الكتاب: دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية
المؤلف: الشيخ المنتظري
الجزء: ٣
الوفاة: معاصر
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: محرم ١٤١١
المطبعة: القدس
الناشر: دار الفكر - قم - ايران - شارع ارم - تلفن ٢٣٦٤٦
ردمك:
ملاحظات: منشورات المركز العالمي للدراسات الإسلامية - قم - ايران - ص . ب ٤٣٩

دراسات
في
ولاية الفقيه
و
فقه الدولة الاسلامية
تعريف الكتاب 1

دراسات
في
ولاية الفقيه
و
فقه الدولة الاسلامية
الجزء الثالث
لمؤلفه المحقق:
سماحة الفقيه المجاهد آية الله العظمى المنتظري
تعريف الكتاب 3

اسم الكتاب: دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية - الجزء الثالث
المؤلف: آية الله العظمى المنتظري
طبع: مطبعة المقدس
الطبعة: الأولى
تاريخ النشر: محرم 1411 ه‍. ق
طبع منه: 4000 نسخة
مركز النشر: دار الفكر - قم - إيران - شارع ارم تلفن 23646
السعر: 220 تومان
- حقوق النشر محفوظة -
تعريف الكتاب 4

بسم الله الرحمن الرحيم
الإهداء:
إلى ولى الأمر وإمام العصر، ولى الأولياء وخاتم الأوصياء، المهدى المنتظر لإقامة القسط والعدل في العالم، -
عجل الله تعالى فرجه المبارك - أهدي هذه البضاعة المزجاة - وإن الهدايا على مقدار مهديها - والمرجو من ساحته
المقدسة أن يتفضل بالقبول، وأن يلحظ لحظا ما إلى هذا العبد المحتاج إلى لطفه ونظره الشريف.
تعريف الكتاب 5

الباب الثامن
من الكتاب
في البحث عن المنابع المالية للدولة الإسلامية
وفيه مقدمة وستة فصول
1

مقدمة
لا يخفى أن إدارة المجتمعات وتأسيس الدولة وتشكيل السلطات الثلاث والتصدي
للأمور العامة الاجتماعية في المجالات المختلفة لا تتيسر قهرا إلا بصرف أموال كثيرة
ضخمة في طريقها. وكلما اتسع نطاق الحكومة وازدادت توقعات الأمم من حكوماتها
اتسع نطاق الاحتياج إلى الأموال العامة أيضا. وعلى هذا فلابد لمن يخطط دولة حكومة
ولو في منطقة خاصة من أن يخطط لها منابع مالية تناسب المصارف اللازمة.
والتاريخ يشهد بأن من أهم ما كان يفكر فيها السلاطين ورؤساء الدول في
الأعصار البلدان المختلفة كان هو تخطيط منابع مالية وتثبيتها لتطبيق خططهم الفكرية في
المجتمعات، فهذا أمر بديهي لا يشوبه شك وترديد.
والإسلام كما مر تفصيله في أبواب هذا الكتاب من بدأ ظهوره كان دينا ودولة مشتملا
على العبادة والاقتصاد والسياسة معا.
والقرآن والسنة حاويان لبيان منابع مالية للدولة الإسلامية يرفع بها الحاجات العامة
بحسب الاعصار والقرون المتتالية:
فقد ترى آيات الكتاب العزيز أنها في أكثر الموارد التي يحث فيها على الصلاة التي
هي عمود الدين وأساسه يحث فيها أيضا على الزكاة والإنفاق في سبيل الله.
3

فمن ذلك يظهر أهمية المال لبقاء الدين والدولة مد الأعصار والقرون. هذا.
وحيث إن بيان المنابع المالية الواردة في الإسلام بنحو التفصيل في باب خاص من
هذا الكتاب ليس إلا كصب بحر في جرة، وهذا مما لا يعقل، فلا محالة نكتفي فيها ببيان
بسيط، حرصا على عدم خلو الكتاب منها. ونوصي القراء الكرام بالرجوع إلى الكتب
المفصلة المؤلفة في ذلك من الفريقين.
وقد طبع من مؤلفاتنا في هذا المجال إلى الآن مجلدان في الزكاة ومجلد في الخمس
والأنفال. ولعل الله - تعالى - يوفقنا على تتميم بحث الزكاة في المآل بحوله وقوته، إن
شاء الله تعالى.
إذا عرفت هذا فنقول: العناوين المهمة الواردة في الكتاب والسنة للمنابع المالية أمور:
الأول: الزكاة والصدقات بسعتها التي منها الصدقات المندوبة والأوقاف والمشاريع
العامة.
الثاني: الخمس بأقسامه التي منها خمس أرباح المكاسب والفوائد اليومية
بسعتها شمولها.
الثالث: غنائم الحرب التي منها الأرضون المفتوحة عنوة والسبايا.
الرابع: الفيء بما له من المعنى ومنه الخراج والجزايا.
الخامس: الأنفال التي من أهم أقسامها الأرضون والآجام والبحار والمعادن الظاهرة
والباطنة كما يأتي بيانها.
فلنتعرض إجمالا لهذه العناوين الخمسة في خمسة فصول، ثم نعقب ذلك بفصل
سادس للبحث عن ضرائب أخرى ربما يقال بأن للحكومة والدولة الحقة أن تفرضها
حسب احتياجاتها وعدم كفاية الضرائب المنصوصة. فهنا ستة فصول:
4

الفصل الأول
في الزكاة والصدقات
وفيه جهات من البحث:
الجهة الأولى:
في بيان مفهوم الزكاة والصدقة:
اعلم ان الزكاة في اللغة: النماء والطهارة، وإليهما يرجع سائر المعاني:
ففي معجم مقاييس اللغة - في لغة زكى -:
" الزاي والكاف والحرف المعتل أصل يدل على نماء وزيادة. ويقال: الطهارة.
زكاة المال، قال بعضهم: سميت بذلك لأنها مما يرجى به زكاء المال وهو زيادته نماؤه.
وقال بعضهم: سميت زكاة لأنها طهارة. قالوا: وحجة ذلك قوله - جل ثناؤه -: " خذ
من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها. " (1) والأصل في ذلك كله راجع

1 - سورة التوبة (9)، الآية 103.
5

إلى هذين المعنيين وهما النماء والطهارة. " (1)
وفي مفردات الراغب:
" أصل الزكاة: النمو الحاصل عن بركة الله - تعالى... يقال: زكا الزرع يزكوا إذا
حصل منه نمو وبركة. " (2)
أقول: ومن النماء ظاهرا ما في نهج البلاغة: " المال تنقصه النفقة، والعلم يزكو على
الإنفاق. " (3) ومن الطهارة قوله - تعالى -: " ذلكم أزكى لكم وأطهر " (4) وقوله:
" فلينظر أيها أزكى طعاما " (5) وقوله: " قد أفلح من زكاها " (6) بل وقوله: " فلا تزكوا
أنفسكم هو أعلم بمن اتقى. " (7) والتفعيل للنسبة.
والزكاة المصطلحة يمكن أخذها من كل من المعنيين، إذ بالزكاة ينمو المال وبها
يطهر المال وصاحبه، ولكن الأنسب بقوله - تعالى -: " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم
وتزكيهم بها " (8) هو المعنى الثاني. وحيث إن المقصود بها طهارة صاحب المال اعتبر
فيها قصد القربة، وهذا من ميزات اقتصاد الإسلام حيث صبغ واجباته المالية بصبغة
العبودية والقربة. هذا.
والزكاة اصطلاحا عبارة عن: " قدر مخصوص يطلب إخراجه من المال بشروط
خاصة " أو: " حق مالي يعتبر في وجوبه النصاب " أو: " صدقة متعلقة بنصاب
بالأصالة " أو غير ذلك مما قيل في تعريفها.

1 - معجم مقاييس اللغة 3 / 17.
2 - مفردات الراغب / 218.
3 - نهج البلاغة، فيض / 1155; عبده 3 / 187; لح / 496; الحكمة 147.
4 - سورة البقرة (2)، الآية 232.
5 - سورة الكهف (18)، الآية 19.
6 - سورة الشمس (91)، الآية 9.
7 - سورة أنجم (53)، الآية 32.
8 - سورة التوبة (9)، الآية 103.
6

وأما الصدقة فقال الراغب في المفردات:
" والصدقة ما يخرجه الإنسان من ماله على وجه القربة كالزكاة، لكن الصدقة في
الأصل يقال للمتطوع به والزكاة للواجب، وقد يسمى الواجب صدقة إذا تحرى
صاحبها الصدق في فعله، قال: " خذ من أموالهم صدقة " وقال: إنما الصدقات
للفقراء " (1).
وفي مجمع البيان:
" الفرق بين الصدقة والزكاة أن الزكاة لا تكون إلا فرضا والصدقة قد تكون
فرضا قد تكون نفلا. " (2)
أقول: يمكن نقض ما ذكره بالزكوات المستحبة كزكاة مال التجارة وزكاة
الخيل نحوهما وقد أطلقت في القرآن أيضا على غير الواجب بل غير المقدر أيضا كما
في قوله - تعالى -: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة يؤتون
الزكاة وهم راكعون. " (3) حيث فسرت في أخبار الفريقين بالخاتم الذي تصدق به
أمير المؤمنين (عليه السلام) في صلاته.
وفي الأحكام السلطانية للماوردي:
" الصدقة زكاة، والزكاة صدقة، يفترق الاسم ويتفق المسمى، ولا يجب على
المسلم في ماله حق سواها، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ليس في المال حق سوى
الزكاة. " (4)
أقول: كأن الصدقة مأخوذة من الصدق وقد اشرب في مفهومها الشفقة والرحمة
على المعطى له كما يشهد بذلك قول إخوة يوسف له: " تصدق علينا " (5)، سواء كان

1 - المفردات / 286.
2 - مجمع البيان 1 / 384، (الجزء 2).
3 - سورة المائدة (5)، الآية 55.
4 - الأحكام السلطانية / 113.
5 - سورة يوسف (12)، الآية 88.
7

لها تقدير خاص أم لا، وسواء كانت فرضا أو نفلا. وبهذه المناسبة أيضا لم تحل
لبني هاشم الذين هم من بيت الإمارة على المسلمين وشرع لهم الخمس بعنوان حق
الإمارة كما سيأتي بيانه.
وأما الزكاة فهي حق مالي مقدر في مال خاص أو على فرد خاص شرع لتطهير
المال أو صاحبه فرضا كان أو نفلا، فتشمل زكاة المال والفطرة والزكوات
الواجبة المستحبة، بل لعلها تشمل الخمس المصطلح أيضا، كما يساعد ذلك ملاحظة
مفهومها بحسب اللغة، إذ لا فرق في حصول البركة والطهارة بين الزكاة المعهودة وبين
الخمس، وهو المناسب أيضا لذكرها رديفا للصلاة في آيات كثيرة من الكتاب العزيز.
ولو سلم كونها قسيما للخمس المصطلح فالظاهر أنها ذكرت في الآيات الشريفة
من باب المثال، فتكون كناية عن كل حق مالي شرعه الله - تعالى -، فيراد في الآيات
الشريفة الحث على الواجبات البدنية والمالية معا وأن المؤمن من تعبد بكلتيهما،
فتدبر.
وكيف كان فلو جعلنا الزكاة قسيما للخمس المصطلح كانت الصدقة أعم منها
مطلقا، ولو جعلناها أعم منه كانت النسبة بين الصدقة والزكاة عموما من وجه كما
لا يخفى.
وليست الزكاة من مخترعات الإسلام بل كانت ثابتة في الشرائع السالفة أيضا مثل
الصلاة; فالقرآن يحكي عن عيسى بن مريم أنه قل: " وأوصاني بالصلاة والزكاة
ما دمت حيا. " (1) وعن إسماعيل صادق الوعد: " وكان يأمر أهله بالصلاة الزكاة. " (2)
ويذكر الأنبياء السالفين فيقول: " وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا، وأوحينا إليهم فعل
الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة. " (3)
وهذا أيضا مما يؤيد ما لو جنا إليه من كون المراد بالزكاة كل حق مالي مقدر،

1 - سورة مريم (19)، الآية 31.
2 سورة مريم (19)، الآية 55.
3 - سورة الأنبياء (21)، الآية 73.
8

ولا محالة يختلف مقدارا وموردا بحسب الشرائع والأصقاع والأزمنة، فتدبر. هذا.
وقد عبر عما هو قسيم الخمس المصطلح في روايات الفريقين بلفظ الصدقة على
وفق القرآن، حيث قال - تعالى -: " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم
بها. " (1) قال: " إنما الصدقات للفقراء والمساكين. الآية. " وقال: " ومنهم من يلمزك في
الصدقات. " (2) ووقع التعبير عما لا يحل لبنى هاشم أيضا في روايات الفريقين بلفظ
الصدقة لا الزكاة، فراجع الباب التاسع والعشرين من أبواب المستحقين للزكاة من
الوسائل وما بعده من الأبواب. (3)
نعم، في خبر إسماعيل بن الفضل الهاشمي، قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الصدقة
التي حرمت على بني هاشم ما هي؟ فقال: " هي الزكاة " (4)
ولكن لا يخفى أن المركوز في ذهن السائل في هذه الرواية أيضا كون المحرم هو
الصدقة، والجواب بالزكاة يكون في كلام الإمام (عليه السلام) ويمكن أن يقال: إن الزكاة في
كلامه (عليه السلام) إشارة إلى الصدقة الواجبة المقدرة في قبال الصدقات المستحبة، حيث إنها
تحل لهم على ما في بعض الأخبار.
ونظير هذه الرواية رواية زيد الشحام، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " سألته عن
الصدقة التي حرمت عليهم؟ فقال: هي الزكاة المفروضة، ولم يحرم علينا صدقة بعضنا
على بعض. " (5) هذا.
ومسلم في صحيحه ذكر ثمان روايات في تحريم الصدقة على
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على آله، والمذكور في جميعها لفظ الصدقة أيضا لا الزكاة. نعم،
المذكور في عنوان الباب هو لفظ الزكاة ولعله اشتباه منه، فراجع صحيح مسلم. (6)

1 - سورة التوبة (9)، الآية 103.
2 - سورة التوبة (9)، الآية 60 و 58.
3 - الوسائل 6 / 185 وما بعدها.
4 - الوسائل 6 / 190، الباب 32 من أبواب المستحقين للزكاة، الحديث 5.
5 - الوسائل 6 / 190، الباب 32 من أبواب المستحقين للزكاة، الحديث 4.
6 - صحيح مسلم 2 / 751، كتاب الزكاة، الباب 50.
9

الجهة الثانية:
في بيان ما فيه الزكاة إجمالا:
وأما ما فيه الزكاة فروايات الفريقين وفتاواهما مختلفة في هذا المجال، وقد
تعرضنا للمسألة تفصيلا في الجزء الأول من زكاتنا المطبوع (1)، فلنذكر هنا
نماذج نحيل التفصيل والتحقيق في المسألة إلى ذلك الكتاب:
1 - قال السيد المرتضى " ره " في الانتصار:
" ومما ظن انفراد الإمامية به القول بأن الزكاة لا تجب إلا في تسعة أصناف:
الدنانير والدراهم، والحنطة والشعير والتمر والزبيب، والإبل والبقر والغنم، ولا زكاة
فيما عدا ذلك، وباقي الفقهاء يخالفونهم في ذلك. وحكي عن ابن أبي ليلى
والثوري ابن حي انه ليس في شئ من المزروع زكاة إلا الحنطة والشعير
والتمر الزبيب، وهذه موافقة للإمامية. وأبو حنيفة وزفر يوجبون العشر في جميع
ما أنبتت الأرض إلا الحطب والقصب والحشيش. وأبو يوسف ومحمد يقولان:
لا يجب العشر إلا فيما له ثمرة باقية ولا شيء في الخضروات. وقال مالك: الحبوب
كلها فيها الزكاة وفي الزيتون. وقال الشافعي: إنما يجب فيما يبس ويقتات ويدخر
مأكولا، ولا شيء في الزيتون. والذي يدل على صحة مذهبنا مضافا إلى الاجماع أن
الأصل براءة الذمة من الزكاة وإنما يرجع إلى الأدلة الشرعية في وجوب ما يجب منها،
ولا خلاف فيما أوجبت الإمامية الزكاة فيه، وما عداه فلم يقم دليل قاطع على وجوب
الزكاة فيه فهو باق على الأصل وهو قوله - تعالى - ولا يسألكم أموالكم. " (2)
2 - وقال العلامة في التذكرة:

1 - كتاب الزكاة 1 / 147 وما بعدها.
2 - الجوامع الفقهية / 152 (= طبعة أخرى / 110).
10

" قد أجمع المسلمون كافة على إيجاب الزكاة في تسعة أشياء: الإبل والبقر والغنم،
والذهب والفضة، والحنطة والشعير والتمر والزبيب، واختلفوا فيما زاد على ذلك. " (1)
3 - وقال في المختلف:
" قال ابن الجنيد: تؤخذ الزكاة في أرض العشر من كل ما دخله القفيز من
حنطة شعير وسمسم وأرز ودخن وذرة وعدس وسلت وسائر الحبوب ومن
التمر الزبيب. والحق الاستحباب فيما عدا الأصناف الأربعة. " (2)
4 - وفيه أيضا:
" اختلف علماؤنا في مال التجارة على قولين فالأكثر قالوا بالاستحباب وآخرون
قالوا بالوجوب. " (3)
5 - وفي الفقه على المذاهب الأربعة:
" الأنواع التي تجب فيها الزكاة خمسة أشياء: الأول: النعم وهي الإبل والبقر الغنم...
ولا زكاة في غير ما بيناه من الحيوان فلا زكاة في الخيل والبغال والحمير والفهد الكلب
المعلم ونحوها إلا إذا كانت للتجارة... الثاني: الذهب والفضة ولو غير مضروبين.
الثالث: عروض التجارة. الرابع: المعدن والركاز. الخامس: الزروع والثمار ولا زكاة
فيما عدا هذه الأنواع الخمسة. " (4)
6 - وفيه أيضا:
" جمهور الفقهاء يرون وجوب الزكاة في الأوراق المالية لأنها حلت محل الذهب
والفضة في التعامل، ويمكن صرفها بالفضة بدون عسر، فليس من المعقول أن يكون
لدى الناس ثروة من الأوراق المالية ويمكنهم صرف نصاب الزكاة منها بالفضة
ولا يخرجون منها زكاة، ولذا أجمع فقهاء ثلاثة من الأئمة على وجوب الزكاة فيها،
وخالف الحنابلة فقط. " (5)

1 - التذكرة 1 / 205.
2 - المختلف / 180.
3 - المختلف / 179.
4 - الفقه على المذاهب الأربعة 1 / 596.
5 - الفقه على المذاهب الأربعة 1 / 605.
11

أقول: نحن وجهنا زكاة الأوراق المالية في أول زكاة النقدين من كتابنا في
الزكاة (1) بوجوه ثلاثة:
الأول: أن الأوراق المالية لا موضوعية لها ولا قيمة، بل هي حوالة على النقدين
فالمالك لها في الحقيقة مالك لهما.
الثاني: إلغاء الخصوصية بتقريب أن الذهب والفضة المسكوكتين إنما وجبت فيهما
الزكاة بما أنهما نقدان رائجان وبهما تقوم سائر الأشياء وتعتبر ماليتها، فالموضوع في
الحقيقة هو النقد الرائج الذي تقوم به الأشياء ويصير واسطة في المبادلات، وربما
نلتزم بذلك في باب المضاربة أيضا بناء على ما ادعوه من الإجماع على عدم صحتها
في غير النقدين.
الثالث: العمومات والإطلاقات التي يستفاد منها ثبوت الزكاة في جميع الأموال
كقوله - تعالى -: " خذ من أموالهم صدقة. " (2) وقوله: " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من
طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ". (3) والتخصيص بالتسعة كان في
تلك الأعصار التي راج فيها النقدان وكانت التسعة عمدة ثروة العرب. هذا.
ويمكن أن يناقش الوجه الأول، بأن الأوراق المالية في أعصارنا صارت لها
موضوعية وقيمة بحسب الاعتبار العقلائي وليست حوالة على النقدين وإلا لكانا
محفوظين للمحتال فيما إذا تلفت الأوراق أو ضاعت، ولبطلت المعاملات على
الأوراق لمن لا يعلم ما بإزائها من النقدين، والالتزام بهما مشكل.
والوجه الثاني بأنه قياس مستنبط العلة ونحن لا نقول به.

1 - كتاب الزكاة 1 / 280 وما بعدها.
2 - سورة التوبة (9)، الآية 103.
3 - سورة البقرة (2)، الآية 267.
12

والوجه الثالث بأنها خصصت بالروايات الخاصة، فتدبر.
الروايات الواردة فيما فيه الزكاة:
وأما أخبار ما فيه الزكاة فهي كثيرة من طرق الفريقين وتنقسم إلى أربع طوائف
على ما فصلناه في كتاب الزكاة (1).
الطائفة الأولى: ما تضمنت أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وضع الزكاة على تسعة أشياء وعفا
عما سواها.
ومفاد هذه الأخبار نقل واقعة تاريخية فقط وإن كان فيها إشعار ببيان الحكم أيضا،
ولكن لا تعارض ما دلت على ثبوتها فيما عدا التسعة أيضا.
1 - ومن هذه الطائفة ما رواه الكليني بسند صحيح، عن زرارة ومحمد بن مسلم أبي
بصير وبريد بن معاوية العجلي والفضيل بن يسار كلهم عن أبي جعفر وأبي
عبد الله (عليه السلام)، قالا: " فرض الله - عز وجل - الزكاة مع الصلاة في الأموال، وسنها
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في تسعة أشياء، وعفا (رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)) عما سواهن: في
الذهب الفضة، والإبل والبقر والغنم، والحنطة والشعير والتمر والزبيب، وعفا
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عما سوى ذلك. " (2)
2 - ومنها أيضا ما رواه بسند لا بأس به، عن أبي بكر الحضرمي، عن أبي
عبد الله (عليه السلام) قال: " وضع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الزكاة على تسعة أشياء: الحنطة والشعير التمر
والزبيب، والذهب والفضة، والإبل والبقر والغنم، وعفا عما سوى ذلك. " قال يونس:
معنى قوله: إن الزكاة في تسعة أشياء وعفا عما سوى ذلك، إنما كان ذلك في أول النبوة
كما كانت الصلاة ركعتين، ثم زاد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيها سبع ركعات، وكذلك

1 - كتاب الزكاة 1 / 150 وما بعدها.
2 - الوسائل 6 / 34، الباب 8 من أبواب ما تجب فيه الزكاة، الحديث 4.
13

الزكاة وضعها وسنها في أول نبوته على تسعة أشياء ثم وضعها على جميع
الحبوب. " (1)
الطائفة الثانية: ما اشتملت على بيان هذه الواقعة التاريخية مع التصريح أو الظهور
في كون الحكم الفعلي في عصر الإمام الحاكي لها أيضا ذلك وأنه حكم أبدي يجب
الأخذ به في جميع الأعصار وإن كان حكما سلطانيا منه (صلى الله عليه وآله وسلم).
1 - ومن هذه الطائفة خبر محمد الطيار، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عما تجب فيه
الزكاة، فقال: " في تسعة أشياء: الذهب والفضة، والحنطة والشعير والتمر
والزبيب، الإبل والبقر والغنم، وعفا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عما سوى ذلك. " فقلت: أصلحك
الله فإن عندنا حبا كثيرا، قال: فقال: وما هو؟ قلت: الأرز، قال: نعم ما أكثره. فقلت:
أفيه الزكاة؟ فزبرني، قال: ثم قال: " أقول لك: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عفا عما سوى
ذلك تقول: إن عندنا حبا كثيرا أفيه الزكاة؟ " (2)
2 - ومنها أيضا خبر جميل بن دراج، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: " وضع
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الزكاة على تسعة أشياء وعفا عما سوى ذلك: على الفضة
والذهب، الحنطة والشعير والتمر والزبيب، والإبل والبقر والغنم. " فقال له الطيار وأنا
حاضر: إن عندنا حبا كثيرا يقال له: الأرز، فقال له أبو عبد الله: " وعندنا حب كثير. "
قال: فعليه شيء؟ قال: " لا، قد أعلمتك أن رسول الله عفا عما سوى ذلك. " (3)
وقوله (عليه السلام) في خبر الطيار: " أقول لك إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عفا... " يحتمل فيه أمران:
الأول وهو الأظهر: أن يريد أنه بعد عفو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عن غير التسعة لا وجه
لسؤالك عن ثبوت الزكاة في الأرز.

1 - الكافي 3 / 509، كتاب الزكاة، باب ما وضع رسول الله...، الحديث 2; والوسائل 6 / 34، الباب
8 من أبواب ما تجب فيه الزكاة، الحديث 5.
2 - الوسائل 6 / 36 الباب 8 من أبواب ما تجب فيه الزكاة، الحديث 12.
3 - الوسائل 6 / 36، الباب 8 من أبواب ما تجب فيه الزكاة، الحديث 13.
14

الثاني: أن يريد أن ما صدر عنى هو نقل فعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعفوه عن غير التسعة هذا
لا ينافي ثبوت الزكاة في غيرها بعد ذلك فيكون سؤالك بلا وجه، ولكن هذا الاحتمال
خلاف الظاهر، مضافا إلى أن ظاهر السؤال في صدر الخبر هو السؤال عن الحكم
الفعلي لا عما صنعه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فتأمل.
3 - ومنها أيضا مرسلة القماط، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه سئل عن الزكاة
فقال: " وضع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الزكاة على تسعة وعفا عما سوى ذلك: الحنطة والشعير
والتمر والزبيب، والذهب والفضة، والبقر والغنم والإبل. " فقال السائل: والذرة،
فغضب (عليه السلام) ثم قال: " كان والله على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) السماسم والذرة
والدخن جميع ذلك. " فقال: إنهم يقولون: إنه لم يكن ذلك على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما
وضع على تسعة لما لم يكن بحضرته غير ذلك، فغضب وقال: " كذبوا. فهل يكون العفو
إلا عن شيء قد كان؟ ولا والله ما أعرف شيئا على الزكاة غير هذا، فمن شاء
فليؤمن من شاء فليكفر. " (1)
والحديث مرسل، مضافا إلى أن عدم ذكره في الكتب الأربعة أيضا ربما يوهنه.
وظاهر هاتين الطائفتين سعة موضوع الزكاة بحسب الجعل الأولى من قبل الله -
تعالى - ولكن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بما أنه كان سلطانا وحاكما على المسلمين وضعها على
تسعة وعفا عما سواها، وظاهر الطائفة الثانية أن حكمه السلطاني مستمر دائم لا أنه
مخصوص بعصره (صلى الله عليه وآله وسلم). والتعبير بعفو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وقع في أحاديث السنة أيضا
بالنسبة إلى بعض الأشياء: ففي سنن البيهقي بسنده، عن معاذ بن جبل أن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: فيما سقت السماء والبعل والسيل العشر، وفيما سقي بالنضح
نصف العشر. " وإنما يكون ذلك في التمر والحنطة والحبوب، فأما القثاء والبطيخ الرمان
والقضب فقد عفا عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). (2) إلى غير ذلك من الأخبار فراجع.

1 - الوسائل 6 / 33، الباب 8 من أبواب ما تجب فيه الزكاة، الحديث 3.
2 - سنن البيهقي 4 / 129، كتاب الزكاة، باب الصدقة فيما يزرعه الآدميون.
15

الطائفة الثالثة: ما دلت بالصراحة على ثبوت الزكاة في غير التسعة أيضا من الذرة
والأرز وسائر الحبوب:
1 - فمنها ما رواه الكليني بسند صحيح، عن حريز، عن محمد بن مسلم، قال:
سألته (عليه السلام) عن الحبوب ما يزكى منها؟ قال: " البر والشعير والذرة والدخن
والأرز السلت والعدس والسمسم، كل هذه يزكى وأشباهه. " ورواه الشيخ أيضا عن
الكليني. (1)
2 - ثم قال الكليني: حريز، عن زرارة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) مثله وقال: " كل ما كيل
بالصاع فبلغ الأوساق فعليه الزكاة. وقال: جعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الصدقة في كل شيء
أنبتت الأرض إلا ما كان في الخضر والبقول وكل شيء يفسد من يومه. " (2)
والظاهر في أمثال هذه الموارد من الكافي كون السند معلقا على ما قبله، فالرواية
صحيحة مسندة بالسند السابق عليها.
3 - ما رواه الكليني بسنده، عن محمد بن إسماعيل، قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام) إن
لنا رطبة وأرزا، فما الذي علينا فيها؟ فقال: " أما الرطبة فليس عليك فيها شيء، وأما
الأرز فما سقت السماء العشر وما سقي بالدلو فنصف العشر من كل ما كلت بالصاع، أو
قال: وكيل بالمكيال. " (3)
4 - ما رواه الكليني أيضا بسند فيه إرسال، عن أبان، عن أبي مريم، عن أبي
عبد الله (عليه السلام)، " قال: سألته عن الحرث ما يزكى منه؟ فقال: " البر والشعير والذرة والأرز
والسلت والعدس، كل هذا مما يزكى. وقال: كل ما كيل بالصاع فبلغ الأوساق فعليه
الزكاة. " (4)

1 - الكافي 3 / 510، كتاب الزكاة، باب ما يزكى من الحبوب، الحديث 1; والوسائل 6 / 40، الباب
9 من أبواب ما تجب فيه الزكاة، الحديث 4.
2 - الوسائل 6 / 40، الباب 9 من أبواب ما تجب فيه الزكاة، الحديث 6.
3 - الوسائل 6 / 39، الباب 9 من أبواب ما تجب فيه الزكاة، الحديث 2.
4 - الوسائل 6 / 39، الباب 9 من أبواب ما تجب فيه الزكاة، الحديث 3.
16

5 - ما رواه الشيخ بسند موثوق به، عن زرارة، قال: قلت لأبى عبد الله (عليه السلام): في
الذرة شيء؟ فقال لي: " الذرة والعدس والسلت والحبوب فيها مثل ما في
الحنطة الشعير. وكل ما كيل بالصاع فبلغ الأوساق التي يجب فيها الزكاة فعليه فيه
الزكاة. " (1)
6 - ما رواه أيضا بسند موثوق به، عن أبي بصير، قال: قلت لأبى عبد الله (عليه السلام): هل
في الأرز شيء؟ فقال: نعم. ثم قال: " إن المدينة لم تكن يومئذ أرض أرز فيقال
فيه، لكنه قد جعل فيه، وكيف لا يكون فيه وعامة خرج العراق منه. " (2)
وظاهر الروايات الوجوب، ويشهد له أيضا عد الذرة والأرز وأمثالها في عداد
البر والشعير الواجب فيهما الزكاة. والحمل على التقية ينافيه تعرض الإمام (عليه السلام) في
آخر بعض الروايات لبيان الميزان الكلي لما فيه الزكاة، إذ التقية ضرورة والضرورات
تتقدر بقدرها والسائل سأل في بعضها عن الأرز أو عن الذرة مثلا; فأي داع دعاه (عليه السلام)
إلى أن يذكر الزكاة في كل ما كيل إذا فرض كون الحكم على خلاف الواقع أو ينسب
إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمرا مخالفا للواقع، والضرورة كانت ترتفع بقوله: " نعم " مثلا.
اللهم إلا أن يقال: إن التقية قد تكون للإمام وقد تكون للسائل وقد تكون لسائر
الشيعة، ولعلها تكون هنا من قبيل الثالث، حيث إن الشيعة كانت مبتلاة بحكام
الجورهم كانوا يطلبون الزكاة من كل ما كيل، فأراد الإمام (عليه السلام) أداءهم للزكاة إليهم عدم
مقاومتهم في قبالهم حفظا لهم من تعرضاتهم وظلاماتهم. هذا.
7 - وفي سنن البيهقي بسنده، عن مجاهد، قال: " لم تكن الصدقة في عهد
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا في خمسة أشياء: الحنطة والشعير والتمر والزبيب
والذرة " (3) الحصر إضافي لا محالة، أي فيما أنبتت الأرض.

1 - الوسائل 6 / 41، الباب 9 من أبواب ما تجب فيه الزكاة، الحديث 10.
2 - الوسائل 6 / 41، الباب 9 من أبواب ما تجب فيه الزكاة، الحديث 11.
3 - سنن البيهقي 4 / 129، كتاب الزكاة، باب الصدقة فيما يزرعه الآدميون.
17

8 - وفيه أيضا بسنده، عن عاصم بن ضمرة، عن علي (عليه السلام)، قال: ليس في
الخضر البقول صدقة. " (1) وظاهره الثبوت في غيرهما.
9 - وفيه أيضا بسنده، عن ابن عمر، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: " العسل في كل عشرة
أزقاق زق. " (2)
10 - وفيه أيضا بسنده، عن أبي هريرة، قال: كتب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أهل اليمن:
" أن يؤخذ من العسل العشر. " (3)
11 - وفيه أيضا بسنده، عن أبي ذر، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " في الإبل صدقتها
وفي الغنم صدقتها وفي البز صدقته. " (4)
12 - نعم، فيه أيضا بسنده، عن أبي موسى ومعاذ بن جبل أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعثهما
إلى اليمن فأمرهما أن يعلما الناس أمر دينهم وقال: " لا تأخذا في الصدقة إلا من هذه
الأصناف الأربعة: الشعير والحنطة والزبيب والتمر. " (5)
13 - وفيه أيضا بسنده، عن أبي موسى الأشعري أنه لما أتى اليمن لم يأخذ الصدقة
إلا من الحنطة والشعير والتمر والزبيب. (6)
14 - وفيه أيضا بسنده، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي (عليه السلام)، قال: " ليس في
العسل زكاة. " (7) إلى غير ذلك من الأخبار. هذا.

1 - سنن البيهقي 4 / 130، كتاب الزكاة، باب الصدقة فيما يزرعه الآدميون.
2 - سنن البيهقي 4 / 126، كتاب الزكاة، باب ما ورد في العسل.
3 - سنن البيهقي 4 / 126، كتاب الزكاة، باب ما ورد في العسل.
4 - سنن البيهقي 4 / 147، كتاب الزكاة باب زكاة التجارة.
5 - سنن البيهقي 4 / 125، كتاب الزكاة باب لا تؤخذ صدقة شيء من الشجر غير النخل والعنب.
6 - سنن البيهقي 4 / 125، كتاب الزكاة باب لا تؤخذ صدقة شيء من الشجر غير النخل والعنب.
7 - سنن البيهقي 4 / 128، كتاب الزكاة، باب ما ورد في العسل.
18

وهنا أخبار مستفيضة وردت من طرقنا يستفاد منها ثبوت الزكاة في مال التجارة
وظاهرها الوجوب أيضا، كما وردت أخبار تدل على عدم الوجوب فيه، فراجع
الوسائل. (1) وقد أشبعنا الكلام في زكاة مال التجارة في المجلد الثاني من كتابنا في
الزكاة، فراجع (2).
الطائفة الرابعة من أخبار الباب: ما اشتملت على مضمون الطائفتين: الثانية والثالثة
المتعارضتين، بحيث يستفاد منها صدور كلتا الطائفتين وعدم كذب إحديهما، وهي
ما رواه الكليني بسند صحيح، عن علي بن مهزيار، قال: قرأت في كتاب عبد الله بن
محمد إلى أبي الحسن (عليه السلام): جعلت فداك روي عن أبي عبد الله (عليه السلام): أنه قال: " وضع
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الزكاة على تسعة أشياء: الحنطة والشعير والتمر والزبيب،
والذهب الفضة، والغنم والبقر والإبل، وعفا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عما سوى ذلك. فقال له
القائل: عندنا شئ كثير يكون أضعاف ذلك، فقال: وما هو؟ فقال له: الأرز، فقال أبو
عبد الله (عليه السلام): أقول لك: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وضع الزكاة على تسعة أشياء وعفا عما
سوى ذلك وتقول: عندنا أرز وعندنا ذرة وقد كانت الذرة على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
فوقع (عليه السلام): كذلك هو. والزكاة على كل ما كيل بصاع. "
وكتب عبد الله: وروى غير هذا الرجل عن أبي عبد الله (عليه السلام): أنه سأله عن الحبوب،
فقال: وما هي؟ فقال: السمسم والأرز والدخن، وكل هذا غلة كالحنطة والشعير، فقال
أبو عبد الله (عليه السلام): " في الحبوب كلها زكاة. "
وروى أيضا عن أبي عبد الله (عليه السلام): أنه قال: " كل ما دخل القفيز فهو يجري مجرى
الحنطة والشعير والتمر والزبيب. " قال: فأخبرني - جعلت فداك - هل على هذا
الأرز ما أشبهه من الحبوب: الحمص والعدس زكاة؟ فوقع (عليه السلام): " صدقوا، الزكاة في كل
شيء كيل. " (3)

1 - الوسائل 6 / 45 و 48، الباب 13 و 14 من أبواب ما تجب فيه الزكاة.
2 - كتاب الزكاة 2 / 181 وما بعدها.
3 - الكافي 3 / 510 و 511، كتاب الزكاة، باب ما يزكى من الحبوب، الحديث 3 و 4; والوسائل
6 / 39، الباب 9 من أبواب ما تجب فيه الزكاة، الحديث 1.
19

فهذه أربع طوائف من الأخبار الواردة في الباب، وقد تعرضنا لها في المجلد الأول
من كتاب الزكاة، فراجع (1).
ثم تعرضنا لوجوه الجمع بينها:
الوجه الأول: ما مر في كلام يونس من أن العفو عن غير التسعة كان في أول النبوة.
وفيه أولا: أن الأمر بأخذ الزكاة لم يكن في أول النبوة، حيث إن قوله - تعالى -
" خذ من أموالهم صدقة " (2) في سورة التوبة، وهي قد نزلت في أواخر النبوة.
وفي صحيحة عبد الله بن سنان، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): " لما نزلت آية الزكاة:
" خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها " في شهر رمضان فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
مناديه، فنادى في الناس: إن الله - تبارك وتعالى - قد فرض عليكم الزكاة كما فرض
عليكم الصلاة، ففرض الله عليكم من الذهب والفضة، والإبل والبقر والغنم، ومن
الحنطة والشعير والتمر والزبيب، ونادى فيهم بذلك في شهر رمضان، وعفا لهم عما
سوى ذلك. الحديث. " (3)
وثانيا: أن كلامه لا يفيد في الجمع بين جميع الأخبار، إذ المستفاد من أخبار
الطائفة الثانية حصر الزكاة في التسعة بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا فضلا عن عصره.
الوجه الثاني: حمل ما دل على الزكاة في غير التسعة على الاستحباب، اختاره

1 - كتاب الزكاة 1 / 150 وما بعدها.
2 - سورة التوبة (9)، الآية 103.
3 - الوسائل 6 / 32، الباب 8 من أبواب ما تجب فيه الزكاة، الحديث 1.
20

المفيد والشيخ ومن تبعهما:
ففي المقنعة ما حاصله:
" ويزكى سائر الحبوب... سنة مؤكدة دون فريضة واجبة، وذلك أنه قد ورد في
زكاة سائر الحبوب آثار عن الصادقين (عليه السلام) مع ما ورد في حصرها في التسعة، وقد ثبت
أن أخبارهم لا تتناقض فلم يكن لنا طريق إلى الجمع بينها إلا إثبات الفرض فيما
أجمعوا على وجوبه فيه، وحمل ما اختلفوا فيه مع عدم ورود التأكيد في الأمر به على
السنة المؤكدة. " (1)
وفي الاستبصار:
" وما يجري مجرى هذه الأخبار التي تتضمن وجوب الزكاة في كل ما يكال أو
يوزن فالوجه فيها أن نحملها على ضرب من الاستحباب والندب دون
الفرض الإيجاب لئلا تتناقض الأخبار، ولأنا قد قدمنا في أكثر الأخبار ان
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عفا عما سوى ذلك، ولو كانت هذه الأشياء تجب فيها الزكاة لما كانت
معفوا عنها. " (2)
أقول: وفيه - مضافا إلى أن كثيرا من الأخبار مما يأبى هذا الحمل - أن الجمع بين
الدليلين يجب أن يكون مما يقبله العرف والوجدان كما في حمل المطلق على
المقيد تخصيص العام بالخاص ونحوهما، وأما الجمع التبرعي بين الدليلين بإعمال
الدقة العقلية فاعتباره بحيث يصير أساسا للافتاء ومصححا للفتوى بالاستحباب محل
إشكال، إذ الاستحباب كسائر الاحكام يحتاج إلى دليل شرعي وليس في أخبار
الباب اسم منه، وليس ينسبق إلى الذهن من أخبار الباب.
الوجه الثالث: حمل ما دل على الزكاة في غير التسعة على التقية، ذكره السيد
المرتضى في الانتصار، وأصر عليه صاحب الحدائق، وقر به المحقق الهمداني في
مصباح الفقيه. ولكن الالتزام بذلك مشكل ولا سيما في كثير من هذه الأخبار،

1 - المقنعة / 40.
2 - الاستبصار 2 / 4.
21

فراجع.
قال في الانتصار بعد ما ادعى إجماع الإمامية على أن الزكاة لا تجب إلا في تسعة،
وقد مر بعض كلامه، قال ما ملخصه:
" فإن قيل: كيف تدعون إجماع الإمامية، وابن الجنيد يخالف في ذلك ويذهب إلى
أن الزكاة واجبة في جميع الحبوب وروى في ذلك أخبار كثيرة عن أئمتنا وذكر أن
يونس كان يذهب إلى ذلك.
قلنا: لا اعتبار بشذوذ ابن الجنيد ولا يونس وقد تقدم إجماع الإمامية وتأخر عن
ابن الجنيد ويونس. والأخبار التي تعلق ابن الجنيد بها معارضة بأظهر وأكثر وأقوى
منها ويمكن حملها بعد ذلك على أنها خرجت مخرج التقية فإن الأكثر من مخالفي
الإمامية يذهبون إلى أن الزكاة واجبة في الأصناف كلها. " (1)
وقال في الحدائق ما ملخصه ومحصله:
" والأصحاب قد جمعوا بين الأخبار بحمل هذه الأخبار الأخيرة على الاستحباب
كما هي قاعدتهم وعادتهم في جميع الأبواب. والأظهر عندي حمل هذه الأخبار على
التقية التي هي في اختلاف الأحكام الشرعية أصل كل بلية، فإن القول بوجوب الزكاة
في هذه الأشياء مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك وأبي يوسف محمد كما نقله في
المنتهي.
ويدل على ذلك ما رواه الصدوق عن أبي سعيد القماط، عمن ذكره، عن أبي
عبد الله (عليه السلام): أنه سئل عن الزكاة فقال: " وضع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الزكاة على تسعة وعفا
عما سوى ذلك: الحنطة والشعير والتمر والزبيب، والذهب والفضة، والبقر
والغنم الإبل. " فقال السائل: والذرة؟ فغضب (عليه السلام) ثم قال: " كان والله على عهد
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) السماسم والذرة والدخن وجميع ذلك. " فقال: إنهم يقولون: إنه لم
يكن ذلك على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإنما وضع على التسعة لما لم يكن بحضرته غير
ذلك؟ فغضب وقال: " كذبوا. فهل يكون العفو إلا عن شيء قد كان، فلا والله

1 - الجوامع الفقهية / 153 (= طبعة أخرى / 111).
22

لا أعرف شيئا عليه الزكاة غير هذا، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. " (1)
ومما يستأنس به لذلك صحيحة علي بن مهزيار المتقدمة، حيث إنه أقر السائل
على ما نقله عن أبى عبد الله (عليه السلام) من تخصيص الوجوب بالتسعة والعفو عما
سواها إنكاره على السائل لما راجعه في الأرز، ومع هذه قال له: الزكاة في كل ما كيل
بالصاع، فلو لم يحمل كلامه على التقية للزم التناقض بين الكلامين، ولو كان
الاستحباب مرادا لما خفي على أصحاب الأئمة المعاصرين لهم ولما احتاجوا إلى
عرض هذه الأخبار على الإمام (عليه السلام)... " (2)
وفي مصباح الفقيه بعد الإشارة إلى الوجوه الثلاثة للجمع قال ما محصله:
" وملخص الكلام أن الجمع بين الخبرين المتعارضين بحمل أحدهما على
الاستحباب وإن كان في حد ذاته أقرب من الحمل على التقية الذي هو في الحقيقة
بحكم الطرح، ولكنه في غير مثل المقام الذي يكون احتمال التقية فيه أقوى، فإن
الحمل على التقية حينئذ أقرب إلى الواقع من الحمل على الاستحباب... فالذي ينبغي
أن يقال: إن الأخبار المثبتة للزكاة في كل ما يكال ليست جميعها على نسق واحد، بل
بعضها يعد في العرف معارضا للروايات الحاصرة للزكاة في التسعة، فهذا مما يتعين
حمله على التقية مثل قوله (عليه السلام) في صحيحة زرارة: " وجعل رسول الله الصدقة في كل
شيء أنبتت الأرض إلا الخضر والبقول "، فإنه ينافي التصريح بأن رسول الله لم يضع
الزكاة على غير التسعة بل عفا عنها، وبعضها ليس كذلك فإنه قد يوجد فيها ما لا يراه
العرف مناقضا لتلك الأخبار بل يجعل تلك الأخبار قرينة على حمل هذا البعض على
مطلق الثبوت غير المنافي للاستحباب... فالإنصاف أن حمل الأخبار المثبتة للزكاة
في سائر الأجناس بأسرها على التقية أشبه. اللهم إلا أن يقال: إن رجحان الصدقة
بالذات وإمكان إرادة استحبابها بعنوان الزكاة من هذه الأخبار ولو على سبيل التورية
مع اعتضاده بفهم الأصحاب وفتاويهم كاف في

1 - الوسائل 6 / 3، الباب 8 من أبواب ما تجب فيه الزكاة، الحديث 3.
2 - الحدائق 12 / 108 و 109.
23

اثبات استحبابها من باب المسامحة. " (1)
أقول: وربما يؤيد الحمل على التقية القرائن الداخلية والخارجية:
أما الخارجية فاشتهار الفتوى بوجوب الزكاة فيما عدا التسعة بين أهل الخلاف.
وأما الداخلية فالتعبيرات الواقعة في بعض الأخبار، فراجع مرسلة القماط ورواية
الطيار ورواية جميل. (2) مضافا إلى تأكيد الأئمة (عليهم السلام) في أخبار كثيرة بأن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عفا عما سوى ذلك حيث يستشعر من ذلك وجود خلاف في البين
فأراد الأئمة (عليهم السلام) إقناعهم ببيان عمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). هذا.
ولكن يمكن أن يقال: أولا: إن ما قد يتوهم من كون أئمتنا (عليهم السلام) ضعفاء مستوحشين
يقلبون الحق بأدنى خوف من الناس أمر يعسر علينا قبوله. كيف؟! وإن بناءهم كان
على بيان الحق ورفع الباطل في كل مورد انحرف الناس عن مسير الحق. ألا ترى
كيف أنكروا القول والتعصيب في المواريث، والجماعة في صلاة التراويح وصلاة
الضحى، والطلاق ثلاثا وأمثال ذلك مما استقر عليه فقه أهل الخلاف بلسان قاطع
صريح؟
وثانيا: قد أشرنا إلى أن التقية ضرورة، والضرورات تتقدر بقدرها مع أن أجوبة
الأئمة (عليهم السلام) في الطائفة الثالثة وقعت فوق مقدار الضرورة.
وثالثا: إن الانحصار في التسعة ليس من خصائص الشيعة الإمامية بل أفتى به
بعض فقهاء السنة ووردت به رواياتهم أيضا، فلا يبقى مجال للتقية. وقد حكينا بعضا
من أقوالهم في صدر المسألة ونتمم ذلك بنقل عبارة المغني لا بن قدامة الحنبلي، قال:
" وقال مالك والشافعي: لا زكاة في ثمر إلا التمر والزبيب، ولا في حب إلا ما كان
قوتا في حالة الاختيار لذلك إلا في الزيتون على اختلاف. وحكي عن أحمد إلا في

1 - مصباح الفقيه / 19.
2 - الوسائل 6 / 33 وما بعدها، الباب 8 من أبواب ما تجب فيه الزكاة.
24

الحنطة والشعير والتمر والزبيب. وهذا قول ابن عمر وموسى بن طلحة والحسن ابن
سيرين والشعبي والحسن بن صالح وابن أبي ليلى وابن المبارك وأبي عبيد... وقد
روى عمر بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو أنه قال: إنما سن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
الزكاة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب. وفي رواية عن أبيه، عن جده، عن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " والعشر في التمر والزبيب والحنطة والشعير. " وعن موسى بن
طلحة، عن عمر أنه قال: " إنما سن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الزكاة في هذه الأربعة:
الحنطة الشعير والتمر والزبيب. " وعن أبي بردة، عن أبي موسى ومعاذ " أن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعثهما إلى اليمن يعلمان الناس أمر دينهم، فأمرهم أن لا يأخذوا
الصدقة إلا من هذه الأربعة: الحنطة والشعير والتمر والزبيب. " رواهن كلهم
الدارقطني. " (1)
اللهم إلا أن يقال كما مر أن التقية لم تكن من الفقهاء والمفتين ولا لمصلحة
الإمام (عليه السلام) بل لحفظ الشيعة من شر السلاطين وحكام الجور وجباتهم، حيث إن الزكاة
كانت من منابع ثرواتهم وكانوا يطالبونها من غير التسعة أيضا فأراد الأئمة (عليهم السلام) حث
الشيعة على أداء الزكاة المطالب بها إليهم دفعا لشرورهم، فتدبر.
الوجه الرابع: ما ذكرناه بنحو الاحتمال وإن أشكل الالتزام به. ومحصل ذلك أن
أصل ثبوت الزكاة من القوانين الأساسية للإسلام، بل لجميع الأديان الإلهية. وقد
جعلت الزكاة في آيات الكتاب العزيز عدلا للصلاة التي هي عمود الدين، وتكررت
في آيات كثيرة لأنها أساس مالية الحكومة الإسلامية، ولا سيما إن أرجعنا الخمس
أيضا إليها وجعلناه من مصاديق الزكاة كما مر بيانه. وقد مرت الآيات الحاكية لها عن
المسيح وإسماعيل والأنبياء السالفين، فهي كانت أمرا ثابتا في جميع الأديان الإلهية
وشرعت في الإسلام أيضا.
وحيث إن ثروات الناس ومنابع أموالهم تختلف بحسب الأزمنة والأمكنة،

1 - المغنى 2 / 549.
25

ودين الإسلام شرع لجميع البشر ولجميع الأعصار كما نطق بهما الكتاب والسنة،
فلا محالة ذكر في الكتاب العزيز أصل ثبوت الزكاة وخوطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله - تعالى
-: " خذ من أموالهم صدقة " (1) ولم يذكر فيه ما فيه الزكاة بنحو التعيين، بل الجمع
المضاف يفيد العموم، وذكر فيه عمومات أخر أيضا كقوله - تعالى -: " ومما رزقناهم
ينفقون " (2) وقوله: " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم
من الأرض " (3) وغير ذلك من الآيات العامة - والمقصود بالإنفاق هو الزكاة بدليل
قوله - تعالى -: " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم
بعذاب أليم. " (4) - وفوض بيان ما فيه الزكاة إلى أولياء المسلمين وحكام الحق في كل
صقع وكل زمان، وقد وضع رسول الله بما أنه كان حاكما على المسلمين في عصره
الزكاة على تسعة أشياء لما كانت هذه التسعة عمدة ثروة العرب في عصره ومجال
حكمه وعفا عما سوى ذلك، ولعله (صلى الله عليه وآله وسلم) جعلها في آخر عمره الشريف في أكثر من
ذلك، كما في كلام يونس، وهو كان رجلا بصيرا بالكتاب والسنة وكان من أجلاء
أصحاب الرضا (عليه السلام) ومن علمائهم، وأئمتنا (عليهم السلام) أيضا ربما جعلوها في بعض الأحيان
في أكثر من التسعة كما تدل على ذلك روايات كثيرة وفيها الصحاح والحسان، وربما
شاهدوا في بعض الأحيان أن الزكوات المأخوذة كانت تصرف في تقوية دول الضلال
والجور ورأوا أن الجباة لها يستندون في تعميمها لسائر الحبوب وأموال
التجارة غيرها إلى النقل عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأراد الأئمة (عليهم السلام) تضعيف دولتهم بسد منابعهم
المالية فنقلوا ما هو الواقع من أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وضعها في تسعة ليرتدع الناس عن إعطاء
الزكاة إليهم.
وبالجملة، حيث إن ثروات الناس ومنابع أموالهم تتطور وتتغير بحسب الأصقاع

1 - سورة التوبة (9)، الآية 103.
2 - سورة البقرة (2)، الآية 3.
3 - سورة البقرة (2)، الآية 267.
4 - سورة التوبة (9)، الآية 34.
26

والأعصار وكذلك الخلات والحاجات فلا مناص عن إحالة تعيين ما فيه الزكاة
من الأعيان إلى ولاة الأمر وحكام العدل في كل عصر ومكان حسب ما يبدو لهم من
الحاجات، والبلاد والأصقاع من حيث الإنتاجات والاحتياجات في غاية
الاختلاف.
ويشهد لذلك ما ورد من جعل أمير المؤمنين (عليه السلام) الزكاة في الخيل، وظاهر ذلك
جعلها بنحو الوجوب:
ففي صحيحة محمد بن مسلم وزرارة، عنهما - عليهما السلام - جميعا، قالا: " وضع
أمير المؤمنين (عليه السلام) على الخيل العتاق الراعية في كل فرس في كل عام دينارين وجعل
على البراذين دينارا " (1)
والظاهر أن المراد بها الزكاة لا الخراج، لتسمية ذلك صدقة في صحيحة زرارة،
قال: قلت لأبى عبد الله (عليه السلام) هل في البغال شئ؟ فقال: لا، فقلت: فكيف صار على
الخيل ولم يصر على البغال؟ فقال: لأن البغال لا تلقح والخيل الإناث ينتجن، وليس
على الخيل الذكور شيء. قال: قلت: فما في الحمير؟ قال: ليس فيها شيء. قال: قلت:
هل على الفرس أو البعير يكون للرجل يركبهما شيء؟ فقال: " لا ليس على ما يعلف
شئ، انما الصدقة على السائمة المرسلة في مرجها عامها الذي يقتنيها فيه
الرجل. " (2) هذا.
وهل يمكن الالتزام في مثل أعصارنا بحصر الزكاة في التسعة المعهودة بالشرائط
الخاصة؟! مع أن الذهب والفضة المسكوكين وكذا الأنعام الثلاثة السائمة لا توجد إلا
أقل قليل وكأنها منتفية موضوعا، والغلات الأربع في قبال سائر منابع الثروة: من
المصانع العظيمة، والتجارات الضخمة المربحة، والأبنية المرتفعة، والسفن

1 - الوسائل 6 / 51، الباب 16 من أبواب ما تجب فيه الزكاة و...، الحديث 1.
2 - الوسائل 6 / 51، الباب 16 من أبواب ما تجب فيه الزكاة و...، الحديث 3.
27

والسيارات والطيارات والمحصولات الزراعية المتنوعة غير الغلات الأربع، قليلة
القيمة جدا. ومصارف الزكاة الثمانية التي تساوق عمدة خلات المجتمع
والدول احتياجاتهم في المجالات المختلفة تحتاج إلى أموال كثيرة.
وقد دلت أخبار كثيرة على أن الله - تعالى - فرض للفقراء في أموال الأغنياء
ما يكفيهم. ولعل ذكر الفقراء كان من باب المثال فكان المقصود المصارف الثمانية
المذكورة للزكاة:
1 - ففي صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " إن الله -
عز وجل - فرض للفقراء في مال الأغنياء ما يسعهم، ولو علم أن ذلك لا يسعهم لزادهم.
إنهم لم يؤتوا من قبل فريضة الله - عز وجل - ولكن أوتوا من منع من منعهم حقهم
لا مما فرض الله لهم. ولو أن الناس أدوا حقوقهم لكانوا عائشين بخير. " (1)
2 - وفي صحيحة عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " إن الله - عز وجل -
فرض الزكاة كما فرض الصلاة، فلو أن رجلا حمل الزكاة فأعطاها علانية لم يكن
عليه في ذلك عيب، وذلك أن الله - عز وجل - فرض للفقراء في أموال الأغنياء
ما يكتفون به، ولو علم أن الذي فرض لهم لا يكفيهم لزادهم. وإنما يؤتى الفقراء فيما
أوتوا من منع من منعهم حقوقهم لا من الفريضة. " (2)
3 - وفي خبر معتب مولى الصادق (عليه السلام) قال: قال الصادق (عليه السلام): " إنما وضعت الزكاة
اختبارا للأغنياء ومعونة للفقراء، ولو أن الناس أدوا زكاة أموالهم ما بقي مسلم فقيرا
محتاجا ولا ستغنى بما فرض الله له. وإن الناس ما افتقروا ولا احتاجوا
ولا جاعوا إلا عروا إلا بذنوب الأغنياء: الحديث. " (3)

1 - الوسائل 6 / 3، الباب 1 من أبواب ما تجب فيه الزكاة و...، الحديث 2.
2 - الوسائل 3 / 6، الباب 1 من أبواب ما تجب فيه الزكاة و...، الحديث 3.
3 - الوسائل 6 / 4، الباب 1 من أبواب ما تجب فيه الزكاة و...، الحديث 6.
28

4 - وفي كتاب الأموال لأبى عبيد: حدثني أحمد بن يونس، عن أبي شهاب
الحناط، عن أبي عبد الله الثقفي قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي يحدث أن
عليا (عليه السلام) قال: " إن الله - عز وجل - فرض على الأغنياء في أموالهم ما يكفى للفقراء.
فإن جاعوا أو عروا أو جهدوا فبمنع الأغنياء، وحق على الله - تبارك وتعالى - أن
يحاسبهم ويعذبهم. " (1)
إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في هذا المجال.
فنفس هذه الروايات الكثيرة من أقوى الأدلة على أن الزكاة ليست من الواجبات
العبادية المجهولة الملاك التي يؤتى بها بداعي التقرب المحض من دون أن يلحظ في
تشريعها الحكم والمصالح الاجتماعية. بل الزكاة المفروضة في كل زمان وصقع يجب
أن تناسب المصارف الثمانية المذكورة لها في الكتاب العزيز.
وبعبارة أخرى: هذه الروايات الدالة على حكمة الزكاة محكمات وميزان يوزن به
الحق من أخبار الباب.
وحيث إن منابع الثروة وكذا المصارف والحاجات تتغير بحسب الأصقاع الأزمنة
فلا محالة يتغير ما فيه الزكاة أيضا بحسبهما ولا يتحقق ذلك الا بما لوحنا إليه من كون
المشرع بحسب حكم الله - تعالى - أصل وجوب الزكاة وإيجاب أخذها من قبل
الحكومة الحقة وصرفها في مصارفها الثمانية على ما نطق به القرآن، وأما ما فيه الزكاة
فالكتاب دل عليه بنحو العموم، وتعيينه في الأموال الخاصة مفوض إلى من إليه الحكم
في كل صقع وزمان حسب تشخيصه للأموال والحاجات ولعل موضوعها في الشرائع
السالفة أيضا كان مسانخا لعمد ثروتهم في تلك الأعصار. ثم إن القول بأن الله - تعالى
- جعل الزكاة أعني العشر وربع العشر ونحوهما في التسعة المعهودة فقط بشرائطها
الخاصة للمصارف الثمانية بسعتها، وجعل الخمس في سبعة أمور منها المعادن بسعتها
وأرباح المكاسب بشعبها للإمام ولفقراء بني هاشم

1 - الأموال / 709.
29

فقط بالمناصفة بحيث يصير عشر كل المستفادات لفقراء بني هاشم فقط مع أن زكاة
بنى هاشم تكفى لأنفسهم إذا لوحظوا بالنسبة إلى سائر الناس وهم يستفيدون أيضا
مما صرف في سبل الخير والمشاريع العامة، يوجب هذه القول القول بعدم إحاطة الله
تعالى - نعوذ بالله - بأعداد الناس وإحصائياتهم وحاجاتهم، ولا يكفي في الفرار من
هذه الإشكال ما ورد من أن ما زاد عن بني هاشم يرجع إلى الإمام بعد عدم كون
المجعولين في البابين متعادلين ومتناسبين في مقام الجعل والتشريع، فتدبر. هذا.
ومقتضى ما احتملناه أن تصير الماليات المفروضة من قبل الحكومة الحقة في كل
عصر وزمان على أموال الناس حسب الاحتياجات العارضة مصداقا للزكاة ومنصبغة
بصبغتها. ولو أبيت ذلك وثقل عليك تسليمه فلا محالة يلتزم بذلك فيما إذا فرضها
الوالي في الموارد التي استحبت فيها الزكاة وندب إليها، وهي أيضا كثيرة أنهيناها في
المجلد الثاني من كتاب الزكاة إلى اثني عشر موردا:
الأول: مال التجارة مع بقاء رأس المال طول الحول.
الثاني: كل ما يكال أو يوزن مما تنبت الأرض.
الثالث: الخيل الإناث.
الرابع: حاصل المساكن والبساتين والدكاكين والحمامات والخانات وغيرها من
الأبنية والعقارات التي لها عوائد.
الخامس: الحلى، وزكاته إعارته.
السادس: المال الغائب أو المدفون بعد ما تمكن منهما، فيزكى لسنة واحدة على
ما قالوا.
السابع: ما تصرف فيه بالمعاوضة في أثناء الحول بقصد الفرار من الزكاة.
الثامن: الغلات الأربع من غير البالغ.
التاسع: مال التجارة إذا لم يطلب في الحول برأس المال أو بزيادة.
العاشر: الإبل العوامل ومعلوفتها.
الحادي عشر: الرقيق.
30

الثاني عشر: الحلي المحرم لبسه، مثل حلى النساء للرجال وبالعكس.
وتفصيل شرائط الزكاة ومقدارها والدليل عليها في هذه الأمور يطلب من الكتاب
المذكور وغيره، فراجع. (1)
فيقال: إن الزكاة في هذه الأمور وإن كانت بحسب الجعل الشرعي مندوبة ولكن
للحاكم في كل عصر أن يفرضها حسب الاحتياج، كما صنع أمير المؤمنين (عليه السلام) في
الخيل على ما نطقت به الأخبار. (2) هذا.
ولكن الإنصاف أن ما بيناه وحررناه وإن كان موافقا للاعتبار ولكنه ليس في
الحقيقة جمعا بين أخبار الباب بل طرحا لكثير منها فلا بد لرفع المعضلة من إبداء فكر
آخر.
ويمكن بيان حل المعضلة بتعبير آخر، وهو أن أخبار التعميم مضافا إلى كونها أكثر
وفيها الصحاح والحسان لما كانت موافقة لعمومات الكتاب ولما دلت على مصالح
التشريع وحكمه من سد جميع الخلات فلأجل ذلك تقدم على أخبار التخصيص
بالتسعة، فتطرح أخبار الحصر أو تحمل على ما مر من إرادة الأئمة (عليهم السلام) تضعيف الدول
والحكومات الجائرة بسد منابعهم المالية، ولا نسلم كون الشهرة الفتوائية مرجحة
مطلقا حتى مع وجود عمومات الكتاب ومع وضوح مبنى فتواهم، فتدبر. هذا.
وسيجئ في الفصل التالي احتمال كون فعلية خمس الأرباح مجعولة من قبل
أئمتنا (عليهم السلام) لجبران ما ذكرنا من وجوب كون المالية المفروضة متطورة بتطور الأصقاع
والأزمنة ومناسبة للمصارف والحاجات الطارية في كل صقع وعصر، وعلى هذا
فيكون خمس الأرباح بمنزلة المتمم للزكاة التي فرضت في أشياء خاصة بل لا نأبى
من تسميته زكاة أيضا كما عرفت، ولا نسلم تقسيمه بين الإمام وبني هاشم وإن قيل
بذلك في سائر أقسام الخمس وسيأتي تفصيل ذلك، ولعله بذلك يرتفع
الإشكال المعضلة، فافهم.

1 - كتاب الزكاة 2 / 181 - 284.
2 - الوسائل 6 / 51، الباب 16 من أبواب ما تجب فيه الزكاة و...
31

الجهة الثالثة:
في أن الزكاة تكون تحت اختيار الإمام:
اعلم أن الزكاة على ما يظهر من بيان مصرفها في الكتاب العزيز لم تكن تختص
بالفقراء والمساكين فقط ولم تكن تحت اختيار الأشخاص يضعونها حيث شاؤوا، بل
شرعت لسد جميع الخلات التي تحدث في المجتمع، وبقرينة ذكر العاملين
عليها المؤلفة قلوبهم في عداد مصارفها يظهر أنها ميزانية إسلامية تقع تحت اختيار
الحكومة الإسلامية، ويكون الحاكم هو الذي يتصدى لأخذها وصرفها في مصارفها.
ويشهد لذلك أيضا قوله - تعالى -: " خذ من أموالهم صدقة " (1)، حيث إن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما أنه كان حاكما على المسلمين أمر بأخذها، وهكذا كان عمله وعليه
استقرت سيرته وسيرة الخلفاء من بعده فكانوا يبعثون العمال والجباة
ويطالبونها. الأخبار الدالة على هذه المعنى في غاية الكثرة:
1 - ففي صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم أنهما قالا لأبي عبد الله (عليه السلام): أرأيت قول
الله - تبارك وتعالى -: " إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة
قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله " (2) أكل
هؤلاء يعطى وإن كان لا يعرف؟ فقال (عليه السلام): " إن الإمام يعطي هؤلاء جميعا لأنهم يقرون
له بالطاعة. " قال زرارة: قلت: فإن كانوا لا يعرفون؟ فقال: " يا زرارة، لو كان يعطى
من يعرف دون من لا يعرف لم يوجد لها موضع، وإنما يعطى من لا يعرف ليرغب في
الدين فيثبت عليه. فأما اليوم فلا تعطها أنت

1 - سورة التوبة (9)، الآية 103.
2 - سورة التوبة (9)، الآية 60.
32

وأصحابك إلا من يعرف. الحديث. " (1)
يظهر من هذه الصحيحة أن الزكاة بحسب التشريع الأولي تكون في تصرف الإمام
وهو يسد بها خلات من يكون تحت لوائه وحكمه، عارفا كان أو غير عارف. ولكن
لما تصدى للحكومة غير أهلها وكانت الزكوات تصرف في غير مصارفها وكان الشيعة
يبقون محرومين أمر الإمام (عليه السلام) بإعطاء الشيعة زكواتهم للعارفين بحقهم. فهذا حكم
موقت منه (عليه السلام) وإجازة موقتة.
2 - وفي خبر على بن إبراهيم في تفسيره، عن العالم (عليه السلام): " والغارمين قوم قد وقعت
عليهم ديون أنفقوها في طاعة الله من غير إسراف، فيجب على الإمام أن يقضي عنهم
ويفكهم من مال الصدقات. وفي سبيل الله قوم يخرجون في الجهاد ليس عندهم
ما يتقوون به، أو قوم من المؤمنين ليس عندهم ما يحجون به، أو في جميع سبل الخير،
فعلى الإمام أن يعطيهم من مال الصدقات حتى يقووا على الحج والجهاد. وابن
السبيل أبناء الطريق الذين يكونون في الأسفار في طاعة الله فيقطع عليهم يذهب
ما لهم، فعلى الإمام أن يردهم إلى أوطانهم من مال الصدقات. " (2)
3 - وفي خبر صباح بن سيابة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أيما
مؤمن أو مسلم مات وترك دينا لم يكن في فساد ولا إسراف فعلى الإمام أن يقضيه فإن
لم يقضه فعليه إثم ذلك، إن الله - تبارك وتعالى - يقول: " إنما الصدقات للفقراء المساكين.
الآية. " فهو من الغارمين، وله سهم عند الإمام فإن حبسه فإثمه عليه. " (3)
4 - وفي مرسلة حماد الطويلة، عن العبد الصالح (عليه السلام)، قال: " والأرضون التي أخذت
عنوة... فإذا أخرج منها ما أخرج بدأ فأخرج منه العشر من الجميع مما سقت السماء
أو سقى سيحا، ونصف العشر مما سقي بالدوالي والنواضح، فأخذه الوالي فوجهه في
الجهة التي وجهها الله على ثمانية أسهم: للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة
قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله

1 - الوسائل 6 / 143، الباب 1 من أبواب المستحقين للزكاة، الحديث 1.
2 - الوسائل 6 / 145، الباب 1 من أبواب المستحقين للزكاة، الحديث 7.
3 - الكافي 1 / 407، كتاب الحجة، باب ما يجب من حق الإمام على الرعية و...، الحديث 7.
33

وابن السبيل، ثمانية أسهم يقسم بينهم في مواضعهم بقدر ما يستغنون به في سنتهم
بلا ضيق ولا تقتير. فإن فضل من ذلك شيء رد إلى الوالي، وإن نقص من ذلك شيء لم
يكتفوا به كان على الوالي أن يمونهم من عنده بقدر سعتهم حتى يستغنوا.
الحديث. " (1)
5 - وفي خبر أبي علي بن راشد، قال: " سألته عن الفطرة لمن هي؟ قال: للإمام.
قال: قلت له: فأخبر أصحابي؟ قال: نعم، من أردت أن تطهره منهم. " (2)
إلى غير ذلك من الأخبار في هذا المجال، وهي كثيرة مر بعضها في الباب الثالث
من هذا الكتاب، فراجع. (3)
قال الشيخ المفيد في الزكاة من المقنعة:
" باب وجوب إخراج الزكاة إلى الإمام: قال الله - عز وجل -: " خذ من أموالهم
صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليهم " فأمر
نبيه بأخذ صدقاتهم تطهيرا لهم بها من ذنوبهم، وفرض على الأمة حملها إليه بفرضه
عليها طاعته ونهيه لها من خلافه. والإمام قائم مقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما فرض عليه من
إقامة الحدود والأحكام لأنه مخاطب بخطابه في ذلك على ما بيناه فيما سلف قدمناه،
فلما وجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان الفرض حمل الزكاة إليه، ولما غابت عينه من العالم بوفاته
صار الفرض حمل الزكاة إلى خليفته. فإذا غاب الخليفة كان الفرض حملها إلى من
نصبه منه خاصته لشيعته، فإذا عدم السفراء بينه وبين رعيته وجب حملها إلى الفقهاء
المأمونين من أهل ولايته لأن الفقيه أعرف بموضعها ممن لا فقه له في ديانته. " (4)
هذا.
أقول: وكان يترقب في بحث الزكاة بيان مصارفها الثمانية أيضا، ولكن رأينا أن
البحث المختصر لا يقنع والتفصيل يناسب هذا الكتاب، فنحيل القراء الكرام إلى

1 - الوسائل 6 / 184، الباب 28 من أبواب المستحقين للزكاة، الحديث 3.
2 - الوسائل 6 / 240، الباب 9 من أبواب زكاة الفطرة، الحديث 2.
3 - راجع 1 / 98 وما بعدها من الكتاب.
4 - المقنعة / 41.
34

الكتب الموسوعة المؤلفة في فقه الزكاة، ولنقتصر هنا على ذكر الآية الشريفة رواية
جامعة في هذا الباب:
قال الله تعالى - في سورة التوبة: " إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين
عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل، فريضة من
الله والله عليم حكيم. " (1)
وفي الوسائل عن الشيخ بإسناده، عن علي بن إبراهيم أنه ذكر في تفسيره تفصيل
هذه الثمانية الأصناف فقال: " فسر العالم (عليه السلام) فقال:
الفقراء هم الذين لا يسألون وعليهم مؤونات من عيالهم، والدليل على أنهم هم
الذين لا يسألون قول الله - تعالى -: " للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله
لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم
لا يسألون الناس إلحافا. " (2)
والمساكين هم أهل الزمانات، وقد دخل فيهم الرجال والنساء والصبيان.
والعاملين عليها هم السعاة والجباة في أخذها وجمعها وحفظها حتى يؤدوها إلى
من يقسمها.
والمؤلفة قلوبهم قال: هم قوم وحدوا الله وخلقوا عبادة من دون الله ولم يدخل
المعرفة قلوبهم أن محمدا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتألفهم
ويعلمهم يعرفهم كيما يعرفوا فجعل لهم نصيبا في الصدقات لكي يعرفوا ويرغبوا.
وفي الرقاب قوم لزمتهم كفارات في قتل الخطأ وفي الظهار وفي الأيمان وفي قتل
الصيد في الحرم، وليس عندهم ما يكفرون وهم مؤمنون، فجعل الله لهم سهما في
الصدقات ليكفر عنهم.
والغارمين قوم قد وقعت عليهم ديون أنفقوها في طاعة الله من غير إسراف،
فيجب على الإمام أن يقضى عنهم ويفكهم من مال الصدقات.
وفي سبيل الله قوم يخرجون في الجهاد وليس عندهم ما يتقوون به، أو قوم من المؤمنين ليس

1 - سورة التوبة (9)، الآية 60.
2 - سورة البقرة (2)، الآية 273.
35

عندهم ما يحجون به أو في جميع سبل الخير، فعلى الإمام أن يعطيهم من مال
الصدقات حتى يقووا على الحج والجهاد.
وابن السبيل أبناء الطريق الذين يكونون في الأسفار في طاعة الله فيقطع
عليهم يذهب مالهم، فعلى الإمام أن يردهم إلى أوطانهم من مال الصدقات. " وعن
تفسير علي بن إبراهيم عن الصادق (عليه السلام) نحوه. (1)

1 - الوسائل 6 / 145، الباب 1 من أبواب المستحقين للزكاة، الحديث 7.
36

الجهة الرابعة:
في الصدقات المندوبة والأوقاف العامة:
هذا كله في الزكاة، وأما الصدقات المندوبة فلا نصاب لها ولا حد، وموضوعها
جميع الأموال والطاقات، فهي منبع غنى عام لسد الخلات والحاجات، وقد حث
عليها الكتاب والسنة بنحو عام بحيث يتشوق إليها كل من كان له قلب أو ألقى السمع،
ولو كانت الحكومات صالحة عادلة والحكام عقلاء متشابكين مع الأمة وواجهوا
الناس بالصداقة والرحمة لتطايرت قلوب الناس إليهم وآثروهم على أنفسهم
بالأموال والطاقات. وما ينفقه الإنسان بطوعه ورغبته أولى وأهنأ مما يؤخذ منه جبرا
عليه.
ومن أوفر الصدقات وأكثرها نفعا وعائدة الأوقاف والمشاريع العامة، فلو كان
للحكومة سياسة وكفاية لأوجدت للأوقاف العامة نظاما صحيحا صالحا، بحيث لا يقع
فيها التفريط ولا تصل إليها أيدي الغاصبين، فتكثر عوائدها ويرتفع ببركتها كثير من
الحاجات والخلات في المجالات المختلفة، هذا.
والآيات والروايات الواردة في الإنفاق والصدقات في غاية الكثرة، فلنذكر بعضا
منها نموذجا:
1 - قال الله - تعالى - في سورة البقرة: " مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله
كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مأة حبة، والله يضاعف لمن يشاء والله
واسع عليهم. " (1)
2 - وقال " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من
الأرض

1 - سورة البقرة (2)، الآية 261.
37

ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه، واعلموا أن الله
غنى حميد. " (1)
والموصول عام، وعمومه بعموم صلته، فالآية تشمل جميع عوائد الإنسان كما هو
ظاهر.
3 - وقال: " وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه وما للظالمين من
أنصار. " (2)
فقد وردت في هذه السورة أربع عشرة آية متتالية في الحث على الإنفاق في
سبيل الله والإخلاص فيه وأنحائه، ومن تلا الآيات بالتفات وتوجه أعجب أمر
الإنفاق في سبيل الله وتاقت إليه نفسه قهرا، فتدبر.
وقد تعرض في أول هذه الآيات لمضاعفة ما ينفقه الانسان في سبيل الله سبعمأة
مرة، وذكر بعد آيات الإنفاق بلا فصل آيات الربا الذي يتصوره الناس زيادة
المال، من جملتها قوله: " يمحق الله الربا ويربي الصدقات. " (3) فهو - تعالى - قابل بين
الإنفاق الذي يراه الناس غرما والربا الذي يرونه زيادة، ووعد بمضاعفة الأول
أضعافا مضاعفة ومحق الثاني الذي يرونه زيادة، وهذا من أحسن التعبيرات وأوقع
البواعث في نفوس أهل المعرفة بالله - تعالى -، فتدبر.
4 - وفي سورة البقرة أيضا: " ويسألونك ماذا ينفقون، قل العفو. " (4)
قال في المجمع:
" فيه أقوال: أحدها: أنه ما فضل عن الأهل والعيال أو الفضل عن الغنى، عن ابن
عباس وقتادة. وثانيها: أن العفو الوسط من غير اسراف ولا اقتار، عن الحسن وعطاء
وهو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام). وثالثها: أن العفو ما فضل عن قوت السنة، عن أبي
جعفر الباقر (عليه السلام). قال ونسخ ذلك بآية الزكاة، وبه قال السدي. ورابعها: أن

1 - سورة البقرة (2)، الآية 267.
2 - سورة البقرة (2)، الآية 270.
3 - سورة البقرة (2)، الآية 276.
4 - سورة البقرة (2)، الآية 219.
38

العفو أطيب المال وأفضله. " (1)
5 - وفي سورة آل عمران: " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون، وما تنفقوا من
شئ فان الله به عليم. " (2)
6 - وفي سورة التوبة: " ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ
الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم. " (3)
7 - وفي سورة الحديد: " آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه
فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير. " (4)
إلى غير ذلك من آيات الكتاب الكريم.
8 - وفي الوسائل بسنده، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " الصدقة تدفع ميتة السوء. " (5)
9 - وفيه أيضا بسنده، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " تصدقوا فإن الصدقة تزيد في المال كثرة، فتصدقوا رحمكم
الله. " (6)
10 - وفيه أيضا بإسناده، عن الرضا (عليه السلام)، عن آبائه (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" التوحيد نصف الدين، واستنزلوا الرزق بالصدقة. " (7)
11 - وفيه أيضا بسنده، عن الرضا (عليه السلام)، عن آبائه (عليه السلام)، قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):

1 - مجمع البيان 1 / 316، (الجزء 2).
2 - سورة آل عمران (3)، الآية 92.
3 - سورة التوبة (9)، الآية 104.
4 - سورة الحديد (57)، الآية 7.
5 - الوسائل 6 / 255، الباب 1 من أبواب الصدقة، الحديث 2.
6 - الوسائل 6 / 257، الباب 1 من أبواب الصدقة، الحديث 8.
7 - الوسائل 6 / 258، الباب 1 من أبواب الصدقة، الحديث 13.
39

" خير مال المرء وذخائره الصدقة ". (1)
12 - وفيه أيضا بسنده، عن الحسين بن علوان، عن جعفر، عن أبيه (عليه السلام)، قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " داووا مرضاكم بالصدقة. " (2)
13 - وفيه أيضا بسنده، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " البر والصدقة ينفيان الفقر يزيدان
في العمر ويدفعان عن صاحبهما سبعين ميتة السوء. " (3)
14 - وفيه أيضا بسنده، عن عبد الله بن سنان، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): " داووا
مرضاكم بالصدقة وادفعوا البلاء بالدعاء، واستنزلوا الرزق بالصدقة، فإنها تفك من
بين لحي سبعمأة شيطان. " (4)
ونحو ذلك أخبار أخر أيضا، فراجع.
15 - وفي تفسير العياشي، عن أبان بن تغلب، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): " أترى الله
أعطى من أعطى من كرامته عليه، ومنع من منع من هوان به عليه؟ لا، ولكن المال مال
الله يضعه عند الرجل، ودائع، وجوز لهم أن يأكلوا قصدا، ويشربوا قصدا، ويلبسوا
قصدا، وينكحوا قصدا، ويركبوا قصدا، ويعودوا بما سوى ذلك على فقراء
المؤمنين يلموا به شعثهم، فمن فعل ذلك كان ما يأكل حلالا ويشرب حلالا ويركب
حلالا وينكح حلالا، ومن عدا ذلك كان عليه حراما. ثم قال: " ولا تسرفوا، إنه
لا يحب المسرفين. " أترى الله ائتمن رجلا على مال خول له أن يشتري فرسا بعشرة
آلاف درهم ويجزيه فرس بعشرين درهما، ويشتري جارية بألف دينار ويجزيه
جارية بعشرين دينارا وقال: ولا تسرفوا، إنه لا يحب المسرفين. "؟! (5)
16 - وفي الوسائل بسند صحيح، عن عبد الأعلى، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:

1 - الوسائل 6 / 258، الباب 1 من أبواب الصدقة، الحديث 14.
2 - الوسائل 6 / 258، الباب 1 من أبواب الصدقة، الحديث 18.
3 - الوسائل 6 / 255، الباب 1 من أبواب الصدقة، الحديث 4.
4 - الوسائل 6 / 260، الباب 3 من أبواب الصدقة، الحديث 1.
5 - تفسير العياشي، 2 / 13; والميزان - عنه - 8 / 93.
40

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " كل معروف صدقة. " (1)
17 - وفيه أيضا بسند صحيح، عن معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " كل معروف صدقة. " (2)
18 - وفيه أيضا بسنده، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " ليس يتبع
الرجل بعد موته من الأجر إلا ثلاث خصال: صدقة أجراها في حياته فهي تجري بعد
موته، وسنة هدى سنها فهي يعمل بها بعد موته، وولد صالح يدعو له. " (3)
ونحو ذلك أخبار أخر أيضا، فراجع. (4)
19 - وفيه أيضا بسنده، عن أيوب بن عطية، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول:
" قسم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الفيء فأصاب عليا (عليه السلام) أرض، فاحتفر فيها عينا فخرج منها ماء
ينبع في السماء كهيئة عنق البعير فسماها عين ينبع، فجاء البشير يبشره، فقال: بشر
الوارث، بشر الوارث، هي صدقة بتا بتلا في حجيج بيت الله وعابر سبيله،
لا تباع لا توهب ولا تورث، فمن باعها أو وهبها فعليه لعنة الله والملائكة والناس
أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا. " (5)
إلى غير ذلك من الروايات الواردة في صدقات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير
المؤمنين فاطمة والأئمة - عليهم السلام. (6)

1 - الوسائل 6 / 321، الباب 41 من أبواب الصدقة، الحديث 1.
2 - الوسائل 6 / 321، الباب 41 من أبواب الصدقة، الحديث 2.
3 - الوسائل 13 / 292، الباب 1 من كتاب الوقوف والصدقات، الحديث 1.
4 - الوسائل 13 / 292 وما بعدها، الباب 1 من كتاب الوقوف والصدقات.
5 - الوسائل 13 / 303، الباب 6 من كتاب الوقوف والصدقات، الحديث 2.
6 - راجع الوسائل ج 13، كتاب الوقوف والصدقات.
41

الفصل الثاني
في الخمس
وفيه أيضا جهات من البحث:
الجهة الأولى:
في بيان مفهوم الخمس وتشريعه:
قال في المقاييس:
" والخمس: واحد من خمسة. يقال: خمست القوم: أخذت خمس أموالهم
أخمسهم. " (1)
وفي لسان العرب:
" والخمس والخمس والخمس: جزء من خمسة، يطرد ذلك في جميع هذه الكسور عند
بعضهم، والجمع أخماس. والخمس: أخذك واحدا من خمسة، تقول: خمست

1 - معجم مقاييس اللغة 2 / 217.
43

مال فلان وخمسهم يخمسهم بالضم خمسا: أخذ خمس أموالهم... وفي حديث
عدى بن حاتم: ربعت في الجاهلية وخمست في الإسلام، يعنى قدت الجيش في
الحالين، لأن الأمير في الجاهلية كان يأخذ الربع من الغنيمة وجاء الإسلام فجعله
الخمس وجعل له مصارف. " (1)
وذكر نحو ذلك ابن الأثير في النهاية. (2)
وهذا مما يؤيد ما سنذكره من كون الخمس حق الإمارة وكونه حقا وحدانيا تحت
اختيار الحاكم. هذا بحسب اللغة.
وأما شرعا فالخمس ضريبة مالية تعادل واحدا من خمسة جعلها في الشرع على
أمور يأتي بيانها. وكونه حقيقة شرعية ممنوع بل اللفظ استعمل بمعناها اللغوي.
وثبوت الخمس إجمالا من ضروريات الإسلام، ويدل عليه الكتاب
والسنة الإجماع:
قال الله - تعالى -: " واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي
القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم
الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير. " (3)
صدر - سبحانه وتعالى - كلامه بالبعث على العلم اهتماما بالحكم المذكور في
الآية، وأكده بالإتيان بحرف التأكيد، وعلقه على الموصول الذي هو من المبهمات يدل
على العموم بعموم صلته، وفسره بمبهم آخر للدلالة على التعميم، فكل ما انطبق عليه
مفهوم الصلة وصدق عليه لفظ الشيء فهو موضوع لهذا الحكم.
واختلفت كلمات أهل اللغة في معنى الغنم بمشتقاته، فيظهر من بعضها اختصاصها
بما أصيب به بالحرب، ومن بعضها عمومها لكل ما يستفيده الإنسان ويفوز به من
الأموال، والظاهر أن المراد بها ما يفوز به الإنسان من غير مشقة،

1 - لسان العرب 6 / 70.
2 - النهاية 2 / 79.
3 - سورة الأنفال (8)، الآية 41.
44

فتكون في الحقيقة نعمة غير مترقبة، سواء أصيب به بالحرب أم بغيرها، فيكون
إطلاق الكلمة على غنائم الحرب من باب إطلاق المطلق على أظهر أفراده:
قال في المقاييس:
" الغين والنون والميم أصل صحيح واحد يدل على إفادة شيء لم يملك من قبل،
ثم يختص به ما أخذ من مال المشركين بقهر وغلبة. " (1)
أقول: لعل قوله: " يختص به " يراد به غلبة إطلاقه عليه لا الاختصاص بنحو يهجر
إطلاقه على المطلق.
وفي القاموس:
" والمغنم والغنيم والغنيمة والغنم بالضم: الفيء... والفوز بالشيء بلا مشقة. " (2)
وفي النهاية:
" قد تكرر فيه ذكر الغنيمة والغنم والمغنم والغنائم، وهو ما أصيب من أموال أهل
الحرب وأوجف عليه المسلمون بالخيل والركاب... ومنه الحديث: " الصوم في
الشتاء الغنيمة الباردة. " إنما سماه غنيمة لما فيه من الأجر والثواب، ومنه الحديث:
" الرهن لمن رهنه، له غنمه وعليه غرمه. " (3)
أقول: ما رواه من الحديثين يشهدان بأن مفهوم اللفظ أعم من غنائم الحرب، كما
لا يخفى.
وفي لسان العرب:
" والغنم: الفوز بالشيء من غير مشقة والاغتنام: انتهاز الغنم، والغنم والغنيمة المغنم:
الفيء. " (4)
وعن خليل بن أحمد في عين اللغة:

1 - معجم مقاييس اللغة 4 / 397.
2 - قاموس اللغة / 783.
3 - النهاية لابن الأثير 3 / 389.
4 - لسان العرب 12 / 445.
45

" الغنم هو الفوز بالشئ من غير (في غير خ. ل) مشقة. " (1)
وفي مفردات الراغب:
" الغنم معروف، قال: ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما، والغنم: إصابته الظفر
به ثم استعمل في كل مظفور به من جهة العدى وغيرهم. " (2)
أقول: والظاهر أنه أحسن ما قيل في المقام. وربما قيل:
" الغنم ما يناله الإنسان ويظفر به من غير مقابل يبذله في سبيله، ضد الغرم وهو
ما يتحمله الإنسان من خسر وضرر بغير خيانة وجناية. "
ولا يصدق الغنم على كل ما يظفر به الإنسان وإن كان بتبديل ماله به بلا حصول
فائدة، فلا محالة يعتبر في صدقه خصوصية، والظاهر أن الخصوصية التي أشربت في
معناه هو المجانية وعدم الترقب، فهو عبارة عما ظفر به الإنسان بلا توقع لحصوله تصد
مستقيم لتحصيله، وبعبارة أخرى: النعمة غير المترقبة.
فما يتصدى الإنسان لتحصيله في الحروب هو خذلان العدو والغلبة عليه،
لا اغتنام الأموال، فهو نعمة غير مترقبة، وكذلك ما يحصل بالظفر بالكنز
والمعدن بالغوص نعم غير مترقبة بحسب العادة قد تحصل وقد لا تحصل. وما يتصدى
الإنسان لتحصيله في مكاسبه وحرفه اليومية بحسب العادة هو ما يعيش به ويرفع به
حاجاته اليومية، فالزائد على ذلك نعمة غير مترقبة، ولذا قلنا في باب أرباح
المكاسب إن مقدار المؤونة اليومية خارج تخصصا لا تخصيصا.
وكيف كان فالظاهر أنه لم يؤخذ في مفهوم الغنم خصوصية الحرب والقتال كما
يعرف ذلك بملاحظة ضده أعني الغرم. والغنيمة والمغنم أيضا من مشتقاته، فلا
تختصان بمغانم الحرب. ولو سلم ذلك فيهما بسبب كثرة الاستعمال فلا نسلم ظهور
الفعل في ذلك، فالآية تشمل بإطلاقها غنائم الحرب وغيرها. ووقوع الآية في سياق
آيات غزوة البدر لا يوجب التخصيص، إذ المورد غير مخصص وإلا لوجب
اختصاص

1 - عين اللغة 4 / 426.
2 - مفردات الراغب / 378.
46

الخمس بغنائم بدر فقط، ولا مانع من أن يصير مورد خاص موجبا لنزول حكم
كلي يشمله بعمومه وإطلاقه، بل هو المتعارف في آيات الكتاب العزيز.
وبالجملة، فالآية الشريفة بعمومها تشمل المعادن والكنوز والغوص وأرباح
المكاسب بل والهبات والجوائز أيضا، وقد نطقت بهذا العموم الأخبار المستفيضة
الواردة في تفسيرها في الأبواب المختلفة:
1 - ففي حديث وصايا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام): " يا علي، إن عبد المطلب سن في
الجاهلية خمس سنن أجراها الله له في الإسلام (إلى أن قال:) ووجد كنزا فأخرج منه
الخمس وتصدق به فأنزل الله: واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه. الآية. " (1)
2 - وفي صحيحة على بن مهزيار الطويلة، عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام): " فأما
الغنائم الفوائد فهي واجبة عليهم في كل عام، قال الله - تعالى -: " واعلموا أنما غنمتم
من شيء فأن لله خمسه. الآية ". فالغنائم والفوائد - يرحمك الله - فهي الغنيمة يغنمها
المرأة والفائدة يفيدها والجائزة من الإنسان للإنسان التي لها خطر، والميراث الذي
لا يحتسب... " (2)
3 - وفي رواية حكيم مؤذن بني عيس، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلت له:
" واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول "؟ قال: " هي والله الإفادة
يوما بيوم إلا أن أبي جعل شيعتنا من ذلك في حل ليزكوا. " (3)
4 - وفي باب الغنائم والخمس من فقه الرضا:
" وقال - جل وعلا -: " واعلموا أنما غنتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي
القربى "... وكل ما أفاده الناس فهو غنيمة، لا فرق بين الكنوز والمعادن والغوص مال
الفيء الذي لم يختلف فيه وهو ما ادعي فيه الرخصة، وهو ربح التجارة، وغلة

1 - الوسائل 6 / 345، الباب 5 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 3.
2 - الوسائل 6 / 50 - 349، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 5.
3 - الوسائل 6 / 381، الباب 4 من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام، الحديث 8.
47

الضيعة وسائر الفوائد، من المكاسب والصناعات والمواريث وغيرها، لأن الجميع
غنيمة وفائدة من رزق الله - تعالى -، فإنه روي أن الخمس على الخياط من
إبرته الصانع من صناعته، فعلى كل من غنم من هذه الوجوه مالا فعليه الخمس. " (1)
أقول: قوله: " وهو ربح التجارة " الظاهر زيادة الضمير فيه كما لا يخفى.
وقال المحقق في المعتبر بعد ذكر الآية الشريفة:
" والغنيمة اسم للفائدة، وكما يتناول هذا اللفظ غنيمة دار الحرب بإطلاقه يتناول
غيرها من الفوائد. " (2)
والمحقق " ره " مضافا إلى كونه فقيها عرب أصيل عارف بلغة العرب.
أقول: ويمكن أن يحمل على ذلك أيضا صحيحة عبد الله بن سنان، قال: سمعت أبا
عبد الله (عليه السلام)، يقول: " ليس الخمس إلا في الغنائم خاصة. " (3)
فتحمل الغنائم فيها على المعنى الأعم لا خصوص غنائم الحرب، ويكون الحصر
في قبال ما يملكه الإنسان بالاشتراء ونحوه بلا ربح، بل والأرباح بمقدار تصرف في
مؤونة السنة أيضا، بناء على ما أشرنا إليه من عدم صدق الغنيمة عليه وكون خروجها
تخصصا لا تخصيصا. هذا.
ويحتمل في الصحيحة أن يكون الحصر فيها بالإضافة إلى الفيء والأنفال، ومحط
النظر فيها خصوص ما يصل إلى المسلمين من أموال الكفار، فيكون المراد أن ما يصل
إليهم من أموال الكفار لا تخمس إلا الغنائم التي تقسم بين المقاتلين، وأما
الفيء الأنفال فكلها للإمام ولا خمس فيها خلافا لما عن الشافعي وغيره من ثبوت
الخمس في الفيء أيضا كما يأتي في محله.
وأما الخمس في الحلال المختلط بالحرام والأرض التي اشتراها الذمي فسيأتي

1 - فقه الرضا / 293.
2 - المعتبر / 293.
3 - الوسائل 6 / 338، الباب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 1.
48

منا المناقشة في كونهما من الخمس المصطلح، والصحيحة ناظرة إلى الخمس
المصطلح. هذا.
وقد يقال:
" إنه قد ورد أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قسم أموال عزوة أهل بدر بسير على أميال من
بدر. " (1)
وظاهره تقسيم الجميع.
وروى عن ابن عباس وابن الزبير وزيد بن ثابت أن سورة الأنفال نزلت
بالمدينة. (2)
وعن عبادة بن الصامت قال:
" سلمنا الأنفال لله ورسوله، ولم يخمس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بدرا ونزلت بعد:
" واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه " فاستقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمسلمين
الخمس فيما كان من كل غنيمة بعد بدر. " (3)
وعن أبي عبيد:
" لم يخمس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) غنائم بدر. " (4)
وفي تفسير علي بن إبراهيم:
" فلم يخمس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ببدر وقسمه بين أصحابه ثم استقبل يأخذ الخمس
بعد بدر. " (5)
فيظهر بذلك كله عدم كون غنائم بدر موردا لآية الخمس.
أقول: يرد على ذلك أولا: أن ظاهر آية الخمس كونها نازلة في بدر وفي يوم

1 - الأم للشافعي 4 / 65، تفريق القسم فيما أوجف عليه الخيل والركاب; وسيرة ابن هشام
2 / 297.
2 - الدر المنثور 3 / 158.
3 - الدر المنثور 3 / 187.
4 - تفسير القرطبي 8 / 9.
5 - تفسير على بن إبراهيم (القمي) 1 / 235، في تفسير سورة الأنفال (= ط. أخرى 1 / 255).
49

حادثته، لأنه المراد بيوم الفرقان يوم التقى الجمعان في الآية الشريفة كما وردت
به أخبار، اللهم إلا أن يقال إن قوله: وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان إشارة إلى نزول
آية الأنفال لا آية الخمس.
وثانيا: أن ما ذكر من الأخبار أخبار آحاد عارضها أخبار أخر:
فعن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: سورة الأنفال؟ قال: " نزلت في
بدر. " (1)
وظاهرها تمام السورة.
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: " كان لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر، وكان
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أعطاني شارفا من الخمس يومئذ. " (2)
أقول: الشارف: الناقة المسنة.
وفي الرسالة المنسوبة إلى الإمام الصادق (عليه السلام) بعد ذكر نزول آية الأنفال في بدر
قال: " فلما قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة أنزل الله عليه: " واعلموا أنما غنمتم...
فخمس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الغنيمة التي قبض بخمسة أسهم فقبض سهم الله لنفسه... فهذا
يوم بدر وهذا سبيل الغنائم التي أخذت بالسيف... " (3) وظاهره تخميس غنيمة بدر.
وثالثا: لعل عدم تخميس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لغنائم بدر على فرض صحته كان من جهة
عدم الاحتياج إليه وعدم وجود مصرفه في ذلك اليوم، ولكن الله - تعالى - أراد بإنزال
الآية الشريفة تفهيمهم بأن الخمس ثابت بحسب التشريع لئلا يتوقع المقاتلون في
الوقائع الآتية تقسيم جميع الغنيمة.
ورابعا: أن عدم تخميس مغانم بدر لا يدل على عدم ثبوت الخمس في سائر مغانم
الحروب، فتدبر.

