم أيتها الجماعة وترحا! حين استصرختمونا ولهين،
فأصرخناكم موجفين. سللتم علينا سيفا كان في أيماننا، وحششتم علينا نارا اقتدحناها على
عدونا وعدوكم; فأصبحتم إلبا لفا على أوليائكم ويدا لأعدائكم، بغير عدل أفشوه فيكم و
لا لأمل أصبح لكم فيهم، وعن غير حدث كان منا ولا رأي تفيل عنا. الحديث. " (1)
أقول: تبا أي هلاكا وخسرانا. والترح بفتحتين: ضد الفرح. والإيجاف: الإسراع.
حششتم: أو قد تم: والإلب بالكسر: الجماعة. واللف: المجتمعون. وتفيل رأيه: أخطأ
وضعف.
الخامس:
ثورة زيد بن على بن الحسين وخروجه على هشام بن عبد الملك. وقد أمضى
عمله وقدسه أئمتنا الأطهار (عليهم السلام) وعلماؤنا الأخيار، كما مر تفصيله في الفصل الرابع
من الباب الثالث، فراجع.

1 - تحف العقول / 240.
606

ومن جملة الروايات التي ذكرناها هناك صحيحة عيص بن القاسم، عن أبي
عبد الله (عليه السلام)، وفيها: " إن اتاكم آت منا فانظروا على أي شيء تخرجون، ولا تقولوا: خرج
زيد; فإن زيدا كان عالما وكان صدوقا، ولم يدعكم إلى نفسه، وإنما دعاكم إلى الرضا من آل
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). ولو ظفر لوفى بما دعاكم إليه. إنما خرج إلى سلطان مجتمع لينقضه... " (1)
وفي رواية أخرى، عن الصادق (عليه السلام): " إن عمي كان رجلا لدنيانا وآخرتنا. مضى والله
عمي شهيدا كشهداء استشهدوا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى والحسن والحسين - صلوات
الله عليهم... " (2)
إلى غير ذلك من الروايات الواردة في قصة زيد وشأنه وثورته، وقد مر كثير منها.
السادس:
ثورة الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب،
شهيد فخ. وقد قام في المدينة في خلافة موسى الهادي واستشهد بفخ - موضع أو بئر
على فرسخ من مكة. ولم يعرف من أئمتنا - عليهم السلام - حديث ظاهر في قدحه، بل
وردت روايات كثيرة تدل على تقديسه وتقديس قيامه نذكرها من كتاب مقاتل
الطالبيين لأبي الفرج الإصفهاني:
1 - ما رواه بسنده، عن زيد بن علي، قال: انتهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى موضع فخ
فصلى بأصحابه صلاة الجنازة، ثم قال: " يقتل هيهنا رجل من أهل بيتي في عصابة من
المؤمنين، ينزل لهم بأكفان وحنوط من الجنة، تسبق أرواحهم أجسادهم إلى الجنة. " (3)

1 - الوسائل 11 / 36، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
2 - عيون أخبار الرضا 1 / 252، الباب 25، الحديث 6.
3 - مقاتل الطالبيين / 289.
607

2 - ما رواه بسنده، عن أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام)، قال: " مر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بفخ فنزل
فصلى ركعة، فلما صلى الثانية بكى وهو في الصلاة، فلما رأى الناس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يبكي
بكوا، فلما انصرف قال: ما يبكيكم؟ قالوا: لما رأيناك تبكي بكينا يا رسول الله. قال: " نزل على
جبرئيل لما صليت الركعة الأولى فقال: يا محمد، إن رجلا من ولدك يقتل في هذا المكان. و
أجر الشهيد معه أجر شهيدين. " (1)
3 - ما رواه بسنده، عن النضر بن قرواش، قال: أكريت جعفر بن محمد (عليه السلام) من
المدينة إلى مكة، فلما ارتحلنا من بطن مر قال لي: " يا نضر، إذا انتهيت إلى فخ فأعلمني...
فتوضأ وصلى ثم ركب فقلت له: جعلت فداك رأيتك قد صنعت شيئا، أفهو من مناسك
الحج؟ قال: " لا، ولكن يقتل هيهنا رجل من أهل بيتي في عصابة تسبق أرواحهم أجسادهم
إلى الجنة. " (2)
4 - ما رواه بسنده، عن إبراهيم بن إسحاق القطان، قال: سمعت الحسين بن علي، و
يحيى بن عبد الله يقولان:
" ما خرجنا حتى شاورنا أهل بيتنا، وشاورنا موسى بن جعفر (عليه السلام) فأمرنا
بالخروج. " (3)
5 - ما رواه عن جماعة، قالوا:
" جاء الجند بالرؤوس إلى موسى والعباس وعندهم جماعة من ولد الحسن و
الحسين، فلم يتكلم أحد منهم بشيء إلا موسى بن جعفر (عليه السلام)، فقال له: هذا رأس
الحسين. قال: " نعم، إنا لله وإنا إليه راجعون. مضى والله مسلما صالحا صواما قواما آمرا
بالمعروف ناهيا عن المنكر. ما كان في أهل بيته مثله. فلم يجيبوه بشيء. " (4)
ولم يكن خروجه للدعوة إلى نفسه بل كان يدعو إلى الرضا من آل محمد، نظير