1 - الدر المنثور 3 / 158.
2 - تفسير القرطبي 8 / 9، عن مسلم في صحيحه.
3 - تحف العقول / 341.
50

الجهة الثانية:
فيما يجب فيه الخمس:
قال المحقق في خمس الشرائع:
" فيما يجب فيه، وهو سبعة: الأول: غنائم دار الحرب مما حواه العسكر وما لم
يحوه من أرض وغيرها، ما لم يكن غصبا من مسلم أو معاهد، قليلا كان أو كثيرا.
الثاني: المعادن، سواء كانت منطبعة كالذهب والفضة والرصاص، أو غير منطبعة
كالياقوت والزبرجد والكحل، أو مائعة كالقير والنفط والكبريت...
الثالث: الكنوز، وهو كل مال مذخور تحت الأرض...
الرابع: كل ما يخرج من البحر بالغوص كالجواهر والدرر...
الخامس: ما يفضل عن مؤونة السنة له ولعياله من أرباح التجارات
والصناعات الزراعات.
السادس: إذا اشترى الذمي أرضا من مسلم وجب فيها الخمس...
السابع: الحلال إذا اختلط بالحرام ولا يتميز وجب فيه الخمس. " (1)
وقال في المدارك:
" هذا الحصر استقرائي مستفاد من تتبع الأدلة الشرعية، وذكر الشهيد في البيان أن
هذه السبعة كلها مندرجة في الغنيمة. " (2)
أقول: إدراج الحلال المختلط بالحرام والأرض التي اشتراها الذمي من المسلم في
عنوان الغنيمة لا يخلو من إشكال، ولعل الخمس فيهما أيضا سنخ آخر وله مصرف
آخر كما

1 - الشرائع 1 / 179 - 181 (= طبعة أخرى 1 / 133).
2 - المدارك / 335.
51

سيأتي، وأما الخمسة الأخر فهي مندرجة تحت عنوان الغنيمة وتشملها الآية
الشريفة بعمومها كما مر، ولا نتقيد بصدق العناوين الخاصة بعد صدق عنوان الغنيمة
عليها.
وبالجملة، فموضوع الخمس المصطلح هو أمر واحد تعرض له الكتاب
العزيز، الملاك في جميع الموارد هو صدق هذا العنوان أعني قوله: " ما غنمتم " بمفهومه
العام، فتدبر.
وتفصيل البحث في الخمس يطلب من الكتب الفقيهة، وقد طبع منا في سالف
الزمان أيضا كتاب في الخمس والأنفال، وإنما نتعرض هنا للموضوعات السبعة بنحو
الإجمال فنقول:
الأول: غنائم دار الحرب:
ويدل على ثبوت الخمس فيها إجمالا الكتاب والسنة وإجماع المسلمين. وقد مر
البحث في الآية الشريفة إجمالا.
ومن السنة قوله (عليه السلام) في صحيحة عبد الله بن سنان السابقة، قال: سمعت أبا
عبد الله (عليه السلام) يقول: " ليس الخمس إلا في الغنائم خاصة. " (1) والمتيقن منها غنائم
الحرب.
وخبر أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " كل شيء قوتل عليه على شهادة أن
لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن لنا خمسه... " (2)
ومرسلة حماد الطويلة، عن بعض أصحابنا، عن العبد الصالح (عليه السلام)، قال: " الخمس
من خمسة أشياء: من الغنائم والغوص، ومن الكنوز، ومن المعادن والملاحة.
الحديث. " (3)

1 - الوسائل 6 / 338، الباب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 1.
2 - الوسائل 6 / 339، الباب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 5.
3 - الوسائل 6 / 339، الباب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 4.
52

إلى غير ذلك من الأخبار ومنها صحيحة ربعي الآتية. (1)
وبالجملة ثبوت الخمس إجمالا في غنائم الحرب مما لا إشكال فيه، من غير فرق
بين القليل منها والكثير، فلا يعتبر فيها نصاب.
وظاهر المشهور ثبوت الخمس حتى في الأراضي التي لا تقسم عندنا بين
الغانمين بل تبقى للمسلمين، فقد لاحظت آنفا عبارة الشرائع في الخمس وقال في
الجهاد منه:
" وأما ما لا ينقل فهو للمسلمين قاطبة وفيه الخمس، والإمام مخير بين إفراز
خمسه لأربابه وبين إبقائه وإخراج الخمس من ارتفاعه. " (2)
وقال الشيخ في كتاب الفيء من الخلاف (المسألة 18):
" وما لا ينقل ولا يحول من الدور والعقارات والأرضين عندنا إن فيه الخمس،
فيكون لأهله والباقي لجميع المسلمين من حضر القتال ومن لم يحضر فيصرف
ارتفاعه إلى مصالحهم، وعند الشافعي أن حكمه حكم ما ينقل ويحول: خمسه لأهل
الخمس والباقي للمقاتلة الغانمين، وبه قال ابن الزبير... " (3)
وبذلك أفتى الشيخ في النهاية والمبسوط أيضا، فراجع. (4)
واستدل لذلك بعموم الآية وعموم رواية أبي بصير التي مرت. (5)
وخالف في ذلك صاحب الحدائق فقال ما حاصله:
" قد تتبعت ما حضرني من كتب الأخبار فلم أقف فيها على ما يدل على دخول
الأرض ونحوها في الغنيمة التي يتعلق بها الخمس. " (6)
ثم ذكر ثلاث طوائف من الأخبار وأراد أن يستنتج منها عدم الخمس فيها:
الأولى: ما وردت في تقسيم الغنيمة، مثل صحيحة ربعي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)،

1 - الوسائل 6 / 356، الباب 1 من أبواب قسمة الخمس، الحديث 3.
2 - الشرائع 1 / 322 (= طبعة أخرى / 245).
3 - الخلاف 2 / 333.
4 - النهاية / 198; والمبسوط 1 / 235 و 236.
5 - الوسائل 6 / 339، الباب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 5.
6 - الحدائق 12 / 325.
53

قال: " كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أتاه المغنم أخذ صفوه وكان ذلك له ثم يقسم ما بقي
خمسة أخماس ويأخذ خمسه ثم يقسم أربعة أخماس بين الناس الذين قاتلوا
عليه... " (1)
فمن أمثال هذه الروايات لا يستفاد حكم الأرض قطعا، إذ الأرض لا تقسم بين
المقاتلين قطعا، بل لعل المستفاد منه أن الخمس إنما يثبت فيما يقسم.
الثانية: ما دلت على أن الأرض المفتوحة عنوة فيء لجميع المسلمين من وجد من
سيوجد إلى يوم القيامة وأن أمرها إلى الإمام يقبلها أو يعمرها ويصرف حاصلها في
مصالح المسلمين.
والظاهر منها أن ذلك حكم جميع الأرض لا أربعة أخماسها.
الثالثة: ما ورد في بيان عمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام بالنسبة إلى الأرض المفتوحة عنوة
ومنها أرض خيبر، ولم يتعرض في واحدة منها للتخميس مع بيان الزكاة في حاصلها،
ولو ثبت الخمس فيها لكان أولى بالذكر لتعلقه برقبة الأرض.
فمن هذه الروايات ما عن الكافي بسنده، عن صفوان والبزنطي، قالا: ذكرنا له
الكوفة وما وضع عليها من الخراج وما سار فيها أهل بيته، فقال: " من أسلم طوعا
تركت أرضه في يده... وما أخذ بالسيف فذلك إلى الإمام يقبله بالذي يرى، كما صنع
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بخيبر: قبل سوادها وبياضها، يعني أرضها ونخلها... وعلى المتقبلين
سوى قبالة الأرض العشر ونصف العشر في حصصهم، الحديث. " (2) ونحوه صحيحة
البزنطي، عن الرضا (عليه السلام). (3)
أقول: لا يخفى أن الطائفة الأولى لا دلالة لها على المقصود، إذ غاية الأمر قصورها
عن إفادة التعميم لا أنها صالحة لتقييد الآية والرواية -، وأما الطائفتان الأخيرتان
فدلالتهما واضحة، وهما أخص موردا من الآية والرواية - وإطلاق الخاص مقدم -،
بل في المستمسك:
" أن ظاهر النصوص الإشارة إلى الأرض الخارجية الخراجية، فالموضوع نفس

1 - الوسائل 6 / 356، الباب 1 من أبواب قسمة الخمس، الحديث 3.
2 - الوسائل 11 / 120، الباب 72 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1 و 2.
3 - الوسائل 11 / 120، الباب 72 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1 و 2.
54

الأرض، والحمل على المقدار الزائد على الخمس تجوز لا قرينة عليه. " (1)
والحاصل أن الروايات الكثيرة الواردة في بيان حكم أرض الخراج وبيان سيرة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيها مع كونها في مقام البيان ساكتة عن ثبوت الخمس فيها وهي أخص
موردا من الآية والرواية.
بل لأحد أن يدعي انصراف الآية الشريفة عن مثل الأراضي التي هي فيء لعنوان
المسلمين عموما، كما يظهر من تقريرات بحث السيد الأستاذ آية الله العظمى
البروجردي - طاب ثراه - في الخمس (2)، فإن الخطاب فيها متوجه إلى خصوص من
غنم بشخصه أو حضر الحرب وجاهد واغتنم، والأراضي ليست غنيمة عائدة إليهم
كما هو المفروض، بل هي غنيمة للإسلام وعنوان المسلمين، وظاهر الخطاب في قوله:
" غنمتم " كونه للأشخاص الغانمين لا للحيثيات والعناوين، فتدبر.
بل يظهر من بعض أن لفظ الغنيمة منصرف إلى خصوص المنقولات، قال
الماوردي: " وأما الأموال المنقولة فهي الغنائم المألوفة. " (3)
هذا مضافا إلى أنه لم يعهد من الخلفاء ومن أمير المؤمنين (عليه السلام) تخميس أراضي
العراق وغيرها من الأراضي التي فتحت عنوة، ولا تخميس خراجها وعوائدها
السنوية، ولو كان هذا لبان وأثبته المؤرخون.
وإلى أن الخمس كما يأتي بيانه من الضرائب والماليات المقررة في الإسلام
لمنصب الإمامة والحكومة الحقة، كما أن الأراضي المفتوحة عنوة أيضا تكون من هذا
القبيل وتكون تحت اختيار الحكومة الإسلامية وإمام المسلمين كما مر في خبر
صفوان والبزنطي. (4)
ولم يعهد في الحكومات المتعارفة جعل الضرائب على الضرائب والأموال العامة
الواقعة تحت اختيار الحكومة وإن اختلفت فيها المصارف والجهات. وإنما توضع

1 - المستمسك 9 / 444.
2 - زبدة المقال / 16.
3 - الأحكام السلطانية / 138.
4 - الوسائل 11 / 120، الباب 72 من أبواب جهاد العدو...، الحديث 1.
55

الضرائب على غنائم الناس وفوائدهم بنفع بيت المال.
ويشهد لذلك قوله (عليه السلام) في مرسلة حماد الطويلة، عن العبد الصالح (عليه السلام): " وليس في
مال الخمس زكاة لأن فقراء الناس جعل أرزاقهم في أموال الناس... ولذلك لم يكن
على مال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والوالي زكاة. " (1)
ويمكن أن يحمل على ذلك أيضا ما رواه أبو بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلت
له: أما على الإمام زكاة؟ فقال: " أحلت يا أبا محمد؟ أما علمت أن الدنيا والآخرة
للإمام يضعها حيث يشاء ويدفعها إلى من يشاء؟ الحديث. " (2)
فيكون المراد أن ما هو ملك للإمام بما أنه إمام أي ما حصل في بيت مال المسلمين
لا يتعلق به زكاة، وإلا فيستبعد جدا عدم تعلق الزكاة بما هو ملك لشخص الإمام (عليه السلام)
إذا بلغ النصاب المقرر، فإنه (عليه السلام) أحد من المكلفين، وعمومات التكليف تشمله، فكما
تجب عليه الصلاة في أوقاتها الخمسة فكذلك تتعلق الزكاة بأمواله الشخصية أيضا إذا
بلغت النصاب المقرر. هذا.
وفي كتاب الخراج ليحيى بن آدم القرشي قال:
" وقال بعض الفقهاء: الأرض لا تخمس لأنها فيء وليست بغنيمة لأن الغنيمة
لا توقف، والأرض إن شاء الإمام وقفها وإن شاء قسمها كما يقسم الفيء فليس في
الفيء خمس ولكنه لجميع المسلمين... " (3). هذا.
وقد عثرت بعد ما كتبت المسألة على أخبار ربما يستفاد منها تخميس
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأراضي خيبر أو عوائدها وخيبر كانت مفتوحة عنوة:
ففي سيرة ابن هشام:
" قال ابن إسحاق: وكانت المقاسم على أموال خيبر على الشق ونطاة والكتيبة،
فكانت الشق ونطاة في سهمان المسلمين، وكانت الكتيبة خمس الله وسهم

1 - الوسائل 6 / 359، الباب 1 من أبواب قسمة الخمس، الحديث 8.
2 - الكافي 1 / 408، كتاب الحجة، باب أن الأرض كلها للإمام، الحديث 4.
3 - الخراج / 20.
56

النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسهم ذوي القربى واليتامى والمساكين (وابن السبيل - الطبري.) طعم
أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وطعم رجال مشوا بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين أهل فدك بالصلح...
فأخبرني ابن شهاب أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) افتتح خيبر عنوة بعد القتال وكانت خيبر مما
أفاه الله - عز وجل - على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خمسها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقسمها بين
المسلمين. " (1)
وروى صدر الحديث الطبري أيضا (2)، وروى خبر ابن شهاب أبو عبيد أيضا (3).
ولكن يمكن أن يقال: إن الظاهر مما ذكر تقسيم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نفس أراضي
خيبر لا تقسيم عوائدها فقط، فلعل التخميس على فرض صحة الراوية كان ثابتا عند
التقسيم لا مطلقا لما عرفت من أنه لم يعهد التخميس في أراضي العراق ونحوها، ولعل
الحكم الشرعي في بادي الأمر كان تقسيم الأراضي أيضا أو تخيير الإمام بينه وبين
وقفها للمسلمين ثم نسخ بعد ذلك على ما يشهد به الروايات والعمل كما يأتي.
قال أبو عبيد:
" فقد تواترت الآثار في افتتاح الأرضين عنوة بهذين الحكمين: أما الأول منهما
فحكم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في خيبر وذلك أنه جعلها غنيمة فخمسها وقسمها... وأما
الحكم الآخر فحكم عمر في السواد وغيره، وذلك أنه جعله فيئا موقوفا على
المسلمين ما تناسلوا ولم يخمسه، وهو الرأي الذي أشار به عليه علي بن أبي طالب
ومعاذ بن جبل. " (4)
هذا مضافا إلى أن المستفاد من صحيحة صفوان والبزنطي الماضية ونحوها عدم
التقسيم لأراضي خيبر ولم يذكر فيها الخمس أيضا.

1 - سيرة ابن هشام 3 / 363 و 371.
2 - تاريخ الطبري 3 / 1588 (طبعة ليدن).
3 - الأموال / 70.
4 - الأموال / 75.
57

وفي البخاري أيضا بسنده، عن عبد الله، قال: " أعطى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خيبر اليهود
أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما يخرج منها. " (1)
فليس فيه أيضا اسم من التقسيم ولا الخمس، ولعل إعطاءه (صلى الله عليه وآله وسلم) سهما من عوائدها
إلى أزواجه وعائلته قد عبر عنه الأصحاب بالخمس وهما منهم أنه كان من باب
التخميس المصطلح، وقد يعبر عن سهم النبي وسهم ذي القربى في باب الفيء أيضا
بالخمس توهما منهم على وجوب تخميس الفيء خمسة أسهم حذفا لسهم الله. يأتي
تتمة لذلك في فصل الفيء ومصرفه، فتدبر.
فإن قلت: في صحيح مسلم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " وأيما قرية عصت الله ورسوله
فإن خمسها لله ولرسوله ثم هي لكم. " (2)
ورواه احمد أيضا في المسند. (3) وظاهر الحديث أيضا تقسيم الأرض تخميسها.
قلت: يمكن أن يحمل الحديث أيضا على تقسيم الفيء، فتكون القرية مفتوحة
صلحا، أو يراد تقسيم أموال القرية التي حواها العسكر فتخمس وتقسم البقية بين
المقاتلين، فتأمل.
الثاني مما فيه الخمس: المعادن:
من الذهب والفضة والرصاص والصفر والحديد والياقوت والزبرجد
والفيروزج العقيق والزيبق والنفط والكبريت والقير والملح ونحو ذلك.
ولا إشكال عندنا في تعلق الخمس بها. ويدل على ذلك مضافا إلى عموم الآية

1 - صحيح البخاري 2 / 76، باب مشاركة الذمي والمشركين في المزارعة.
2 - صحيح مسلم 3 / 1376، كتاب الجهاد والسير، باب حكم الفيء، الحديث 1756.
3 - مسند أحمد 2 / 317.
58

الشريفة كما مر، الأخبار المستفيضة:
1 - كصحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: سألته عن معادن
الذهب الفضة والصفر والحديد والرصاص، فقال: " عليها الخمس جميعا. " (1)
2 - وصحيحة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن المعادن ما فيها؟ فقال: " كل
ما كان ركازا ففيه الخمس. " وقال: " ما عالجته بمالك ففيه ما أخرج الله - سبحانه - منه
من حجارته مصفى الخمس. " (2)
3 - وصحيحة الحلبي، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الكنز كم فيه؟ قال:
الخمس. عن المعادن كم فيها؟ قال: الخمس. وعن الرصاص والصفر والحديد وما كان
من المعادن كم فيها؟ قال: " يؤخذ منها كما يؤخذ من معادن الذهب والفضة. " (3)
4 - وصحيحة محمد بن مسلم الأخرى، قال: " سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الملاحة،
فقال: وما الملاحة؟ فقلت: أرض سبخة مالحة يجتمع فيه الماء فيصير ملحا، فقال: هذا
المعدن فيه الخمس. فقلت: والكبريت والنفط يخرج من الأرض؟ قال: فقال:
هذا أشباهه فيه الخمس. " (4)
إلى غير ذلك من الأخبار، فراجع الوسائل، الباب الثالث مما يجب فيه الخمس.
ووافقنا في المسألة بعض فقهاء السنة أيضا:
ففي زكاة الخلاف (المسألة 137):
" المعادن كلها يجب فيها الخمس من الذهب والفضة والحديد والصفر والنحاس
والرصاص ونحوها مما ينطبع ومما لا ينطبع كالياقوت والزبرجد والفيروزج ونحوها،

1 - الوسائل 6 / 342، الباب 3 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 1.
2 - الوسائل 6 / 343، الباب 3 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 3.
3 - الوسائل 6 / 342، الباب 3 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 2.
4 - الوسائل 6 / 343، الباب 3 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 4.
59

وكذلك القير والموميا والملح والزجاج وغيره.
وقال الشافعي: لا يجب في المعادن شيء إلا الذهب والفضة، فإن فيهما الزكاة،
وما عداهما ليس فيه شيء، انطبع أو لم ينطبع.
وقال أبو حنيفة: كل ما ينطبع مثل الحديد والرصاص والذهب والفضة ففيه
الخمس، وما لا ينطبع فليس فيه شيء...
دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضا قوله - تعالى -: " واعلموا أنما غنمتم من
شيء... وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " في الركاز الخمس " والمعدن ركاز. " (1)
وفي خراج أبي يوسف القاضي:
" قال أبو يوسف: في كل ما أصيب من المعادن من قليل أو كثير الخمس، ولو أن
رجلا أصاب في معدن أقل من وزن مأتي درهم فضة أو أقل من وزن عشرين مثقالا
ذهبا فإن فيه الخمس، ليس هذا على موضع الزكاة، إنما هو على موضع الغنائم، وليس
في تراب ذلك شيء، إنما الخمس في الذهب الخالص وفي الفضة الخالصة
والحديد النحاس والرصاص... وما استخرج من المعادن سوى ذلك من الحجارة مثل
الياقوت والفيروزج والكحل والزيبق والكبريت والمغرة فلا خمس في شيء من
ذلك، إنما ذلك كله بمنزلة الطين والتراب... قال: وأما الركاز فهو الذهب والفضة الذي
خلقه الله - عز وجل - في الأرض يوم خلقت، فيه أيضا الخمس... قال أبو
يوسف: حدثني عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن جده، قال: كان أهل
الجاهلية إذا عطب الرجل في قليب جعلوا القليب عقله، وإذا قتلته دابة جعلوها عقله،
وإذا قتله معدن جعلوه عقله، فسأل سائل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك. فقال (صلى الله عليه وآله وسلم):
العجماء جبار، والمعدن جبار، والبئر جبار، وفي الركاز الخمس. " فقيل له: ما الركاز؟
يا رسول الله! فقال: الذهب والفضة الذي خلقه الله في الأرض يوم خلقت. " (2)

1 - الخلاف 1 / 319.
2 - الخراج / 21 و 22.
60

أقول: الجبار بالضم: الهدر. والركاز بالكسر من الركز بمعنى الثبات، فتخصيصه
بالذهب والفضة بلا وجه إلا أن يكونا من باب المثال، والظاهر أن الركاز بمفهومه
يشمل المعدن والكنز كليهما، بل صدق مفهوم الثبات في المعدن أقوى وأشد. وقوله
في الحديث: " خلقه الله في الأرض يوم خلقت " أيضا ظاهر في المعدن.
وفي نهاية ابن الأثير:
" الركاز عند أهل الحجاز كنوز الجاهلية المدفونة في الأرض، وعند أهل العراق:
المعادن. والقولان تحتملهما اللغة، لأن كلا منهما مركوز في الأرض، أي ثابت " (1)
وفي كتاب الأموال لأبي عبيد:
" وقد اختلف الناس في معنى الركاز: فقال أهل العراق: هو المعدن والمال المدفون
كلاهما، وفي كل واحد منهما الخمس. وقال أهل الحجاز: الركاز هو المال المدفون
خاصة، وهو الذي فيه الخمس. قالوا: فأما المعدن فليس بركاز ولا خمس فيه، إنما فيه
الزكاة فقط. " (2)
وقد مرت صحيحة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: سألته عن المعادن ما فيها؟
فقال: " كل ما كان ركازا ففيه الخمس. " (3) وظاهرها إرادة المعدن من الركاز.
وفي سنن البيهقي بسنده، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " الركاز:
الذهب الذي ينبت في الأرض. " (4) وهذا أيضا ينطبق على المعدن.
ولكن في صحيح البخاري:
" قال مالك وابن إدريس: الركاز دفن الجاهلية، في قليله وكثيره الخمس، وليس
المعدن بركاز. " (5)

1 - النهاية 2 / 258.
2 - الأموال / 422.
3 - الوسائل 6 / 343، الباب 3 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 3.
4 - سنن البيهقي 4 / 152، كتاب الزكاة، باب من قال المعدن ركاز فيه الخمس.
5 - صحيح البخاري 1 / 262، باب في الركاز الخمس.
61

ولم يعلم وجه ما ذكره، اللهم الا أن يقال: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يتكلم بلغة الحجاز.
هذا.
وحديث الخمس في الركاز - على ما قيل - مروي عن ابن عباس وأبي
هريرة جابر وعبادة بن الصامت وأنس بن مالك عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). رواه البخاري ومسلم
وأبو داود والترمذي وابن ماجة ومالك وأحمد والبيهقي. راجع كتاب الزكاة من
البخاري باب في الركاز الخمس، والحدود من مسلم باب جرح العجماء والمعدن البئر
جبار، والزكاة من البيهقي (1)، وراجع أيضا ديات الوسائل (2).
والخمس عندنا ثابت في جميع المعادن: المنطبعة وغيرها والجامدة والمائعة،
فنفي الخمس عن الياقوت وأمثاله بلا وجه.
وقد شرحنا مفهوم المعدن وحكينا كلمات أهل اللغة فيه في كتاب
الخمس (3). محصل ما اخترناه أن المراد به مطلق ما تكون في الأرض ولو كان مائعا
إذا اشتمل على خصوصية يعظم الانتفاع بها وتصيره ذا قيمة وإن لم يخرج بها عن
حقيقة الأرضية كبعض الأحجار القيمة.
وهل يعتبر في خمس المعدن النصاب؟ في المسألة أقوال ثلاثة: الأول: عدم
اعتباره. الثاني: اعتبار بلوغه عشرين دينارا. الثالث: اعتبار بلوغه دينارا. نسب
الأول إلى أكثر القدماء، وظاهر الخلاف والسرائر الإجماع عليه، واختار بعض
الأصحاب ومنهم الشيخ في النهاية الثاني، وآخر الثالث، وبكل من الأخيرين رواية،
فراجع كتاب الخمس (4).
وههنا إشكال ينبغي الالتفات إليه، وهو أن الأقوى عندنا على ما يأتي بيانه يستفاد
من بعض الأخبار كون المعادن من الأنفال، والأنفال تكون بأجمعها

1 - صحيح البخاري 1 / 262; وصحيح مسلم 3 / 1334; وسنن البيهقي 4 / 152.
2 - الوسائل 19 / 203، الباب 32 من أبواب موجبات الضمان.
3 - كتاب الخمس / 43 وما بعدها.
4 - كتاب الخمس / 48 وما بعدها.
62

للإمام بما أنه إمام المسلمين، وظاهر الأخبار الدالة على وجوب الخمس في
المعدن كون الباقي بعد الخمس لمن أخرجه فكيف الجمع بين هذين الأمرين؟
ويمكن أن يجاب عن ذلك أولا: بأن جعل الخمس فيها لعله كان من قبل
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) بما هم أئمة، وحكما سلطانيا بعنوان حق الاقطاع، فيكون
نفس ذلك إذنا منهم - عليهم السلام - في استخرج المعادن بإزاء تأدية الخمس من
حاصلها.
وثانيا: باحتمال كون التخميس حكما شرعيا إلهيا ثابتا لمن أخرج المعادن بإذنهم
- عليهم السلام - ولو بالتحليل المطلق في عصر الغيبة. وكون الخمس بعنوان حق
الإقطاع لا يقتضي اختصاص الإمام - عليه السلام - به وعدم صرف نصفه إلى السادة
كما توهم، إذا هو تابع لكيفية جعل الإمام إياه.
هذا مضافا إلى ما يأتي منا من احتمال كون الخمس بأجمعه مطلقا حقا وحدانيا
ثابتا للإمام كما يدل عليه بعض الأخبار ويعبر عنه بحق الإمارة غاية الأمر أن إدارة
أمر فقراء بني هاشم تكون من وظائف الإمام ومن شؤونه بما أنهم من أغصان شجرة
النبوة والإمامة، فتدبر. هذا.
وتحليل الأئمة (عليهم السلام) الأنفال لشيعتهم في عصر الغيبة لا ينافي جواز دخالة الحاكم
الشرعي فيها مع بسط يده، إذ الظاهر أن التحليل صدر عنهم توسعة للشيعة عند عدم
بسط اليد للحكومة الحقة وعدم تصرفها فيها بنفسها.
وعلى هذا فإذا فرض تصرف الحكومة الحقة في المعادن واستخراجها لها مباشرة
فالظاهر عدم تعلق الخمس بها حينئذ، إذ الخمس كما عرفت ضريبة إسلامية، ومورده
هو ما يغنمه الناس فلا يتعلق بما يغنمه الدولة والحكومة بنفسها، وسيأتي لذلك تفصيل
في مبحث الأنفال.
63

الثالث مما فيه الخمس: الكنز:
وهو المال المذخور في الأرض أو الجدار أو الجبل، سواء كان من الذهب أو
الفضة أو غيرهما من الجواهر، ولا خلاف في ثبوت الخمس فيه إجمالا بين الفريقين:
قال الشيخ في زكاة الخلاف (المسألة 145):
" الركاز هو الكنز المدفون، يجب فيه الخمس بلا خلاف. ويراعى عندنا فيه أن يبلغ
نصابا يجب في مثله الزكاة، وهو قول الشافعي في الجديد، وقال في القديم: يخمس
قليله وكثيره، وبه قال مالك وأبو حنيفة. دليلنا إجماع الفرقة... " (1)
نعم، في مصرف خمس الكنز والمعادن عند فقهاء السنة خلاف: قال في الخلاف
(المسألة 151):
" مصرف الخمس من الركاز والمعادن مصرف الفيء، وبه قال أبو حنيفة. وقال
الشافعي وأكثر أصحابه: مصرفها مصرف الزكاة، وبه قال مالك والليث بن سعد. وقال
المزني وابن الوكيل من أصحاب الشافعي: مصرف الواجب في المعدن مصرف
الصدقات، وأما مصرف حق الركاز فمصرف الفيء. " (2) هذا.
ويدل على ثبوت الخمس في الكنز - مضافا إلى عدم الخلاف فيه وصدق الغنم في
الآية - أخبار مستفيضة:
منها صحيحة الحلبي أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن الكنز، كم فيه؟ فقال: " الخمس...
" (3)
ومنها صحيحة البزنطي، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، قال: سألته عما يجب فيه

1 - الخلاف 1 / 321.
2 - الخلاف 1 / 322.
3 - الوسائل 6 / 345، الباب 5 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 1.
64

الخمس من الكنز، فقال: " ما يجب الزكاة في مثله ففيه الخمس. " (1)
وهل المراد بالمثلية، المثلية في الجنس أو المقدار أو كليهما؟ وجوه ذكرناها في
كتاب الخمس، فراجع (2).
وههنا أمر ينبغي الإشارة إليه، وهو أنه من المحتمل جدا كون الكنز أيضا مثل
المعدن من الأنفال، أعني الأموال العامة التي تكون بأجمعها تحت اختيار
الإمام. الحكم بالتخميس إما أن يكون إذنا من قبل الأئمة (عليهم السلام) في استخراجه ويكون
الخمس حكما سلطانيا بعنوان حق الإقطاع، أو يكون حكما شرعيا إلهيا ثابتا على
من استخرجه بإذن الإمام.
وكيف كان فللإمام أو الحاكم الشرعي عند بسط اليد منع الأشخاص عن
استخراجه. ولو استخرجه الإمام أو الحاكم الشرعي بنفسه فلا خمس فيه. فوزانه
وزان المعدن على ما مر. ويساعد ذلك الاعتبار العقلائي والسيرة الجارية في جميع
البلاد أيضا، فتدبر.
الرابع مما فيه الخمس: الغوص:
وهو إخراج الجواهر من البحر بلا خلاف فيه عندنا.
ويشهد له، مضافا إلى صدق الغنم في الآية، النصوص:
ففي خبر البزنطي، عن محمد بن علي بن أبي عبد الله، عن أبي الحسن (عليه السلام)، قال:
سألته عما يخرج من البحر من اللؤلؤ والياقوت والزبرجد، وعن معادن الذهب والفضة

1 - الوسائل 6 / 345، الباب 5 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 2.
2 - كتاب الخمس / 79 وما بعدها.
65

هل فيها زكاة؟ فقال: " إذا بلغ قيمته دينارا ففيه الخمس. " (1)
وفي صحيحة الحلبي، قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن العنبر وغوص اللؤلؤ، فقال:
عليه الخمس. " (2) إلى غير ذلك من الأخبار.
ونصاب الغوص دينار كما هو المشهور شهرة محققة، ويدل عليه رواية محمد بن
علي.
الخامس مما فيه الخمس: ما يفضل عن مؤونة السنة:
من أرباح التجارات والصناعات والزراعات.
وثبوت الخمس فيه إجمالا مما لا إشكال فيه عند أصحابنا وإن لم يوافقنا فقهاء
السنة.
ويدل عليه عموم الكتاب وإجماع أصحابنا والروايات المستفيضة إن لم تكن
متواترة.
أما الكتاب فواضح، لصدق قوله: " ما غنمتم "، على ما مر من بيان مفاده.
وفي الانتصار:
" ومما انفردت به الإمامية القول بأن الخمس واجب من جميع المغانم والمكاسب،
ومما استخرج من المعادن والغوص والكنوز، ومما فضل من أرباح
التجارات الزراعات والصناعات بعد المؤونة والكفاية في طول السنة على
اقتصاد. " (3)
وقال الشيخ في زكاة الخلاف (المسألة 138):
" يجب الخمس في جميع المستفاد من أرباح التجارات والغلات والثمار على

1 - الوسائل 6 / 343، الباب 3 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 5.
2 - الوسائل 6 / 347، الباب 7 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 1.
3 - الجوامع الفقهية / 155 (= طبعة أخرى / 113).
66

اختلاف أجناسها بعد إخراج حقوقها ومؤنها، وإخراج مؤونة الرجل لنفسه ومؤونة
عياله سنة، ولم يوافقنا على ذلك أحد من الفقهاء. دليلنا إجماع الفرقة
وأخبارهم، طريقة الاحتياط تقتضي ذلك. " (1)
وفي الغنية:
" ويجب الخمس أيضا في الفاضل عن مؤونة الحول على الاقتصاد من كل مستفاد
بتجارة أو زراعة أو صناعة أو غير ذلك من وجوه الاستفادة أي وجه كان، بدليل
الإجماع المشار إليه وطريقة الاحتياط. " (2)
وقال العلامة في المنتهى:
" الصنف الخامس: أرباح التجارات والزراعات والصنائع وجميع أنواع
الاكتسابات وفواضل الأقوات من الغلات والزراعات عن مؤونة السنة على
الاقتصاد. ويجب فيها الخمس، وهو قول علمائنا أجمع، وقد خالف فيه الجمهور كافة،
لنا قوله - تعالى -: " واعلموا أنما غنمتم. الآية. " (3)
وذكر نحو ذلك في التذكرة أيضا، فراجع (4). إلى غير ذلك من كلمات الأصحاب
في المقام، فراجع كتاب الخمس منا. (5)
وأما الأخبار في المسألة فكثيرة ذكرها في الوسائل في الباب الثامن مما يجب
فيه الخمس، فلنذكر بعضها:
1 - موثقة سماعة، قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الخمس، فقال: " في كل ما أفاد
الناس من قليل أو كثير. " (6)
2 - وفي صحيحة على بن مهزيار الطويلة، قال: كتب إليه أبو جعفر (عليه السلام) (إلى

1 - الخلاف 1 / 319.
2 - الجوامع الفقهية / 507 (= طبعة أخرى / 569).
3 - المنتهى 1 / 548، والآية من سورة الأنفال (8) الآية 41.
4 - التذكرة 1 / 253.
5 - كتاب الخمس / 145 وما بعدها.
6 - الوسائل 6 / 350، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 6.
67

أن قال): " فأما الغنائم والفوائد فهي واجبة عليهم في كل عام. قال الله - تعالى
-: اعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه. الآية. فالغنائم والفوائد - يرحمك الله -
فهي الغنيمة يغنمها المرأ والفائدة يفيدها، والجائزة من الإنسان للإنسان التي لها خطر،
والميراث الذي لا يحتسب من غير أب ولا ابن، ومثل عدو يصطلم فيؤخذ ماله، ومثل
مال يؤخذ ولا يعرف له صاحب، وما صار إلى قوم من موالي من أموال الخرمية
الفسقة. فقد علمت أن أموالا عظاما صارت إلى قوم من موالي، فمن كان عنده شيء
من ذلك فليوصله إلى وكيلي، ومن كان نائيا بعيد الشقة فليتعمد لإيصاله ولو بعد حين.
الحديث. " (1)
والرواية من الروايات الجامعة في الباب وقد شرحناها في كتاب الخمس،
فراجع (2)
ولعل تقييد الجائزة بالتي لها خطر والميراث بالذي لا يحتسب يشهدان بما مر منا
من اشتراط عدم الترقب في صدق عنوان الغنيمة.
3 - وفي صحيحة أخرى لعلي بن مهزيار قال: قال لي أبو علي بن راشد: قلت له:
أمرتني بالقيام بأمرك وأخذ حقك، فأعلمت مواليك بذلك، فقال لي بعضهم: وأي شيء
حقه؟ فلم أدر ما أجيبه؟ فقال: " يجب عليهم الخمس. " فقلت: ففي أي شيء؟ فقال:
" في أمتعتهم وصنائعهم (ضياعهم خ. ل). " قلت: والتاجر عليه والصانع بيده؟ فقال:
" إذا أمكنهم بعد مؤونتهم. " (3)
وأبو علي بن راشد اسمه الحسن، بغدادي ثقة من أصحاب الجواد والهادي -
عليهما السلام -، وكان وكيلا للإمام الهادي - عليه السلام -، فالظاهر عود الضمير في
قوله: " قلت له " إليه - عليه السلام -.
4 - حسنة محمد بن الحسن الأشعري، قال: كتب بعض أصحابنا إلى أبي جعفر
الثاني (عليه السلام): أخبرني عن الخمس، أعلى جميع ما يستفيد الرجل من قليل وكثير من

1 - الوسائل 6 / 349، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 5.
2 - كتاب الخمس / 165.
3 - الوسائل 6 / 348، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 3.
68

جميع الضروب وعلى الصناع، وكيف ذلك؟ فكتب (عليه السلام) بخطه: " الخمس بعد
المؤونة " (1)
5 - وفي خبر محمد بن علي بن شجاع النيسابوري أنه سأل أبا الحسن الثالث (عليه السلام)
عن رجل أصاب من ضيعته من الحنطة مأة كر ما يزكى، فأخذ منه العشر عشرة أكرار،
وذهب منه بسبب عمارة الضيعة ثلاثون كرا، وبقي في يده ستون كرا، ما الذي يجب
لك من ذلك؟ وهل يجب لأصحابه من ذلك عليه شيء؟ فوقع: " لي منه الخمس مما
يفضل من مؤونته. " (2)
ومحمد بن علي بن شجاع مجهول.
6 - وفي صحيحة الريان بن الصلت أو حسنته، قال: كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام):
ما الذي يجب علي يا مولاي في غلة رحى أرض في قطيعة لي وفي ثمن سمك بردى
وقصب أبيعه من أجمة هذه القطيعة؟ فكتب (عليه السلام): " يجب عليك فيه الخمس إن شاء الله
- تعالى -. " (3)
7 - وفي خبر أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: كتبت إليه في الرجل يهدي إليه
مولاه والمنقطع إليه هدية تبلغ ألفي درهم أو أقل أو أكثر، هل عليه فيها الخمس؟
فكتب (عليه السلام): الخمس في ذلك. وعن الرجل يكون في داره البستان فيه الفاكهة يأكله
العيال إنما يبيع منه الشيء بمأة درهم أو خمسين درهما، هل عليه الخمس؟
فكتب (عليه السلام): أما ما أكل فلا، وأما البيع فنعم هو كسائر الضياع. (4)
وفي السند ضعف بأحمد بن هلال.
8 - وفي خبر عبد الله بن سنان، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): " على كل امرئ غنم أو

1 - الوسائل 6 / 348، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 1.
2 - الوسائل 6 / 348، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 2.
3 - الوسائل 6 / 351، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 9.
4 - الوسائل 6 / 351، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 10.
69

اكتسب الخمس مما أصاب لفاطمة - عليها السلام - ولمن يلي أمرها من بعدها من
ذريتها الحجج على الناس، فذاك لهم خاصة يضعونه حيث شاؤوا وحرم عليهم
الصدقة، حتى الخياط ليخيط قميصا بخمسة دوانيق فلنا منه دانق إلا من أحللناه من
شيعتنا لتطيب لهم به الولادة، إنه ليس من شيء عند الله يوم القيامة أعظم من الزنا، إنه
ليقوم صاحب الخمس فيقول: يا رب سل هؤلاء بما أبيحوا. " (1)
وفي سند الرواية ضعف.
إلى غير ذلك من الروايات المستفاد منها ثبوت الخمس في الفوائد اليومية بعد
إخراج المؤونة له ولعياله وهي كثيرة. وظاهر أكثرها أو صريحها كونها في مقام بيان
الوظيفة الفعلية للشيعة، وأكثرها صادرة عن الأئمة المتأخرين، وهم كانوا يطالبون
الخمس من شيعتهم وينصبون الوكلاء لمطالبته وأخذه، واستمرت هذه السيرة حتى
في عصر النواب الأربعة للإمام الثاني عشر (عليه السلام)، فلا مجال لأن يحمل هذه الأخبار
على أصل الجعل والتشريع ويقال إنه لا يعارضها أخبار التحليل بل تحكم عليها.
وخمس الأرباح مالية كثيرة ضخمة جدا وتتغير بحسب منابع الثروة
والأصقاع الأزمان. وسيجئ كون الخمس ولا سيما خمس الأرباح حقا وحدانيا
يكون تحت اختيار إمام المسلمين، ولو طولب وجبي في كل عصر بنظام صحيح لسد
به كثير من الحاجات والخلات.
نعم، يقع البحث هنا في أمور ذكرنا في كتاب الخمس ولنشر هنا إلى أمور ثلاثة:
الأمر الأول: في الإشارة إلى إشكال وقع في خمس الأرباح والجواب عنه:
إن الأخبار الدالة على هذا الخمس مروية عن الصادقين - عليهما السلام - ومن

1 - الوسائل 6 / 351، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 8.
70

بعد هما من الأئمة (عليهم السلام)، بل أكثرها مروية عن الجواد والهادي - عليهما السلام - من
الأئمة المتأخرين، ولا تجد في صحاحنا ولا صحاح السنة حديثا في هذا الباب مرويا
عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو أمير المؤمنين (عليه السلام)، اللهم إلا بعض العمومات التي ربما يحتمل
انطباقها عليه، ولم يضبط في التواريخ أيضا مطالبتهما (عليه السلام) لهذا الخمس من أحد، مع أنه
لو كان ثابتا مشرعا في عصرهما كان مقتضى عموم الابتلاء به نقل الرواة والمؤرخين
له من طرق الفريقين.
وليس هذا مما يخالفه حكومات الجور حتى يظن ذلك سببا لاختفائه كيف؟! وهو
كان يوجب مزيد بيت المال وتقوية الجهات المالية.
فلم صار هذا الحكم مهجورا عند فقهاء السنة ورواتهم بحيث لم يفت به أحد منهم
ولم يتعرض لثبوته أو مطالبته وأخذه أحد من أهل الحديث والتاريخ؟!
ولم لا يوجد في كتب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكتب أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى العمال وجباة
الأموال اسم ولا رسم من خمس الأرباح، مع أنه لو كان لنقل لعموم الابتلاء به، إذ يعم
الحكم كل تاجر وكاسب وصانع وزارع وعامل؟!
نعم، في رواية ابن طاووس بإسناده، عن عيسى بن المستفاد، عن موسى بن جعفر،
عن أبيه (عليه السلام): " أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لأبى ذر وسلمان والمقداد... وإخراج الخمس
من كل ما يملكه أحد من الناس حتى يرفعه إلى ولي المؤمنين وأميرهم. " (1)
ولكن فيه مضافا إلى ضعف السند أن هذا غير خمس الأرباح، ولعله كان مندوبا
إليه من باب صلة الإمام، فتأمل.
وقد يقال: إنما في كتب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعهوده من أخذ الخمس من المغانم
كقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في كتابه لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن: " وأمره أن يأخذ من المغانم
خمس الله وما كتب على المؤمنين في الصدقة من العقار. الحديث. " (2)

1 - الوسائل 6 / 386، الباب 4 من أبواب الأنفال و...، الحديث 21.
2 - سيرة ابن هشام 4 / 242.
71

وقوله لوفد عبد القيس: " وأن تعطوا من المغنم الخمس. " (1)
وفي كتابه (صلى الله عليه وآله وسلم) لملوك حمير: " وآتيتم الزكاة وأعطيتم من المغانم خمس الله سهم
النبي وصفيه. " (2)
وفي كتابه (صلى الله عليه وآله وسلم) لصيفي بن عامر سيد بني ثعلبة: " من أسلم منهم وأقام الصلاة آتى
الزكاة وأعطى خمس المغنم وسهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والصفي فهو آمن بأمان الله. " (3)
إلى غير ذلك مما في كتب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعهوده للوفود، لا يمكن أن يراد بالخمس
فيها خمس مغانم الحرب لنهيه (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الإغارة ونهب الأموال، وكون أمر الحروب
بيده (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلا محالة يراد بالخمس فيها خمس الأرباح والاستفادات اليومية.
ولكن يمكن أن يورد على ذلك أولا: بأنا لا نسلم عدم إجازة الحرب من قبله (صلى الله عليه وآله وسلم)
إذ قتال الكفار لدعوتهم إلى الإسلام لم يكن منهيا عنه، ويشهد لذلك ذكر الصفي أيضا
في بعض هذه الأخبار وهو ما كان يصطفى من غنائم الحرب.
قال في النهاية:
" الصفي: ما كان يأخذه رئيس الجيش ويختاره لنفسه من الغنيمة قبل القسمة يقال
له: الصفية والجمع: الصفايا، ومنه حديث عائشة: كانت صفية " رض " من الصفي. " (4)
وفي مرسلة حماد الطويلة: " وللإمام صفو المال أن يأخذ من هذه الأموال صفوها
الجارية الفارهة والدابة الفارهة. " (5) ونحوها أخبار أخر.
وثانيا: أن خمس الركاز أيضا مما أمر به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويصدق عليه المغنم أيضا، أما
خمس الأرباح فلو كان واجبا في عصره وتعارف مطالبته وأخذه لذاع وشاع

1 - صحيح البخاري 1 / 20، باب أداء الخمس من الإيمان.
2 - فتوح البلدان / 82.
3 - الإصابة 2 / 197.
4 - النهاية لابن الأثير 3 / 40.
5 - الوسائل 6 / 365، الباب 1 من أبواب الأنفال و...، الحديث 4.
72

ذكره في المحاورات والكتب ولم يكن يخفى ويهمل إلى عصر الصادقين (عليه السلام)، فهذه
معضلة قوية ينبغي الالتفات إليها والتحري لحلها، هذا.
ولكن مع ذلك لا يضر هذا الإشكال بأصل الحكم بعد ما ثبت بعموم الكتاب إجماع
الفرقة المحقة والأخبار المستفيضة كما مر.
ولعل الحكم ثبت في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بنحو الاقتضاء والإنشاء المحض، ولكن لما
كان تنفيذه وإجراؤه موجبا للحرج بسبب الفقر النوعي أو لاستيحاش المسلمين منه
لكونهم حديثي العهد بالإسلام، أو كونه (صلى الله عليه وآله وسلم) مظنة للتهمة حيث إن الخمس كان بنفع
شخصه وأهل بيته فلأجل ذلك أخرت فعليته وتنفيذه إلى عصر الأئمة - عليهم السلام
-.
وأحكام الإسلام تدريجية وربما أخرت فعلية بعضها حتى إلى عصر ظهور الإمام
المنتظر لعدم تحقق شرائطها قبل ذلك.
ويمكن أن يقال أيضا: إن هذا الخمس ضريبة سلطانية وضعها الأئمة المتأخرون
من العترة الطاهرة بما هم أئمة العباد وساسة البلاد شرعا حسب الاحتياج في
أعصارهم، حيث إن الزكوات والأموال العامة وسائر الضرائب الإسلامية قد انحرفت
عن مسيرها الأصلي وصارت تحت اختيار خلفاء الجور وعمالهم، ولذلك ترى
الأئمة - عليهم السلام - محللين له تارة ومطالبين له أخرى.
وقد احتملنا نظير ذلك في خمس المعادن والكنوز أيضا بناء على كونهما من
الأنفال وكون الخمس فيهما بعنوان حق الإقطاع وإجازة التصرف فيهما.
ومقتضى ذلك جواز تجديد النظر في ذلك بحسب مقتضيات الزمان والشرائط.
ولكن يبعد هذا الاحتمال استدلالهم - عليهم السلام - لهذا الخمس وكذا لخمس
الكنز بالآية الشريفة وتطبيقهم الآية عليهما. اللهم إلا أن يكون الاستدلال بها وقع
جدلا لإقناع من في قلبه مرض وريب من سعة اختيارهم - عليهم السلام -، أو يراد
بذكر الآية تثبيت الحكم إنشاء واقتضاء وإن كانت فعليته من قبلهم - عليهم السلام -.
73

وكيف كان فلا إشكال في أصل الحكم. وربما يؤيده ما دل من الأخبار الواردة من
طرق الفريقين على حرمة الزكاة على بني هاشم وتعويضهم منها بالخمس، فكما أن
موضوعات الزكاة كانت أمورا مستمرة سنوية وجب أن يكون للخمس الذي هو
عوض عنها أيضا موضوع مستمر سنوي وليس هو إلا أرباح المكاسب، إذ غنائم
الحرب والمعادن والكنوز ونحوها أمور اتفاقية قد لا تتحقق في سنوات متلاحقة
فيلزم من ذلك حرمان بني هاشم في كثير من الأحيان، فتدبر.
الأمر الثاني: في ذكر أخبار التحليل والجواب عنها:
لا يخفى أن هنا أخبارا كثيرة يستفاد منها تحليل الخمس إجمالا. وليس مفاد
ما دل على ثبوت الخمس في الأرباح وغيرها مجرد الجعل والتشريع اقتضاء وانشاء
حتى يحكم بحكومة أخبار التحليل عليها وعدم المعارضة بينهما. بل قد عرفت أن
أكثرها ظاهرة أو صريحة في بيان الحكم الفعلي وأن الأئمة (عليهم السلام) كانوا يطالبونه يعينون
الوكلاء لمطالبته أو كانوا يأمرون بأدائه، فلا بد من بيان محمل لأخبار التحليل:
أما إجمالا، فنقول: إن ما دل على المطالبة ووجوب الأداء رويت عن موسى بن
جعفر (عليه السلام) ومن بعده من الأئمة المتأخرين - عليهم السلام - وهي مستفيضة بل لعلها
متواترة أفتى بمضمونها الأصحاب.
وأما أخبار التحليل فمروية عن الإمامين الهمامين: الباقر والصادق - عليهما
السلام - إلا صحيحة علي بن مهزيار عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام) ولكن موردها صورة
الإعواز وعدم إمكان الأداء.
والتوقيع المروي عن صاحب الزمان (عليه السلام). وفيه إجمال، لكون الجواب فيه ناظرا
إلى سؤال السائل وهو غير معلوم، فلعله كان في مورد خاص، مضافا إلى ظهوره في
المناكح خاصة بقرينة التعليل فيه بطيب الولادة، فعلى هذا يكون التحليل في زمان
خاص أو موضوع خاص ويتعين العمل بالأخبار الصادرة عن الأئمة المتأخرين عن
74

الصادقين (عليه السلام) الدالة على وجوب الأداء وفعليته.
وأما تفصيلا، فأخبار التحليل منها ما يختص بحال الإعواز بالنسبة إلى حق الإمام
فقط.
كصحيحة علي بن مهزيار، قال: قرأت في كتاب لأبى جعفر (عليه السلام) من رجل يسأله أن
يجعله في حل من مأكله ومشربه من الخمس، فكتب بخطه: " من أعوزه شيء من
حقي فهو في حل. " (1)
والمراد بأبى جعفر هنا بقرينة الراوي هو أبو جعفر الثاني، أعنى جواد الأئمة (عليهم السلام).
ولا يخفى أن هذه الصحيحة بنفسها شاهدة على أن البناء والعمل في عصر الإمام
الجواد (عليه السلام) كان على أداء الخمس ولذا استحل الرجل لنفسه، فيعلم بذلك أن أخبار
التحليل مع كثرتها وصدورها عن الصادقين (عليه السلام) لم تكن بإطلاقها موردا للعمل في
عصره (عليه السلام)، وظاهر الجواب هو التحليل لخصوص المعوز لا مطلقا، بل لعل التحليل
وقع للمعوز في عصره فقط.
ومنها ما يدل على تحليل المناكح لشيعتهم:
1 - كخبر ضريس الكناسي، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): أتدري من أين دخل على
الناس الزنا؟ فقلت: لا أدري، فقال: " من قبل خمسنا أهل البيت إلا لشيعتنا الأطيبين،
فإنه محلل لهم ولميلادهم. " (2)
2 - وخبر أبي خديجة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رجل وأنا حاضر: حلل لي
الفروج، ففزع أبو عبد الله (عليه السلام)، فقال له رجل: ليس يسألك أن يعترض الطريق، إنما
يسألك خادما يشتريها أو امرأة يتزوجها أو ميراثا يصيبه أو تجارة أو شيئا أعطيه،
قال: " هذا لشيعتنا حلال: الشاهد منهم والغائب، والميت منهم والحي وما يولد

1 - الوسائل 6 / 379، الباب 4 من أبواب الأنفال و...، الحديث 2.
2 - الوسائل 6 / 379، الباب 4 من أبواب الأنفال و...، الحديث 3.
75

منهم إلى يوم القيامة فهو لهم حلال، أما والله لا يحل إلا لمن أحللنا له، ولا والله
ما أعطينا أحدا ذمة وما عندنا لأحد عهد (هوادة) ولا لأحد عندنا ميثاق. " (1)
ولعل المراد بالميراث والتجارة وما أعطيه بقرينة السؤال خصوص الإماء الفتيات.
ولو أريد الأعم فيحمل على خصوص ما انتقل إليه ممن لا يعتقد الخمس أو
لا يخمس، إذ الظاهر من الحديث تعلق حق الإمام به قبل أن ينتقل إليه فلا يشمل
الخمس المتعلق بأموال نفسه قطعا، بل يشكل هذا الحمل أيضا لمعارضته بخبر أبي
بصير عن أبي بصير (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: " من اشترى شيئا من الخمس لم يعذره الله،
اشترى ما لا يحل له. " (2) وخبره الآخر عنه (عليه السلام)، قال: " لا يحل لأحد أن يشتري من
الخمس شيئا حتى يصلى إلينا حقنا. " (3)
فالمتقين من الرواية خصوص الإماء والفتيات المغنومة المنتقلة إليه بالشراء أو
بالميراث أو نحوهما.
3 - ومما ورد في المناكح أيضا خبر محمد بن مسلم، عن أحدهما (عليه السلام)، قال: " إن
أشد ما فيه الناس يوم القيامة أن يقوم صاحب الخمس فيقول: يا رب خمسي، وقد
طيبنا ذلك لشيعتنا لتطيب ولادتهم ولتزكو أولادهم. " (4)
ولعل مرسل العياشي أيضا قطعة من هذا الحديث فيحمل إطلاقه على المناكح
أيضا. (5)
4 - وخبر الحارث بن المغيرة النصري، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلت له: إن لنا
أموالا من غلات وتجارات ونحو ذلك، وقد علمت أن لك فيها حقا، قال: " فلم

1 - الوسائل 6 / 397، الباب 4 من أبواب الأنفال...، الحديث 4.
2 - الوسائل 6 / 338، الباب 1 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 5.
3 - الوسائل 6 / 337، الباب 1 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 4.
4 - الوسائل 6 / 380، الباب 4 من أبواب الأنفال...، الحديث 5.
5 - الوسائل 6 / 386، الباب 4 من أبواب الأنفال...، الحديث 22.
76

أحللنا إذا لشيعتنا إلا لتطيب ولادتهم، وكل من والى آبائي فهو في حل مما في
أيديهم من حقنا، فليبلغ الشاهد الغائب. " (1)
إلى غير ذلك من الأخبار الناظرة إلى المناكح بلحاظ التعليلات الواردة فيها،
فتأمل.
ومنها ما يحمل على تحليل ما يشترى ممن لا يعتقد الخمس أو من لا يخمس في
زمان خاص:
كبعض ما ذكر، وكرواية يونس بن يعقوب، قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فدخل
عليه رجل من القماطين فقال: جعلت فداك، تقع في أيدينا الأموال والأرباح تجارات
نعلم أن حقك فيها ثابت وأنا عن ذلك مقصرون، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): " ما أنصفناكم ان
كلفناكم ذلك اليوم ". (2)
وظهورها في التحليل في زمان خاص ظاهر، كظهورها فيما تعلق به الخمس أو
حق آخر في يد الغير ثم انتقل إليه، فلا تشمل ما تعلق به الحق في يده.
ومنها ما دل على تحليل الفيء وغنائم الحرب الواصلة إلى الشيعة من أيدي
المخالفين:
كصحيحة الفضلاء، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " قال أمير المؤمنين على بن أبي
طالب (عليه السلام): " هلك الناس في بطونهم وفروجهم لأنهم لم يؤدوا إلينا حقنا، الا وإن شيعتنا
من ذلك وآباءهم في حل. " ورواه الصدوق أيضا مثله إلا أنه قال: " وأبناءهم " (3).
إذ الظاهر أن المشار إليه لقوله: " من ذلك " الحق الثابت عند الناس إذا وصل إلى
الشيعة.

1 - الوسائل 6 / 381، الباب 4 من أبواب الأنفال...، الحديث 9.
2 - الوسائل 6 / 380، الباب 4 من أبواب الأنفال...، الحديث 6.
3 - الوسائل 6 / 379، الباب 4 من أبواب الأنفال...، الحديث 1.
77

وخبر أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " إن الله جعل لنا أهل البيت سهاما ثلاثة
في جميع الفيء فقال - تبارك وتعالى -: " واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه
وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. " فنحن أصحاب
الخمس الفيء، وقد حرمناه على جميع الناس ما خلا شيعتنا. والله يا أبا حمزة ما من
أرض تفتح ولا خمس يخمس فيضرب على شيء منه إلا كان حراما على من يصيبه
فرجا كان أو مالا. الحديث. " (1)
وقد كثرت الغنائم الحربية والجواري المسبية في تلك الأعصار وكثر ابتلاء الشيعة
بها فاقتضت المصلحة تسهيل الأمر على الشيعة وتحليلها لهم فعدم شمول هذه
الأخبار لمثل أرباح المكاسب وسائر الموضوعات التي تعلق بها الخمس عند
الإنسان واضح جدا.
ومنها ما دل على تحليل الأراضي والأنفال، ككثير من أخبار الباب، فراجع ويأتي
بحثه في فصل الأنفال. (2)
بقي الكلام في التوقيع المروي في الإكمال والاحتجاج، عن الكليني، عن إسحاق
بن يعقوب، عن صاحب الزمان (عليه السلام):
ففي الاحتجاج: محمد بن يعقوب الكليني، عن إسحاق بن يعقوب، قال: سألت
محمد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتابا قد سألت فيه عن مسائل أشكلت على،
فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان - عليه السلام -:... وأما المتلبسون بأموالنا
فمن استحل منها شيئا فأكله فإنما يأكل النيران. وأما الخمس فقد أبيح لشيعتنا وجعلوا
منه في حل إلى وقت ظهور أمرنا لتطيب ولادتهم ولا تخبث. " (3)
وإسحاق بن يعقوب لم يذكر بمدح ولا قدح.

1 - الوسائل 6 / 385، الباب 4 من أبواب الأنفال...، الحديث 19.
2 - راجع المسألة الثانية من الجهة الرابعة منه فصل الأنفال في الجزء التالي من الكتاب.
3 - الوسائل 6 / 383، الباب 4 من أبواب الأنفال...، الحديث 16.
78

ويظهر من هذا التوقيع بنفسه أن صاحب الأمر (عليه السلام) أيضا كان يطالب
الأموال يأخذها ولم يكن حللها بالكلية استغناء منها، فلعل الخمس المذكور في
التوقيع كان نوعا خاصا منه اقتضت المصلحة تحليله كما يشعر بذلك التعليل بطيب
الولادة، فلعله كان مرتبطا بخمس الغنائم والجواري المسبية من قبل حكام الجور
المبتلى بها الشيعة في عيشتهم. ولا دليل على حمل اللام على الاستغراق بعد كون
جوابه (عليه السلام) مسبوقا بالسؤال، والسؤال غير مذكور ولا معلوم، فلعل المسؤول عنه كان
نوعا خاصا من الخمس، واللام للعهد والإشارة اليه، وإذا جاء الاحتمال بطل
الاستدلال.
هذا مضافا إلى أن ظاهر الكلام في التوقيع وغيره تحليل جميع الخمس حتى سهم
السادة منه، وهو المستفاد من سائر أخبار التحليل أيضا.
ولا يمكن الالتزام بذلك بعد ما حرم الصدقة عليهم وجعل الخمس عوضا عنها.
وبالجملة، فصحيحة علي بن مهزيار كان موضوعه من أعوز، والتوقيع أيضا فيه
إجمال، وأما غيرهما من أخبار التحليل المذكورة في الباب الرابع من أبواب الأنفال
من الوسائل فجميعها صادرة عن الإمامين الهمامين الباقر والصادق (عليه السلام) إلا رواية
واحدة عن تفسير الإمام حاكية لتحليل أمير المؤمنين (عليه السلام). (1)
وإذا شاهدنا الأئمة المتأخرين عنهما (عليه السلام) يحكمون بوجوب الخمس في
الأرباح يطالبونه ويأخذونه كلا أو بعضا فلا محالة يجب أن تحمل أخبار التحليل على
موضوعات خاصة أو زمان خاص:
فمنها ما تدل على تحليل المناكح والجواري المسبية المبتلى بها في تلك الأعصار،
حفظا لطيب الولادات.
ومنها ما تدل على تحليل الفيء وغنائم الحرب الواصلة إلى الشيعة من أيدي

1 - الوسائل 6 / 385، الباب 4 من أبواب الأنفال...، الحديث 20.
79

المخالفين، وقد كثرت الغنائم الحربية والجواري المسبية في تلك الأعصار وكثر
ابتلاء الشيعة بها.
ومنها ما تحمل على تحليل ما يشترى ممن لا يعتقد الخمس أو لا يخمس.
ومنها ما تحمل على التحليل في زمان خاص.
ومنها ما تدل على تحليل الأراضي والأنفال.
فلا يستفاد من هذه الأخبار تحليل خمس أرباح المكاسب وسائر الموضوعات
التي يتعلق بها الخمس عند المكلف، فتدبر. وإن شئت التفصيل فراجع ما ذكرناه في
كتاب الخمس (1). هذا.
1 - وروى الصدوق بإسناده، عن عبد الله بن بكير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال:
" إني لآخذ من أحدكم الدرهم وإني لمن أكثر أهل المدينة مالا، ما أريد بذلك إلا أن
تطهروا. " (2)
2 - وروى الكليني بإسناده، عن محمد بن زيد الطبري، قال: كتب رجل من تجار
فارس من بعض موالي أبي الحسن الرضا (عليه السلام) يسأله الإذن في الخمس، فكتب إليه:
" بسم الله الرحمن الرحيم. إن الله واسع كريم، ضمن على العمل الثواب وعلى الضيق
الهم، لا يحل مال إلا من وجه أحله الله، إن الخمس عوننا على ديننا وعلى عيالنا على
موالينا وما نبذله ونشتري من أعراضنا ممن نخاف سطوته، فلا تزووه عنا ولا تحرموا
أنفسكم دعاءنا ما قدرتم عليه، فإن إخراجه مفتاح رزقكم وتمحيص
ذنوبكم، ما تمهدون لأنفسكم ليوم فاقتكم، والمسلم من يفي لله بما عهد إليه، وليس
المسلم من أجاب باللسان وخالف بالقلب. والسلام. " (3)
3 - وبالإسناد، عن محمد بن زيد، قال: قدم قوم من خراسان على أبي الحسن
الرضا (عليه السلام) فسألوه أن يجعلهم في حل من الخمس، فقال (عليه السلام): " ما أمحل هذا؟!