1 - مقاتل الطالبيين / 290.
2 - مقاتل الطالبيين / 290.
3 - مقاتل الطالبيين / 304.
4 - مقاتل الطالبيين / 302.
608

ما صنعه زيد في دعوته:
6 - فروى أبو الفرج أيضا بسنده، عن أرطاة، قال:
" لما كانت بيعة الحسين بن علي صاحب فخ قال: " أبايعكم على كتاب الله وسنة
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعلى أن يطاع الله ولا يعصى، وأدعوكم إلى الرضا من آل محمد، و
على أن نعمل فيكم بكتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) والعدل في الرعية والقسم
بالسوية... " (1)
هذا. ولكن في أسناد الروايات ضعف، ومؤلف الكتاب من بني مروان ينتهي نسبه
إلى مروان الحمار، وفي المذهب زيدي.
السابع:
ما رواه في الكافي، عن سدير الصيرفي، قال: " دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقلت
له: والله ما يسعك القعود. فقال: ولم يا سدير؟ قلت: لكثرة مواليك وشيعتك وأنصارك.
والله لو كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) مالك من الشيعة والأنصار والموالي ما طمع فيه تيم و
لا عدي. فقال: يا سدير، وكم عسى أن تكونوا؟ قلت: مأة ألف. قال: مأة ألف؟ قلت: نعم، و
مأتي ألف. قال: مأتي الف؟ قلت: نعم ونصف الدنيا. قال: فسكت عني ثم قال: يخف
عليك أن تبلغ معنا إلى ينبع؟ قلت: نعم. فأمر بحمار وبغل أن يسرجا فبادرت فركبت
الحمار، فقال: يا سدير، ترى أن تؤثرني بالحمار؟ قلت: البغل أزين وأنبل. قال: الحمار
أرفق بي. فنزلت فركب الحمار وركبت البغل فمضينا فحانت الصلاة فقال: يا سدير، أنزل
بنا نصلي، ثم قال: هذه أرض سبخة لا يجوز الصلاة فيها. فسرنا حتى صرنا إلى أرض
حمراء ونظر إلى غلام يرعى جداء فقال: والله يا سدير، لو كان لي شيعة بعدد هذه الجداء
ما وسعني القعود. ونزلنا وصلينا فلما فرغنا من

1 - مقاتل الطالبيين / 299.
609

الصلاة عطفت على الجداء فعددتها فإذا هي سبعة عشر. " (1)
ولم يكن مراده (عليه السلام) لا محالة مطلق من يطلق عليهم اسم الشيعة، بل الشيعة الخلص
المواتين لهم (عليهم السلام) في جميع المراحل، وهم قليلون جدا ولاسيما في تلك الأعصار.
فيظهر من الحديث الشريف أنه يجب القيام في قبال حكام الجور مع وجود القدرة
وأن قعود أئمتنا (عليهم السلام) لم يكن إلا لعدم القوة والعدة.
وفي نهج البلاغة: " فنظرت فإذا ليس لي معين إلا أهل بيتي، فضننت بهم عن
الموت. " (2)
وقال الشارح المعتزلي في شرحه:
" فأما قوله: " لم يكن لي معين إلا أهل بيتي فضننت بهم عن الموت " فقول ما زال
على (عليه السلام) يقوله، ولقد قاله عقيب وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: لو وجدت أربعين ذوي عزم.
ذكر ذلك نصر بن مزاحم في كتاب صفين وذكره كثير من أرباب السيرة. " (3)
والإمام المجتبى أيضا قام وجاهد إلى أن خان أكثر جنده ولحقوا بمعاوية، فلم
يتمكن من مواصلة الجهاد.
فلم يكن أئمتنا - عليهم السلام - ذوي سياسات متضادة، كما قد يتوهم، بل هم نور
واحد وسياستهم كانت واحدة في قبال سلاطين الجور والطواغيت، وإنما الشروط و
الظروف كانت مختلفة، فتدبر.