1 - كتاب الخمس / 151 وما بعدها.
2 - الوسائل 6 / 337، الباب 1 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 3.
3 - الوسائل 6 / 375، الباب 3 من أبواب الأنفال...، الحديث 2.
80

تمحضونا المودة بألسنتكم وتزوون عنا حقا جعله الله لنا وجعلنا له وهو الخمس،
لا نجعل، لا نجعل، لا نجعل لأحد منكم في حل. (1)
ورواهما الشيخ أيضا بإسناده، عن محمد بن زيد مثله. (2)
4 - وروى الكليني والشيخ عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، قال: كنت عند أبي جعفر
الثاني (عليه السلام) إذ دخل عليه صالح بن محمد بن سهل - وكان يتولى له الوقف بقم - فقال: يا
سيدي، اجعلني من عشرة آلاف درهم في حل، فإني قد أنفقتها. فقال له: أنت في حل.
فلما خرج صالح قال أبو جعفر (عليه السلام): " أحدهم يثب على أموال آل محمد
وأيتامهم مساكينهم وفقرائهم وأبناء سبيلهم فيأخذها ثم يجيء فيقول: اجعلني في حل،
أتراه ظن أني أقول: لا أفعل، والله ليسألنهم الله يوم القيامة عن ذلك سؤالا حثيثا. " (3)
والشيخ في الاستبصار بعد نقل أخبار التحليل والأخبار الثلاثة الأخيرة قال:
" فالوجه في الجمع بين هذه الروايات ما كان يذهب إليه شيخنا " ره "، وهو أنه
ما ورد من الرخصة في تناول الخمس والتصرف فيه إنما ورد في المناكح خاصة للعلة
التي سلف ذكرها في الآثار عن الأئمة (عليهم السلام) لتطيب ولادة شيعتهم، ولم يرد في الأموال،
وما ورد من التشدد في الخمس والاستبداد به فهو يختص بالأموال. " (4)
هذا.
مضافا إلى أن الخمس وكذا الأنفال ليسا ملكا لشخص الإمام المعصوم كما قد
يتوهم، بل هما لمنصب الإمامة أعني منصب زعامة المسلمين وإدارة شؤونهم العامة،
والإمامة والزعامة من الضروريات لمجتمع المسلمين في جميع الأعصار، والخمس
من أهم الميزانيات والضرائب المشرعة لها ولذا عبر عنه في رواية المحكم والمتشابه
عن أمير المؤمنين (عليه السلام) بوجه الإمارة. (5)
كما أن الأنفال أيضا أموال عامة راجعة إلى الحكومات في جميع النظامات

1 - الوسائل 6 / 376، الباب 3 من أبواب الأنفال...، الحديث 3.
2 - الوسائل 6 / 376، الباب 3 من أبواب الأنفال...، الحديث 3.
3 - الوسائل 6 / 375، الباب 3 من أبواب الأنفال...، الحديث 1.
4 - الاستبصار 2 / 60، كتاب الزكاة، الباب 32، ذيل الحديث 11.
5 - الوسائل 6 / 341، الباب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 12.
81

ومنها نظام الإسلام.
فالتحليل المطلق للخمس والأنفال هدم لأساس الإمامة والحكومة الحقة،
فلا محالة يجب أن تحمل أخبار التحليل كم عرفت على موضوعات خاصة أو زمان
خاص أو شرائط خاصة.
ولعل تحليل الأنفال العامة كالأراضي والآجام ونحوهما للشيعة كان يختص
بعصر استبد بها حكام الجور وأياديهم، واحتاج بعض الشيعة إليها ولم يتيسر لهم
الاستيذان من أئمة العدل ونوابهم، وإلا فإطلاق سراح الأنفال مطلقا وعدم السماح
لتحديدها وتقسيمها على وفق موازين العدل والإنصاف يوجب استبداد جمع
بها وحرمان المستحقين الضعفاء منها كما هو المشاهد في أعصارنا. وهذا أمر مرغوب
عنه شرعا كما لا يخفى على من عرف مذاق الشرع المبين، فتدبر.
الأمر الثالث: في أن الموضوع في هذا القسم من الخمس هل هو الأرباح أو مطلق
الفائدة؟
لا يخفى أن المحتملات فيه أربعة: الأول: اعتبار صدق التكسب، أعني القصد إلى
حصول المال والتصدي لذلك مطلقا، نسب إلى المشهور.
الثاني: اعتبار ذلك مع اتخاذه مهنة وحرفة مستمرة، كما نسب إلى المحقق
الخونساري في حاشيته على شرح اللمعة. الثالث: عموم الحكم للتكسب وللفائدة
الاتفاقية أيضا مع حصولها بالاختيار كالهبة والجائزة.
الرابع: عموم الحكم ولو للفائدة غير الاختيارية كالمواريث ونحوها.
والمذكور في كلمات أكثر القدماء من أصحابنا خصوص ما يستفاد بالاكتساب
كأرباح التجارات والصناعات والزراعات.
ولكن المستفاد من الآية الشريفة والأخبار هو الأعم من ذلك ومما لا يتصدى
لتحصيله، سواء كان بالاختيار كالهبات والجوائز أو بغيره كالميراث الذي لا يحتسب
بل مطلقا على قول.
82

توضيح ذلك أن المتعارف بين الناس أن يتوصل كل منهم بشغل من الأشغال لرفع
حاجاته اليومية. فمنهم من يتوصل بالتوليد والإنتاج كالزراع، ومنهم من يتوصل بنقل
الأموال كالتجار، ومنهم من يتوصل بتغيير صور الأمتعة والعمل عليها بما يزيد في
قيمتها كالصناع.
فهذه هي عمدة وجوه الاستفادة المتعارفة بين الناس وقد تعرض لها الأصحاب
في كلماتهم.
نعم، قد يحصل للإنسان المال من دون تعب وتصد لتحصيله إما مع الاختيار
كالهبات والجوائز والصداق وعوض الخلع ونحوها أو بلا اختيار له كالميراث ونذر
النتيجة على القول بصحته، ولكنها فوائد اتفاقية نادرة وليس بناء اقتصاد الناس عليها
ولا يصدق عليها الاكتساب ويشكل شمول كلمات الأصحاب لها.
اللهم إلا أن يحمل العناوين المذكورة في كلماتهم على المثال ويقال إن غرضهم
بيان مطلق الفوائد اليومية غير العناوين الخاصة التي مرت من الغنائم والمعادن الكنوز
والغوص التي لها أحكام خاصة.
ويؤيد ذلك كلمة " غير ذلك " المذكورة في النهاية والغنية بعد عناوين
التجارة الصناعة والزراعة.
وكيف كان فقد نسب إلى المشهور عدم ثبوت الخمس في الفوائد الاتفاقية، ولكن
الأقوى هو الثبوت في مثل الهدية والجائزة.
ويدل على ذلك، مضافا إلى عموم الآية الشريفة لصدق الغنيمة عليها، أخبار
مستفيضة:
1 - ففي صحيحة علي بن مهزيار، عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام) - بعد الحكم بوجوب
الخمس في الغنائم والفوائد - قال: " فالغنائم والفوائد - يرحمك الله - فهي الغنيمة
يغنمها المرأ والفائدة يفيدها، والجائزة من الإنسان للإنسان التي لها خطر، والميراث
الذي لا يحتسب من غير أب ولا ابن، ومثل عدو يصطلم فيؤخذ ماله، ومثل مال يؤخذ
ولا يعرف له صاحب. الحديث. " (1)

1 - الوسائل 6 / 50 - 349، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 5.
83

وتقييد الجائزة بالتي لها خطر لعله من جهة أن الجائزة الحقيرة تصرف فورا
فلا تبقى إلى السنة. ومن تقييد الميراث يستفاد عدم الخمس في المواريث المتعارفة
التي تحتسب كما يأتي بيانه.
2 - وفي موثقة سماعة قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الخمس، فقال: " في كل
ما أفاد الناس من قليل أو كثير. " (1) بناء على عموم اللفظ للفوائد الاتفاقية أيضا كما
لا يبعد.
3 - وفي صحيحة علي بن مهزيار، عن أبي علي بن راشد، عنه (عليه السلام)، قال: " يجب
عليهم الخمس. " فقلت: ففي أي شيء؟ فقال: " في أمتعتهم وصنائعهم. الحديث. " (2)
بتقريب أن المتاع بحسب اللغة والاستعمال يراد به كل ما يتمتع به في الحاجات
فيعم جميع لوازم المعيشة وإن حصلت بالهبة ونحوها.
وفي القاموس:
" والمتاع: المنفعة والسلعة والأداة وما تمتعت به من الحوائج، ج: أمتعة ". (3)
والظاهر أن الموضوع له هو الأخير والباقي من قبيل المصاديق له.
4 - وفي خبر أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: كتبت إليه في الرجل يهدي إليه
مولاه والمنقطع إليه هدية تبلغ ألفي درهم أو أقل أو أكثر هل عليه فيها الخمس؟
فكتب (عليه السلام): " الخمس في ذلك. " (4)
أقول: في سند الرواية أحمد بن هلال، وفيه كلام.
5 - وفي خبر عبد الله بن سنان، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): " على كل امرئ غنم أو
اكتسب الخمس مما أصاب لفاطمة (عليه السلام) ولمن يلي أمرها من بعدها من ذريتها الحجج
على الناس. الحديث. " (5)

1 - الوسائل 6 / 350، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 6.
2 - الوسائل 6 / 348، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 3.
3 - قاموس اللغة / 508.
4 - الوسائل 6 / 351، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 10.
5 - الوسائل 6 / 351، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 8.
84

بناء على عدم كون الترديد من الراوي. وفي سند الرواية ضعف كما لا يخفى على
أهله.
6 - وفي خبر أحمد بن محمد بن عيسى، عن يزيد، قال: كتبت: جعلت لك الفداء
تعلمني ما الفائدة وما حدها؟ رأيك - أبقاك الله - أن تمن على ببيان ذلك لكي لا أكون
مقيما على حرام لا صلاة لي ولا صوم، فكتب: " الفائدة مما يفيد إليك في تجارة من
ربحها وحرث بعد الغرام أو جائزة. " (1)
ويزيد هذا يظن كونه يزيد بن إسحاق بقرينة رواية أحمد بن محمد بن عيسى عنه،
وقد وثقوه.
7 - وفي رواية علي بن الحسين بن عبد ربه، قال: سرح الرضا (عليه السلام) بصلة إلى أبي،
فكتب إليه أبي: هل علي فيما سرحت إلي خمس؟ فكتب إليه: " لا خمس عليك فيما
سرح به صاحب الخمس. " (2)
يظهر من الرواية أن الصلة بالطبع فيها الخمس. وفي سند الرواية سهل بن
زياد، الأمر فيه سهل.
8 - وفي تحف العقول، عن الرضا (عليه السلام) في كتابه إلى المأمون قال: " والخمس من
جميع المال مرة واحدة. " (3) ولكن ليست هذه الجملة في نقل العيون.
9 - وفي رواية عيسى بن المستفاد، عن أبي الحسن موسى بن جعفر عن أبيه (عليه السلام) أن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "... وإخراج الخمس من كل ما يملكه أحد من الناس حتى
يرفعه إلى ولي المؤمنين وأميرهم. الحديث. " (4)

1 - الوسائل 6 / 350، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 7.
2 - الوسائل 6 / 354، الباب 11 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 2.
3 - الوسائل 6 / 341، الباب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 13.
4 - الوسائل 6 / 386، الباب 4 من أبواب الأنفال...، الحديث 21.
85

10 - وفي فقه الرضا بعد ذكر الآية الشريفة قال:
" وكل ما أفاده الناس فهو غنيمة، لا فرق بين الكنوز والمعادن والغوص... وهو
ربح التجارة وغلة الضيعة وسائر الفوائد من المكاسب والصناعات والمواريث غيرها،
لأن الجميع غنيمة وفائدة. " (1)
هذا مضافا إلى أنه إذا كان ما يحصل للإنسان بتعب ومشقة موردا للمالية والضريبة
فما يحصل له مجانا وبلا تعب أولى بذلك وأحق، فهذا أمر يحكم به العقل والاعتبار
العرفي.
وبالجملة، قد تحصل لك أن المستفاد من الآية الشريفة والأخبار المستفيضة
ثبوت الخمس في مطلق الفائدة.
ولكن المذكور في كلمات الأصحاب خصوص أرباح التجارات
والصناعات الزراعات، فهل يؤخذ بعموم الآية ومفاد الروايات المذكورة وتحمل
كلماتهم على قصد المثال وبيان المنابع المتعارفة لتحصيل المال، أو يؤخذ بظاهر
كلماتهم ويرفع اليد عما دل على ثبوت الخمس في مثل الهدية والجائزة والميراث
بإعراض الأصحاب، بتقريب أن عدم تعرضهم لمثل الميراث والهدية والجائزة في
كتبهم المعدة لنقل الفتاوى المأثورة عن الأئمة (عليهم السلام) مع عموم الابتلاء بها يكشف كشفا
قطعيا عن خروجها عندهم عن موضوع الخمس وأنهم تلقوا ذلك عن الأئمة يدا بيد.
قال في السرائر:
" قال بعض أصحابنا إن الميراث والهدية والهبة فيه الخمس، ذكر ذلك أبو الصلاح
الحلبي في كتاب الكافي الذي صنفه، ولم يذكره أحد من أصحابنا إلا المشار إليه، ولو
كان صحيحا لنقل نقل أمثاله متواترا، والأصل براءة الذمة. " (2)
وفي مصباح الفقيه ما حاصله:

1 - فقه الرضا / 294.
2 - السرائر / 114.
86

" لا ينبغي الارتياب في عدم تعارفه بين المسلمين في زمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا بين
الشيعة في عصر أحد من الأئمة (عليهم السلام)، وإلا امتنع عادة اختفاء مثل هذا الحكم أعني
وجوب صرف خمس المواريث، بل وكذا العطايا مع عموم الابتلاء به، على
النساء الصبيان من المسلمين فضلا عن صيرورته خلافيا أو صيرورة خلافه مشهورا
لو لم يكن مجمعا عليه، فوقوع الخلاف في مثل المقام أمارة قطعية على عدم معروفيته
في عصر الأئمة (عليهم السلام) بل ولا في زمان الغيبة الصغرى، وإلا لقضت العادة بصيرورته من
ضروريات الدين لو كان في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو المذهب لو كان في أعصار
الأئمة (عليهم السلام). " (1)
أقول قد عرفت في أوائل بحث الخمس أن الغنيمة اسم لكل فائدة غير مترقبة أو
زائدة على ما يترقب، فتشمل مثل الهدية والجائزة الخطيرة بلا إشكال. وتعرضت لها
الأخبار أيضا.
وأما الميراث فحيث إنه مما يقتضيه نظام التكوين لكل أحد بلا استثناء فيمكن أن
يقال إنه أمر مترقب ومرجو الحصول ومقطوع التحقق، فلا يصدق عليه الاغتنام إلا
فيما لا يحتسب كما دل على ذلك صحيحة ابن مهزيار.
بل يمكن أن يقال إن الاغتنام إنما يصدق في تبديل الأموال ونقلها، وما هو
المتبدل في المواريث إنما هو الملاك لا الأموال فكأن الأموال والعقارات باقية على
حالها وفي مكانها وإنما تبدل ملاكها بحسب ما اقتضاه نظام التكوين، فتأمل.
ثم لو أبيت إلا عن صدق الغنيمة على الميراث أمكن الاستدلال على عدم الخمس
في ما يحتسب منه بمفهوم الوصف في الصحيحة وبأنه لو كان الخمس ثابتا فيه لاشتهر
غاية الاشتهار بين العوام أيضا فضلا عن الخواص لكثرة الابتلاء به في جميع البلاد في
جميع الأعصار.
ولعل وزان الصداق أيضا وزان الميراث، فإنه أمر يرجى حصوله بحسب نظام

1 - مصباح الفقيه / 129.
87

المجتمع. بل يمكن أن يقال إنه عوض عن الزوجية والبضع، حيث إن الزوجة
تجعل نفسها تحت سلطنة الزوج بإزائه وتسلب حريتها بذلك فلا يصدق عليه
الاغتنام.
ومن هذا القبيل أيضا عوض الخلع، فإنه بإزاء رفع اليد عن السلطة المملوكة. هذا
مضافا إلى أنه لو ثبت فيهما الخمس لاشتهر وبان لكثرة الابتلاء بهما ولا سيما
بالصداق. هذا.
وأما رفع اليد عن العمومات والأخبار المستفيضة الدالة على ثبوت الخمس في
الهبة والهدية والجائزة والميراث الذي لا يحتسب باستناد إعراض الأصحاب عنها
فالالتزام به مشكل، لعدم ثبوت الإعراض، وإنما الثابت هو عدم تعرض الأكثر، لعلهم
ذكروا عناوين التجارة والصناعة والزراعة من باب المثال ومن باب ذكر المصاديق
الغالبة التي يزاولها الأكثر، ولذا قد عطف بعضهم عليها كلمة: " وغير ذلك. "
وكيف كان فالأقوى فيها ثبوت الخمس، وفاقا لأبي الصلاح واستحسنه في اللمعة
ومال إليه في شرحها وقواه الشيخ الأعظم في خمسه بل لعله الظاهر من المعتبر أيضا،
فتدبر.
ثم لا يخفى أن من مصاديق الفوائد التي قوينا فيها الخمس ما إذا اشترى شيئا للقنية
لا للتجارة، ثم اتفق أن باعه بأكثر مما اشتراه به، فالزائد على الثمن يكون من فوائد
سنة البيع فيثبت الخمس فيما زاد منها على مؤونة السنة، بل لأحد أن يدرج هذا في
عنوان التكسب أيضا، إذ حين الشراء وإن لم يكن قاصدا للنماء والزيادة ولكنه
قصدها حين ما باعه ويكفي هذا في صدق عنوان التكسب. بل قد يقال بذلك في مثل
الهبة أيضا بتقريب أن قبولها نوع من التكسب، فتأمل.
السادس مما فيه الخمس على ما قالوا: الأرض التي اشتراها الذمي من المسلم:
" عند ابني حمزة وزهرة وأكثر المتأخرين من أصحابنا، بل في الروضة نسبته إلى
88

الشيخ والمتأخرين أجمع، بل في المنتهى والتذكرة نسبته إلى علمائنا، بل في الغنية
الإجماع عليه، وهو - بعد اعتضاده بما عرفت - الحجة. " كذا في الجواهر. (1)
وفي نهاية الشيخ:
" والذمي إذا اشترى من مسلم أرضا وجب عليه فيها الخمس. " (2)
وفي المبسوط:
" وإذا اشترى دمي من مسلم أرضا كان عليه فيها الخمس. " (3)
وفي الغنية:
" وفي المال الذي لم يتميز حلاله من حرامه، وفي الأرض التي يبتاعها الذمي
بدليل الإجماع المتردد. " (4) هذا.
ولكن في المختلف:
" لم يذكر ذلك ابن الجنيد ولا ابن أبي عقيل ولا المفيد ولا سلار ولا أبو الصلاح. " (5)
فالمسألة مختلف فيها. والأصل في المسألة ما رواه الشيخ بسند صحيح، عن أبي
عبيدة الحذاء، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: " أيما ذمي اشترى من مسلم أرضا فإن
عليه الخمس. " ورواه الصدوق أيضا بإسناده، عن الحذاء (6).
وفي زيادات المقنعة عن الصادق (عليه السلام) قال: " الذمي إذا اشترى من المسلم الأرض
فعليه فيها الخمس. " (7) وهي مع إرسالها يحتمل رجوعها إلى الصحيحة ووقوع الوهم
في النسبة إلى الصادق (عليه السلام).
والظاهر من الحديث ولا سيما المرسلة تعلق الخمس برقبة الأرض، وهو الظاهر
من النهاية والمبسوط وغيرهما. ولكن التتبع يوجب التزلزل في المسألة:

1 - الجواهر 16 / 65.
2 - النهاية / 197.
3 - المبسوط 1 / 237.
4 - الجوامع الفقهية / 507 (= طبعة أخرى / 569).
5 - المختلف / 203.
6 - الوسائل 6 / 352، الباب 9 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 1.
7 - الوسائل 6 / 352، الباب 9 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 2.
89

1 - ففي خراج أبي يوسف:
" قال أبو يوسف: وكل أرض من أرض العشر اشتراها نصراني تغلبي فإن العشر
يضاعف عليه كما يضاعف عليهم في أموالهم التي يختلفون بها في التجارات، وكل
شيء يجب على المسلم فيه واحد فعلى النصراني التغلبي اثنان. قال: وإن اشترى
رجل من أهل الذمة سوى نصارى بني تغلب أرضا من أرض العشر فإن أبا حنيفة
قال: أضع عليها الخراج... وأنا أقول أن يوضع عليها العشر مضاعفا فهو خراجها...
قال أبو يوسف: حدثني بعض أشياخنا أن الحسن وعطاء قالا في ذلك العشر مضاعفا،
قال أبو يوسف: فكان قول الحسن وعطاء أحسن عندي من قول أبي حنيفة. " (1)
2 - وفي كتاب الأموال لأبي عبيد:
" أخبرني محمد، عن أبي حنيفة، قال: إذا اشترى الذمي أرض عشر تحولت أرض
خراج، قال: وقال أبو يوسف: يضاعف عليه العشر... قال أبو عبيد: وكان سفيان بن
سعيد يقول: عليه العشر على حاله... وروى بعضهم عن مالك أنه قال: لا عشر
عليه لكنه يؤمر ببيعها لأن في ذلك إبطالا للصدقة، وكذلك يروى عن الحسن بن صالح
أنه قال: لا عشر عليه ولا خراج. " (2)
3 - وفي المغني لابن قدامة الحنبلي:
" قال حرب: سألت أحمد عن الذمي يشتري أرض العشر؟ قال: لا أعلم شيئا أهل
المدينة يقولون في هذا قولا حسنا: يقولون: لا يترك الذمي يشتري أرض العشر، أهل
البصرة يقولون قولا عجبا: يقولون: يضاعف عليهم، وقد روى عن احمد انهم يمنعون
من شرائها، اختارها الخلال وهو قول مالك وصاحبه فإن اشتروها ضوعف عليهم
العشر فأخذ منهم الخمس. " (3) هذا.
4 - والشيخ " ره " عنون في الخلاف ثلاث مسائل متعاقبة متناسبة فقال في المسألة

1 - الخراج / 121.
2 - الأموال / 116 - 118.
3 - المغنى 2 / 576.
90

" 84 ": من الزكاة:
" إذا اشترى الذمي أرضا عشرية وجب عليه فيها الخمس، وبه قال أبو يوسف فإنه
قال: عليه فيها عشران. وقال محمد: عليه عشر واحد. وقال أبو حنيفة: تنقلب
خراجية. وقال الشافعي: لا عشر عليه ولا خراج. دليلنا إجماع الفرقة فإنهم
لا يختلفون في هذه المسألة، وهي مسطورة لهم منصوص عليها، روى ذلك أبو عبيدة
الحذاء، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: أيما ذمي اشترى من مسلم أرضا فإن عليه
الخمس. " (1)
وفي المسألة " 85 ":
" إذا باع تغلبي وهم نصارى العرب أرضه من مسلم وجب على المسلم فيها العشر
أو نصف العشر، ولا خراج عليه. وقال الشافعي: عليه العشر. وقال أبو حنيفة: يؤخذ
منه عشران. دليلنا أن هذه ملك قد حصل لمسلم ولا يجب عليه في ذلك أكثر من
العشر، وما كان يؤخذ من الذمي من الخراج كان جزية، فلا يلزم المسلم ذلك. " (2)
وفي المسألة " 86 ":
" إن اشترى تغلبي من ذمي أرضا لزمته الجزية كما كانت تلزم الذمي. وقال أبو
حنيفة وأصحابه: عليه العشران. وهذان العشران عندهم خراج يؤخذ باسم
الصدقة. قال الشافعي: لا عشر عليه ولا خراج. دليلنا أن هذا ملك قد حصل لذمي
فوجب عليه فيه الجزية كما يلزم في سائر أهل الذمة. " (3)
5 - وقال العلامة في المنتهى:
" الذمي إذا اشترى أرضا من مسلم وجب عليه الخمس. ذهب إليه علماؤنا. وقال
مالك: يمنع الذمي من الشراء إذا كانت عشرية، وبه قال أهل المدينة وأحمد في رواية.
فإن اشتراه ضوعف العشر فوجب عليه الخمس. وقال أبو حنيفة: تصير

1 - الخلاف 1 / 300.
2 - الخلاف 1 / 300.
3 - الخلاف 1 / 300.
91

أرض خراج. وقال الثوري والشافعي وأحمد في رواية أخرى: يصح البيع لا شيء
عليه ولا عشر أيضا. وقال محمد بن الحسن: عليه العشر. لنا أن في إسقاط العشر
إضرارا بالفقراء، فإذا تعرضوا لذلك ضوعف عليهم فأخرج الخمس. ويؤيده ما رواه
الشيخ عن أبي عبيدة الحذاء الحديث. " (1)
ونحو ذلك في التذكرة أيضا. (2)
وتعرض للمسألة ونقل الأقوال المحقق في المعتبر أيضا، فراجع. (3)
6 - وفي منتقى الجمان بعد نقل الصحيحة قال:
" قلت: ظاهر أكثر الأصحاب الاتفاق على أن المراد من الخمس في هذا الحديث
معناه المعهود، وللنظر في ذلك مجال. ويعزى إلى مالك القول بمنع الذمي من شراء
الأرض العشرية وأنه إن اشتراها ضوعف العشر فيجب عليه الخمس، وهذا المعنى
يحتمل إرادته من الحديث إما موافقة عليه أو تقية على الرأي الظاهر لأهل الخلاف
وقت صدور الحكم. ومعلوم أن رأي مالك كان هو الظاهر في زمن الباقر (عليه السلام). ومع قيام
هذا الاحتمال بل قربه لا يتجه التمسك بالحديث في إثبات ما قالوه، وليس هو بمظنة
بلوغ حد الإجماع ليغني عن طلب الدليل فإن جمعا منهم لم يذكروه أصلا وصرح
بعضهم بالتوقف فيه... " (4)
أقول: ولادة مالك على ما في مقدمة الموطأ كانت في 95 من الهجرة، وفي هذه
السنة أيضا بدأت إمامة الباقر (عليه السلام) على ما في أصول الكافي، ووفاة الإمام (عليه السلام) كانت في
114 (5) فلم يكن مالك في عصر إمامته (عليه السلام) أهلا لأن يظهر فتواه ويتقى منه. نعم، هذه
الفتوى كانت ظاهرة قبل ذلك عن الحسن وعطاء كما مر بل كان

1 - المنتهى 1 / 549.
2 - التذكرة 1 / 253.
3 - المعتبر / 293.
4 - منتقى الجمان 2 / 443.
5 - الموطأ، أواخر المقدمة; وأصول الكافي 1 / 466 و 469.
92

هذا عمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكذا الخليفة الثاني كما يأتي عن قريب.
وكيف كان فهل نلتزم بثبوت الخمس في رقبة الأرض تمسكا بظاهر
الصحيحة الإجماع المنقول وشهرة المتأخرين من أصحابنا، أو نمنع ذلك بتقريب أن
صدور الحديث من الإمام (عليه السلام) في جو كان البحث عن بيع الأرض العشرية من
الذمي عن كيفية المعاملة معه من أخذ الخراج أو العشر أو الخمس ظاهرا بينهم يوجب
التردد في الحكم لا احتمال صدور الحديث تقية أو كون مراد الإمام - عليه السلام -
أيضا ثبوت الخمس أي العشرين في حاصل الأرض بعنوان الزكاة وفقا لهم ولما
حكي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). إذ لا بعد في كون الحكم ذلك لئلا يرغب أهل الذمة في شراء
أراضي المسلمين، بل أنس ذهن الرواي بالحكم الشائع في ذلك الجو يوجب انسباق
ذلك من كلام الإمام أيضا. فيمنع بذلك ظهور الصحيحة في خمس الرقبة.
كيف؟! وعمدة الدليل على حجية الخبر بناء العقلاء، ويمكن منع بنائهم على العمل
مع تلك القرائن الموجبة لعدم الظهور أو عدم إرادته.
ولعل نظر بعض المفتين في المسألة كالشيخ في الخلاف والعلامة في
المنتهى التذكرة أيضا كان إلى ثبوت الخمس في حاصل الأرض لا في رقبتها، فتأمل
في العبارات التي مرت، بل الظاهر من عبارة الخلاف كون موضوع البحث عند
أصحابنا أيضا هو حاصل الأرض العشرية وأنهم حملوا الصحيحة أيضا على ذلك.
نعم للحاكم الإسلامي منع الذمي من شراء الأرض وسائر العقارات من المسلمين
إذا كان هذا مقدمة لاستيلائهم الاقتصادي والسياسي كما شوهد ذلك في فلسطين، وله
أيضا جعل الخمس على رقبة الأرض إذا فرض اشتراؤها ويصير هذا نحو جزية
عليهم. هذا.
وليس جعل الخمس في حاصل أراضي الكفار أمرا غريبا يستوحش منه، بل له
سابقة في سيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والخلفاء:
ففي خبر محمد بن مسلم، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) أرأيت ما يأخذ هؤلاء من
93

هذا الخمس من أرض الجزية ويأخذ من الدهاقين جزية رؤوسهم; أما عليهم في
ذلك شيء موظف؟ فقال: " كان عليهم ما أجازوا على أنفسهم، وليس للإمام أكثر من
الجزية; إن شاء الإمام وضع ذلك على رؤوسهم وليس على أموالهم شيء، وإن شاء
فعلى أموالهم وليس على رؤوسهم شيء " فقلت: " فهذا الخمس؟ " فقال: " إنما هذا
شيء كان صالحهم عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). " (1)
وروى الصدوق، قال: قال الرضا (عليه السلام): " إن بني تغلب أنفوا من الجزية وسألوا عمر
أن يعفيهم، فخشي أن يلحقوا بالروم فصالحهم على أن صرف ذلك عن
رؤوسهم ضاعف عليهم الصدقة، فعليهم ما صالحوا عليه ورضوا به إلى أن يظهر
الحق. " (2)
وقد ظهر مما ذكرناه بطوله الإشكال في خمس رقبة الأرض التي اشتراها الذمي
من المسلم، بل الثابت هو الخمس في حاصلها بعنوان الزكاة، وعلى ذلك تحمل
الصحيحة وكثير من كلمات الأصحاب أيضا، فليس في المسألة إجماع ولا شهرة
مقنعة، والظاهر من كلمة الأرض في تلك الأعصار كان أراضي الزراعة والتنمية
لا مثل أراضي الدور والدكاكين ونحوها لعدم الاهتمام فيها بأرضها، فتدبر.
السابع مما فيه الخمس:
الحلال المختلط بالحرام على وجه لا يتميز مع الجهل بصاحبه وبمقداره، فيحل
بإخراج خمسه:
وقد أفتى بذلك في النهاية والغنية وغيرهما بل ادعي عليه الإجماع والشهرة:
قال في النهاية:
" وإذا حصل مع الإنسان مال قد اختلط الحلال بالحرام ولا يتميز له، وأراد تطهيره

1 - الوسائل 11 / 114، الباب 68 من أبواب جهاد العدو...، الحديث 2.
2 - الوسائل 11 / 116، الباب 68 من أبواب جهاد العدو...، الحديث 6.
94

أخرج منه الخمس وحل له التصرف في الباقي. " (1)
وفي الغنية في عداد ما فيه الخمس:
" وفي المال الذي لم يتميز حلاله من حرامه، وفي الأرض التي يبتاعها الذمي،
بدليل الإجماع المتردد. " (2)
نعم، لم يذكره المفيد وابن أبي عقيل وابن الجنيد، كما في المختلف.
وقال في المدارك:
" المطابق للأصول وجوب عزل ما يتيقن انتفاؤه عنه والتفحص عن مالكه إلى أن
يحصل اليأس من العلم به فيتصدق به على الفقراء، كما في غيره من الأموال المجهولة
المالك. " (3)
وكيف كان فقد استدلوا لوجوب الخمس في المقام بروايات، فلنذكر بعضها:
1 - صحيحة عمار بن مروان، المروية عن الخصال، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام)
يقول: " فيما يخرج من المعادن والبحر والغنيمة والحلال المختلط بالحرام إذا لم
يعرف صاحبه والكنوز الخمس. " (4)
والرواية لا بأس بها سندا ودلالة. وظاهر الخمس فيها، هو الخمس المصطلح، نعم
ربما يوهنها عدم ذكرها في الكتب الأربعة.
2 - ما رواه الشيخ بسنده، عن الحسن بن زياد، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " إن رجلا
أتى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين، إني أصبت مالا لا أعرف حلاله من
حرامه؟ فقال له: أخرج الخمس من ذلك المال، فإن الله - عز وجل - قد رضي من
ذلك المال بالخمس،

1 - النهاية / 197.
2 - الجوامع الفقهية / 507 (= طبعة أخرى / 569).
3 - المدارك / 339.
4 - الوسائل 6 / 344، الباب 3 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 6.
95

واجتنب ما كان صاحبه يعلم. " (1)
هكذا في الوسائل، ولكن الشيخ رواها في موضعين من التهذيب ذكر في الموضع
الأول " يعمل " بدل قوله: " يعلم "، وفي الموضعين " قد رضي من المال " بدل قوله: " قد
رضي من ذلك المال. " (2)
3 - ما رواه المشايخ الثلاثة بسند لا بأس به، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام):
ففي الفقيه: " روى السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، عن أبيه، عن آبائه (عليه السلام)، قال: " أتى
رجل عليا (عليه السلام) فقال: إني كسبت مالا أغمضت في طلبه حلالا وحراما، فقد أردت
التوبة ولا أدري الحلال منه ولا الحرام فقد اختلط علي؟ فقال علي (عليه السلام): أخرج خمس
مالك، فإن الله - عز وجل - قد رضي من الإنسان بالخمس، وسائر المال كله لك
حلال. " (3)
ورواه الكليني أيضا إلا أنه قال: " فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): " تصدق بخمس مالك،
فإن الله - جل اسمه - رضي من الأشياء بالخمس، وسائر الأموال لك حلال. " (4) رواه
الشيخ أيضا بسنده عن الكليني. (5)
والظاهر رجوع روايتي السكوني والحسن بن زياد إلى رواية واحدة، لتشابههما
في السؤال ونقلهما لواقعة واحدة اتفقت في زمان أمير المؤمنين (عليه السلام). ويبعد تعدد
الواقعة. وعلى هذا فيشكل الاعتماد على ما اختلفتا فيه من الخصوصيات.
وهل تحمل الروايتان على المال الذي أصابه الإنسان من شخص آخر بالوراثة أو
الاشتراء أو نحوهما وقد اختلط مال ذلك الشخص إجمالا ولكن يحتمل كون المال
المنتقل إليه بأجمعه من الحلال فيكون حلالا له ويحمل الخمس فيه على خمس الأرباح
والفوائد كما قد يحتمل، أو يراد المال الذي قد اختلط عند نفسه أو عند غيره ولكن
المختلط قد انتقل إليه فيكون الخمس للتحليل؟ وجهان، ولعل الثاني هو الأظهر.

1 - الوسائل 6 / 352، الباب 10 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 1.
2 - التهذيب 4 / 124 و 138، كتاب الزكاة، الباب 35 و 39.
3 - الفقيه 3 / 189، كتاب المعيشة، باب الدين والقرض، الحديث 3713.
4 - الكافي 5 / 125 (= ط. القديم من الفروع 1 / 363)، كتاب المعيشة باب المكاسب الحرام، الحديث 5.
5 - الوسائل 6 / 353، الباب 10 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 4.
96

ويحتمل فيهما أيضا أن يراد حلية المال المختلط أو المشتبه بسبب توبة الشخص
ويكون الخمس فيه أيضا من قبيل خمس الفوائد، ولا بعد في أن يحل المال المختلط
أو المشتبه ويصبغ الحرام في البين بصبغة الحلية بسبب التوبة، كما يشهد بذلك
الأخبار المستفيضة الواردة في المال المختلط بالربا، فراجع الوسائل الباب الخامس
من أبواب الربا. (1) وكذلك موثقة سماعة فيمن أصاب مالا من عمل بني أمية. (2) يشهد
بذلك أيضا مرسلة الصدوق في المقام، وقد فصلنا البحث في ذلك في كتاب الخمس،
فراجع. (3)
4 - مرسلة الصدوق، قال: جاء رجل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين،
أصبت مالا أغمضت فيه، أفلي توبة؟ قال: إيتني خمسه، فأتاه بخمسه، فقال: " هو لك،
إن الرجل إذا تاب تاب ماله معه. " (4)
والظاهر كونها مشيرة إلى نفس الواقعة المذكورة في روايتي السكوني والحسن بن
زياد، فيجري فيها ما مضى فيهما.
5 - موثقة عمار الساباطي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه سئل عن عمل السلطان يخرج
فيه الرجل؟ قال: " لا، إلا أن لا يقدر على شيء يأكل ولا يشرب ولا يقدر على حيلة،
فإن فعل فصار في يده شيء فليبعث بخمسه إلى أهل البيت. " (5)
أقول: الظاهر أن المراد بالخمس فيه هو الخمس المصطلح ولكن المورد في
الحديث هو المال المشتبه لا المختلط، إذ المنتقل إليه لا يعلم بوجود الحرام فيه،
فالخمس فيه هو خمس الأرباح، فتأمل.

1 - الوسائل 12 / 430.
2 - الوسائل 12 / 59، الباب 4 من أبواب ما يكتسبه به، الحديث 2.
3 - كتاب الخمس / 110 وما بعدها.
4 - الوسائل 6 / 353، الباب 10 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 3.
5 - الوسائل 6 / 353، الباب 10 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 2.
97

فالعمدة في المسألة هو صحيحة عمار بن مروان ومعتبرة السكوني. وعمدة
الإشكال في المسألة هو أن الحكم الشرعي في المال الذي لا يعرف صاحبه أو
لا يمكن إيصاله إلى صاحبه كاللقطة وما أودعه اللصوص عند الإنسان وغير ذلك هو
التصدق به كما نطقت بذلك الأخبار في الموارد المختلفة.
ومن البعيد جدا كون المصرف هو التصدق فيما إذا علم مقدار الحرام، والخمس
المصطلح فيما إذا لم يعلم مقداره. فيحتمل قويا كون مصرف الخمس في المقام هو
مصرف الصدقات، غاية الأمر أن المقدار لما كان مجهولا فالله - تعالى -، مالك
الأملاك وولى الغائب، صالح الحرام الموجود في البين بالخمس.
ويؤيد ذلك قوله (عليه السلام) في خبر السكوني بنقل الكليني: " تصدق بخمس
مالك. " الكليني ذكر روايات الخمس في أواخر كتاب الحجة من الكافي، لكونه عنده
من حقوق الإمامة، ولكنه ذكر خبر السكوني الذي مر في كتاب المعيشة من الفروع،
فيظهر بذلك أنه لم يجعل الخمس في المال المختلط من قبيل الخمس المصطلح.
وفي حاشية الفروع عن مرآة العقول قال: " واختلفوا في أنه خمس أو
صدقة، الأخير أشهر. " (1)
وليس لفظ الخمس حقيقة شرعية في الخمس المصطلح المعهود كما قد يتوهم، بل
يراد به جزء من الأجزاء الخمسة. نعم، قرينة السياق في صحيحة عمار بن مروان ربما
تشهد بإرادة الخمس المصطلح. هذا.
ولو قيل بأن الخمس المصطلح بأجمعه حق وحداني لمنصب الإمامة كما سيأتي
بيانه، وأن مصرف الصدقة مطلقا هو جميع المصارف الثمانية التي منها جميع سبل
الخير لا خصوص الفقراء والمساكين كما لا يبعد، ويشهد له آية مصرف الصدقات، كذا
إطلاق الصدقة على الأوقاف العامة، وقوله (عليه السلام): " كل معروف صدقة " (2)، وقوله (عليه السلام):
" عونك للضعيف من أفضل الصدقة " (3)، ونحو ذلك من الاستعمالات، انحل

1 - الكافي 5 / 125، كتاب المعيشة، باب المكاسب الحرام، ذيل خبر السكوني.
2 - الوسائل 6 / 321، الباب 41 من أبواب الصدقة، الحديث 1 و 2.
3 - تحف العقول / 414.
98

الإشكال من رأسه، إذ يصرف الجميع في مصالح الإسلام والمسلمين وشؤون
الإمامة الحكومة، ومنها فقراء المسلمين وفقراء بني هاشم، فتأمل، لبقاء الإشكال إن
منعنا إعطاء الصدقة لبني هاشم، اللهم إلا أن يقال باختصاص ذلك بالزكاة الواجبة.
99

الجهة الثالثة:
في مصرف الخمس:
1 - قال الشيخ في كتاب الفيء من الخلاف (المسألة 37):
" عندنا أن الخمس يقسم ستة أقسام: سهم لله وسهم لرسوله وسهم لذي القربى،
فهذه الثلاثة أسهم كانت للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعده لمن يقوم مقامه من الأئمة، وسهم
لليتامى سهم للمساكين وسهم لأبناء السبيل من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يشركهم فيه غيرهم.
واختلف الفقهاء في ذلك: فذهب الشافعي إلى أن خمس الغنيمة يقسم على خمسة
أسهم: سهم لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسهم لذي القربى وسهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم
لأبناء السبيل، فأما سهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيصرف في مصالح المسلمين، وأما سهم ذي
القربى فإنه يصرف إلى ذوي القربى على ما كان يصرف إليهم على عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
على ما نبينه فيما بعد.
وذهب أبو العالية الرياحي إلى أن الخمس من الغنيمة والفئ مقسوم على ستة
أقسام: سهم لله - تعالى -، وسهم لرسوله، وسهم لذي القربى، وسهم لليتامى، وسهم
للمساكين، وسهم لأبناء السبيل. وذهب مالك إلى أن خمس الغنيمة وأربعة أخماس
الفيء مفوض إلى اجتهاد الإمام ليصرفه إلى من رأى أن يصرفه إليه. وذهب أبو حنيفة
إلى أن خمس الغنيمة وأربعة أخماس الفيء يقسم على ثلاثة أسهم: سهم لليتامى سهم
للمساكين وسهم لأبناء السبيل. هذا الذي رواه عنه الخمس بن زياد اللؤلؤي...
دليلنا إجماع الفرقة المحقة وأخبارهم، وأيضا قوله - تعالى -: فأن لله
خمسه للرسول. الآية. " (1)

1 - الخلاف 2 / 340.
100

2 - وفيه أيضا (المسألة 38):
" سهم ذي القربى ثابت لم يسقط بموت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو لمن قام مقامه. وقال
الشافعي: سهم ذي القربى ثابت وهو خمس الخمس يصرف إلى أقاربه الغني والفقير
منهم ويستحقونه بالقرابة. وقال أبو حنيفة: سهم ذي القربى سقط بموت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)...
دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضا قوله - تعالى -: ولذي القربى.... " (1)
3 - وفيه أيضا (المسألة 39):
" عندنا أن سهم ذي القربى للإمام، وعند الشافعي لجميع ذي القربى يستوي فيه
القريب والبعيد والذكر والأنثى... دليلنا إجماع الفرقة. " (2)
4 - وفيه أيضا (المسألة 41):
" الثلاثة أسهم التي هي لليتامى والمساكين وأبناء السبيل من الخمس، يختص بها
من كان من آل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) دون غيرهم، وخالف جميع الفقهاء في ذلك وقالوا:
إنها لفقراء المسلمين وأيتامهم وأبناء سبيلهم دون من كان من آل الرسول خصوصا.
دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم. " (3)
5 - وفي خراج أبي يوسف القاضي:
" وأما الخمس الذي يخرج من الغنيمة فإن محمد بن السائب الكلبي حدثني عن
أبي صالح، عن عبد الله بن عباس: أن الخمس كان في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على
خمسة أسهم: لله وللرسول سهم، ولذي القربى سهم، ولليتامى والمساكين وابن السبيل
ثلاثة أسهم، ثم قسمه أبو بكر وعمر وعثمان على ثلاثة أسهم، وسقط سهم الرسول سهم
ذوي القربى، وقسم على الثلاثة الباقية، ثم قسمه علي بن أبي طالب على ما قسمه
عليه أبو بكر وعمر وعثمان. وقد روي لنا عن عبد الله بن عباس أنه قال: عرض علينا
عمر بن الخطاب أن نزوج أيمنا ونقضى منه عن مغرمنا،

1 - الخلاف 2 / 341.
2 - الخلاف 2 / 343.
3 - الخلاف 2 / 344.
101

فأبينا إلا أن يسلمه لنا، وأبي ذلك علينا.
قال: وأخبرني محمد بن إسحاق، عن أبي جعفر (عن جعفر خ. ل)، قال: قلت له:
ما كان رأي علي في الخمس؟ قال: كان رأيه فيه رأي أهل بيته ولكنه كره أن يخالف
أبا بكر وعمر...
قال: وحدثني عطاء بن السائب أن عمر بن عبد العزيز بعث بسهم الرسول وسهم
ذوي القربى إلى بني هاشم. " (1)
6 - وفي تفسير القرطبي:
" قال مالك: هو موكول إلى نظر الإمام واجتهاده فيأخذ منه من غير تقدير ويعطي
منه القرابة باجتهاد، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين، وبه قال الخلفاء الأربعة وبه
عملوا وعليه يدل قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود
عليكم. " (2)
7 - وفي المغني لابن قدامة الحنبلي:
" الفصل الرابع أن الخمس يقسم على خمسة أسهم: وبهذا قال عطاء
ومجاهد الشعبي والنخعي وقتادة وابن جريح والشافعي. وقيل يقسم على ستة: سهم
لله، وسهم لرسوله...
وروى ابن عباس أن أبا بكر وعمر قسما الخمس على ثلاثة أسهم، ونحوه حكي
عن الحسن بن محمد بن الحنيفة، وهو قول أصحاب الرأي: قالوا: يقسم الخمس على
ثلاثة: اليتامى والمساكين وابن السبيل، وأسقطوا سهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بموته وسهم
قرابته أيضا.
وقال مالك: الفيء والخمس واحد يجعلان في بيت المال، قال ابن القاسم: وبلغني
عمن أثق به أن مالكا قال: يعطي الإمام أقرباء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما يرى، وقال
الثوري والحسن: يضعه الإمام حيث أراه الله - عز وجل -. ولنا قول الله

1 - الخراج / 19 - 21.
2 - تفسير القرطبي 8 / 11.
102

- تعالى -: " واعلموا أنما غنمتم. الآية. " (1)
أقول: ما في كلام الشيخ وغيره من أصحابنا من كون الأسهم الثلاثة حتى سهم ذي
القربى في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يشهد لما سنبينه من كون الأسهم الثلاثة بل
الستة حقا للإمامة والإمارة، حيث إن منصب الإمامة في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان له نفسه
وكانت الإمامة قائمة به (صلى الله عليه وآله وسلم). ولازم ذلك انتقال هذه السهام منه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الإمام بعده
وهكذا.
وما أفتى به أبو حنيفة وأتباعه من سقوط السهام الثلاثة بموته (صلى الله عليه وآله وسلم) يكون على
أساس ما حكوه من عمل الخلفاء بعده (صلى الله عليه وآله وسلم). ويشاهد من له ثقافة من خلفه يد
السياسة قهرا، وإلا فأي وجه لسقوط حق ذي القربى بموت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وما أفتى به مالك من جعل الخمس والفئ في بيت المال وإعطاء الإمام منه أقرباء
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يرجع إلى ما سنبينه من كون الخمس بأجمعه حقا وحدانيا يكون في
اختيار إمام المسلمين، ووزانه الفيء والأنفال، غاية الأمر أن الإمام يسد به خلات
الأصناف الثلاثة من السادة بما أنهم من بيت الوحي والإمامة، فتدبر.
وكيف كان فتقسيم الخمس ستة أسهم نسب إلى المشهور، وفي مجمع البيان:
" ذهب إليه أصحابنا. " وفي الانتصار والخلاف والغنية الإجماع عليه، وعن الأمالي
أنه من دين الإمامية.
واستدلوا عليه - مضافا إلى الإجماع المدعى والشهرة المحققة - بظاهر
الآية بأخبار مستفيضة:

1 - المغنى 7 / 300.
103

بيان مفاد الآية الشريفة:
وقال الله - تعالى -: " واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول لذي
القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. الآية " (1).
وقد مر في أول البحث بيان صدر الآية، فراجع.
وأما قوله: " فأن لله خمسه... " ففيه بالنظر البدوي احتمالان:
الأول: أن يراد به التقسيم والتسهيم، فيكون المراد تقسيمه ستة أسهم، كما عليه
المشهور من أصحابنا، أو خمسة أسهم بجعل سهم الله والرسول واحدا كما قال به
بعض، ويدل على هذا الاحتمال ظواهر كثير من الأخبار أيضا.
الثاني: أن يراد به الترتيب في الاختصاص، بتقريب أن الخمس بأجمعه حق
وحداني جعله الله - تعالى - لمنصب الإمامة والحكم، وحيث إن الحكم يكون
أولا بالذات لله - تعالى -، مالك الملك والملكوت (إن الحكم إلا لله) (2) وقد جعله الله
تعالى للرسول بقوله: " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم " (3) وجعله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لذي
القربى كما يشهد بذلك قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في غدير خم: " من كنت مولاه فعلى مولاه " (4)
فلا محالة يكون الخمس بأجمعه أولا وبالذات لله - تعالى -، وفي طول ذلك بأجمعه
للرسول، وبعده لمن قام مقامه من ذوي قرباه، إماما بعد إمام، على ما هو معتقدنا في
الإمامة.
وأما قوله: " واليتامى " وما بعده فحيث لم يدخل عليه لام الملك والاختصاص
فلا اختصاص للخمس بهم وليس ملكا لهم، وإنما يكونون من قبيل المصارف، وقد

1 - سورة الأنفال (8)، الآية 41.
2 - سورة الأنعام (6)، الآية 57، وسورة يوسف (12)، الآية 40 و 67.
3 - سورة الأحزاب (33)، الآية 6.
4 - راجع الغدير 1 / 9 وما بعدها، وهذا الجزء من كلام النبي " ص " في ص 11.
104

ذكروا في الآية اهتماما بشأنهم وإشعارا بأنهم من شؤون الحكومة ومن لواحقها.
ولعل في عدم ذكر اللام مضافا إلى ذلك نكتة أخرى أيضا، وهي الإشارة إلى شدة
اتصالهم بالرسول وبذي القربى فتدل الآية على اعتبار انتسابهم إليهما، فتدبر.
وأما قوله - تعالى -: " ولذي القربى " ففيه بالنظر البدوي ثلاث احتمالات:
الأول: أن يراد به أقارب من تعلق به الخمس، نظير قوله - تعالى -: " وآتى المال
على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. " (1)
والظاهر أنه لم يقل بهذا الاحتمال في هذا المقام فيما أعرف أحد من
الخاصة لا العامة.
الثاني: أن يراد به أقارب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من قريش أو من بني هاشم أو بني هاشم وبني
المطلب مطلقا، واختار هذا فقهاء السنة ونسب إلى ابن الجنيد من فقهائنا أيضا.
الثالث: أن يراد به خصوص الإمام (عليه السلام)، وقد ذكر مفردا للإشعار بذلك، حيث إن
الإمام في كل عصر شخص واحد، وقد أشعر الله - تعالى - بهذا التعبير إلى أن
المستحق لمنصب الإمامة بعد الرسول هو ذو القربى منه، وهذا الاحتمال هو ظاهر
أصحابنا الإمامية وعلى دلت رواياتنا، وقد مرت عبارة الخلاف في ذلك ولم ينسب
الخلاف فيه إلا إلى ابن الجنيد من أصحابنا.
وحيث إن الأصناف الثلاثة لا يراد بها عندنا إلا من انتسب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما
يأتي فلا محالة لا يراد بذي القربى مطلق من يتقرب به حذرا من التكرار، فالمراد به
من له قرابة خاصة وهو الإمام بعده، فتأمل.
وأما قوله - تعالى -: " واليتامى والمساكين وابن السبيل "، فالمشهور بين أصحابنا
اختصاصها بمن كان من آل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وادعى بعضهم عليه الإجماع.

1 - سورة البقرة (2) الآية 177.
105

وأما فقهاء السنة فقالوا بعمومها لجميع يتامى المسلمين ومساكينهم وأبناء سبيلهم،
ووافقهم في الجملة ابن الجنيد منا.
واستدل أصحابنا على ذلك بعد الإجماع المدعى والشهرة المحققة بأخبار
مستفيضة:
منها قوله (عليه السلام) في مرسلة ابن بكير، عن أحدهما (عليه السلام): " واليتامى يتامى
الرسول المساكين منهم وأبناء السبيل منهم، فلا يخرج منهم إلى غيرهم. " (1)
ومنها قوله في مرسلة حماد الطويلة، عن العبد الصالح (عليه السلام): " ونصف الخمس الباقي
بين أهل بيته، فسهم ليتاماهم، وسهم لمساكينهم، وسهم لأبناء سبيلهم. الحديث. " (2)
إلى غير ذلك من الأخبار، فراجع.
ويمكن أن يقرب التعميم بوجهين: الأول: أن مفاد الآية وإن كان عاما لكن
موردها غزوة بدر الواقعة في السنة الثانية من الهجرة، وفي ذلك الوقت لم يكن لمن
أسلم من بني هاشم أيتام ومساكين وأبناء سبيل يوزع عليهم خمس الغنيمة ولكن
كثرت الأصناف الثلاثة من غيرهم ولا سيما من المهاجرين الذين اخرجوا من
ديارهم. اللهم إلا أن يقال إن التشريع وقع بلحاظ الأعصار اللاحقة لا عصر النزول
فقط.
الثاني: مماثلة آية الفيء المذكورة في سورة الحشر (3) لهذه الآية في
الألفاظ الخصوصيات، والفئ عندنا من الأنفال المختصة بالإمام ولا تقسيم لا تسهيم
فيه، نعم للإمام صرفه في الأصناف الثلاثة مطلقا كما صرفه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الفقراء
المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وفي بعض الأنصار. هذا.
وفي أخبارنا أيضا ما يدل على التعميم: ففي الرسالة المنسوبة إلى الإمام
الصادق (عليه السلام) المروية في تحف العقول قوله: " فخمس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الغنيمة التي قبض

1 - الوسائل 6 / 356، الباب 1 من أبواب قسمة الخمس، الحديث 2.
2 - الوسائل 6 / 358، الباب 1 من أبواب قسمة الخمس، الحديث 8.
3 - سورة الحشر (59)، الآية 7.
106

بخمسة أسهم، فقبض سهم الله لنفسه يحيي به ذكره ويورث بعده، وسهما لقرابته من
بني عبد المطلب، فأنفذ سهما لأيتام المسلمين وسهما لمساكينهم وسهما لابن السبيل
من المسلمين في غير تجارة، فهذا يوم بدر. الحديث. " (1)
الروايات المتعرضة لمصرف الخمس:
وأما الروايات المتعرضة لمصرف الخمس فكثيرة يظهر من بعضها تقسيمه ستة
أسهم ومن بعضها تقسيمه خمسة أسهم، وقد تعرضنا لها بالتفصيل في كتاب الخمس،
فراجع (2). ولنذكر هنا نماذج:
1 - مرسلة حماد الطويلة المشتملة على أحكام كثيرة، رواها الكليني والشيخ: ففي
أواخر كتاب الحجة من أصول الكافي: " علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن
حماد بن عيسى، عن بعض أصحابنا، عن العبد الصالح (عليه السلام)، قال: الخمس من خمسة
أشياء: من الغنائم والغوص ومن الكنوز ومن المعادن والملاحة يؤخذ من كل هذه
الصنوف الخمس فيجعل لمن جعله الله - تعالى - له ويقسم الأربعة الأخماس بين من
قاتل عليه وولي ذلك.
ويقسم بينهم الخمس على ستة أسهم: سهم لله وسهم لرسول الله وسهم لذي القربى
وسهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لأبناء السبيل، فسهم الله وسهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
لأولي الأمر من بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وراثة فله ثلاثة أسهم: سهمان وراثة وسهم مقسوم
له من الله، وله نصف الخمس كملا.
ونصف الخمس الباقي بين أهل بيته: فسهم ليتاماهم وسهم لمساكينهم وسهم لأبناء
سبيلهم يقسم بينهم على الكتاب والسنة (على الكفاف والسعة - التهذيب.) ما يستغنون
به في سنتهم، فإن فضل عنهم شيء فهو للوالي، وإن عجز أو نقص عن استغنائهم كان
على الوالي أن ينفق من عنده

1 - تحف العقول / 341.
2 - كتاب الخمس / 255 وما بعدها.
107

بقدر ما يستغنون به، وإنما صار عليه أن يمونهم لأن له ما فضل عنهم. الحديث. " (1)
والرواية مع إرسالها قد عمل بفقراتها الأصحاب في الأبواب المختلفة، وحماد
ممن أجمعت العصابة على تصحيح يصح عنه. (2)
ومحط النظر في الرواية بيان كيفية تقسيم الإمام وصرفه للأموال والضرائب
الإسلامية من الأخماس والزكوات وخراج الأراضي والأنفال بعد فرض كونه
مبسوط اليد ومتصديا للحكومة الإسلامية وكونه بحيث يجتمع عنده الضرائب.
فالاستدلال بها لتتميم حاجات الذرية من سهم الإمام في عصر الغيبة أو عدم بسط
اليد مع كون الوجوه المجتمعة أقل قليل وكون بعض المصارف أهم بمراتب مشكل
جدا كما لا يخفى.
وعدم تعرض الرواية لخمس الأرباح مع كونها في مقام الاستقصاء وكون خمس
الأرباح في عصر الإمام الكاظم - عليه السلام - مما تعم به البلوى يوجب نوع
وهن إشكال في خمس الأرباح، فتدبر.
2 - ونظير هذه المرسلة في موارد الخمس وتقسيمه ستة أسهم وتتميم حق السادة
إن نقص مرفوعة أحمد بن محمد التي رواها الشيخ، فراجع. (3)
3 - ما رواه الشيخ بسند موثوق به، عن عبد الله بن بكير، عن بعض أصحابه، عن
أحدهما (عليه السلام) في قول الله - تعالى -: " واعلموا أنما غنمتم... " قال: " خمس الله للإمام،
وخمس الرسول للإمام، وخمس ذوى القربى لقرابة الرسول: الإمام. واليتامى
الرسول، والمساكين منهم، وأبناء السبيل منهم، فلا يخرج منهم إلى غيرهم. " (4)
وعبد الله بن بكير ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه. (5)

1 - أصول الكافي 1 / 539، كتاب الحجة، باب الفيء والأنفال...; والوسائل 6 / 358، الباب 1 من
أبواب قسمة الخمس، الحديث 8.
2 - تنقيح المقال 1 / 367.
3 - الوسائل 6 / 359، الباب 1 من أبواب قسمة الخمس، الحديث 9.
4 - الوسائل 6 / 356، الباب 1 من أبواب قسمة الخمس، الحديث 2.
5 - تنقيح المقال 2 / 171.
108

4 - وفي الدر المنثور: " وأخرج ابن المنذر من طريق أبي مالك، عن ابن عباس،
قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقسم ما افتتح على خمسة أخماس: فأربعة أخماس لمن
شهده ويأخذ الخمس خمس الله فيقسمه على ستة أسهم: فسهم لله، وسهم
للرسول، سهم لذي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل.
الحديث. " (1)
5 - صحيحة ربعي بن عبد الله، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا
أتاه المغنم أخذ صفوه وكان ذلك له ثم يقسم ما بقي خمسة أخماس ويأخذ خمسه، ثم
يقسم أربعة أخماس بين الناس الذين قاتلوا عليه. ثم قسم الخمس الذي أخذه خمسة
أخماس: يأخذ خمس الله - عز وجل - لنفسه. ثم يقسم الأربعة أخماس بين ذوي
القربى واليتامى والمساكين وأبناء السبيل يعطي كل واحد منهم حقا. وكذلك الإمام
يأخذ كما أخذ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). " (2)
ومفاد الصحيحة نقل ما كان يصنعه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الغنيمة وفي الخمس لا مرة بل
بالاستمرار، ولعله كان يصنع ذلك في الخمس توفيرا على سائر المستحقين. لا ينافي
ذلك قوله (عليه السلام): " وكذلك الإمام "، إذ لعل المماثلة كان في أخذ الصفو والخمس، لا في
جميع الجهات.
وظاهر هذه الصحيحة عموم الأصناف الثلاثة وعدم اختصاصها بالذرية. والحمل
على التقية مشكل، إذ يبعد جدا نسبة خلاف الواقع إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بداعي التقية.
هذا لكن يشكل مقاومة الصحيحة لظاهر الآية وصريح الأخبار والفتاوى الدالة على
ستة أسهم، فتأمل. هذا.

1 - الدر المنثور 3 / 186.
2 - الوسائل 6 / 356، الباب 1 من أبواب قسمة الخمس، الحديث 3.
109

الخمس حق وحداني ثابت لمنصب الإمامة:
ولكن قد مر منا في تفسير الآية الشريفة احتمال آخر قوي في نفسه، وهو أن يراد
بها الترتيب في الاختصاص لا التقسيم والتسهيم، بتقريب أن الخمس حق وحداني
جعل لمنصب الإمامة والحكم. وحيث إن الحكم يكون أولا وبالذات لله - تعالى -، من
قبله - تعالى - جعل للرسول حق الحكم، ومن قبل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) جعل لذي القربى في
غدير خم فلا محالة يكون الخمس بأجمعه أولا وبالذات لله - تعالى -، وفي الرتبة
المتأخرة يكون بأجمعه للرسول بما أنه خليفة الله في الحكم، وبعده للإمام القائم
مقامه. ومثله الأنفال أيضا.
لا أقول: إنهما لشخص الإمام، بل أقول: إنهما لمنصب الإمامة، نظير ما يحكم على
الأموال العامة أنها للدولة والحكومة. وأما الأصناف الثلاثة فلا ملكية لها لا اختصاص
بل هي مصارف له، ولذا لم يدخل عليها اللام لا في آية الخمس ولا في آية الفيء.
ويشهد لهذا الاحتمال سياق الآية وأخبار كثيرة:
أما الآية فأولا من جهة أنه - تعالى - أدخل لام الاختصاص على اسمه
الشريف على كل من الرسول وذي القربى، دون الأصناف الثلاثة، وظاهر اللام
الاختصاص التام والملكية المستقلة.
ومقتضى ذلك اختصاص جميع الخمس بالله - تعالى - مستقلا وبالرسول
كذلك بذي القربى كذلك ولا محالة يكون ذلك طويلة مترتبة.
وأما الأصناف الأخر فلا اختصاص بهم ولا ملكية لهم وإنما هم مصارف محضة،
فيرتزقون من ميزانية الحكومة والإمامة لكونهم من بيتها ومن شؤونها، وبذلك
يفترقون عن سائر الفقراء، حيث إنهم يرتزقون من أموال الناس وصدقاتهم.
110

وثانيا من جهة أن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر، وعلى هذا فتقديم قوله:
" لله " على قوله: " خمسه " مما يظهر منه اختصاص جميع الخمس بالله.
ثم لو فرض ظهور الآية في التقسيم كان مقتضاه التقسيم أثلاثا لا أسداسا فيجعل
سهم لله وسهم لرسوله وسهم لذي القربى والأصناف الثلاثة التابعة له المسانخة له من
جهة الانتساب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وأما الأخبار الظاهرة في كون الخمس حقا وحدانيا ثابتا لمنصب الإمامة فكثيرة
نذكر بعضها:
الأول: ما رواه السيد المرتضى في المحكم والمتشابه، نقلا عن تفسير النعماني
باسناده عن علي (عليه السلام)، قال: " وأما ما جاء في القرآن من ذكر معايش الخلق وأسبابها
فقد أعلمنا - سبحانه - ذلك من خمسة أوجه: وجه الإمارة ووجه العمارة ووجه
الإجارة ووجه التجارة ووجه الصدقات.
فأما وجه الإمارة فقوله - تعالى -: واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله
خمسه للرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين فجعل لله خمس الغنائم...
الحديث " (1)
فانظر أنه - عليه السلام - سمى الخمس بأجمعه وجه الإمارة ثم صرح بكونه لله -
تعالى -، وليس المقصود مالكية تكوينا فإنها لا تختص بالخمس بل المقصود كونه لله
تشريعا، ولو كان له السدس فقط لم يحسن نسبة الجميع إليه، فصح ما قلنا من كون
الخمس بأجمعه حقا وحدانيا ثابتا لمن له الحكم والأمر. والحكم لله - تعالى - لرسوله
ولمن قام مقامه على سبيل الترتيب.
وقد يسمى الأموال العامة الواقعة تحت اختيار الإمام بمال الله كما في
نهج البلاغة: " يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع. " (2) هذا.
ولكن في صحة روايات الكتاب كلام مر في بعض المباحث السابقة.

1 - الوسائل 6 / 341، الباب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 12.
2 - نهج البلاغة، فيض / 51; عبده 1 / 30; لح / 49، الخطبة 3.
111

الثاني: ما رواه الصدوق في الفقيه بإسناده، عن السكوني، عن جعفر بن محمد، عن
أبيه، عن آبائه (عليه السلام)، قال: قال علي (عليه السلام): " الوصية بالخمس، لأن الله - عز وجل - قد
رضي لنفسه بالخمس. " (1)
يظهر منه أن الخمس بأجمعه لله - تعالى -. نعم لأحد أن يقول: إن المراد بالخمس
هنا ليس هو الخمس المصطلح بل يوصى به في القربات.
الثالث: ما رواه الصفار في بصائر الدرجات، عن عمران بن موسى، عن موسى بن
جعفر (عليه السلام)، قال: قرأت عليه آية الخمس فقال: " ما كان لله فهو لرسوله، وما كان لرسوله
فهو لنا "، ثم قال: " والله لقد يسر الله على المؤمنين أرزاقهم بخمسة دراهم جعلوا
لربهم واحدا وأكلوا أربعة أحلاء. " (2)
يظهر من الرواية أن الخمس حق وحداني جعل للرب، ويكون للرسول وللإمام في
طوله لا في عرضه، فتأمل.
والأخبار الدالة على كون الخمس بأجمعه لله - تعالى - المعبر فيها عنه بخمس الله
كثيرة من طرق الفريقين يجدها المتتبع في مظانها. واحتمال كون الإضافة إليه - تعالى
- بلحاظ تشريعه من ناحيته أو كونه واقعا في سبيل قربه ومرضاته كسائر القربات
خلاف الظاهر، فتأمل.
الرابع: قوله - عليه السلام - في رواية ابن شجاع النيسابوري التي مرت: " لي منه
الخمس مما يفضل من مؤونته. " (3) فأضاف الإمام (عليه السلام) جميع الخمس إلى نفسه.
الخامس: صحيحة أبي علي بن راشد، قلت له: أمرتني بالقيام بأمرك وأخذ حقك،
فأعلمت مواليك بذلك، فقال لي بعضهم: وأي شيء حقه؟ فلم أدر ما أجيبه، فقال:
" يجب عليهم الخمس. " فقلت: ففي أي شيء؟ فقال: " في أمتعتهم

1 - الوسائل 13 / 361، الباب 9 من أبواب أحكام الوصايا، الحديث 3.
2 - الوسائل 6 / 338، الباب 1 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 6.
3 - الوسائل 6 / 348، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 2.
112

وصنائعهم. الحديث. " (1)
يظهر منها أن الخمس بأجمعه حق للإمام. وأبو علي بن راشد بغدادي ثقة وكان
وكيلا للإمام الهادي (عليه السلام) (2).
السادس: قول الرضا (عليه السلام) في تفسير آية الخمس: " الخمس لله والرسول، هولنا. " (3)
فجعل جميع الخمس لأنفسهم.
السابع: قوله (عليه السلام) في آخر مرسلة حماد الطويلة في مقام التعليل لعدم الزكاة في مال
الخمس: " وليس في مال الخمس زكاة، لأن فقراء الناس... ولذلك لم يكن على مال
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والوالي زكاة. " (4) فجعل جميع الخمس للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والوالي مع كون هذه
المرسلة بعينها متعرضة للتقسيم أسداسا فيجب توجيه التقسيم كما يأتي بيانه، فتأمل.
الثامن: خبر محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله - عز وجل -:
" واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى " قال: " هم قرابة
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والخمس لله وللرسول ولنا. " (5)
التاسع: صحيحة البزنطي، عن الرضا (عليه السلام) قال: سئل عن قول الله - عز وجل -:
" واعلموا أنما غنمتم. الآية. " فقيل له: فما كان لله فلمن هو؟ فقال:
لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ما كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو للإمام. فقيل له: أفرأيت إن كان صنف من
الأصناف أكثر وصنف أقل ما يصنع به؟ قال: " ذاك إلى الإمام، أرأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
كيف يصنع، أليس إنما كان يعطي على ما يرى؟ كذلك الإمام. " (6)

1 - الوسائل 6 / 348، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 3.
2 - تنقيح المقال 3 / 27 من فصل الكنى.
3 - الوسائل 6 / 361، الباب 1 من أبواب قسمة الخمس، الحديث 18.
4 - الوسائل 6 / 359، الباب 1 من أبواب قسمة الخمس، الحديث 8.
5 - الوسائل 6 / 357، الباب 1 من أبواب قسمة الخمس، الحديث 5.
6 - الوسائل 6 / 362، الباب 2 من أبواب قسمة الخمس، الحديث 1.
113

فالصحيحة صريحة في أن مرجع المال بأجمعه هو الإمام (عليه السلام) وأنه يقسمه على
ما يرى ولا يجب التقسيم أسداسا أو أخماسا، فتأمل.
العاشر: خبر ابن سنان، قال: قال أبو عبد الله: " على كل امرئ غنم أو اكتسب:
الخمس مما أصاب لفاطمة (عليه السلام) ولمن يلي أمرها من بعدها من ذريتها الحجج على
الناس، فذاك لهم خاصة يضعونه حيث شاؤوا. " (1)
والظاهر أن المراد بأمر فاطمة أمر الإمامة والولاية، وإنما ذكرت هي لكونها
صدف درر الإمامة - عليها وعليهم السلام -.
وبالجملة فظاهر كثير من أخبار الخمس وكذا الأنفال أن الجميع حق وحداني
ثابت للإمام بما هو إمام، أي لوحظت الإمامة حيثية تقييدية لا تعليلية، فالمال
لمنصب الإمامة لا لشخص الإمام ولذا ينتقل منه إلى الإمام بعده لا إلى ورثته كما يدل
على ذلك ما رواه الصدوق بإسناده عن أبي علي بن راشد، قال: قلت لأبي الحسن
الثالث (عليه السلام) إنا نؤتى بالشيء فيقال: هذا كان لأبي جعفر (عليه السلام) عندنا فكيف نصنع؟
فقال (عليه السلام): " ما كان لأبي (عليه السلام) بسبب الإمامة فهو لي، وما كان غير ذلك فهو ميراث على
كتاب الله وسنة نبية. " (2)
ومما يشهد أيضا لكون الخمس حقا وحدانيا ثابتا للإمام بما أنه إمام أخبار
التحليل بكثرتها، إذ يستفاد منها أنه (عليه السلام) هو المرجع الوحيد في الخمس وأنه بأجمعه له
وأن الأصناف الثلاثة من باب المصرف.
ويشهد لذلك أيضا أنه - تعالى - جعل الفيء أيضا في آية الفيء المذكورة في
سورة الحشر لنفس المصارف الستة المذكورة في آية الخمس بلا تفاوت بينهما، فهو

1 - الوسائل 6 / 351، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 8.
2 - الوسائل 6 / 374، الباب 2 من أبواب الأنفال...، الحديث 6.
114

- سبحانه - ذكر نفسه والرسول وذا القربى مع لام الاختصاص، والأصناف الثلاثة
بدونها مع اختصاص الفيء بالإمام وعدم وجوب تقسيمه ستة أسهم، وسيأتي البحث
في آية الفيء في الفصل الرابع.
والكليني " قده " لم يعقد في فروع الكافي بحثا في الخمس والأنفال وإنما تعرض
لرواياتهما في آخر كتاب الحجة من الأصول (1)، فيظهر بذلك أنه جعلهما من حقوق
الإمامة وشؤونها، فتدبر.
فإن قلت: ما ذكرت من كون الخمس بأجمعه حقا وحدانيا للإمام ينافي ما دل من
الأخبار المستفيضة على تقسيم الخمس ستة أسهم أو خمسة أسهم، وأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
كان يقسمه كذلك وكذلك الإمام. بل المستفاد من مرسلة حماد الطويلة ومرفوعة
أحمد بن محمد هو التقسيم بسهام متساوية; حيث حكم فيهما بعد تقسيمه ستة أسهم
بأن للإمام نصف الخمس كملا والنصف الباقي للأصناف الثلاثة الباقية. وهذا هو
المفتى به لأصحابنا في الأعصار المختلفة.
قلت: صدر المرسلة وكذا المرفوعة وإن دل على التقسيم بسهام متساوية، ولكن
ذكر فيهما بعد ذلك أن الإمام يقسم بين الأصناف الثلاثة ما يستغنون به في سنتهم، فإن
فضل شيء كان للوالي، وإن نقص كان عليه أن ينفق من عنده بقدر يستغنون به، فيعلم
بذلك عدم تعين التسهيم، نعم على الإمام أن يمون أهل الحاجة.
ويشهد لذلك أولا: وقوع التعبير بثمانية أسهم في مرسلة حماد بالنسبة إلى الزكاة
أيضا، مع أن المصارف الثمانية في باب الزكاة مصارف محضة، ولا يتعين فيها التسهيم
عندنا.
وثانيا: عد الخمس بأجمعه في آخر المرسلة مالا للنبي والوالي كما مر.

1 - أصول الكافي 1 / 538. كتاب الحجة، باب الفيء والأنفال...
115

ولعل اصرار الإمام (عليه السلام) على التعبير بالسهام كان في مقام الإلزام والجدل، حيث إن
الفتوى الرائج في عصر الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) وبعده كان فتوى أبي حنيفة، وهو
كان قائلا بسقوط حق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحق ذي القربى بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فيقسم
الخمس عنده ثلاثة أسهم للأصناف الثلاثة. وفقهاء السنة جمعيا كانوا يقولون بالتعليم
في الأصناف الثلاثة لغير السادة أيضا. وقد أنتج ذلك حرمان أئمتنا (عليه السلام) والسادة
الأطياب عن حقهم المشروع لهم. بل كان هذا مدار عمل الخلفاء بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
كما مر فيما حكيناه في نقل الأقوال عن خراج أبي يوسف (1)، فأراد أئمتنا (عليه السلام) إثبات
حقهم بقدر الإمكان بظاهر الآية الشريفة على مذاق فقهاء السنة حيث حملوها على
التقسيم والتسهيم.
والحاصل أن مقتضى الجمع بين ما دل على كون جميع الخمس حقا للإمام بما أنه
إمام، وبين أخبار التقسيم هو حمل أخبار التقسيم على الجدل والإلزام أو نحو ذلك
من المحامل، والالتزام بكون الخمس بأجمعه للإمام، وعلى هذا كان عمل أئمتنا (عليه السلام)
فهم كانوا يطالبون الخمس بأجمعه جملة واحدة، وهكذا كان يصنع وكلاؤهم.
ويشهد لذلك نفس أخبار التقسيم أيضا، حيث دلت على أن الزائد عن مؤونة السنة
للأصناف الثلاثة كان للإمام وكان يرجع إليه. وقد أفتى بهذا المضمون كثير من
أصحابنا فينتفي ملكية الأصناف الثلاثة وثبوت التقسيم المتساوي قهرا، فتدبر.
والمفروض في مرسلة حماد وجود إمام مبسوط اليد ورجوع جميع
الأخماس الزكوات وغير هما من الأموال الشرعية إليه، وحينئذ فيكفي في أعصارنا
خمس بلد من البلاد الكبيرة كطهران مثلا لفقراء جميع السادة، فكيف يجعل نصف
خمس ثروة العالم بكثرتها لهم.

1 - الخراج / 19.
116

فيعلم بذلك كله أنه ليس للأصناف الثلاثة بالنسبة إلى الخمس ملكية واختصاص،
بل الخمس بأجمعه حق وحداني ثابت للإمام، نعم عليه أن يمون منه فقراء السادة،
فهم ذكروا بعنوان المصارف فقط نظير ذكر الأصناف الثلاثة وذكر فقراء المهاجرين
في سورة الحشر بعد آية الفيء مع وضوح أن الفيء يختص بالإمام بما هو إمام كما
يأتي بيانه.
توضيح وتكميل:
المعروف بين أصحابنا الإمامية وجوب الزكاة في تسعة أشياء ووجوب الخمس
في سبعة، وذكروا من السبعة المعادن بكثرتها وأرباح المكاسب بشعبها. ولا يخفى
كثرة المعادن المستخرجة وعوائدها، وكذا أرباح المكاسب بشعبها المختلفة في جميع
الأعصار ولا سيما في هذه الأزمان، فالخمس ثروة عظيمة موفورة لا تحصى
بالمليارات فما فوقها.
وأما الأموال الزكوية التسعة فهي بنفسها أقل من مواضيع الخمس بمراتب، والزكاة
المفروضة عليها أيضا أقل من الخمس فإنها العشر أو نصف العشر أو ربع العشر.
وذكروا ان نصف الخمس في جميع الموارد لفقراء السادة لا يشركهم فيه
غيرهم، ذكروا للزكاة مصارف ثمانية على في القرآن منها الفقراء ومنها سبل الخير كلها
كإحداث المساجد والمعاهد العلمية والمستشفيات والطرق والقناطر وتهيئة
العدة العدة للجهاد ونحو ذلك من المصارف المهمة العامة المتوقفة على صرف أموال
كثيرة.
وذكروا أن زكوات بني هاشم يجوز صرفها في أنفسهم، وأنت ترى أن عدد بني
هاشم بالنسبة إلى غيرهم في غاية القلة ولا سيما في صدر الإسلام وحين تشريع هذه
الأحكام.
117

فعلى مذاق القوم شرع نصف الخمس كملا مع كثرته موضوعا ومقدارا للفقراء من
بني هاشم مع قلتهم جدا ولا يشركهم فيه غير هم، وشرع الزكاة مع قلتها جدا بالنسبة
إلى الخمس موضوعا ومقدارا لأن تصرف في مصارف ثمانية منها جميع سبل الخير
التي يستفيد منها الجميع حتى السادة ومنها جميع الفقراء حتى فقراء السادة بالنسبة
إلى زكاة أموال السادة، فهل لا يعد هذا الجعل والتشريع ظلما وزورا مخالفا
للعقل الحكمة، يوجد فيه التعادل والتناسب أصلا؟! ولا سيما مع ملاحظة ما في أخبار
كثيرة من أن الله - تعالى - جعل للفقراء في أموال الأغنياء ما يسعهم ولو علم أن ذلك
لا يسعهم لزادهم، حيث يستفاد من هذه الروايات أن الجعل والتشريع كان على
حساب الحاجات والخلات.
وعلى هذا فيتعين ما قلناه من أن الخمس حق وحداني جعل لمنصب
الإمامة الحكم وتحت اختيار الإمام، وأن له أن يصرفه في جميع ما يراه من مصالح
نفسه ومصالح المسلمين، ومنها أيضا إدارة عيشة الفقراء، كما جعلت الزكاة وسائر
الضرائب الإسلامية أيضا تحت اختياره، غاية الامر أنه يتعين عليه أن يمون فقراء بني
هاشم من تلك الضربية المنسوبة إلى الإمامة والإمارة رفعا لشأنهم لأنهم من أهل بيت
النبوة والإمامة، والمرأ يكرم في بيته وعائلته.
قال الإمام الخميني - مد ظله - في كتاب البيع من أبحاثه:
" وبالجملة من تدبر في مفاد الآية والروايات يظهر له أن الخمس بجميع سهامه من
بيت المال، والوالي ولي التصرف فيه، ونظره متبع بحسب المصالح العامة
للمسلمين، عليه إدارة معاش الطوائف الثلاث من السهم المقرر إرتزاقهم منه حسب
ما يرى. كما أن أمر الزكوات بيده في عصره يجعل السهام في مصارفها حسب ما يرى
من المصالح. هذا كله في السهمين. والظاهر أن الأنفال أيضا لم تكن ملكا لرسول الله
والأئمة - صلوات الله عليهم أجمعين - بل لهم ملك التصرف، وبيانه يظهر مما
تقدم. " (1) هذا.

1 - كتاب البيع 2 / 495.
118

الورود في المسألة من طريق آخر:
ولو أبيت ما ذكرناه فلنا أن نشيد المطلب بطريق آخر، ومحصله: أن خمس المال
المخلوط بالحرام لعله يكون من قبيل الصدقات كما مر بيانه.
وخمس أرض الذمي أيضا يكون من قبيل الزكوات ويكون متعلقا بحاصل
الأرض لا رقبته كما مر.
والمعادن والكنوز وما في قعر البحار أيضا حيث إنها من الأنفال المختصة بالإمام
فالخمس فيها من قبيل حق الإقطاع المجعول من ناحية الإمام لمن تصرف في
ملكه استخرجه، فلا يرتبط ببني هاشم بل هو بأجمعه للإمام بما هو إمام، أي
للإمامة الحكومة الحقة.
وأما خمس الأرباح فقد عرفت فيما مر احتمال كونه من الضرائب المرسومة من
قبل الأئمة المتأخرين (عليه السلام) لإحساس الاحتياج إليه بعد انقطاع أيديهم من
الزكوات الضرائب الإسلامية المشروعة من قبل الله - تعالى -، فهو أيضا يختص
بالإمام، ولذا أضافه في رواية ابن شجاع النيسابوري إلى نفسه بقوله (عليه السلام): " لي منه
الخمس مما يفضل من مؤونته "، وعد في صحيحة أبي علي بن راشد حقا له (عليه السلام). (1)
وفي الحدائق نقلا عن المنتقى في مقام الجواب عن الإشكالات الواردة على
صحيحة علي بن مهزيار الطويلة: احتمال اختصاص هذا الخمس بالإمام واستظهاره
من بعض أخبار الباب ومن جماعة من القدماء، فراجع. (2)
ويظهر من المحقق السبزواري في الكفاية والذخيرة الميل إلى كون الخمس
بأجمعه للإمام. (3)

1 - الوسائل 6 / 348، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 2 و 3.
2 - الحدائق 12 / 356.
3 - الكفاية / 44; والذخيرة / 486.
119

وفي أواخر الخمس من الجواهر في المسألة الرابعة قال:
" بل لو لا وحشة الانفراد عن ظاهر اتفاق الأصحاب لأمكن دعوى ظهور الأخبار
في أن الخمس جميعه للإمام (عليه السلام) وإن كان يجب عليه الإنفاق منه على الأصناف
الثلاثة الذين هم عياله، ولذا لو زاد كان له (عليه السلام)، ولو نقص كان الإتمام عليه من
نصيبه، حللوا منه من أرادوا. " (1)
وعلى هذا فلا يبقى للتقسيم والتسهيم إلا خمس مغانم الحرب. وموضوعه منتف
في أعصارنا.
ولا يخفى أن مغانم الحرب تمتاز عن سائر الأموال بوقوعها من أول الأمر في
اختيار الرسول أو الإمام بسبب الظفر على العدو، وليست من قبيل الضرائب التي
تؤخذ من الناس، فلعل رفع خلات بني هاشم منها دون الزكوات وسائر الضرائب
المأخوذة من الناس كان لرفع التهمة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يتوهم الحدثاء في الإسلام أن
إصراره (صلى الله عليه وآله وسلم) على أخذ الزكوات وسائر الضرائب يكون لتموين عائلته وعشيرته
فحرمها لهم.
والتعبير بالأوساخ في الزكوات على فرض صحته أيضا كان لاشميزاز عائلته منها
وعدم إصرارهم على الاستفادة منها، وإلا فأي فرق بين الزكوات وبين الأخماس
المأخوذة من الناس؟ ولم صارت الأولى أوساخا دون الثانية؟
اللهم إلا إن يفرق بينهما بأن الزكوات تؤخذ من الناس مباشرة باسم
الفقراء المساكين بداعي تطهير الناس كما يدل عليه قوله - تعالى -: " تطهرهم وتزكيهم
بها. " (2) فلذلك سميت أوساخا، وأما الأخماس فجعلت أولا وبالذات بأجمعها لله -
تعالى - كما بيناه، ومن ناحيته - تعالى - ينتقل إلى الرسول وذي القربى وذوي الحاجة
من بنى هاشم بتبع انتقال الحكومة منه - تعالى - إلى الرسول وإلى ذي القربى. ففقراء
الناس عيال للناس، وفقراء بني هاشم عيال الله ومن شؤون الإمامة والحكومة
الإسلامية، وبين الاعتبارين فرق واضح، فتأمل.

1 - الجواهر 16 / 155.
2 - سورة التوبة (9)، الآية 103.
120

نعم يبقى هنا إشكال ربما يتفوه به، وهو أن الميز بين بني هاشم وبين غيرهم خلاف
ما يقتضيه طبع الإسلام وروحه من المساواة بين الطبقات والعناصر وهدم أساس
الامتيازات العنصرية والشعبية. هذا.
ولكن إكرام الرجل في عشيرته وعائلته امر عقلائي عرفي يقبله روح الاجتماع،
واحترام ذرية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأقربائه يعد احتراما له (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأي مانع من أن يسد
خلاتهم من أموال الحكومة الإسلامية لكونهم من أغصان شجرة النبوة؟
121

الجهة الرابعة:
في حكم الخمس في عصر الغيبة:
قال الشيخ الطوسي - قدس سره - في النهاية:
" فأما في حال الغيبة رخصوا لشيعتهم التصرف في حقوقهم مما يتعلق بالأخماس
وغيرها فيما لابد لهم منه من المناكح والمتاجر والمساكن. فأما ما عدا ذلك فلا يجوز
له التصرف فيه على حال.
وما يستحقونه من الأخماس في الكنوز وغيرها في حال الغيبة فقد اختلف قول
أصحابنا فيه، وليس فيه نص معين إلا أن كل واحد منهم قال قولا يقتضيه الاحتياط:
فقال بعضهم: إنه جار في حال الاستتار مجرى ما أبيح لنا من المناكح والمتاجر.
وقال قوم: إنه يجب حفظه ما دام الإنسان حيا، فإذا حضرته الوفاة وصى به إلى من
يثق به من إخوانه المؤمنين ليسلمه إلى صاحب الأمر إذا ظهر، أو يوصي به حسب
ما وصى به إليه إلى أن يصل إلى صاحب الأمر (عليه السلام).
وقال قوم: يجب دفنه، لأن الأرضين تخرج كنوزها عند قيام القائم (عليه السلام).
وقال قوم: يجب أن يقسم الخمس ستة اقسام: فثلاثة أقسام للإمام يدفن أو يودع
عند من يوثق بأمانته. والثلاثة أقسام الأخر يفرق على مستحقيه من أيتام آل
محمد مساكينهم وأبناء سبيلهم.
وهذا مما ينبغي أن يكون العمل عليه، لأن هذه الثلاثة أقسام مستحقها ظاهر وإن
كان المتولي لتفريق ذلك فيهم ليس بظاهر، كما أن مستحق الزكاة ظاهر وإن كان
المتولي لقبضها وتفريقها ليس بظاهر. ولا أحد يقول في الزكاة إنه لا يجوز تسليمها
إلى مستحقها.
122

ولو أن إنسانا استعمل الاحتياط وعمل على أحد الأقوال المقدم ذكرها من الدفن
أو الوصاية لم يكن مأثوما. فأما التصرف فيه على ما تضمنه القول الأول فهو ضد
الاحتياط، والأولى اجتنابه حسب ما قدمناه. " (1)
أقول: والغرض من نقل كلامه بطوله إن يظهر لك كون المسألة خلافية عند القدماء
أيضا وأنه لا إجماع فيها ولا شهرة، فيجب أن يعمل فيها بما تقتضيه القواعد.
وقد صرح بالاختلاف في المقنعة أيضا فقال:
" قد اختلف قوم من أصحابنا في ذلك عند الغيبة، وذهب كل فريق منهم فيه إلى
مقال فمنهم من يسقط فرض إخراجه لغيبة الإمام... " (2)
وقد أنهى الأقوال في الحدائق إلى أربعة عشر: (3)
الأول: عزل الخمس جميعا والوصية به من ثقة إلى آخر إلى وقت ظهور الإمام (عليه السلام)،
وإليه ذهب المفيد.
الثاني: القول بالتحليل وسقوطه مطلقا، نسب إلى سلار والفاضل الخراساني وجمع
من الأخباريين. ولكن الدقة في عبارة المراسم توجب الاطمينان بأن مورد حكمه
بالتحليل هو الأنفال لا الخمس، فراجع. (4)
الثالث: القول بدفنه جميعا، نقله في المقنعة والنهاية عن بعض الأصحاب استنادا
إلى ما رواه في المقنعة من أن الأرض تظهر كنوزها عند ظهور الإمام (عليه السلام).
الرابع: دفع النصف إلى الأصناف الثلاثة، والنصف الذي له (عليه السلام) يودع أو يدفن، وهو
مذهب الشيخ في النهاية.
الخامس: كسابقه بالنسبة إلى حصة الأصناف، وأما حقه (عليه السلام) فيحفظ إلى أن يصل
اليه، استصوبه في المقنعة واختاره أبو الصلاح وابن البراج وابن إدريس واستحسنه
العلامة في المنتهى واختاره في المختلف.

1 - النهاية / 200.
2 - المقنعة / 46.
3 - الحدائق 12 / 437 وما بعدها.
4 - الجوامع الفقهية / 582 (= طبعة أخرى / 644).
123

السادس: دفع حصة الأصناف إليهم وكذا حصة الإمام تتميما لهم، استقر به في
المختلف ونقله عن جملة من علمائنا وهو اختيار المحقق في الشرائع والمشهور بين
المتأخرين من أصحابنا وعمدة دليلهم للتتميم مرسلة حماد ومرفوعة أحمد
المتقدمتان.
السابع: صرف النصف إلى الأصناف، وأما حصة الإمام فتوصل إليه مع الإمكان إلا
فتصرف إلى الأصناف الثلاثة ومع تعذر الإيصال وعدم حاجة الأصناف تباح للشيعة،
وهو اختيار صاحب الوسائل.
الثامن: صرف النصف إلى الأصناف وإباحة حصة الإمام للشيعة فيسقط إخراجها،
وهو ظاهر المدارك والمحدث الكاشاني في الوافي والمفاتيح واستقر به في الحدائق.
التاسع: صرف النصف إلى الأصناف وصرف حصته في مواليه العارفين، وهو
اختيار ابن حمزة.
العاشر: تخصيص التحليل بخمس الأرباح لكونه بأجمعه للإمام، وأما خمس سائر
ما فيه الخمس فهو مشترك بينه وبين الأصناف، اختاره في المنتقى حملا لأخبار
التحليل على خصوص خمس الأرباح.
أقول: حمل جميع أخبار التحليل على خصوص خمس الأرباح مشكل ولا سيما
ما اشتمل منها على تحليل السبي والفروج.
الحادي عشر: عدم إباحة شيء بالكلية حتى من المناكح والمساكن والمتاجر التي
جمهور الأصحاب على تحليلها، بل ادعي إجماعهم على إباحة المناكح، وهو الظاهر
من أبي الصلاح الحلبي في الكافي.
الثاني عشر: قصر أخبار التحليل على جواز التصرف في المال الذي فيه الخمس
قبل إخراج الخمس منه بأن يضمن الخمس في ذمته، وهو مختار المجلسي " ره ".
الثالث عشر: صرف حصة الأصناف إليهم والتخيير في حصة الإمام بين
الدفن الوصية على الوجه المتقدم وصلة الأصناف مع الإعواز بإذن الفقيه، وهو مذهب
الشهيد في الدروس.
124

الرابع عشر: صرف حصة الأصناف إليهم وجوبا أو استحبابا وحفظ نصيب الإمام
إلى حين ظهوره، وجواز صرف العلماء إياه في المستحقين من الأصناف، وهو اختيار
البيان.
فهذه أربعة عشر قولا في المسألة ذكرها في الحدائق.
وهنا قولان آخران للمتأخرين من أصحابنا:
الأول: صرف حصة الأصناف إليهم، والتصدق بحصة الإمام من قبله، لما يستفاد
من أخبار التصدق بالمال المجهول مالكه من أن الملاك في وجوب التصدق هو عدم
إمكان إيصال المال إلى صاحبه وإن كان يعرفه بشخصه كما في رواية يونس عن
الرضا (عليه السلام) فيمن بقي عنده بعض المتاع من رفيق له بمكة بعد ما رحل إلى منزلة لا يعرف
بلده فقال (عليه السلام): " إذا كان كذا فبعه وتصدق بثمنه. " (1) وقد قوى هذا القول في
الجواهر مصباح الفقيه. (2)
الثاني: صرف حصة الأصناف إليهم وصرف حصة الإمام فيما يعلم برضاه أو يوثق
به من تتميم نصيب الذرية أو إعانة فقراء الشيعة أو إدارة الحوزات العلمية وكل ما فيه
تشييد مباني الدين المبين.
بتقريب أن التصدق بالمال الذي لا يمكن إيصاله إلى صاحبه إنما يجوز إذا لم يعلم
بما يرتضيه المالك، وأما إذا أحرز رضاه بالصرف في مصرف خاص ولم يحرز رضاه
بغيره أو أحرز عدمه فلا يجوز التعدي عنه، فلو كان مال زيد عند عمرو مثلا ولم يمكنه
إيصاله إليه ولكن كان لصاحب المال أهل بيت فقراء أو دار مشرفة إلى الخراب فهل
يرضى صاحبه بأن يتصدق بماله ولا يصرف في عائلته أو تعمير داره؟ ونحن نعلم من
سيرة الأئمة (عليهم السلام) في أعصارهم أن تتميم إعاشة الذرية وإعانة فقراء الشيعة وإقامة
دعائم الدين وترويج الشرع المبين كانت من أهم الأمور عندهم، فالواجب علينا
صرف مال الإمام (عليه السلام) فيما نعلم قطعا باهتمامه به. ويختلف ذلك باختلاف المقامات.

1 - الوسائل 17 / 357، الباب 7 من أبواب اللقطة، الحديث 2.
2 - الجواهر 16 / 177; ومصباح الفقيه / 158 - 159.
125

فالتخصيص بفقراء الذرية كما في كلام كثير من المتأخرين بلا وجه بعد ما يوجد
هنا أمور ربما تكون أهم عنده بمراتب. والمفروض في المرسلة والمرفوعة الدالتين
على تتميم نصيب الذرية والتوسعة عليهم هو صورة بسط يد الإمام واجتماع جميع
الضرائب والأموال العامة لديه وإدارته لجميع الخلات، فلا يستفاد منهما حكم صورة
تزاحم المصارف وكون بعضها أهم من التوسعة على الذرية بمراتب.
وعلى هذا فإذا أحرز من عنده مال الإمام (عليه السلام) رضاه بصرف ماله في جهة خاصة
جاز له التصدي لذلك بلا رجوع إلى الفقيه، وكون الفقيه وليا على الغائب لا يشمل
المقام، إذ أدلة ولاية الفقيه بنيابته عن الإمام (عليه السلام) في الأمور العامة الحسبية وولايته
على الغائب تنصرف عن الولاية على نفس الإمام (عليه السلام). اللهم إلا أن يقال بان الفقيه
أبصر بمصالح الدين وبما يرتضيه الأئمة (عليهم السلام).
أقول: تبقى على هذا الوجه نكتة وهي أن مجرد رضا المالك قلبا بصرف ماله في
جهة خاصة لا يخرج المعاملات الواقعة على ماله عن الفضولية ما لم يكن في البين
إذن مالكي أو شرعي أو إجازة لاحقة، إذ اللازم استناد العقد إلى المالك بحيث يقال
باع ملكه مثلا، ولا يتحقق هذا إلا بإذنه أو إجازته، وقد أشار إلى هذه النكتة الشيخ
الأنصاري - قدس سره - في أول مبحث الفضولي من مكاسبه وإن قوى هو كفاية
الرضا، فراجع. (1)
ثم نقول: هذه أقوال أصحابنا في حكم الخمس في عصر الغيبة. وضعف بعضها
واضح كالقول بوجوب دفن الجميع أو حصة الامام إلى أن يظهر الإمام ويستخرجه،
أو عزله وحفظه وإيداعه إلى أن يصل إليه ونحو ذلك مما يوجب ضياع المال وتلفه
حرمان مستحقيه وتعطيل مصارفه الضرورية، وكالقول بالتحليل المطلق لا سيما
بالنسبة إلى سهام الأصناف مع حرمانهم عن الزكاة أيضا.