1 - الكافي 2 / 242، كتاب الإيمان والكفر، باب في قله عدد المؤمنين، الحديث 4.
2 - نهج البلاغة، فيض / 92; عبده 1 / 62; لح / 68، الخطبة 26.
3 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2 / 22.
610

الثامن:
ما في نهج البلاغة: " لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على
العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها... " (1)
أقول: الكظة بالكسر والتشديد: البطنة وما يعتري الإنسان عند الامتلاء من
الطعام. والسغب: الجوع.
وفيه أيضا: " سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول - في غير موطن: لن تقدس أمة لا يؤخذ
للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع. " (2)
وفي الوسائل عن الإمام الصادق (عليه السلام): " ما قدست أمة لم يؤخذ لضعيفها من قويها غير
متعتع. " (3)
وفي سنن ابن ماجة عن أبي سعيد الخدري، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " إنه لا قدست أمة
لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع. " (4)
فيظهر من هذه الأحاديث أنه لا يحل للإنسان المسلم ولاسيما العالم الذي ينفذ
أمره وحكمه بالطبع أن يقعد في بيته ولا يبالي بما يقع ويشاهده في المجتمع من
الجور والظلم والإغارة على حقوق الضعفاء، والتبعيضات غير العادلة، ولا محالة
ربما ينجر التدخل في ذلك إلى الكفاح المسلح.

1 - نهج البلاغة، فيض / 52; عبده 1 / 31; لح / 50، الخطبة 3.
2 - نهج البلاغة، فيض / 1021; عبده 3 / 113; لح / 439، الكتاب 53.
3 - الوسائل 11 / 395، الباب 1 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 9.
4 - سنن ابن ماجة 2 / 810، كتاب الصدقات، باب لصاحب الحق سلطان، الحديث 2426.
611

التاسع:
ما دل على جزاء المحارب والمفسد في الأرض.
قال الله - تعالى -: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا
أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض. ذلك لهم خزي
في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم، إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم... " (1)
إذ لافرق في الساعي بالفساد بين أن يكون فردا عاديا أو يكون صاخب قدرة و
سلطة، بل الفساد في الثاني أكثر، فيجب مع الإمكان مجازاته بالقيام والخروج عليه،
فتأمل.
العاشر:
إن جواز قتال البغاة بل وجوبه مما دل عليه الكتاب والسنة، وأفتى به فقهاء
الفريقين كما حقق في محله، ومر منا أيضا إجمالا في الفصل السابع من الباب الثالث.
قال الله - تعالى -: " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت
إحديهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله، فإن فاءت فأصلحوا بينهما
بالعدل وأقسطوا، إن الله يحب المقسطين. " (2)

1 - سورة المائدة (5)، الآية 33 و 34.
2 - سورة الحجرات (49)، الآية 9.
612

وتعليق الحكم عن الوصف يشعر بالعلية بل يدل عليها. فيعلم بذلك أن الملاك في
وجوب القتال أو جوازه هو البغي والطغيان، سواء كان من ناحية طائفة على أخرى،
أو من ناحية الأفراد أو الطوائف على الولاة، أو من ناحية الولاة على الأمة. ولذلك
ترى أنه مع كون المنصوص في الآية هو بغي طائفة على أخرى تعدى الأصحاب و
الفقهاء منه إلى بغي الفرد أو الطائفة على الإمام. ومن لفظ الآية الشريفة اقتبسوا اسم
البغاة.
نعم، يمكن المناقشة في استفادة الوجوب من الأمر في الآية، إذ الأمر الواقع في
مقام توهم الحظر لا يستفاد منه أزيد من الجواز، ولكن الجواز يكفينا في المقام.
فإن قلت: مورد آية البغي، وكذا آية المحاربة التي مرت هو صورة وجود الهجوم
وإشعال نار الفتنة والحرب فعلا، فحكم الله - تعالى - بإطفائها بالقتال والجزاء. وأما
الحاكم الجائر فهو لتسلطه خارجا لا يحتاج إلى الحرب والهجوم، بل الخروج عليه
إشعال لنائرة الحرب، وموجب لإراقة الدماء وتلف الأموال والنفوس، فلا مجال
للتمسك بالآيتين في المقام.
قلت: تنفيذ مقررات الإسلام وبسط الحق والعدالة وحفظ الحدود والحقوق من
أهم أهداف الإسلام وواجباته، فإذا انحرف الحاكم عن مسير الحق والإسلام وضيع
الحدود والحقوق وإن تسمى باسم الإسلام فلا محالة يحصل في نطاق حكمه وملكه
الفساد والفحشاء والبغي على الضعفة كثيرا، بل ربما خيف منه ومن عماله على بيضة
الإسلام وكيان المسلمين، وأي بغي أشد وأفحش من ذلك؟
والمراجع إلى الكتاب والسنة وإلى تاريخ صدر الإسلام يظهر له أن حفظ الإسلام
وبسطه وحفظ الحدود والحقوق من أهم الفرائض، فيجب السعي فيه وفي رفع
الفساد وإن استلزم ذلك فداء الأموال والنفوس في هذا الطريق. هذا.
613

الحادي عشر:
ما دل على حرمة إعانة الظالم ومساعدته، بل وحب بقائه. والأخبار في هذا
الباب كثيرة من طرق الفريقين، فلنذكر بعضها:
1 - فروى الترمذي في الفتن بسنده، عن كعب بن عجرة، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
" سيكون بعدي أمراء; فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني و
لست منه وليس بوارد على الحوض. " (1)
2 - وفي مسند أحمد بسنده، عن جابر بن عبد الله أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لكعب بن
عجرة: " أعاذك الله من إمارة السفهاء. " قال: وما إمارة السفهاء؟ قال: " أمراء يكونون
بعدي لا يقتدون بهداي ولا يستنون بسنتي; فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم
فأولئك ليسوا مني ولست منهم ولا يردوا علي حوضي، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم
على ظلمهم فأولئك مني وأنا منهم وسيردوا علي حوضي. " (2)
3 - وفي صحيحة أبي حمزة، عن علي بن الحسين (عليهما السلام): " إياكم وصحبة العاصين و
معونة الظالمين. " (3)
4 - وفي خبر طلحة بن زيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " العامل بالظلم والمعين له و
الراضي به شركاء ثلاثتهم. " (4)
5 - وعن سليمان الجعفري، قال قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام) ما تقول في

1 - سنن الترمذي 3 / 358، الباب 62 من أبواب الفتن، الحديث 2360.
2 - مسند أحمد 3 / 321.
3 - الوسائل 12 / 128، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.
4 - الوسائل 12 / 128، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.
614

أعمال السلطان؟ فقال: " يا سليمان، الدخول في أعمالهم والعون لهم والسعي في حوائجهم
عديل الكفر، والنظر إليهم على العمد من الكبائر التي يستحق بها النار. " (1)
وواضح أن المراد به السلطان الجائر.
6 - وفي خبر ابن أبي يعفور، قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) إذ دخل عليه رجل من
أصحابنا فقال له: جعلت فداك إنه ربما أصاب الرجل منا الضيق أو الشدة فيدعى إلى
البناء يبنيه أو النهر يكريه أو المسناة يصلحها، فما تقول في ذلك؟
فقال أبو عبد الله (عليه السلام): " ما أحب أني عقدت لهم عقدة أو وكيت لهم وكاء وأن لي ما بين
لابتيها، لا ولا مدة بقلم; إن أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتى يحكم الله بين
العباد. " (2)
7 - وفي خبر السكوني، عن جعفر بن محمد، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: " قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين أعوان الظلمة ومن لاق لهم دواة، أو
ربط كيسا، أو مد لهم مدة قلم; فاحشروهم معهم. " (3)
8 - وفي خبر آخر: " إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين الظلمة وأعوان الظلمة وأشباه
الظلمة، حتى من برى لهم قلما ولاق لهم دواة. قال: فيجتمعون في تابوت من حديد ثم يرمي
بهم في جهنم. " (4)
9 - وفي حديث آخر: " من مشى إلى ظالم ليعينه وهو يعلم انه ظالم فقد خرج من
الإسلام. " (5)
10 - وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في خبر المناهي: " ألا ومن علق سوطا بين يدي سلطان