1 - راجع المكاسب / 124 (= ط. أخرى 8 / 156 - 157).
126

ولا يخفى ابتناء أكثر هذه الأقوال على كون الخمس بالطبع منصفا بنصفين وكون
النصف ملكا للأصناف الثلاثة والنصف الآخر لشخص الإمام المعصوم ومن أمواله
الشخصية بحيث يجب أن يحفظ ليوصل إليه أو يتصدق به عنه أو يتصرف فيما أحرز
رضاه به. ولكن قد مر منا مرارا أن الخمس بأجمعه حق وحداني جعل لمنصب
الإمامة والحكومة الحقة، فهو مال للإمام بما أنه إمام لا لشخصه، وحيثية الإمامة لوحظت تقييدية لا تعليلية، ونحوه الأنفال أيضا والمتصدي لأخذهما وصرفهما في
شؤون الإمامة والحكومة من له حق الحكم، وهو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في عصره الشريف، بعده
للإمام المعصوم، وفي غيبته للفقيه العادل العالم بمصالح الاسلام والمسلمين. وإن
شئت قلت: إنهما أموال عامة جعلتا شرعا في اختيار ممثل المجتمع ومن له حق
الحكم عليهم، وإذنه وإجازته مصححان للمعاملات الواقعة عليهما، فمعنى كونهما
للإمام هو أن الإمام ولي التصرف فيهما وبيده اختيارهما، ومصرفهما المصالح العامة
على يشخصها الإمام العادل. ومن أهم المصالح إدارة عائلة شخص الإمام أيضا حفظ
شؤونه، كما أن تموين الأصناف الثلاثة أيضا من أظهر وظائفه، فتدبر.
وحيث إن الإمامة والحكومة لا تتعطل شرعا، ولا يجوز تعطيل شؤونها ووظائفها
ولو في عصر الغيبة كما بيناه بالتفصيل في هذا الكتاب فلا محالة لا يجوز حذف النظام
المالي المقرر لها وتعطيله بالكلية. والخمس والأنفال من أهم المنابع المالية للحكومة
الإسلامية فلا مجال لتحليلهما المطلق، أو إيجاب حفظهما والإباء عن صرفهما في
مصارفهما المقررة، أو استبداد الناس في صرفهما بلا رجوع إلى من ثبت له الحكم ولو
في بلد خاص أو منطقة خاصة.
وعدم بسط يد الفقهاء الصالحين للحكومة وعدم استقرار الحكومة المطلقة لهم
لا ينافي وجوب تصديهم لبعض شؤونها الممكنة وصرف الأموال المقررة في
مصارفها بقدر سعة نطاق الحكم كما استقر على ذلك عمل أئمتنا (عليه السلام).
ومن أهم المصارف الواجبة عقلا وشرعا حفظ الحوزات العلمية الدينية وترويج
الشرع المبين وتهيئة المقدمات والوسائل لتحقيق الحكومة الصالحة الدينية وتوسعة
127

نطاقها التي ببركتها يرجى إقامة العدل في البلاد وتنفيذ قوانين الإسلام بين الأمة
ولو في منطقة خاصة. هذا.
وهل يمكن الالتزام بأن الله - تعالى - جعل خمس أموال الناس أو عشرها
بكثرتها وجميع الأموال التي ليس لها مالك خاص كأرض الموات والآجام والأودية
والجبال والمعادن البحار ونحوها لشخص خاص ولو كان معصوما بحيث يعد من
أمواله الشخصية يتصرف فيها كيف يشاء بلا لحاظ لمصالح الأمة وينتقل إلى ورثته
نظير ما دخل في ملكه بنشاطه وصنعه أو بالوراثة من مورثه؟ لا أظن ذلك، فتدبر.
وقد اقتبسنا كثيرا مما ذكرناه هنا في الزكاة والخمس مما كتبناه سابقا في البابين قد
طبع الكتابان في السنين السابقة. ولأجل ذلك أدرجنا البحث فيهما هنا، فإن شئت
التفصيل فراجع إليهما.
128

الفصل الثالث
في غنائم الحرب التي منها الأراضي المفتوحة عنوة والسبايا والأسارى
ونحن نبحث فيها هنا بنحو الإجمال ونحيل من أراد التفصيل إلى كتاب الجهاد من
كتب الفقه الموسوعة.
وفي المسألة جهات من البحث:
الجهة الأولى:
في مفاد الغنيمة والفرق بينها وبين الفيء:
1 - قال الراغب في المفردات:
" الغنم معروف، قال: " ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما. " والغنم:
إصابته الظفر به، ثم استعمل في كل مظفور به من جهة العدى وغيرهم، قال: " واعلموا
أنما غنمتم من شيء "، فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا ". (1)

1 - مفردات الراغب / 378.
129

وقد مر في أول بحث الخمس كلام في معنى الغنيمة ونقل لبعض الكلمات،
فراجع. (1)
2 - وفي مجمع البيان في ذيل آية الخمس:
" الغنيمة ما أخذ من أموال أهل الحرب من الكفار بقتال، وهي هبة من الله - تعالى
- للمسلمين، والفئ ما أخذ بغير قتال، وهو قول عطاء ومذهب الشافعي وسفيان، وهو
المروي عن أئمتنا (عليه السلام). وقال قوم: الغنيمة والفئ واحد، وادعوا أن هذه الآية ناسخة
للتي في الحشر من قوله: ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي
القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. " (2)
وذكر نحو ذلك الشيخ أيضا في التبيان في ذيل آية الخمس. (3)
3 - وفي تفسير القرطبي في ذيل الآية:
" الغنيمة في اللغة ما يناله الرجل أو الجماعة بسعي... والمغنم والغنيمة بمعنى،
يقال: غنم القوم غنما. واعلم أن الاتفاق حاصل على أن المراد بقوله - تعالى -:
" غنمتم من شيء " مال الكفار إذا ظفر به المسلمون على وجه الغلبة والقهر. لا تقتضي
اللغة هذا التخصيص على ما بيناه، ولكن عرف الشرع قيد اللفظ بهذا النوع. وسمى
الشرع الواصل من الكفار إلينا من الأموال باسمين: غنيمة وفيئا. فالشئ الذي يناله
المسلمون من عدوهم بالسعي وإيجاف الخيل والركاب يسمى غنيمة، ولزم هذا الاسم
هذا المعنى حتى صار عرفا. والفئ مأخوذ من فاء يفيء إذا رجع. وهو كل مال دخل
على المسلمين من غير حرب ولا ايجاف كخراج الأرضين وجزية الجماجم وخمس
الغنائم. ونحو هذا قال سفيان الثوري وعطاء بن السائب. وقيل: إنهما واحد وفيهما
الخمس، قاله قتادة. وقيل: الفيء عبارة عن كل ما صار للمسلمين من الأموال بغير
قهر، والمعنى متقارب. " (4)

1 - راجع ص 44 وما بعدها من الكتاب.
2 - مجمع البيان 2 / 543 (الجزء 4).
3 - التبيان 1 / 797. في تفسير سورة الأنفال.
4 - تفسير القرطبي 8 / 1.
130

4 - وقال الماوردي في الأحكام السلطانية:
" وأموال الفيء والغنائم ما وصلت من المشركين أو كانوا سبب وصولها، ويختلف
المالان في حكمهما. وهما مخالفان لأموال الصدقات من أربعة أوجه...
أما الفيء والغنيمة فهما متفقان من وجهين ومختلفان من وجهين:
فأما وجها اتفاقهما فأحدهما: أن كل واحد من المالين واصل بالكفر. والثاني: أن
مصرف خمسهما واحد.
وأما وجها افتراقهما فأحدهما: أن مال الفيء مأخوذ عفوا ومال الغنيمة مأخوذ
قهرا. والثاني: أن مصرف أربعة أخماس الفيء مخالف لمصرف أربعة أخماس الغنيمة
على ما سنوضح إن شاء الله تعالى. " (1)
وذكر نحو ذلك أبو يعلى الفراء في الأحكام السلطانية. (2)
أقول: سيجيء في الفصل الرابع البحث في معنى الفيء وحكمه وأنه هل يثبت فيه
الخمس أم لا؟ وهل يقسم أو يكون كله للإمام؟ ويظهر من كلماتهم أن الغنيمة والفئ
عندهم إما متباينان أو متساويان على ما مر من القولين.
ولكن يمكن أن يقال: إنهما متخالفان مفهوما وإن بينهما عموما من وجه أو يكون
الفيء أعم مطلقا: إذ الفيء يراد به ما رجع إلى إمام المسلمين وبيت ما لهم إما مطلقا أو
من ناحية الكفار فقط كما لعله الأظهر فيعم غنائم الحرب والقتال أيضا، وقد أطلق
عليها في كثير من الأخبار كما سيأتي، ومن ذلك ما في نهج البلاغة: " إن هذا المال
ليس لي ولا لك وإنما هو فيء للمسلمين وجلب أسيافهم. " (3)
وكون مورد آية الفيء في سورة الحشر ما حصل بغير حرب لا يدل على
اختصاص اللفظ به.
والغنيمة عندنا يراد بها كل مال مظفور به ولو بالكسب مثلا، وتطلق على غنائم

1 - الأحكام السلطانية / 126.
2 - الأحكام السلطانية / 136.
3 - نهج البلاغة، فيض / 728; عبده 2 / 253; لح / 353، الخطبة 232.
131

الحرب أيضا بلحاظ ظفر المقاتلين به وحصولها لهم، ولا يضاف إليهم إلا بعد
ما أريد تقسيمها بينهم، وعلى هذا فيكون بينهما عموم من وجه.
وإن أريد بالغنيمة خصوص غنائم الحرب لكثرة استعمالها فيها كان الفيء أعم
مطلقا منها، اللهم إلا أن يدعى إطلاق الغنيمة على ما حصل من الكفار بغير حرب قتال
أيضا كما لا يبعد، فيتساوى اللفظان مفهوما وموردا، فتدبر. وظاهر ما مر من كلماتهم
أن الغنيمة تختص بما يؤخذ من الكفار فقط. وسيأتي البحث في حكم ما يؤخذ من
البغاة وإطلاق الغنيمة عليه.
132

الجهة الثانية:
في أن الغنائم لله وللرسول وأنها من الأنفال، وآية الأنفال نزلت فيها:
1 - قال في مجمع البيان في ذيل آية الأنفال:
" قال ابن عباس أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال يوم بدر: من جاء بكذا فله كذا، ومن جاء بأسير
فله كذا، فتسارع الشبان وبقي الشيوخ تحت الرايات فلما انقضى الحرب طلب الشبان
ما كان قد نفلهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) به فقال الشيوخ كنا ردء لكم ولو وقعت عليكم الهزيمة
لرجعتم إلينا. وجرى بين أبي اليسر بن عمرو الأنصاري أخي بني سلمة وبين سعد بن
معاذ كلام فنزع الله - تعالى - الغنائم منهم وجعلها لرسوله يفعل بها ما يشاء فقسمها
بينهم بالسوية.
وقال عبادة بن الصامت: اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا فنزعه الله من
أيدينا فجعله إلى رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقسمه بيننا على السواء، وكان ذلك في تقوى الله طاعته
وصلاح ذات البين.
وقال سعد بن أبي وقاص: قتل أخي عمير يوم بدر فقتلت سعيد بن العاص بن أمية
وأخذت سيفه وكان يسمى ذا الكتيفة فجئت به إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واستوهبته منه، فقال:
" ليس هذا لي ولا لك، اذهب فاطرحه في القبض "، فطرحت ورجعت وبي ما لا يعلمه
إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي وقلت: عسى أن يعطى هذا لمن لم يبل بلائي، فما
جاوزت إلا قليلا حتى جاءني الرسول وقد أنزل الله: " يسألونك. الآية. " فخفت أن
يكون قد نزل في شيء. فلما انتهيت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " يا سعد، إنك سألتني
السيف وليس لي وإنه قد صار لي فاذهب فخذه فهو لك. "
وقال علي بن طلحة عن ابن عباس: كانت الغنائم لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة ليس
لأحد فيها شيء، وما أصاب سرايا المسلمين من شيء أتوه به فمن حبس منه إبرة أو
133

سلكا فهو غلول فسألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يعطيهم منها فنزلت الآية.
وقال ابن جريج: اختلف من شهد بدرا من المهاجرين والأنصار في الغنيمة فكانوا
ثلاثا فنزلت الآية وملكها الله رسوله يقسمها كما أراه الله. " (1)
أقول: القبض - بالتحريك -: ما جمع من الغنيمة قبل أن تقسم. وقوله: " فكانوا
ثلاثا " أي ثلاث طوائف: طائفة عقبت العدو وطائفة تحوز الغنائم وطائفة أحدقت
برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يحفظونه من العدو.
2 - وفي الرسالة المنسوبة إلى الإمام الصادق (عليه السلام) المروية في تحف العقول ما ملخصه:
" وأما المغانم فإنه لما كان يوم بدر قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من قتل قتيلا فله كذا وكذا، ومن
أسير أسيرا فله من غنائم القوم كذا وكذا. فلما هزم الله المشركين جمعت غنائمهم قام
رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله، إني قتلت قتيلين - لي بذلك البينة - وأسرت أسيرا،
فأعطنا ما أوجبت على نفسك يا رسول الله ثم جلس.
فقام سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله، ما منعنا أن نصيب مثل ما أصابوا جبن عن
العدو ولا زهادة في الآخرة والمغنم، ولكنا تخوفنا إن بعد مكاننا منك فيميل إليك من
جند المشركين أو يصيبوا منك ضيعة، وإنك إن تعط هؤلاء القوم ما طلبوا يرجع سائر
المسلمين ليس لهم من الغنيمة شيء، ثم جلس فقام الأنصاري فقال مثل مقالته الأولى
ثم جلس، يقول ذلك كل واحد منهما ثلاث مرات، فصد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بوجهه، فأنزل الله
- عز وجل -: " يسألونك عن الأنفال " والأنفال اسم جامع لما أصابوا يومئذ مثل قوله:
" ما أفاء الله على رسوله " ومثل قوله: " ما غنمتم من شيء " ثم قال: " قل الأنفال
لله الرسول " فاختلجها الله من أيديهم فجعلها لله ولرسوله...
فلما قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة أنزل الله عليه: " واعلموا أنما غنمتم من شيء ".
الآية... فهذا يوم بدر وهذا سبيل الغنائم التي أخذت بالسيف. " (2)
3 - وفي سيرة ابن هشام:
" ثم إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر بما في العسكر مما جمع الناس جمع، فاختلف المسلمون
فيه فقال من جمعه: هو لنا، وقال الذين كانوا يقاتلون العدو ويطلبونه: والله لولا

1 - مجمع البيان 2 / 517 (الجزء 4).
2 - تحف العقول / 339 وما بعدها.
134

نحن ما أصبتموه، لنحن شغلنا عنكم القوم حتى أصبتم ما أصبتم، وقال الذين كانوا
يحرسون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مخافة أن يخالف إليه العدو: والله ما أنتم بأحق به منا، والله لقد
رأينا أن نقتل العدو إذ منحنا الله أكتافه، ولقد رأينا أن نأخذ المتاع حين لم يكن دونه من
يمنعه ولكنا خفنا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كرة العدو فقمنا دونه، فما أنتم بأحق به منا...
ثم روى بسنده عن أبي أمامة، قال:
" سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال، فقال: فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا
في النفل، وساءت فيه أخلاقنا فنزعه الله من أيدينا فجعله إلى رسوله، فقسمه
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بين المسلمين عن بواء - يقول: عن السواء -... ثم أقبل
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى إذا خرج من مضيق الصفراء نزل على كثيب بين المضيق وبين
النازية - يقال له: سير - إلى سرحة به فقسم هنالك النفل الذي أفاء الله على المسلمين
من المشركين على السواء. " (1)
أقول: لا يخفى أنه في هذه العبارة أطلق النفل وكذا الفيء على غنائم الحرب.
وروى رواية عبادة بن الصامت السيوطي أيضا في الدر المنثور عن أحمد وعبد
بن حميد وابن جرير وأبي الشيخ وابن مردويه والحاكم والبيهقي، فراجع. (2)
4 - وفي الدر المنثور:
" أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن
ابن عباس في قوله: " يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول " قال: الأنفال:
المغانم كانت لرسول لله (صلى الله عليه وآله وسلم) خالصة ليس لأحد منها شيء، ما أصاب سرايا
المسلمين من شيء أتوه به، فمن حبس منه إبرة أو سلكا فهو غلول، فسألوا
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يعطيهم منها شيئا فأنزل الله: " يسألونك عن الأنفال، قل الأنفال لي
جعلتها لرسولي ليس لكم منه شيء، فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم إلى قوله: " إن
كنتم مؤمنين " ثم أنزل الله: " واعلموا أنما غنمتم من شيء، الآية " ثم قسم ذلك

1 - سيرة ابن هشام 2 / 295.
2 - الدر المنثور 3 / 159.
135

الخمس لرسول الله ولذي القربى واليتامى والمساكين والمهاجرين في سبيل
الله، جعل أربعة أخماس الناس فيه سواء للفرس سهمان ولصاحبه سهم وللراجل
سهم. " (1)
وعليك بمراجعة تفسير علي بن إبراهيم والتبيان والمجمع والدر المنثور والقرطبي
وسنن البيهقي والأموال لأبي عبيد (2) وغير ذلك من الكتب في شأن نزول آية
الأنفال، يظهر لك بذلك أن الغنائم من الأنفال قطعا وأنها التي وقع فيها النزاع والسؤال.
وسيأتي في فصل الأنفال أن المقصود بالأنفال هي الأموال العامة التي ليس لها
مالك شخصي. وبهذا المعنى يطلق اللفظ على غنائم الحرب وعلى مثل أرض الموات
والآجام والجبال والأودية ونحوها بمعنى واحد، وإن كان الغالب في أخبارنا فتاوى
أصحابنا إطلاق اللفظ على القسم الثاني، بل هو المنصرف إليه في أعصارنا.
والتخاصم في الأنفال والسؤال عنها وإن وقعا في خصوص غنائم الحرب على
ما في الأخبار التي مرت، ولكن لا مانع من حمل الجواب في الآية على ظاهره من
العموم والاستغراق، فتكون اللام في قوله: " يسألونك عن الأنفال " للعهد، وفي قوله:
" قل الأنفال لله " للاستغراق.
بل يمكن أن يقال: إن مورد السؤال وإن كان هو الغنائم ولكن السؤال وقع عنها بما
هي من الأنفال، لا بما هي غنائم مأخوذة عنوة، فيكون السؤال والجواب متطابقين في
الورود على الأنفال بإطلاقها وعمومها، واللام في كليهما للاستغراق، فتدبر.
ليست الغنائم والأنفال لشخص الرسول والإمام بل هما تحت اختيارهما:
وليس المقصود من جعل الغنائم والأنفال للرسول أو الإمام بعده جعلهما ملكا

1 - الدر المنثور 3 / 160.
2 - تفسير علي بن إبراهيم (القمي) / 235; التبيان 1 / 780; مجمع البيان 2 / 517; الدر المنثور
3 / 158 وما بعدها; تفسير القرطبي 8 / 2; سنن البيهقي 6 / 291، كتاب قسم الفيء والأنفال; الأموال
/ 382 وما بعدها.
136

لشخصه نظير ما يملكه بتجارة أو وراثة مثلا. بل المقصود جعلهما تحت
اختياره تدبيره ينفل منها ما يشاء لمن يراه صلاحا ويصرف منها ما يريد فيما ينوبه،
فإن بقي من الغنائم شيء أخرج الخمس منها لأهله، وقسم البقية بين من قاتل، فهو
المتولي لأمرها وللتصرف فيها، وليس لمن قاتل الاعتراض عليه بذلك وإن استوعب
النفل والجعائل جميع المغنم، وليس التقسيم بين المتقاتلين متعينا فيها:
1 - ففي مرسلة حماد الطويلة التي عمل بها الأصحاب، عن بعض أصحابنا، عن
العبد الصالح (عليه السلام) قوله: " وللإمام صفو المال: أن يأخذ من هذه الأموال صفوها: الجارية
الفارهة، والدابة الفارهة، والثوب والمتاع مما يحب أو يشتهي، فذلك له قبل القسمة
وقبل إخراج الخمس. وله أن يسد بذلك المال جميع ما ينوبه من مثل إعطاء المؤلفة
قلوبهم وغير ذلك مما ينوبه، فإن بقي بعد ذلك شيء أخرج الخمس منه فقسمه في
أهله، وقسم الباقي على من ولي ذلك، وإن لم يبق بعد سد النوائب شيء فلا شيء لهم.
وليس لمن قاتل شيء من الأرضين ولا ما غلبوا عليه إلا ما احتوى عليه العسكر. " (1)
2 - وفي صحيحة زرارة قال: " الإمام يجري وينفل ويعطي ما يشاء قبل أن تقع السهام،
وقد قاتل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوم لم يجعل لهم في الفيء نصيبا، وإن شاء قسم ذلك بينهم. " (2)
أقول: كون الرواية مقطوعة لا يضر بالاستدلال بعد كون زرارة من فقهاء أصحاب
الباقر والصادق (عليه السلام) وواقفا على نظر الأئمة (عليهم السلام) وأنه لم يكن مثله يتكلم في أحكام الله
- تعالى - إلا عن نص وصل إليه، فتأمل.
وما في المرآة (3) من تفسير القوم في الرواية بالأعراب الذين لا سهم لهم في
الغنائم تفسير لا شاهد له. وقد ذكر زرارة فعل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) شاهدا على ما ذكره من
فعل الإمام.
ويظهر من الرواية أن الفيء كان يطلق على غنائم الحرب أيضا، فليس الفيء

1 - الوسائل 6 / 365، الباب 1 من أبواب الأنفال...، الحديث 4. وتمام الحديث في الكافي
1 / 539 - 543، كتاب الحجة، باب الفيء والأنفال، الحديث 4.
2 - الوسائل 6 / 365، الباب 1 من أبواب الأنفال...، الحديث 2.
3 - مرآة العقول 6 / 271 (= ط. القديم 1 / 446).
137

قسيما للغنيمة وإن قال به بعض كما مر، وسيأتي التحقيق في معناه.
وبما ذكرنا يظهر صحة عد غنائم الحرب من المنابع المالية للدولة الإسلامية، فان
الأرضين والعقارات وما ليس في العسكر لا تقسم أصلا بل تجعل تحت اختيار
الإمام، وله أيضا أن يسد النوائب والخلات بما احتوى عليه العسكر وإنما يقع التقسيم
على خصوص هذا بعد سد جميع النوائب والخلات لوجود نحو اختصاص له
بالمقاتلين. هذا.
وقد أفتى أصحابنا بمفاد الحديثين إجمالا:
1 - قال المفيد في المقنعة:
" وللإمام قبل القسمة من الغنيمة ما شاء على ما قدمناه في صفو الأموال، وله أن
يبدأ بسد ما ينوبه بأكثر ذلك المال، وإن استغرق جميعه فيما يحتاج إليه من مصالح
المسلمين كان ذلك له جائزا ولم يكن لأحد من الأمة عليه اعتراض. " (1)
وسيأتي في هذا المجال عبارة عن المبسوط أيضا في بيان فتح مكة عنوة. (2)
2 - وفي الكافي لأبي الصلاح الحلبي:
" يجب في جميع ما غنمه المسلمون من ضروب المحاربين - منفردين
به متناصرين، بجملة الجيش أو السرايا، بحرب وغير حرب - إحضاره إلى ولي الأمر.
فإذا اجتمعت المغانم كان له إن كان إمام الملة أن يصفى قبل القسمة لنفسه
الفرس السيف والدرع والجارية، وأن يبدأ بسد ما ينوبه من خلل في الإسلام
وثغوره مصالح أهله. ولا يجوز لأحد أن يعترض عليه وإن استغرق جميع المغنم. يجوز
ذلك لمن عداه من أولياء السلطان في الجهاد عن تشاور من صلحاء المسلمين. ثم
يخرج الخمس من الباقي لأربابه، ويقسم الأربعة الأخماس الباقية بين من قاتل
عليها دون من عداهم من المسلمين: للراجل سهم وللفارس سهمان...
ومن السنة تنفيل النساء قبل القسمة، لأنهن يداوين الجرحى ويعللن المرضى
ويصلحن أزواد المجاهدين. " (3)

1 - المقنعة / 46، باب الزيادات.
2 - راجع ص 141 من الكتاب.
3 - الكافي لأبي الصلاح / 258.
138

3 - وفي الغنية لابن زهرة:
" وللإمام أن يصطفي لنفسه قبل القسمة ما شاء من فرس أو جارية أو درع أو سيف
أو غير ذلك، وهذا من جملة الأنفال، وأن يبدأ بسد ما ينوبه من خلل في الإسلام،
وليس لأحد أن يعترض عليه وإن استغرق ذلك جميع الغنيمة، ثم يخرج منها الخمس
لأربابه، ويقسم ما بقي مما حواه العسكر بين المقاتلة خاصة: لكل راجل سهم ولكل
فارس سهمان. " (1)
4 - وفي الوسيلة لابن حمزة:
" فالأموال يخرج منها الصفايا للإمام قبل القسمة، وهي ما لا نظير له من الفرس
الفارة والثوب المرتفع والجارية الحسناء وغير ذلك. ثم تخرج منها المؤن وهي ثمانية
أصناف: أجرة الناقل والحافظ، والنفل، والجعائل، والرضيخة للعبيد والنساء ومن
عاونهم من المؤلفة والأعراب على حسب ما يراه الإمام، ثم يخرج الخمس من الباقي
لأهله. ثم يقسم الباقي بين من قاتل ومن هو في حكمه بالسوية: للراجل سهم للفارس
سهمان... " (2)
5 - وفي جهاد القواعد:
" المطلب الثاني في قسمة الغنيمة: تجب البدأة بالمشروط كالجعائل
والسلب الرضخ، ثم بما يحتاج إليه الغنيمة من النفقة مدة بقائها حتى تقسم كأجرة
الراعي والحافظ، ثم الخمس، وتقسم أربعة الأخماس الباقية بين المقاتلة ومن حضر
وإن لم يقاتل حتى المولود بعد الحيازة قبل القسمة، والمدد المتصل بهم بعد الغنيمة
قبل القسمة، والمريض بالسوية، ولا يفضل أحد لشدة بلائه: للراجل سهم وللفارس
سهمان ولذي الأفراس ثلاثة. " (3)

1 - الجوامع الفقهية / 522 (= طبعة أخرى / 584).
2 - الجوامع الفقهية / 732 (= طبعة أخرى / 696).
3 - القواعد 1 / 107.
139

6 - وفي التذكرة:
" يجوز للإمام أن يجعل جعلا لمن يدله على مصلحة من مصالح المسلمين كسهولة
طريق أو ماء في مفازة أو موضع فتح القلعة أو مال يأخذه أو عدو يغير عليه أو ثغر
يدخل منه بلا خلاف. وقد استأجر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الهجرة من دلهم على الطريق. " ذكر
نحو ذلك في المنتهى. (1)
7 - وفي المراسم:
" فان اختار الإمام قبل القسمة شيئا من الغنيمة كائنا ما كان فهو له. " (2)
8 - وفي جهاد الدروس:
" وللإمام الاصطفاء من الغنيمة، وجوز الحلبي أن يبدأ بسد ما ينوبه من خلل في
الإسلام ومصالح أهله ولو استغرق الغنيمة، وهو نادر. " (3)
9 - وفي متن اللمعة:
" والمنقول بعد الجعائل والرضخ والخمس والنفل وما يصطفيه الإمام يقسم بين
المقاتلة ومن حضر حتى الطفل المولود بعد الحيازة وقبل القسمة، وكذا المدد الواصل
إليهم حينئذ: للفارس سهمان وللراجل سهم ولذوي الأفراس ثلاثة. " (4)
إلى غير ذلك من كلمات الأصحاب في هذا المجال، ويشترك الجميع في الدلالة
على كون الغنائم في اختيار الإمام وأنه يصطفي منها وينفل منها حسب المصالح. نعم،
تتفاوت كلماتهم في ما للإمام سعة وضيقا.
ولعل الصفايا أيضا على قسمين: قسم يصطفيه الإمام لشخصه لشدة حاجته
إليه، هو أحق بأن يسد خلاته، وسد خلاته من أهم المصالح العامة. وقسم
يصطفيه ليدخره في بيت مال المسلمين لغلائه وعلو قيمة وأنه مما يرغب فيه جدا
ولا يمكن تقسيمه، وإيثار البعض به دون بعض يوجب التبعيض والفتنة، فيدخر في

1 - التذكرة 1 / 429; والمنتهى 2 / 938.
2 - الجوامع الفقهية / 581 (= طبعة أخرى / 643).
3 - الدروس / 162.
4 - اللمعة الدمشقية 2 / 403 وما بعدها (= طبعة أخرى من متن اللمعة / 45).
140

المتاحف لمستقبل المسلمين، وذلك كالجواهر الثمينة النفيسة ونحوها، فتدبر. هذا.
عدم تقسيم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غنائم مكة وحنين بين المقاتلين وقد فتحتا عنوة:
لا يخفى أن ما في صحيحة زرارة السابقة من نقل عمل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعله إشارة
إلى ما صنعه هو (صلى الله عليه وآله وسلم) في فتح مكة وهوازن، حيث إنهما فتحتا عنوة ولم يقسم هو (صلى الله عليه وآله وسلم)
بين المقاتلين شيئا:
1 - قال الشيخ في كتاب السير من الخلاف (المسألة 13):
" مكة فتحت عنوة بالسيف، وبه قال الأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه ومالك. وقال
الشافعي: إنها فتحت صلحا، وبه قال مجاهد. دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم. وروي
أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما دخل مكة استند إلى الكعبة ثم قال: " من ألقى سلاحه فهو آمن، ومن
أغلق بابه فهو آمن. " فآمنهم بعد أن ظفر بهم، ولو كان دخلها صلحا لم يحتج إلى ذلك.
وأيضا قوله - تعالى -: " إنا فتحنا لك فتحا مبينا "، وإنما أراد فتح مكة، والفتح لا يسمى
إلا ما أخذ بالسيف. وقال - تعالى -: " إذا جاء نصر الله والفتح " يعني فتح مكة. وقال -
تعالى -: " وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم
عليهم "، وهذا صريح في الفتح. ومن قرأ السير والأخبار وكيفية دخول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
مكة علم أن الأمر على ما قلناه. وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " كل بلدة فتحت
بالسيف إلا المدينة فإنها فتحت بالقرآن. " وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه دخل مكة وعلى
رأسه المغفر. وقتل خالد بن الوليد أقواما من أهل مكة. وهذا علامة القتال. " (1)
2 - وقال في المبسوط:
" ظاهر المذهب أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فتح مكة عنوة بالسيف ثم آمنهم بعد ذلك، وإنما

1 - الخلاف 3 / 232.
141

لم يقسم الأرضين والدور لأنها لجميع المسلمين كما نقوله في كل ما يفتح عنوة إذا
لم يمكن نقله إلى بلد الإسلام فإنه يكون للمسلمين قاطبة. ومن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على رجال
من المشركين فأطلقهم، وعندنا أن للإمام أن يفعل ذلك، وكذلك أموالهم من عليهم بها
لما رآه من المصلحة. " (1)
3 - وقال العلامة في المنتهى:
" مسألة: الظاهر من المذهب أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فتح مكة بالسيف ثم آمنهم بعد ذلك، به
قال أبو حنيفة ومالك والأوزاعي.
وقال الشافعي إنه (عليه السلام) فتحها صلحا بأن قدر لهم قبل الدخول، وهو منقول عن أبي
سلمة بن عبد الرحمن ومجاهد.
لنا ما رواه الجمهور عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال لأهل مكة: ما تروني صانعا بكم؟ فقالوا:
أخ كريم وابن أخ كريم. فقال: أقول كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم يغفر
الله لكم وهو أرحم الراحمين، أنتم الطلقاء.
ومن طريق الخاصة ما رواه الشيخ، عن صفوان بن يحيى وأحمد بن محمد بن أبي
نصر، قالا: ذكرنا له الكوفة - إلى أن قال -: إن أهل الطائف أسلموا وجعلوا عليهم
العشر ونصف العشر. وإن مكة دخلها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنوة وكانوا أسراء في يده
فأعتقهم فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
احتج الشافعي بما رواه عبد الله بن عباس، قال: لما نزل رسول الله بمر الظهران قال
العباس: قلت: والله لئن دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنوة قبل أن يأتوه ويستأمنوه إنه لهلاك
قريش... " (2)
أقول: خبر صفوان وأحمد بن محمد بن أبي نصر رواه في جهاد الوسائل، فراجع. (3)
ودلالته واضحة وإن كان السند مخدوشا بعلي بن أحمد بن أشيم، ويأتي البحث

1 - المبسوط 2 / 33.
2 - المنتهى 2 / 937.
3 - الوسائل 11 / 120، الباب 72 من أبواب جهاد العدو...، الحديث 1.
142

فيه وأن المجلسي " ره " صححه. (1)
4 - وفي المغازي للواقدي:
" وقد كان صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمر وقد دعوا إلى قتال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وضوى إليهم ناس من قريش وناس من بني بكر وهذيل تلبسوا
السلاح ويقسمون بالله لا يدخلها محمد عنوة أبدا. فكان رجل من بني الديل يقال له:
حماس بن قيس بن خالد الديلي لما سمع برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جلس يصلح سلاحه،
فقالت له امرأته: لمن تعد هذا؟ قال: لمحمد وأصحابه، فإني أرجو أن أخدمك منهم
خادما فإنك إليه محتاجة... فلما دخل خالد بن الوليد وجد جمعا من
قريش أحابيشها قد جمعوا له، فيهم صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن
عمرو، فمنعوه الدخول، وشهروا السلاح ورموا بالنبل، وقالوا لا تدخلها عنوة أبدا.
فصاح خالد بن الوليد في أصحابه وقاتلهم، فقتل منهم أربعة وعشرين رجلا من
قريش وأربعة من هذيل وانهزموا أقبح الانهزام حتى قتلوا بالحزورة وهم مولون في
كل وجه، وانطلقت طائفة منهم فوق رؤوس الجبال وأتبعهم المسلمون، فجعل أبو
سفيان بن حرب وحكيم بن حزام يصيحان: يا معشر قريش، على م تقتلون أنفسكم؟
من دخل داره فهو آمن، ومن وضع السلاح فهو آمن... " (2) وروى نحو ذلك ابن
هشام في السيرة. (3)
أقول: الحزورة: سوق مكة، وقد دخلت في المسجد لما زيد فيه. هذا.
ولم يقع منه (صلى الله عليه وآله وسلم) تخميس ولا تقسيم لأموال أهل مكة، بل نادى قريشا فقال: " يا
معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم. قال:
" اذهبوا فأنتم الطلقاء. " فعفا عنهم وكان الله قد أمكنه منهم وكانوا له فيئا. " (4)

1 - راجع ص 193 من الكتاب.
2 - المغازي 2 / 823 وما بعدها.
3 - سيرة ابن هشام 4 / 49.
4 - الكامل 2 / 252; ونحوه سيرة ابن هشام 4 / 55.
143

5 - وفي سيرة ابن هشام وكذا في غيرها من كتب السيرة والحديث في شأن غنائم
حنين ما محصله:
" ولما فرغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من رد سبايا حنين إلى أهلها ركب (صلى الله عليه وآله وسلم) وأتبعه الناس
يقولون: يا رسول الله، اقسم علينا فيئنا من الإبل والغنم، حتى ألجأوه إلى شجرة، فقام
إلى جنب بعير فأخذ وبرة من سنامه ثم قال: أيها الناس، والله مالي من فيئكم ولا هذه
الوبرة إلا الخمس، والخمس مردود عليكم، فأدوا الخياط والمخيط، فإن الغلول
يكون على أهله عارا ونارا وشنارا يوم القيامة.
وأعطى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المؤلفة قلوبهم وكانوا أشرافا من أشراف الناس
يتألفهم يتألف بهم قومهم: فأعطى أبا سفيان وابنه معاوية وحكيم بن حزام والحارث
بن كلدة والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى والعلاء بن
جارية وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس ومالك بن عوف النصري وصفوان بن
أمية كل واحد منهم مأة بعير. وأعطى دون المأة رجالا من قريش منهم مخرمة بن
نوفل وعمير بن وهب وهشام بن عمر و...
لما أعطى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما أعطى من تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب لم
يكن في الأنصار منها شيء وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت منهم
القالة حتى قال قائلهم: لقي والله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قومه، فدخل عليه سعد بن عبادة
فقال: يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت
في هذا الفيء الذي أصبت، قال: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال: يا رسول الله، ما أنا
إلا من قومي. قال فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة.
فخرج سعد فجمع الأنصار، فأتاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
" يا معشر الأنصار، ما قالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها على في أنفسكم؟ ألم آتكم
ضلالا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم " قالوا: بلى، الله
ورسوله أمن وأفضل. ثم قال:... ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة
والبعير وترجعوا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة
لكنت امرأ من الأنصار... فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا:
144

رضينا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قسما وحظا، ثم انصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتفرقوا. " (1)
أقول: الغلول: الخيانة. الشنار - بالفتح -: أقبح العار. القالة: القول الردي. الجدة:
الغضب. عالة - جمع عائل -: الفقير. المن والمنة: النعمة. أخضلوا لحاهم: بلوها
بالدموع.
6 - وفي رواية أنس بن مالك:
" أن ناسا من الأنصار قالوا...: يغفر الله لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم); يعطي قريشا ويتركنا سيوفنا
تقطر من دمائهم. " (2)
وراجع في هذه القصة تفسير مجمع البيان في شرح غزوة حنين من سورة
التوبة، (3) وروايات أنس بن مالك وعبد الله بن زيد بن عاصم في سنن
البيهقي (4) البخاري (5)، وروايات غزوة حنين من جامع الأصول لابن الأثير. (6)
7 - وقد ورد في كتب السير: أنه زحمت ناقة أبي رهم الغفاري ناقة
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فوقع حرف نعله على ساق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأوجعه، فقرع رجله
بالسوط ثم استرضاه وأعطاه من الغنائم غنما عوضا من ضربته. (7)
8 - وحكي وقوع نحو ذلك عن عبد الله بن أبي حدرد فأوجعه بعصاه ثم أعطاه
ثمانين شاة ضائنة. (8)
9 - وضرب هو (صلى الله عليه وآله وسلم) ناقته بالسوط فأصاب سوطه أبا زرعة الجهني فأعطاه غنما
قال: خذ هذه الغنم بالذي أصابك من السوط أمس. قال: فعددتها فوجدتها عشرين

1 - سيرة ابن هشام 4 / 134 - 143.
2 - سنن البيهقي 6 / 337، كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب ما كان النبي " ص " يعطي المؤلفة...
3 - مجمع البيان 3 / 19 (الجزء 5).
4 - سنن البيهقي 6 / 337 و 339، كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب ما كان النبي " ص " يعطي
المؤلفة...، وباب سهم الله وسهم رسوله...
5 - صحيح البخاري 2 / 198 - 199، كتاب الجهاد والسير، باب ما كان النبي " ص " يعطي المؤلفة
قلوبهم.
6 - جامع الأصول 9 / 269 - 286، غزوة حنين.
7 - المغازي للواقدي 2 / 939 (الجزء 3).
8 - المغازي 2 / 940 (الجزء 3).
145

ومأة رأس. (1)
10 - وطاف صفوان بن أمية مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يتصفح الغنائم إذ مر بشعب مما
أفاء الله عليه، فيه غنم وإبل ورعاؤها مملوء. فأعجب صفوان وجعل ينظر إليه، فقال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أعجبك يا أبا وهب هذا الشعب؟ قال: نعم، قال: هو لك وما فيه، فقال
صفو إن: أشهد ما طابت بهذا نفس أحد قط إلا نبي وأشهد أنك رسول الله. (2)
11 - وكانت في سبي هوازن أخته (صلى الله عليه وآله وسلم) من الرضاع وهي الشيماء، قيل: وأمة
حليمة. ولما قالت له الشيماء: أنا أختك يا رسول الله، قال: وما علامة ذلك؟ فأخبرته
بعضة كان عضها إياها حين كان مسترضعا عندهم وأرته إياها، فعرفها وتذكر ذلك
فقام وبسط لها رداءه...
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): إن أحببت فعندي محببة مكرمة، وإن أحببت أن أمتعك وترجعي إلى
قومك، قالت: بل تمتعني وأرجع إلى قومي، فأعطاها نعما وشاء وغلاما وجارية. (3)
12 - وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) في أسارى بدر: " لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء
النتنى لتركتهم له. " (4)
أقول: وكل هذه العطايا كانت من الغنائم، وحملها على كونها من سهمه (صلى الله عليه وآله وسلم) من
الخمس مشكل بل ممنوع قطعا في بعضها.
ومحصل ما يستفاد من الآيتين الشريفتين ومن أخبار الباب الواردة من طرق
الفريقين بعد إرجاع بعضها إلى بعض هو أن الغنائم كسائر الأنفال تكون من الأموال
العامة التي لا تتعلق بالأشخاص ولا تدخل بمجرد الاغتنام أيضا في ملك المقاتلين،
بل تقع تحت اختيار قائد المسلمين وإمامهم فيضبطها ويحفظها وينفل منها ويجعل
منها الجعائل حسب ما اقتضته المصالح العامة في عصرة وبيئته وإن استوعبت

1 - المغازي 2 / 940 (الجزء 3).
2 - المغازي 2 / 946 (الجزء 3).
3 - سيرة زيني دحلان (المطبوع بهامش السيرة الحلبية) 2 / 306.
4 - صحيح البخاري 2 / 196، باب من النبي على الأسارى من غير أن يخمس.
146

كلها، ليست من الأملاك الشخصية للرسول أو الإمام، بل هو والناس فيها سواء.
وليس له أن يتصرف فيها جزافا أو يهبها لمن أراد بلا ملاك، بل الملاك هو رعاية
المصالح العامة في كل مورد، وليس للناس الاعتراض عليه.
ومن جملة المصالح العامة المهمة تأليف القلوب وجذب الرجال والنساء ولا سيما
أهل الشوكة منهم إلى قبول الحق والتسليم له ورفع شرهم وأذاهم وحفظ الموازين
الأخلاقية والعاطفية التي يهتم بها العقلاء في نظامهم.
فإن بقي منها شيء أخذ منها الخمس لأهله ولما يمكن أن يواجهه الإمام من
الحاجات في المستقبل وقسم البقية بين المقاتلين حسب ما حكم به الشرع
المبين. إنما يؤخذ منها الخمس بعد لحاظ تعلقها بالمقاتلين وكونها غنيمة لهم وإرادة
تقسيمها بينهم.
وبالجملة، قد كانت العرب تعد الغنائم ملكا للمقاتلين وحقا طلقا لهم، بل ربما كان
الاغتنام هدفا أساسيا لهم في المقاتلات والحروب فكانت تغير قبيلة على قبيلة
بداعي اغتنام الأموال وسبي الذراري والنساء، وبذلك ساءت أخلاقهم، وقد أراد الله
- تعالى - أن يكون بسط التوحيد والعدل هدفهم ومغزاهم، فجعل بإنزال آية الأنفال
الغنائم تحت اختيار الرسول والإمام، فهو الذي يتصرف فيها حسب المصالح العامة قد
يقسمها بينهم، فتدبر.
ليس بين آية الأنفال وآية الخمس تهافت وليس في البين نسخ:
ولا تهافت بين كون الأنفال لله والرسول وبين تعين المصارف من قبل الشرع
المبين ومنها التخميس والتقسيم بعد الجعائل والنوائب. إذ ليس كونها للرسول أو
الإمام إلا بمعنى كونها تحت اختياره وتدبيره وأنه المتصرف فيها ولو بالتقسيم:
فقد مر في قصة غنائم حنين عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " والله مالي من فيئكم
147

ولا هذه الوبرة إلا الخمس، والخمس مردود عليكم، فأدوا الخياط والمخيط. " ثم
رأيت أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أعطى هذه المغانم لأشراف قريش ورؤساء القبائل.
ومر في مرسلة حماد الطويلة، عن العبد الصالح (عليه السلام) أنه قال: " وله أن يسد بذلك
المال جميع ما ينوبه من مثل إعطاء المؤلفة قلوبهم وغير ذلك مما ينوبه، فإن بقي بعد
ذلك شيء أخرج الخمس منه فقسمه في أهله وقسم الباقي على من ولي ذلك، وإن لم
يبق بعد سد النوائب شيء فلا شيء لهم. " (1)
وفي نهج البلاغة من كلام له (عليه السلام) كلم به عبد الله بن زمعة لما قدم عليه في خلافته
يطلب منه مالا قال: " إن هذا المال ليس لي ولا لك، وإنما هو فيء للمسلمين وجلب
أسيافهم، فإن شركتهم في حربهم كان لك مثل حظهم وإلا فجناة أيديهم لا تكون لغير
أفواههم. " (2)
هذا.
وقد ظهر بما ذكرنا من عدم التهافت بين الآيتين بطلان ما توهم من كون آية
الخمس ناسخة لآية الإنفال:
1 - قال الشيخ الطوسي في التبيان في تفسير آية الأنفال:
" واختلفوا هل هي منسوخة أم لا؟ فقال قوم: هي منسوخة بقوله: واعلموا أنما
غنمتم من شيء. الآية. وروي ذلك عن مجاهد وعكرمة والسدي وعامر
الشعبي، اختاره الجبائي. وقال آخرون: ليست منسوخة، ذهب إليه ابن زيد واختاره
الطبري وهو الصحيح، لأن النسخ محتاج إلى دليل. ولا تنافي بين هذه الآية وبين آية
الخمس، فيقال إنها نسختها. " (3)
فشيخ الطائفة في التبيان أيضا أنكر التنافي والنسخ كما قلناه.
2 - ولكنه قال في المبسوط بخلاف ذلك، فقال في كتاب قسمة الفيء والغنائم منه:

1 - الوسائل 6 / 365، الباب 1 من أبواب الأنفال و...، الحديث 4.
2 - نهج البلاغة، فيض / 728; عبده 2 / 253; لح / 353، الخطبة 232.
3 - التبيان 1 / 781.
148

" والغنيمة كانت محرمة في الشريعة المتقدمة، وكان يجمعون الغنيمة فتنزل النار
من السماء فتأكلها، ثم أنعم الله - تعالى - على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فجعلها له خاصة بقوله:
" يسألونك عن الأنفال، قل الأنفال لله والرسول. " وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: أحل
لي الخمس، لم يحل لأحد قبلي. وجعلت لي الغنائم. وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقسم الغنيمة
أولا لمن يشهد الوقعة، لأنها كانت له خاصة. ونسخ بقوله: " واعلموا أنما غنمتم من
شيء فأن لله خمسه. الآية. " فأضاف المال إلى الغانمين ثم انتزع الخمس لأهل
السهمان فبقي الباقي على ملكهم، وعليه الإجماع. " (1) هذا.
3 - وفي الدر المنثور:
" وأخرج أبو عبيد وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: يسألونك عن الأنفال، قال:
هي الغنائم، ثم نسخها: واعلموا أنما غنمتم من شيء. الآية. " (2)
4 - وفيه أيضا:
" وأخرج ابن أبي شيبة والنحاس في ناسخه وأبو الشيخ عن مجاهد وعكرمة قالا:
كانت الأنفال لله والرسول حتى نسخها آية الخمس: واعلموا أنما غنمتم من شيء.
الآية. " (3)
5 - وفيه أيضا:
" وأخرج النحاس في ناسخه عن سعيد بن جبير أن سعدا ورجلا من الأنصار
خرجا يتنفلان فوجدا سيفا... فنزلت: يسألونك عن الأنفال... ثم نسخت هذه الآية
فقال: واعلموا أنما غنمتم من شيء. الآية. " (4)
6 - وفي تفسير القرطبي:
" هذه الآية ناسخة لأول السورة عند الجمهور. وقد ادعى ابن عبد البر الإجماع
على أن هذه الآية نزلت بعد قوله: " يسألونك عن الأنفال. " وأن أربعة أخماس الغنيمة

1 - المبسوط 2 / 64.
2 - الدر المنثور 3 / 160.
3 - الدر المنثور 3 / 161.
4 - الدر المنثور 3 / 160.
149

مقسومة على الغانمين على ما يأتي بيانه، وأن قوله: " يسألونك عن الأنفال " نزلت
في حين تشاجر أهل بدر في غنائم بدر على ما تقدم في أول السورة...
وقد قيل: إنها محكمة غير منسوخة وإن الغنيمة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وليست مقسومة
بين الغانمين، وكذلك لمن بعده من الأئمة. كذا حكاه المازري عن كثير من
أصحابنا، أن للإمام أن يخرجها عنهم. واحتجوا بفتح مكة وقصة حنين. وكان أبو عبيد
يقول: افتتح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة عنوة ومن على أهلها فردها عليهم ولم يقسمها ولم
يجعلها عليهم فيئا. ورأى بعض الناس أن هذا جائز للأئمة بعده. قلت: وعلى هذا
يكون معنى قوله - تعالى -: واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه والأربعة
الأخماس للإمام، إن شاء حسبها، وإن شاء قسمها بين الغانمين. وهذا ليس بشئ، لما
ذكرناه، ولأن الله - سبحانه - أضاف الغنيمة للغانمين فقال: واعلموا أنما غنمتم من
شيء... " (1)
أقول: الظاهر أن القول بالنسخ كان اجتهادا من ابن عباس وسعيد بن جبير مجاهد
وعكرمة ومن تبعهم لتوهم التهافت بين الآيتين، وقد عرفت عدم التهافت بينهما وأن
محط النظر في آية الأنفال بيان حكم الأموال العامة بما هي أموال عامة وليس لها
مالك شخصي يدبرها ويتصرف فيها، فتفيد أنها تكون تحت اختيار الرسول أو الإمام
الذي هو ممثل المجتمع فهو المتصرف فيها على حسب ما تقتضيه المصالح وبينه
الشرع المبين. وآية الخمس ناظرة إلى تشريع الخمس في جميع الغنائم الواصلة إلى
الأشخاص ومنها غنائم الحرب بعد إخراج الجعائل والنوائب منها وإرادة تقسيمها بين
المقاتلين، حيث إنها بلحاظ تقسيمها بينهم تصير غنيمة لهم وعائدة إليهم، فتأمل.
ويظهر من السياق ومن الأخبار الواردة نزول الآيتين في شأن غنائم بدر فيقرب
زمان نزول إحديهما من الأخرى فيبعد جدا النسخ في مثله، اللهم إلا أن يراد

1 - تفسير القرطبي 8 / 2.
150

بالنسخ تبيين مصرف الغنائم إجمالا في آية الخمس بالتخميس والتقسيم بعد ما
كان غير مبين في الأخرى. وإن شئت قلت: إن النسبة بين الآيتين نسبة المجمل
والمبين لا نسبة المنسوخ والناسخ، فتدبر.
فإن قلت: في مرسلة الوراق عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: " إذا غزا قوم بغير إذن
الإمام فغنموا كانت الغنيمة كلها للإمام. وإذا غزوا بأمر الإمام فغنموا كان للإمام
الخمس. " (1) ومفاد هذه المرسلة يختلف عما تقول من كون الغنيمة من الأنفال وكونها
للإمام، إذ التفصيل دليل التفاوت وقد أفتى بمضمونها الأصحاب.
قلت: نحن لا نأبى وجود تفاوت ما بين الغنيمتين بعد اشتراكهما في كونهما تحت
اختيار الإمام، إذ لا تخميس ولا تقسيم فيما إذا كان الغزو بغير إذن الإمام لعدم احترام
عمله بعد اشتراط الغزو بإذنه. وأما فيما وقع بإذنه فينفل منها ويتصرف فيها حسب
المصالح الملزمة أو الراجحة وإن استوعبتها، فإن بقي منها شيء وجب التخميس ثم
التقسيم، حيث إنها جلب أسيافهم، فلهم نحو اختصاص بها بعد ما كان الغزو بإذن
الإمام، فهذا هو الفارق كما مر. والإمام هو المتصدي لهما، فتدبر.
فإن قلت: في رواية حفص بن غياث، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قوله: " قلت: فهل يجوز
للإمام أن ينفل؟ فقال: له أن ينفل قبل القتال، فأما بعد القتال والغنيمة فلا يجوز ذلك
لأن الغنيمة قد أحرزت. " (2)
قلت: النفل كان يطلق غالبا على جعل يجعله الإمام لسرية تغير على العدو زائدا
على سهامها في الغنيمة، أو لمن يدله على مصلحة كسهولة طريق أو ماء في مفازة أو
موضع فتح القلعة أو مال يغتنم أو عدو يغار عليه أو ثغر يدخل منه،

1 - الوسائل 6 / 369، الباب 1 من أبواب الأنفال...، الحديث 16.
2 - الوسائل 11 / 79، الباب 38 من أبواب جهاد العدو...، الحديث 1.
151

فلا محالة لا يبقى له موضوع بعد القتال والغنيمة.
وهذا بخلاف النوائب والمصالح العامة التي تنوب الإمام مثل إعطاء المؤلفة
قلوبهم ونحوه، فإنها تعرض كثيرا بعد الاغتنام كما فيما صنعه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حنين، قد
دلت النصوص والفتاوى التي مرت على جواز سد الإمام إياها من الغنيمة.
فإن قلت: قد ورد في كتب السير والحديث ما محصله:
" أن وفد هوازن أتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالجعرانة وقالوا: إنا أصل وعشيرة فامنن
علينا من الله عليك، فقال لهم: اختاروا إحدى الطائفتين إما السبي وإما المال، قالوا
فإنا نختار سبينا، فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المسلمين وقال: إن إخوانكم قد جاؤوا
تائبين وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم فمن أحب منكم إن يطيب ذلك فليفعل، ومن
أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل. فقال
الناس: قد طيبنا ذلك يا رسول الله، فقال: إنا لا ندري من أذن منكم ممن لم يأذن،
فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم، فكلمهم عرفاؤهم فأخبروا أنهم طيبوا وأذنوا. "
فيقال: لو كان امر السبي والغنائم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلم استأذن هو (صلى الله عليه وآله وسلم) أصحابه في
رد السبي؟
قلت: الظاهر أنه كان هذا بعد ما قسم النساء والذراري أو أكثرها وتملكها
أصحابه، فاحتاج إلى الاستيذان قهرا، كما يشهد بذلك قوله على ما في المغازي:
" فمن كان عنده منهن شيء فطابت نفسه أن يرده فليرسل، ومن أبى منكم وتمسك
بحقه فليرد عليهم وليكن فرضا علينا ست فرائض من أول ما يفيء الله به علينا ".
فراجع المغازي للواقدي والبخاري وابن هشام وغيرها من الكتب. (1)
ومن المحتمل أيضا أن يكون الاسترضاء عملا أخلاقيا عاطفيا منه (صلى الله عليه وآله وسلم) وإن لم
يكن يجب، فتأمل.

1 - المغازي 2 / 949 وما بعدها (الجزء 3); وصحيح البخاري 3 / 66; وسيرة ابن هشام 4 / 131.
152

الجهة الثالثة:
في كيفية تقسيم الغنائم:
1 - قال الشيخ الطوسي - قدس سره - في كتاب الفيء وقسمة الغنائم من الخلاف
(المسألة 15):
" مال الغنيمة لا يخلو من ثلاثة أحوال: ما يمكن نقله وتحويله إلى بلد الإسلام مثل
الثياب والدراهم والدنانير والأثاث والعروض، أو يكون أخشاشا (احسانا خ. ل)
مثل النساء والولدان، أو كان مما لا يمكن نقله كالأرض والعقار والبساتين. فما يمكن
نقله يقسم بين الغانمين بالسوية لا يفضل راجل على راجل ولا فارس على
فارس. إنما يفضل الفارس على الراجل، وبه قال الشافعي غير أنه لا يدفع الغنيمة إلى
من لم يحضر الوقعة، وعندنا يجوز ذلك إن يعطى لمن يلحق بهم مددا لهم وإن لم
يحضر الوقعة، ويسهم عندنا للصبيان ومن يولد في تلك الحال وسيجئ الخلاف فيه.
وقال أبو حنيفة: لا يجوز أن يعطى لغير الغانمين لكن يجوز أن يفضل بعض
الغانمين على بعض.
وقال مالك: يجوز أن يفضل بعضهم على بعض، ويجوز أن يعطى منها لغير
الغانمين. دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم. " (1)
أقول: لم يتعرض هو لتخميس الغنيمة اعتمادا على وضوحه وذكره في محله.
2 - وقال في جهاد النهاية:
" كل ما غنمه المسلمون من المشركين ينبغي للإمام أن يخرج منه الخمس، فيصرفه
إلى أهله ومستحقيه حسب ما قدمناه في كتاب الزكاة. والباقي على ضربين: ضرب

1 - الخلاف 2 / 331، والظاهر أنه سقط من هده الطبعة قوله: " وقال مالك: يجوز أن يفضل بعضهم
على بعض ويجوز أن يعطي منها لغير الغانمين ".
153

منه للمقاتلة خاصة دون غيرهم من المسلمين، وضرب هو عام لجميع المسلمين:
مقاتلتهم وغير مقاتلتهم. فالذي هو عام لجميع المسلمين فكل ما عدا ما حوى العسكر
من الأرضين والعقارات وغير ذلك، فإنه بأجمعه فيء للمسلمين: من غاب منهم ومن
حضر على السواء. وما حوى العسكر يقسم بين المقاتلة خاصة ولا يشركهم فيه
غيرهم.
فإن قاتلوا وغنموا فلحقهم قوم آخرون لمعاونتهم، كان لهم من القسمة مثل ما لهم،
يشاركونهم فيها.
وينبغي للإمام أن يسوى بين المسلمين في القسمة، ولا يفضل أحدا منهم لشرفه أو
علمه أو زهده على من ليس كذلك في قسمة الفيء. وينبغي أن يقسم للفارس سهمين
وللراجل سهما، فإن كان مع الرجل أفراس جماعة لم يسهم منها إلا لفرسين منها. من
ولد في أرض الجهاد كان له من السهم مثل ما للمقاتل على السواء. " (1)
3 - وقال المحقق في جهاد الشرائع:
" الطرف الخامس في أحكام الغنيمة... وهي أقسام ثلاثة:
[1] - ما ينقل كالذهب والفضة والأمتعة. [2] - وما لا ينقل كالأرض والعقار.
[3] - وما هو سبي كالنساء والأطفال.
والأول: ينقسم إلى ما يصح تملكه للمسلم وذلك يدخل في الغنيمة، وهذا القسم
يختص به الغانمون بعد الخمس والجعائل، ولا يجوز لهم التصرف في شيء منه إلا بعد
القسمة والاختصاص.
وقيل: يجوز لهم تناول ما لابد منه كعليق الدابة وأكل الطعام.
وإلى ما لا يصح تملكه كالخمر والخنزير، ولا يدخل في الغنيمة بل ينبغي إتلافه
كالخنزير أو يجوز إتلافه وإبقاؤه للتخليل كالخمر...
وأما ما لا ينقل فهو للمسلمين قاطبة وفيه الخمس، والإمام مخير بين إفراز خمسه
لأربابه وبين إبقائه وإخراج الخمس من ارتفاعه.

1 - النهاية / 294.
154

وأما النساء والذراري فمن جملة الغنائم ويختص بهم الغانمون وفيهم الخمس
لمستحقه...
الثالث في قسمة الغنيمة: يجب أن يبدأ بما شرطه الإمام كالجعائل والسلب إذا
شرط للقاتل، ولو لم يشترط لم يختص به، ثم بما يحتاج إليه من النفقة مدة بقائها حتى
يقسم كأجرة الحافظ والراعي والناقل، وبما يرضخه للنساء والعبيد والكافر إن قاتلوا
بإذن الإمام، فإنه لا سهم للثلاثة، ثم يخرج الخمس. وقيل: بل يخرج الخمس مقدما
عملا بالآية، والأول أشبه. ثم يقسم الأربعة الأخماس بين المقاتلة ومن حضر القتال
ولو لم يقاتل حتى الطفل ولو ولد بعد الحيازة وقبل القسمة، وكذا من اتصل بالمقاتلة
من المدد ولو بعد الحيازة وقبل القسمة. ثم يعطي الراجل سهما والفارس سهمين، قيل:
ثلاثة، والأول أظهر. ومن كان له فرسان فصاعدا أسهم لفرسين دون ما زاد. " (1)
4 - وفي خراج أبي يوسف بعد ذكر آية الخمس قال:
" فهذا - والله اعلم - فيما يصيب المسلمون من عساكر أهل الشرك، وما أجلبوا به
من المتاع والسلاح والكراع فإن في ذلك الخمس لمن سمى الله - عز وجل - في كتابه
العزيز، وأربعة أخماسه بين الجند الذين أصابوا ذلك من أهل الديوان وغيرهم،
يضرب للفارس منهم ثلاثة أسهم: سهمان لفرسه وسهم له، وللراجل سهم على ما جاء
في الأحاديث والآثار ولا يفضل الخيل بعضها على بعض... " (2)
5 - وفي المغني لابن قدامة بعد قول الخرقي:
" وأربعة أخماس الغنيمة لمن شهد الوقعة; للراجل سهم وللفارس ثلاثة أسهم إلا أن
يكون الفارس على هجين فيكون له سهمان: سهم له وسهم لهجينه. "
قال:
" أجمع أهل العلم على أن أربعة أخماس الغنيمة للغانمين، وقوله - تعالى -:
" واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه " يفهم منه أن أربعة أخماسها لهم، لأنه
أضافها

1 - الشرائع 1 / 320 - 324 (= طبعة أخرى / 244 - 248).
2 - الخراج / 18.
155

إليهم، ثم أخذ منها سهما لغيرهم فبقي سائرها لهم كقوله - تعالى -: " وورثه أبواه
فلأمه الثلث " وقال عمر: الغنيمة لمن شهد الوقعة.
وذهب جمهور أهل العلم إلى أن الراجل سهما وللفارس ثلاثة أسهم. وقال أبو
حنيفة للفارس سهمان، وخالفه أصحابه فوافقوا سائر العلماء، وقد ثبت عن ابن عمر:
أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أسهم للفارس ثلاثة أسهم: سهم له وسهمان لفرسه. متفق عليه. وقال
خالد الحذاء: إنه لا يختلف فيه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه أسهم للفرس سهمين ولصاحبه سهما
وللراجل سهما. والهجين من الخيل هو الذي أبوه عربي وأمه غير عربية. " (1)
الأخبار الواردة في تقسيم الغنيمة:
1 - صحيحة ربعي بن عبد الله، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا
أتاه المغنم أخذ صفوه وكان ذلك له، ثم يقسم ما بقي خمسة أخماس ويأخذ خمسه،
ثم يقسم أربعة أخماس بين الناس الذين قاتلوا عليه، الحديث. " (2) وظاهر الصحيحة
استقرار عمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على ذلك واستمراره.
2 - مرسلة حماد الطويلة، عن العبد الصالح (عليه السلام)، قال: " الخمس من خمسة أشياء:
من الغنائم والغوص ومن الكنوز ومن المعادن والملاحة، يؤخذ من كل هذه الصنوف
الخمس فيجعل لمن جعله الله له ويقسم الأربعة الأخماس بين من قاتل عليه وولي
ذلك... وله أن يسد بذلك المال جميع ما ينوبه من مثل إعطاء المؤلفة قلوبهم وغير
ذلك مما ينوبه، فإن بقي بعد ذلك شيء أخرج الخمس منه فقسمه في أهله، وقسم
الباقي على من ولي ذلك، وإن لم يبق بعد سد النوائب

1 - المغنى 7 / 312.
2 - الوسائل 6 / 356، الباب 1 من أبواب قسمة الخمس، الحديث 3.
156

شيء فلا شيء لهم. " (1)
3 - صحيحة معاوية بن وهب، قال: قلت لأبى عبد الله (عليه السلام): السرية يبعثها الإمام
فيصيبون غنائم، كيف تقسم؟ قال: " إن قاتلوا عليها مع أمير أمره الإمام عليهم أخرج
منها الخمس لله وللرسول وقسم بينهم أربعة أخماس، وإن لم يكونوا قاتلوا عليها
المشركين كان كل ما غنموا للإمام يجعله حيث أحب. " (2)
4 - خبر هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سألته عن الغنيمة فقال: يخرج
منها خمس لله وخمس للرسول، وما بقي قسم بين من قاتل عليه وولي ذلك. " (3)
5 - خبر عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الغنيمة، قال: يخرج منه الخمس،
ويقسم ما بقي بين ما قاتل عليه وولي ذلك. وأما الفيء والأنفال فهو خالص
لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). (4)
وفي المستدرك، عن العياشي في تفسيره، عن ابن سنان مثله. (5)
6 - وفي المستدرك، عن العياشي، عن ابن الطيار، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:
" يخرج خمس الغنيمة ثم يقسم أربعة أخماس على من قاتل على ذلك ووليه. " (6)
7 - وفيه أيضا، عن دعائم الإسلام، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: " الغنيمة يقسم
على خمسة أخماس فيقسم أربعة أخماس على من قاتل عليها، والخمس لنا أهل
البيت. الحديث. " (7)

1 - الوسائل 6 / 358 و 365، الباب 1 من أبواب قسمة الخمس، الحديث 8، والباب 1 من أبواب
الأنفال...، الحديث 4.
2 - الوسائل 11 / 84، الباب 41 من أبواب جهاد العدو...، الحديث 1.
3 - الوسائل 11 / 86، الباب 41 من أبواب جهاد العدو...، الحديث 5.
4 - الوسائل 6 / 374، الباب 2 من أبواب الأنفال...، الحديث 3.
5 - مستدرك الوسائل 2 / 261، الباب 36 من أبواب جهاد العدو...، الحديث 1.
6 - مستدرك الوسائل 2 / 261، الباب 36 من أبواب جهاد العدو...، الحديث 2.
7 - مستدرك الوسائل 2 / 261، الباب 36 من أبواب جهاد العدو...، الحديث 3.
157

8 - وفي سنن البيهقي بسنده، عن عبد الله بن عمرو، قال: " كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا
أصاب غنيمة أمر بلالا فينادي في الناس فيجيئون بغنائمهم فيخمسها ويقسمها، فجاء
رجل بعد ذلك بزمام من شعر فقال: يا رسول الله، هذا فيما كنا أصبناه من الغنيمة،
فقال: أسمعت بلالا نادى ثلاثا؟ قال: نعم. قال: فما منعك أن تجيء به؟ فاعتذر، فقال:
كن أنت تجيء به يوم القيامة، فلن أقبله عنك. " (1)
9 - وفيه أيضا بسنده، عن رجل من بلقين، قال: " أتيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو بوادي
القرى وهو يعرض فرسا، فقلت: يا رسول الله، ما تقول في الغنيمة؟ قال: لله
خمسها أربعة أخماس للجيش. قلت: فما أحد أولى به من أحد؟ قال: لا، ولا السهم
تستخرجه من جنبك ليس أنت أحق به من أخيك المسلم. " (2)
10 - وفيه أيضا بسنده، عن ابن عباس: " في سورة الأنفال قوله: يسألونك عن
الأنفال، قل الأنفال لله والرسول قال: الأنفال: المغانم، كانت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خالصة
ليس لأحد منها شيء، ما أصاب سرايا المسلمين أتوا به فمن حبس منه إبرة أو سلكا
فهو غلول، فسألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يعطيهم منها: قال الله - تبارك وتعالى -:
يسألونك عن الأنفال، قل الأنفال لي جعلتها لرسولي ليس لكم منها شيء، فاتقوا
الله أصلحوا ذات بينكم، إلى قوله: إن كنتم مؤمنين. ثم أنزل الله - عز وجل -: واعلموا
أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول. ثم قسم ذلك الخمس لرسول الله ولذي
القربى يعني قرابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واليتامى والمجاهدين في سبيل الله، وجعل أربعة
أخماس الغنيمة بين الناس، الناس فيه سواء، للفرس سهمان ولصاحبه سهم وللراجل
سهم. كذا وقع في الكتاب: " والمجاهدين "، وهو غلط إنما هو ابن السبيل. " (3)

1 - سنن البيهقي 6 / 293، كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب بيان مصرف الغنيمة...
2 - سنن البيهقي 6 / 324، كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب إخراج الخمس من رأس الغنيمة و...
3 - سنن البيهقي 6 / 293، كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب بيان مصرف الغنيمة...
158

أقول: وقد مرت هذه الرواية عن الدر المنثور أيضا، فراجع. (1)
المشهور بيننا أن للفارس سهمين وللراجل سهما واحدا:
1 - قال الشيخ في كتاب الفيء وقسمة الغنائم من الخلاف (المسألة 24):
" للراجل سهم وللفارس سهمان: سهم له وسهم لفرسه، وبه قال أبو حنيفة. وفي
أصحابنا من قال: للفارس ثلاثة أسهم: سهم له وسهمان لفرسه، وبه قال الشافعي، وفي
الصحابة علي (عليه السلام) وعمر، وفي التابعين عمر بن عبد العزيز والحسن البصري وابن
سيرين، وفي الفقهاء مالك وأهل المدينة والأوزاعي وأهل الشام والليث بن سعد أهل
مصر وأحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمد. دليلنا على الأول الأخبار التي رواها
أصحابنا... " (2)
2 - وفي الشرائع:
" ثم يعطى الراجل سهما والفارس سهمين، وقيل ثلاثة، والأول أظهر. " (3)
3 - وفي الجواهر في ذيل عبارة الشرائع قال:
" وأشهر، بل المشهور شهرة عظمية، بل عن الغنية الإجماع عليه، وهو الحجة بعد
خبر حفص بن غياث. " (4)
4 - وفي خراج أبي يوسف:
" يضرب للفارس منهم ثلاثة أسهم: سهمان لفرسه، وسهم له، وللراجل سهم على
ما جاء في الأحاديث والآثار، ويفضل الخيل بعضها على بعض... قال أبو يوسف:
حدثنا الحسن بن علي بن عمارة، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم، عن

1 - الدر المنثور 3 / 160.
2 - الخلاف 2 / 335.
3 - الشرائع 1 / 324 (= طبعة أخرى / 247).
4 - الجواهر 21 / 201.
159

عبد الله بن عباس أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قسم غنائم بدر: للفارس سهمان وللراجل
سهم. قال: حدثنا قيس بن الربيع، عن محمد بن علي، عن إسحاق بن عبد الله، عن أبي
حازم، قال: حدثنا أبو ذر الغفاري، قال: شهدت أنا وأخي مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حنينا
ومعنا فرسان لنا فضرب لنا رسول الله ستة أسهم: أربعة لفرسينا وسهمين لنا فبعنا الستة
الأسهم بحنين ببكرين.
قال أبو يوسف: وكان الفقيه المقدم أبو حنيفة يقول: للرجل سهم وللفرس سهم، قال:
لا أفضل بهيمة على رجل مسلم، ويحتج بما حدثناه عن زكريا بن الحارث، عن
المنذر بن أبي خميصة الهمداني أن عاملا لعمر بن الخطاب قسم في بعض الشام
للفارس سهم وللرجل سهم فرفع ذلك إلى عمر فسلمه وأجازه، فكان أبو حنيفة يأخذ
بهذا الحديث ويجعل للفرس سهما وللرجل سهما... " (1)
أقول: ويدل على القول المشهور بيننا:
1 - خبر حفص بن غياث، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه سأله عن سرية كانوا في سفينة
فقاتلوا وغنموا وفيهم من معه الفرس، وإنما قاتلوهم في السفينة، ولم يركب صاحب
الفرس فرسه، كيف تقسم الغنيمة بينهم؟ فقال: للفارس سهمان وللراجل سهم. قلت: لم
يركبوا ولم يقاتلوا على أفراسهم؟ قال: أرأيت لو كانوا في عسكر فتقدم الرجالة
فقاتلوا فغنموا كيف أقسم بينهم؟ ألم أجعل للفارس سهمين وللراجل سهما، وهم الذين
غنموا دون الفرسان. الحديث. " (2)
2 - ما عن دعائم الإسلام، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: " أربعة أخماس الغنيمة
لمن قاتل عليها: للفارس سهمان وللراجل سهم. " (3)

1 - الخراج / 18.
2 - الوسائل 11 / 79، الباب 38 من أبواب جهاد العدو...، الحديث 1.
3 - مستدرك الوسائل 2 / 261، الباب 36 من أبواب جهاد العدو...، الحديث 4.
160

3 - ما عن عوالي اللئالي، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " أنه قسم في النفل للفارس
سهمين للراجل سهما. " (1)
4 - ما في سنن البيهقي بسنده، عن مجمع بن جارية الأنصاري في حديث طويل
يذكر فيه تقسيم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غنائم خيبر على أهل الحديبية، قال: " فأعطى الفارس
سهمين والراجل سهما. " (2)
5 - وفيه أيضا بسنده، عن ابن عمر: " أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قسم يوم خيبر للفارس سهمين
وللراجل سهما. " (3)
أقول: ولكن البيهقي ضعف سند الحديثين.
6 - خبر ابن عباس الذي مر عن أبي يوسف في تقسيم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) غنائم
بدر. (4)
7 - وفي كتاب الفيء من الخلاف (المسألة 24) والجواهر عن المقداد قال:
" أعطاني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سهمين: سهما لي وسهما لفرسي. " (5)
وأما القول الآخر فيدل عليه أخبار من طرقنا وأخبار كثيرة من طرق السنة:
1 - خبر مسعدة بن زياد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه، قال: " كان
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يجعل للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهما. " (6) قال في الوسائل: هذا
محمول

1 - مستدرك الوسائل 2 / 261، الباب 36 من أبواب جهاد العدو...، الحديث 8.
2 - سنن البيهقي 6 / 325، كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب ما جاء في سهم الراجل والفارس.
3 - سنن البيهقي 6 / 325، كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب ما جاء في سهم الراجل والفارس.
4 - الخراج لأبي يوسف / 18.
5 - الخلاف 2 / 336; والجواهر 21 / 201.
6 - الوسائل 11 / 79، الباب 38 من أبواب جهاد العدو...، الحديث 2.
161

على تعدد الأفراس.
2 - خبر إسحاق بن عمار، عن جعفر، عن أبيه: " أن عليا (عليه السلام) كان يجعل للفارس
ثلاثة أسهم وللراجل سهما. " (1) قال في الوسائل: حمله الشيخ على تعدد الأفراس
للفارس.
3 - خبر أبي البختري، عن جعفر، عن أبيه: " أن عليا (عليه السلام) كان يسهم للفارس ثلاثة
أسهم: سهمين لفرسه وسهما له ويجعل للراجل سهما. " (2)
أقول: التعبير بالماضي الاستمراري في الأخبار الثلاثة يدل على الاستمرار في
العمل، والحمل على تعدد الأفراس خلاف الظاهر ولا سيما مع هذا التعبير.
ويحتمل أن يراد الجعل قبل القتال تشويقا فيه لا التقسيم بعد إحراز الغنيمة.
ويحتمل أيضا حملها على التقية، فإن هذا القول مشهور بين فقهاء السنة استفاضت
به أخبارهم، فراجع البيهقي. (3)
ويحتمل أيضا حمل اختلاف الأخبار على اختلاف المقامات من كثرة
الأفراس قلتها وشدة الحاجة إليها وضعفها، فكان الاختيار في ذلك إلى الإمام حسب
إحساس الحاجة إلى الخيل ومحصول عملها واختلافها في النفقات والعنصر
والقوة الضعف ونحو ذلك، وقد عرفت بالتفصيل أن الغنيمة بأجمعها تكون تحت
اختيار الإمام.
ولو أبيت جميع ذلك فالشهرة مرجحة للطائفة الأولى من الأخبار، وهي أول
المرجحات في باب تعارض الأخبار. وأما حديث تعدد الأفراس فرواه الكليني
بسنده، عن حسين بن عبد الله، عن أبيه، عن جده، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): " إذا
كان مع الرجل أفراس في الغزو لم يسهم له إلا لفرسين منها. " ورواه الشيخ أيضا
بسنده عن حسين بن عبد الله مثله. (4)

1 - الوسائل 11 / 88، الباب 42 من أبواب جهاد العدو...، الحديث 2.
2 - الوسائل 11 / 89، الباب 42 من أبواب جهاد العدو...، الحديث 3.
3 - سنن البيهقي 6 / 325، كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب ما جاء في سهم الراجل والفارس.
4 - الوسائل 11 / 88، الباب 42 من أبواب جهاد العدو...، الحديث 1.
162

والذي يسهل الخطب في المقام انتفاء موضوع هذه المسائل في أعصارنا، فإن
الأفراس قد تبدلت بالسيارات والطائرات والهليكوبترات العسكرية وسيأتي الإشارة
إلى حكمها.
حكم المدد والصبيان والنساء والعبيد والكفار في هذا الباب:
1 - قال الشيخ في كتاب الفيء من الخلاف (المسألة 32):
" إذا انفلت أسير من يد المشركين فلحق بالمسلمين بعد تقضي القتال وحيازة المال
قبل القسمة فإنه يسهم له، وعند الشافعي لا يسهم له. دليلنا إجماع الفرقة على أن من
لحقهم مددا قبل القسمة فإنه يسهم له، وهذا منهم. " (1)
2 - وفيه أيضا (المسألة 20):
" الصبيان يسهم لهم مع الرجال، وبه قال الأوزاعي. وكذلك من يولد قبل
القسمة. أما النساء والعبيد والكفار فلا سهم لهم، وإن شاء الإمام أن يرضخ لهم فعل، عند
الشافعي له أن يرضخ لهؤلاء الأربعة ولا سهم لهم. دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم. " (2)
3 - وفيه أيضا (المسألة 21):
" النساء لا سهم لهن وإنما يرضخ لهن، وبه قال جميع الفقهاء إلا الأوزاعي فإنه قال:
يسهم للنساء. دليلنا إجماع الفرقة... " (3)
4 - وفيه أيضا (المسألة 22):
" الكفار لا سهم لهم مع المسلمين سواء قاتلوا بإذن الإمام أو بغير إذن الإمام، وإن
قاتلوا بإذنه أرضخ لهم إن شاء الإمام وبه قال الشافعي إلا أنه قال: يرضخ لهم.

1 - الخلاف 2 / 338.
2 - الخلاف 2 / 334.
3 - الخلاف 2 / 335.
163

وقال الأوزاعي: يسهم لهم مع المسلمين. دليلنا إجماع الفرقة... " (1)
5 - وفي الوسائل بسنده عن حفص بن غياث، قال: " كتب إلي بعض إخواني أن
أسأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن مسائل من السيرة (السنن خ. ل) فسألته وكتبت بها إليه، فكان
فيما سألت: أخبرني عن الجيش إذا غزوا أرض الحرب فغنموا غنيمة ثم لحقهم جيش
آخر قبل أن يخرجوا إلى دار الإسلام ولم يلقوا عدوا حتى خرجوا إلى دار الإسلام
هل يشاركونهم فيها؟ قال: نعم. " (2)
6 - وفيه أيضا بسنده، عن طلحة بن زيد، عن جعفر، عن أبيه، عن علي (عليه السلام) في
الرجل يأتي القوم وقد غنموا ولم يكن ممن شهد القتال؟ قال: فقال: " هؤلاء
المحرومون (المحرمون خ. ل) فأمر أن يقسم لهم. " (3)
7 - وفي صحيح البخاري عن أبي موسى، قال: " بلغنا مخرج النبي ونحن باليمن،
فخرجنا مهاجرين إليه أنا وأخوان لي أنا أصغرهم، أحدهما أبو بردة والآخر أبورهم،
إما قال: في بضع وإما قال: في ثلاثة وخمسين أو اثنين وخمسين رجلا من قومي،
فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، ووافقنا جعفر بن أبي طالب أصحابه
عنده فقال جعفر: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعثنا ههنا وأمرنا بالإقامة فأقيموا معنا، فأقمنا معه
حتى قدمنا جميعا فوافقنا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين افتتح خيبر فأسهم لنا أو قال: فأعطانا منها،
وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئا إلا لمن شهد معه إلا أصحاب سفينتنا مع
جعفر وأصحابه قسم لهم معهم. " (4)
8 - وفي الوسائل بسنده عن مسعدة بن صدقة، عن جعفر، عن أبيه، عن

1 - الخلاف 2 / 335.
2 - الوسائل 11 / 78، الباب 37 من أبواب جهاد العدو...، الحديث 1.
3 - الوسائل 11 / 78، الباب 37 من أبواب جهاد العدو...، الحديث 2.
4 - صحيح البخاري 2 / 195، باب ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين.
164

آبائه (عليه السلام) أن عليا (عليه السلام) قال: " إذا ولد المولود في أرض الحرب قسم له مما أفاء الله
عليهم. " (1)
9 - وفيه أيضا بسنده عن أبي البختري، عن جعفر، عن أبيه، عن علي (عليه السلام) قال: " إذا
ولد المولود في أرض الحرب أسهم له. " (2)
10 - وفيه أيضا بسند موثوق به، عن سماعة، عن أحدهما (عليه السلام)، قال: " إن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج بالنساء في الحرب يداوين الجرحى، ولم يقسم لهن من الفيء
شيئا ولكنه نفلهن. " (3)
11 - وفيه أيضا في مرسلة حماد الطويلة، عن أبي الحسن (عليه السلام)، قال: " وليس للأعراب من
الغنيمة شيء وإن قاتلوا مع الإمام، لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صالح الأعراب أن يدعهم في
ديارهم ولا يهاجروا على أنه إن دهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من عدوه دهم أن يستنفر هم فيقاتل
بهم، وليس لهم في الغنيمة نصيب، وسنته جارية فيهم وفي غيرهم. " (4)
12 - وفيه أيضا بسنده، عن عبد الكريم بن عتبة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال لعمرو
بن عبيد: " أرأيت إن هم أبوا الجزية فقاتلتهم فظهرت عليهم كيف تصنع بالغنيمة؟ "
قال: أخرج الخمس وأقسم أربعة أخماس بين من قاتل عليه - إلى أن قال: - " أرأيت
الأربعة أخماس تقسمها بين جميع من قاتل عليها؟ " قال: نعم. قال: " فقد خالفت
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في سيرته; بيني وبينك فقهاء المدينة ومشيختهم وأسألهم، فإنهم
لا يختلفون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صالح الأعراب على أن يدعهم في ديارهم لا يهاجروا
على أنه إن دهمهم من عدوه دهم أن يستنفرهم فيقاتل بهم، وليس لهم في القسمة
(الغنيمة - الكافي) نصيب، وأنت تقول: بين جميعهم، فقد خالفت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في
كل ما قلت في سيرته في المشركين. " (5)

1 - الوسائل 11 / 87، الباب 41 من أبواب جهاد العدو...، الحديث 8.
2 - الوسائل 11 / 87، الباب 41 من أبواب جهاد العدو...، الحديث 9.
3 - الوسائل 11 / 86، الباب 41 من أبواب جهاد العدو، الحديث 6.
4 - الوسائل 11 / 85، الباب 41 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
5 - الوسائل 11 / 85، الباب 41 من أبواب جهاد العدو، الحديث 3.
165

13 - وفي المستدرك، عن دعائم الإسلام، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) " أن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " ليس للعبيد من الغنيمة شيء. وإن حضر وقاتل عليها فرأى
(فإن رأى - الدعائم) الإمام أو من أقامه الإمام أن يعطيه على بلائه إن كان منه أعطاه
من خرثي المتاع ما يراه. " (1)
أقول: الخرثي: أردأ المتاع وسقطه.
وراجع في مسألة العبيد، الجواهر (2) وسنن البيهقي. (3)
وقد طوينا هذه المسائل لعدم الابتلاء به في أعصارنا والتفصيل يطلب من محله.
واعلم أن المذكور في كلمات الفقهاء في المقام هو " الرضخ "، وفسر في اللغة
بالعطاء القليل، وقال في المسالك:
" الرضخ: العطاء الذي ليس بالكثير. والمراد به هنا وجوب العطاء الذي لا يبلغ
سهم الفارس إن كان المرضخ له فارسا ولا الراجل إن كان راجلا. " (4)
أقول: لا يخفى أن إقامة الدليل على هذا التحديد مشكلة. ولو فرض إشرابه في
معناه لغة أمكن الإيراد على ذلك بأن المذكور في أخبار الباب ليس لفظ الرضخ، وإنما
ذكر هذا في كلمات الفقهاء، فتدبر.
وهنا فروع ينبغي الإشارة إليها:
الأول: إن المتعارف في أعصارنا استعمال السيارات والطيارات والهليكوبترات
العسكرية في الحروب. فإذا فرض أن شارك أحد في الحرب بسيارته مثلا فهل

1 - مستدرك الوسائل 2 / 261، الباب 36 من أبواب جهاد العدو، الحديث 6، عن الدعائم 1 / 387.
2 - الجواهر 21 / 192.
3 - سنن البيهقي 9 / 53، كتاب السير، باب العبيد والنساء والصبيان يحضرون الوقعة.
4 - المسالك 1 / 156.
166

لا يسهم لسيارته أصلا لعدم الدليل على إلحاقها بالفرس، أو يسهم لها سهم الفرس
بالأولوية القطعية، أو يعتبر مقدار تأثيرها في الظفر على العدو ومقدار نفقاتها، فلعل
سيارة واحدة تساوي عشرة أفراس مثلا في الأثر المترقب منها وتقتضي نفقات
كثيرة؟ وجوه.
وحيث اخترنا أن اختيار الغنيمة يكون بيد الإمام ينفل منها حسب ما يراه صلاحا
فالأمر يدور مدار جعل الإمام أو من يقوم مقامه في ذلك.
الثاني: إن تقسيم الغنيمة بين المقاتلين كان في عصر كانت الجيوش متطوعين
يشاركون في الحروب بداع إلهي، وكانت الآلات العسكرية والأفراس ملكا لأنفسهم،
فلعل تقسيم الغنيمة بينهم كان بلحاظ الجزاء لنشاطاتهم وتضحياتهم والجبر لنفقاتهم،
كما ربما يشهد بذلك الفرق بين الراجل والفارس، حيث إن الفرس كانت له مؤونة نفقة
زائدة فناسب هذا الجزاء الأوفى وإن لم يتفق القتال عليه.
وعلى هذا، فإذا كانت الجيوش موظفين من قبل الحكومة اجراء على الأعمال
العسكرية، وكانت النفقات والمراكب والوسائل العسكرية أيضا ملكا للحكومة، كما
هو الغالب في عصرنا، فهل يجب في هذه الصورة أيضا تقسيم الغنيمة بينهم، أو يجري
حكم التقسيم في المتطوعين فقط؟ في المسألة وجهان.
والعمدة هي ما ذكرناه من عدم تعين التقسيم إذا كان هنا مصارف مهمة ونوائب
تنوب الإمام بحيث تستوعب الغنائم، فتدبر.
الثالث: قال العلامة في جهاد المنتهى ما ملخصه:
" مسألة: لا يجوز التصرف في شيء من الغنيمة، قيل: إلا ما لابد له منه
كالطعام علف الدواب. وقد أجمع العلماء على جواز التصرف في الطعام وعلف
الدواب إلا من شذ. وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء والحسن البصري
والشعبي الثوري والأوزاعي ومالك والشافعي وأحمد وأصحاب الرأي. وقال
الزهري: لا يؤخذ إلا بإذن الإمام.
167

لنا ما رواه الجمهور، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كنا نصيب العسل والفواكه في
مغازينا فنأكله ولا نرفعه. وعن عبد الله بن أبي أوفي، قال: أصبنا طعاما يوم خيبر كان
الرجل يأخذ منه مقدار ما يكفيه ثم ينصرف. وكتب صاحب جيش الشام إلى عمر: إنا
أصبنا أرضا كثيرة الطعام والعلف، فكتب إليه عمر دع الناس يعلفون ويأكلون، فمن
باع منهم شيئا بذهب أو فضة خمس الله وسهام المسلمين.
ومن طريق الخاصة ما رواه الشيخ، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في
وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأمير السرية: " ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تحرقوا زرعا،
لأنكم لا تدرون لعلكم تحتاجون إليه. ولا تعقروا من البهائم ما يؤكل لحمه إلا ما لابد
لكم من أكله. " (1)
ولأن الحاجة يشتد إليه وفي المنع مضرة عظيمة بالمسلمين وبدوابهم، لتعسر نقل
الطعام والعلف من بلاد الإسلام، ولا يجدون بدار الحرب ما يشرونه، ولو وجدوه لم
يوجد الثمن...
الثالث: إذا ذبحت الأنعام للأكل رد جلودها إلى المغنم ولم يجز استعمالها، لأنه
ليس مما يدعو الحاجة إليه مع اشتراك الغانمين فيها، ولأنه ليس بطعام فلا يثبت فيه
الترخص كغيره من أموال الغنيمة.
الرابع: لا يجوز تناول ما عدا الطعام والعلف واللحم واستعماله ولا الانفراد، به
لقوله (عليه السلام): أدوا الخيط والمخيط، فإن الغلول عار ونار وشنار يوم القيامة.
الخامس: الدهن المأكول يجوز استعماله في الطعام عند الحاجة، لأنه طعام فأشبه
الحنطة والشعير.
السادس: يجوز أن يأكل ما يتداوى به أو يشر به، كالجلاب والسكنجبين وغير هما
عند الحاجة، لأنه من الطعام. وقال أصحاب الشافعي ليس له تناوله، لأنه ليس من
القوت ولا يصلح به القوت.

1 - الوسائل 11 / 44، الباب 15 من أبواب جهاد العدو، الحديث 3.
168

السابع: لا يجوز أن يغسل ثوبه بالصابون، لأنه ليس بطعام ولا علف وإنما يراد
للتحسين والتزيين لا للضرورة. " (1) انتهى كلام المنتهى.
أقول: قد تعرض لجواز التصرف في الطعام والعلف في التذكرة أيضا، وتعرض له
الشيخ أيضا في المبسوط. وعمدة الدليل فيه الإجماع المدعى والسيرة في عصر
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في غزواته وسراياه. فإن ثبت بدليل قاطع فهو، وإلا فالأصل يقتضي عدم
الجواز إلا في صورة الضرورة بمقدارها مع الضمان. وخبر مسعدة لا يدل على أزيد
من مقدار الضرورة العرفية، ولا يستفاد منه عدم الضمان. ونسب الجواز فيما مر من
عبارة الشرائع إلى القيل مشعرا بتمريضه نعم، للإمام الإذن في ذلك بناء على ما مر من
كون الغنائم من الأنفال واختيارها بيد الإمام، فتدبر.
الرابع: هل التخميس يقدم على الجعائل والنوائب والنفقات والرضخ، أو يؤخر
عنها، أو يفصل بين الرضخ وغيره؟ وجوه:
من أن الغنيمة تصدق على الجميع، فيدل على تخميسه الآية الشريفة والروايات.
ومن أن الغنائم على ما مر تكون من الأنفال، أعني الأموال العامة الواقعة تحت
اختيار الإمام بما هو إمام، ولا يتعلق بمال الإمام الخمس والزكاة ونحو هما، وإنما
يتعلق بها الخمس بعد إرادة تقسيمها بين الأشخاص بلحاظ صيرورتها بالتقسيم غنيمة
لهم وعائدة إليهم فيخرج خمسها. وفي مرسلة حماد الطويلة: " وله أن يسد بذلك المال
جميع ما ينوبه من مثل إعطاء المؤلفة قلوبهم وغير ذلك مما ينوبه. فإن بقي بعد ذلك
شيء أخرج الخمس منه فقسمه في أهله. " (2) فيظهر منها أن الخمس يكون بعد
النوائب وقبل التقسيم.
ومن أن الرضخ في الحقيقة نوع من قسمة الغنيمة، غايته أنه ناقص عن

1 - المنتهى 2 / 932.
2 - الوسائل 6 / 365، الباب 1 من أبواب الأنفال من كتاب الخمس، الحديث 4.
169

السهام، فيتفاوت مع غيره بتقديم الخمس عليه. كما قواه في المسالك والروضة،
ولعله الأقوى.
قال في المسالك:
" تقديم السلب والجعائل على الخمس متجه، لخروجها عن اسم الغنيمة التي
أوجب الله - تعالى - فيها الخمس بالآية. وأما تقديم الرضخ عليه فغير واضح، لأن
الرضخ في الحقيقة نوع من قسمة الغنيمة، غايته أنه ناقص عن السهام، وذلك غير مانع.
كما أن نقص سهم الراجل عن سهم الفارس غير مؤثر في تقديم الخمس عليه. وإطلاق
اسم الغنيمة على المال المدفوع رضخا واضح، فوجوب الخمس فيه قوى. " (1)

1 - المسالك 1 / 156.
170

الجهة الرابعة:
في السلب:
1 - في سيرة ابن هشام في قصة غزوة حنين، عن ابن إسحاق بسنده، عن أبى قتادة
ما ملخصه: " فلما وضعت الحرب أوزارها وفرقنا من القوم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من
قتل قتيلا فله سلبه. " فقلت: يا رسول الله، والله لقد قتلت قتيلا ذا سلب فأجهضني عنه
القتال فما أدري من استلبه. فقال رجل من أهل مكة: صدق يا رسول الله، وسلب ذلك
القتيل عندي. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أردد عليه سلبه. وعن أنس بن مالك، قال: لقد
استلب أبو طلحة يوم حنين وحده عشرين رجلا. " (1)
وراجع في قصة أبي قتادة صحيح مسلم (2)، والبيهقي (3) وغير هما من الكتب.
2 - وفي سنن أبي داود بسنده، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يومئذ
- يعني يوم حنين -: " من قتل كافرا فله سلبه. " فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين
رجلا أخذ أسلابهم. (4)
3 - وفي صحيح مسلم بسنده، عن عبد الرحمن بن عوف أنه قال ما ملخصه: " بينا
أنا واقف في الصف يوم بدر فإذا أنا بين غلامين من الأنصار فغمزني أحدهما فقال: يا
عم، تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم، وما حاجتك إليه؟ قال: أخبرت أنه

1 - سيرة ابن هشام 4 / 91.
2 - صحيح مسلم 3 / 1370، كتاب الجهاد والسير، الباب 13 (باب استحقاق القاتل سلب القتيل)،
الحديث 1751.
3 - سنن البيهقي 6 / 306، كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب السلب للقاتل.
4 - سنن أبي داود 2 / 65، كتاب الجهاد، باب في السلب يعطى القاتل.
171

يسب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فغمزني الآخر فقال مثلها. فلم أنشب أن نظرت إلى أبي
جهل، فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألان عنه، فابتدراه فضرباه بسيفيهما
حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبراه، فقال: " أيكما قتله؟ " فقال كل
واحد منهما: أنا قتلته، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " مسحتما سيفيكما؟ " قالا: لا. فنظر في السيفين
فقال: " كلا كما قتله. " وقضى بسلبه لمعاذ بن عمر وبن الجموح. والرجلان: معاذ بن
عمر وبن الجموح، ومعاذ بن عفراء. (1)
ورواه البخاري (2)، والبيهقي في السنن (3).
وقد روى البيهقي في هذا الباب روايات كثيرة. وفي بعضها: " فطعنت رجلا فقتلته
فنفلني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سلبه. " وفي بعضها: " فشددت على رجل فطعنته
فقطرته أخذت سلبه فنفلنيه رسول الله. " وفي بعضها: " بارز عقيل بن أبي طالب رجلا
يوم موتة فنفله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سيفه وترسه. " وفي بعضها أنه بعد ما هشم عتبة بن أبي
وقاص في أحد وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ودق رباعيته بحجر قال حاطب بن أبي بلتعة:
" فمضيت حتى ظفرت به فضربته بالسيف فطرحت رأسه فهبطت فأخذت رأسه وسلبه
وفرسه وجئت بها إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فسلم ذلك إلي ودعا لي. "
إلى غير ذلك من التعبيرات الواردة في أخبار الباب الدالة على أن إعطاء السلب
كان نفلا منه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد الظفر على العدو.
إذا عرفت هذا فنقول: البحث في السلب يقع في مسائل شتى نشير إلى بعضها
إجمالا ونحيل التفصيل إلى الكتب الموسوعة:

1 - صحيح مسلم 3 / 1372، كتاب الجهاد والسير، الباب 13، الحديث 1752.
2 - صحيح البخاري 2 / 197، كتاب الجهاد والسير، باب من لم يخمس الأسلاب...
3 - سنن البيهقي 6 / 305، كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب السلب للقاتل.
172

المسألة الأولى:
هل السلب للقاتل مطلقا، أو فيما إذا شرطه الإمام له؟
1 - قال الشيخ في كتاب الفيء من الخلاف (المسألة 8):
" السلب لا يستحقه القاتل إلا أن يشرط له الإمام، وبه قال أبو حنيفة ومالك. وقال
الشافعي: هو للقاتل وإن لم يشرط له الإمام، وبه قال الأوزاعي والثوري وأحمد بن
حنبل.
دليلنا أنه إذا شرط استحقه بلا خلاف، وإذا لم يشرط له ليس على استحقاقه له
دليل. " (1)
2 - وقال في المبسوط:
" السلب لا يختص السالب إلا بأن يشرط له الإمام، فإن شرطه له كان له
خاصة، لا يخمس عليه. وإن لم يشرط كان غنيمة. " (2)
3 - وفي المغني لابن قدامة الحنبلي في بحث السلب قال:
" الفصل السادس: إن القاتل يستحق السلب، قال ذلك الإمام أو لم يقل، وبه قال
الأوزاعي والليث والشافعي وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور. وقال أبو حنيفة والثوري:
لا يستحقه إلا أن يشرطه الإمام له. وقال مالك: لا يستحقه إلا أن يقول الإمام ذلك. لم
ير أن يقول الإمام ذلك إلا بعد انقضاء الحرب على ما تقدم من مذهبه في النفل...
ولنا قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " من قتل قتيلا فله سلبه. " وهذا من قضايا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
المشهورة التي عمل بها الخلفاء بعده. وأخبارهم التي احتجوا بها تدل على ذلك، فإن
عوف بن مالك احتج على خالد حين أخذ سلب المددي، فقال له عوف: أما

1 - الخلاف 2 / 330.
2 - المبسوط 2 / 66، كتاب قسمة الفيء والغنائم.
173

تعلم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قضى بالسلب للقاتل؟ قال: بلى... " (1)
أقول: قصة المددي رواها البيهقي بسنده، عن عوف بن مالك الأشجعي، قال
ما ملخصه:
" خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة موتة ورافقني مددي من أهل اليمن، فلقينا
جموع الروم وفيهم رجل على فرس له أشقر عليه سرج مذهب وسلاح مذهب، فجعل
الرومي يفري بالمسلمين، وقعد له المددي خلف صخرة فمر به الرومي فعرقب فرسه
فخر وعلاه فقتله وحاز فرسه وسلاحه، فلما فتح الله - عز وجل - للمسلمين بعث إليه
خالد بن الوليد فأخذ السلب. قال عوف فأتيته فقلت: يا خالد، أما علمت أن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قضى بالسلب للقاتل؟ قال: بلى ولكني استكثرته. قلت: لتردنه إليه أو
لأعرفنكها (لأعرفنكما خ. ل) عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). قال: لن نرد عليه. قال عوف
فاجتمعنا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فقصصت عليه قصة المددي وما فعل خالد، فقال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا خالد: ما حملك على ما صنعت؟ قال: استكثرته، فقال: رد عليه
ما أخذت منه. قال عوف: قلت: دونك يا خالد: ألم أف لك؟ فقال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما ذاك؟ فأخبرته. قال: فغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا خالد، لا ترد
عليه، هل أنتم تاركوا لي أمرائي لكم صفوة أمرهم وعليهم كدره؟ " (2)
وروى القصة أيضا مسلم، فراجع. (3)
ويظهر من احتجاج عوف على خالد بقضاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن الأصحاب فهموا
من قضائه (صلى الله عليه وآله وسلم) كونه حكما دائما لا مختصا بموارد خاصة.
ويمكن أن يستدل لهذا أيضا بأن المتبادر من جعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) السلب للقاتل في

1 - المغني 10 / 426 - 427.
2 - سنن البيهقي 6 / 310، كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب ما جاء في تخميس السلب.
3 - صحيح مسلم 3 / 1373، كتاب الجهاد والسير، الباب 13 (باب استحقاق القاتل سلب القتيل)،
الحديث 1753.
174

موارد كثيرة من غزواته، وكذا من قوله: " من قتل قتيلا فله سلبه. " أو " من قتل
كافرا فله سلبه " أنه حكم كلي إلهي أجراه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبينه بقوله على ما هو شأن
النبوة، فإن شأن النبي بما هو نبي إنما هو تلقي الأحكام بالوحي وبيانه للأمة.
ولو سلم كون كلامه (صلى الله عليه وآله وسلم) قضاء منه وحكما سلطانيا فلا دليل أيضا على حصره
بعصره وغزواته، نظير قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا ضرر ولا ضرار "، بناء على كونه حكما سلطانيا
منه على ما هو ظاهر لفظ القضاء.
ويؤيد ذلك أيضا مساعدة العرف والاعتبار العقلائي لكون القاتل أولى بسلب
مقتوله، وكأنه محصول عمله ونشاطه، والإنسان يملك محصول نشاطه وعمله. هذا.
ولكن الظاهر من الروايات بعد إرجاع بعضها إلى بعض كون السلب نفلا منه (صلى الله عليه وآله وسلم)
وحكما سلطانيا منه في الموارد الخاصة تشويقا لأصحابه في أمر الجهاد والمبارزة.
وليس في كلامه (صلى الله عليه وآله وسلم) ما يشهد بكونه في مقام بيان حكم كلي ثابت لجميع
الأعصار والموارد حتى يخصص به عمومات تقسيم الغنيمة بين الجميع
بالسوية. المخصص إذا كان مجملا مرددا أمره بين الأقل والأكثر وكان منفصلا لم يسر
إجماله إلى العام، فيكون العام حجة في الموارد المشكوكة، فتدبر.
وقصة المددي أيضا تشهد بعدم تعين السلب للمقتول، فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإن أمر في
بادي الأمر برده إليه ولكنه في النهاية قال: " يا خالد، لا ترد عليه. " ولا يتوهم أنه وقع
تعزيرا للمددي حيث استخف بالأمير، إذ المستخف به هو عوف لا المددي، فكيف
يمنع حقه إن ثبت؟! اللهم إلا أن يقال: لعل المورد كان في الصفي واختياره كان إلى
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). هذا.
وقد مر عن الشرائع قوله: " والسلب، إذا شرط للقاتل، ولو لم يشرط لم يختص
به. " (1)
ونسبه في الجواهر إلى المشهور ثم قال: " بل لا أجد فيه خلافا إلا من
الإسكافي. " (2)

1 - الشرائع 1 / 323 (= ط. أخرى / 247).
2 - الجواهر 21 / 186.
175

وهذا القول هو الأقوى وإن كان الاحتياط يقتضي الأخذ بالأول.
المسألة الثانية:
هل القاتل يستحق السلب مطلقا، أو يعتبر في ذلك شروط؟
قال الشيخ في الخلاف (المسألة 11):
" إذا شرط له الإمام السلب إذا قتله فإنه متى قتله استحق سلبه على أي حال قتله.
وقال داود وأبو ثور: السلب للقاتل من غير مراعاة شرط. وقال الشافعي وبقية
الفقهاء: إن السلب لا يستحقه إلا بشروط ثلاثة: أحدها: أن يقتله مقبلا مقاتلا والحرب
قائمة، ولا يقتله منهزما وقد انقضت الحرب. والثاني: أن لا يقتله وهو مثخن بالجراح.
والثالث: لا يكون ممن يرمي سهما من صف المسلمين إلى صف المشركين فيقتله لأنه
يحتاج أن يكون مغررا بنفسه.
دليلنا أنه إذا شرط الإمام السلب فالظاهر أنه متى حصل القتل استحق السلب، لأن
قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " من قتل كافرا فله سلبه " على عمومه، ومن راعى شرطا زائدا فعليه
الدلالة. " (1)
أقول: وقد يضاف إلى الشروط الثلاثة شروط أخر: الأول: أن يكون القاتل ممن
يستحق السهم أو الرضخ. الثاني: أن يقتل أو يثخن بالجراح. فلو جرحه بجراح غير
مثخن أو أسره وقيده لم يستحق سلبه. الثالث: أن يكون المقتول من المقاتلة الذين
يجوز قتلهم. فلو قتل صبيا أو امرأة أو شيخا فانيا غير مقاتلين أو رجلا مستأمنا لم
يستحق سلبه، للنهي عن قتلهم. هذا.
ولا يخفى أن البحث في اعتبار الشروط كان على القول باستحقاق السلب

1 - الخلاف 2 / 330، كتاب الفيء.
176

شرعا، وأما على ما اخترناه من استحقاقه بشرط الإمام ذلك وأنه من مصاديق
النفل الذي قد يجعله الإمام لبعض فالحكم تابع لجعله سعة وضيقا، كما لا يخفى.
المسألة الثالثة:
في المقصود من السلب:
قال الشيخ في المبسوط:
" وأما السلب الذي يستحقه القاتل فكل ما كان يده عليه وهو جنة للقاتل أو سلاح
كان له، مثل الفرس والبيضة والخوذة والجوشن والسيف والرمح والدرقة والثياب
التي عليه، فإن جميع ذلك كله له. وما لم يكن يده عليه، مثل المضرب والرحل الجنائب
التي تساق خلفه وغير ذلك، فإنه يكون غنيمة ولا يكون سلبا. وما كان يده عليه ليس
بجنة للقتال، مثل المنطقة والخاتم والسوار والطوق والنفقة التي معه، فالأولى أن نقول:
إنه له، لعموم الخبر. " (1)
وراجع في المسألة المنتهى (2)، والمغنى (3)، والجواهر (4).
والذي يسهل الخطب أن الاستحقاق عندنا يكون بجعل الإمام، فالأمر تابع
لموضوع جعله سعة وضيقا.
وعلى فرض كونه حكما كليا فلا محالة يكون المرجع في موارد الشك عمومات
تقسيم الغنيمة على السواء كما مر نظيره، فتدبر.

1 - المبسوط 2 / 67، كتاب قسمة الفيء.
2 - المنتهى 2 / 945;
3 - والمغني لابن قدامة 10 / 428;
4 - والجواهر 21 / 190.
177

المسألة الرابعة:
هل السلب يخمس خمس غنائم الحرب أم لا؟
قال الشيخ في الخلاف (المسألة 9):
" إذا شرط الإمام السلب لا يحتسب عليه من الخمس ولا يخمس. وعند أبي حنيفة
يحتسب عليه من الخمس. وقال الشافعي: لا يخمس، وبه قال سعد بن أبي
وقاص. قال ابن عباس: يخمس السلب، قليلا كان أو كثيرا. وقال عمر: إن كان قليلا
لا يخمس وإن كان كثيرا خمس.
دليلنا أنه ينبغي أن يكون لشرط الإمام تأثير، ولو احتسب عليه من الخمس لم
يكن فيه فائدة، وكذلك لو خمس. على أن ظاهر شرط الإمام يقتضي أنه له، ومن قال
إنه يحتسب عليه أو يخمس فعليه الدلالة. " (1)
وفي المغني لابن قدامة:
" الفصل الخامس: إن السلب لا يخمس. روي ذلك عن سعد بن أبي وقاص، وبه
قال الشافعي وابن المنذر وابن جرير. وقال ابن عباس: يخمس، وبه قال
الأوزاعي مكحول، لعموم قوله - تعالى -: " واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله
خمسه. " وقال إسحاق: إن استكثر الإمام السلب خمسه، وذلك إليه، لما روى ابن
سيرين أن البراء بن مالك بارز مرزبان الزارة بالبحرين، فطعنه فدق صلبه وأخذ
سواريه وسلبه، فلما صلى عمر الظهر أتى أبا طلحة في داره فقال: إنا كنا لا نخمس
السلب، وإن سلب البراء قد بلغ مالا وأنا خامسه، فكان أول سلب خمس في الإسلام
سلب البراء. رواه سعيد في السنن. وفيها إن سلب البراء بلغ ثلاثين ألفا. ولنا ما روى
عوف بن مالك وخالد بن الوليد أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قضى بالسلب للقاتل ولم يخمس
السلب. رواه أبو داود. وعموم الأخبار التي ذكرناها. وخبر عمر

1 - الخلاف 2 / 330، كتاب الفيء وقسمة الغنائم.
178

حجة لنا، فإنه قال: إنا كنا لا نخمس السلب... " (1)
أقول: قد مر أن السلب إنما يستحقه القاتل بجعل الإمام، وقد عرفت منا تقديم
الجعائل على الخمس.
ولكن مع ذلك يمكن أن يقال بافتراق السلب عنها كما في الجواهر باندارجه تحت
اسم الغنيمة بالمعنى الأخص بالنسبة إلى السالب دونها، فيشمله عموم آية
الخمس الروايات. ومثله ما ينفله الإمام من الغنيمة لبعض المقاتلين زائدا على سهمه،
وكذلك الرضخ كما مر.
اللهم إلا أن يقال بانصراف أدلة خمس الغنيمة بالمعنى الأخص عن مثله.
أو يقال بأن الظاهر من جعل الإمام إياه للسالب جعل مجموعه لا أربعة
أخماسه، خمس الغنيمة بالمعنى الأخص يأخذه الإمام قبل تقسيمها.
وعلى هذا فالمتبع ظاهر الجعل; فإن كان ظاهرا في كونه له بأجمعه بلا خمس
فهو، وإلا فعموم دليل خمس الغنيمة محكم فيأخذ الإمام خمسه ويعطيه البقية، فتدبر.
وعلى فرض العدم فالظاهر شمول أدلة خمس الفائدة له، كما لا يخفى.

1 - المغني 10 / 425.
179

الجهة الخامسة:
في الصفايا وأنها للإمام:
قد كان من المتعارف في جميع الأعصار اصطفاء الملوك والأمراء من بين غنائم
العدو الأشياء القيمة النفيسة منها لأنفسهم أو لبيوت أموالهم ومتاحفهم، ولو كان يطلق
عليها الصفايا.
وهذا الصنف من الأشياء النفيسة لا تقبل التقسيم غالبا. وإيثار البعض بها دون
بعض تورث الخلاف والضغائن. فلا مجال إلا لإبقائها ذخرا لمستقبل الأمة تحت
اختيار إمامهم. وربما يستفيد منها الإمام الذي هو مقبول الأمة جميعا ويكون أحق
الأشخاص بالاستفادة منها. ونحن نحيل البحث التفصيلي في الصفايا إلى فصل
الأنفال لمناسبتها لها وإن ناقشنا في إطلاق لفظ الأنفال عليها، والغرض هنا هو
الإشارة إليها وأنها مما يستثنى من الغنائم قبل التقسيم، فانتظر.
180

الجهة السادسة:
في حكم الأراضي المفتوحة عنوة:
وقبل البحث فيها نشير إلى أقسام الأرضين وأحكامها، فنقول:
الأرض إما موات وإما عامرة، وكل منهما إما أن تكون كذلك بالأصالة أو عرض
لها ذلك، فهي أربعة أقسام:
أما الموات بالأصالة، فلا إشكال ولا خلاف منا في كونها من الأنفال وكونها للإمام
بما هو إمام. ومثلها العامرة بالأصالة، أي لامن معمر، سواء كانتا في بلاد الإسلام أو
في بلاد الكفر، إذ لم يتحقق فيهما ما هو الملاك لتملك الشخص وهو الإحياء. وسيأتي
البحث فيهما في فصل الأنفال.
وأما الموات بالعرض، فإن كانت العمارة السابقة فيها أصلية أو من معمر بقصد
الملك ولكن باد أهلها بالكلية أو أعرض عنها فهي أيضا للإمام، وصار حكمها حكم
الموات بالإصالة.
وإن كانت من معمر بقصد الملك ولم يبد أهلها ولم يعرض عنها ففي بقائها بعد
الموت على ملك معمرها أو خروجها عن ملكه، أو يفصل بين ما كان الملك بغير
الإحياء كالميراث والشراء ونحو هما فيبقي أو بالإحياء فيزول؟ وجوه سيأتي تفصيله
في فصل الأنفال.
وأما العامرة بالعرض، فإن كانت العمارة بنفسها فهي أيضا للإمام.
وإن كانت من معمر بقصد التملك فهي له ويملكها المحيي إجمالا إما لرقبتها أو
لحيثية الإحياء فقط، كما سيأتي.
وحينئذ فإن كان المحيي مسلما أو أسلم عليها فلا تخرج عن ملكه إلا بالإعراض
أو المعاملات الناقلة أو النواقل القهرية كالميراث مثلا أو صيرورتها مواتا
181

على الخلاف فيه كما مر. وكذلك الذمي والمعاهد.
وإن كان المالك لها كافرا محاربا فملكه يزول بما يزول به ملك المسلم، بالاغتنام
عنوة كسائر أموالهم فتصير ملكا للمسلمين بما هم مسلمون.
وكذلك إن صولح عليها على أن تكون للمسلمين بما هم مسلمون، والمتولي
للتصرف فيها وتقبيلها هو الإمام يصرف حاصلها في مصالحهم.
وإن أخذت بغير حرب وعنوة أو صولح عليها على أن تكون للإمام صارت للإمام
وتكون من الأنفال.
إذا عرفت هذا فنقول: البحث هنا في الأراضي المفتوحة عنوة وقهرا التي هي قسم
من غنائم الحرب. وفي حكمها ما صولح عليها على أنها للمسلمين. ولا إشكال عندنا
في عدم تقسيمها بين المقاتلين، بل يجب أن تبقى وقفا على مصالح المسلمين. وقد
تطابقت على ذلك فتاوى أصحابنا ورواياتهم، وإن كانت المسألة خلافية بين فقهاء
السنة:
1 - قال الشيخ في كتاب الزكاة من النهاية:
" الأرضون على أربعة أقسام: ضرب منها يسلم أهلها عليها طوعا من قبل نفوسهم
من غير قتال، فتترك في أيديهم ويؤخذ منهم العشر أو نصف العشر، وكانت ملكا لهم
يصح لهم التصرف فيها بالبيع والشري والوقف وسائر أنواع التصرف. وهذا حكم
أراضيهم إذا عمروها وقاموا بعمارتها، فان تركوا عمارتها وتركوها خرابا كانت
للمسلمين قاطبة...
والضرب الآخر من الأرضين ما أخذ عنوة بالسيف، فإنها تكون للمسلمين
بأجمعهم. وكان على الإمام أن يقبلها يقوم بعمارتها يراه من النصف أو الثلث أو الربع،
وكان على المتقبل إخراج ما قد قبل به من حق الرقبة، وفيما يبقي في يده وخاصه
العشر أو نصف العشر. وهذا الضرب من الأرضين لا يصح التصرف فيه بالبيع والشري
والتملك والوقف والصدقات. وللإمام أن ينقله من متقبل إلى غيره عند انقضاء مدة
ضمانه. وله التصرف فيه بحسب ما يراه من مصلحة المسلمين.
182

وهذه الأرضون للمسلمين قاطبة، وارتفاعها يقسم فيهم كلهم، المقاتلة وغيرهم،
فإن المقاتلة ليس لهم على جهة الخصوص إلا ما يحويه العسكر من الغنائم.
والضرب الثالث كل أرض صالح أهلها عليها، وهي أرض الجزية يلزمهم
ما يصالحهم الإمام عليه من النصف أو الثلث أو الربع، وليس عليهم غير ذلك. فإذا
أسلم أربابها كان حكم أرضيهم حكم أرض من أسلم طوعا ابتداء، ويسقط عنهم
الصلح لأنه جزية بدل من جزية رؤوسهم وأموالهم وقد سقطت عنهم بالإسلام...
والضرب الرابع كل أرض انجلى أهلها عنها، أو كانت مواتا فأحييت، أو كانت
آجاما وغيرها مما لا يزرع فيها فاستحدثت مزارع، فإن هذه الأرضين كلها للإمام
خاصة ليس لأحد معه فيها نصيب، وكان له التصرف فيها بالقبض والهبة والبيع الشري
حسب ما يراه، وكان له أن يقبلها بما يراه من النصف أو الثلث أو الربع... " (1)
أقول: لم يتعرض هو - قدس سره - لمسألة الخمس في الأراضي المفتوحة عنوة،
خلافا لما يأتي عنه في الخلاف.
وفي قوله في الأراضي التي أسلم أهلها وتركوها خرابا: إنها للمسلمين، كلام. إذ
الظاهر أنها بالإعراض عنها تصير من الأنفال وتكون للإمام. وكأن الشيخ أخذ هذا من
خبر صفوان والبزنطي، ويأتي الكلام في ذلك.
وما ذكره في ارتفاع الأراضي المفتوحة عنوة من أنه يقسم فيهم كلهم، قابل
للمناقشة، إذ لا يتعين فيه التقسيم بل يكون مفوضا إلى نظر الإمام. وكأنه أخذ ذلك مما
ورد من تقسيم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ارتفاع أراضي خيبر، فراجع.
وما ذكره في الضرب الثالث من كونها أرض الجزية وسقوط حق القبالة عنهم
بإسلامهم، إنما يصح إذا وقع الصلح على أن تبقى رقبة الأرض ملكا لأنفسهم. وأما

1 - النهاية / 194.
183

إذا وقع الصلح على أن تقع الأرض ملكا للمسلمين أو لإمام المسلمين فلا وجه
لرجوعها إليهم بالإسلام، كما لا يخفى وجهه.
2 - وقال في الخلاف في كتاب الفيء (المسألة 18):
" ما لا ينقل ولا يحول من الدور والعقارات والأرضين عندنا أن فيه الخمس
فيكون لأهله، والباقي لجميع المسلمين: من حضر القتال ومن لم يحضر، فيصرف
ارتفاعه إلى مصالحهم.
وعند الشافعي أن حكمه حكم ما ينقل ويحول: خمسه لأهل الخمس والباقي
للمقاتلة الغانمين، وبه قال ابن الزبير.
وذهب قوم إلى أن الإمام مخير فيه بين شيئين: بين أن يقسمه على الغانمين، وبين
أن يقفه على المسلمين. ذهب إليه عمر ومعاذ والثوري وعبد الله بن المبارك.
وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن الإمام مخير فيه بين ثلاثة أشياء: بين أن يقسمه
على الغانمين، وبين أن يقفه على المسلمين، وبين أن يقر أهلها عليها ويضرب عليهم
الجزية باسم الخراج; فإن شاء أقر أهلها الذين كانوا فيها، وإن شاء أخرج أولئك وأتى
بقوم آخرين من المشركين وأقرهم فيها وضرب عليهم الجزية باسم الخراج.
وذهب مالك إلى أن ذلك يصير وقفا على المسلمين بنفس الاغتنام والأخذ من
غير إيقاف الإمام، فلا يجوز بيعه وشراؤه.
دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم. وروي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فتح هوازن ولم يقسم أرضها
بين الغانمين. فلو كانت للغانمين لقسمها فيهم. وروي أن عمر فتح قرى بالشام فقال له
بلال: اقسمها بيننا، فأبى عمر ذلك وقال: اللهم اكفني شر بلال وذريته. فلو كانت
القسمة واجبة لكان يفعلها عمر.
وروي أن عمر استشار عليا (عليه السلام) في ارض السواد، فقال على (عليه السلام): دعها عدة
للمسلمين ولم يأمره بقسمتها. ولو كان واجبا لكان يشير عليه بالقسمة. " (1)
وتعرض في كتاب السير (المسألة 23) من الخلاف أيضا للمسألة، فراجع. (2)

1 - الخلاف 2 / 333.
2 - الخلاف 3 / 235.
184

أقول: قد مر منا في بحث خمس الغنائم الإشكال في وجوب الخمس في
الأراضي المفتوحة عنوة، فراجع. ومعقد الإجماع المدعى هو أصل المسألة أعني
عدم تقسيم الأراضي عندنا، كما يستفاد من سائر ما ذكره دليلا، لا مسألة الخمس فإنها
ذكرت تطفلا.
3 - وقال في جهاد المبسوط:
" ظاهر المذهب أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فتح مكة عنوة بالسيف ثم آمنهم بعد ذلك، وإنما لم
يقسم الأرضين والدور لأنها لجميع المسلمين، كما نقوله في كل ما يفتح عنوة إذا لم
يمكن نقله إلى بلد الإسلام، فإنه يكون للمسلمين قاطبة. ومن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على رجال
من المشركين فأطلقهم، وعندنا أن للإمام أن يفعل ذلك. وكذلك أموالهم من عليهم بها
لما رآه من المصلحة.
وأما أرض السواد فهي الأرض المغنومة من الفرس التي فتحها عمر، وهي سواد
العراق. فلما فتحت بعث عمر عمار بن ياسر أميرا، وابن مسعود قاضيا وواليا على
بيت المال، وعثمان بن حنيف ماسحا فمسح عثمان الأرض. واختلفوا في مبلغها فقال
البياجي (الساجي خ. ل): اثنان وثلاثون ألف ألف جريب. وقال أبو عبيدة:
ستة ثلاثون ألف ألف جريب. وهي ما بين عبادان والموصل طولا، وبين
القادسية حلوان عرضا. ثم ضرب على كل جريب نخل ثمانية دراهم، والرطبة
ستة، الشجر كذلك، والحنطة أربعة، والشعير درهمين. وكتب إلى عمر فأمضاه. وروي
أن ارتفاعها كان في عهد عمر مأة وستين ألف ألف درهم، فلما كان في زمن الحجاج
رجع إلى ثمانية عشر ألف ألف درهم، فلما ولي عمر بن عبد العزيز رجع إلى ثلاثين
ألف ألف درهم في أول سنة، وفي الثانية بلغ ستين ألف ألف، فقال: لو عشت سنة
أخرى لرددتها إلى ما كان في أيام عمر، فمات تلك السنة. وكذلك أمير المؤمنين (عليه السلام)
لما أفضي الأمر إليه أمضى ذلك، لأنه لم يمكنه أن يخالف ويحكم بما يجب عنده فيه.
والذي يقتضيه المذهب أن هذه الأراضي وغيرها من البلاد التي فتحت عنوة أن
يكون خمسها لأهل الخمس وأربعة أخماسها يكون للمسلمين قاطبة: للغانمين وغير
185

الغانمين في ذلك سواء. ويكون للإمام النظر فيها وتقبيلها وتضمينها بما شاء،
ويأخذ ارتفاعها ويصرفه في مصالح المسلمين وما ينوبهم من سد الثغور ومعونة
المجاهدين وبناء القناطر وغير ذلك من المصالح. وليس للغانمين في هذه الأرضين
خصوصا شيء بل هم والمسلمون فيها سواء.
ولا يصح بيع شيء من هذه الأرضين ولا هبته ولا معاوضته ولا تمليكه
ولا وقفه لا رهنه ولا إجارته ولا إرثه.
ولا يصح أن يبنى دورا ومنازل ومساجد وسقايات ولا غير ذلك من أنواع
التصرف الذي يتبع الملك. ومتى فعل شيء من ذلك كان التصرف باطلا وهو باق على
الأصل. وعلى الرواية التي رواها أصحابنا: " أن كل عسكر أو فرقة غزت بغير أمر
الإمام فغنمت يكون الغنيمة للإمام خاصة " هذه الأرضون وغيرها مما فتحت بعد
الرسول إلا ما فتحت في أيام أمير المؤمنين (عليه السلام) إن صح شيء من ذلك تكون للإمام
خاصة وتكون من جملة الأنفال التي له خاصة لا يشركه فيها غيره. " (1)
أقول: لم يفصل الشيخ - قدس سره - في عباراته الثلاث بين المحياة من أراضيهم
وقت الفتح والموات منها، ولكن الظاهر كما يأتي اختصاص الحكم بالمحياة منها
وقت الفتح، إذ الموات ليس ملكا للكفار حتى يغنم منهم، اللهم إلا أن يقال: إن الموات
منها أيضا يكون تحت استيلاء دولة الكفر، فيشمله عموم ما أخذت بالسيف المذكور
في بعض أخبار الباب. وفي موضع آخر من جهاد المبسوط فرق بين المحياة وقت
الفتح والموات، فقال:
" وأما الأرضون المحياة فهي للمسلمين قاطبة، وللإمام النظر فيها... فأما الموات
فإنها لا تغنم وهي للإمام خاصة، فإن أحياها أحد من المسلمين كان أولى بالتصرف
فيها ويكون للإمام طسقها. " (2)
ولم يفرق الشيخ بين المحياة قبل نزول آية الأنفال والمحياة بعده، وهو الحق

1 - المبسوط 2 / 33.
2 - المبسوط 2 / 29.
186

وسيأتي البحث فيه.
وما نقله عن أبي عبيده في مقدار أراضي السواد يحتمل فيه كون أبي عبيدة
مصحف أبي عبيد; ففي كتاب الأموال لأبي عبيد بسنده، عن الشعبي:
" أن عمر بعث عثمان بن حنيف فمسح السواد فوجده ستة وثلاثين ألف ألف
جريب. " (1)
وقوله: " ولا يصح أن يبنى دورا ومنازل... "، أراد به لا محالة الاستبداد بالتصرف
فيها بدون إذن الإمام أو الاستيجار منه.
وما ذكره أخيرا في المبسوط مبني على عدم إذن أمير المؤمنين (عليه السلام) للغزوات التي
وقعت في عصره بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) القول بشمول الرواية التي أشار إليها للأرضين أيضا،
وسيأتي الكلام في ذلك.
4 - وقال العلامة في المنتهى:
" الأرضون أربعة أقسام: أحدها ما يملك بالاستغنام ويؤخذ قهرا بالسيف، فإنها
تكون للمسلمين قاطبة فلا يختص بها المقاتلة، بل يشاركهم غير المقاتلة من
المسلمين. وكما لا يختصون بها كذلك لا يفضلون، بل هي للمسلمين قاطبة. ذهب إليه
علماؤنا أجمع، وبه قال مالك. وقال الشافعي: إنها تقسم بين الغانمين كسائر
الأموال... " (2)
5 - وفيه أيضا:
" أرض السواد هي الأرض المغنومة من الفرس، التي فتحها عمر بن الخطاب، هي
سواد العراق. وحده في العرض من منقطع الجبال بحلوان إلى طرف القادسية المتصل
بعذيب من أرض العرب، ومن تخوم الموصل طولا إلى ساحل البحر ببلاد عبادان من
شرقي دجلة. فأما الغربي الذي يليه البصرة فإنما هو إسلامي مثل شط عثمان بن أبي
العاص. وما والاها كانت سباخا ومواتا فأحياها عثمان بن أبي العاص. وسميت هذه
الأرض سوادا لأن الجيش لما خرجوا من البادية ورأوا هذه

1 - الأموال / 88.
2 - المنتهى 2 / 934.
187

الأرض والتفاف شجرها سموها السواد لذلك. وهذه الأرض فتحت عنوة فتحها
عمر بن الخطاب ثم بعث إليها بعد فتحها ثلاثة أنفس: عمار بن ياسر على صلاتهم
أميرا، وابن مسعود قاضيا وواليا على بيت المال، وعثمان بن حنيف على مساحة
الأرض، وفرض لهم في كل يوم شاة: شطرها مع السواقط لعمار، وشطرها للآخرين.
وقال: ما أرى قرية يؤخذ منها كل يوم شاة إلا سريع في خرابها... " (1)
6 - وفي جهاد الشرائع:
" كل أرض فتحت عنوة وكانت محياة فهي للمسلمين قاطبة، والغانمون في الجملة.
والنظر فيها إلى الإمام، ولا يملكها المتصرف على الخصوص، ولا يصح بيعها لا هبتها
ولا وقفها، ويصرف الإمام حاصلها في المصالح مثل سد الثغور ومعونة الغزاة وبناء
القناطر. " (2)
7 - وفي الجواهر في شرح الجملتين الأوليين قال:
" بلا خلاف أجده في شيء من ذلك بيننا... بل في الغنيمة والمنتهى وقاطعة اللجاج
للكركي والرياض وموضعين من الخلاف بل والتذكرة على ما حكى عن بعضها
الإجماع عليه بل هو محصل. " (3)
8 - وفي خراج أبي يوسف:
" قال أبو يوسف: وحدثني بعض مشايخنا عن يزيد بن أبي حبيب أن عمر كتب إلى
سعد حين افتتح العراق: أما بعد، فقد بلغني كتابك، تذكر فيه أن الناس سألوك أن تقسم
بينهم مغانمهم وما أفاء الله عليهم. فإذا أتاك كتابي هذا فانظر ما أجلب الناس عليك به
إلى العسكر من كراع ومال فاقسمه بين من حضر من المسلمين، واترك
الأرضين الأنهار لعمالها ليكون ذلك في أعطيات المسلمين، فإنك إن قسمتها بين من
حضر لم يكن لمن بعد هم شيء...
قال أبو يوسف: وحدثني غير واحد من علماء أهل المدينة، قالوا: لما قدم على

1 - المنتهى 2 / 937.
2 - الشرائع 1 / 322 (= ط. أخرى / 245).
3 - الجواهر 21 / 157.
188

عمر بن الخطاب جيش العراق من قبل سعد بن أبي وقاص شاور أصحاب محمد
بن تدوين الدواوين...
وشاورهم في قسمة الأرضين التي أفاء الله على المسلمين من أرض
العراق الشام، فتكلم قوم فيها وأرادوا أن يقسم لهم حقوقهم وما فتحوا. فقال عمر:
فكيف بمن يأتي من المسلمين فيجدون الأرض بعلوجها قد اقتسمت وورثت عن
الآباء وحيزت؟ ما هذا برأي... فإذا قسمت أرض العراق بعلوجها وأرض الشام
بعلوجها فما يسد به الثغور، وما يكون للذرية والأرامل بهذا البلد وبغيره من أرض
الشام والعراق؟ فأكثروا على عمرو قالوا: أتقف ما أفاء الله علينا بأسيافنا على قوم لم
يحضروا ولم يشهدوا...
ورأى عثمان وعلى وطلحة وابن عمر رأي عمر. فأرسل إلى عشرة من الأنصار:
خمسة من الأوس وخمسة من الخزرج من كبرائهم وأشرافهم، فلما اجتمعوا حمد الله
وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال:... وقد رأيت أن أحبس الأرضين بعلوجها وأضع
عليهم فيها الخراج وفي رقابهم الجزية يؤدونها فتكون فيئا للمسلمين: المقاتلة
والذرية ولمن يأتي من بعدهم. أرأيتم هذه الثغور لابد لها من رجال يلزمونها، أرأيتم
هذه المدن العظام - كالشام والجزيرة والكوفة والبصرة ومصر - لابد لها من أن تشحن
بالجيوش وإدرار العطاء عليهم، فمن أين يعطى هؤلاء إذا قسمت الأرضون والعلوج؟
فقالوا جميعا: الرأي رأيك، فنعم ما قلت وما رأيت، إن لم تشحن هذه الثغور وهذه
المدن بالرجال وتجري عليهم ما يتقوون به رجع أهل الكفر إلى مدنهم. فقال: قد بان
لي الأمر رجل له جزالة وعقل يضع الأرض مواضعها، ويضع على العلوج
ما يحتملون؟ فاجتمعوا له على عثمان بن حنيف وقالوا: تبعثه إلى أهم ذلك، فإن له
بصرا وعقلا وتجربة، فأسرع إليه عمر فولاه مساحة أرض السواد، فأدت جباية سواد
الكوفة قبل أن يموت عمر بعام مأة ألف ألف درهم. والدرهم يومئذ درهم
ودانقان نصف، وكان وزن الدرهم يومئذ وزن المثقال... " (1)

1 - الخراج / 24 - 26.
189

9 - وفي كتاب الخراج أيضا:
" وحدثني محمد بن إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن عمر بن الخطاب أنه أراد
أن يقسم السواد بين المسلمين فأمر بهم أن يحصوا، فوجد الرجل يصيب
الاثنين الثلاثة من الفلاحين، فشاور أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال على: " دعهم يكونوا
مادة للمسلمين. " فبعث عثمان بن حنيف فوضع عليهم ثمانية وأربعين درهما، وأربعة
وعشرين درهما، واثني عشر درهما. " (1)
وفي كتاب الأموال لأبي عبيد عن إسماعيل بن جعفر، عن إسرائيل، عن ابن
إسحاق نحو ذلك، فراجع. (2)
10 - وفي تاريخ اليعقوبي:
" وشاور عمر أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في سواد الكوفة قال له بعضهم: تقسمها
بيننا، فشاور عليا (عليه السلام) فقال: " إن قسمتها اليوم لم يكن لمن يجيء بعدنا شيء، ولكن
تقرها في أيديهم يعلمونها فتكون لنا ولمن بعدنا. " فقال: وفقك الله، هذا الرأي. " (3)
أقول: ظاهر هذه القصة تعرض لها أبو يوسف وأبو عبيد وغير هما باختلاف في
بعض الجزئيات هو أن حفظ الأرض المفتوحة عنوة لمستقبل المسلمين وعدم
تقسيمها بين المقاتلين كان أمرا خاصا اقترحه عمر في خصوص ما افتتح في عصره،
واستشار أمير المؤمنين وأعاظم الصحابة في ذلك فصوبوا رأيه، أو رأيا ألقاه
أمير المؤمنين (عليه السلام) فصوبه عمر.
فيستفاد من ذلك أن الأراضي تكون تحت اختيار إمام المسلمين ولكن الظاهر من
فتاوى فقهائنا ومن الأخبار الكثيرة الآتية أن إبقاءها للمسلمين كان حكما إلهيا كليا
أو حكما سلطانيا كليا نافذا في جميع الأعصار لجميع الأراضي التي فتحت أو تفتح
في كل عصر. وبين الأمرين فرق ظاهر، كما لا يخفى. إذ لو كان

1 - الخراج / 36.
2 - الأموال / 74.
3 - تاريخ اليعقوبي 2 / 129.
190

حكما كليا ثابتا لم يحتج إلى الشور والنظر. هذا.
11 - وفي كتاب الأموال أيضا بسنده، عن أبي مجلز - لا حق بن حميد -:
" أن عمر بن الخطاب بعث عمار بن ياسر إلى أهل الكوفة على صلاتهم وجيوشهم،
وعبد الله بن مسعود على قضائهم وبيت مالهم، وعثمان بن حنيف على مساحة
الأرض، ثم فرض لهم في كل يوم شاة بينهم. قال: أو قال: جعل لهم في كل يوم شاة:
شطرها وسواقطها لعمار، والشطر الآخر بين هذين، ثم قال: ما أرى قرية يؤخذ منها
كل يوم شاة إلا سريعا في خرابها... " (1)
أقول: السواقط، يراد به مثل الكبد والكرش وأمثالها. قيل: ويظهر بذلك أن عمارا
كان أكثر عيالا من صاحبيه، فخصه عمر بنصف الشاة وسواقطها. هذا.
ولا حظ كيف استكثر عمر شاة واحدة على أهل ثلاثة بيوت كان يمثلون الهيئة
الحاكمة على مدينة كبيرة مثل الكوفة وتوابعها. وعليك بالمقايسة بين هذا وبين
الاسرافات والتبذيرات التي ربما ترتكب في أعصارنا في قاعات الحكام ودوائرهم.
12 - وفي كتاب الأموال أيضا:
" قال أبو عبيد: وجدنا الآثار عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والخلفة بعده قد جاءت في
افتتاح الأرضين بثلاثة أحكام: أرض أسلم عليها أهلها، فهي لهم ملك أيمانهم، وهي
أرض عشر لا شيء عليهم فيها غيره. وأرض افتتحت صلحا على خرج معلوم. فهم
على ما صولحوا عليه لا يلزمهم أكثر منه. وأرض أخذت عنوة، فهي التي اختلفت فيها
المسلمون: فقال بعضهم: سبيلها سبيل الغنيمة فتخمس وتقسم فيكون أربعة أخماسها
خططا بين الذين افتتحوها خاصة، ويكون الخمس الباقي لمن سمى الله - تبارك
تعالى - وقال بعضهم: بل حكمها والنظر فيها إلى الإمام: إن رأى أن يجعلها غنيمة
فيخمسها ويقسمها كما فعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بخيبر، فذلك له. وإن رأى أن يجعلها فيئا
فلا يخمسها ولا يقسمها ولكن تكون موقوفة على المسلمين عامة

1 - الأموال / 86.
191

ما بقوا، كما صنع عمر بالسواد، فعل ذلك. " (1)
13 - وفيه أيضا بإسناده، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال:
" سمعت عمر يقول: لولا آخر الناس ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خيبر. " (2)
ورواه البخاري أيضا (3). وراجع في أحكام الأراضي الماوردي أيضا (4).
ما ورد من الروايات في الأراضي المفتوحة عنوة وحكم بيعها وشرائها:
1 - ما عن الكليني، عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي
بن أحمد بن أشيم، عن صفوان بن يحيى وأحمد بن محمد بن أبي نصر جميعا قالا:
" ذكرنا له الكوفة وما وضع عليها من الخراج وما سار فيها أهل بيته. فقال: من أسلم
طوعا تركت أرضه في يده وأخذ منه العشر مما سقت السماء والأنهار، ونصف العشر
مما كان بالرشا فيما عمروه منها.
وما لم يعمروه منها أخذه الإمام فقبله ممن يعمره وكان للمسلمين. وعلى المتقبلين
في حصصهم سوادها وبياضها - يعني أرضها ونخلها -، والناس يقولون: لا يصلح قبالة
الأرض والنخل، وقد قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خيبر. وعلى المتقبلين سوى قبالة الأرض
العشر ونصف العشر في حصصهم.
وقال: إن أهل الطائف أسلموا وجعلوا عليهم العشر ونصف العشر، وإن مكة دخلها

1 - الأموال / 69.
2 - الأموال / 71.
3 - صحيح البخاري 2 / 193، كتاب الجهاد والسير، باب الغنيمة لمن شهد الوقعة.
4 - الأحكام السلطانية / 146 وما بعدها.
192

رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنوة فكانوا أسراء في يده فأعتقهم وقال: اذهبوا، فأنتم
الطلقاء. " (1)
أقول: لا يخفى أن صفوان بن يحيى وأحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي كليهما
من أعاظم أصحاب الرضا (عليه السلام)، فالضمير المجرور عائد إليه (عليه السلام) ظاهرا، كما يشهد بذلك
الرواية الآتية التي يقرب جدا اتحادها مع هذه الرواية.
ولا إشكال في رجال الحديث إلا في علي بن أحمد بن أشيم، حيث عدة الشيخ
في أصحاب الرضا (عليه السلام) وقال: إنه مجهول. (2)
ولكن العلامة المجلسي في مرآة العقول (3) صحح الحديث. وقال العلامة الوحيد
البهبهاني في تعليقته على منهج المقال:
" حكم خالي العلامة بحسنه، لوجود طريق للصدوق إليه، والرواية عنه
كثيرة. يؤيده رواية أحمد بن محمد بن عيسى عنه. " (4) هذا.
والأراضي المفتوحة عنوة كانت تسمى أراضي خراجية. والخراج والمقاسمة كانا
يطلقان على الطسق الذي كان يؤخذ منها: فإن كان التقبيل بمال معين بنحو الإجارة
سمي خراجا، وإن كان بسهم مشاع من عائدة الأرض بنحو المزارعة سمي
مقاسمة. ربما أطلق على كليهما الخراج.
وقد كان خراج الأراضي الخراجية من أهم المنابع المالية للحكومة الإسلامية
على ما يشهد به التواريخ، فراجع.
والظاهر أن المراد بقوله (عليه السلام): " وما لم يعمروه منها "، هو الموات من الأراضي، يأتي
أنه يعد من الأنفال التي تكون للإمام بما هو إمام. فقوله (عليه السلام): " وكان للمسلمين " أقوى
شاهد على ما نصر عليه من عدم تفاوت أساسي بين الأرض المفتوحة عنوة وأرض

1 - الكافي 3 / 513، كتاب الزكاة، باب أقل ما يجب فيه من الحرث، الحديث 2; والوسائل
11 / 119، الباب 72 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
2 - رجال الشيخ / 384.
3 - مرآة العقول 16 / 26 (ط. القديم 3 / 187).
4 - راجع التعليقة (المطبوعة بهامش منهج المقال) / 225; وراجع أيضا تنقيح المقال 2 / 265.
193

النفل، وأن كليهما من الأموال العامة المتعلقة بالمسلمين، وأن المتولي لهما
والمتصدي للتصرف فيهما هو الإمام بما أنه إمام وممثل للمجتمع، وعليه أن يراعي في
ذلك مصالح المسلمين ويصرف الخراج فيما يصلحهم.
وكما يكون للإمام تقبيل الأراضي المفتوحة عنوة وأخذ الطسق منها يجوز له ذلك
في أرض الموات أيضا، كما دلت عليه صحيحة أبي خالد الكابلي وغيرها. نعم، يجوز
له تحليلها لمن أحياها أيضا إذا رآه صلاحا، وسيأتي تفصيل ذلك في مبحث الأنفال،
فانتظر.
ويطلق على هذا السنخ من الأموال المتعلقة بالمجتمع مال الله ومال الإمام ومال
المسلمين، ومآل الجميع واحد. هذا.
والشيخ الطوسي وأكثر الفقهاء حملوا قوله: " وما لم يعمروه منها " في الحديث على
ما كان ملكا لمن أسلم، بالإحياء أو غيره ثم ترك عمرانها، واختلفوا في حكمها فقال
الشيخ في زكاة المبسوط إن الإمام يقبلها ممن يعمرها ويعطي صاحب الرقبة طسقها.
وقال ابن حمزة إنها صارت للمسلمين، أي بحكم الموات التي يأخذ الإمام طسقها
للمسلمين. وقال ابن إدريس إنه لا يجوز التصرف فيها بغير إذن صاحبها، فراجع جهاد
المختلف. (1)
والمتبادر من قوله: " وما أخذ بالسيف "، المحياة من أراضيهم لا مطلق الأراضي إن
توهم. وهل يراد به طبيعة ما أخذ بالسيف بإطلاقها، أو يكون إشارة إلى خصوص
ما أخذ بالسيف من أراضي الكوفة وسواد العراق المذكورة في السؤال؟ لعل الأظهر
هو الأول.
وقوله: " والناس يقولون: لا تصلح قبالة الأرض والنخل "، إشارة إلى منع أبي
حنيفة للمساقاة، ومنع مالك وأبي حنيفة والشافعي للمزارعة أيضا، والإمام (عليه السلام) استدل
بعمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على صحة كلا العقدين.
وقد تعرض في الحديث لفتح مكة عنوة وأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أعتق أهلها، فهل من
عليهم بأراضيها أيضا أو أنه أبقاها للمسلمين؟ قد مر من المبسوط قوله: " وإنما

1 - المختلف 1 / 332، عن المبسوط 1 / 235; والجوامع الفقهية / 717 (= ط. أخرى
681); السرائر / 110.
194

لم يقسم الأرضين والدور لأنها لجميع المسلمين، كما نقوله في كل ما يفتح
عنوة. " (1)
ولكنه من المحتمل أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) من عليهم بها أيضا. وعليه فلا يتعين إبقاء الأراضي
المفتوحة عنوة للمسلمين بل تكون تحت اختيار الإمام كسائر الغنائم كما مر، والإبقاء
أحد شقوق اختياره، فتدبر.
2 - ما عن الشيخ بإسناده، عن أحمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر،
قال: ذكرت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام) الخراج وما سار به أهل بيته، فقال: " العشر ونصف
العشر على من أسلم طوعا، تركت أرضه في يده وأخذ منه العشر ونصف العشر فيما
عمر منها، وما لم يعمر منها أخذه الوالي فقبله ممن يعمره وكان للمسلمين. وليس فيما
كان أقل من خمسة أوساق شيء. وما أخذ بالسيف فذلك إلى الإمام يقبله بالذي يرى،
كما صنع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بخيبر: قبل أرضها ونخلها. والناس يقولون: لا تصلح قبالة
الأرض والنخل إذا كان البياض أكثر من السواد، وقد قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خيبر عليهم
في حصصهم العشر ونصف العشر. " (2)
أقول: من اتحاد الراوي والمروي عنه والمضمون ربما يحدث اتحاد
الروايتين. السند في هذه الرواية وإن كان بحسب الظاهر صحيحا ولكن يحتمل جدا
سقوط ابن أشيم من سندها، فيأتي فيها ما مر من السابقة، فتدبر.
وكيف كان فالروايتان ظاهرتان في عدم تقسيم الأراضي المفتوحة عنوة بل
وجوب إبقائها للمسلمين.
3 - مرسلة حماد الطويلة التي رواها الكليني والشيخ: ففي أواخر كتاب الحجة من
أصول الكافي: على بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن بعض
أصحابنا، عن العبد الصالح (عليه السلام)، قال: "... وليس لمن قاتل شيء من
الأرضين لا ما غلبوا عليه إلا ما احتوى عليه العسكر...
والأرضون التي أخذت عنوة بخيل ورجال فهي موقوفة متروكة في يد من
يعمرها ويحييها ويقوم

1 - المبسوط 2 / 33.
2 - الوسائل 11 / 120، الباب 72 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
195

عليها، على ما يصالحهم الوالي على قدر طاقتهم من الحق: النصف أو الثلث أو
الثلثين، وعلى قدر ما يكون لهم صلاحا ولا يضرهم. فإذا أخرج منها ما أخرج بدأ
فأخرج منه العشر من الجميع مما سقت السماء أو سقي سيحا، نصف العشر مما سقي
بالدوالي والنواضح، فأخذه الوالي فوجهه في الجهة التي وجهها الله على ثمانية
أسهم...
ويؤخذ بعد ما بقي من العشر فيقسم بين الوالي وبين شركائه الذين هم عمال
الأرض وأكرتها، فيدفع إليهم أنصباؤهم على ما صالحهم عليه. ويؤخذ الباقي فيكون
بعد ذلك أرزاق أعوانه على دين الله وفي مصلحة ما ينوبه من تقوية الإسلام وتقوية
الذين في وجوه الجهاد وغير ذلك مما فيه مصلحة العامة، ليس لنفسه من ذلك
قليل لا كثير. " (1)
أقول: العنوة: الخضوع والذل، ومنه قوله - تعالى -: " وعنت الوجوه للحي
القيوم. " (2) والمراد كون الفتح بالقهر وإخضاع الطرف. وهذه المرسلة قد عمل بها
الأصحاب في الأبواب المختلفة. وحماد من أصحاب الإجماع الذين أجمع
الأصحاب على تصحيح ما يصح عنهم. والتعبير عن الشخص المبهم ببعض أصحابنا
يشعر بنحو إجلال له، فلعل الرواية مع إرسالها لا تنقص عن رواية حسنة. والدلالة
على المقصود واضحة.
وقوله (عليه السلام): " ليس لنفسه من ذلك قليل ولا كثير "، فالظاهر أنه لا يراد به إلا تأكيد
كون الأرضين لجميع المسلمين وأنه تصرف عوائدها في مصالحهم، دفعا لتوهم كون
بعضها ملكا لشخص الإمام. وعلى هذا فلا يدل على منع استفادة شخصه منها إذا
فرض احتياجه إليها، حيث إن سد خلات الإمام وعائلته من أهم مصالح العامة.
ويشهد لذلك الروايات المستفيضة الدالة على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صرف من عوائد
خيبر في مصارف نفسه وأزواجه. وخيبر فتحت عنوة.
فمن هذه الروايات ما رواه أبو داود في السنن بسنده، عن بشير بن يسار: " أن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما أفاء الله عليه خيبر قسمها ستة وثلاثين سهما جمع: فعزل للمسلمين الشطر

1 - الكافي 1 / 539، كتاب الحجة، باب الفيء والأنفال...، الحديث 4.
2 - سورة طه (20)، الآية 111.
196

ثمانية عشر سهما يجمع كل سهم مأة، النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) معهم له سهم كسهم أحدهم. الحديث. " (1)
فراجع السنن والأموال لأبي عبيد (2) وغير هما.
وقد يناقش في المرسلة بأن الظاهر منها كون التقبيل بنحو المزارعة والشركة في
العوائد وقد حكم فيها بتقديم الزكاة على تقسيم العوائد، مع أن المحقق عندنا أن
النصاب في المال المشترك يراعى بعد التقسيم لاعتباره في نصيب كل واحد
منهما. يدل على ذلك خبر صفوان والبزنطي أيضا. اللهم إلا أن يحمل ما في المرسلة
على الغالب من كون نصيب كل منهما يبلغ النصاب. هذا. مع أن الظاهر أن حق الإمام
لا يتعلق به زكاة، إذ الزكاة إنما تتعلق بأموال الناس بنفع بيت المال، فتدبر.
4 - صحيحة محمد الحلبي، قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن السواد ما منزلته؟ فقال:
" هو لجميع المسلمين: لمن هو اليوم، ولمن يدخل في الإسلام بعد اليوم، ولمن لم
يخلق بعد. " فقلت: الشراء من الدهاقين؟ قال: " لا يصلح، إلا أن يشتري منهم على أن
يصيرها للمسلمين، فإذا شاء ولي الأمر أن يأخذها أخذها. " قلت: فإن أخذها منه؟
قال: " يرد عليه رأس ما له وله ما أكل من غلتها بما عمل. " (3)
أقول: المراد بالسواد أرض العراق، كما مر. والظاهر أن المقصود من ذيل الحديث
عدم اشتراء رقبة الأرض، ولكن يجوز اشتراء حق الزارع فيها من بناء أو مرز أو
غيرها، ولا أقل من حق اختصاصه بها، وينتقل حق المسلمين إلى عهدته.
5 - رواية أبي الربيع الشامي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " لا تشتر من أرض السواد
(أراضي أهل السواد خ. ل) شيئا إلا من كانت له ذمة، فإنما هو فيء للمسلمين. " (4)
والمراد أنه لا يجوز اشتراؤها إلا لمن تقبل الخراج على ذمته، أو أنه لا يناسب
اشتراؤه لغير أهل الذمة، حيث إنه كان يعد ذلك عيبا في تلك الأعصار، كما

1 - سنن أبي داود 2 / 143، كتاب الخراج والفئ والإمارة، باب ما جاء في حكم أرض خيبر.
2 - الأموال / 71.
3 - الوسائل 12 / 247، الباب 21 من أبواب عقد البيع وشروطه، الحديث 4.
4 - الوسائل 12 / 274، الباب 21 من أبواب عقد البيع وشروطه، الحديث 5.
197

يشهد به الخبر التالي، أو أن أهل الذمة كانت تترك أراضيهم لهم لقبولهم الجزية
فيجوز شراؤها منهم، فتأمل.
6 - خبر محمد بن شريح، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن شراء الأرض من أرض
الخراج، فكرهه وقال: " إنما أرض الخراج للمسلمين. " فقالوا له: فإنه يشتريها الرجل
وعليه خراجها؟ فقال: " لا بأس، إلا أن يستحي من عيب ذلك. " (1)
7 - رواية أبي بردة بن رجاء، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): كيف ترى في شراء
أرض الخراج؟ قال: " ومن يبيع ذلك، هي أرض المسلمين؟ " قال: قلت: يبيعها الذي
هي في يده. قال: " ويصنع بخراج المسلمين ماذا؟ " ثم قال: " لا بأس، اشترى حقه
منها ويحول حق المسلمين عليه، ولعله يكون أقوى عليها وأملى بخراجهم منه. " (2)
أقول: في الوسائل والتهذيب والاستبصار أبو بردة بن رجاء، وليس منه اسم في
كتب الرجال. وفي رجال الشيخ في أصحاب الصادق (عليه السلام): " بردة بن رجاء. " (3) ولم
يذكر في الرجال بمدح ولا قدح، فهو مجهول. نعم يمكن أن يكون نقل صفوان عنه في
الحديث جابرا لضعفه.
وقوله: " اشترى حقه فيها " يحتمل أن يراد به حق البائع في الأرض، ويحتمل أن
يراد حق المشتري من جهة أن لكل مسلم حقا فيها، كما يظهر من بعض الأخبار
الآتية.
وهل يكون أرض الجزية وأرض الخراج في روايات الباب إشارة إلى أراضي خاصة
كان عليها الخراج في تلك الأعصار كأرض السواد مثلا، أو يراد بهما طبيعة الأرض
المفتوحة عنوة بإطلاقها في أي عصر فتحت؟ كل محتمل. وقد مر تطرق الاحتمالين في
خبري صفوان والبزنطي أيضا. نعم ظاهر مرسلة حماد هو الاحتمال الثاني.
وقد عرفت أنه يحتمل أن يكون الحكم بكون الأراضي المفتوحة عنوة للمسلمين

1 - الوسائل 12 / 275، الباب 21 من أبواب عقد البيع وشروطه، الحديث 9.
2 - الوسائل 11 / 118، الباب 71 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1. عن التهذيب
4 / 146، الاستبصار 3 / 109.
3 - رجال الشيخ / 159.
198

حكما كليا إلهيا أو سلطانيا كليا ثابتا، كما يحتمل أن يكون الحكم فيها هو أنها في
اختيار الإمام في كل عصر، وإبقاؤها للمسلمين يكون أحد شقوق اختياره، كما هو
المستفاد من قصة صنع الخليفة الثاني في أرض السواد وتصويب أمير المؤمنين (عليه السلام) له
كما مر. نعم، ظاهر أصحابنا الإجماع على الأول، فتدبر.
8 - موثقة محمد بن مسلم، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الشراء من أرض
اليهود والنصارى؟ فقال: " ليس به بأس، قد ظهر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على أهل خيبر
فخارجهم على أن يترك الأرض في أيديهم يعلمونها ويعمرونها، فلا أرى بها بأسا لو
أنك اشتريت منها شيئا. وأيما قوم أحيوا شيئا من الأرض وعملوها فهم أحق بها وهي
لهم. " (1)
أقول: الظاهر أن منشأ السؤال أن أراضي اليهود والنصارى لم تكن لأنفسهم بل
للمسلمين وهم كانوا زراعها وأكرتها. وأراضي خيبر كانت كذلك، لأنها فتحت عنوة،
فمتعلق الاشتراء فيها لا محالة لم يكن رقبتها بل حق الإحياء الثابت لليهود فيها
بالنسبة إلى ما حصل بعد الفتح.
ويستفاد من هذا الحديث أمران ينبغي الالتفات اليهما:
الأول: أن الإحياء يوجب الأحقية ولو كان المحيي غير مسلم، وهو الذي يقتضيه
الطبع أيضا، حيث إن حياة الأرض محصول عمل المحيى، وعمله محصول فكره قواه،
والإنسان مالك لفكره وقواه تكوينا فيملك محصولها أيضا، إذ نظام التشريع الصحيح
تابع لنظام التكوين.
الثاني: ما يأتي منا في محله من أن إحياء الأرض لا يستلزم ملكية الرقبة، وإنما
يستلزم ملكية ما صدر عن المحيي، وهو حيثية الإحياء والعمران فقط. ويستفاد هذا
المعنى من تطبيق الإمام (عليه السلام) قوله: " وأيما قوم أحيوا... " على أرض خيبر، مع أن
رقبتها خرجت عن ملك اليهود بالاغتنام. وعلى هذا فالاستدلال بهذا التعبير على
ملكية الرقبة محل نظر وإشكال، فتدبر.

1 - الوسائل 11 / 118، الباب 71 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
199

9 - صحيحة محمد بن مسلم، قال: سألته عن شراء أرضهم، فقال: " لا بأس أن
تشتريها، فتكون إذا كان ذلك بمنزلتهم تؤدي فيها كما يؤدون فيها. " (1)
10 - صحيحته الأخرى، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: سألته عن شراء أرض أهل الذمة
فقال: " لا باس فتكون إذا كان ذلك بمنزلتهم تؤدي عنها كما يؤدون. " (2)
ونحو ذلك موثقة محمد بن مسلم وعمر بن حنظلة، عن أبي عبد الله (عليه السلام). (3)
11 - خبر إبراهيم بن أبي زياد، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الشراء من أرض
الجزية، قال: فقال: " اشترها، فإن لك من الحق ما هو أكثر من ذلك. " (4)
12 - خبر محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام)، والساباطي وزرارة، عن أبي
عبد الله (عليه السلام) أنهم سألوهما عن شراء أرض الدهاقين من أرض الجزية، فقال: " إنه إذا
كان ذلك انتزعت منك أو تؤدي عنها ما عليها من الخراج؟ " قال عمار: ثم أقبل على
فقال: " اشترها فإن لك من الحق ما هو أكثر من ذلك. " (5)
13 - خبر إسماعيل بن الفضل الهاشمي، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل
اشترى (اكترى خ. ل) أرضا من أرض أهل الذمة من الخراج وأهلها كارهون، وإنما
يقبلها من السلطان لعجز أهلها أو غير عجز؟ فقال: " إذا عجز أربابها عنها فلك أن
تأخذها إلا أن يضاروا، وإن أعطيتهم شيئا فسخت أنفس أهلها لكم فخذوها. "
قال: سألته عن رجل اشترى أرضا من أرض الخراج فبنى بها أو لم يبن غير أن أناسا
من أهل الذمة نزلوها، له أن يأخذ منهم أجرة البيوت إذا أدوا جزية

1 - الوسائل 12 / 275، الباب 21 من أبواب عقد البيع وشروطه، الحديث 7.
2 - الوسائل 12 / 275، الباب 21 من أبواب عقد البيع وشروطه، الحديث 8.
3 - راجع الوسائل 11 / 119، الباب 71 من أبواب جهاد العدو، الحديث 3.
4 - الوسائل 11 / 119، الباب 71 من أبواب جهاد العدو، الحديث 4.
5 - الوسائل 12 / 274، الباب 21 من أبواب عقد البيع وشروطه، الحديث 1.
200

رؤوسهم؟ قال: " يشارطهم، فما أخذ بعد الشرط فهو حلال. " (1)
14 - ما عن الجعفريات، بسنده، عن على (عليه السلام)، قال: " لا تشتر من عقار أهل
الذمة لا من أرضهم شيئا، لأنه فيء المسلمين. " (2)
إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في هذا المجال، فراجع.
والمستفاد من هذه الأخبار أن الأرض المفتوحة عنوة لا تقسم بين المقاتلين، بل
تكون لجميع المسلمين ويجب أن تبقى عدة لهم وتكون في اختيار الإمام ولا يجوز
بيع ولا اشتراء رقبتها، نعم يجوز نقل الآثار المحدثة فيها والحق المتعلق بها لكل
متصرف مع التزام المشتري بخراجها، وعلى هذا استقرت فتاوى أصحابنا وحكي
عليه إجماعهم.
فإن قلت: نعم، ولكن ينافي هذا أولا إطلاق آية الغنيمة، حيث إن ظاهرها تخميس
الغنيمة مطلقا وكون البقية للغانمين كالأموال المنقولة. وثانيا ما هو المأثور من سيرة
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في تقسيم غنائم خيبر:
ففي سيرة ابن هشام:
" قال ابن إسحاق، وكانت المقاسم على أموال خيبر على الشق ونطاة والكتيبة،
فكانت الشق ونطاة في سهمان المسلمين، وكانت الكتيبة خمس الله وسهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وسهم ذوي القربى واليتامى والمساكين (وابن السبيل - الطبري) وطعم أزواج
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) طعم رجال مشوا بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين أهل فدك بالصلح... فأخبرني
ابن شهاب أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) افتتح خيبر عنوة بعد القتال، وكانت خيبر مما أفاء الله
على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خمسها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقسمها بين المسلمين. " (3)

1 - الوسائل 12 / 275، الباب 21 من أبواب عقد البيع وشروطه، الحديث 10.
2 - مستدرك الوسائل 2 / 462، الباب 13 من أبواب عقد البيع وشروطه، الحديث 1.
3 - سيرة ابن هشام 3 / 363 و 371.
201

وروى صدر الحديث الطبري أيضا. (1) وروى خبر ابن شهاب أبو عبيد (2) أيضا.
قلت: أما آية الغنيمة فيجاب عنها أولا بأن تخميس الغنيمة لا يدل على كون الباقي
لخصوص المقاتلين. وثانيا بأن المطلق صالح للتقييد، فلا يقاوم الأخبار التي
مرت. ثالثا بأن الخطاب في الآية متوجه إلى كل من غنم بشخصه بكسب أو باغتنام
في حرب أو نحوهما. فإذا فرض دلالة الأخبار على أن الأراضي لا تعود إلى
الأشخاص بل تعود إلى عنوان المسلمين، فالآية تنصرف عنها قهرا.
قال الماوردي: " وأما الأموال المنقولة فهي الغنائم المألوفة. " (3)
وأما ما ذكرت من تقسيم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) غنائم خيبر وأراضيها فيرد عليه:
أولا: أنه لو ثبت تقسيمه لنفس الأراضي فلعله لأن الحكم الشرعي في بادئ الأمر
كان تقسيم الأراضي أو تخيير الإمام بينه وبين إبقائها عدة للمسلمين ثم نسخ بعد ذلك
أو أنه تعين بعد ذلك الإبقاء بالحكم الولائي الدائم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو عن أمير
المؤمنين (عليه السلام) في عصر عمر بعد ما استشار هو إياه وجمعا من الصحابة كما مر، فتدبر.
وثانيا: أن من المحتمل بل الظاهر ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقسم رقبة الأراضي في
خيبر بحيث يملكها الأشخاص وإن أوهم ذلك بعض التعبيرات الواقعة في
التواريخ، إنما قسم عوائدها وخراجها. وهو (صلى الله عليه وآله وسلم) بما أنه كان ولي أمر
المسلمين إمامهم قبل الأراضي وصرف عوائدها في مصالح المسلمين ونوائبهم، وإن
كان من أهم المصالح والنوائب أيضا سد خلات نفسه وعائلته وأزواجه وفقراء
المسلمين والمجاهدين في سبيل الله.
وهذا هو الذي ربما يتحصل من الجمع بين الأخبار المختلفة الواردة في المقام:

1 - تاريخ الطبري 3 / 588 (من ط. ليدن).
2 - الأموال / 70.
3 - الأحكام السلطانية / 138.
202

1 - فقد مر في خبر صفوان والبزنطي قوله (عليه السلام): " وما أخذ بالسيف فذلك إلى الإمام
يقبله بالذي يرى كما صنع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بخيبر: قبل سوادها وبياضها - يعني أرضها
ونخلها - والناس يقولون: لا يصلح قبالة الأرض، وقد قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خيبر.
الحديث. " (1)
2 - ونحو ذلك صحيحة البزنطي التي مرت. (2)
3 - ومر في موثقة محمد بن مسلم قول الصادق (عليه السلام): " قد ظهر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على
أهل خيبر فخارجهم على أن يترك الأرض في أيديهم يعملونها ويعمرونها.
الحديث. " (3)
4 - وفي البخاري بسنده، عن عبد الله، قال: " أعطى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خيبر اليهود أن
يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما يخرج منها. " (4)
5 - وفي سنن أبي داود بسنده، عن ابن عمر: " أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عامل أهل خيبر
بشطر ما يخرج من ثمر أو زرع. " (5)
6 - وفيه أيضا بسنده، عن ابن عمر: " أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دفع إلى يهود خيبر نخل
خيبر أرضها على أن يعتملوها من أموالهم وأن لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شطر ثمرتها. " (6)
7 - وفيه أيضا بسنده عن ابن عباس، قال: " افتتح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خيبر واشترط
أن له الأرض وكل صفراء وبيضاء. قال أهل خيبر: نحن أعلم بالأرض منكم فأعطيناها
على أن لكم نصف الثمرة ولنا نصف. فزعم أنه أعطاهم على ذلك، فلما كان حين
يصرم النخل بعث إليهم عبد الله بن رواحة فحزر عليهم

1 - الوسائل 11 / 119، الباب 72 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
2 - الوسائل 11 / 120، الباب 72 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
3 - الوسائل 11 / 118، الباب 71 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
4 - صحيح البخاري 2 / 76، كتاب المظالم، باب مشاركة الذمي والمشركين في المزارعة.
5 - سنن أبي داود 5 / 235، كتاب البيوع، باب في المساقاة.
6 - سنن أبي داود 2 / 235، كتاب البيوع، باب في المساقاة.
203

النخل. الحديث. " (1)
أقول: حزر الشيء بالمهملة ثم المعجمة ثم المهملة: قدره بالحدس والتخمين.
8 - وفيه أيضا بسنده، عن سهل بن أبي حثمة، قال: " قسم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خيبر
نصفين: نصفا لنوائبه وحاجته، ونصفا بين المسلمين، قسمها بينهم على ثمانية عشر
سهما. " (2)
9 - وفيه أيضا بسنده، عن بشير بن يسار، عن رجال من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " أن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما ظهر على خيبر قسمها على ستة وثلاثين سهما، جمع كل سهم مأة
سهم، فكان لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وللمسلمين النصف من ذلك، وعزل النصف الباقي لمن
نزل به من الوفود والأمور ونوائب الناس. " (3)
10 - وفيه أيضا بسنده، عن بشير بن يسار أيضا: " أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما أفاء الله
عليه خيبر قسمها ستة وثلاثين سهما جمع: فعزل للمسلمين الشطر ثمانية عشر سهما
يجمع كل سهم مأة، النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) معهم له سهم كسهم أحدهم، وعزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
ثمانية عشر سهما - وهو الشطر - لنوائبه وما ينزل به من أمر المسلمين، فكان ذلك
الوطيح والكتيبة والسلالم وتوابعها، فلما صارت الأموال بيد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين لم
يكن لهم عمال يكفونهم عملها، فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اليهود فعاملهم. " (4)
ونحو ذلك روايات أخر. وراجع في ذلك كتاب الأموال لأبى عبيد أيضا (5)، سيرة
ابن هشام (6)، وفتوح البلدان للبلاذري (7).

1 - سنن أبي داود 2 / 235، كتاب البيوع، باب في المساقاة.
2 - سنن أبي داود 2 / 142، كتاب الخراج والفئ والإمارة، باب ما جاء في حكم أرض خيبر.
3 - سنن أبي داود 2 / 142، كتاب الخراج والفئ والإمارة، باب ما جاء في حكم أرض خيبر.
4 - سنن أبي داود 2 / 143، كتاب الخراج والفئ والإمارة، باب ما جاء في حكم أرض خيبر.
5 - الأموال / 70 وما بعدها.
6 - سيرة ابن هشام 3 / 364.
7 - فتوح البلدان / 40.
204

فالجمع بين هذه الأخبار وغيرها مما وردت في هذا المجال يقتضي الحكم بأن
تقبيل جميع أراضي خيبر كان بتصدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بما أنه كان ولى أمر المسلمين
والأراضي المفتوحة عنوة كانت لهم. والتقسيم كان يقع على عوائدها وخراجها
حسب الحاجات والمصالح والنوائب، ولا مانع من وقوع التقسيم والتسهيم بحسب
القرى والمزارع، كما هو المذكور في بعض هذه الأخبار، ولم يقصد بذلك تقسيم رقبة
الأراضي وتمليكها للأشخاص.
وما ذكر في بعض الروايات من تخميسها أيضا لعله كان من جهة توهم الرواة أن
صرفه (صلى الله عليه وآله وسلم) لبعض العوائد في مصارف نفسه وعائلته كان من باب الخمس المذكور
في آية الخمس، وقد مر منا الإشكال في ثبوت الخمس في الأراضي المفتوحة عنوة
في رقبتها وفي عوائدها، فإنها من الأموال العامة الواقعة تحت اختيار الإمام لا ضريبة
في الضرائب، فراجع ما ذكرناه في باب خمس الغنائم.
205

البحث في أمور:
إذا عرفت ما ذكرناه من الفتاوى والأخبار في الأراضي المفتوحة عنوة فلنبحث
في أمور:
الأمر الأول:
لا يخفى أن صيرورة الأرض المفتوحة عنوة لجميع المسلمين لا يراد بها
صيرورتها كالمباحات الأصلية التي الناس فيها شرع سواء، ولا مالكيتهم لها ولبنائها
وعمرانها بنحو الإشاعة والشركة، بل صيرورتها ملكا للعنوان والجهة، نظير ملك
الفقراء للزكاة، ويتصدى للتصرف فيها ممثل المسلمين وإمامهم.
والملكية أمر اعتباري يصح اعتبارها للعناوين والجهات أيضا، كما يصح
اعتبارها للبقاع والأمكنة كالمساجد والمدارس والمعاهد ونحوها. وهذا هو المراد
من قولهم: " إنها للمسلمين قاطبة: من وجد ومن سيوجد إلى يوم القيامة. " ويدل عليه
صحيحة محمد الحلبي كما مرت.
بل يمكن أن يقال: إنها تصير بمنزلة الوقف على الجهة لا ملكا لها، فتكون إضافتها
إلى المسلمين إضافة حق لا ملك. نظير العين الموقوفة والموصى بها كذلك، وعليه
فيشكل بيع رقبتها وتبديلها حتى لإمام المسلمين أيضا، بل يجب إبقاؤها وصرف
حاصلها وعوائدها في مصالحهم على ما أفتى به الأصحاب، ويشهد له مرسلة حماد.
قال المقدس الأردبيلي في الجهاد من مجمع البرهان ما ملخصه:
206

" معنى كون هذه الأرض للمسلمين كونها معدة لمصالحهم العامة مثل بناء
القناطر المساجد ونفقة الأئمة والقضاة والكتاب ومؤونة الغزاة وغيرها من المصالح
العامة. والناظر عليها هو الإمام، فيوجرها ويأخذ قبالتها ويصرفها في المصالح حتى
لا يحل للمستأجر حصة من الأرض والأجرة لأنه ليس مالكا بالحقيقة، بل هي أرض
جعلها الله - تعالى - كالوقف على مصالح المستأجر وغيرها من المسلمين، لا أنها
ملك للمسلمين على الشركة. " (1)
وفي إحياء الموات من الكفاية:
" المراد بكونها للمسلمين أن الإمام يأخذ ارتفاعها ويصرفه في مصالحهم على
حسب ما يراه، لا أن من شاء من المسلمين له التسلط عليها أو بعضها بلا خلاف في
ذلك. " (2)
أقول فظاهر هاتين العبارتين أن وزانها وزان الأرض الموقوفة للمصالح
العامة. القول بأن خروجها عن ملك الكفار بالاغتنام يستلزم دخولها في ملك غيرهم
إذ لا يتصور الملك بلا مالك ممنوع، لاحتمال كون اغتنامها موجبا لانفكاكها عن
الملكية بالكلية. وهو أحد الاحتمالين في الوقف ولا سيما الأوقاف العامة.
ومفاد اللام هو الاختصاص وهو أعم من الملكية، فتأمل.
بل يمكن أن يقال إنها لو كانت ملكا للجهة لجاز للإمام تمليكها للشخص بتطبيق
الجهة عليه كما في الزكاة، والظاهر عدم جوازه، فيتعين كونها نظير الوقف. والحق في
الوقف أنه لا يصير ملكا للموقوف عليه، بل الواقف كأنه يجعله على رأس الموقوف
عليه لتدر منافعه عليه كالسحابة الممطرة. ولذا يتعدى بعلى، فيكون باقيا على ملك
الواقف أو يكون فكا للملكية. وللبحث فيه محل آخر.