1 - الوسائل 12 / 138، الباب 45 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 12.
2 - الوسائل 12 / 129، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.
3 - الوسائل 12 / 130، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 11.
4 - الوسائل 12 / 131، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 16.
5 - الوسائل 12 / 131، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 15.
615

جعل الله ذلك السوط يوم القيامة ثعبانا من النار، طوله سبعون ذراعا، يسلطه الله عليه
في نار جهنم وبئس المصير. " (1)
11 - وعن الكاهلي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " من سود اسمه في ديوان الجبارين من
ولد فلان حشره الله يوم القيامة حيرانا. " (2)
12 - وعن زياد بن أبي سلمة، قال: دخلت على أبي الحسن موسى (عليه السلام) فقال لي: " يا
زياد، إنك لتعمل عمل السلطان؟ " قال: قلت: أجل. قال لي ولم؟ قلت: أنا رجل لي مروة
وعلى عيال وليس وراء ظهري شيء. فقال لي: " يا زياد، لأن أسقط من حالق فأتقطع
قطعة قطعة أحب إلي من أن أتولى لأحد منهم عملا أو أطأ بساط رجل منهم إلا لماذا؟ " قلت:
لا أدري جعلت فداك. قال: " إلا لتفريج كربة عن مؤمن أو فك أسره أو قضاء دينه. يا زياد،
إن أهون ما يصنع الله - جل وعز - بمن تولى لهم عملا أن يضرب عليه سرادق من نار إلى أن
يفرغ من حساب الخلائق... " (3)
13 - وعن صفوان بن مهران الجمال، قال: دخلت على أبي الحسن الأول (عليه السلام) فقال
لي: يا صفوان، كل شيء منك حسن جميل ما خلا شيئا واحدا. قلت: جعلت فداك أي شيء؟
قال: إكراؤك جمالك من هذا الرجل، يعني هارون. قلت: والله ما أكريته أشرا ولا بطرا، و
لا للصيد ولا للهو، ولكني أكريته لهذا الطريق، يعني طريق مكة، ولا أتولاه بنفسي
ولكن أبعث معه غلماني. فقال لي: يا صفوان، أيقع كراؤك عليهم؟
قلت: نعم، جعلت فداك. قال: فقال لي: أتحب بقاءهم حتى يخرج كراؤك؟ قلت نعم،
قال: من أحب بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم كان ورد النار... " (4)
14 - وعن عياض، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " من أحب بقاء الظالمين فقد أحب

1 - الوسائل 12 / 130، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 10.
2 - الوسائل 12 / 134، الباب 44 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.
3 - الوسائل 12 / 140، الباب 46 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 9.
4 - الوسائل 12 / 131، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 17.
616

أن يعصى الله. " (1)
15 - وعن سهل بن زياد - رفعه - عن أبي عبد الله (عليه السلام) - في قول الله - عزوجل -:
" ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار " - قال: هو الرجل يأتي السلطان فيحب بقاءه
إلى أن يدخل يده إلى كيسه فيعطيه. " (2)
إلى غير ذلك من الروايات الدالة على حرمة إعانة الظالمين ومساعدتهم وحب
بقائهم.
ولا يخفى أن التسليم للظالم وإطاعته في أوامره الولائية من أشد مراتب الإعانة و
المساعدة. وحيث إن الحكومة مما لابد منها كما مر وإطاعة الحاكم في الأوامر
الولائية من لوازم الحكومة ومقوماتها فلا محالة يستلزم ذلك وجوب السعي في
إسقاط الحكومة الظالمة الجائرة حتى يخلفها حكومة عادلة مطاعة فيحصل النظام و
ينفذ الإسلام، فتدبر. قال في تفسير المنار - في ذيل تفسيره لآية المحاربة:
" ومن المسائل المجمع عليها قولا واعتقادا: " أنه لا طاعة لمخلوق في معصية
الخالق، وإنما الطاعة في المعروف "، وأن الخروج على الحاكم المسلم إذا ارتد عن
الإسلام واجب، وأن إباحة المجمع على تحريمه كالزنا والسكر واستباحة إبطال
الحدود وشرع ما لم يأذن به الله كفر وردة، وأنه إذا وجد في الدنيا حكومة عادلة تقيم
الشرع وحكومة جائرة تعطله وجب على كل مسلم نصر الأولى ما استطاع. وأنه إذا
بغت طائفة من المسلمين على أخرى وجردت عليها السيف وتعذر الصلح بينهما
فالواجب على المسلمين قتال الباغية المعتدية حتى تفيء إلى أمر الله.
وما ورد في الصبر على أئمة الجور إلا إذا كفروا معارض بنصوص أخرى، والمراد
به اتقاء الفتنة وتفريق الكلمة المجتمعة. وأقواها حديث: " وأن لا تنازع الأمر أهله إلا أن
تروا كفرا بواحا. " قال النووي: المراد بالكفر هنا المعصية. ومثله كثير.
وظاهر الحديث أن منازعة الإمام الحق في إمامته لنزعها منه لا يجب إلا إذا كفر

1 - الوسائل 12 / 134، الباب 44 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.
2 - الوسائل 12 / 133، الباب 44 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.
617

كفرا ظاهرا وكذا عماله وولاته.
وأما الظلم والمعاصي فيجب إرجاعه عنها مع بقاء إمامته وطاعته في المعروف
دون المنكر، وإلا خلع ونصب غيره.
ومن هذا الباب خروج الإمام الحسين سبط الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم
- على إمام الجور والبغي، الذي ولي أمر المسلمين بالقوة والمكر: يزيد بن معاوية -
خذله الله، وخذل من انتصر له من الكرامية والنواصب الذين لا يزالون يستحبون
عبادة الملوك الظالمين، على مجاهدتهم لإقامة العدل والدين. وقد صار رأي الأمم
الغالب في هذا العصر وجوب الخروج على الملوك المستبدين المفسدين. و
قد خرجت الأمة العثمانية على سلطانها عبد الحميد خان فسلبت السلطة منه وخلعته
بفتوى من شيخ الإسلام. " (1)
وقد نقلنا كلامه بطوله تأييدا لكثير مما ذكرناه.
خلاصة
وكيف كان، فقد تحصل مما ذكرناه في هذه المسألة بطولها أن أخطاء الحاكم الذي
بدت حكومته مشروعة إن كانت جزئية شخصية لا تمس كرامة الإسلام والمسلمين،
فالحكم بانعزاله أو جواز الخروج عليه لذلك مشكل بل لعله لا يخرج بذلك من العدالة
بناء على كونها عبارة عن الملكة. ولو سلم فالواجب في قباله النصح والإرشاد، و
يبعد جدا أن تصل النوبة في مثله إلى الخروج عليه والكفاح المسلح.
وأما إذا انحرف الحاكم انحرافا كليا وصار أساس حكمه الاستبداد والأهواء،
بحيث صدق على حكومته حكومة الجور والفساد وانطبق عليه عنوان الطاغوت،
فحينئذ يجري فيه مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وربما تصل النوبة إلى
الكفاح المسلح وإسقاطه وإقامة دولة حقة مكانه. وأقمنا على ذلك أحد عشر وجها.