1 - مجمع الفائدة والبرهان، كتاب الجهاد، المطلب الثالث من المقصد الثالث.
2 - كفاية الأحكام / 239.
207

الأمر الثاني:
هل المراد بالأرض المفتوحة عنوة في الأخبار والفتاوى مطلق ما استولت عليها
دولة الكفر من الأراضي: من الموات والعامرة بالأصالة أو بالعرض، أو خصوص
العامرة منها بالإحياء؟ الأقوى هو الثاني، إذ الظاهر من الأخبار والفتاوى إرادة انتقال
ما كان ملكا للكفار إلى المسلمين. والموات كذا العامرة بالأصالة كالآجام والغابات
الطبيعية لم تكن ملكا للكفار حتى تغتنم منهم. فهي باقية على اشتراكها الأصلي تكون
كسائر الموات والآجام من الأنفال المتعلقة بالإمام، وسيأتي البحث فيها.
1 - قال الشيخ في إحياء الموات من الخلاف (المسألة 1):
" الأرضون الغامرة في بلاد الإسلام لا يعرف لها صاحب معين للإمام خاصة...
دليلنا إجماع الفرقة على أن أرض الموات للإمام خاصة وأنها من جملة الأنفال ولم
يفصلوا بين ما يكون في دار الإسلام وبين ما يكون في دار الحرب ".
و (المسألة 2):
" الأرضون الغامرة في بلد الشرك التي لم يجر عليها ملك أحد للإمام خاصة. وقال
الشافعي: كل من أحياها من مشرك ومسلم فإنه يملك بذلك. دليلنا ما قلناه في المسألة
الأولى سواء. " (1)
2 - وفي جهاد المبسوط:
" وأما الأرضون المحياة فهي للمسلمين قاطبة، وللإمام النظر فيها... فأما الموات
فإنها لا تغنم وهي للإمام خاصة. " (2)

1 - الخلاف 2 / 222.
2 - المبسوط 2 / 29.
208

3 - وفي جهاد الشرائع:
" كل أرض فتحت عنوة وكانت محياة فهي للمسلمين... وما كانت مواتا وقت
الفتح فهو للإمام خاصة. " (1)
4 - وفي الجواهر في شرح العبارة الأخيرة:
" بلا خلاف أجده، بل الإجماع بقسميه عليه... " (2) ونحو ذلك في احياء الموات
منه، فراجع (3).
5 - وفي احياء الموات من الكفاية:
" وما كان مواتا وقت الفتح فهو للإمام (عليه السلام) بلا خلاف. " (4)
6 - وقال في مجمع البرهان:
" وسيظهر لك كون المراد بما كان له هذه الحكم المعمورة منها حال الفتح
والقهر الغلبة دون مواتها حينئذ، فإنها للإمام (عليه السلام) كسائر الموات التي ليست ملكا لأحد
ولم تجر عليه يد الملكية بالاتفاق. " (5) هذا.
ويشهد لذلك - مضافا إلى وضوحه والإجماع والاتفاق وعدم الخلاف المذكورات -
عموم ما دل على أن الموات من الأرض وكذا ما لا رب له للإمام. لا يعارضه إطلاق قوله (عليه السلام)
في خبر صفوان والبزنطي: " وما أخذ بالسيف فذلك إلى الإمام يقبله... " (6)، لانصرافه إلى
خصوص ما كان ملكا للكفار واغتنم منهم. هذا.
ولكن قد يقال: إن الموات والعامرة بالأصالة وإن لم يكونا ملكا لأحد شرعا، لكنهما بعد
ما كانتا تحت استيلاء دولة الكفر وتحررتا بالسيف لا نرى مانعا من شمول عموم الموصول
لهما، فيكون بين الدليلين عموم من وجه، ولا نرى وجها لتقديم أحدهما على الآخر.

1 - الشرائع 1 / 322. (= ط. أخرى / 245).
2 - الجواهر 21 / 169.
3 - الجواهر 38 / 18.
4 - كفاية الأحكام / 239.
5 - مجمع الفائدة والبرهان، كتاب الجهاد، المطلب الثالث من المقصد الثالث.
6 - الوسائل 11 / 120، الباب 72 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
209

بل يمكن أن يقال: إن قوله: " وما أخذ بالسيف... "، يكون واردا على ما في موثقة
عمار (1) من عد كل أرض لا رب لها من الأنفال، إذ عنوان المسلمين يصير ربا لها.
أقول: سيأتي منا في مبحث الأنفال أن الملكية الشرعية لا تتحقق إلا بالإنتاج أو
الانتقال ممن أنتج، وأن كون المشتركات كأرض الموات والجبال والأودية ونحوها
للإمام وتحت اختيار قائد الأمة ليس أمرا أبدعه الشرع المبين، بل هو أمر يحكم به
عقلاء الأمم واستقرت عليه سيرتهم في جميع الأعصار. وارتكاز هذه في الأذهان
يوجب انصراف قوله: " ما أخذ بالسيف " إلى خصوص ما ملكه الكفار، فتبقى
المشتركات والأموال العامة على ما كانت عليه، غاية الأمر أن الإمام الحق يخلف
الإمام الباطل في ذلك، فتدبر.
والذي يسهل الخطب في المقام أنه لا يوجد عندنا فرق بين أساسي بين ما يكون
للمسلمين بما هم مسلمون وبين يكون للإمام بما هو إمام وقائم بأمورهم. وسيأتي في
مبحث الأنفال أن الأنفال ليست لشخص الإمام المعصوم، بل هي أموال عامة مشتركة
خلقها الله - تعالى - لمصالح العباد وجعلت تحت اختيار الإمام الصالح العادل،
فانتظر.
الأمر الثالث:
لا يخفى أن معنى كون الأرض المفتوحة عنوة للمسلمين أنه ينتقل إليهم بالفتح
ما كان يملكه الكفار في الأراضي والعقارات، فإن قلنا بأنهم باحياء الأرض يملكون
رقبتها وعمرانها معا فلا محالة هما بالفتح ينتقلان إلى المسلمين. وإن قلنا بأن الإحياء
يوجب ملكية العمران فقط مطلقا أو في صورة إذن الإمام وأن الذي يثبت للمحيي

1 - راجع الوسائل 6 / 371، الباب 1 من أبواب الأنفال من كتاب الخمس، الحديث 20.
210

بالنسبة إلى الرقبة هو الحق فقط فالمنتقل إلى المسلمين هو العمران والحق فقط.
وسيأتي منا في مبحث الأنفال تقريب أن الثابت بالإحياء هو الحق فقط
لا الملكية.
وكيف كان فالظاهر أن الحكم بكون الأرض المفتوحة عنوة للمسلمين حكم عام
يجري في جميع الأعصار وفي جميع الأراضي، سواء كان الإحياء قبل نزول آية
الأنفال أو بعده.
وربما يتوهم اختصاص الحكم بما إذا كان الإحياء قبل نزول الآية، إذ مقتضى
الآية الشريفة أن موات الأرض للإمام، فلو أحياها الكافر بعد نزولها لم يملكها حتى
تنتقل منه إلى المسلمين، بل تبقى على ملك الإمام.
قال صاحب الجواهر في مبحث الأنفال منه:
" نعم لا يعتبر فيما له (عليه السلام) من الموات بقاؤه على صفة الموت، للأصل وظاهر صحيح
الكابلي السابق. فلو اتفق حينئذ إحياؤه كان له (عليه السلام) أيضا من غير فرق بين
المسلمين الكفار إلا مع إذنه (عليه السلام). وإطلاق الأصحاب والأخبار ملكية عامر الأرض
المفتوحة عنوة للمسلمين يراد به ما أحياه الكفار من الموات قبل أن جعل الله الأنفال
لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإلا فهو له أيضا وإن كان معمورا وقت الفتح. " (1)
أقول: مورد كلامه - قدس سره - صورة عدم إذن الإمام في الإحياء، فيصح
ما ذكره بالنسبة إلى رقبة الأرض ملكا وحقا، وأما العمران المتحقق بالإحياء فأي
مانع من القول بملكية الكافر له وانتقاله منه إلى المسلمين؟! وأما إذا فرض إذن الإمام
للكافر أيضا ولو بعموم أدلة الإحياء فلا إشكال وإن اخترنا عدم ملكية الرقبة لانتقال
الحق والعمران حينئذ إلى المسلمين، لإطلاق قوله: " وما أخذ بالسيف... "، فتأمل.
وقال في كتاب إحياء الموات من الجواهر في تقريب عدم اشتراط الإسلام في
المحيي ما هذا لفظه:

1 - الجواهر 16 / 118.
211

" كل ذلك مضافا إلى ما يمكن القطع به من ملك المسلمين ما يفتحونه عنوة من
العامر في أيدي الكفار وإن كان قد ملكوه بالإحياء. ولو أن إحياءهم فاسد لعدم الإذن
لوجب أن يكون على ملك الإمام (عليه السلام)، ولا أظن أحدا يلتزم به. " (1) هذا.
وكأن القائلين بالتفصيل بين كون الإحياء قبل نزول آية الأنفال أو بعده توهموا أن
الحكم بكون الأنفال أي الأموال العامة لله والرسول وللإمام بعده أمر حادث أبدعه
الإسلام، وقبل هذا الحكم كانت الأموال العامة بلا رب وصاحب شرعا وكان يملكها
كل من غلب عليها بلا ملاك.
ولكن ستعرف منا في مبحث الأنفال أن كون الأموال العامة في اختيار الإمام بما
أنه إمام وحاكم أمر عرفي عقلائي كان ثابتا في جميع القرون والأعصار، وشرع
الإسلام قد أمضاه بالآية. والأرض لم تخل في عصر من الأعصار من حجة الله -
تعالى - ووليه في أرضه وعباده، وإنما الناس اشتبه عليهم الأمر فيعاملون مع حكام
الجور والطواغيت معاملة أئمة العدل وولاة الله في أرضه، فتدبر.
وقد عرفت أيضا أن الذي يسهل الخطب في المقام ونظائره أنه لا يوجد عندنا
فرق بين أساسي بين ما يكون للمسلمين بما هم مسلمون وبين ما يكون للإمام بما أنه
إمام، إذ كلاهما من الأموال العامة وتحت اختيار الإمام فيقبلهما ويصرف حاصلهما
في مصالح المسلمين، فتأمل.
الأمر الرابع:
ظاهر ما مر من الأخبار والفتاوى عدم جواز بيع رقبة الأرض المفتوحة
عنوة لا شرائها على أن تكون جزء من المبيع. نعم، يجوز نقل الآثار والأبنية المحدثة
فيها بعد الاغتنام، بل والحق المتعلق بها للمتصرف. فتصير الأرض للمشتري على
وجه

1 - الجواهر 38 / 15.
212

كانت للبائع من ثبوت حق الأولوية وعدم جواز المزاحمة إذا فرض كون التصرف
وإحداث الآثار بإذن الإمام، أو بإجازته العامة للشيعة على القول بها، أو بإذن نائبه
الخاص أو العام، أو بتقبيل السلطان الجائر بناء على إمضائهم (عليه السلام) لذلك كما يأتي.
1 - قال ابن إدريس في أواخر الزكاة من السائر (باب أحكام الأرضين):
" وهذا الضرب من الأرضين لا يصح التصرف فيه بالبيع والشراء والوقف
والهبة غير ذلك، أعنى نفس الرقبة. فإن قيل: نراكم تبيعون وتشترون وتقفون أرض
العراق وقد أخذت عنوة. قلنا: إنما نبيع ونقف تصرفنا فيها وتحجيرنا وبناءنا، فأما
نفس الأرض لا يجوز ذلك فيها. " (1)
2 - وفي المنتهى:
" وإذا تصرف فيها أحد بالبناء والغرس صح له بيعها على معنى أنه يبيع ماله فيها
من الآثار وحق الاختصاص بالتصرف لا الرقبة، لأنها ملك المسلمين قاطبة. " (2)
3 - وفي المسالك عند قول المصنف: " ولا يجوز بيعها ولا وقفها ولا هبتها "، قال:
" أي لا يصح شيء من ذلك في رقبتها مستقلة، أما لو فعل ذلك بها تبعا لآثار المتصرف
من بناء وغرس وزرع فجائز على الأقوى. فإذا باعها بائع مع شيء من هذه الآثار
دخلت في البيع على سبيل التبع، وكذا الوقف وغيره. ويستمر كذلك ما دام شيء من
الآثار باقيا، فإذا ذهبت أجمع انقطع حق المشتري والموقوف عليه وغيرهما عنها.
هكذا ذكره جمع من المتأخرين، وعليه العمل. " (3)
وبالجملة فرقبة الأرض وكذا الآثار والأبنية الموجودة حين الاغتنام تصير
للمسلمين وتكون بحكم العين الموقوفة، فلا يصح نقلها ولا وقفها، وتكون تحت
اختيار امام المسلمين يقبلها لمن رآه صلاحا بما رآه ويصرف حاصلها في مصالحهم،
ولكن

1 - السرائر / 111.
2 - المنتهى 2 / 936.
3 - المسالك 1 / 155.
213

المتصرف بإذنه له حق اختصاص بها وملك الآثار المحدثة فيها بإذنه وله نقلها و
وقفها ويتبعها الأرض أيضا في الانتقال والوقفية، نظير ما تعارف بين الفلاحين من بيع
الآثار في أراضي الزراعة التي هي للغير.
وسيأتي منا في مبحث الأنفال تقوية نظير ذلك في أرض الموات التي يتصدى
الإنسان لإحيائها أيضا، فيملك حيثية الإحياء الذي هو أثر فعله وقواه وفكره
لا الرقبة، نعم هو أحق بها ما دامت الآثار باقية فيها ولم يتركها. واختار هذا الشيخ
أيضا وابن زهرة، ويدل عليه أخبار مستفيضة كما يأتي. هذا.
ولكن ظاهر كلام الشيخ " ره " في التهذيب جواز شراء الأرض المفتوحة عنوة في
عصر الغيبة دون أراضي الأنفال. قال في زيادات الزكاة:
" فأما الأرضون فكل أرض تعين لنا أنها مما قد أسلم أهلها عليها فإنه يصح لنا
التصرف فيها بالشراء منهم والمعاوضة وما يجري مجراهما.
وأما أراضي الخراج وأراضي الأنفال والتي قد انجلى أهلها عنها فإنا قد أبحنا
أيضا التصرف فيها ما دام الإمام (عليه السلام) مستترا، فإذا ظهر يرى هو (عليه السلام) في ذلك رأيه.
فنكون نحن في تصرفنا غير آثمين. وقد قدمنا ما يدل على ذلك. والذي يدل عليه
أيضا ما رواه...
فإن قال قائل: إن جميع ما ذكرتموه إنما يدل على إباحة التصرف لكم في هذه
الأرضين، ولم يدل على أنه يصح لكم تملكها بالشراء والبيع، فإذا لم يصح الشراء والبيع
فما يكون فرعا عليه أيضا لا يصح، مثل الوقف والنحلة والهبة وما يجري مجرى ذلك.
قيل له: إنا قد قسمنا الأرضين فيام مضى على ثلاثة أقسام: أرض يسلم أهلها
عليها، فهي تترك في أيديهم وهي ملك لهم، فما يكون حكمه هذا الحكم صح لنا
شراؤها وبيعها.
وأما الأرضون التي تؤخذ عنوة أو يصالح أهلا عليها فقد أبحنا شراءها وبيعها،
لأن لنا في ذلك قسما لأنها أراضي المسلمين. وهذا القسم أيضا يصح الشراء والبيع
214

فيه على هذا الوجه.
وأما الأنفال وما يجري مجراها فليس يصح تملكها بالشراء والبيع، وإنما أبيح لنا
التصرف حسب. والذي يدل على القسم الثاني ما رواه... " (1)
ثم ذكر خبر أبي بردة، وموثقة محمد بن مسلم اللتين مرتا، وصحيحة محمد بن
مسلم وعمر بن حنظلة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سألته عن ذلك فقال: " لا بأس
بشرائها، فإنها إذا كانت بمنزلتها في أيديهم يؤدي عنها كما يؤدى عنها. " وخبر
إبراهيم بن أبي زياد، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الشراء من أرض الجزية، قال:
فقال: " اشترها، فإن لك من الحق ما هو أكثر من ذلك. " إلى غير ذلك من الأخبار. (2)
أقول: من الدقة في جميع كلامه ومن استدلاله بخبر أبي بردة، وصحيحة محمد بن
مسلم وعمر بن حنظلة يظهر أن مراده - قدس سره - من جواز الشراء شراء حق
التصرف لا شراء نفس الرقبة، نعم يقع الإشكال في تفريقه بينها وبين أراضي الأنفال
مع صحة ذلك في أراضي الأنفال أيضا بعد إحيائها. اللهم إلا أن يقال إن مقصوده منع
بيع وشراء الأنفال قبل التصرف فيها بالإحياء، فيصح ما ذكره ووجهه واضح.
وفي جهاد الدروس:
" ولا يجوز التصرف في المفتوحة عنوة إلا بإذن الإمام (عليه السلام)، سواء كان بالوقف أو
بالبيع أو غيرهما، نعم في حال الغيبة ينفذ ذلك. وأطلق في المبسوط أن التصرف فيها
لا ينفذ. وقال ابن إدريس: إنما يباع ويوقف تحجيرنا وبناؤنا وتصرفنا لأنفس
الأرض. " (3)
فظاهره أيضا جواز البيع والوقف في حال الغيبة.

1 - التهذيب 4 / 144 وما بعدها.
2 - التهذيب 4 / 147، كتاب الزكاة، الباب 39 (باب الزيادات)، الحديث 30 و 31. ونقل عنه
الوسائل 11 / 119، الباب 71 من أبواب جهاد العدو، الحديث 3 و 4.
3 - الدروس / 163.
215

وفي جهاد جامع المقاصد أيضا في ذيل قول المصنف:
" ولا يصلح بيعها ولا وقفها ولا هبتها " قال:
" هذا في حال ظهور الإمام (عليه السلام)، أما في حال الغيبة فينفذ ذلك كله، كما صرح به في
الدروس وصرح به غيره. " (1)
واعترض عليهما المحقق الأردبيلي - طاب ثراه - في مجمع البرهان بقوله:
" وفيه تأمل، لأنها ملك للغير، والبيع والوقف موقوفان على كونها ملكا
للبائع الواقف. بل يحصل الشبهة في جواز هذه حال الحضور، لبعد حصول الإذن بذلك
عنه (عليه السلام) إلا أن يقتضي مصالح العامة ذلك بأن يجعل قطعة منها مسجدا لهم أو حصل
الاحتياج إلى ثمنها. ومع ذلك الظاهر أنه لا يبعد قول الدروس مع المصلحة، إذ قد
تكون المصلحة في ذلك مع غيبته (عليه السلام). وأيضا قد يؤول إلى التصرف فيما له من
البناء العمارة والأحقية. " (2)
أقول: الأظهر أن تحمل العبارات وكذا الروايات الموهمة لجواز البيع والشراء على
ما ذكره أخيرا من نقل البناء والعمارة والأحقية من غير فرق بين زمان الحضور الغيبة
ولعل نظر من فرق بينهما إلى أنه في عصر الظهور لا يصح التصرف بدون الإذن،
بخلاف عصر الغيبة لوجود الإذن العام فيه للشيعة على القول به.
وأما رقبة الأرض وكذا الآثار والأبنية الموجودة حال الفتح والاغتنام فقد مر
كونها للمسلمين قاطبة: من وجد ومن يوجد، فلا يجوز بيعها ولا نقلها ولا وقفها، بل
يشكل بيع نفس الإمام أيضا لها في حال الظهور وبسط اليد.
بل يمكن الإشكال في جعلها مساجد أيضا. اللهم إلا أن يقال: إنها بنفسها من
المصالح العامة التي جعلت مصرفا لها. ويؤيد ذلك السيرة المستمرة في عصر

1 - جامع المقاصد 3 / 403 (= ط. القديم 1 / 190).
2 - مجمع الفائدة والبرهان، كتاب الجهاد، المطلب الثالث من المقصد الثالث.
216

الخلفاء من إحداث المساجد وغيرها من المشاريع العامة في العراق ومكة
وغيرهما مما فتحت عنوة من دون أن نقف في ذلك على ردع من الأئمة (عليهم السلام) ومن
أصحابهم، ولو كان لبان قطعا.
واشتراط كون أرض المسجد ملكا شخصيا حتى يصح وقفه لذلك مما لم يقم عليه
دليل، وإلا لم يصح إحداثها في أرض الموات أيضا إلا بعد إحيائها وتملكها، المستفاد
من بعض الأخبار خلاف ذلك:
ففي صحيحة أبي عبيدة الحذاء، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: " من بني مسجدا
كمفحص قطاة بني الله له بيتا في الجنة. " قال أبو عبيدة: ومر بي وأنا بين مكة والمدينة
أضع الأحجار فقلت: هذا من ذاك؟ قال: نعم. (1)
ونحوها صحيحته الأخرى عن أبي عبد الله (عليه السلام). (2)
وفي خبر آخر قال أبو الصباح لأبي عبد الله (عليه السلام): ما تقول في هذه المساجد التي
بنتها الحاج في طريق مكة؟ فقال: " بخ بخ، تيك أفضل المساجد. من بني مسجدا
كمفحص قطاة بني الله له بيتا في الجنة. " (3)
فليس في هذه الأخبار دلالة على وجوب تملك الأرض ثم وقفها مسجدا، فتأمل.
الأمر الخامس:
إن المتصدي للتصرف في هذه الأراضي بالتقبيل والإجارة والإجازة هو الإمام أو
نائبه، فإنه ولى أمر المسلمين والأولى بهم من أنفسهم.

1 - الوسائل 3 / 486، الباب 8 من أبواب أحكام المساجد، الحديث 2.
2 - الوسائل 3 / 485، الباب 8 من أبواب أحكام المساجد، الحديث 1.
3 - الوسائل 3 / 486 الباب 8، من أبواب أحكام المساجد، الحديث 6.
217

وتدل على ذلك مضافا إلى وضوحه ما مر من رواية صفوان والبزنطي ومرسلة
حماد الطويلة وغير ذلك من الأخبار. ولا يجوز لأحد أن يتصرف فيها جزافا بلا إذن.
وما مر من المبسوط من قوله: " ولا يصح أن يبنى دورا ومنازل ومساجد
وسقايات لا غير ذلك من أنواع التصرف "، يحمل لا محالة على صورة عدم الإذن أو
ما إذا تصرف فيها بقصد تملك الأرض غصبا. هذا في حال حضور الإمام والتمكن
منه.
وأما عصر الغيبة فالقاعدة تقتضى أن يكون المتصدي لها هو الفقيه الجامع لشرائط
الحكم والولاية، على ما مر بيانه من عموم ولايته. ولو لم يوجد أو تعذر الرجوع إليه
تصدى لها عدول المؤمنين، لكونه من الأمور الحسبية التي لا مجال لإهمالها. لا وجه
للرجوع فيها إلى حكام الجور والطواغيت في حال الاختيار مع ما نراه من تحذير
الأئمة (عليهم السلام) من الرجوع إليهم.
وربما يستفاد من بعض العبارات - مثل ما مر في الأمر السابق من
التهذيب الدروس وجامع المقاصد ونحو ذلك من الكلمات - القول بإباحة الأئمة (عليهم السلام)
لشيعتهم التصرف فيها في عصر الغيبة تسهيلا لهم، كما أباحوا التصرف في سائر
الأنفال، أما بلا خراج أو مع الالتزام بخراجها وصرفه في مصالح المسلمين.
قال في الحدائق:
" واحتمال التصرف فيها للشيعة مطلقا والحال هذه لا يخلو من قوة، لأنها وإن
كانت منوطة بنظر الإمام (عليه السلام) كما هو مدلول خبري أحمد بن محمد بن أبي نصر
المتقدمين وكذا رواية حماد بن عيسى، مع وجوده وتمكنه، إلا أنه مع عدم ذلك لا يبعد
سقوط الحكم وجواز التصرف. وليس الرجوع إلى حاكم الجور - بعد تعذر الرجوع
إليه (عليه السلام) كما عليه ظاهر الأصحاب - بأولى من الرجوع إلى المسلمين يتصرفون كيف
شاؤوا وأرادوا، لا سيما مع استلزام ما ذكروه المعاونة على الإثم
218

والعدوان وتقوية الباطل وتشييد معالمه، للنهي عنه كتابا وسنة. " (1)
أقول: أولا: نحن لا نقول بجواز الرجوع إلى حاكم الجور في حال الاختيار حتى
يقال بأن الرجوع إلى المسلمين أولى منه. وثانيا: لو فرض أن الجائر يصرف الفوائد في مصالح المسلمين وحفظ نظامهم
فلعله يكون أولى من تصرف المسلمين فيها تصرف الملاك في أملاكهم الشخصية،
كيفما أرادوا بلا خراج وطسق.
وقد روى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " إن الله - تبارك وتعالى - سيؤيد هذا الدين
بأقوام لا خلاق لهم. " (2)
وفي رواية أخرى عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن الله - عز وجل - يؤيد هذا الدين بالرجل
الفاجر. " (3)
وفي رواية طويلة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال في آخرها: " إن الله ينصر هذا الدين
بأقوام لا خلاق لهم. " (4)
وثالثا: إذا فرض التمكن من الفقيه العادل الواجد لشرائط الحكم فلم لا يرجع إليه
في أمر يرتبط بالإمام بما أنه إمام؟! وقد مر منا بالتفصيل أن وظائف الإمامة لا تتعطل
بغيبة الإمام الثاني عشر (عليه السلام). بل قد أشرنا إلى احتمال وجوب الرجوع إلى عدول
المؤمنين والاستيجار منهم مع عدم التمكن من الفقيه، حيث إن حفظ مصالح
المسلمين وثغورهم من أهم الأمور الحسبية التي لا يجوز إهمالها.
وفي المسالك:
" وليس هذا من باب الأنفال التي أذنوا (عليه السلام) لشيعتهم من التصرف فيه حال

1 - الحدائق 18 / 301.
2 - مسند أحمد 5 / 45.
3 - مسند أحمد 2 / 309.
4 - الوسائل 11 / 28، الباب 9 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
219

الغيبة، لأن ذلك حقهم فلهم الإذن فيه مطلقا. بخلاف الأرض المفتوحة عنوة، فإنها
للمسلمين قاطبة ولم ينقل عنهم (عليهم السلام) الإذن في هذا النوع. " (1)
وفي مكاسب الشيخ الأعظم في مبحث شرائط العوضين قال:
" وأما في زمان الغيبة ففي عدم جواز التصرف إلا فيما أعطاه السلطان الذي حل
قبول الخراج والمقاسمة منه، أو جوازه مطلقا نظرا إلى عموم ما دل على تحليل مطلق
الأرض للشيعة لا خصوص الموات التي هي مال الإمام (عليه السلام)، وربما يؤيده جواز قبول
الخراج الذي هو كأجرة الأرض فيجوز التصرف في عينها مجانا، أو عدم جوازه إلا
بإذن الحاكم الذي هو نائب الإمام، أو التفصيل بين من يستحق أجرة هذه الأرض
فيجوز له التصرف فيها لما يظهر من قوله (عليه السلام) للمخاطب في بعض أخبار حل الخراج:
" وإن لك نصيبا في بيت المال " وبين غيره الذي يجب عليه حق الأرض ولذا أفتى
غير واحد على ما حكي بأنه لا يجوز حبس الخراج وسرقته عن السلطان
الجائر الامتناع عنه، واستثنى بعضهم ما إذا دفعه إلى نائب الإمام (عليه السلام)، أو بين ما عرض
له الموت من الأرض المحياة حال الفتح وبين الباقية على عمارتها من حين الفتح
فيجوز إحياء الأول لعموم أدلة الإحياء وخصوص رواية سليمان بن خالد ونحوها
وجوه، أوفقها بالقواعد الاحتمال الثالث ثم الرابع ثم الخامس. " (2)
أقول: ومن الأخبار التي استدل بها لتحليل الأراضي ولو كانت خراجية للشيعة
خبر عمر بن يزيد أو صحيحته:
ففي أصول الكافي: " محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن
عمر بن يزيد، قال: رأيت مسمعا بالمدينة وقد كان حمل إلى أبي عبد الله (عليه السلام) تلك
السنة مالا، فرده أبو عبد الله (عليه السلام)، فقلت له: لم رد عليك أبو عبد الله (عليه السلام) المال الذي
حملته إليه؟ قال: فقال لي: إني قلت له حين حملت إليه المال: إني كنت وليت

1 - المسالك 1 / 155.
2 - المكاسب / 163 (= ط. أخرى 10 / 81).
220

البحرين الغوص، فأصبت أربعمأة ألف درهم، وقد جئتك بخمسها: بثمانين ألف
درهم وكرهت أن أحبسها عنك وأن أعرض لها وهي حقك الذي جعله الله - تبارك
وتعالى - في أموالنا. فقال: " أو ما لنا من الأرض وما أخرج الله منها إلا الخمس؟ يا أبا
سيار! إن الأرض كلها لنا، فما أخرج الله منها من شيء فهو لنا. " فقلت له: وأنا أحمل
إليك المال كله؟ فقال: " يا أبا سيار، قد طيبناه لك وأحللناك منه، فضم إليك مالك. وكل
ما كان في أيدي شيعتنا من الأرض فهم فيه محللون حتى يقوم قائمنا فيجبيهم طسق
ما كان في أيديهم فيترك الأرض في أيديهم. وأما ما كان في أيدي غيرهم فإن كسبهم
من الأرض حرام عليهم حتى يقوم قائمنا، فيأخذ الأرض من أيديهم ويخرجهم
صغرة. " (1)
ورواه الشيخ أيضا في التهذيب بتفاوت ما، فراجع. (2)
أقول: الاستدلال بالخبر للمقام إما بإطلاق لفظ الأرض وعمومه أو بذكر الطسق
الظاهر في الخراج.
ولكن يمكن أن يقال: إن مورد الخبر هو البحرين، فلعل اللام في قوله: " من
الأرض " تكون للعهد. والبحرين مما لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب كما في موثقة
سماعة (3) فتكون خالصة للإمام، ولا مانع من أخذ الطسق من الأنفال أيضا، كما يأتي
بيانه في مبحث الأنفال.
هذا مضافا إلى أن الغوص يكون في البحر وهو أيضا من الأنفال التي تكون
خالصة للإمام، فتدبر.
ومن الأخبار التي يستدل بها للإباحة والتحليل في المقام أيضا ما رواه الكليني بسنده،
عن يونس بن ظبيان أو المعلى بن خنيس، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما لكم من هذه
الأرض؟ فتبسم ثم قال: " إن الله - تبارك وتعالى - بعث جبرئيل (عليه السلام) وأمره أن يخرق بإبهامه
ثمانية أنهار في الأرض: منها سيحان وجيحان وهو نهر بلخ، والخشوع وهو نهر

1 - الكافي 1 / 408، كتب الحجة، باب أن الأرض كلها للإمام (عليه السلام)، الحديث 3.
2 - الوسائل 6 / 382، الباب 4 من أبواب الأنفال...، الحديث 12، عن التهذيب 4 / 144.
3 - الوسائل 6 / 367، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 8.
221

الشاش، ومهران وهو نهر الهند، ونيل مصر، ودجلة، والفرات. فما سقت أو استقت
فهو لنا، وما كان لنا فهو لشيعتنا، وليس لعدونا منه شيء إلا ما غصب عليه، وإن ولينا
لفي أوسع فيما بين ذه إلى ذه. يعني بين السماء والأرض. ثم تلا هذه الآية: " قل هي
للذين آمنوا في الحياة الدنيا (المغصوبين عليها) خالصة (لهم) يوم القيامة
(بلا غصب). " (1)
بتقريب أن ذكر الفرات ودجلة شاهد على شمول الأرض المحللة لأراضي الخراج أيضا.
وفي دعائم الاسلام، عن جعفر بن محمد (عليه السلام) أنه سئل عن الأرض تفتح عنوة - أي
قهرا - قال: " توقف ردء للمسلمين: لمن في ذلك اليوم ولمن يأتي من بعدهم إن رأى
ذلك الإمام، وإن رأى قسمتها قسمها. والأرض وما فيها لله ولرسوله، والإمام في ذلك
بعد الرسول يقوم مقامه. "
ثم قال لمن حضره من أصحابه: " احمدوا الله، فإنكم تأكلون الحلال وتلبسون
الحلال وتطؤون الحلال، لأنكم على المعرفة بحقنا والولاية لنا، أخذتم شيئا طبنا لكم
به نفسا. ومن خالفنا ودفع حقنا يأكل الحرام ويلبس الحرام ويطأ الحرام. " (2)
فظاهر الحديث أن الأرض المذكورة فيه يعم أرض الخراج أيضا وأن التحليل
يشملها وإنما ذكر الأكل وغيره من باب المثال.
ومن هذا القبيل أيضا الأخبار الدالة على جواز شرائهم لأرض الخراج، معللا بأن
لهم من الحق ما هو أكثر من ذلك، كخبر إبراهيم بن أبي زياد، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام)
عن الشراء من أرض الجزية. قال: فقال: " اشترها، فإن لك من الحق ما هو أكثر من
ذلك. " (3) ونحوه خبر محمد بن مسلم، عن أبي جعفر، وعمار وزرارة، عن أبي
عبد الله; وصحيحة عبد الله بن سنان، عن أبيه، عن أبي عبد الله; وصحيحة أبي بكر
الحضرمي، عن أبي عبد الله (عليه السلام). ويأتي ذكرها وبيان مفادها في الأمر

1 - الوسائل 6 / 384، الباب 4 من أبواب الأنفال، الحديث 17، عن أصول الكافي 1 / 409.
2 - دعائم الإسلام 1 / 386، كتاب الجهاد - ذكر قسمة الغنائم.
3 - الوسائل 11 / 119، الباب 71 من أبواب جهاد العدو، الحديث 4.
222

التاسع، فانتظر (1).
ويؤيد ذلك أيضا الأخبار الكثيرة الواردة في تحليل الخمس والأنفال، وما دل
على تحليل المناكح والمساكن والمتاجر، مما يستفاد منها عناية الأئمة (عليهم السلام)
بشيعتهم تسهيل الأمر عليهم، فيشمل التحليل كل ما كان تحت اختيارهم سواء كان
للإمام بما هو إمام أو للمسلمين بما هم مسلمون. هذا. ولكن الأحوط مع ذلك الرجوع
إلى الفقيه الواجد لشرائط الحكم، لما مر من أدلة ولايته وعدم تعطل الحكومة في
عصر من الأعصار.
الأمر السادس:
قد عرفت أن المتصدي للتصرف في هذه الأراضي بالتقبيل ونحوه هو الإمام أو
نائبه الخاص أو العام أو عدول المؤمنين حسبة. ولا وجه للرجوع فيها إلى حكام
الجور وعمالهم، فنقول: هذا كله في حال الاختيار.
وأما إذا كانت هذه الأراضي تحت استيلائهم وتصرفهم وبليت الشيعة بالمعاملة
معهم والرجوع إليهم في قبالة الأرض ودفع الخراج أو أخذه منهم مجانا أو بعوض،
فمقتضى القاعدة وإن كان حرمتها وبطلانها لعدم استحقاق الجائر لذلك وكون
التراضي معه نظير تراضي مستأجر دار الغير مع ظالم في دفع الأجرة إليه، حيث
لا تبرء ذمته قطعا، ولو قهره على أخذ شيء منه بهذه العناوين ففساده أوضح، لكن
الظاهر من الأخبار والفتاوى إجازة الأئمة (عليهم السلام) لذلك تسهيلا لشيعتهم بل حكي
الإجماع وعدم الخلاف في ذلك عن كثير من الأصحاب:
1 - قال الشيخ في النهاية:
" ولا بأس بشراء الأطعمة وسائر الحبوب والغلات على اختلاف أجناسها من

1 - راجع ص 234 من هذا الجزء من الكتاب.
223

سلاطين الجور وإن علم من أحوالهم أنهم يأخذون ما لا يستحقون ويغصبون
ما ليس لهم ما لم يعلم في ذلك شيئا بعينه غصبا، فإن علمه كذلك فلا يتعرض لذلك.
فأما ما يأخذونه من الخراج والصدقات، وإن كانوا غير مستحقين لها جاز له شراؤها
منهم. " (1)
2 - وقال المحقق في تجارة الشرائع:
" السابعة: ما يأخذه السلطان الجائر من الغلات باسم المقاسمة، والأموال باسم
الخراج عن حق الأرض، ومن الأنعام باسم الزكاة يجوز ابتياعه وقبول هبته، لا يجب
إعادته على أربابه وإن عرف بعينه. " (2)
3 - وذيل ذلك في المسالك بقوله:
" ما يأخذه الجائر في زمن الغيبة قد أذن أئمتنا (عليه السلام) في تناوله منه. وأطبق عليه
علماؤنا لا نعلم فيه مخالفا وإن كان ظالما في أخذه، ولاستلزام تركه والقول بتحريمه
الضرر العظيم والحرج العظيم على هذه الطائفة. ولا يشترط رضا المالك، ولا يقدح
فيه تظلمه ما لم يتحقق الظلم بالزيادة عن المعتاد أخذه من عامة الناس في ذلك
الزمان...
ولا يشترط قبض الجائر له وإن أفهمه قوله: " ما يأخذه الجائر. " فلو أحاله به أوكله
في قبضه أو باعه هو في يد المالك أو ذمته حيث يصح البيع كفى ووجب على المالك
الدفع، وكذا القول فيما يأخذه باسم الزكاة. " (3)
4 - وفي المختصر النافع:
" يجوز أن يشتري من السلطان ما يأخذه باسم المقاسمة واسم الزكاة من
ثمرة حبوب ونعم وإن لم يكن مستحقا له. " (4)
5 - وذيله في التنقيح بقوله:

1 - النهاية 358.
2 - الشرائع 2 / 13 (= ط. أخرى / 266).
3 - المسالك 1 / 168.
4 - المختصر النافع / 118.
224

" وإنما قلنا بجواز الشراء من الجائر مع كونه غير مستحق، للنص الوارد عنهم (عليهم السلام)
بذلك والإجماع وإن لم يعلم مستنده. ويمكن أن يكون مستنده أن ما يأخذ الجائر
حق لأئمة العدل وقد أذنوا لشيعتهم في شراء ذلك، فيكون تصرف الجائر كتصرف
الفضولي إذا انضم إليه إذن المالك. " (1)
6 - وفي الرياض:
" والأصل في المسألة بعد عدم الخلاف في الطائفة والإجماع المستفيض حكايته
في كلام جماعة: المعتبرة المستفيضة. " (2)
7 - وفي جامع المقاصد:
" ولا فرق بين قبض الجائر إياها وإحالته بها إجماعا. ولا يعتبر رضا المالك قطعا،
لأن ذلك حق عليه لا يجوز له منعه بحال. والجائر وإن كان ظالما بالتصرف فيه إلا أن
الإجماع من فقهاء الإمامية والأخبار المتواترة عن الأئمة (عليهم السلام) دلت على جواز أخذ
أهل الحق لها عن قول الجائر، تفصيا من الحرج العظيم... " (3)
إلى غير ذلك من الكلمات الحاوية لا دعاء الإجماع في المسألة.
ويدل على الحكم - بعد الإجماع، والسيرة القطعية من الأئمة (عليهم السلام) وأصحابهم في
الدولتين: الأموية والعباسية من المعاملة معهم في قبالة الأراضي واستيجارها ودفع
خراجها وأخذها منهم معاملة الدولة العادلة من غير نكير، ولزوم الحرج العظيم بل
اختلال النظام من الاجتناب عن هذه الأموال بالكلية - الأخبار الكثيرة الواردة في
هذا المجال وفي أخذ الجوائز منهم، فلنذكر بعضها:
1 - صحيحة الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال في حديث: " لا بأس بأن يتقبل
الرجل الأرض وأهلها من السلطان. " وعن مزارعة أهل الخراج بالربع والنصف

1 - التنقيح الرائع 2 / 19.
2 - الرياض 1 / 508.
3 - جامع المقاصد 4 / 45 (= ط. القديم 1 / 207)، كتاب المتاجر، ذيل قول المصنف: والذي
بأخذه الجائر...
225

والثلث؟ قال: نعم، لا بأس به، قد قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خيبر، أعطاها اليهود حين
فتحت عليه بالخبر. والخبر هو النصف. " 0 (1)
إذ الظاهر أن السلطان في الحديث إشارة إلى سلاطين الجور الموجودين في
عصره، فيدل على صحة التقبل منهم وأن حكمه حكم التقبل من الإمام العادل. بالجملة
القضية في الرواية تشبه القضية الخارجية. ويشهد لذلك صدر الحديث أيضا، فراجع.
وأما احتمال أن يراد طبيعة السلطان بشرائطه التي منها العدالة بنحو القضية
الحقيقية فبعيد جدا، فتدبر.
2 - موثقة إسماعيل بن الفضل الهاشمي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " سألته عن
الرجل استأجر من السلطان من أرض الخراج بدراهم مسماة أو بطعام مسمى، ثم
آجرها وشرط لمن يزرعها أن يقاسمه النصف أو أقل من ذلك أو أكثر، وله في الأرض
بعد ذلك فضل، أيصلح له ذلك؟ قال: نعم، إذا حفر لهم نهرا أو عمل لهم شيئا يعينهم
بذلك فله ذلك.
قال: وسألته عن الرجل استأجر أرضا من أرض الخراج بدراهم مسماة أو بطعام
معلوم فيؤاجرها قطعة قطعة أو جريبا جريبا بشيء معلوم، فيكون له فضل فيما
استأجر من السلطان، ولا ينفق شيئا، أو يؤاجر تلك الأرض قطعا على أن يعطيهم
البذر والنفقة، فيكون له في ذلك فضل على إجارته، وله تربة الأرض أو ليست له؟
فقال له: إذا استأجرت أرضا فأنفقت فيها شيئا أو رممت فيها فلا بأس بما ذكرت. " (2)
إذ الظاهر منها كون الاستيجار من السلطان مفروض الجواز والصحة، وإنما الشبهة
كانت في حلية الفضل الباقي. والسلطان كما مر إشارة إلى السلاطين الموجودين من
الأموية والعباسية ونحوها من السلاطين المبتلى بهم خارجا ولو في الأعصار
المستقبلة.

1 - تهذيب الأحكام 7 / 202، كتاب التجارات، الباب 19 (باب المزارعة)، الحديث 34.
2 - الوسائل 13 / 261، الباب 21 من كتاب الإجارة، الحديث 3.
226

وحمله على السلطان العادل الحق بعيد جدا، لاستلزام حمله على موضوع فرضي
لا وجود له خارجا.
3 - موثقته الأخرى عنه (عليه السلام): " في الرجل يتقبل بجزية رؤوس الرجال وبخراج
النخل والآجام والطير، وهو لا يدري لعله لا يكون من هذا شيء أبدا أو يكون،
أيشتريه وفي أي زمان يشتريه ويتقبل منه؟ قال: إذا علمت أن من ذلك شيئا واحدا
أنه قد أدرك فاشتره وتقبل به (منه). "
ورواه الصدوق نحوه إلا أنه قال: " بخراج الرجال وجزية رؤوسهم وخراج النخل
والشجر والآجام والمصائد والسمك والطير. " (1)
حيث إن التقبل من سلطان الجور كان مفروض الجواز، والشبهة كانت في إمكان
عدم حصول الثمر والطير ونحوهما.
4 - رواية الفيض بن المختار، قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك، ما تقول
في أرض أتقبلها من السلطان ثم أؤاجرها أكرتي على أن ما أخرج الله منها من شئ
كان لي من ذلك النصف أو الثلث بعد حق السلطان؟ قال: لا بأس به، كذلك أعامل
أكرتي. " (2)
والظاهر أن محط النظر في السؤال بقرينة الجواب هو صحة المزارعة المخالف لها
أكثر فقهاء السنة. ويظهر بذلك أن صحة التقبل من السلطان كانت مفروغا عنها، الحمل
على التقية لا يحتمل مع هذا الفرض وهذا الجواب.
5 - موثقة إسحاق بن عمار، قال: سألته عن الرجل يشتري من العامل وهو يظلم؟
قال: " يشتري منه ما لم يعلم أنه ظلم فيه أحدا. " (3)
بتقريب أن الظاهر من الشراء من العامل هو شراء ما هو عامل فيه من قبل

1 - الوسائل 12 / 264، الباب 12 من أبواب عقد البيع وشروطه، الحديث 4.
2 - الوسائل 13 / 208، الباب 15 من كتاب المزارعة والمساقاة، الحديث 3.
3 - الوسائل 12 / 163، الباب 53 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.
227

السلطان ومنه الخراج.
6 - صحيحة أبي عبيدة الحذاء، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: سألته عن الرجل منا
يشتري من السلطان من إبل الصدقة وغنم الصدقة وهو يعلم أنهم يأخذون منهم أكثر
من الحق الذي يجب عليهم؟ قال: فقال (عليه السلام): " ما الإبل إلا مثل الحنطة والشعير وغير
ذلك، لا بأس به حتى تعرف الحرام بعينه. "
قيل له: فما ترى في مصدق يجيئنا فيأخذ منا صدقات أغنامنا فنقول: بعناها،
فيبيعناها، فما تقول في شرائها منه؟ فقال: " إن كان قد أخذها وعزلها فلا بأس. " قيل
له: فما ترى في الحنطة والشعير، يجيئنا القاسم فيقسم لنا حظنا ويأخذ حظه فيعزله
بكيل، فما ترى في شراء ذلك الطعام منه؟ فقال: " إن كان قبضه بكيل وأنتم حضور
ذلك فلا بأس بشرائه منه من غير كيل. " (1)
تدل هذه الصحيحة على أن شراء الصدقات والخراج من السلطان وعماله كان
مفروغ الجواز عند السائل إجمالا، وإنما سأل أولا عن الجواز مع العلم الإجمالي
بحصول الحرام أيضا في أيديهم. وثانيا عن جواز الاشتراء منه بتوهم مرجوحية شراء
ما أخرج في الصدقة. وثالثا عن جواز الاعتماد على الكيل الأول.
والظاهر من السؤال الأخير السؤال عن حكم المقاسمة التي هي قسم من الخراج
بالمعنى الأعم.
وبالجملة ففي الصحيحة سؤالا وجوابا إشعار بأن الجواز كان من الواضحات غير
المحتاجة إلى السؤال، وإلا لكان أصل الجواز أولى بالسؤال.
ولكن يظهر من المحقق الأردبيلي في المتاجر من مجمع البرهان التأمل في دلالة
الحديث، فقال:
" وفي الدلالة عليه أيضا تأمل، إذ لا دلالة في قوله: " لا بأس به حتى تعرف الحرام
بعينه " إلا على أنه يجوز شراء ما كان حلالا بل مشتبها أيضا، ولا يجوز شراء ما هو
معروف أنه حرام. ولا يدل على جواز شراء الزكاة بعينها صريحا، نعم ظاهرها ذلك

1 - الوسائل 12 / 162، الباب 52 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.
228

ولكن لا ينبغي الحمل عليه لمنافاته للعقل والنقل. ويحتمل أن يكون سبب
الإجمال التقية. ويؤيد عدم الحمل على الظاهر أنه غير مراد بالاتفاق، إذ ليس بحلال
ما أخذه الجائر، فتأمل. " (1)
واعترض عليه الشيخ الأعظم في المكاسب بقوله:
" وأنت خبير بأنه ليس في العقل ما يقتضي قبح الحكم المذكور. وأي فارق بين هذا
وبين ما أحلوه لشيعتهم مما فيه حقوقهم؟ ولا في النقل إلا عمومات قابلة للتخصيص
بمثل هذا الصحيح وغيره المشهور بين الأصحاب رواية وعملا، مع نقل الاتفاق عن
جماعة. وأما الحمل على التقية فلا يجوز بمجرد معارضة العمومات، كما
لا يخفى. " (2)
أقول: والروايات التي يمكن الاستدلال بها للمقام كثيرة متفرقة في الأبواب
المختلفة، ومنها ما دلت على حل جوائز السلاطين وقد كان جلها من الخراج. وابتلي
بها الأئمة (عليهم السلام) والصحابة وأصحاب أئمتنا (عليه السلام)، وربما كانوا يقبلونها كما تدل عليه
التواريخ والروايات، فراجع الوسائل (3) وغيره من الكتب.
الأمر السابع:
هل الحكم الذي مر مختص بما أخذه الجائر وقبضه من الخراج فقبل أخذه له
لا يصح شراؤه منه ولا قبوله بحوالة منه، أو يعم جميع الصور فيكون وزان الجائر في
خراج الأراضي التي تسلط عليها وزان الإمام العادل مطلقا؟ وجهان، بل قولان.
والظاهر هو التعميم، وهو المستفاد من الروايات الواردة في تقبل الأرض وخراج
الرجال والنخل والشجر ونحوهما، فراجع. وقد مر عن المسالك قوله:

1 - مجمع الفائدة والبرهان، كتاب المتاجر، ذيل قول المصنف: وما يأخذه السلطان الجائر...
2 - المكاسب / 73 (= ط. أخرى 5 / 251).
3 - الوسائل 12 / 156، الباب 51 من أبواب ما يكتسب به.
229

" ولا يشترط قبض الجائر له وإن أفهمه قوله: " ما يأخذه الجائر "، فلو أحاله به
أوكله في قبضه أو باعه هو في يد المالك أو ذمته حيث يصح البيع كفى ووجب على
المالك الدفع. " (1)
وعن جامع المقاصد قوله: " ولا فرق بين قبض الجائر إياها وإحالته بها
إجماعا. " (2)
الأمر الثامن:
هل يختص حكم الجواز بمن ينتقل إليه الخراج، فلا استحقاق للجائر في أخذه
أصلا ولم يمض الشارع من هذه المعاملة إلا حل ذلك المال للمنتقل إليه بل في بعض
كلمات الشيخ الأعظم أن المال باق على ملك المأخوذ منه ومع ذلك يجوز قبضه عن
الجائر بلا خلاف، أو يكون الشارع قد أمضى سلطنة الجائر عليه، فيكون منعه عنه أو
عن بدله المعوض عنه حراما؟ وجهان:
فعن رسالة المحقق الكركي أنه قال:
" ما زلنا نسمع من كثير ممن عاصرناهم - لا سيما شيخنا الأعظم الشيخ علي بن
هلال " قده " - أنه لا يجوز لمن عليه الخراج سرقته ولا جحوده ولا منعه ولا شيء منه،
لأن ذلك حق واجب عليه. " (3)
وفي المسالك:
" وقد ذكر الأصحاب أنه لا يجوز لأحد جحدها ولا منعها ولا التصرف فيها إلا
بإذنه، بل ادعى بعضهم الاتفاق عليه... وكيف كان فظاهر الأصحاب أن
الخراج المقاسمة لازمة للجائر حيث يطلبه أو يتوقف على إذنه. " (4)

1 - المسالك 1 / 168.
2 - جامع المقاصد 4 / 45 (= ط. القديم 1 / 207)، كتاب المتاجر، ذيل قول المصنف: والذي
يأخذه الجائر...
3 - المكاسب / 74 (= ط. أخرى 5 / 270); وكلمات المحققين / 190 (آخر الرسالة الخراجية).
4 - المسالك 1 / 155.
230

أقول: قال الشيخ الأعظم في المكاسب:
" إن أريد منع الحصة مطلقا فيتصرف في الأرض من دون أجرة فله وجه، لأنها
ملك المسلمين فلا بد لها من أجرة تصرف في مصالحهم.
وإن أريد منعها من خصوص الجائر فلا دليل على حرمته، لأن اشتغال ذمة
مستعمل الأرض بالأجرة لا يوجب دفعها إلى الجائر، بل يمكن القول بأنه لا يجوز مع
التمكن لأنه غير مستحق فيسلم إلى العادل أو نائبه الخاص أو العام، ومع التعذر يتولى
صرفه في المصالح حسبة. مع أن في بعض الأخبار ظهورا في جواز الامتناع، مثل
صحيحة زرارة، قال: اشترى ضريس بن عبد الملك وأخوه من هبيرة أرزا بثلاثمأة
ألف. قال: فقلت له: ويلك - أو ويحك! - انظر إلى خمس هذا المال فابعث به
إليه احتبس الباقي، فأبى علي. قال: فأدى المال وقدم هؤلاء فذهب أمر بني أمية. قال:
فقلت ذلك لأبي عبد الله (عليه السلام)، فقال مبادرا للجواب: هو له، هو له، فقلت له: إنه قد أداها،
فعض على إصبعه. " (1)
ولا يخفى أن ما ذكره الشيخ الأعظم أوفق بالقواعد.
والظاهر أنه لا إشكال في أن الجائر يحرم عليه التصرف تكليفا ويثبت عليه
الضمان وضعا، وإن جاز للآخذ الأخذ منه والتصرف.
وربما يتوهم عدم ضمانه بوجهين: الأول: أن المستفاد من الأخبار أن أئمتنا (عليه السلام)
أجازوا له التصرف في هذا المال بعد ما تقمص الخلافة وغصبها بنحو الترتب حفظا
لمصالح المسلمين.
الثاني: أن صحة المعاملة من طرف يستدعي الصحة من الطرف الآخر، إذ
لا يتصور أن تكون معاملة واحدة صحيحة من طرف وفاسدة من طرف آخر، فإذا
صح الشراء من الجائر صح البيع أيضا.
وكلا الوجهين قابلان للمناقشة، إذ الأول ادعاء محض لا دليل عليه. ويرد على
الثاني أن إذن الإمام الذي هو ولى المال لمن أخذه من شيعته لا يستلزم إجازته لما

1 - المكاسب / 74 (= ط. أخرى 5 / 272). والرواية في الوسائل 12 / 161، الباب 52 من أبواب
ما يكتسب به، الحديث 2.
231

صدر عن الجائر وتصحيح معاملاته حتى يرتفع عنه الضمان، وليس في الأخبار
دلالة على ذلك. فإذن الإمام للآخذ من شيعته نظير إجازة المالك لعقد الفضولي، حيث
لا يستلزم ذلك رفع الإثم عنه في تصرفه وغصبه وانتقال العوض إليه، فتدبر.
والحاصل أن المحتملات في المسألة ثلاثة:
الأول: أن يقال: إن المال باق على ملك المأخوذ منه، ومع ذلك أجيز للآخذ
التصرف فيه، كما هو ظاهر ما حكيناه عن الشيخ.
الثاني: أن الإمام (عليه السلام) أجاز تصرفات الجائر ومعاملاته، وأمر أن يعامل معه معاملة
الإمام العادل حتى إنه يحرم منع الجائر من أجرة الأرض بعد ما كان هو المتصدي
لإجارته.
الثالث: أن يقال: إن وزان الجائر في المقام وزان الفضولي، فتصرفه حرام ولو أتلف
المال أو ثمنه يكون ضامنا، غاية الأمر أن الإمام الذي هو ولى أمر المسلمين أجاز
التصرفات والمعاملات بالنسبة إلى شيعتهم، فالمال انتقل إلى الآخذ ولكن بإجازته،
كما أنه في المعاملات الفضولية ينتقل المال بإجازة المالك إلى المشتري والثمن إلى
المالك من دون أن يقتضي ذلك رفع الحرمة أو الضمان بالنسبة إلى الفضولي أو انتقال
العوض إليه. وأقوى المحتملات هو الثالث، فتدبر.
الأمر التاسع:
هل الحكم الذي مضى يختص بالسلطان المخالف المعتقد لاستحقاق أخذ الخراج،
أو يعم كلا من المؤمن والمخالف بل والكافر أيضا؟:
من اختصاص موارد الأخبار بالمخالف المعتقد لاستحقاقه التقبيل
والأخذ الإعطاء، فيقتصر في الحكم المخالف للقواعد عليه. وكأنه من قبيل إلزام
الناس بما ألزموا به أنفسهم.
232

ومن لزوم الحرج والضرر وتنقيح المناط القطعي، بل وإطلاق بعض الأخبار على
ما قيل:
كصحيحة الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " لا بأس بأن يتقبل الرجل الأرض وأهلها
من السلطان. الحديث " (1)
وصحيحة أبي بصير ومحمد ابن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنهما قالا له: هذه الأرض
التي يزارع أهلها ما ترى فيها؟ فقال: " كل أرض دفعها إليك السلطان فما حرثته فيها
فعليك مما أخرج الله منها الذي قاطعك عليه. الحديث. " (2)
وغير ذلك من الأخبار التي وقع فيها الحكم على طبيعة السلطان فيؤخذ بإطلاقه.
في المسألة قولان: قال الشهيد في المسالك:
" والظاهر أن الحكم مختص بالجائر المخالف للحق، نظرا إلى معتقده من استحقاقه
ذلك عندهم. فلو كان مؤمنا لم يحل أخذ ما يأخذه منهما، لاعترافه بكونه ظالما فيه،
وإنما المرجع حينئذ إلى رأي حاكمهم الشرعي. مع احتمال الجوزا مطلقا، نظرا إلى
إطلاق النص والفتوى. ووجه التقييد أصالة المنع إلا ما أخرجه الدليل، تناوله للمخالف
متحقق، والمسؤول عنه للأئمة (عليه السلام) إنما كان مخالفا للحق فيبقى الباقي، وإن وجد مطلقا
فالقرائن دالة على إرادة المخالف منه التفاتا إلى الواقع أو الغالب. " (3)
واعترض عليه في كفاية الأحكام بقوله:
" ما يظهر من كلام الشهيد الثاني من الميل إلى اختصاص حكم حل الخراج
بالمأخوذ من المخالفين فلا وجه له، إذ الظاهر أن ترخيص الأئمة (عليهم السلام) إنما هو لغرض

1 - تهذيب الأحكام 7 / 202، كتاب التجارات، الباب 19 (باب المزارعة)، الحديث 34.
2 - الوسائل 6 / 129، الباب 7 من أبواب زكاة الغلات، الحديث 1.
3 - المسالك 1 / 169.
233

توصل الشيعة إلى حقوقهم في بيت مال المسلمين لعلمهم بأن ذلك غير مقدور لهم
لعجزهم واستيلاء السلاطين على الأموال، كما يشير إليه رواية عبد الله بن سنان، عن
أبيه ورواية أبي بكر الحضرمي. واعتقاد الجائر إباحته بالنسبة إليه جهلا غير مؤثر في
جواز الأخذ منه، لأن الجهل ليس بعذر، ولو كانت مؤثرة لكان تأثيرها في تسويغه
بالنسبة إليه أولى. " (1)
أقول: الظاهر أنه أراد بالروايتين ما رواه الشيخ بسند صحيح، عن عبد الله بن
سنان، عن أبيه، قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن لي أرض خراج وقد ضقت بها،
أفأدعها؟ قال: فسكت عني هنيهة ثم قال: " إن قائمنا لو قد قام كان نصيبك من الأرض
أكثر منها. " وقال: " لو قد قام قائمنا كان للإنسان أفضل من قطائعهم. " وروى نحوها
الكليني أيضا. " (2)
وما رواه الشيخ أيضا بسند صحيح، عن أبي بكر الحضرمي، قال: دخلت على أبي
عبد الله (عليه السلام) وعنده إسماعيل ابنه، فقال: " ما يمنع ابن أبي سماك أن يخرج شباب
الشيعة فيكفونه ما يكفيه الناس ويعطيهم ما يعطي الناس؟ " ثم قال لي: " لم تركت
عطاءك؟ "
قال: قلت: مخافة على ديني. قال: " ما منع ابن أبي سماك أن يبعث إليك بعطائك؟
أما علم أن لك في بيت المال نصيبا؟ " (3)
ويشهد لهذا المضمون أيضا خبر إبراهيم بن أبي زياد، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام)
عن الشراء من أرض الجزية. قال: فقال: " اشترها، فإن لك من الحق ما هو أكثر من
ذلك. " (4)
وخبر محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام)، والساباطي وزرارة، عن أبي

1 - كفاية الأحكام / 79.
2 - الوسائل 11 / 121، الباب 72 من أبواب جهاد العدو، الحديث 3.
3 - الوسائل 12 / 157، الباب 51 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.
4 - الوسائل 11 / 119، الباب 71 من أبواب جهاد العدو، الحديث 4.
234

عبد الله (عليه السلام) أنهم سألوهما عن شراء أرض الدهاقين من أرض الجزية، فقال: " إنه
إذا كان ذلك انتزعت منك أو تؤدي عنها ما عليها من الخراج. " قال عمار: ثم أقبل
على فقال: " اشترها، فإن لك من الحق ما هو أكثر من ذلك. " (1)
فيستفاد من هذه الأخبار أن من كان له حق في الزكاة أو الخراج أو نحوهما يجوز
له استنقاذ حقه ولو كان من يد الجائر الغاصبة. فكأن الإمام (عليه السلام) بولايته أجاز وأنفذ
تصرف الجائر وأخذه وإعطاءه بالنسبة إلى حق من له حق ويصل إليه حقه، ولا سيما
إذا كان من شيعتهم تسهيلا لهم وتعطفا عليهم. ومقتضى ذلك تحليل جوائز
السلطان الأراضي والأموال المأخوذة منه لخصوص من كان مستحقا لها ومصرفا لها
شرعا، وإن لم تحل لغيره.
ولعله إلى هذا المعنى أشار العلامة في بيع التذكرة، حيث قال:
" ما يأخذ الجائر من الغلات باسم المقاسمة، ومن الأموال باسم الخراج عن حق
الأرض، ومن الأنعام باسم الزكاة يجوز شراؤه واتهابه، ولا تجب إعادته على أصحابه
وإن عرفوا، لأن هذا مال لا يملكه الزارع وصاحب الأنعام والأرض فإنه حق لله
أخذه غير مستحقه فبرئت ذمته وجاز شراؤه. " (2) هذا.
ويمكن أن يوجه المورد وأمثاله بأنها من الأمور الحسبية التي لا يرضى الشارع
الحكيم بتعطلها وإهمالها، فإذا لم يتمكن الإمام من إقامتها ولا الحاكم
الشرعي لا عدول المؤمنين صحت إقامتها من حكام الجور وعمالهم بل كل
جائر فاسق تصدى لها، سواء كان مؤمنا أو مخالفا.
وبهذا البيان يصحح جميع تصرفاتهم التي تكون من وظائف الإمامة الحقة، مثل ما يقع
منهم في حفظ بيضة الإسلام وحفظ الثغور والدفاع عن حرمات المسلمين حقوقهم، وإيجاد
الأمن في السبل وإحداث المساجد والمستشفيات المشاريع العامة وبسط المعروف وقطع
جذور الفساد وغير ذلك، وإن عوقبوا لتصدي الخلافة وتقمصها وعدم تفويضها إلى أهلها،
ووجب على الأمة أيضا السعي في إقامة

1 - الوسائل 12 / 274، الباب 21 من أبواب عقد البيع وشروطه، الحديث 1.
2 - التذكرة 1 / 583.
235

الدولة الحقة العادلة، إذ لا منافاة بين الوظيفتين: فعلى الأمة السعي في إرجاع
الحكم إلى أهله ووجب عليه أيضا تفويض الأمر إليه، ولكنه مع ذلك يجب عليه بعد
تقمص الخلافة وتحصيل القدرة التصدي للأمور المهمة التي لا يرضى الشارع
بإهمالها من باب الحسبة، ويجب على الأمة أيضا إطاعته وإعانته في هذا السنخ من
الأمور إلى أن تستقر الدولة الحقة فيرجع الأمور إليها، فتدبر.
ويمكن أن يناقش في الأدلة التي ذكرت للتعميم في المسألة:
أولا: بانصراف لفظ السلطان في الروايات إلى سلاطين عصرهم من
الأموية العباسية المدعين للخلافة، واللام للعهد، والقضايا قضايا خارجية لا حقيقية،
كيف؟! وإلا حملت على السلطان الواجد للشرائط الشرعية.
وثانيا: بمنع الإطلاق، لكون ما توهم إطلاقه مسوقا لبيان حكم آخر كجواز
إدخال أهل الأرض الخراجية في تقبلها في صحيحة الحلبي، وجواز التقبيل بالأكثر
مما تقبل به الأرض من السلطان في رواية الفيض بن المختار ونحو ذلك.
وثالثا: بمنع لزوم الحرج والضرر المدعى، لكون حرمة الأخذ مختصة بما علم
تفصيلا كونه زكاة أو خراجا، وليس جميع ما في أيديهم كذلك لاحتمال وجود
الحلال في ما بأيديهم، ومجرد الاحتمال يكفي في جواز الأخذ. ولا يضر العلم
الإجمالي بعد كون بعض الأطراف خارجا عن محل الابتلاء، نظير الأخذ ممن
لا يؤدي الحقوق الواجبة.
ورابعا: بالنقض بلزوم الحرج بالامتناع عن سائر ما يأخذونه ظلما من
العشور الضرائب أيضا، فلابد من الحكم بجوازه ولم يقل به أحد.
وخامسا: بما في كلام الشيخ الأعظم، من أن عنوان المسألة في كلامهم ما يأخذه
الجائر لشبهة المقاسمة أو الزكاة كما في المنتهى أو باسم الخراج أو المقاسمة كما في
غيره، وما يأخذه الجائر المؤمن ليس لشبهة الخراج والمقاسمة، لأن المراد بشبهتهما
شبهة استحقاقهما الحاصلة في مذهب العامة دون مذهب الشيعة.
وعلى هذا فالأحوط الرجوع إلى الحاكم الشرعي والاستيذان منه في كل مورد
236

شك في الحلية والجواز.
الأمر العاشر:
ربما أشكل الاستدلال للحكم في المقام بما ورد في أرض السواد من كونها
للمسلمين، بتقريب أن سواد العراق لم يفتح بأمر الإمام وإذنه، والمشهور بين أصحابنا
بل قيل لا خلاف فيه: أن ما يغنمه المقاتلون بغير إذن الإمام يكون من الأنفال ويكون
للإمام خاصة.
ويشهد له مرسل الوراق، عن رجل سماه، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " إذا غزا قوم
بغير إذن الإمام فغنموا كانت الغنيمة كلها للإمام، وإذا غزوا بأمر الإمام فغنموا كان
للإمام الخمس. " (1)
وقد مر عن مبسوط الشيخ - قدس سره - قوله:
" وعلى الرواية التي رواها أصحابنا: " أن كل عسكر أو فرقة غزت بغير أمر الإمام
فغنمت يكون الغنيمة للإمام خاصة "، هذا الأرضون وغيرها مما فتحت بعد الرسول إلا
ما فتح في أيام أمير المؤمنين (عليه السلام) إن صح شيء من ذلك تكون للإمام خاصة. (2)
وعلى هذا فيجب أن تحمل لا محالة أخبار أرض السواد على التقية. هذا.
وأجيب عن هذا الإشكال أولا: بأن المتبادر من المرسل خصوص الغنيمة التي
تخمس وتقسم، فلا تشمل الأراضي التي لا خمس فيها ولا تقسيم كما مر.
وثانيا: بأن عمر استشار أمير المؤمنين (عليه السلام) في ذلك. ويدل على ذلك فعل

1 - الوسائل 6 / 369، الباب 1 من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام، الحديث 16.
2 - المبسوط 2 / 34.
237

عمار، حيث كان من خواص أصحابه (عليه السلام) ولم يكن يصدر إلا عن أمره. اللهم إلا أن
يقال: إن مجرد الرضا والإذن لا يكفي في ذلك، بل يعتبر أن يكون الغزاء بأمر الإمام
وتحت قيادة أمير أمره.
وفي كفاية الأحكام بعد تضعيف المرسل قال:
" ثم لو صحت لا تضر، لأن الظاهر أن الفتوح التي وقعت في زمن عمر كانت بإذن
أمير المؤمنين (عليه السلام) لأن عمر كان يشاور الصحابة خصوصا أمير المؤمنين (عليه السلام) في تدبير
الحروب وغيرها، وكان لا يصدر إلا عن رأيه (عليه السلام). والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أخبره بالفتوح وغلبة
المسلمين على أهل الفرس والروم. وقبول سلمان تولية المدائن وعمار إمارة العساكر
مع ما روي فيهما قرينة على ما ذكرنا.
ومع ذلك وقع التصريح بحكم أرض السواد وكونها للمسلمين في النص الصحيح
كما ذكرنا.
وقد روى الشيخ، عن محمد بن مسلم في الصحيح، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: سألته
عن سيرة الإمام (عليه السلام) في الأرض التي فتحت بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال: إن
أمير المؤمنين (عليه السلام) قد سار في أهل العراق بسيرة، فهم إمام لسائر الأرضين.
الحديث. " (1)
وفي الجواهر بعد نقل كلام الكفاية قال:
" وعن الصدوق أنه روى مرسلا استشارة عمر عليا (عليه السلام) في هذه الأراضي فقال:
" دعها عدة للمسلمين ".
وعن بعض التواريخ أن عمر لما رأى المغلوبية في عسكر الإسلام في غالب الأسفار
والأوقات استدعى من أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يرسل الحسن (عليه السلام) إلى محاربة يزدجرد، فأجابه
وأرسله. وحكي أنه ورد ري وشهريار، وفي المراجعة ورد قم، ارتحل منها إلى كهنك، ومنها
إلى أردستان، ومنها إلى قهبان ومنها إلى إصفهان، صلى في المسجد الجامع العتيق، واغتسل
في الحمام الذي كان متصلا بالمسجد، ثم نزل

1 - كفاية الأحكام / 79. والرواية في الوسائل 11 / 117، الباب 69 من أبواب جهاد العدو،
الحديث 2.
238

لنبان وصلى في مسجده. إلا أن ذلك كما ترى لا يعول عليه بعد عدم كونه بسند
معتبر.
ويحتمل بعضه أو جميعه غير صدور الإذن.
لكن قد يقال بأن الحكم في النصوص المعتبرة السابقة بكون هذه الأراضي
للمسلمين بعد معلومية اعتبار الإذن فيها شاهد على صدورها منهم - عليهم السلام -.
ولعله أولى من الحمل على التقية خصوصا بعد عدم معروفيته بين العامة، وإنما يحكى
عن مالك منهم ولم يكن مذهبه معروفا كي يتقى منه، خصوصا بعد مخالفة الشافعي أبي
حنيفة له. " (1)
أقول: والحق الصحيح هو ما ذكره أخيرا.
ويشهد لذلك أيضا ما رواه الصدوق في الأبواب السبعة من الخصال بسنده، عن
أبي جعفر (عليه السلام) في حديث طويل يذكر فيه أن عليا (عليه السلام) قال لرأس اليهود عند منصرفه
عن النهروان: " إن الله - عز وجل - يمتحن الأوصياء في حياة الأنبياء في سبعة
مواطن... ثم يمتحن الأوصياء بعد وفاة الأنبياء (عليه السلام) في سبعة مواطن - إلى أن قال -:
" وأما الرابعة يا أخا اليهود، فإن القائم بعد صاحبه (يعني عمر بعد أبي بكر) كان
يشاورني في موارد الأمور فيصدرها عن أمري ويناظرني في غوامضها فيمضيها عن
رأيي، لا أعلم أحدا ولا يعلمه أصحابي يناظره في ذلك غيري. الحديث. " (2)
ولا يخفى أن عموم الأمور يشمل مثل الخروج إلى الكفار ودعائهم إلى
الإسلام، إنما الإشكال في سند الحديث، إلا أن يقال أن اعتماد الصدوق عليه جابر
لضعفه. هذا.
والذي يسهل الخطب ما مر منا من عدم تفاوت أساسي بين كون الأرض للإمام
بما أنه إمام، أو للمسلمين بما هم مسلمون، حيث إن الإمام يقبل كليهما

1 - الجواهر 21 / 161.
2 - الخصال / 365 و 374 (الجزء 2)، باب السبعة، الحديث 58.
239

ويصرف حاصلهما في مصالح المسلمين وسد خلاتهم. نعم، يوجد التفاوت بين
وجود الإذن عدمه بالنسبة إلى المنقولات، حيث إن ما غنم بالإذن يقسم ما زاد منه عن
النوائب والخمس بين المقاتلين بخلاف ما غنم بغير إذن. وقد مر احتمال كون
الموضوع في مرسل الوراق هو المنقولات فقط فلا يشمل الأراضي أصلا، فتدبر.
الأمر الحادي عشر:
قد ظهر مما مر إلى هنا أن كون الأرض خراجية وكونها للمسلمين بما هم مسلمون
يتوقف على أمور ثلاثة: الأول: كونها مفتوحة عنوة أو صلحا على أنها للمسلمين.
الثاني: كونها محياة حال الفتح. الثالث: كون الفتح بإذن الإمام على ما هو
المشهور، يستدل عليه بمرسل الوراق وسيأتي بيانه في مبحث الأنفال. ولا يخفى أن
إثبات هذه الأمور الثلاثة مع تقادم الزمان وتقلب الأحوال والأراضي في غاية
الإشكال. قال الشيخ الأعظم - قدس سره - في المكاسب:
" يثبت الفتح عنوة بالشياع الموجب للعلم، وبشهادة العدلين، وبالشياع المفيد للظن
المتاخم للعلم، بناء على كفايته في كل ما يعسر إقامة البينة عليه، كالنسب
والوقف الملك المطلق. وأما ثبوتها بغير ذلك من الأمارات الظنية حتى قول من يوثق
به من المؤرخين فمحل إشكال، لأن الأصل عدم الفتح عنوة وعدم تملك المسلمين.
نعم، الأصل عدم تملك غيرهم أيضا، فإن فرض دخولها بذلك في الأنفال وألحقناها
بأرض الخراج في الحكم فهو، وإلا فمقتضى القاعدة حرمة تناول ما يؤخذ قهرا من
زراعها. وأما الزراع فيجب عليهم مراجعة حاكم الشرع فيعمل فيها معهم على طبق
ما يقتضيه القواعد عنده من كونه مال الإمام (عليه السلام) أو مجهول المالك أو غير ذلك. " (1)

1 - المكاسب / 77 (= ط. أخرى 5 / 337).
240

وقال الشهيد في المسالك:
" ويثبت كونها مفتوحة عنوة بنقل من يوثق بنقله، واشتهاره بين المؤرخين. وقد
عدوا من ذلك مكة المشرفة وسواد العراق وبلاد خراسان والشام. وجعل بعض
الأصحاب من الأدلة على ذلك ضرب الخراج من الحاكم وإن كان جابرا، وأخذ
المقاسمة من ارتفاعها، عملا بأن الأصل في تصرفات المسلمين الصحة، وكونها
عامرة وقت الفتح بالقرائن المفيدة للظن المتاخم للعلم كتقادم عهد البلد واشتهار
تقدمها على الفتح، وكون الأرض مما يقضي القرائن المذكورة بكونها مستعملة في
ذلك الوقت لقربها من البلد وعدم المانع من استعمالها عادة ونحو ذلك مما لا يضبطه
إلا الأمارات المفيدة للعلم أو ما يقاربه. " (1)
أقول: ههنا نكات ومناقشات ينبغي الإشارة إليها:
الأولى: أن ما في كلام الشيخ من الثبوت بشهادة العدلين يمكن أن يورد عليه
بأنهما إن شهدا على السماع من بينة سابقة عليهما، والسابقة أيضا على السماع من
سابقتها، وهكذا إلى زمان الواقعة فلا إشكال في حجيتها، ولكن تحقق مثلها مقطوع
العدم.
وأما الشهادة المستندة إلى ما في التواريخ أو ما على الأفواه أو غيرهما من
الأمارات الظنية فيشكل الاعتماد عليها بعد عدم الاعتماد على مستنداتها. والحاصل
أنه يعتبر في الشهادة المعتبرة أن تكون عن حس لا عن حدس واجتهاد.
الثانية: قد يقال: إن الاشتهار بين المؤرخين إن أفاد العلم فلا إشكال في حجيته،
ولكن يبعد جدا تحقق ذلك مع كثرة الاختلاف بينهم، وتأخر زمانهم عن
الحوادث، ابتناء أكثر آرائهم على الحدسيات والنقليات الضعيفة. وأما إن أورث الظن
فقط فلا دليل على حجيته. هذا.

1 - المسالك 1 / 155.
241

وربما يقرب حجيته بوجهين: الأول: أن قول المؤرخ الثبت الثقة نظير قول اللغوي
في اللغة والطبيب في طبه والصانع في صنعته، وقد استقرت سيرة العقلاء في جميع
الأعصار حتى في عصر الأئمة (عليهم السلام) على الأخذ بقول أهل الخبرة في كل فن وحرفة. لم
يرد عنهم ردع عن ذلك.
الثاني: أن في هذا السنخ من الموضوعات الشرعية التي يكثر الابتلاء بها ويعسر
تحصيل العلم فيها ولا يجوز إهمالها بالكلية لا محيص عن العمل بالظن، وإلا لزم
تعطيل الأحكام، ويطلق على هذا الانسداد الصغير.
وتقريبه أنا نعلم إجمالا بثبوت التكليف فيها وعدم جواز إهمالها وانسداد باب
العلم فيها غالبا. ولا يمكن الاحتياط فيها غالبا، لدوران الأمر بين المتباينين، أو كونه
موجبا لاختلال النظام، أو مرجوحا قطعا لمخالفته لسهولة الشريعة السمحة. وتقديم
المرجوح على الراجح قبيح عقلا فيتعين العمل بالظن دون الوهم.
ويظهر من الكفاية اعتماده على الظن لذلك ثم قال:
" والظن قد يحصل بالتواريخ المعتبرة إذا كان صاحب الكتاب اشتهر بصحة النقل و
الاعتماد على كتابه والعمل بقوله بين الناس، كابن جرير الطبري، وصاحب المغازي:
الواقدي، والبلاذري، والمدائني، وابن الأثير، والمسعودي وأضرابهم. وقد يحصل
باستمرار أخذ السلاطين الخراج منه وأخذ المسلمين من السلاطين، إذ الظاهر أن
أخذ الخراج من ذلك البلد إذا كان مستمرا في الأعصار التي نعلمها لم يكن شيئا
حادثا من بعد سلاطين الجور، بل كان شيئا مستمرا من الصدر الأول من غير نكير، أنه
لو كان حادثا فالظاهر أنه كان ذلك منقولا في كتب التواريخ والأخبار لاعتناء أهل
التواريخ ببيان أمثال هذه المبتدعات والحوادث. وأخذ الناس ذلك الخراج من
السلاطين مستمرا شاهد على ذلك، فإن الظاهر جريان أفعال المسلمين على وجه
الصحة والمشروعية ما لم يعلم خلاف ذلك. " (1)

1 - كفاية الأحكام / 79.
242

أقول: ثبوت الحجية لمطلق الظن ولا سيما إذا كان في قباله أمارة معتبرة كاليد
المدعية للملك أو المتصرفة تصرف الملاك في أموالهم ممنوع. نعم، إذا بلغ حد الوثوق
وسكون النفس بحيث لا يعتني العقلاء باحتمال خلافه فالظاهر حينئذ حجيته ويعد
هذا علما عاديا. وكثيرا ما يحصل ذلك من استفاضة نقل المؤرخين بل من نقل مؤرخ
واحد إذا كان ثقة ثبتا. وبناء العقلاء في جميع مراحل الحياة على العمل
بالوثوق سكون النفس، ولا يلتزمون بتحصيل العلم بنحو المأة في المأة، والتشكيك في
ذلك يعد وسواسا.
وأما استقرار السيرة على العمل بقول أهل الخبرة في كل فن، فإن أريد بذلك تعبد
العقلاء به عملا وإن لم يحصل لهم وثوق بصدقه نظير ما نلتزم به في حجيته البينة
شرعا، ففيه أن الظاهر عدم وجود الحجية التعبدية عند العقلاء بما هم عقلاء. وحجية
البينة شرعا إنما ثبتت بالروايات الدالة عليها تعبدا.
وإن أريد به أخذهم به بعد ما حصل لهم الوثوق بقوله كما هو الغالب، فهو الذي
أشرنا إليه من كونه علما عاديا عندهم. فإذا رجع شخص إلى الطبيب وحصل له
الوثوق وسكون النفس برأيه وتشخيصه أخذ به وإلا رجع إلى طبيب آخر أو شورى
طبية، اللهم إلا أن يعمل به رجاء واحتياطا إذا أن الضرر والخطر من ناحيته.
ثم لو فرض وجود التعبد عند العقلاء وجواز الأخذ بسيرتهم في ذلك فيجب أن
يتصل السيرة في كل شيء بخصوصه إلى عصر الأئمة (عليهم السلام) حتى ينكشف إمضاؤهم لها،
ولم يثبت استقرار السيرة على العمل بقول اللغوي أو المؤرخ في أعصارهم. ولا يكفي
تحقق السيرة في بعض الأمور في أعصارهم لإثبات حجية ما لم يثبت استقراره في
أعصارهم، فتدبر.
الثالثة: وأما ما ذكر من إثبات كون الأرض خراجية بضرب الخراج عليها من
السلطان الجائر وأخذه منها حملا لتصرف المسلم على الصحة، ففيه أنه إن أريد بفعل
المسلم تصرف الجائر بأخذ الخراج فلا ريب أن تصرفه وأخذه حرام وإن علم
243

كون الأرض خراجية ولا اعتبار بعقده وعقد عماله مع العلم بعدم ولايته على
الأرض فكيف يصح فعله؟!
ودعوى أن أخذه الخراج من أرض الخراج أقل فسادا يدفعها أولا: عدم الفرق
لأن مناط الحرمة في المقامين واحد وهو أخذ مال الغير بلا استحقاق. واشتغال ذمة
المأخوذ منه بالخراج لا يهون الحرمة بالنسبة إلى الآخذ.
وثانيا: أنه لا دليل على وجوب حمل الفاسد على الأقل فسادا فيما إذا لم يتعدد
عنوان الفساد، كما إذا دار الأمر بين كون الزنا بإكراه المرأة أو برضاها، حيث إن الظلم
محرم آخر غير الزنا.
هذا مضافا إلى أن الحمل على الصحة إنما يكون فيما إذا احتمل اعتناء الفاعل
بالموازين الشرعية، وأما إذا علم من طبعه وسيرته أنه لا يريد إلا ما استهواه فيشكل
الحمل على الصحة.
وإن أريد بفعل المسلم تصرف المسلمين فيما يأخذونه من الجائر من خراج الأرض
ففيه أنه لا عبرة بفعلهم إذا علمنا بأنهم مثلنا في الجهل بحال هذه الأراضي. ربما يقال: إن
الجائر الذي يرى نفسه وليا على المسلمين إذا ضرب الخراج على أرض بهذا العنوان
فبعمله تقع الأرض تحت يد المسلمين، وهي أمارة الملكية نظير ما إذا وقع ملك في
تصرف الوقف عملا وإن كان المتصدي له غير المتولي الشرعي.
وفيه ما لا يخفى، إذ الموجود خارجا هي اليد الغاصبة، وإثباتها الملكية للجهة
المنتحلة محل إشكال، فتدبر.
الرابعة: وأما ما ذكره الشهيد من كون سواد العراق وبلاد خراسان والشام مما
فتحت عنوة فقد ناقشه في الكفاية، حيث حكى عن بعض التواريخ ما ملخصه:
" إن حيرة بقرب الكوفة فتحت صلحا، ونيشابور وبلخ وهرات وفوسخ والتوابع
من بلاد خراسان فتحت صلحا وبعضها فتحت عنوة، فحال بلاد خراسان
مختلفة، كذلك بلاد الشام، فحكي أن حلب وحماة وحمص وطرابلس فتحت صلحا.
وأن أهل طبرستان صالحوا أهل الإسلام، وآذربايجان فتحت صلحا، وأهل إصفهان
244

عقدوا أمانا، والري فتح عنوة... " (1)
أقول: غالب بلاد الإسلام فتحت عنوة، ومنها مكة المكرمة على ما مر وسواد
العراق وأكثر بلاد الشام وأكثر بلاد إيران وبلاد السند وشمال إفريقا ومصر وبلاد
أندلس ونحوها. وتحقيق حال البلاد يحتاج إلى تتبع كثير لا يناسب وضع هذا
الكتاب، فراجع.
وقوله: " فوسخ " في الجواهر: " قوسيخ " وفي حاشية المكاسب للسيد
" ترشيج " (2)، ولعله الأصح. ويراد به " كاشمر " الفعلي.
الخامسة: وأما ما ذكره الشيخ الأعظم من أصالة عدم التملك فنقول: إن كان الشك
في أصل التملك فبأصالة عدم التملك تدخل الأرض في أرض لا رب لها، وقد عد هذا
العنوان من الأنفال، كما في خبر أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) المروي في المستدرك
من كتاب عاصم بن حميد. (3)
وأما إن علم التملك إجمالا وشك في كونها للمسلمين أو للأشخاص فالأصلان
يتعارضان، وتصير الأرض من مصاديق مجهول المالك، ومصرفه التصدق
به، اختيارها إلى الإمام. ولو أريد بالتصدق في مجهول المالك معناه الأعم، بحيث
يشمل الصرف في المصارف الثمانية التي منها سبل الخير كما لعله المستفاد من آية
مصرف الصدقات، فلا يبقى إشكال في البين، إذا الصرف في المصالح العامة صرف
في مصرف مشترك، وإلا فالأحوط إعطاؤه لفقير يقوم ببعض المصالح العامة.
ومقتضى صحيحة الكابلي وغيرها كما يأتي أن للإمام تقبيل الأنفال وضرب
الطسق عليها أيضا.
ولعل المستفاد مما دل على تنفيذ الأئمة (عليهم السلام) لأعمال الجائر بالنسبة إلى شيعتهم
المبتلاة بهم تسهيلا لهم وإجازة أن يعامل معهم في هذا السنخ من الأمور معاملة

1 - كفاية الأحكام / 76.
2 - الجواهر 21 / 167; وحاشية المكاسب / 53.
3 - مستدرك الوسائل 1 / 553، الباب 1 من أبواب الأنفال...، الحديث 1.
245

الإمام العادل هو جواز ما يعطونه للشيعة من خراج هذه الأراضي أيضا، كما
أجازوا التصرف فيما يأخذونه من الخراج والمقاسمة والزكوات، فتدبر.
السادسة: في مكاسب الشيخ الأعظم أيضا:
" ثم إنه يثبت الحياة حال الفتح بما كان يثبت به الفتح عنوة. ومع الشك فيها
فالأصل العدم وإن وجدناها الآن محياة لأصالة عدمها حال الفتح، فيشكل الأمر في
كثير من محياة أراضي البلاد المفتوحة عنوة. نعم، ما وجد منها في يد مدع للملكية
حكم بها له. أما إذا كانت بيد السلطان أو من أخذها منه فلا يحكم لأجلها بكونها
خراجية، لأن يد السلطان عادية على الأراضي الخراجية أيضا. وما لا يد لمدعي
الملكية عليها كان مرددا بين المسلمين ومالك خاص مردد بين الإمام لكونها تركة
من لا وارث له وبين غيره، فيجب مراجعة حاكم الشرع في أمرها. ووظيفة الحاكم في
الأجرة المأخوذة منها إما القرعة وإما صرفها في مصرف مشترك بين الكل، كفقير
يستحق الإنفاق من بيت المال لقيامه ببعض مصالح المسلمين. " (1)
أقول: ظاهر كلامه - قدس سره - أن ميراث من لا وارث له يكون لشخص الإمام،
مع أنه من الأنفال كما دلت عليه أخبار مستفيضة، والأنفال للإمام بما أنه إمام
لا لشخصه، وإن شئت قلت: إنها أموال عامة وإنما الإمام ولى أمرها فله التصرف فيها
بما رآه صلاحا، وسيأتي تحقيقه في محله.
السابعة: وفيه أيضا:
" ثم اعلم أن ظاهر الأخبار تملك المسلمين لجميع أرض العراق المسمى بأرض
السواد، من غير تقييد بالعامر، فينزل على أن كلها كانت عامرة حال الفتح...