1 - تفسير المنار 6 / 367.
618

وبعض الوجوه وإن كان قابلا للمناقشة ولكن يظهر من المجموع ومن تتبع آيات
الجهاد وأخباره وموارده، ومن أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن سيرة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) ولاسيما أمير المؤمنين والسبط الشهيد - عليهما السلام - أن
إقامة الحكومة الحقة وقطع جذور الفساد والجور مطابق لروح الإسلام ومذاق
الشرع، فيجب إعداد مقدماتها والإقدام عليها بقدر الوسع. ويختلف ذلك من ناحية
المقدمات، ومن ناحية كيفية العمل بحسب الزمان والمكان والظروف والامكانيات.
وأما الأخبار التي حكيناها في صدر المسألة من صحيح مسلم وغيره فإن أريد
بها ما ذكرناه من التفصيل فهو، وإلا وجب رد علمها إلى أهلها.
ولعل بعضها وبعض ما ورد من طرقنا - مما مر في الفصل الرابع من الباب الثالث -
لعلها من بقايا ملفقات مرتزقة السلاطين وحكام الجور.
فانظر إلى أمثال هذه الروايات المروية عن لسان النبي الأكرم والصحابة، وإلى
الفتاوى التي صدرت على أساسها أو على غير أساس وقد أوجبت على المسلمين
السكوت بل التسليم والإطاعة في قبال يزيد وأمثاله، الذين غلبوا على ولاية أمور
المسلمين بالسيف بلا نص ولا بيعة واستمرت سيرتهم على الظلم والاستعباد وقتل
الأخيار والتجاهر بالفسق والفجور.
فانظر وفكر فيما جرته هذه الفتاوى على المسلمين من ضعف، وانحطاط، و
تشتت، وخمود روح الثورة، وتسلط الكفار والصهاينة والطواغيت - عملاء الشرق
والغرب - عليهم وعلى بلادهم. وقد ثارت الأمم المنحطة في البلاد الغربية يوما
فيوما على الملوك الجبابرة، فتقدمت في المدنية والعلوم والصنائع، وبقيت الشعوب
المسلمة الراقية ببركة الإسلام تحت سيطرة الجبابرة الظالمين المترفين بسبب تأييد
علماء السوء، الذين باعوا آخرتهم وحريتهم بدنياهم الدنية.
وبعد ما تيقظت أمة إيران المسلمة من سباتها وثارت على عملاء الكفر فعوضا
عن تأييدها واللحاق بها هجموا عليها، فيا بعدا لعملاء الكفر وعلماء السوء المبررين
لجناياتهم ومظالمهم! اللهم فخلص المسلمين من شرورهم.
619

وليس كل ما يروى وينسب إلى النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أو إلى الأئمة أو الصحابة
بصحيح، بل يجب عرضه على الكتاب العزيز; فما خالفه زخرف وباطل. ويجب على
أهل النظر التتبع وتشخيص الغث من السمين والصحيح من السقيم.
وفي نهج البلاغة: " إن في أيدي الناس حقا وباطلا، وصدقا وكذبا، وناسخا ومنسوخا،
وعاما وخاصا، ومحكما ومتشابها، وحفظا ووهما. ولقد كذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على
عهده حتى قام خطيبا فقال: من كذب على متعمدا فليتبوء مقعده من النار. وإنما أتاك
بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس: رجل منافق مظهر للإيمان متصنع بالإسلام لا يتأثم و
لا يتحرج يكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) متعمدا. فلو علم الناس أنه منافق كاذب لم يقبلوا منه و
لم يصدقوا قوله ولكنهم قالوا: صاحب رسول الله رآه وسمع منه ولقف عنه، فيأخذون بقوله
وقد أخبرك الله عن المنافقين بما أخبرك... " (1)
وإذا كان هذا حال عصر أمير المؤمنين (عليه السلام) مع قربه من عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فكيف
بأعصار حكام الجور من الأمويين والعباسيين وسلاطين عصورهم وظهور أهل
الأهواء وتقربهم منهم كثيرا. وقد ضبط المورخون أحوال كثير من الوضاعين،
فراجع. (2)
وفي كنز العمال، عن أبي هريرة: " إذا رأيت العالم يخالط السلطان مخالطة كثيرة
فاعلم أنه لص. " (3)
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين، ولعنة الله على
أعدائهم أجمعين.
تم الجزء الأول من الكتاب،
ويتلوه إن شاء الله الجزء الثاني، وأوله الباب السادس منه.

1 - نهج البلاغة، فيض / 665; عبده 2 / 214; لح / 325، الخطبة 210.
2 - راجع كتب الرجال من الفريقين، ومن جملة كتب السنة: كتاب " الضعفاء " لابن حبان، و
" الحافل المذيل على الكامل " لابن عدي، و " ميزان الاعتدال "، و " لسان الميزان ".
3 - كنز العمال 10 / 186، الباب 2 من كتاب العلم من قسم الأقوال، الحديث 28973.
620