1 - المكاسب / 78، (= ط. أخرى 5 / 362).
246

فما قيل من أن البلاد المحدثة بالعراق، مثل البغداد والكوفة والحلة والمشاهد
المشرفة إسلامية بناها المسلمون ولم تفتح عنوة ولم يثبت أن أرضها يملكها
المسلمون بالاستغنام، والتي فتحت عنوة وأخذت من الكفار قهرا قد انهدمت، لا يخلو
عن نظر، لأن المفتوحة عنوة لا يختص بالأبنية حتى يقال إنها انهدمت. فإذا كانت
البلاد المذكورة وما يتعلق بها من قراها غير مفتوحة عنوة فأين أرض العراق
المفتوحة عنوة المقدرة بستة وثلاثين ألف ألف جريب؟ وأيضا من البعيد عادة أن
يكون بلد المدائن على طرف العراق بحيث يكون الخارج منها مما يليه البلاد
المذكورة مواتا غير معمورة وقت الفتح. " (1)
أقول: قد مر أن السواد كان يطلق عليها باعتبار أشجارها ونخيلها، وسواد العراق
لا يدل على كون جميع الأرض سوادا وعامرة، فلعله من إضافة الجزء إلى الكل
لا الصفة إلى الموصوف.
نعم، كون أراضي العراق أراضي سهلة واقعة بين النهرين العظيمين يوجب الحدس
القوي بكون أكثرها محياة حال الفتح ولو بالزراعة، فإن الاحياء لا يختص بإحداث
الأبنية.
واحتمال كون جميع المشاهد المشرفة والبلاد المبتلى بها في أعصارنا محدثة في
الموات حال الفتح بعيد جدا. فهذا أمر واضح ظاهر. ولكن تأييد الشيخ - قدس سره -
ذلك بالمساحة التي نقلها أمر غريب، فإن مساحة العراق أزيد من ذلك بكثير:
ففي الجغرافية المطبوعة أخيرا المسماة: " گيتا شناسي " أن مساحتها: 438446
كم. (2) وهكذا حكي عن جغرافية العراق.
وفي أعلام المنجد: 448742 كم. (3) فلو جعلنا الجريب ألف مترا كما هو

1 - المكاسب / 78، (= ط. أخرى 5 / 364 و 367).
2 - گيتاشناسي / 202 (من الطبعة الرابعة بالفارسية).
3 - المنجد في الأعلام / 458.
247

المعروف صارت مساحتها على الأول: 438446000 جريبا، وعلى الثاني:
448742000 جريبا.
فلعل المساحة المنقولة كانت لخصوص الأراضي المجاورة منها لأرض الحجاز
المفتوحة بدوا. نعم، العراق الفعلي شاملة لبلاد الكرد أيضا.
وكيف كان فاحتمال خروج البلاد المعمورة فعلا عما كانت محياة حال الفتح بعيد
جدا، ولكن في كتاب البيع للأستاذ الإمام - مد ظله -:
" فعلى ما ذكر تكون أرض الأعتاب المقدسة وسائر ما حدثت فيه العمارة في
عصر الخلفاء ومن بعدهم باقية تحت الأصل الذي قدمناه من كونها للإمام (عليه السلام) وأن من
أحياها فهي له فلا يبقى إشكال فيها. وتوهم العلم الإجمالي بأن كثيرا من أرض
العراق كانت محياة فلابد من الاحتراز عن الجميع مدفوع بأن كثيرا من البلاد معلوم
حياتها في عصر الفتح تفصيلا، وهي التي كانت في صدر الإسلام معروفة مذكورة في
جميع الكتب والتواريخ، وليس لنا علم زائد على ما ذكر. هذا مع الغض عن عدم
منجزية العلم الإجمالي فيما إذا كان بعض الأطراف خارجا عن محل الابتلاء... " (1)
أقول: وقد ظهر بما ذكرنا ما فيه، فلا نعيد. هذا.
وهنا فروع أخر في مسألة الأراضي المفتوحة عنوة نحيلها إلى الكتب
الموسوعة يأتي الإشارة إلى بعضها في مبحث الأنفال. وقد خرجنا في هذه المسألة
عن طور الاختصار المناسب لهذا الكتاب، فمن القراء الكرام أعتذر.

1 - كتاب البيع 3 / 76.
248

الجهة السابعة:
في الأسارى:
قال الراغب في المفردات:
" الأسر: الشد بالقيد، من قولهم: أسرت القتب. وسمي الأسير بذلك، ثم قيل لكل
مأخوذ ومقيد وإن لم يكن مشدودا ذلك، وقيل في جمعه أسارى وأسارى أسرى. " (1)
وقد كانت الأسارى في جميع البلدان والأعصار مما يرغب فيها المقاتلون
كثيرا يعدونها من أوفر الغنائم وأنفعها. بل ربما كانت القبائل يشنون الاغارات كثيرا
لأخذ الأسارى واستعبادهم ويهاجمون على الضعفاء ويسترقونهم لتوفير
الأموال الثروات. وقد استمرت هذه الخصلة السيئة الظالمة إلى قرب أعصارنا، فكان
المتمكنون من الغربيين يهاجمون على قبائل السود في إفريقيا بخشونة
وقسوة يسترقونهم للبيع في الأسواق أو الاستخدام في المزارع والمصانع.
ولكن نظر الشريعة الإسلامية بالنسبة إلى الحروب والغنائم والأسارى نظر آخر
يباين هذه الطريقة المشؤومة بالكلية، فليس بناء الجهاد الإسلامي على أساس أن
يسمح للمسلمين الاستبداد بالتغلب على الأناسي والبلدان بداع الاستغنام الاستعباد.
نعم، فرض الإسلام على متابعيه السعي في بسط التوحيد والعدالة والدفاع عن
الحق والإنسانية. وإذا فرض أن وقفت أمام هذا الهدف الصالح المهم سلطات كافرة أو
ظالمة اتخذوا مال الله دولا وعباده خولا أوجب حينئذ على المسلمين أن

1 - المفردات / 13.
249

يجاهدوا في سبيل الله ويدافعوا عن الحق تحت لواء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الإمام العادل.
وأول حدود الجهاد على ما عن أبي جعفر (عليه السلام): " الدعاء إلى طاعة الله من طاعة
العباد، وإلى عبادة الله من عبادة العباد، وإلى ولاية الله من ولاية العباد... وليس
الدعاء من طاعة عبد إلى طاعة عبد مثله. " (1)
فشرع الجهاد للدعاء إلى طاعة الله، وفرض أن يكون تحت إشراف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو
الإمام العادل الصالح، لئلا يتخطى المقاتلون عن موازين الشرع والأهداف الأساسية.
نعم، الغنائم والأسارى نتائج طبيعية قهرية للحروب والغزوات، ولكنها أيضا
جعلت تحت اختيار الإمام، فله أن يصرف جميع الغنائم في نوائب المسلمين لا يقسم
منها شيئا بين المقاتلين كما مر بالتفصيل، وله أيضا أن يطلق الأسارى إن رآه صلاحا
كما صنع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في فتح مكة وحنين. فليس تقسيم الغنائم والأسارى حكما
إلزاميا.
ولو قسمت الأسارى فلا يراد به إلا هضم بقية السيف من الفئة الكافرة
المعاندة ذراريهم ونسائهم في خلال بيوتات الإسلام ليتعلموا بالتدريج موازين
الإسلام ويكتسبوا جنسية إسلامية، ولئلا يتمكنوا من التجمع والتشكل ثانيا ضد
الإسلام والحق.
ثم بعد ذلك شرع الإسلام طرقا عديدة لتحريرهم، وحكم بالإعتاق أو الانعتاق
القهري في موارد كثيرة بعد ما حصل لهم بالطبع الانعطاف والتربية الإسلامية وانصبغوا
بصبغته.
وقد أمر الله - تعالى - نبيه باستمالتهم وتسليتهم، فقال: " يا أيها النبي، قل لمن في
أيديكم من الأسرى إن يعلم الله قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم
والله غفور رحيم. " (2) وأوصى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) بحسن معاشرتهم والسعي في
إعتاقهم.

1 - الوسائل 11 / 7، الباب 1 من أبواب جهاد العدو، الحديث 8.
2 - سورة الأنفال (8)، الآية 70.
250

وقد أعتق أمير المؤمنين (عليه السلام) ألف مملوك من كد يده. (1)
فهذا ما شرعه الشريعة الإسلامية في الأسارى. وهذا أمر يحكم بحسنه
العقل الفطرة. والمعيار في هذه الأمور أحكام الإسلام وموازينه المقررة في
الكتاب السنة، لا ما كان يصنعه الملوك والطواغيت المنتحلة به في الأعصار المختلفة
باسم الإسلام.
ولأجل ذلك كله لم يشرع الأسر إلا في حق النساء والأطفال، حيث لا قتال
لها يغلب على طباعها الانهضام في المجتمع قهرا. ولم يجز عندنا أسر الرجال الكبار
من الكفار المقاتلين وإبقاؤهم بالمن أو الفداء إلا بعد ما غلب المسلمون، وصارت
الفئة الكافرة المقاتلة مقهورة مثخنة، بحيث ارتفع خطر تجمعهم وهجمتهم ثانيا.
قال الله - تعالى - في سورة الأنفال: " ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن
في الأرض، تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم. " (2)
وقال في سورة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا
أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها.
الآية. " (3)
فيظهر من الآيتين الشريفتين منع إبقاء الأسير من الكفار المقاتلين حيا بالمن أو
الفداء إلا بعد إثخانهم، والمراد به إكثار القتل والجرح فيهم بحيث لا يقدرون ثانيا على
النهوض والتهاجم.
قال في المفردات:
" يقال: ثخن الشيء فهو ثخين: إذا غلظ فلم يسل ولم يستمر في ذهابه. ومنه
استعير قولهم: أثخنته ضربا واستخفافا. " (4)

1 - راجع الوسائل 16 / 4، الباب 1 من أبواب كتاب العتق، الحديث 6.
2 - سورة الأنفال (8)، الآية 67.
3 - سورة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) (47)، الآية 4.
4 - المفردات / 75.
251

وآية سورة الأنفال على ما قالوا يرتبط بقصة البدر. ويظهر من الأخبار والسير أن
أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اختلف أنظارهم في قتل أسارى بدر أو أخذ الفداء
منهم، النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يكره أخذ الفداء:
ففي سورة الأنفال من تفسير علي بن إبراهيم:
" فلما قتل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) النضر وعقبة خافت الأنصار أن يقتل الأسارى كلهم
فقاموا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: يا رسول الله، قد قتلنا سبعين وأسرنا سبعين وهم
قومك وأساراك، هبهم لنا يا رسول الله وخذ منهم الفداء وأطلقهم... " (1)
وفي كنز العرفان:
" روي ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يكره أخذ الفداء، ولما رأى سعد بن معاذ كراهته في
وجهه قال: يا رسول الله، هذا أول حرب لقينا فيه المشركين أردت أن تثخن فيهم
القتل حتى لا يطمع أحد منهم في خلافك وقتالك، فقال: كرهت ما كرهت، ولكن
رأيت ما صنع القوم.
واستدل جماعة من مخالفينا كأحمد بن حنبل وغيره بهذه القصة على جواز
الاجتهاد على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن أخذ الفداء لم يكن بالوحي وإلا لما أنكره الله. الجواب:
جاز أنه كان مخيرا بين القتل والفداء، وكان القتل أولى والعتاب على تركه. " (2) هذا.
وكيف كان فنساء الكفار وصبيانهم لا تقتل بلا خلاف ولا إشكال، بل تسبى يكون
حكمها حكم الغنائم التي تنقل: يقسمها الإمام بعد التخميس. نعم، لو أقد من على
القتال جاز قتالهن
وأما الرجال المقاتلون منهم إذا أسروا فقد فصل فيهم فقهاؤنا بين ما إذا
أسروا الحرب قائمة وبين ما إذا أسروا بعد ما وضعت الحرب أوزارها. وفتاوى فقهاء
السنة خالية من هذا التفصيل. نعم، لهم خلاف في حكم الأسارى البالغين.

1 - تفسير علي بن إبراهيم (القمي) / 247 (= ط. أخرى 1 / 270).
2 - كنز العرفان 1 / 368.
252

فهنا مسألتان:
المسألة الأولى: في حكم النساء والذراري:
1 - قال الشيخ في جهاد المبسوط:
" الآدميون على ثلاثة أضرب: نساء وذرية، ومشكل، وبالغ غير مشكل. فأما
النساء والذرية فإنهم يصيرون مماليك بنفس السبي. وأما من أشكل بلوغه فإن كان
أنبت الشعر الخشن حول الذكر حكم ببلوغه، وإن لم ينبت ذلك جعل في جملة الذرية
لأن سعدا حكم في بني قريظة بهذا فأجازه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). " (1)
2 - وقال المحقق في الشرائع:
" الطرف الرابع في الأسارى. وهم ذكور وإناث. فالإناث يملكن بالسبي ولو كانت
الحرب قائمة. وكذا الذراري. ولو اشتبه الطفل بالبالغ اعتبر بالإنبات، فمن
لم ينبت جهل سنه ألحق بالذراري. " (2)
أقول: وفي إيجاب الاعتبار بالإنبات إشعار بوجوب الفحص في الشبهات
الموضوعية حتى مع جريان الاستصحاب. نعم، لا إشكال في عدم الوجوب في باب
الطهارة والنجاسة، كما حقق في محله.
3 - وفيه أيضا:
" وأما النساء والذراري فمن جملة الغنائم. ويختص بهم الغانمون، وفيهم الخمس
لمستحقه. " (3)
4 - وفي الجواهر في شرح العبارة الأولى في ذيل قول المصنف: " وكذا الذراري "
قال:
" أي غير البالغين، بلا خلاف أجده في شيء من ذلك كما اعترف به في المنتهى،

1 - المبسوط 2 / 19.
2 - الشرائع 1 / 317 (= ط. أخرى / 241).
3 - الشرائع 1 / 322 (= ط. أخرى / 245).
253

بل عن الغنية والتذكرة الإجماع عليه. وهو الحجة مع ما أرسله في المنتهى من أن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى عن قتل النساء والولدان، وكان يسترقهم إذا سباهم.
نعم، يعتبر في التملك تحقق صدق السبي والقهر لأصالة عدمه مع عدمهما،
فلا يكفي مجرد النظر، ولا وضع اليد ولا غير ذلك مما لا يتحقق معه صدقهما. نعم،
لا يعتبر استمرار القهر، فيبقى على الملك لو هرب، كالصيد الذي ما نحن فيه نحوه بعد
أن أباح الشارع تملكهم بذلك. بل الظاهر عدم اعتبار نية التملك بعد الاستيلاء على
الوجه المزبور، كما قلناه في حيازة المباح... " (1)
5 - وفي المغني لابن قدامة الحنبلي:
" وجملته أن من أسر من أهل الحرب على ثلاثة أضرب: أحدها: النساء الصبيان،
فلا يجوز قتلهم ويصيرون رقيقا للمسلمين بنفس السبي، لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى عن قتل
النساء والولدان. متفق عليه. وكان (عليه السلام) يسترقهم إذا سباهم. " (2)
وأما أخبار المسألة:
1 - فعن الكليني بسند صحيح، عن معاوية بن عمار، قال: أظنه عن أبي حمزة
الثمالي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أراد أن يبعث سرية
دعاهم فأجلسهم بين يديه ثم يقول: سيروا باسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة
رسول الله، لا تغلوا ولا تمثلوا ولا تغدروا، ولا تقتلوا شيخا فانيا ولا صبيا
ولا امرأة، لا تقطعوا شجرا إلا أن تضطروا إليها. الحديث. " (3)
2 - وفي فروع الكافي بسند لا بأس به، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " كان
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا بعث سرية دعا بأميرها فأجلسه إلى جنبه وأجلس أصحابه بين
يديه ثم قال:

1 - الجواهر 21 / 120.
2 - المغني 10 / 400.
3 - الوسائل 11 / 43، الباب 15 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2، عن الكافي 5 / 27.
254

سيروا باسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). لا تغدروا
ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقطعوا شجرة إلا أن تضطروا إليها، ولا تقتلوا شيخا فانيا
ولا صبيا ولا امرأة. الحديث. " (1)
ورواه الشيخ أيضا في التهذيب. (2)
3 - وفي دعائم الإسلام: " روينا عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه، عن
علي (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا بعث جيشا أو سرية أوصى صاحبها بتقوى الله...
وقال: اغزوا باسم الله وفي سبيل الله... ولا تقتلوا وليدا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة -
يعني: إذا لم يقاتلوكم -، ولا تمثلوا ولا تغلوا ولا تغدروا. " (3)
ورواه عنه في المستدرك. (4)
4 - وفي الوسائل بسنده، عن السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن آبائه (عليه السلام) أن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " اقتلوا المشركين، واستحيوا شيوخهم وصبيانهم. " (5)
5 - وفيه أيضا بسنده، عن حفص بن غياث أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن النساء كيف
سقطت الجزية عنهن ورفعت عنهن؟ قال: فقال: " لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى عن قتل
النساء والولدان في دار الحرب إلا أن يقاتلن، فإن قاتلن أيضا فأمسك عنها ما أمكنك
ولم تخف خللا. الحديث. " (6)
6 - وفيه أيضا بسنده، عن أبي البختري، عن جعفر، عن أبيه، قال: قال: " ان
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عرضهم يومئذ على العانات، فمن وجده أنبت قتله، ومن لم يجده
أنبت ألحقه بالذراري. " (7)

1 - الكافي 5 / 30، كتاب الجهاد، باب وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) في السرايا،
الحديث 9.
2 - تهذيب الأحكام 6 / 139، كتاب الجهاد، باب ما ينبغي لوالي الإمام أن يفعله...، الحديث 3.
3 - دعائم الإسلام 1 / 369، كتاب الجهاد - ذكر الأفعال التي ينبغي فعلها قبل القتال.
4 - مستدرك الوسائل 2 / 249، الباب 14 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
5 - الوسائل 11 / 48، الباب 18 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
6 - الوسائل 11 / 47، الباب 18 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
7 - الوسائل 11 / 112، الباب 65 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
255

7 - وفي دعائم الإسلام: " روينا عن جعفر بن محمد (عليه السلام) أن بني قريظة نزلوا من
حصنهم على حكم سعد بن معاذ، فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يحكم سعد، فحكم بأن
تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لسعد: لقد حكمت بحكم الله -
تعالى - من فوق سبعة أرقعة. " (1)
أقول: في المنجد:
" الرقيع: السماء عموما، أو السماء الأولى في عرف الأقدمين. " (2)
8 - وفي سنن البيهقي بسنده، عن ابن عمر: " أن يهود بني النضير وقريظة حاربوا
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأجلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بني النضير، وأقر قريظة ومن عليهم حتى
حاربت قريظة بعد ذلك فقتل رجالهم وقسم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين
المسلمين إلا بعضهم لحقوا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأمنهم وأسلموا. الحديث. " (3)
9 - وفيه أيضا بسنده، عن عامر بن سعد، عن أبيه أن سعد بن معاذ حكم على بني
قريظة أن يقتل منهم كل من جرت عليه الموسى وأن تقسم أموالهم وذراريهم. فذكر
ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: " لقد حكم اليوم فيهم بحكم الله الذي حكم به من فوق
سبع سماوات. " (4)
10 - وفيه أيضا بسنده، عن أبي سعيد الخدري، وفيه عن سعد بن معاذ أنه قال:
فإني أحكم فيهم أن يقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم. قال: فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" حكمت بحكم الملك. " وربما قال: " حكمت بحكم الله. " (5)
11 - وفيه أيضا بسنده عن عطية القرظي، قال: " كنت فيمن حكم فيهم

1 - دعائم الإسلام 1 / 377، كتاب الجهاد - ذكر الحكم في الأسارى.
2 - المنجد / 275.
3 - سنن البيهقي 6 / 323، كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب ما جاء في قتل من رأى الإمام منهم.
4 - سنن البيهقي 9 / 63، كتاب السير، باب ما يفعله بذراري من ظهر عليه.
5 - سنن البيهقي 9 / 63، كتاب السير، باب ما يفعله بذراري من ظهر عليه.
256

سعد بن معاذ، فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم. " قال:
" فجاؤوا بي لا أراني إلا سيقتلونني، فكشفوا عانتي فوجدوها لم تنبت، فجعلوني في
السبي. " (1)
12 - وفيه أيضا بسنده، عن نافع أن عبد الله بن عمر أخبره: " أن امرأة وجدت في
بعض مغازي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مقتولة، فأنكر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قتل النساء والصبيان. " (2)
رواه عن البخاري ومسلم.
13 - وفيه أيضا بسنده، عن ابن عمر، قال: " وجدت امرأة مقتولة في بعض تلك
المغازي، فنهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن قتل النساء والصبيان. " (3) رواه أيضا عنهما.
14 - وفيه أيضا بسنده، عن الأسود بن سريع، قال: أتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فغزوت
معه، فأصبنا ظفرا فقتل الناس يومئذ حتى قتلوا الذرية، فبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
فقال: " ما بال أقوام جاوز بهم القتل حتى قتلوا الذرية؟ " فقال رجل: يا رسول الله، إنما
هي (هم خ. ل) أبناء المشركين. قال: " ألا إن خياركم أبناء المشركين. " ثم قال:
" لا تقتلوا الذرية. " قالها ثلاثا وقال: " كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها
لسانها فأبواها يهودانها وينصرانها. " (4)
15 - وفيه أيضا بسنده، عن ابن كعب بن مالك، عن عمه أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما بعث إلى
ابن أبي الحقيق نهى عن قتل النساء والولدان. (5)
16 - وفيه أيضا بسنده، عن ابن عباس، قال: أخبرني الصعب بن جثامة أنه

1 - سنن البيهقي 9 / 63، كتاب السير، باب ما يفعله بذراري من ظهر عليه.
2 - سنن البيهقي 9 / 77، كتاب السير، باب النهي عن قصد النساء والولدان بالقتل.
3 - سنن البيهقي 9 / 77، كتاب السير، باب النهي عن قصد النساء والولدان بالقتل.
4 - سنن البيهقي 9 / 77، كتاب السير، باب النهي عن قصد النساء والولدان بالقتل.
5 - سنن البيهقي 9 / 78، كتاب السير، باب قتل النساء والصبيان في التبييت...
257

سمع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يسأل عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصاب من نسائهم
وذراريهم، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " هم منهم. " وزاد عمرو بن دينار عن الزهري: " هم من
آبائهم. "...
قال الشافعي: فكان سفيان يذهب إلى أن قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " هم منهم " إباحة لقتلهم
وأن حديث ابن أبي الحقيق ناسخ له. قال (أبو عبد الله): وكان الزهري إذا حدث
بحديث الصعب بن جثامة أتبعه حديث ابن كعب بن مالك. (1)
أقول: المستفاد من حديث التبييت هو أن الضرورة في الحرب إن أدت إلى التبييت
جاز الإقدام عليه وإن استلزم تلف بعض النساء والولدان قهرا، فلا يدل على جواز
التعمد لقتلهن.
المسألة الثانية: في حكم الأسارى البالغين من الكفار:
وقد مر أن فقهاءنا الإمامية فرقوا فيها بين ما إذا كانت الحرب قائمة وبين غيره:
1 - قال الله - تعالى -: في سورة الأنفال: " ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى
يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم. " (2)
2 - وقال في سورة محمد: " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا
أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها. " (3)
فظاهر الآيتين عدم جواز إبقاء من أسر قبل إثخان العدو.
3 - وفي المجمع في تفسير الآية الثانية قال:
" واختلف في ذلك: فقيل: كان الأسر محرما بآية الأنفال ثم أبيح بهذه الآية، لأن
هذه السورة نزلت بعدها. فإذا أسروا فالإمام مخير بين المن والفداء بأسارى
المسلمين وبالمال وبين القتل والاستعباد، وهو قول الشافعي وأبي يوسف ومحمد بن
إسحاق.

1 - سنن البيهقي 9 / 78، كتاب السير، باب قتل النساء والصبيان في التبييت.
2 - سورة الأنفال (8)، الآية 67.
3 - سورة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) (47)، الآية 4.
258

وقيل: إن الإمام مخير بين المن والفداء والاستعباد وليس له القتل بعد الأسر، عن
الحسن. وكأنه جعل في الآية تقديما وتأخيرا، تقديره فضرب الرقاب حتى تضع
الحرب أوزارها، ثم قال: حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء.
وقيل: إن حكم الآية منسوخ بقوله: " اقتلوا المشركين حيث
وجدتموهم "، (1) بقوله: " فإما تثقفنهم في الحرب. " (2) عن قتادة والسدي وابن جريج.
وقال ابن عباس والضحاك: الفداء منسوخ.
وقيل: إن حكم الآية ثابت غير منسوخ، عن ابن عمر والحسن وعطاء. قالوا: لأن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من على أبي عزة، وقتل عقبة بن أبي معيط، وفادى أسارى بدر.
والمروي عن أئمة الهدى (صلى الله عليه وآله وسلم) أن الأسارى ضربان: ضرب يؤخذون قبل انقضاء
القتال والحرب قائمة، فهؤلاء يكون الإمام مخيرا بين أن يقتلهم أو يقطع
أيديهم أرجلهم من خلاف ويتركهم حتى ينزفوا، ولا يجوز المن ولا الفداء. والضرب
الآخر الذين يؤخذون بعد أن وضعت الحرب أوزارها وانقضى القتال، فالإمام مخير
فيهم بين المن والفداء إما بالمال أو بالنفس وبين الاسترقاق وضرب الرقاب. فإذا
أسلموا في الحالين سقط جميع ذلك وكان حكمهم حكم المسلمين. " حتى تضع
الحرب أوزارها "، أي حتى يضع أهل الحرب أسلحتهم فلا يقاتلون. وقيل: حتى
لا يبقى أحد من المشركين، عن ابن عباس. وقيل: حتى لا يبقى دين غير دين
الإسلام، عن مجاهد... " (3)
أقول: حكمه بجواز ضرب الرقاب فيمن أخذ بعد انقضاء القتال مخالف لما هو
المشهور بيننا، كما سيأتي.
4 - وقال الشيخ في كتاب الفيء من الخلاف (المسألة 17):
" الأسير على ضربين: ضرب يؤسر قبل أن تضع الحرب أوزارها، فالإمام مخير فيه

1 - سورة التوبة (9)، الآية 5.
2 - سورة الأنفال (8)، الآية 57.
3 - مجمع البيان 5 / 97 (الجزء 9).
259

بين شيئين: إما أن يقتله، أو يقطع يديه ورجليه ويتركه حتى ينزف. وأسير يؤخذ
بعد أن تضع الحرب أوزارها، فهو مخير بين ثلاثة أشياء: المن والاسترقاق والمفاداة.
وقال الشافعي: هو مخير بين أربعة أشياء: القتل والمن والمفاداة
والاسترقاق، لم يفصل.
وقال أبو حنيفة: هو مخير بين القتل والاسترقاق، دون المن والمفاداة.
وقال أبو يوسف ومحمد: هو مخير بين القتل والاسترقاق والمفاداة على الرجال
دون الأموال. وأجمعوا كلهم على أن المفاداة على الأموال لا تجوز، أعني أهل
العراق.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وقد ذكرناها في الكتاب الكبير. ويدل على جواز
المن قوله - تعالى -: " فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق، فإما منا بعد
وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها. " ومن ادعى نسخ هذه الآية فعليه الدلالة.
وروى الزهري، عن جبير بن مطعم، عن أبيه (محمد بن جبير، عن أبيه -
البخاري)، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال في أسارى بدر: " لو كان مطعم بن عدي حيا وكلمني
في هؤلاء السبي لأطلقتهم. " (في هؤلاء النتنى لتركتهم له - البخاري.) فأخبر أنه
لو كان مطعم حيا لمن عليهم، لأنه كان له عنده يد لو سأله في أمرهم لأطلقهم. فدل
على جواز المن.
وروى أبو هريرة: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث سرية قبل نجد، فأسروا رجلا يقال له ثمامة
بن أثال الحنفي سيد يمامة فأتوا به وشدوه إلى سارية من سواري المسجد، فمر به
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: ما عندك؟ يا ثمامة! فقال: خير، إن قتلت قتلت ذا رحم (ذا دم خ. ل)،
وإن مننت مننت (وإن أنعمت أنعمت خ. ل) على شاكر، وإن أردت مالا فاسأل تعط
ما شئت. فتركه ولم يقل شيئا. فمر به اليوم الثاني فقال له مثل ذلك، فمر به اليوم الثالث
فقال له مثل ذلك ولم يقل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) شيئا، ثم قال: أطلقوا ثمامة. فأطلقوه فمر اغتسل
وجاء فأسلم، وكتب إلى قومه فجاؤوا مسلمين. وهذا نص في جواز المن، لأنه أطلقه
من غير شيء.
وروي أن أبا عزة الجهني (الجمحي خ. ل) وقع في الأسر يوم بدر، فقال: يا محمد،
260

إني ذو عيلة فامنن علي، فمن عليه على أن لا يعود إلى القتال. فمر إلى مكة فقال:
إني سخرت بمحمد. وعاد إلى القتال يوم أحد، فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا يفلت، فوقع
في الأسر، فقال: إني ذو عيلة فامنن علي، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أمن عليك حتى ترجع إلى
مكة فنقول في نادي قريش: إني سخرت بمحمد مرتين؟ لا يلسع المؤمن من جحر
مرتين، فقتله (صلى الله عليه وآله وسلم) بيده. وهذا نص في جواز المن.
وأما الدليل على جواز المفاداة بالرجال ما رواه أبو قلابة، عن أبي المهلب، عن
عمران بن الحصين: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فادى رجلا برجلين.
وأما الدليل على جواز المفاداة بالمال ما فعله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم بدر; فإنه فادى
جماعة من كفار قريش بمال. والقصة مشهورة. قيل: إنه فادى كل رجل بأربعمأة، قال
ابن عباس بأربعة آلاف، وفيهم نزل قوله - تعالى -: " ما كان لنبي أن يكون له أسرى
حتى يثخن في الأرض - إلى قوله - عذاب عظيم. " وروي أن أبا العاص زوج زينب
بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان ممن وقع في الأسر، وكانت هي بمكة فأنفذت مالا له لتفكه
من الأسر، وكانت فيه قلادة كانت لخديجة أدخلت بها زينب على أبي العاص، فلما
رآها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عرفها، فرق لها رقة شديدة، فقال: لو خليتم أسيرها ورددتم
مالها. قالوا: نعم. ففعلوا ذلك. وهذا نص، لأنهم فادوه بالمال ثم منوا عليه برد المال
عليه. " (1)
أقول: راجع للروايات التي ذكرها الشيخ في هذه المسألة سنن البيهقي. (2)
5 - وفي صحيح البخاري بسنده، عن الزهري، عن محمد بن جبير، عن أبيه أن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال في أسارى بدر: " لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء
النتنى لتركتهم له. " (3)

1 - الخلاف 2 / 332.
2 - سنن البيهقي 6 / 319 وما بعدها، كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب ما جاء في من الإمام...، باب
ما جاء في مفاداة رجال منهم بالمال.
3 - صحيح البخاري 2 / 196، كتاب الجهاد، باب ما من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على الأسارى من غير أن
يخمس.
261

6 - وفي نهاية الشيخ:
" والأسارى على ضربين: ضرب منهم هو كل أسير أخذ قبل أن تضع الحرب
أوزارها وينقضي القتال، فإنه لا يجوز للإمام استبقاؤهم، ويكون مخيرا بين أن
يضرب رقابهم أو يقطع أيديهم وأرجلهم ويتركهم حتى ينزفوا ويموتوا. والضرب
الآخر هو كل أسير أخذ بعد أن وضعت الحرب أوزارها، فإنه يكون الإمام فيه مخيرا:
إن شاء من عليه فأطلقه، وإن شاء استعبده، وإن شاء فأداه. " (1)
7 - وفي المبسوط بعد العبارة التي حكيناها عنه في المسألة السابقة قال:
" وأما من لم يشكل أمر بلوغه فإن كان أسر قبل تقضي القتال فالإمام فيه بالخيار
بين القتل وقطع الأيدي والأرجل ويتركهم حتى ينزفوا، إلا أن يسلموا فيسقط ذلك
عنهم.
وإن كان الأسر بعد انقضاء الحرب كان الإمام مخيرا بين الفداء والمن الاسترقاق،
وليس له قتلهم، أي هذه الثلاثة رأى صلاحا وحظا للمسلمين فعله. وإن أسلموا
لم يسقط عنهم هذه الأحكام الثلاثة، وإنما يسقط عنهم القتل لا غير. وقد قيل: إنه إن
أسلم سقط عنه الاسترقاق، لأن عقيلا أسلم بعد الإسر ففاداه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يسترقه...
وإن أسر رجل بالغ فإن كان من أهل الكتاب أو ممن له شبهة كتاب فالإمام مخير
فيه على ما مضى بين الثلاثة أشياء، وإن كان من عبدة الأوثان فإن الإمام مخير فيه
بين المفاداة والمن، وسقط الاسترقاق. لأنه لا يقر على دينه بالجزية كالمرتد. " (2)
أقول: التفصيل الأخير لم يكن في الخلاف والنهاية، ولا دليل عليه أيضا. وعدم
الجزية لا يستلزم عدم الاسترقاق، كما ترى انفكاكهما في النساء والولدان.
8 - وفي الشرائع:
" والذكور البالغون يتعين عليهم القتل إن كانت الحرب قائمة ما لم يسلموا، والإمام

1 - النهاية / 296.
2 - المبسوط 2 / 20.
262

مخير: إن شاء ضرب أعناقهم، وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وتركهم
ينزفون حتى يموتوا. وإن أسروا بعد تقضي الحرب لم يقتلوا وكان الإمام مخيرا بين
المن والفداء والاسترقاق، ولو أسلموا بعد الأسر لم يسقط عنهم هذا الحكم. " (1)
وبالجملة، لا خلاف بيننا في القسم الأول في تعين القتل وحرمة الإبقاء. ويساعده
الاعتبار العقلي أيضا، لبقاء خطر انضوائه إلى جيش الكفار.
وفي القسم الثاني أمره مفوض إلى الإمام، فيختار المن أو الفداء أو الاسترقاق
حسب ما يراه صلاحا. وفي المنتهى والتذكرة (2) نسب هذا إلى علمائنا
أجمع. المشهور بيننا عدم جواز القتل في هذه الصورة وأفتى بعض أصحابنا بجوازه
أيضا، كما أفتى به الشافعي وسيأتي. وصريح الكتاب العزيز يدل على جواز
المن الفداء، ولا دليل على نسخه وإن قيل. وإطلاق الفداء يعم الفداء بالمال وبالرجال،
ويدل عليهما أيضا عمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما مر عن الخلاف. ولم يذكر الشيخ في الخلاف
دليلا للاسترقاق.
ويدل على حكم المسألة مضافا إلى ما مر:
1 - ما رواه في الكافي، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن
يحيى، عن طلحة بن زيد، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: كان أبي (عليه السلام) يقول: " إن
للحرب حكمين: إذا كانت الحرب قائمة لم تضع أوزارها ولم يثخن أهلها فكل أسير
أخذ في تلك الحال فإن الإمام فيه بالخيار: إن شاء ضرب عنقه، وإن شاء قطع
يده رجله من خلاف بغير حسم وتركه يتشحط في دمه حتى يموت. وهو قول الله -
عز وجل -: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن
يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض، ذلك لهم
خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم. " (3)

1 - الشرائع 1 / 317 (= ط. أخرى / 242).
2 - راجع المنتهى 2 / 927; والتذكرة 1 / 424.
3 - سورة المائدة (5)، الآية 33.
263

ألا ترى أن المخير الذي خير الله الإمام على شيء واحد وهو الكفر، وليس هو
على أشياء مختلفة. فقلت لأبي عبد الله (عليه السلام): قول الله - عز وجل -: أو ينفوا من
الأرض؟ قال: ذلك الطلب; أن تطلبه الخيل حتى يهرب، فإن أخذته الخيل حكم عليه
ببعض الأحكام التي وصفت لك.
والحكم الآخر إذا وضعت الحرب أوزارها وأثخن أهلها، فكل أسير أخذ في تلك
الحال فكان في أيديهم فالإمام فيه بالخيار: إن شاء من عليهم فأرسلهم، وإن شاء
فاداهم أنفسهم، وإن شاء استعبدهم فصاروا عبيدا. "
وروى الشيخ أيضا بإسناده، عن طلحة بن زيد، عنه (عليه السلام) نحوه. (1)
والسند إلى طلحة صحيح، وطلحة وإن كان بتريا ولكن عمل برواياته الأصحاب،
وقال الشيخ إن كتابه معتمد. (2)
والحسم: الكي بعد قطع العرق لئلا يسيل دمه.
وقوله: " وهو الكفر "، قال في حاشية الكافي المطبوع:
" المراد بالكفر ههنا: الإهلاك بحيث لا يرى أثره. قال في الصحاح: الكفر - بالفتح -:
التغطية. وكفرت الشيء - بالفتح - كفرا: إذا سترته. وروى الشيخ هذا الخبر بإسناده في
التهذيب. وفيه مكان الكفر الكل باللام المشددة، وهو كما في القاموس: السيف. " (3)
وكيف كان فالحديث دليل على المسألة بشقيها. ولا يضر بالاستدلال به عدم
وضوح المراد بهذه الكلمة، كما لا يضر به الاستشهاد بآية المحاربة الشاملة بإطلاقها
للمحارب المسلم والمشتملة على غير القتل أيضا على الظاهر.
2 - وفي الوسائل بإسناده، عن الزهري، عن علي بن الحسين (عليه السلام) في حديث قال: " إذا
أخذت أسيرا فعجز عن المشي ولم يكن معك محمل فأرسله ولا تقتله، فإنك لا تدري

1 - الوسائل 11 / 53، الباب 23 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1، عن الكافي 5 / 32، والتهذيب
6 / 143.
2 - راجع الفهرست / 86 (= ط. أخرى / 112).
3 - الكافي 5 / 32، كتاب الجهاد.
264

ما حكم الإمام فيه. " وقال: " الأسير إذا أسلم فقد حقن دمه وصار فيئا. " (1)
ففي صدر الرواية إشعار بجواز القتل أيضا ولكن بحكم الإمام. وفي الذيل دلالة
على جواز الاسترقاق.
3 - وروى البيهقي بسنده، عن ابن عباس في قوله: " ما كان لنبي أن يكون له أسرى
حتى يثخن في الأرض ": " وذلك يوم بدر، والمسلمون يومئذ قليل، فلما كثروا واشتد
سلطانهم أنزل الله - تعالى - هذا في الأسارى: " إما منا بعد وإما فداء ". فجعل الله
النبي والمؤمنين بالخيار في أمر الأسارى: إن شاؤوا قتلوهم، وإن شاؤوا استعبدوهم،
وإن شاؤوا فادوهم. " (2)
بل لعل الاسترقاق هو الأصل في الأسير عند العرف والمتشرعة، وغيره من القتل
أو المن أو الفداء يحتاج إلى دليل.
بل ربما ورد في بعض الأخبار جواز إجراء حكم الرق على ما سباه وسرقه بعض
الظلمة من أولاد أهل الحرب، معللا بأنهم أخرجوهم بذلك من الشرك إلى دار
الإسلام، يعني أنهم ينهضون بالطبع في المجتمعات الإسلامية ويكتسبون جنسية
إسلامية:
ففي صحيحة رفاعة النخاس، قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام): إن الروم يغيرون على
الصقالبة فيسرقون أولادهم من الجواري والغلمان فيعمدون إلى الغلمان فيخصونهم
ثم يبعثون بهم إلى بغداد إلى التجار، فما ترى في شرائهم ونحن نعلم أنهم قد سرقوا إنما
أغاروا عليهم من غير حرب كانت بينهم؟ فقال: " لا بأس بشرائهم، إنما أخرجوهم من
الشرك إلى دار الإسلام. " (3)
أقول: في حاشية الكافي:
" الصقالبة - بالصاد والسين - جيل من الناس حمر الألوان كانوا بين بلغر
قسطنطنية. "

1 - الوسائل 11 / 53، الباب 23 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
2 - سنن البيهقي 6 / 324، كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب ما جاء في استعباد الأسير.
3 - الكافي 5 / 210، كتاب المعيشة، باب شراء العقيق، الحديث 9; وفي الوسائل 13 / 27.
265

وليس في الصحيحة إمضاء لسرقتهم وإخصائهم للغلمان، بل إمضاء للشراء منهم
فقط، فتأمل.
وفي خبر اللحام، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل يشتري من رجل من أهل
الشرك ابنته فيتخذها (أمة خ. ل). قال: " لا بأس. " وفي خبر آخر له قال: سألت أبا
عبد الله (عليه السلام) عن رجل يشتري امرأة رجل من أهل الشرك يتخذها؟ قال: فقال:
" لا بأس. " (1)
أقول: شراء المرأة يوجب التحاقها بدار الإسلام واكتسابها بالتدريج جنسية
إسلامية، والمفروض أن أباها أو زوجها قد أقدم على بيعها فجاز إلزامهم بما ألزموا به
أنفسهم، وأهل الشرك لا حرمة لهم أصلا، ولأجل ذلك لم يجز ذلك في أهل الذمة كما
في خبر زكريا بن آدم، قال: وسألته (الرضا (عليه السلام)) عن أهل الذمة أصابهم جوع فأتاه
رجل بولده فقال: هذا لك أطعمه وهو لك عبد، فقال (عليه السلام): " لا تبتع حرا، فإنه لا يصلح
لك ولا من أهل الذمة. " (2)
وكيف كان فأصحابنا الإمامية فصلوا في الأسير البالغ بين من أسر قبل إثخان
العدو، ومن أسر بعده، فيتعين في الأول القتل أو تقطيع اليد والرجل حتى يموت إلا أن
يسلم، وفي الثاني يتخير الإمام بين ثلاث خصال أو أربع. ولا نرى لهذا التفصيل أثرا
في كلمات فقهاء السنة، مع أن الآيتين الشريفتين ربما تشعران بذلك كما مر.
وقد مر عن الخلاف والمجمع ذكر أقوالهم، فلنذكر هنا كلام ابن قدامة الحنبلي
أيضا والماوردي تتميما للفائدة:
قال في المغني:
" وجمله أن من أسر من أهل الحرب على ثلاثة أضرب:

1 - الوسائل 13 / 28، الباب 3 من أبواب بيع الحيوان من كتاب التحارة، الحديث 2 و 3.
2 - الوسائل 13 / 28، الباب 3 من أبواب بيع الحيوان، الحديث 1.
266

أحدها: النساء والصبيان. فلا يجوز قتلهم، ويصيرون رقيقا للمسلمين بنفس
السبي، لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى عن قتل النساء والولدان. متفق عليه. وكان (عليه السلام) يسترقهم إذا
سباهم.
الثاني: الرجال من أهل الكتاب والمجوس الذين يقرون بالجزية. فيتخير الإمام
فيهم بين أربعة أشياء: القتل والمن بغير عوض والمفاداة بهم واسترقاقهم.
الثالث: الرجال من عبدة الأوثان وغيرهم ممن لا يقر بالجزية. فيتخير الإمام فيهم
بين ثلاثة أشياء: القتل أو المن والمفاداة، ولا يجوز استرقاقهم. وعن أحمد جواز
استرقاقهم، وهو مذهب الشافعي. وبما ذكرنا في أهل الكتاب قال الأوزاعي الشافعي
وأبو ثور. وعن مالك كمذهبنا. وعنه: لا يجوز المن بغير عوض لأنه لا مصلحة فيه، إنما
يجوز للإمام فعل ما فيه المصلحة.
وحكي عن الحسن وعطاء وسعيد بن جبير كراهة قتل الأسرى وقالوا لو من عليه
أو فأداه. كما صنع بأسارى بدر. ولأن الله - تعالى - قال: " فشدوا الوثاق فإما منا
بعد إما فداء "، فخير بين هذين بعد الأسر لا غير.
وقال أصحاب الرأي: إن شاء ضرب أعناقهم، وإن شاء استرقهم لا غير، ولا يجوز
من ولا فداء لأن الله - تعالى - قال: " اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " بعد قوله:
" فإما منا بعد وإما فداء. " وكان عمر بن عبد العزيز وعياض بن عقبة يقتلان الأسارى.
ولنا على جواز المن والفداء قول الله - تعالى -: " فإما منا بعد وإما فداء "، وأن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من على ثمامة بن أثال وأبي عزة الشاعر وأبي العاص بن الربيع، وقال في
أسارى بدر: " لو كان مطعم بن عدي حيا ثم سألني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له. "
فادى أسارى بدر وكانوا ثلاثة وسبعين رجلا كل رجل منهم بأربعمأة، وفادى يوم بدر
رجلا برجلين وصاحب العضباء برجلين.
وأما القتل فلأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قتل رجال بني قريظة وهم بين الستمأة والسبع مأة، قتل
يوم بدر النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط صبرا، وقتل أبا عزة يوم أحد.
وهذه قصص عمت واشتهرت وفعلها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مرات وهو دليل على جوازها،
267

لأن كل خصلة من هذه الخصال قد تكون أصلح في بعض الأسرى... " (1)
وفي الأحكام السلطانية للماوردي:
" فأما الأسرى فهم الرجال المقاتلون من الكفار إذا ظفر المسلمون بأسرهم أحياء،
فقد اختلف الفقهاء في حكمهم:
فذهب الشافعي إلى أن الإمام أو من استنابه الإمام عليهم في أمر الجهاد مخير
فيهم إذا أقاموا على كفرهم في الأصلح من أحد أربعة أشياء: إما القتل، وإما
الاسترقاق، وإما الفداء بمال أو أسرى، وإما المن عليهم بغير فداء. فإن أسلموا سقط
القتل عنهم وكان على خياره في أحد الثلاثة.
وقال مالك: يكون مخيرا بين ثلاثة أشياء: القتل أو الاسترقاق أو المفاداة بالرجال
دون المال، وليس له المن.
وقال أبو حنيفة: يكون مخيرا بين شيئين: القتل أو الاسترقاق، وليس له
المن لا المفاداة بالمال... " (2)

1 - المغني 10 / 400.
2 - الأحكام السلطانية / 131.
268

وههنا أمور ينبغي التعرض لها إجمالا:
الأول: يمكن أن يقال: إن الحكم بتعين قتل الأسارى والحرب قائمة مختص بما
إذا كان في إبقائهم محذور وخطر تجمع وهجمة، كما كان الأمر كذلك في غزوات
صدر الإسلام، حيث إن الإمكانيات كانت محدودة جدا فكان يعسر عليهم حفظ
الأسارى والحرب قائمة، ففي كل وقت وظرف كان الأمر كذلك تعين قتلهم لا محالة
حذرا من الخطر المحتمل.
ويمكن أن يستفاد ذلك من قوله - تعالى -: " حتى يثخن في الأرض "، وقوله:
" حتى إذا أثخنتموهم "، حيث يظهر منهما أن الغرض إثخان العدو وإضعافه بحيث
لا يقوى على التعرض والهجمة.
فإذا فرض أن كان المسلمون أقوياء وكثرت إمكانياتهم لنقل الأسارى
وحفظهم لم يكن في قتلهم تقوية للمسلمين وإضعاف لعدوهم فالآيات والأخبار ربما
تنصرف عنه فجاز إبقاؤهم بل ربما كان كثرة الأسارى موجبة لتسليم العدو وخضوعه
وانعطافه.
وقد أشار إلى هذه النكتة الجصاص في أحكام القرآن، فقال في تفسير سورة
محمد:
" إن الله - تعالى - أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالإثخان بالقتل وحظر عليه الأسر إلا بعد إذلال
المشركين وقمعهم، وكان ذلك في وقت قلة عدد المسلمين وكثرة عدد عدوهم من
المشركين، فمتى أثخن المشركون وأذلوا بالقتل والتشريد جاز الاستبقاء، فالواجب
أن يكون هذا حكما ثابتا إذا وجد مثل الحال التي كان عليها المسلمون في أول
الإسلام. " (1)

1 - أحكام القرآن 3 / 481.
269

وفي تفسير المنار في تفسير آية الأنفال:
" فإذا التقى الجيشان فالواجب علينا بذل الجهد في قتل الأعداد دون أخذهم
أسرى، لئلا يفضي ذلك إلى ضعفنا ورجحانهم علينا، إذا كان هذا القتل قبل أن نثخن
في الأرض بالعزة والقوة التي ترهب أعداءنا، حتى إذا أثخناهم في المعركة
جرحا قتلا وتم لنا الرجحان عليهم فعلا، رجحنا الأسر المعبر عنه بشد الوثاق، لأنه
يكون حينئذ من الرحمة الاختيارية وجعل الحرب ضرورة تقدر بقدرها، لا ضراوة
بسفك الدماء ولا تلذذا بالقهر والانتقام. " (1)
وقد مر خبر البيهقي بسنده، عن ابن عباس في قوله - تعالى -: " ما كان لنبي أن
يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض "، قال: " وذلك يوم بدر والمسلمون يومئذ
قليل، فلما كثروا واشتد سلطانهم أنزل الله - تعالى - هذا في الأسارى: " إما منا بعد إما
فداء "، فجعل الله النبي والمؤمنين بالخيار في أمر الأسارى إن شاؤوا قتلوهم، وإن
شاؤوا استعبدوهم، وإن شاؤوا فادوهم. " (2)
الثاني: قد أشرنا إلى أن المشهور بيننا في من أسر بعد إثخان العدو وتقضي القتال
هو تخيير الإمام بين المن والفداء والاسترقاق. ويدل على ذلك رواية طلحة. وصرح
الأكثر بعدم جواز قتلهم حينئذ، وادعى في مجمع البرهان عدم الخلاف فيه، بل ظاهر
التذكرة والمنتهى الإجماع عليه.
ولكن صرح بعض أصحابنا بجواز القتل أيضا، كما أفتى به الشافعي، فيقع التخيير
في أمور أربعة:
قال الشيخ في تفسير سورة محمد بن التبيان:
" والذي رواه أصحابنا أن الأسير إن أخذ قبل انقضاء الحرب...
وإن كان أخذ بعد وضع الحرب أوزارها وانقضاء الحرب والقتال كان مخيرا بين
المن والمفاداة إما بالمال أو النفس، وبين الاسترقاق وضرب الرقاب. فإن أسلموا

1 - المنار 10 / 84.
2 - سنن البيهقي 6 / 324، كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب ما جاء في استعباد الأسير.
270

في الحالين سقط جميع ذلك، وصار حكمه حكم المسلم. " (1)
وقد مر نحو ذلك عن المجمع أيضا ونسبه إلى المروى عن أئمة الهدى (عليهم السلام)،
فراجع (2).
وقال القاضي ابن البراج في المهذب:
" إن شاء قتلهم، وإن شاء فاداهم، وإن شاء من عليهم، وإن شاء استرقهم. " (3)
فجوز هؤلاء الأعاظم من أصحابنا القتل أيضا.
نعم، يمكن أن ينسب كلام الشيخ والطبرسي - قدس أسرارهما - إلى سهو القلم، إذ
لم نعثر على رواية عن أئمتنا (عليهم السلام) تشتمل على التخيير بين أربع خصال، والشيخ قد
أفتى في كتبه الثلاثة الفتوائية كما مر بالتخيير بين ثلاث خصال، لا أربع.
وكيف كان فيمكن أن يقال: إن الكافر المعاند الذي صف في قبال الإسلام وأهدر
الله دمه بقوله: " اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " وغيره من الآيات كيف صار
محقون الدم محرم القتل بمجرد الأسر، مع أنه لم يسلم بعد ولم يتب، بل يكون باقيا
على كفره وعناده؟! وغلبة المسلمين في هذه الغزوة الخاصة لا توجب رفع خطر
هجمته في المآل مع بقائه على ما كان من الكفر والعناد، بل لعله بالأسر والقهر ازداد
عنادا وحقدا.
وأما قوله: " فإما منا بعد وإما فداء "، فلعل المقصود منه بيان عدم تعين ضرب
الرقاب حتى بعد الإثخان. وقد ذكر المن والفداء من جهة شدة توهم الحظر بالنسبة
إليهما. فسوق الكلام لرفع الحظر المتوهم، فلا ظهور له في تعينهما ونفي ضرب الرقاب
بالكلية، كما لا ينفى الاسترقاق أيضا.
ولعل الإمام يرى الشخص الأسير ذا قوة وحزم وحقد للإسلام والمسلمين

1 - تفسير التبيان 2 / 592.
2 - مجمع البيان 5 / 97 (الجزء 9).
3 - المهذب 1 / 316.
271

ويشاهد فيه روح التجري والإفساد، بحيث لا ينهضم في مجتمع المسلمين، ومثله
لا يصلح لأن يبقى فيهم.
وخبر طلحة وإن كان ظاهرا في التخيير بين ثلاث خصال لا أربع، ولكنه ليس بصريح
في نفى القتل بحيث يعارض ما يأتي من الشواهد على جواز القتل أيضا، بل يمكن أن
يحمل أيضا على رفع الحظر المتوهم حيث حكم بتعين القتل في القسم الأول.
وقد قتل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم بدر عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث، والظاهر
أنه كان بعد تقضي القتال.
وفي صحيحة الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " لم يقتل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صبرا
قط غير رجل واحد: عقبة بن أبي معيط. وطعن أبي بن أبي خلف فمات بعد ذلك. " (1)
وقتل أبا عزة الجمحي بعد ما أسر مرة ثانية في أحد. (2)
وأصحابنا لم يفرقوا بين الأسر الأول والثاني، وهكذا في خبر طلحة.
ولما حاصر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بني قريظة رضوا بأن ينزلوا على حكم سعد بن
معاذ بذلك تم القتال وأثخن العدو، فحكم سعد بأن يقتل مقاتلتهم وتقسم أموالهم
ذراريهم، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حقه: " لقد حكم اليوم فيهم بحكم الله الذي حكم به
من فوق سبع سماوات. " (3) ولعله دل على هذه القصة خبر أبي البختري أيضا، كما
مر. (4) واستفاض نقل هذه القصد، وقد قتل في هذه الواقعة ستمأة أو سبعمأة من اليهود
على ما روي.
وفي التذكرة قال في مسألة التحكيم:
" فإن حكم بقتل الرجال وسبي النساء والذرية وغنيمة المال نفذ إجماعا، كقضية
سعد. " (5)

1 - الوسائل 11 / 113، الباب 66 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
2 - راجع سنن البيهقي 6 / 320، كتاب قسم الفي والغنيمة، باب ما جاء في من الإمام...
3 - سنن البيهقي 9 / 63، كتاب السير، باب ما يفعله بذراري من ظهر عليه.
4 - الوسائل 11 / 112، الباب 65 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
5 - التذكرة 1 / 418.
272

فنقول: كيف يجوز للحكم قتلهم ولا يجوز للإمام الأبصر بالأشخاص والمصالح
ذلك؟! والمحقون لا يصير مهدورا باختيار نفسه، اللهم إلا أن يقال: إنهم حيث عاهدوا
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم غدروا به كان هذا جزاء غدرهم، فتدبر. هذا.
ولكن بعد ذلك كله يشكل مخالفة المشهور، اللهم إلا أن ينطبق عنوان آخر مجوز
للقتل، والاحتياط حسن على كل حال، ولا سيما في الدماء والفروج والأموال.
الثالث: قد يقال: إن التخيير بين الخصال الثلاث أو الأربع يختص بالأسارى من
أهل الكتاب، وأما غيرهم من المشركين والوثنيين وغيرهما ممن لا يقر بالجزية
فلا يجوز استرقاقهم، وقد مر هذا التفصيل في كلام ابن قدامة. ومر عن المبسوط أيضا
قوله:
" وإن أسر رجل بالغ فإن كان من أهل الكتاب أو ممن له شبهة كتاب فالإمام مخير
فيه على ما مضى بين الثلاثة أشياء، وإن كان من عبدة الأوثان فإن الإمام مخير فيه
بين المفاداة والمن، وسقط الاسترقاق لأنه لا يقر على دينه بالجزية كالمرتد. " (1)
وفي المختلف بعد نقل هذا الكلام من المبسوط قال: " وهو حق. " (2) وأفتى
بالتفصيل ابن حمزة في الوسيلة أيضا (3)، ولكن الشيخ في النهاية والخلاف وكذا
المحقق في الشرائع لم يفصلا بين أهل الذمة وغيرهم، كما مر (4).
وفي التذكرة:
" وهذا التخيير ثابت في كل أصناف الكفار، سواء كانوا ممن يقر على دينه بالجزية
كأهل الكتاب أو لا كأهل الحرب، وبه قال الشافعي، لأن الحربي كافر أصلي فجاز
استرقاقه كالكتابي، ولأن حديث الصادق (عليه السلام) عام في كل أسير. " ثم نقل

1 - المبسوط 2 / 20.
2 - المختلف 1 / 331، كتاب الجهاد.
3 - الوسيلة / 202; وفي الجوامع الفقهية / 732 (= ط. أخرى / 696).
4 - راجع ص 259 وما بعدها من هذا الجزء من الكتاب.
273

كلام المبسوط ثم قال: " وبه قال أبو سعيد الإصطخري. وعن أحمد روايتان، وقال
أبو حنيفة: يجوز في العجم دون العرب، وهو قول الشافعي في القديم.
واحتج الشيخ " ره " بأنه لا يجوز له إقرارهم بالجزية فلا يجوز له إقرارهم
بالاسترقاق، ونمنع الملازمة وتبطل بالنساء والصبيان فإنهم يسترقون ولا يقرون
بالجزية. (1)
ونحو ذلك في المنتهى أيضا. (2)
أقول: ومراد العلامة بحديث الصادق ما مر من خبر طلحة، عنه (عليه السلام). والأقوى عدم
الفرق بين أهل الكتاب وغيرهم في جواز الاسترقاق أيضا، لإطلاق الأخبار وأكثر
الفتوى، فتدبر.
الرابع: هل التخيير في المقام تخيير شهوة أو مصلحة؟
قد مر عن المبسوط قوله:
" أي هذه الثلاثة رأى صلاحا وحظا للمسلمين فعله. " (3)
وفي التذكرة:
" وهذا التخيير تخيير مصلحة واجتهاد لا تخيير شهوة، فمتى رأى الإمام المصلحة
في خصلة من هذه الخصال تعينت عليه ولم يجز العدول عنه. ولو تساوت المصالح
تخير تخيير شهوة. وقال مالك: القتل أولى. " (4) ونحو ذلك في المنتهى أيضا. (5)
وفي التذكرة أيضا في مقام التعليل للخصال الأربع قال:
" ولأن كل خصلة من هذه الخصال قد تكون أصلح من غيرها في بعض الأسرى:
فإن ذا القوة والنكاية في المسلمين قتله أنفع وبقاؤه أضر، والضعيف ذا المال لا قدرة له
على الحرب ففداؤه أصلح للمسلمين، ومنهم من هو حسن الرأي في

1 - التذكرة 1 / 424.
2 - المنتهى 2 / 927.
3 - المبسوط 2 / 20.
4 - التذكرة 1 / 424.
5 - المنتهى 2 / 928.
274

الإسلام ويرجى إسلامه فالمن عليه أولى، أو يرجى بالمن عليه المن على
الأسارى من المسلمين، أو يحصل بخدمته نفع يؤمن ضرره كالصبيان والنساء
فاسترقاقه أولى. والإمام أعرف بهذه المصالح فكان النظر إليه في ذلك كله. " (1)
ونحوه في المنتهى أيضا. (2)
والعلامة في هذين الكتابين أفتى بالتخيير بين الخصال الثلاث وصرح بعدم جواز
القتل بل ادعى عليه إجماع علمائنا، فتعرضه في مقام التعليل للقتل أيضا لابد أن
يحمل على سهو القلم، أو يراد به قتل من أسر قبل تقضي الحرب أو ذكره على وجه
المماشاة.
وفي المغني لابن قدامة قال:
" ولأن كل خصلة من هذه الخصال قد تكون أصلح في بعض الأسرى، فإن منهم
من له قوة ونكاية في المسلمين وبقاؤه ضرر عليهم فقتله أصلح، ومنهم الضعيف الذي
له مال كثير ففداؤه أصلح، ومنهم حسن الرأي في المسلمين يرجى إسلامه بالمن عليه
أو معونته للمسلمين بتخليص أسراهم والدفع عنهم فالمن عليه أصلح، ومنهم من ينتفع
بخدمته ويؤمن شره فاسترقاقه أصلح كالنساء والصبيان. والإمام أعلم بالمصلحة
فينبغي أن يفوض ذلك إليه. " (3)
فيستفاد من هذه الكلمات أن التخيير عندهم تخيير مصلحة.
ولكن الشيخ في الخلاف والنهاية وكذا المحقق في الشرائع أطلقا التخيير، كما مر.
ورواية طلحة أيضا مطلقة من هذه الجهة.
اللهم إلا أن يقال: إن تخيير الإمام بما هو إمام المسلمين ووليهم بما اعتبر فيه
الإسلام من العصمة أو العدالة ينصرف لا محالة إلى تخيير مصلحتهم، فإنه مقتضى
ولاية الأمر، مضافا إلى كونه مطابقا للاحتياط، فتدبر.

1 - التذكرة 1 / 424.
2 - المنتهى 2 / 927.
3 - المغني 10 / 401.
275

الخامس: قال في الجواهر:
" ومع اختيار الاسترقاق أو المال فداء فلا ريب في أنه من الغنيمة التي يتعلق بها
حق الغانمين، كما صرح به الفاضل والشهيدان وغيرهم.
ولا ينافيه تخيير الإمام (عليه السلام) بين ما يكون غنيمة وغيره بعد أن كانوا هم الذين
أسروه وقهروه. وأقصى تخيير الإمام أن له المن عليه باعتبار كونه أولى بالمؤمنين من
أنفسهم. فمع فرض اختياره المالية بالاسترقاق أو الفداء تعلق به حق الغانمين كأولياء
القصاص إذا اختاروا الدية، فإنه يتعلق بها حق الدين وغيره. " (1)
أقول: قد مر في أوائل بحث الغنائم أنه لا يتعين فيها التقسيم، بل للإمام أن ينفلها أو
يهبها إذا رأى ذلك صلاحا، وله أيضا أن يسد بها النوائب وإن استوعبت جميعها، فلم
لا يجري ذلك في الفداء والمسترق أيضا؟
السادس: قد مر عن المبسوط قوله:
" وإن أسلموا لم يسقط عنهم هذه الأحكام الثلاثة، وإنما يسقط عنهم القتل لا غير. و
قد قيل: إنه إن أسلم سقط عنه الاسترقاق، لأن عقيلا أسلم بعد الأسر ففاداه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
ولم يسترقه. " (2)
ومر عن الشرائع قوله: " ولو أسلموا بعد الأسر لم يسقط عنهم هذا الحكم. " (3) يعني
الحكم بالخصال الثلاث.
وفي المغني:
" وإن أسلم الأسير صار رقيقا في الحال وزال التخيير وصار حكمه حكم النساء، و
به قال الشافعي في أحد قوليه، وفي الآخر: يسقط القتل ويتخير بين الخصال

1 - الجواهر 21 / 127.
2 - المبسوط 2 / 20.
3 - الشرائع 1 / 318 (= ط. أخرى / 242).
276

الثلاث، لما روي أن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أسروا رجلا من بني عقيل فمر به
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال: يا محمد، علام أخذت وأخذت سابقة الحاج؟ فقال: أخذت بجريرة
حلفائك من ثقيف، فقد أسرت رجلين من أصحابي. فمضى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فناداه يا
محمد، يا محمد، فقال له: ما شأنك؟ فقال: إني مسلم، فقال: " لو قلتها وأنت تملك أمرك
لأفلحت كل الفلاح. " وفادى به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الرجلين. رواه مسلم ولأنه سقط القتل
بإسلامه، فبقي باقي الخصال على ما كانت عليه. " (1)
وفي المنتهى:
" إذا أسلم الأسير بعد الأسر سقط عنه القتل إجماعا، سواء أخذ قبل تقضي الحرب
أو بعده. ولا نعلم فيه خلافا، لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا
الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها. "
وروى الشيخ، عن عيسى بن يونس، عن الأوزاعي، عن الزهري، عن علي بن
الحسين (عليه السلام)، قال: الأسير إذا أسلم فقد حقن دمه وصار فيئا. " (2)
ثم تعرض لأقوال فقهاء السنة وذكر قصة الرجل من بني عقيل على ما مرت من
المغني. (3)
والحديث الذي رواه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رواه البيهقي بإسناده، عن البخاري ومسلم،
بإسنادهما عن أبي هريرة، عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بتفاوت ما، فراجع. (4) وقصة الرجل من بني
عقيل رواها البيهقي عن مسلم. (5)
وفي التذكرة: " لو أسلم الأسير بعد الأسر سقط عنه القتل إجماعا. " ثم ذكر نحو
ما في المنتهى. (6)

1 - المغني 10 / 402.
2 - الوسائل 11 / 53، الباب 23 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
3 - راجع المنتهى 2 / 928.
4 - سنن البيهقي 9 / 182، كتاب الجزية، باب من لا تؤخذ منه الجزية من أهل الأوثان.
5 - راجع سنن البيهقي 6 / 320، كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب ما جاء في مفاداة الرجال منهم
بمن أسرمنا; و 9 / 72، كتاب السير، باب جريان الرق على الأسير وإن أسلم...
6 - راجع التذكرة 1 / 424.
277

أقول: لا إشكال ولا خلاف في عدم جواز قتله بعد إسلامه، لوضوح حقن الدم
بالإسلام، ولما في المنتهى والتذكرة من الإجماع والحديثين، ولا فرق في ذلك بين
من أسر قبل تقضي الحرب أو بعده.
وأما غير القتل من الخصال فنقول: إن كان الأسر بعد تقضي الحرب فالظاهر بقاء
التخيير بين الخصال الثلاث، وبه أفتى في المبسوط والشرائع، كما مر.
وفي الجواهر قال:
" بلا خلاف معتد به أجده فيه، بل ولا إشكال للأصل والإطلاق. " (1)
ومراده بالأصل استصحاب حكمه قبل إسلامه، وبالإطلاق إطلاق خبر طلحة، كذا
خبر الزهري بالنسبة إلى الاسترقاق.
وما مر من المبسوط من أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فادى عقيلا ولم يسترقه لا يدل على عدم
جواز الاسترقاق، إذ لعله (صلى الله عليه وآله وسلم) اختار المفاداة من جهة كونها أحد أطراف التخيير ورآها
أصلح.
وأما من أسر قبل تقضي الحرب ثم أسلم فربما يقال فيه أيضا بالتخيير بين
الخصال الثلاث.
ويستدل لجواز استرقاقه بإطلاق خبر الزهري، ولجواز المفاداة بما مر من أن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فادى بالرجل الذي أسلم من بني عقيل الرجلين الأسيرين من
أصحابه، لجواز المن بأولويته بذلك ممن أسر بعد تقضي الحرب ولما يسلم كما في
الجواهر.
ولكن يمكن أن يناقش ما ذكر بأن خبر الزهري وخبر المفاداة لم يجمعا لشرائط
الحجية، ولم يثبت كون أسر الرجل العقيلي قبل تقضي القتال، واسترقاق المسلم إهانة
به، والأصل في كل إنسان الحرية. ولا يقاس المقام بمن أسر بعد تقضي الحرب، إذ
الإسلام هناك وقع بعد تعلق حق الاسترقاق به ولو على نحو التخيير

1 - الجواهر 21 / 128.
278

فيستصحب، بخلاف المقام. والمفاداة بالمسلم أيضا خلاف الأصل وخلاف حرمة
الإسلام، إذ هي فرع تعلق حق به. هذا مضافا إلى أن رد المسلم إلى الكفار مفاداة
إضرار بالمسلم خطر على دينه، اللهم إلا أن يكون ذا عشيرة تمنعه منهم. فالاحتياط
يقتضي الاقتصار على المن، فتدبر. هذا.
وللأسارى أحكام كثيرة ذكروها في الكتب الفقهية الموسوعة، كحكم من أسلم ثم
أسر، وحكم الزوجين إذا أسرا معا، وحكم مشرك أو كتابي أسر وله زوجة
لم تؤسر، حكم الطفل الذي أسر بدون والديه، وحكم التفريق بين الولد ووالده أو
والدته، إلى غير ذلك من الفروع. والبحث في هذه الفروع لا يناسب هذا الكتاب،
فنحيلها إلى تلك الكتب، ولله الحمد والمنة.
279

الجهة الثامنة:
في غنائم أهل البغي وأساراهم:
قال في الجواهر في معنى البغي:
" هو لغة: مجاوزة الحد، والظلم، والاستعلاء، وطلب الشيء. وفي عرف المتشرعة:
الخروج عن طاعة الإمام العادل (عليه السلام) على الوجه الآتي. والمناسبة بينه وبين الجميع
واضحة. وإن كانت هي في الظلم أتم. " (1)
أقول: يشبه أن يرجع جميع المعاني إلى المعنى الأول، أعني المجاوزة والتجاوز
عن الحد. حتى إن الطلب أيضا لا يسمى بغيا وابتغاء إلا إذا جاوز الحد
المتوسط. يمكن إرجاع الجميع إلى الطلب أيضا، فيراد هنا طلب المجاوزة والظلم.
والظاهر عدم اختصاص البغي وأحكامه شرعا بتجاوز الأمة على الإمام
العادل، إن كان هذا من أظهر مصاديقه، لعموم الآية وبعض الأخبار الواردة:
قال الله - تعالى - في سورة الحجرات: " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا
فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى
أمر الله، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين. " (2)
فحكم القتال في الآية قد علق على صفة البغي، وتعليق الحكم على الوصف يشعر
بالعلية بل يدل عليها، فيعلم بذلك أن الملاك في وجوب القتال أو جوازه هو
البغي التجاوز، سواء كان من فئة على فئة، أو دولة على دولة، أو فئة على الإمام
العادل، أو الإمام الجائز بجنوده على الأمة. والطائفة تصدق على الثلاثة فما فوقها،

1 - الجواهر 21 / 322.
2 - سورة الحجرات (49)، الآية 9.
280

بل على الاثنين والواحد أيضا على ما قالوه في تفسير قوله - تعالى -: " وليشهد
عذابهما طائفة من المؤمنين. " (1) ورواه في المجمع عن أبي جعفر (عليه السلام) (2). هذا مضافا
إلى أن الحكم دائر مدار العلة، وهي البغي.
ويشهد للتعميم ما ورد في مورد نزول الآية، ففي المبسوط:
" قيل نزلت في رجلين اقتتلا. وقيل في فئتين، وذلك أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يخطب
فنازعه عبد الله بن أبى بن سلول المنافق، فعاونه قوم وأعان عليه آخرون، فأصلح
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بينهم، فنزلت هذه الآية. والطائفتان: الأوس والخزرج. " (3)
وفي المجمع:
" نزل في الأوس والخزرج، وقع بينهما قتال بالسعف والنعال، عن سعيد بن جبير.
وقيل: نزل في رهط عبد الله بن أبى بن سلول من الخزرج ورهط عبد الله بن رواحة
من الأوس. " (4)
وبالجملة ليس في الآية التي هي الأصل في هذا الحكم اسم من الإمام. نعم، القتال
مطلقا يتوقف خارجا على وجود إمام أو أمير يقود المقاتلين ويجمع أمرهم وكلمتهم.
ولكنه شرط للوجود فيجب انتخابه وتحصيله لا للوجوب، كما مر في بحث الجهاد
إجمالا، فراجع. (5)
ومن لفظ الآية الشريفة اقتبس الفقهاء اسم البغاة للخارجين على الإمام.
والبغي عندنا صفة ذم ويكون محرما بلا إشكال، خلافا لبعض حيث حملوه على
الاجتهاد الخطأ تصحيحا لعمل كل صحابي.
والتعبير عن الباغي بالمؤمن محمول على ضرب من المجاز باعتبار حاله قبل

1 - سورة النور (24)، الآية 2.
2 - مجمع البيان 4 / 124 (الجزء 7).
3 - المبسوط 7 / 262، كتاب قتال أهل البغي.
4 - مجمع البيان 5 / 132 (الجزء 9).
5 - راجع ص 125 من الجزء 1 من الكتاب.
281

البغي أو بلحاظ اعتقاد نفسه، أو أن الفسق لا ينافي الإيمان ببعض مراتبه، فتأمل.
فالمقام نظير قوله - تعالى -: " وإن فريقا من المؤمنين لكارهون * يجادلونك في
الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون. " (1)
فإن المقصود به المنافقون بلا خلاف. هذا.
وفي المبسوط:
" ولا يجب قتال أهل البغي ولا تتعلق بهم أحكامهم إلا بثلاثة شروط:
أحدها: أن يكونوا في منعة لا يمكن كفهم وتفريق جمعهم إلا بإنفاق وتجهيز
جيوش وقتال. فأما إن كانوا طائفة قليلة وكيدها كيد ضعيف فليسوا بأهل البغي. فأما
قتل عبد الرحمان بن ملجم أمير المؤمنين (عليه السلام) عندنا كفر، وتأويله غير نافع له، وعندهم
هو إن تأول فقد أخطأ ووجب قتله قودا.
والثاني: أن يخرجوا عن قبضة الإمام منفردين عنه في بلد أو بادية. فأما إن كانوا
معه وفي قبضته فليسوا أهل البغي، وروي أن عليا (عليه السلام) كان يخطب فقال رجل من باب
المسجد " لا حكم إلا لله "، تعريضا بعلي (عليه السلام) أنه حكم في دين الله فقال على (عليه السلام): كلمة
حق يراد بها باطل، لكم علينا ثلاث: أن لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم
الله، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم معنا، ولا نبدأكم بقتال. فقال: " ما دامت
أيديكم معنا "، يعني لستم منفردين.
والثالث: أن يكونوا على المباينة بتأويل سائغ عندهم. وأما من باين وانفرد بغير
تأويل فهؤلاء قطاع الطريق، حكمهم حكم المحاربين. " (2)
أقول: لا يخفى أن الظاهر من قوله: " ما دامت أيديكم معنا "، كونهم معهم في قبال
العدو المشترك، فلا يكفي في صدقه عدم انفرادهم منهم.
وفي الجواهر بعد التعرض لأخبار المسألة الواردة في قصتي الجمل وصفين قال
ما ملخصه:
" ولعله لهذه النصوص ونحوها قال الشيخ وابنا إدريس وحمزة - فيما حكي عنهم
- أنه

1 - سورة الأنفال (8)، الآيتان 5 و 6.
2 - المبسوط 7 / 264.
282

يعتبر في جريان حكم البغاة كونهم في منعة وكثرة، فأما إن كانوا نفرا يسيرا كيدهم
ضعيف لم يجر عليهم حكم البغي. وهو المحكي عن الشافعي. مستدلين عليه بأن
أمير المؤمنين (عليه السلام) أوصى بالإحسان إلى ابن ملجم. ولكن عن بعض الجمهور جريان
حكم البغاة حتى على الواحد إذا خرج بالسيف، بل في المنتهى وعن التذكرة أنه قوي،
بل قيل: إنه مقتضى إطلاق المتن وغيره. وإن كان قد يناقش بانسياق غيره من
الإطلاق، خصوصا بعد ذكر الفئة الظاهر في الاجتماع المعتد به، ولا أقل من الشك
فيبقى الأصل بحاله. نعم، يجري حكم المحارب لو فرض الإشهار للسلاح.
وحكي عن الشيخ وابني حمزة وإدريس أيضا اشتراط الخروج عن قبضة الإمام
منفردين عنه، أما لو كانوا معه وفي قبضته فليسوا أهل بغي. ولعله للمرسل: " أن عليا
كان يخطب فقال رجل بباب المسجد: " لا حكم إلا لله " تعريضا بعلى (عليه السلام) أنه حكم في
دين الله الرجال، فقال علي (عليه السلام): " كلمة حق أريد بها باطل. لكم عندنا ثلاث: لا نمنعكم
مساجد الله أن تذكروا اسم الله فيها، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم معنا، لا نبدأكم
بقتال. " (1)
إذ المراد من قوله (عليه السلام): " ما دامت أيديكم معنا " عدم الانفراد. ولكنه مرسل غير
جامع لشرائط الحجية.
وربما حكي عنهم أيضا اشتراط أن يكونوا على المباينة بتأويل يعتقدونه. ولم نجد
لهم ما يدل عليه. " (2)
أقول: لا نرى وجها لاعتبار الشرط الأول والثالث بعد إطلاق الآية، ولا سيما
بملاحظة ما ذكر في شأن نزولها. ولا دليل على دخل الخصوصيات الموجودة في
أصحاب الجمل وصفين والنهروان في الأحكام المعلقة على عنوان البغي والباغي.

1 - روى نحو ذلك في مستدرك الوسائل 2 / 254، الباب 24 من أبواب جهاد العدو، الحديث 9،
عن الدعائم 1 / 393.
2 - الجواهر 21 / 331.
283

نعم، لو فرض تعليق الحكم على عنوان آخر أخص لم يسر منه إلى مطلق الباغي.
وصدق عنوان المحارب على مورد خاص لا ينافي صدق عنوان الباغي أيضا،
فيكون مجمعا للعنوانين ومحكوما بحكمين، ونظائره في الفقه كثيرة.
وابن ملجم في بادئ الأمر كان باغيا وجب قتاله، ولكن بعد القبض
عليه صيرورته تحت اختيار الإمام (عليه السلام) كان للإمام العفو عنه، حيث كان هو المبغى
عليه، فتدبر.
وكيف كان فلا خلاف بين المسلمين في وجوب قتال الباغي إجمالا، وأن التأخر
عنه كبيرة من الكبائر. والحروب الثلاث التي اتفقت لأمير المؤمنين (عليه السلام) في
البصرة صفين والنهروان كانت من هذا القبيل، ولكن لسنا نحن هنا بصدد البحث في
وجوب قتال البغاة وشرائطه، فإن له محلا آخر، بل نريد هنا البحث في بعض
آثاره توابعه الشرعية.
فنتعرض لمسألتين:
الأولى: حكم المدبر والجريح والمأسور منهم. الثانية: حكم النساء والذراري حكم
أموالهم مما حواها العسكر وما لم يحوها. ولا يخفى أن الموضوع في المسألة الأولى
ليس أمرا ماليا ولكن لشدة الارتباط بين المسألتين نبحث فيها استطرادا.
المسألة الأولى: في حكم المدبر، والجريح، والمأسور منهم:
فهي في الحقيقة ثلاث مسائل جعلناها واحدة لتشابكها رواية وفتوى:
1 - قال الشيخ في كتاب الباغي من الخلاف (المسألة 4):
" إذا ولى أهل البغي إلى غير فئة، أو ألقوا السلاح أو قعدوا أو رجعوا إلى الطاعة
حرم قتالهم بلا خلاف. وإن ولوا منهزمين إلى فئة لهم جاز أن يتبعوا ويقتلوا، وبه قال
أبو حنيفة وأبو إسحاق المروزي. وقال باقي أصحاب الشافعي: إنه لا يجوز
284

قتالهم ولا اتباعهم. دليلنا قوله - تعالى -: " فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر
الله ".
وهؤلاء ما فاؤوا إلى أمر الله. ولا ينافي ذلك ما روي أن عليا (عليه السلام) يوم الجمل نادى
أن لا يتبع مدبرهم، لأن أهل الجمل لم يكن لهم فئة يرجعون إليها. وعلى ما قلناه
إجماع الفرقة، وأخبارهم واردة به. " (1)
2 - وفيه أيضا (المسألة 6):
" إذا وقع أسير من أهل البغي في المقاتلة كان للإمام حبسه ولم يكن له قتله، وبه
قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: له قتله. دليلنا إجماع الفرقة، وأيضا روى عبد الله بن
مسعود، قال: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا ابن أم عبد، ما حكم من بغى من أمتي؟ قال:
قلت: الله ورسوله أعلم، فقال: لا يتبع ولا يجاز على جريحهم، ولا يقتل
أسيرهم، لا يقسم فيئهم. وهذا نص... " (2)
3 - وقال في جهاد النهاية:
" وأهل البغي على ضربين: ضرب منهم يقاتلون ولا تكون لهم فئة يرجعون
إليه، الضرب الآخر تكون لهم فئة يرجعون إليه. فإذا لم يكن لهم فئة يرجعون إليه فإنه
لا يجاز على جريحهم، ولا يتبع مدبرهم، ولا تسبى ذراريهم، ولا يقتل أسيرهم. ومتى
كان لهم فئة يرجعون إليه جاز للإمام أن يجيز على جرحاهم، وأن يتبع مدبرهم، وأن
يقتل أسيرهم. ولا يجوز سبي الذراري على حال. " (3)
4 - وقال في المبسوط:
" إذا عاد أهل البغي إلى الطاعة وتركوا المباينة حرم قتالهم، وهكذا إن قعدوا فألقوا
السلاح، وهكذا إن ولوا منهزمين إلى غير فئة. الحكم في هذه المسائل الثلاث واحد;
لا يقتلون، ولا يتبع مدبرهم، ولا يذفف على جريحهم بلا خلاف فيه، لقوله - تعالى -:
" فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ". فأوجب القتال إلى غاية، وقد وجدت،
فوجب أن يحرم قتالهم. فأما إن ولوا منهزمين إلى فئة لهم يلجئون إليها

1 - الخلاف 3 / 166.
2 - الخلاف 3 / 166.
3 - النهاية / 297.
285

فلا يتبعون أيضا. وقال قوم: يتبعون ويقتلون، وهو مذهبنا، لأنا لو لم نقتلهم ربما
عادوا إلى الفئة اجتمعوا ورجعوا للقتال. " (1)
5 - وفيه أيضا:
" إذا وقع أسير من أهل البغي في أيدي أهل العدل فإن كان من أهل القتال، وهو
الشاب والجلد الذي يقاتل، كان له حبسه ولم يكن له قتله. وقال بعضهم: له قتله. الأول
مذهبنا. فإذا ثبت أنه لا يقتل فإنه يحبس، وتعرض عليه المبايعة، فإن بايع على الطاعة
والحرب قائمة قبل ذلك منه وأطلق، وإن لم يبايع ترك في الحبس، فإذا انقضت
الحرب فإن أتوا تائبين أو طرحوا السلاح وتركوا القتال أو ولوا مدبرين إلى غير فئة
أطلقناه. وإن ولوا مدبرين إلى فئة لا يطلق عندنا في هذه الحالة. وقال بعضهم: يطلق
لأنه لا يتبع مدبرهم. وقد بينا أنه يتبع مدبرهم إذا ولوا منهزمين إلى فئة. " (2)
أقول: وفي كلامه في الأسير في المبسوط والخلاف نحو تهافت مع ما ذكره في
النهاية، إذ حكم فيهما بعدم قتل الأسير مطلقا ونسبه إلى مذهبنا، وفي النهاية فصل فيه
بين من له فئة وغيره نظير المدبر.
6 - وفي الشرائع:
" ومن كان من أهل البغي لهم فئة يرجع إليها جاز الإجهاز على جريحهم واتباع
مدبرهم وقتل أسيرهم. ومن لم يكن له فئة فالقصد بمحاربتهم تفريق كلمتهم، فلا يتبع
لهم مدبر، ولا يجهز على جريحهم، ولا يقتل لهم مأسور. " (3)
7 - وذيل هذا في الجواهر بقوله:
" بلا خلاف أجده في شيء من ذلك. نعم، في الدروس: " ونقل الحسن أنهم
يعرضون على السيف، فمن تاب منهم ترك وإلا قتل. " إلا أنه لم نعرف القائل به. بل
المعلوم من فعل على (عليه السلام) في أهل الجمل خلافه. وحينئذ فلا خلاف معتد به

1 - المبسوط 7 / 268.
2 - المبسوط 7 / 271.
3 - الشرائع 1 / 336 (= ط. أخرى / 256)
286

فيه، بل في المنتهى ومحكي التذكرة نسبته إلى علمائنا. بل عن الغنية الإجماع عليه
صريحا وهو الحجة... " (1)
8 - وفي الفقه على المذاهب الأربعة:
" المالكية قالوا: يمتاز قتال البغاة عن قتال الكفار بأحد عشر وجها: 1 - أن يقصد
الإمام بالقتال ردعهم لا قتلهم. 2 - وأن يكف عن مدبرهم. 3 - ولا يجهز على
جريحهم. 4 - ولا تقتل أسراهم. 5 - ولا تغنم أموالهم. 6 - ولا تسبى ذراريهم.
7 - لا يستعان عليهم بمشرك. 8 - ولا يوادعهم على مال. 9 - ولا تنصب عليهم
الردعات. 10 - ولا تحرق مساكنهم. 11 - ولا يقطع شجرهم...
الحنفية قالوا: فإن كانت لهم فئة أجهز على جريحهم، وأتبع موليهم، دفعا لشرهم
كيلا يلحقوا بهم، وإن لم يكن لهم فئة لم يجهز على جريحهم، ولم يتبع موليهم لاندفاع
الشر بدون ذلك وهو المطلوب...
الشافعية والحنابلة قالوا: لا يجوز الإجهاز على الجريح، ولا اتباع المولي في
حالتي الفئة وعدمها. " (2)
أقول: الردع: الزعفران. والظاهر أنهم كانوا يلطخون بدن الأسارى وألبستهم
بالزعفران ونحوه ليمتازوا عن غيرهم في المجتمعات.
وبالجملة فأصحابنا الإمامية فصلوا في المدبر والجريح والمأسور من البغاة بين
من لا يكون لهم فئة يرجعون إليها ورئيس يلجؤون إليه، نظير أهل الجمل، حيث
انكسرت شوكتهم وتفرقت أياديهم، وبين من لهم فئة ورئيس ربما يرجعون
إليهما يتجهزون ثانيا للقتال والهجمة، نظير جنود معاوية في صفين. وبهذا التفصيل
أفتى أبو حنيفة أيضا، ولكن أكثر فقهاء السنة لم يفصلوا في المسألة.
ويدل على التفصيل بعض الأخبار، فلنتعرض لأخبار المسألة:

1 - الجواهر 21 / 328.
2 - الفقه على المذاهب الأربعة 5 / 419.
287

1 - ما رواه الكليني بسنده، عن حفص بن غياث، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن
الطائفتين من المؤمنين: إحداهما باغية والأخرى عادلة، فهزمت العادلة الباغية؟
فقال: " ليس لأهل العدل أن يتبعوا مدبرا، ولا يقتلوا أسيرا، ولا يجهزوا على
جريح. هذا إذا لم يبق من أهل البغي أحد ولم يكن لهم فئة يرجعون إليها. فإذا كان لهم
فئة يرجعون إليها فإن أسيرهم يقتل، ومدبرهم يتبع، وجريحهم يجهز. " ورواه الشيخ
أيضا بإسناده، عن حفص. (1)
أقول: أجزت على الجريح وأجهزت عليه: أسرعت في قتله. وبهذا المعنى أيضا
ذففت وأذففت بالذال المعجمة.
وحيث نهى في الفقرة الأولى عن الاتباع والقتل والإجهاز فلا محالة لا يستفاد من
الفقرة الثانية إلا الجواز، كما هو الشأن في كل أمر وقع عقيب الحظر أو توهمه. الرواية
اشتملت على المسائل الثلاث، أعني حكم المدبر والجريح والمأسور، وقد حكم في
الجميع بالتفصيل بين وجود الفئة وغيره.
2 - ما رواه الكليني أيضا بسنده، عن عبد الله بن شريك، عن أبيه، قال: لما هزم
الناس يوم الجمل قال أمير المؤمنين (عليه السلام): " لا تتبعوا موليا، ولا تجيزوا على جريح. من
أغلق بابه فهو آمن. " فلما كان يوم صفين قتل المقبل والمدبر، وأجاز على جريح.
فقال أبان بن تغلب لعبد الله بن شريك: هذه سيرتان مختلفتان؟ فقال: إن أهل الجمل
قتل طلحة والزبير، وإن معاوية كان قائما بعينه وكان قائدهم. " ورواه الشيخ أيضا
بإسناده. (2)
3 - وعن تحف العقول، عن أبي الحسن الثالث (عليه السلام) أنه قال في جواب مسائل يحيى
بن أكثم: " وأما قولك: إن عليا (عليه السلام) قتل أهل صفين مقبلين ومدبرين، وأجاز على

1 - الكافي 5 / 32، كتاب الجهاد، ورواه عنه وعن التهذيب 6 / 144 في الوسائل 11 / 54، الباب
24 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
2 - الوسائل 11 / 55، الباب 24 من أبواب جهاد العدو، الحديث 3.
288

جريحهم، وأنه يوم الجمل لم يتبع موليا، ولم يجز على جريح، ومن ألقى سلاحه آمنه، و
من دخل داره آمنه، فإن أهل الجمل قتل إمامهم ولم يكن لهم فئة يرجعون إليها، إنما رجع
القوم إلى منازلهم غير محاربين ولا مخالفين ولا منابذين، (و) رضوا بالكف عنهم، فكان
الحكم فيهم رفع السيف عنهم والكف عن أذاهم، إذ لم يطلبوا عليه أعوانا. وأهل صفين كانوا
يرجعون إلى فئة مستعدة وإمام يجمع لهم السلاح (و) الدروع الرماح والسيوف، ويسني لهم
العطاء ويهئ لهم الانزال، ويعود مريضهم يجبر كسيرهم ويداوي جريحهم، ويحمل راجلهم،
ويكسو حاسرهم، ويردهم فيرجعون إلى محاربتهم وقتالهم، فلم يساو بين الفريقين في
الحكم لما عرف من الحكم في قتال أهل التوحيد، لكنه شرح ذلك لهم، فمن رغب عرض
على السيف أو يتوب عن ذلك. " (1)
أقول: يقال: أسنى له الجائزة: جعلها سنية أي رفيعة. والنزل بفتحتين: الفضل العطاء.
والحاسر: العاري.
4 - وفي الكافي أيضا بسنده، عن أبي حمزة الثمالي، قال: قلت لعلي بن الحسين (عليه السلام): إن
عليا (عليه السلام) سار في أهل القبلة بخلاف سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أهل الشرك؟ قال: فغضب (عليه السلام) ثم
جلس ثم قال: " ساروا الله فيهم بسيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الفتح، إن عليا (عليه السلام) كتب إلى مالك
وهو على مقدمته في يوم البصرة بأن لا يطعن في غير مقبل ولا يقتل مدبرا، ولا يجيز على
جريح، ومن أغلق بابه فهو آمن. فأخذ الكتاب فوضعه بين يديه على القربوس من قبل أن
يقرأه، ثم قال: اقتلوهم فقتلهم حتى أدخلهم سكك البصرة، ثم فتح الكتاب فقرأه ثم أمر
مناديا فنادى بما في الكتاب. " ورواه الشيخ أيضا عنه. (2)
5 - وفي خبر الأسياف الخمسة الذي رواه حفص بن غياث، عن أبي عبد الله، عن أبيه -
عليهما السلام -: " وأما السيف المكفوف فسيف على أهل البغي والتأويل. قال الله - عز وجل
-: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما...
وكانت السيرة فيهم من أمير المؤمنين (عليه السلام) ما كان من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أهل مكة يوم فتح
مكة، فإنه لم يسب لهم ذرية، وقال: من أغلق بابه فهو آمن، ومن ألقى سلاحه أو دخل دار أبي

1 - الوسائل 11 / 56، الباب 24 من أبواب جهاد العدو، الحديث 4، عن تحف العقول / 480.
2 - الوسائل 11 / 55، الباب 24 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
289

سفيان فهو آمن. وكذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام) يوم البصرة; نادى لا تسبوا لهم ذرية،
ولا تجهزوا على جريح، ولا تتبعوا مدبرا، ومن أغلق بابه وألقى سلاحه فهو آمن. " (1)
أقول: الظاهر من هذا الحديث بل ومن سابقه أن هذا الحكم من أمير المؤمنين (عليه السلام)
وقع منه منا على أهل البصرة، كما وقع نظيره من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على أهل مكة، وإلا
كان لهم الإجهاز على جريحهم واتباع مدبرهم، وسيأتي بيان ذلك.
6 - وفي المستدرك، عن المفيد بسنده، عن كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى أهل الكوفة
بعد واقعة الجمل: " فلما هزمهم الله أمرت أن لا يتبع مدبر ولا يجاز على
جريح، لا يكشف عورة ولا يهتك ستر ولا يدخل دار إلا بإذن وآمنت الناس.
الخبر. " (2)
7 - وفيه أيضا، عن أمالي المفيد بسنده، عن حبة العرني في واقعة الجمل: فولى
الناس منهزمين، فنادى منادي أمير المؤمنين (عليه السلام): " لا تجيزوا على جريح ولا تتبعوا
مدبرا، ومن أغلق بابه فهو آمن ومن ألقى سلاحه فهو آمن. " (3)
وفيه أيضا بهذا المضمون روايات أخر. فراجع.
8 - وفيه أيضا، عن غيبة النعماني بسنده، عن أبي بصير، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام):
لما التقى أمير المؤمنين (عليه السلام) وأهل البصرة نشر الراية - راية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) - فتزلزلت
أقدامهم، فما اصفرت الشمس حتى قالوا: آمنا يا بن أبي طالب. فعند ذلك قال: " لا
تقتلوا الأسراء، ولا تجهزوا على جريح، ولا تتبعوا موليا، ومن ألقى سلاحه فهو آمن،
ومن أغلق بابه فهو آمن. " (4)

1 - الوسائل 11 / 16، الباب 5 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
2 - مستدرك الوسائل 2 / 251، الباب 22 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
3 - مستدرك الوسائل 2 / 251، الباب 22 من أبواب جهاد العدو، الحديث 3.
4 - مستدرك الوسائل 2 / 251، الباب 22 من أبواب جهاد العدو، الحديث 5.
290

9 - وفيه أيضا، عن كتاب صفين بإسناده، في قصة وقعت بين مالك الأشتر الأصبغ
بن ضرار الذي أسره مالك في صفين، وفيها: " وكان علي (عليه السلام) ينهى عن قتل الأسير
الكاف... قال (عليه السلام): هو لك يا مالك، فإذا أصبت أسير أهل القبلة فلا تقتله، فإن أسير
أهل القبلة لا يفادى ولا يقتل. " (1)
أقول: ظاهر هذا الخبر على فرض صحته حرمة قتل الأسير من أهل القبلة
مطلقا لو كان له فئة كما في صفين، ومورد الرواية حرب صفين. اللهم إلا أن يحمل
على الأسير الكاف، كما يشهد به الفقرة الأولى من الرواية.
10 - وفيه أيضا، عن كتاب صفين بسنده، عن الشعبي، قال: لما أسر علي (عليه السلام)
الأسرى يوم صفين فخلى سبيلهم أتوا معاوية، وقد كان عمرو بن العاص يقول لأسرى
أسرهم معاوية: اقتلهم. فما شعروا إلا بأسراهم قد خلى سبيلهم علي (عليه السلام)، فقال معاوية:
يا عمرو، لو أطعناك في هؤلاء الأسرى لوقعنا في قبيح من الأمر. ألا ترى قد خلى
سبيل أسرانا؟ فأمر بتخلية من في يديه من أسرى علي (عليه السلام). وقد كان علي (عليه السلام) إذا أخذ
أسيرا من أهل الشام خلى سبيله إلا أن يكون قد قتل من أصحابه أحدا فيقتله به. فإذا
خلى سبيله فإن عاد الثانية قتله ولم يخل سبيله. " (2)
أقول: ليس في الخبر دلالة على عدم جواز قتل الأسير منهم، إذ لعل تخليته (عليه السلام)
لسبيلهم كان في مورد خاص ووقع منه منا لحكمة خاصة، فالأمر موكول إلى نظر
الإمام. ويشهد لذلك الخبر التالي:
11 - وفي دعائم الاسلام: " أتي بأسير يوم صفين، فقال: لا تقتلني يا أمير المؤمنين.
قال: أفيك خير تبايع؟ قال: نعم. فقال للذي جاء به: لك سلاحه وخل

1 - مستدرك الوسائل 2 / 252، الباب 22 من أبواب جهاد العدو، الحديث 9.
2 - مستدرك الوسائل 2 / 251، الباب 21 من أبواب جهاد العدو، الحديث 4.
291

سبيله. وأتاه عمار بن ياسر بأسير فقتله علي (عليه السلام). " (1) ورواه عنه في المستدرك. (2)
12 - وفي الدعائم أيضا: " وإذا انهزم أهل البغي وكانت لهم فئة يلجؤون إليها أتبعوا
وطلبوا وأجهز جرحاهم، وقتلوا بما أمكن قتلهم. وكذلك سار علي (عليه السلام) في أصحاب
صفين، لأن معاوية كان وراءهم. وإذا لم يكن لهم فئة لم يتبعوا بالقتل، ولم يجهز على
جرحاهم، لأنهم إذا ولوا تفرقوا. وكذلك روينا عن علي (عليه السلام) أنه سار في أهل الجمل لما
قتل طلحة والزبير وأخذ عائشة وهزم أصحاب الجمل نادى منادية: لا تجهزوا على
جريح ولا تتبعوا مدبرا، ومن ألقى سلاحه فهو آمن. ثم دعا ببغلة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
الشهباء فركبها... حتى انتهى إلى دار عظيمة، فاستفتح ففتح له، فإذا هو بنساء يبكين
بفناء الدار، فلما نظرن إليه صحن صيحة واحدة وقلن: هذا قاتل الأحبة. قال: فلم يقل
لهن شيئا وسأل عن حجرة عائشة، ففتح له بابها، فسمع منها كلام شبيه بالمعاذير...
قال:... ولو قتلت الأحبة لقتلت من في هذه الحجرة، ومن في هذه الحجرة، ومن في
هذه الحجرة. وأومأ إلى ثلاث حجرات... قال الأصبغ: وكان في إحدى الحجر
عائشة ومن معها من خاصتها، وفي الأخرى مروان بن الحكم وشباب من قريش، في
الأخرى عبد الله بن الزبير وأهله.
فقيل له: فهلا بسطتم أيديكم على هؤلاء فقتلتموهم؟ أليس هؤلاء كانوا أصحاب
القرحة فلم استبقاهم؟ قال الأصبغ: قد ضربنا والله بأيدينا على قوائم السيوف حددنا
أبصارنا نحوه لكي يأمرنا فيهم بأمر فما فعل ووسعهم عفوه. " (3)
ورواه عنه في المستدرك. (4)
13 - وفي سنن البيهقي بسنده، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعبد الله بن
مسعود: يا ابن مسعود أتدري حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة؟ قال ابن مسعود:

1 - دعائم الإسلام 1 / 393، كتاب الجهاد - ذكر قتال أهل البغي.
2 - مستدرك الوسائل 2 / 251، الباب 21 من أبواب جهاد لعدو، الحديث 2.
3 - دعائم الإسلام 1 / 394، كتاب الجهاد - ذكر قتال أهل البغي.
4 - مستدرك الوسائل 2 / 251، الباب 22 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
292

الله ورسوله أعلم. قال: فإن حكم الله فيهم أن لا يتبع مدبرهم، ولا يقتل
أسيرهم، لا يذفف على جريحهم...
وفي رواية الخوارزمي: ولا يجاز على جريحهم. زاد: ولا يقسم فيئهم. " (1)
14 - وفيه أيضا بسنده، عن علي بن الحسين (عليه السلام)، قال: " دخلت على مروان بن
الحكم فقال: ما رأيت أحدا أكرم غلبة من أبيك، ما هو إلا أن ولينا يوم الجمل فنادى
مناديه: لا يقتل مدبر، ولا يذفف على جريح. " (2)
15 - وفيه أيضا بسنده، عن حفص بن غياث، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، قال:
أمر علي (عليه السلام) مناديه فنادى يوم البصرة: " لا يتبع مدبر، ولا يذفف على جريح، ولا يقتل
أسير، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن. ولم يأخذ من متاعهم
شيئا. " (3)
16 - وفيه أيضا بسنده، عن يزيد بن ضبيعة العبسي، قال: نادى منادي عمار - أو
قال علي - يوم الجمل وقد ولى الناس: ألا لا يذاف على جريح ولا يقتل مول، ومن
ألقى السلاح فهو آمن. فشق علينا ذلك. " (4)
17 - وفيه أيضا بسنده، عن أبي أمامة، قال: " شهدت صفين وكانوا لا يجيزون على
جريح، ولا يقتلون موليا، ولا يسلبون قتيلا. " (5)
أقول: الروايات الكثيرة الواردة في قصة الجمل لا تنافي التفصيل الذي دلت عليه
أخبار حفص وشريك وتحف العقول والدعائم وأفتى به أصحابنا الإمامية،

1 - سنن البيهقي 8 / 182، كتاب قتال أهل البغي، باب أهل البغي إذا فاؤوا...
2 - سنن البيهقي 8 / 181، كتاب قتال أهل البغي، باب أهل البغي إذا فاؤوا...
3 - سنن البيهقي 8 / 181، كتاب قتال أهل البغي، باب أهل البغي إذا فاؤوا...
4 - سنن البيهقي 8 / 181، كتاب قتال أهل البغي، باب أهل البغي إذا فاؤوا...
5 - سنن البيهقي 8 / 182، كتاب قتال أهل البغي، باب أهل البغي إذا فاؤوا...
293

لأنها متعرضة لشق واحد من المسألة. وإطلاق خبر ابن مسعود على فرض صحته
أيضا يحمل عليه. نعم، خبر أبي أمامة الوارد في قصة صفين ربما ينافي ذلك. ويمكن
أن يقال على فرض صحته إن أبا أمامة لم يكن شاهدا لجميع مشاهد صفين. وحرب
صفين وقعت في منطقة واسعة وقد طال زمانها، فلعل أبا أمامة يحكي عما شاهده
بنفسه في منطقة خاصة وزمان خاص، فتدبر.
ثم لا يخفى أن الظاهر من الفتاوى وبعض الأخبار التي مرت تعين التفصيل وأن
من ليس لهم فئة يرجعون إليها لا يجوز الإجهاز على جريحهم واتباع مدبرهم وقتل
أسيرهم، ومن لهم فئة يجوز ذلك فيهم.
ولكن المستفاد من بعض الأخبار الأخر أن النهي عن الإجهاز والاتباع والقتل في
أهل البصرة وقع من أمير المؤمنين (عليه السلام) عفوا ومنا منه عليهم، كما من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
على أهل مكة وعفا عنهم، وظاهر ذلك كونه حكما موسميا في مورد خاص وأن
الحكم الأولي جواز الاتباع والإجهاز والقتل إذا لم يكن المورد محلا للعفو الإغماض
ولم يره الإمام صلاحا، فيكون الأمر موكولا إلى نظره:
1 - ففي خبر أبي حمزة الثمالي، قال: قلت لعلي بن الحسين (عليه السلام): بما سار علي بن
أبي طالب (عليه السلام)؟ فقال: إن أبا اليقظان كان رجلا حادا - رحمه الله - فقال: يا
أمير المؤمنين، بما تسير في هؤلاء غدا؟ فقال: بالمن، كما سار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أهل
مكة. " (1)
2 - وفي دعائم الإسلام: " وسأله عمار حين دخل البصرة فقال: يا أمير المؤمنين،
بأي شيء تسير في هؤلاء؟ فقال: بالمن والعفو، كما سار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في أهل مكة حين
افتتحها بالمن والعفو. " (2)

1 - الوسائل 11 / 58، الباب 25 من أبواب جهاد العدو، الحديث 4.
2 - دعائم الإسلام 1 / 394، كتاب الجهاد - ذكر قتال أهل البغي.
294

3 - وقد مر هذا المضمون في خبر الأسياف أيضا، فراجع. (1)
4 - وفي خبر عبد الله بن سليمان، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " ولو قتل علي (عليه السلام) أهل
البصرة جميعا واتخذ أموالهم لكان ذلك له حلالا، ولكنه من عليهم ليمن على شيعته
من بعده. " (2)
5 - وفي نهج البلاغة في ذكر أصحاب الجمل: " فوالله لو لم يصيبوا من المسلمين
إلا رجلا واحدا معتمدين لقتله بلا جرم جره لحل لي قتل ذلك الجيش كله، إذ حضروه
فلم ينكروا ولم يدفعوا عنه بلسان ولا بيد. دع ما أنهم قد قتلوا من المسلمين مثل العدة
التي دخلوا بها عليهم. " (3)
6 - وعن غيبة النعماني بسنده، عن أبي خديجة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: " إن
عليا (عليه السلام) قال: " كان لي أن أقتل المولي وأجهز على الجريح، ولكن تركت ذلك للعافية
من أصحابي إن خرجوا لم يقتلوا. والقائم (عليه السلام) له أن يقتل المولي ويجهز على
الجريح. " (4)
إلى غير ذلك من الأخبار، وسيأتي بعضها في المسألة الثانية.
وبالجملة فمقتضى هذه الأخبار الكثيرة أن الحكم الأولي في المدبر
والجريح المأسور من البغاة كان هو جواز الاتباع والإجهاز والقتل، وعمل
أمير المؤمنين (عليه السلام) أمره بالمن فيها وقع منه عفوا ومنا، فكيف جعل المن حكما مستمرا
في جميع الأعصار وأفتى به أصحابنا؟
اللهم إلا أن يقال: إن حكمه (عليه السلام) بالعفو والمن وإن كان حكما ولائيا ولكنه لم يكن
موسميا في مورد خاص بل كان حكما ولائيا مستمرا إلى عصر ظهور

1 - الوسائل 11 / 16 و 18، الباب 5 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
2 - الوسائل 11 / 58 - 59، الباب 25 من أبواب جهاد العدو، الحديث 6.
3 - نهج البلاغة، فيض / 556; عبده 2 / 104; لح / 247، الخطبة 172.
4 - مستدرك الوسائل 2 / 252، الباب 22 من أبواب جهاد العدو، الحديث 6.
295

القائم (عليه السلام) لحكمة حفظ شيعته والإرفاق بهم وإتمام الحجة على أعدائه في
مواجهتهم للشيعة إلى عصر ظهوره (عليه السلام)، ويستفاد هذا من بعض الأخبار الآتية في
المسألة الآتية. وفي كلام الأصبغ بن نباتة: " إنا لما هزمنا القوم نادى مناديه: لا يذفف
على جريح، ولا يتبع مدبر، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، سنة يستن بها بعد يومكم
هذا. " (1)
وظاهر الأخبار التي مرت في صدر المسألة كخبر حفص ونحوه كون الحكم
بالتفصيل حكما دائما مستمرا، وقد أفتى به جميع أصحابنا، فلا يجوز رفع اليد عنه.
هذا.
ويظهر من المبسوط والخلاف كما مر عدم جواز قتل الأسير من البغاة مطلقا وأنه
يجوز حبسه، وقد مر دلالة بعض الأخبار على عدم جواز القتل مطلقا، ولكن لم نجد
فيما رأيناه من الأخبار ما يدل على جواز الحبس، فتتبع. وفتوى الشيخ - قدس سره -
ينبغي أن يؤخذ من نهايته، كما لا يخفى على أهله. وسيأتي في المسألة الآتية ماله نفع
في المقام.
تنبيه
لا يخفى أن كثيرا من أفراد الفئة الباغية ربما كانوا حضروا المعركة كارهين
مكرهين، كما في الحرب المفروضة علينا من قبل طاغوت العراق، فاللازم حينئذ
الاجتناب عن قتل النفوس إلا بمقدار الضرورة في أثناء المعركة والهجمة. ففي دعائم
الإسلام، قال: " روينا عن علي (عليه السلام) أنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم بدر: من استطعتم
أن تأسروه من بني عبد المطلب فلا تقتلوه، فإنهم إنما أخرجوا كرها. " (2) ورواه في
المستدرك. (3)
فإذا كان هذا حكم المشرك المخرج كرها فكيف بمن كان مسلما محقون الدم.

1 - مستدرك الوسائل 2 / 252، الباب 22 من أبواب جهاد العدو، الحديث 7.
2 - دعائم الإسلام 1 / 376، كتاب الجهاد - ذكر قتال المشركين.
3 - مستدرك الوسائل 2 / 251، الباب 21 من أبواب جهاد العدو، الحديث 3.
296

المسألة الثانية: في حكم نساء البغاة، وذراريهم، وحكم أموالهم مما حواها
العسكر، وما لم يحوها:
فتشتمل هذه المسألة أيضا على ثلاث مسائل، ولكن لما كان أكثر أخبار المسائل
مشتركة والمسائل متشابكة رواية وفتوى جعلناها مسألة واحدة، حذرا من التكرار.
وقد حكي إجماع أصحابنا الإمامية، بل إجماع المسلمين على عدم جواز سبي
النساء والذراري، وعدم اغتنام ما لم يحوها العسكر من أموالهم، واختلف فيما حواها
العسكر منها.
1 - قال في كتاب الباغي من الخلاف (المسألة 7):
" إذا أسر من أهل البغي من ليس من أهل القتال مثل النساء والصبيان
والزمنى الشيوخ الهرمى لا يحبسون. وللشافعي فيه قولان: نص في الأم على مثل
ما قلناه، ومن أصحابه من قال: يحبسون كالرجال الشباب المقاتلين.
دليلنا أن الأصل براءة الذمة، وإيجاب الحبس عليهم يحتاج إلى دليل. " (1)
2 - وقال فيه أيضا (المسألة 17):
" ما يحويه عسكر البغاة يجوز أخذه والانتفاع به، ويكون غنيمة يقسم في المقاتلة.
وما لم يحوه العسكر لا يتعرض له.
وقال الشافعي: لا يجوز لأهل العدل أن يستمتعوا بدواب أهل البغي ولا بسلاحهم
ولا يركبونها للقتال ولا يرمون بنشابهم حال القتال ولا في غير حال القتال. ومتى
حصل من ذلك شيء عندهم كان محفوظا لأربابه، فإذا انقضت الحرب يرد عليهم.
وقال أبو حنيفة: يجوز الاستمتاع بدوابهم وبسلاحهم والحرب قائمة، فإذا انقضت

1 - الخلاف 3 / 166.
297

كان ذلك ردا عليهم.
دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضا قوله - تعالى -: " فقاتلوا التي تبغي حتى
تفيء إلى أمر الله. " فأمر بقتالهم ولم يفرق بين أن يقاتلوا بسلاحهم وعلى دوابهم أو
بغير ذلك. " (1)
أقول: ولا يخفى ما في دليله الأخير، إذ الآية ليست في مقام بيان ما يقاتل به وأنه
يجب القتال ولو بسلاح الغير.
3 - وفي باب قتال أهل البغي من النهاية:
" ولا يجوز سبي الذراري على حال، ويجوز للإمام أن يأخذ من أموالهم ما حوى
العسكر ويقسم على المقاتلة حسب ما قدمناه. وليس له ما لم يحوه العسكر ولا له إليه
سبيل على حال. " (2)
4 - وفي المبسوط:
" إذا انقضت الحرب بين أهل العدل والبغي إما بالهزيمة أو بأن عادوا إلى طاعة
الإمام، وقد كانوا أخذوا الأموال وأتلفوا وقتلوا نظرت; فكل من وجد عين ماله عند
غيره كان أحق به، سواء كان من أهل العدل أو أهل البغي، لما رواه ابن عباس أن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " المسلم أخو المسلم، لا يحل دمه وماله إلا بطيبة من نفسه. "
وروي أن عليا (عليه السلام) لما هزم الناس يوم الجمل قالوا له: يا أمير المؤمنين، ألا تأخذ
أموالهم؟ قال: " لا، لأنهم تحرموا بحرمة الإسلام فلا يحل أموالهم في دار
الهجرة. " روى أبو قيس أن عليا (عليه السلام) نادى: " من وجد ماله فليأخذه. " فمر بنا رجل
فعرف قدرا يطبخ فيها فسألناها أن يصبر حتى ينضج فلم يفعل ورمى برجله فأخذها.
وقد روى أصحابنا: أن ما يحويه العسكر من الأموال فإنه يغنم، وهذا يكون إذا
لم يرجعوا إلى طاعة الإمام، فأما إن رجعوا إلى طاعته فهم أحق بأموالهم. " (3)

1 - الخلاف 3 / 169.
2 - النهاية / 297.
3 - المبسوط 7 / 266.
298

5 - وفيه أيضا:
" يجوز لأهل العدل أن يستمتعوا بدواب أهل البغي وسلاحهم يركبونها
للقتال، يرمون بنشاب لهم حال القتال وفي غير حال القتال، متى حصل شيء من ذلك
مما يحويه العسكر كان غنيمة، ولا يجب رده على أربابه.
وقال قوم: لا يجوز شيء من ذلك، ومتى حصل شيء منه كان محفوظا لأربابه،
فإذا انقضت الحرب رد عليهم.
وقال بعضهم: يجوز الاستمتاع بدوابهم وسلاحهم والحرب قائمة، فإذا انقضت
كان ذلك ردا عليهم.
ومن منع منه قال: لا يجوز ذلك حال الاختيار، فأما حال الاضطرار مثل أن وقعت
هزيمة واحتاج الرجل إلى دابة ينجو عليها فإذا وجد دابة لهم حل ذلك له، وكذلك إذا
لم يجد ما يدفع به عن نفسه إلا سلاحهم جاز ذلك لما أوجبته الحال. لأنها أموال أهل
البغي، وأموال أهل البغي وغيرهم فيها سواء، كما لو اضطر إلى طعام الغير جاز له
أكله. " (1)
أقول: فظاهر كلامه الأول عدم جواز تملك أموالهم مطلقا وإنما نسب الجواز فيما
يحويه العسكر إلى رواية أصحابنا. وظاهر كلامه الثاني جواز التملك فيما حواه
العسكر كما في الخلاف والنهاية.
6 - وقال السيد المرتضى " قده " في الناصريات (المسألة 206) - بعد ما حكى عن
الناصر تقسيم ما احتوت عليه عساكر أهل البغي -:
" هذا غير صحيح، لأن أهل البغي لا يجوز غنيمة أموالهم وقسمتها كما تقسم أموال
أهل الحرب. ولا أعلم خلافا بين الفقهاء في ذلك. ومرجع الناس كلهم في هذا الموضع
على ما قضى به أمير المؤمنين (عليه السلام) في محاربي البصرة، فإنه منع من غنيمة أموالهم. فلما
رجع (عليه السلام) في ذلك قال: " أيكم يأخذ عائشة في سهمه؟ " وليس يمنع أن يخالف حكم
قتال أهل البغي لقتال أهل دار الحرب في هذا الباب، كما

1 - المبسوط 7 / 280.
299

يخالف في أننا لا نتبع موليهم وإن كان اتباع المولي من باقي المحاربين جائزا.
وإنما اختلف الفقهاء في الانتفاع بدواب أهل البغي وبسلاحهم في حال قيام
الحرب، فقال الشافعي: لا يجوز ذلك. وقال أبو حنيفة: يجوز ما دامت الحرب
قائمة. ليس يمنع عندي أن يجوز قتالهم بسلاحهم لا على وجه التملك له، كأنهم رموا
حربة إلى جهة أهل الحق فيجوز أن يرموا بها على سبيل المدافعة والمقابلة. " (1)
7 - وفي السرائر بعد نقل كلمات الشيخ وكلام السيد قال:
" الصحيح ما ذهب إليه المرتضى " رض ". وهو الذي أختاره وأفتي به. والذي يدل
على صحة ذلك ما استدل به " رض ". وأيضا فإجماع المسلمين على ذلك، وإجماع
أصحابنا منعقد على ذلك، وقد حكينا في صدر المسألة أقوال شيخنا أبي جعفر
الطوسي " رض " في كتبه، ولا دليل على خلاف ما اخترناه، وقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم):
لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه. وهذا الخبر قد تلقته الأمة
بالقبول، دليل العقل يعضده ويشيده لأن الأصل بقاء الأملاك على أربابها ولا يحل
تملكها إلا بالأدلة القاطعة للأعذار. " (2)
8 - وفي جهاد الشرائع:
" مسائل: الأولى: لا يجوز سبي ذراري البغاة، ولا تملك نسائهم إجماعا. الثانية:
لا يجوز تملك شيء من أموالهم التي لم يحوها العسكر، سواء كانت مما ينقل كالثياب
والآلات، أو لا ينقل كالعقارات، لتحقق الإسلام المقتضي لحقن الدم والمال. وهل
يؤخذ ما حواه العسكر مما ينقل ويحول؟ قيل: لا، لما ذكرناه من العلة، وقيل: نعم،
عملا بسيرة علي (عليه السلام)، وهو الأظهر. " (3)
9 - وفي الجواهر في ذيل المسألة الأولى قال:
" محصلا ومحكيا عن التحرير وغيره، بل عن المنتهى: " نفي الخلاف فيه بين أهل
العلم "، وعن التذكرة: " بين الأمة ". لكن في المختلف والمسالك نسبته إلى

1 - الجوامع الفقهية / 261 (= ط. أخرى / 225).
2 - السرائر / 159.
3 - الشرائع 1 / 337 (= ط. أخرى / 257).
300

المشهور. لعله لما في الدروس، قال: " ونقل الحسن: أن للإمام ذلك إن شاء، لمفهوم
قول علي (عليه السلام): إني مننت على أهل البصرة كما من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على أهل مكة. وقد
كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يسبي فكذا الإمام (عليه السلام)، وهو شاذ ". " (1)
10 - وفيه أيضا في ذيل المسألة الثانية في حكم ما لم يحوها العسكر من الأموال
قال:
" بلا خلاف أجده في شيء من ذلك، بل في المسالك هو موضع وفاق، بل في
صريح المنتهى والدروس ومحكي الغنية والتحرير الإجماع عليه، بل يمكن دعوى
القطع به بملاحظة ما وقع من أمير المؤمنين (عليه السلام) في حرب أهل البصرة والنهر بعد
الاستيلاء عليهم. " (2)
11 - وفي الفقه على المذاهب الأربعة:
" الحنفية والمالكية قالوا: لا يجوز أن يسبى للبغاة ذرية لأنهم مسلمون. ولا يقسم
لهم مال لعدم الاستغنام فيها، لقول الإمام علي " رض " يوم الجمل: " ولا يقتل
أسير، لا يكشف ستر، ولا يؤخذ مال. " وهو القدوة لنا في هذا الباب، ولأنهم مسلمون،
والإسلام يعصم النفس والمال. ولا بأس بأن يقاتلوا بسلاحهم إن احتاج المسلمون
إليه، لأن الإمام عليا " رض " قسم السلاح فيما بين أصحابه بالبصرة، وكانت قسمته
للحاجة لا للتملك... وروى ابن أبي شيبة أن عليا لما هزم طلحة وأصحابه أمر مناديه
فنادى: أن لا يقتل مقبل ولا مدبر - يعني بعد الهزيمة - ولا يفتح باب، ولا يستحل فرج
ولا مال...
الشافعية قالوا...: ويحبس أسيرهم وإن كان صبيا أو امرأة أو عبدا حتى تنقضي
الحرب ويفرق جمعهم وقالوا: إذا انقضت الحرب يجب على الإمام أن يرد إلى البغاة
سلاحهم وخيلهم وغيرها، ويحرم استعمال شيء من سلاحهم وخيلهم وغيرها من
أموالهم إلا لضرورة...
الحنفية قالوا: ويحبس الإمام أموال البغاة، فلا يردها عليهم ولا يقسمها حتى
يتوبوا

1 - الجواهر 21 / 334.
2 - الجواهر 21 / 339.
301

فيردها عليهم. أما عدم القسمة فلأنها ليست غنائم، وأما الحبس فلدفع شرهم
بكسر شوكتهم ولهذا يحبسها عنهم... " (1)
أقول: من المحتمل كون كلمة " الحنفية " الأخيرة مصحف " الحنابلة ".
12 - وفي مختصر الخرقي في فقه الحنابلة:
" وإذا دفعوا لم يتبع لهم مدبر ولا يجاز على جريحهم ولم يقتل لهم أسير، ولم يغنم
لهم مال ولم تسب لهم ذرية. " (2)
وفي المغني شرح المختصر:
" فصل: فأما غنيمة أموالهم وسبي ذريتهم فلا نعلم في تحريمه بين أهل العلم
خلافا، وقد ذكرنا حديث أبي أمامة وابن مسعود، ولأنهم معصومون وإنما أبيح من
دمائهم وأموالهم ما حصل من ضرورة دفعهم وقتالهم، وما عداه يبقى على أصل
التحريم.
وقد روي أن عليا (عليه السلام) يوم الجمل قال: " من عرف شيئا من ماله مع أحد فليأخذه. "
وكان بعض أصحاب على قد أخذ قدرا وهو يطبخ فيها، فجاء صاحبها ليأخذها فسأله
الذي يطبخ فيها إمهاله حتى ينضج الطبيخ فأبى وكبه وأخذها...
ولأن قتال البغاة إنما هو لدفعهم وردهم إلى الحق لا لكفرهم، فلا يستباح منهم إلا
ما حصل ضرورة الدفع كالصائل وقاطع الطريق، وبقي حكم المال والذرية على أصل
العصمة.
وما أخذ من كراعهم وسلاحهم لم يرد إليهم حال الحرب لئلا يقاتلونا به.
وذكر القاضي: أن أحمد أومأ إلى جواز الانتفاع به حال التحام الحرب ولا يجوز
في غير قتالهم. وهذا قول أبي حنيفة، لأن هذه الحال يجوز فيها إتلاف نفوسهم حبس
سلاحهم وكراعهم فجاز الانتفاع به كسلاح أهل الحرب.
وقال الشافعي: لا يجوز ذلك إلا من ضرورة إليه، لأنه مال مسلم فلم يجز الانتفاع
به بغير إذنه كغيره من أموالهم... " (3)

1 - الفقه على المذاهب الأربعة 5 / 421.
2 - المغني 10 / 63.
3 - المغني 10 / 65.
302

وبالجملة، فالظاهر إجماع أصحابنا الإمامية بل جميع الفقهاء من الفريقين على
حرمة سبي النساء والذراري منهم، وكذا حرمة اغتنام أموالهم التي لم يحوها العسكر.
وإنما وقع الاختلاف من فقهائنا في أموالهم التي حواها العسكر، فأحلها
بعضهم حرمها آخرون.
فالمسألة تنحل إلى ثلاث مسائل:
ويدل على المسألتين الأوليين - مضافا إلى الإجماع وعدم الخلاف بين المسلمين
والأصل المسلم في نفس المسلم وماله وعرضه المستفاد من الكتاب والسنة - أخبار
كثيرة:
1 - خبر حفص، عن جعفر، عن أبيه، عن جده، عن مروان بن الحكم، قال: لما
هزمنا علي (عليه السلام) بالبصرة رد على الناس أموالهم، من أقام بينة أعطاه، ومن لم يقم بينة
أحلفه. قال: فقال له قائل: يا أمير المؤمنين، اقسم الفيء بيننا والسبي. قال: فلما أكثروا
عليه قال: " أيكم يأخذ أم المؤمنين في سهمه؟ " فكفوا. (1)
2 - مرسلة صدوق، قال: " وقد روي أن الناس اجتمعوا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) يوم
البصرة فقالوا: يا أمير المؤمنين، اقسم بيننا غنائمهم. قال: أيكم يأخذ أم المؤمنين في
سهمه؟ " (2)
3 - وقد مر عن المبسوط قوله: " وروي أن عليا (عليه السلام) لما هزم الناس يوم الجمل قالوا
له: يا أمير المؤمنين، ألا تأخذ أموالهم؟ قال: لا، لأنهم تحرموا بحرمة الإسلام فلا يحل
أموالهم في دار الهجرة. " (3)

1 - الوسائل 11 / 58، الباب 25 من أبواب جهاد العدو، الحديث 5.
2 - الوسائل 11 / 59، الباب 25 من أبواب جهاد العدو، الحديث 7.
3 - المبسوط 7 / 266.
303

4 - ومر عنه أيضا قوله: " وروى أبو قيس أن عليا (عليه السلام) نادى: من وجد ماله
فليأخذه، فمر بنا رجل فعرف قدرا يطبخ فيها فسألناه أن يصبر حتى ينضج
فلم يفعل رمى برجله فأخذها. " (1)
5 - وفي دعائم الإسلام: " روينا عن علي (عليه السلام): أنه لما هزم أهل الجمل جمع كل
ما أصابه في عسكرهم مما أجلبوا به عليه فخمسه وقسم أربعة أخماسه على أصحابه
ومضى. فلما صار إلى البصرة قال أصحابه: يا أمير المؤمنين، اقسم بيننا
ذراريهم أموالهم. قال: ليس لكم ذلك. قالوا: وكيف أحللت لنا دماءهم ولا تحل لنا
سبي ذراريهم؟ قال: حاربنا الرجال فحاربناهم، فأما النساء والذراري فلا سبيل لنا
عليهن، لأنهن مسلمات وفي دار هجرة، فليس لكم عليهن سبيل. فأما ما أجلبوا
عليكم به واستعانوا به على حربكم وضمه عسكرهم وحواه فهو لكم، وما كان في
دورهم فهو ميراث على فرائض الله لذراريهم، وعلى نسائهم العدة، وليس لكم عليهن
ولا على الذراري من سبيل. فراجعوه في ذلك، فلما أكثروا عليه قال: هاتوا سهامكم
واضربوا على عائشة أيكم يأخذها فهي رأس الأمر. قالوا: نستغفر الله. قال: وأنا
أستغفر الله. فسكتوا. ولم يعرض لما كان في دورهم، ولا لنسائهم، ولا لذراريهم. هذه
السيرة في أهل البغي. " (2)
ورواه عنه في المستدرك. (3) إلى غير ذلك، وسيأتي بعضها في المسألة الثالثة.
6 - وفي سنن البيهقي بسنده، عن حمير بن مالك، قال: سمعت عمار بن ياسر سأل
عليا (عليه السلام) عن سبي الذرية، فقال: " ليس عليهم سبي، إنما قاتلنا من قاتلنا. " قال: لو قلت
غير ذلك لخالفتك. (4)
7 - وقد مر عن البيهقي أيضا في ذيل خبر عبد الله بن مسعود عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)

1 - المبسوط 7 / 266.
2 - دعائم الإسلام 1 / 395، كتاب الجهاد - ذكر الحكم في غنائم أهل البغي.
3 - مستدرك الوسائل 2 / 252، الباب 23 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
4 - سنن البيهقي 8 / 182، كتاب قتال أهل البغي، باب أهل البغي إذا فاؤوا...
304

برواية الخوارزمي: " ولا يقسم فيئهم. " (1)
8 - ومر عنه أيضا خبر حفص بن غياث، عن جعفر بن محمد، عن أبيه (عليه السلام)، قال: أمر
علي (عليه السلام) مناديه فنادى يوم البصرة... ولم يأخذ من متاعهم شيئا. (2)
9 - وفي البيهقي أيضا بسنده، عن شقيق بن سلمة، قال: " لم يسب علي (عليه السلام) يوم
الجمل ولا يوم النهروان. " (3) هذا.
ولكن يظهر من أخبار كثيرة أن ما صنعه أمير المؤمنين (عليه السلام) أو أمر به في أهل البصرة
وقع منه منا عليهم كما من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على أهل مكة، وأنه (عليه السلام) أراد بذلك أن
يقتدى به بالنسبة إلى شيعته، لما كان يعلم من غلبة الدول الباطلة الظالمة عليهم في
الأزمنة اللاحقة، وإلا كان له - عليه السلام - السبي والاستغنام. وإذا انقضى زمان
الهدنة وظهر القائم (عليه السلام) سار فيهم بالسيف والسبي والاستغنام:
1 - ففي الوسائل بسند لا بأس به، عن أبي بكر الحضرمي، قال: " سمعت أبا
عبد الله (عليه السلام) يقول: لسيرة علي (عليه السلام) في أهل البصرة كانت خيرا لشيعته مما طلعت عليه
الشمس، إنه علم أن للقوم دولة فلو سباهم لسبيت شيعته. قلت: فأخبرني عن القائم (عليه السلام)
يسير بسيرته؟ قال: لا، إن عليا (عليه السلام) سار فيهم بالمن لما علم من دولتهم، وإن القائم
يسير فيهم بخلاف تلك السيرة لأنه لا دولة لهم. " (4)
2 - وفيه أيضا بسنده، عن الحسن بن هارون بياع الأنماط، قال: كنت عند أبي
عبد الله (عليه السلام) جالسا فسأله معلى بن خنيس أيسير الإمام (القائم خ. ل) بخلاف سيرة
علي (عليه السلام)؟ قال: " نعم، وذلك أن عليا (عليه السلام) سار بالمن والكف، لأنه علم أن شيعته سيظهر

1 - سنن البيهقي 8 / 182، كتاب قتال أهل البغي، باب أهل البغي إذا فاؤوا...
2 - سنن البيهقي 8 / 181، كتاب قتال أهل البغي، باب أهل البغي إذا فاؤوا...
3 - سنن البيهقي 8 / 182، كتاب قتال أهل البغي، باب أهل البغي إذا فاؤوا...
4 - الوسائل 11 / 56، الباب 25 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
305

عليهم، وأن القائم (عليه السلام) إذا قام سار فيهم بالسيف والسبي، لأنه يعلم أن شيعته
لن يظهر عليهم من بعده أبدا. " (1)
3 - وفيه أيضا بسنده، عن أبي حمزة الثمالي، قال: " قلت لعلي بن الحسين (عليه السلام): بما
سار علي بن أبي طالب (عليه السلام)؟ فقال: إن أبا اليقظان كان رجلا حادا - رحمه الله - فقال:
يا أمير المؤمنين، بما تسير في هؤلاء غدا؟ فقال: بالمن، كما سار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في
أهل مكة. " (2)
4 - وفيه أيضا بسند صحيح، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " لولا أن عليا (عليه السلام)
سار في أهل حربه بالكف عن السبي والغنيمة للقيت شيعته من الناس بلاء عظيما. ثم
قال: والله لسيرته كانت خيرا لكم مما طلعت عليه الشمس. " (3)
5 - وفيه أيضا بسنده، عن عبد الله بن سليمان، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن
الناس يروون أن عليا (عليه السلام) قتل أهل البصرة وترك أموالهم، فقال: إن دار الشرك يحل
ما فيها، وإن دار الاسلام لا يحل ما فيها. فقال (عليه السلام): " إن عليا (عليه السلام) إنما من عليهم كما من
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على أهل مكة. وإنما ترك علي (عليه السلام) أموالهم لأنه كان يعلم أنه سيكون له
شيعة، وأن دولة الباطل ستظهر عليهم، فأراد أن يقتدى به في شيعته، وقد رأيتم آثار
ذلك، هو ذا يسار في الناس بسيرة علي (عليه السلام). ولو قتل علي (عليه السلام) أهل البصرة جميعا اتخذ
أموالهم لكان ذلك له حلالا، لكنه من عليهم ليمن على شيعته من بعده. " (4)
إلى غير ذلك من الأخبار الواردة بهذا المضمون.
أقول: العمدة في المسألتين هي الإجماعات المدعاة فيهما وتسالم الفريقين على
المنع، بل كأنه من ضروريات الفقه. ولو لا ذلك أمكن المناقشة في أخبار المنع -
مضافا إلى ضعف السند أو الإرسال فيها وعدم دلالة بعضها - باحتمال صدورها

1 - الوسائل 11 / 57، الباب 25 من أبواب جهاد العدو، الحديث 3.
2 - الوسائل 11 / 58، الباب 25 من أبواب جهاد العدو، الحديث 4.
3 - الوسائل 11 / 59، الباب 25 من أبواب جهاد العدو، الحديث 8.
4 - الوسائل 11 / 58، الباب 25 من أبواب جهاد العدو، الحديث 6.
306

تقية أو لمصلحة خاصة موسمية، يشهد لها ما يعلم من وضع أمير المؤمنين (عليه السلام) في
عصره من كثرة المخالفين له المنتهزين للفرصة على النقاش والاعتراض، وظهور مثل
قوله (عليه السلام): " أيكم يأخذ أم المؤمنين في سهمه "، في كونه جوابا إسكاتيا. ويشهد لذلك
كله الأخبار الكثيرة الدالة على وقوع الحكم هدنة ومنا على ما مر. هذا.
ولكن يستفاد من الجواهر أن المستفاد من هذه الأخبار أن التقية جعلت الحكم
بالمنع ثابتا في جميع زمان الهدنة إلى عصر ظهور القائم بالحق. (1)
ومقتضى ذلك أن الحكم الأولي وإن اقتضى عدم الاحترام لمن بغى على الإمام
العادل لا لنفسه ولا لماله وذريته، وكونه في ذلك بحكم الكفار، ولكن التقية والضرورة
المستمرتين أوجبتا إجراء أحكام الإسلام عليهم واحترام نفوسهم وأموالهم في جميع
زمان الهدنة. فالمن الصادر عن أمير المؤمنين (عليه السلام) وإن كان حكما ولائيا ولكنه حكم
ولائي مستمر لا يختص بأهل البصرة ونحوهم.
وقد مر منا مرارا أن الأحكام السلطانية الصادرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) على
قسمين: بعضها أحكام خاصة موسمية، وبعضها أحكام سلطانية مستمرة، نظير
ما احتملناه في قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا ضرر " من كونه حكما سلطانيا له (صلى الله عليه وآله وسلم)، ونظير
وضع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الزكاة في تسعة وعفوه عما سواها على ما في بعض
الأخبار أفتى به المشهور، فتدبر.
وكيف كان فالظاهر إجماع الفقهاء من الشيعة والسنة على المنع في النساء الذراري
وأموالهم التي لم يحوها العسكر. وإنما الإشكال والخلاف في أموالهم التي حواها
العسكر، ولا سيما وسائل الحرب وأدواتها.
قال العلامة في جهاد المختلف:
" مسألة: اختلف علماؤنا في قسمة ما حواه العسكر من أموال البغاة: فذهب السيد
المرتضى في المسائل الناصرية إلى أنها لا تقسم ولا تغنم. قال: ومرجع الناس في

1 - راجع الجواهر 21 / 335.
307

ذلك كله إلى ما قضى به أمير المؤمنين (عليه السلام) في محاربي أهل البصرة، فإنه منع من
غنيمة أموالهم وقسمتها كما تقسم أموال أهل الحرب. ولا أعلم خلافا من الفقهاء في
ذلك...
وإنما اختلف الفقهاء في الانتفاع بدواب أهل البغي وسلاحهم في دار الحرب. قال
الشافعي: لا يجوز. وجوزه أبو حنيفة... وابن إدريس وافق السيد المرتضى.
وقال ابن أبي عقيل: يقسم أموالهم التي حواها العسكر.
وقال الشيخ في الخلاف: ما يحويه عسكر البغاة يجوز أخذه والانتفاع به ويكون
غنيمة يقسم في المقاتلة، وما لم يحوه العسكر لا يتعرض له، واستدل على ذلك
بإجماع الفرقة وأخبارهم...
وقال في النهاية: يجوز للإمام أن يأخذ من أموالهم ما حواه العسكر ويقسم في
المقاتلة حسب ما قدمناه، وليس له ما لم يحوه. وجوز ابن الجنيد قسمة ما حواه
العسكر أيضا، وهو اختيار ابن البراج وأبي الصلاح.
واستدل ابن أبي عقيل بما روي أن رجلا من عبد القيس قام يوم الجمل فقال: يا
أمير المؤمنين، ما عدلت حين تقسم بيننا أموالهم ولا تقسم بيننا نساءهم ولا أبناءهم،
فقال له: إن كنت كاذبا فلا أماتك الله حتى تدرك غلام ثقيف، وذلك إن دار الهجرة
حرمت ما فيها ودار الشرك أحلت ما فيها، فأيكم يأخذ أمه من سهمه؟...
والأقرب ما ذهب إليه الشيخ في النهاية. لنا ما رواه ابن أبي عقيل، وهو شيخ من
علمائنا تقبل مراسيله لعدالته ومعرفته... " (1)
أقول: وذكر هو - قدس سره - للجواز أدلة غير مقنعة، فراجع. فالعلامة في المختلف
جعل المسألة ذات قولين، كما ترى. وقد مر في صدر المسألة بعض كلمات الفقهاء:
فالسيد المرتضى في الناصريات أفتى بالمنع، وتبعه ابن إدريس في السرائر وادعى
عليه إجماع أصحابنا وإجماع المسلمين.
وظاهر الشيخ في موضع من المبسوط أيضا المنع، وفي النهاية والخلاف وموضع

1 - المختلف 1 / 336.
308

من المبسوط الجواز، وادعى عليه في الخلاف إجماع الفرقة وأخبارهم.
وفي الغنية:
" ولا يغنم ممن أظهر الإسلام ومن البغاة والمحاربين إلا ما حواه العسكر من
الأموال والأمتعة التي تخصهم... كل ذلك بدليل الإجماع المشار إليه. " (1) وفي
الشرائع أيضا استظهر الجواز، كما مر.
وفي المسالك:
" القول بالجواز للأكثر ومنهم المصنف والعلامة في المختلف. ومن حججهم سيرة
علي (عليه السلام) في أهل الجمل، فإنه قسمه بين المقاتلين ثم رده على أربابه. " (2)
وفي الدروس:
" ويقسم أموالهم التي لم يحوها العسكر إجماعا. وجوز المرتضى قتالهم بسلاحهم
على دوابهم، لعموم قوله - تعالى -: " فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر
الله. " ما حواه العسكر إذا رجعوا إلى طاعة الإمام حرام أيضا. وإن أصروا فالأكثر
على أن قسمته كقسمة الغنيمة. وأنكره المرتضى وابن إدريس، وهو الأقرب عملا
بسيرة علي (عليه السلام) في أهل البصرة، فإنه أمر برد أموالهم فأخذت حتى القدور. " (3)
وفي التذكرة بعد ذكر القولين في المسألة ونسبتهما إلى الشيخ أيضا قال:
" احتج الشيخ بسيرة علي (عليه السلام) ولأنهم أهل قتال فحلت أموالهم كأهل
الحرب. السيرة معارضة بمثلها، والفرق ما تقدم.
ولا استبعاد في الجمع بين القولين وتصديق نقلة السيرتين، فيقال بالقسمة للأموال
إذا كان لهم فئة يرجعون إليها، إضعافا لهم وحسما لمادة فسادهم، وبعدمها فيما إذا
لم تكن لهم فئة لحصول الغرض فيهم من تفريق كلمتهم وتبدد شملهم، هذا هو الذي
اعتمده. " (4)

1 - الجوامع الفقهية / 522 (= ط. أخرى / 584).
2 - المسالك 1 / 160.
3 - الدروس / 164.
4 - التذكرة 1 / 456.
309

وما ذكره من التفصيل إحداث قول ثالث، وكأنه نحو قياس للمسألة على سابقتها،
والسيرتان كلتاهما نقلتا في حرب البصرة أيضا. هذا.
وفقهاء السنة جميعا على منع القسمة والتملك. نعم، أجاز بعضهم الانتفاع بمالهم
من آلات الحرب وأدواتها من دون تملك لها، وارتضاه المرتضى أيضا كما مر.
أقول: فأنت ترى أن المسألة مختلف فيها وأن كلا من القولين استدل له
بالإجماع بسيرة علي (عليه السلام) في أهل البصرة، وروى في المبسوط مراسيل بعضها يدل
على الجواز وبعضها على المنع.
ولا يخفى أن ادعاء الإجماع في كل من الطرفين موهون بوجود الخلاف وبادعائه
في الطرف الآخر. والمراسيل يعتمد عليها إلا إذا ضم بعضها إلى بعض بحيث حصل
العلم الإجمالي بصدور بعضها، ونعبر عن ذلك بالتواتر الإجمالي.
ويظهر من الروايات المستفيضة ومن كتب التواريخ أن أمير المؤمنين (عليه السلام) في
حرب البصرة أجاز قسمة الأموال التي حواها العسكر أولا أو قسمها بنفسه ثم أمر
بردها. فلو ثبت ذلك بنحو القطع دل على الجواز والحل وأن الرد ثانيا وقع منه
منا عفوا. فالعمدة إذا إثبات تحقق التقسيم منه (عليه السلام) أو بإجازته أولا. هذا.
والأخبار التي يستفاد منها الجواز إجمالا أو إجازة التقسيم وإنفاذه كثيرة، فلنذكر
ما عثرنا عليه، ولعله يحصل القطع بصدور بعضها:
1 - ففي الوسائل، عن الكافي، قال: وفي حديث مالك بن أعين قال: حرض
أمير المؤمنين (عليه السلام) بصفين فقال: "... وإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا
سترا لا تدخلوا دارا ولا تأخذوا شيئا من أموالهم إلا ما وجدتم في
عسكرهم، لا تهيجوا امرأة بأذى وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم وصلحاءكم.
الحديث. " (1)

1 - الوسائل 11 / 71، الباب 34 من أبواب جهاد العدو، الحديث 3.
310

ومورده كما ترى حرب صفين، وما في العسكر أعم من آلات الحرب وغيرها.
2 - وفي كتاب صفين: عمر بن سعد وحدثني رجل، عن عبد الله بن جندب، عن
أبيه أن عليا (عليه السلام) كان يأمرنا في كل موطن لقينا معه عدوه يقول: " لا تقاتلوا القوم حتى
يبدؤوكم... فإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا سترا، ولا تدخلوا دارا إلا بإذني،
ولا تأخذوا شيئا من أموالهم إلا ما وجدتم في عسكرهم، ولا تهيجوا امرأة بأذى وإن
شتمن أعراضكم. الحديث. " (1) ورواه عنه في المستدرك. (2)
3 - المرسل الذي مر من المبسوط، حيث قال: " وقد روى أصحابنا أن ما يحويه
العسكر من الأموال فإنه يغنم. " (3)
4 - مرسل ابن أبي عقيل الذي مر آنفا عن المختلف، وقد اعتمد عليه العلامة وقال:
هو شيخ من علمائنا تقبل مراسيله لعدالته ومعرفته. ولكن يمكن أن يقال: إن مجرد
عدالة الرجل ومعرفته لا يوجبان حجية مراسيله إلا إذا احتفت بما يوجب الوثوق
بالصدور، نعم تصلح للتأييد.
5 - وفي دعائم الإسلام: " روينا عن علي (عليه السلام) أنه لما هزم أهل الجمل جمع كل
ما أصابه في عسكرهم مما أجلبوا به عليه فخمسه وقسم أربعة أخماسه على أصحابه
ومضى، فلما صار إلى البصرة قال أصحابه: يا أمير المؤمنين، اقسم بيننا
ذراريهم أموالهم. قال: ليس لكم ذلك. قالوا: وكيف أحللت لنا دماءهم ولا تحل لنا
سبي ذراريهم؟ قال: حاربنا الرجال فحاربناهم، فأما النساء والذراري فلا سبيل لنا
عليهن لأنهن مسلمات وفي دار هجرة فليس لكم عليهن سبيل، فأما ما أجلبوا عليكم
به واستعانوا به على

1 - وقعة صفين / 203.
2 - مستدرك الوسائل 2 / 259، الباب 32 من أبواب جهاد العدو، الحديث 9.
3 - المبسوط 7 / 266.
311

حربكم وضمه عسكرهم وحواه فهو لكم. الحديث. " (1) وقد مر بتمامه. ورواه عنه
في المستدرك. (2)
6 - وفيه أيضا بعد هذا الحديث بلا فصل: وعنه (عليه السلام) أنه قال: " ما أجلب به أهل البغي
من مال وسلاح وكراع ومتاع وحيوان وعبد وأمة وقليل وكثير فهو فيء يخمس يقسم،
كما تقسم غنائم المشركين. " (3) ورواه عنه في المستدرك. (4)
7 - وفي المستدرك، عن شرح الأخبار لصاحب الدعائم، عن موسى بن طلحة بن
عبيد الله - وكان فيمن أسر يوم الجمل وحبس مع من حبس من الأسارى بالبصرة -
فقال: كنت في سجن علي (عليه السلام) بالبصرة حتى سمعت المنادي ينادي: أين موسى بن
طلحة بن عبيد الله، قال: فاسترجعت واسترجع أهل السجن وقالوا: يقتلك، فأخرجني
إليه فلما وقفت بين يديه قال لي: يا موسى، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: قل:
أستغفر الله، قلت أستغفر الله وأتوب اليه - ثلاث مرات - فقال لمن كان معي من رسله:
خلوا عنه، وقال لي: اذهب حيث شئت وما وجدت لك في عسكرنا من سلاح أو كراع
فخذه واتق الله فيما تستقبله من أمرك واجلس في بيتك. فشكرت وانصرفت. وكان
علي (عليه السلام) قد أغنم أصحابه ما أجلب به أهل البصرة إلى قتاله - أجلبوا به يعني: أتوا به
في عسكرهم - ولم يعرض لشيء غير ذلك لورثتهم، وخمس ما أغنمه مما أجلبوا به
عليه، فجرت أيضا بذلك السنة. " (5)
8 - وفيه أيضا عن شرح الأخبار، عن إسماعيل بن موسى بإسناده، عن أبي
البختري، قال لما انتهى علي (عليه السلام) إلى البصرة... فأمر علي (عليه السلام) مناديا ينادي: لا تطعنوا
في غير مقبل... وما كان بالعسكر فهو لكم مغنم، وما كان في الدور فهو ميراث...
فقالوا:

1 - دعائم الإسلام 1 / 395، كتاب الجهاد - ذكر الحكم في غنائم أهل البغي.
2 - مستدرك الوسائل 2 / 252، الباب 23 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
3 - دعائم الإسلام 1 / 396، كتاب الجهاد - ذكر الحكم في غنائم أهل البغي.
4 - مستدرك الوسائل 2 / 252، الباب 23 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
5 - مستدرك الوسائل 2 / 252، الباب 23 من أبواب جهاد العدو، الحديث 5.
312

يا أمير المؤمنين، من أين أحللت لنا دماءهم وأموالهم وحرمت علينا نساءهم؟
الحديث. " (1)
9 - وفي كتاب الجمل للشيخ المفيد - قدس سره -: " روى مطر بن خليفة، عن منذر
الثوري، قال: لما انهزم الناس يوم الجمل أمر أمير المؤمنين (عليه السلام) مناديا ينادي: أن
لا تجهزوا على جريح ولا تتبعوا مدبرا. وقسم ما حواه العسكر من السلاح والكراع.
وروى سفيان بن سعد، قال: قال عمار لأمير المؤمنين (عليه السلام): ما ترى في سبي الذرية؟
قال: ما أرى عليهم من سبيل، إنما قاتلنا من قاتلنا. ولما قسم ما حواه العسكر قال له
بعض القراء من أصحابه: اقسم من ذراريهم لنا وأموالهم، وإلا فما الذي أحل دماءهم
ولم يحل أموالهم؟...
وروى سعد بن جشم، عن خارجة، عن مصعب، عن أبيه، قال: شهدنا مع
أمير المؤمنين (عليه السلام) الجمل، فلما ظفرنا بهم خرجنا في طلب الطعام، فجعلنا نمر بالذهب
والفضة فلا نتعرض له وإذا وجدنا الطعام أصبنا منه.
قال: وقسم علي (عليه السلام) ما وجده في العسكر من طيب بين نسائنا...
ولما قسم ما حواه العسكر أمر بفرس فيه كادت أن تباع، فقام إليه رجل قال: يا
أمير المؤمنين، هذه الفرس لي كانت، وإنما أعرتها لفلان، ولم أعلم أنه يخرج عليها،
فسأله البينة على ذلك، فأقام البينة أنها عارية، فردها وقسم ما سوى ذلك.
وروى نصر بن (نصر، عن - ظ.) عمر بن سعد، عن أبي خالد، عن عبد الله بن
عاصم، عن محمد بن بشير الهمداني، عن الحارث بن سريع، قال: لما ظهر
أمير المؤمنين (عليه السلام) على أهل البصرة وقسم ما حواه العسكر قام فيهم خطيبا.
الحديث. " (2)

1 - مستدرك الوسائل 2 / 252، الباب 23 من أبواب جهاد العدو، الحديث 6.
2 - الجمل / 216.
313

فهذه روايات مستفيضة رواها المفيد يظهر منها تحقق القسمة بالنسبة إلى ما حواه العسكر
إجمالا في حرب الجمل، وإن كان يظهر من بعضها وقوع القسمة على آلات الحرب فقط.
10 - وفي مروج الذهب في قصة الجمل قال: " وقبض ما كان في عسكرهم من
سلاح ودابة ومتاع وآلة وغير ذلك، فباعه وقسمه بين أصحابه. " (1)
11 - وفي الإمامة والسياسة لابن قتيبة: " ثم أمر المنادي فنادى: لا يقتلن
مدبر لا يجهز على جريح، ولكم ما في عسكرهم. وعلى نسائهم العدة. وما كان لهم من
مال في أهليهم فهو ميراث على فرائض الله... " (2)
12 - وفي المستدرك، عن الحسين بن حمدان الحضيني في الهداية، عن محمد بن
علي، عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)
في حديث طويل في قصة أهل النهروان...
قال لهم علي (عليه السلام): فأخبروني ماذا أنكرتم على؟ قالوا: أنكرنا أشياء يحل لنا قتلك
بواحدة منها...
وأما ثانيها أنك حكمت يوم الجمل فيهم بحكم خالفته بصفين، قلت لنا يوم الجمل:
لا تقتلوهم مولين ولا مدبرين ولا نياما ولا أيقاظا ولا تجهزوا على جريح، ومن ألقى
سلاحه فهو آمن، ومن أغلق بابه فلا سبيل عليه، وأحللت لنا سبي الكراع والسلاح
حرمت علينا سبي الذراري.
وقلت لنا بصفين: اقتلوهم مدبرين ونياما وأيقاظا وجهزوا على كل جريح، ومن
ألقى سلاحه فاقتلوه، ومن أغلق بابه فاقتلوه، وأحللت لنا سبي الكراع والسلاح
الذراري. فما العلة فيما اختلف فيه الحكمان؟ إن يكن هذا حلالا فهذا حلال، وإن
يكن هذا حراما فهذا حرام...
ثم قال - عليه السلام -: وأما حكمي يوم الجمل بما خالفته يوم صفين فإن أهل
الجمل... لم تكن لهم دار حرب تجمعهم، ولا إمام يداوي جريحهم ويعيدهم إلى
قتالكم مرة أخرى، وأحللت لكم الكراع والسلاح، وحرمت الذراري فأيكم يأخذ
عائشة زوجة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في سهمه؟...

1 - مروج الذهب 2 / 15.
2 - الإمامة والسياسة 1 / 72.
314

وأما قولي بصفين: اقتلوهم مولين ومدبرين... وأحللت لكم سبي الكراع السلاح
وسبي الذراري، وذاك حكم الله - عز وجل -، لأن لهم دار حرب قائمة وإماما منتصبا
يداوي جريحهم... ومن خرج من بيعتنا فقد خرج من الدين وصار ماله وذراريه بعد
دمه حلالا، الحديث. " ورواه القاضي نعمان في كتاب شرح الأخبار، عن أحمد بن
شعيب الساري بإسناده، عن عبد الله بن عباس مثله باختلاف يسير (1).
أقول: ما في هذه الرواية من إحلال سبي الذراري في صفين غير معهود بل هو
متروك قطعا، لما مر من إجماع المسلمين بل ضرورة الفقه الإسلامي على حرمة سبي
النساء والذراري من البغاة مطلقا.
13 - وفي مسند زيد، عن علي (عليه السلام): " أنه خمس ما حواه عسكر أهل النهروان وأهل
البصرة، ولم يعترض ما سوى ذلك. " (2)
إذ الظاهر منه تقسيم الأخماس الباقية.
14 - وفي شرح ابن أبي الحديد لنهج البلاغة: " اتفقت الرواة كلها على أنه -
عليه السلام - قبض ما وجد في عسكر الجمل من سلاح ودابة ومملوك ومتاع عروض،
فقسمه بين أصحابه، وأنهم قالوا له: اقسم بيننا أهل البصرة فاجعلهم رقيقا، فقال: لا.
فقالوا: فكيف تحل لنا دماءهم وتحرم علينا سبيهم؟! فقال: كيف يحل لكم ذرية ضعيفة
في دار هجرة وإسلام؟! أما ما أجلب به القوم في معسكرهم عليكم فهو لكم مغنم، وأما
ما وارت الدور وأغلقت عليه الأبواب فهو لأهله، ولا نصيب لكم في شيء منه. فلما
أكثروا عليه قال: فاقرعوا على عائشة لأدفعها إلى من تصيبه القرعة. فقالوا: نستغفر
الله يا أمير المؤمنين، ثم انصرفوا. " (3) إلى غير ذلك مما ورد في التواريخ.
وكيف كان فالظاهر أن الأموال التي حواها العسكر يجوز اغتنامها، وفاقا للأكثر

1 - مستدرك الوسائل 2 / 253، الباب 23 من أبواب جهاد العدو، الحديث 9.
2 - مسند زيد / 321، كتاب السير، باب قتال أهل البغي.
3 - شرح ابن أبي الحديد 1 / 250.
315

لما مر من الأخبار الكثيرة الواردة في حرب الجمل وصفين التي ربما يحصل
القطع بصدور بعضها إجمالا.
فإن قلت: يعارض هذه الأخبار ما دلت على حرمة اغتنام أموالهم مطلقا، وقد مر
بعضها ومنها صحيحة زرارة السابقة، عن أبي جعفر (عليه السلام): " لولا أن عليا (عليه السلام) سار في أهل
حربه بالكف عن السبي والغنيمة للقيت شيعته من الناس بلاء عظيما. الحديث. " (1)
قلت: الأخبار المطلقة المانعة تحمل على الأخبار المفصلة بين ما حواها
العسكر ما لم يحوها، فلا حظ خبر الدعائم الذي مر، حيث قال: " روينا عن علي (عليه السلام)
أنه لما هزم أهل الجمل جمع كل ما أصابه في عسكرهم مما أجلبوا به عليه
فخمسه قسم أربعة أخماسه على أصحابه ومضى، فلما صار إلى البصرة قال أصحابه:
يا أمير المؤمنين، اقسم بيننا ذراريهم وأموالهم. قال: ليس لكم ذلك. الحديث. " (2)
فهم مع قسمة ما حواها العسكر بينهم استدعوا قسمة الذراري والأموال، وأجابهم
- عليه السلام - بالمنع وأنه ليس لهم ذلك. فيظهر بذلك أن الأموال الممنوع تقسيمها هي
ما لم يحوها العسكر، وأما ما حواها العسكر فكان جواز قسمتها مفروغا عنه. وردها
في الجمل بعد ذلك وقع امتنانا، ولعله (عليه السلام) جبر ذلك لأصحابه من بيت المال.
فإن قلت: كما دلت الروايات على وقوع التقسيم إجمالا في حرب البصرة فقد
دلت على رد الأموال أيضا منا وعفوا، وقد مر أنه يظهر من الأخبار أن المن منه (عليه السلام)
كان حكما ولائيا مستمرا في جميع زمان الهدنة إلى قيام القائم (عليه السلام)، كما في
السبي الأموال التي لم يحوها العسكر، فراجع ما حكيناه في المقام عن صاحب
الجواهر.
قلت: شمول أخبار المن المستمر للأموال التي حواها العسكر غير معلوم، فيؤخذ

1 - الوسائل 11 / 59، الباب 25 من أبواب جهاد العدو، الحديث 8.
2 - دعائم الإسلام 1 / 395، كتاب الجهاد - ذكر الحكم في غنائم أهل البغي.
316

بأخبار الجواز فإنها خاصة والعام يعارض الخاص، وقد أفتى الأكثر بالجواز كما
مر.
كيف ولو كان المن الواقع منه (عليه السلام) في الجمل حكما مستمرا فلم أجاز اغتنام ما في
العسكر في حرب صفين، كما مر في خبر مالك بن أعين وخبر جندب؟! اللهم إلا أن
نفصل بين من له فئة وغيره، كما حكيناه عن التذكرة.
هذا مضافا إلى أن اغتنام الأموال التي حواها العسكر ومصادرتها أمر عرفي
استقرت عليه سيرة العقلاء في جميع الأعصار، لوقوعها في طريق البغي والتجاوز،
فكأنها تصادر على سبيل المقابلة والتقاص كما أشار إليه المرتضى في
الناصريات، لأن من جاء بها إلى أثناء المعركة بغيا وعدوانا فكأنه عرضها للتلف كما
عرض نفسه له فلا يبقى لها حرمة. هذا كله بالنسبة إلى الأموال الشخصية للبغاة.
وأما الأسلحة والأمتعة والرواتب التي وزعتها الدولة الباغية على جنودها فهي
من الأموال العامة، وأمرها موكول إلى إمام المسلمين وولى أمرهم بلا إشكال وله
إجازة تقسيمها بين جنده تشويقا لهم.
ومن المحتمل بعيدا أن يراد بما حواها العسكر في الروايات هذه الأموال
لا الأموال الشخصية للبغاة.
وربما يشهد لذلك ما في تاريخ الطبري، قال: " ودفن علي (عليه السلام) الأطراف في قبر
عظيم، وجمع ما كان في العسكر من شيء ثم بعث به إلى مسجد البصرة: أن من عرف
شيئا فليأخذه إلا سلاحا كان في الخزائن عليه سمة السلطان فإنه مما بقي ما لم يعرف،
خذوا ما أجلبوا به عليكم من مال الله - عز وجل -، لا يحل لمسلم من مال المسلم
المتوفى شيء، وإنما كان ذلك السلاح في أيديهم من غير تنفل من السلطان. " (1) هذا.
وقد طال البحث في باب الغنائم، ولعل التطويل مخالف لوضع هذا الكتاب ولكنه
حيث لم نبحث في الغنائم قبل ذلك أطلنا البحث فيها هنا بخلاف الزكاة والخمس،
حيث استوفينا البحث فيهما قبل ذلك، وقد طبع ما كتبناه فيهما، فراجع.

1 - تاريخ الطبري 6 / 3223 (ط. ليدن).
317

الفصل الرابع
في بيان مفهوم الفيء وذكر بعض مصاديقه
والظاهر أن هذه الكلمة مأخوذة من كلامه - تعالى - في سورة الحشر، فلنتعرض له
إجمالا:
قال الله - تعالى -: " وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من
خيل لا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء، والله على كل شيء قدير *
ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى المساكين
وابن السبيل كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم، وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهيكم
عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب * للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من
ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم
الصادقون * والذين تبؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم لا يجدون
في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق
شح نفسه فأولئك هم المفلحون * والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر
لنال إخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربنا إنك
رؤوف رحيم. " (1)

1 - سورة الحشر (59)، الآيات 6 - 10.
319

أقول: قوله: " أفاء " من الفيء بمعنى الرجوع. والإيجاف: تسير الخيل والركاب،
من وجف وجيفا إذا تحرك باضطراب. والركاب: الإبل. والخصاصة: الإملاق الحاجة.
والشح: البخل، أو البخل مع الحرص.
1 - وفي الدر المنثور بسنده، عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس: سورة
الحشر، قال: قل سورة النضير. (1)
2 - وفيه أيضا بسنده، عنه، قال: قلت لابن عباس: سورة الحشر، قال: " نزلت في
بني النصير. " (2)
3 - قالوا: نزلت السورة في إجلاء بني النضير وهم يهود المدينة، وذلك أن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما دخل المدينة صالحه بنو النضير على أن لا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه، ثم
نقضوا العهد فركب كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة وحالفوا أبا
سفيان قريشا أن تكون كلمتهم واحدة على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزل جبرائيل فأخبر
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما تعاقدوا عليه.
وخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى بني النضير يستعينهم في دية قتيلين من بني عامر، فلما
أتاهم قال بعضهم لبعض: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل هذه الحالة فاطرحوا عليه
حجارة من فوق هذا البيت فاقتلوه، فأتاه الخبر من السماء بذلك فقام وخرج إلى
المدينة ثم أقبل أصحابه فأخبرهم بما أراد اليهود من الغدر، وأمر محمد بن مسلمة
بقتل رئيسهم كعب بن الأشرف، وسار إليهم بالناس حتى نزل بهم، فتحصنوا منه في
حصن منيع، وأرسل إليهم عبد الله بن أبي المنافق: لئن أخرجتم لنخرجن معكم وإن
قوتلتم لننصرنكم، ثم أخلفهم، وقذف الله الرعب في قلوبهم، فصالحهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
على أن يحقن دماءهم وأن يخرجوا من أرضهم وديارهم وجعل لكل

1 - الدر المنثور 6 / 187.
2 - الدر المنثور 6 / 187.
320

ثلاثة منهم بعيرا وسقاء فخرجوا إلى خيبر وأذرعات بالشام وغيرهما من البلاد.
راجع في تفصيل القصة تفسير علي ابن إبراهيم القمي، وسيرة ابن هشام، ومغازي
الواقدي، والمجمع والتبيان والقرطبي والدر المنثور وغيرها من التفاسير. (1)
4 - وفي السيرة: " وخلوا الأموال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فكانت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة،
يضعها حيث يشاء، فقسمها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على المهاجرين الأولين دون الأنصار إلا
أن سهل بن حنيف وأبا دجانة سماك بن خرشة ذكرا فقرا فأعطاهما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)...
ونزل في بني النضير سورة الحشر بأسرها، يذكر فيها ما أصابهم الله به من
نقمته، ما سلط عليهم به رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما عمل به فيهم. " (2)
5 - وفي المغازي للواقدي بسنده: " فقال عمر: يا رسول الله، ألا تخمس ما أصبت
من بني النضير كما خمست ما أصبت من بدر؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا أجعل شيئا
جعله الله - عز وجل - لي دون المؤمنين بقوله: " ما أفاء الله على رسوله من أهل
القرى " الآية، كهيئة ما وقع فيه السهمان للمسلمين. " (3)
ولا يخفى أن مقصود عمر في سؤاله تخميس المال وتقسيم البقية، كما في الغنائم.
والرواية شاهدة على وقوع التخميس في غنائم بدر.
6 - وفيه أيضا ما ملخصه: " فلما غنم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بني النضير دعا ثابت بن قيس
فقال: ادع لي قومك، فدعا له الأوس والخزرج، فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر
الأنصار وما صنعوا بالمهاجرين وإنزالهم إياهم في منازلهم وأثرتهم على أنفسهم، ثم
قال: إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين مما أفاء الله على من بني النضير، وكان
المهاجرون

1 - راجع تفسير علي بن إبراهيم (القمي) / 672 (= ط. أخرى 2 / 358); وسيرة ابن هشام
3 / 199; والمغازي للواقدي 1 / 363; ومجمع البيان 5 / 256 (الجزء 9); والتبيان 2 / 665; وتفسير
القرطبي 18 / 4 وما بعدها; والدر المنثور 6 / 187.
2 - سيرة ابن هشام 3 / 201.
3 - المغازي للواقدي 1 / 377.
321

على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم، وإن أحببتم أعطيتهم و
خرجوا من دوركم.
فتكلم سعد بن عبادة وسعد بن معاذ فقالا: يا رسول الله، بل تقسمه
للمهاجرين يكونون في دورنا كما كانوا، ونادت الأنصار: رضينا وسلمنا يا
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقسم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما أفاء الله عليه وأعطى المهاجرين ولم يعط
أحدا من الأنصار من ذلك الفيء شيئا إلا رجلين كانا محتاجين: سهل بن حنيف، وأبا
دجانة. " (1) راجع في ذلك أيضا تحف العقول. (2)
7 - وفي سنن البيهقي بسنده عن الزهري، عن مالك بن أوس، عن عمر في حديث
قال: " كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون
بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خالصا دون المسلمين، وكان
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ينفق منها على أهله نفقة سنة، فما فضل جعله في الكراع والسلاح،
عدة في سبيل الله. " (3)
ونحوه في أم الشافعي، (4) والأموال لأبي عبيد. (5)
8 - وفي سنن البيهقي أيضا بسنده عن الزهري: " كانت بنو النضير للنبي خالصا
لم يفتحوها عنوة، افتتحوها على صلح، فقسمها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بين المهاجرين، لم يعط
الأنصار منها شيئا إلا رجلين كانت بهما حاجة. " (6)
9 - وفي المجمع: " جعل الله أموال بني النضير لرسوله خالصة، يفعل بها ما يشاء،
فقسمها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بين المهاجرين، ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة نفر

1 - المغازي للواقدي 1 / 379.
2 - تحف العقول / 341، رسالة أبي عبد الله (عليه السلام) في الغنائم ووجوب الخمس.
3 - سنن البيهقي 6 / 296، كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب مصرف أربعة أخماس الفيء...
4 - الأم للشافعي 4 / 64.
5 - الأموال / 15.
6 - سنن البيهقي 6 / 296، كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب مصرف أربعة أخماس الفيء...
322

كانت بهم حاجة، وهم أبو دجانة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصمة. " (1)
10 - وفي كتاب الأموال لأبي عبيد: " قال أبو عبيد: أول ما نبدأ به من ذكر الأموال
ما كان منها لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خالصا دون الناس، وذلك ثلاثة أموال:
أولها: ما أفاء الله على رسوله من المشركين، مما لم يوجف المسلمون عليه
بخيل لا ركاب، وهي فدك وأموال بني النضير، فإنهم صالحوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على
أموالهم وأرضيهم بلا قتال كان منهم ولا سفر تجشمه المسلمون إليهم.
والمال الثاني: الصفي الذي كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصطفيه من كل غنيمة يغنمها
المسلمون قبل أن يقسم المال.
والثالث: خمس الخمس بعد ما تقسم الغنيمة وتخمس. وفي كل ذلك آثار قائمة
معروفة. " (2)
إذا عرفت هذا فنقول: هنا أمور يجب البحث فيها إجمالا:
1 - هل الموضوع في الآيتين هنا واحد أو يكون الموضوع في الثانية أعم؟
2 - ما هو الحكم في ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب؟
3 - هل في الفيء خمس أم لا؟
4 - ما هو مفهوم الفيء والمراد منه في لسان الشرع، والنسبة بينه وبين
الغنائم الأنفال والصدقات؟
5 - التعرض لبعض أنواع الفيء.

1 - مجمع البيان 5 / 260 (الجزء 9).
2 - الأموال / 14.
323

الأمر الأول:
قد يقال: إن الموضوع في كلتا الآيتين هنا أموال بني النضير، وإنما تعرضت الآية
الأولى لعدم كونها للمقاتلين حيث لم يوجفوا عليها، وما بعدها تعرضت لما هو
المصرف لها.
وقد يقال: إن الموضوع في الأولى أموال بني النضير، وفي الثانية جميع ما أفاء الله
على رسوله من بني النضير وغيرهم.
قال في المجمع:
" قال ابن عباس: نزل قوله: " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى " الآية، في
أموال كفار أهل القرى وهم قريظة وبنو النضير وهما بالمدينة، وفدك وهي من المدينة
على ثلاثة أميال، وخيبر، وقرى عرينة، وينبع، جعلها الله لرسوله يحكم فيها
ما أراد، أخبر أنها كلها له. فقال أناس: فهلا قسمها؟ فنزلت الآية.
وقيل: إن الآية الأولى بيان أموال بني النضير خاصة، لقوله: " وما أفاء الله على
رسوله منهم "، الآية. والثانية بيان الأموال التي أصيبت بغير قتال. وقيل: إنهما
واحد الآية الثانية بيان قسم المال الذي ذكره الله في الآية الأولى. " (1)
أقول: يظهر منه أن الأقوال ثلاثة، وعلى القول الأول تشمل الآية الثانية لما حصل
بالقتال أيضا، كأموال خيبر.
وربما يشهد لهذا القول خبر محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام)، حيث ذكر فيه
بعض مصاديق الفيء والأنفال وقال إنها للإمام ثم قال: وأما قوله: " وما أفاء الله على

1 - مجمع البيان 5 / 260 (الجزء 9).
324

رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب. " قال: ألا ترى هو هذا؟ وأما
قوله: " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى " فهذا بمنزلة المغنم، كان أبي يقول ذلك
وليس لنا فيه غير سهمين... " (1)
ولعل القول بنسخ آية الخمس لهذه الآية كان مبنيا على هذا القول، وسيأتي البحث
فيه.
وفي الدر المنثور:
" أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: " وما أفاء الله على رسوله منهم فما
أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب " قال: أمر الله رسوله بالسير إلى قريظة
والنضير، ليس للمؤمنين يومئذ كثير خيل ولا ركاب، فجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يحكم فيه
ما أراد، ولم يكن يومئذ خيل ولا ركاب يوجف بها. قال: والإيجاف أن يوضعوا السير.
وهي لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فكان من ذلك خيبر وفدك وقرى عرينة، وأمر الله رسوله أن
يعد لينبع فأتاها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاحتواها كلها، فقال أناس: هلا قسمها، فأنزل الله
عذره فقال: ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول - إلى قوله - شديد
العقاب. " (2)
أقول: لا مانع من كون الآية الأولى بقرينة قوله: " منهم " في بني النضير، والآية
الثانية أعم. نظير ما احتملناه في آية الأنفال من كون السؤال عن غنائم بدر والجواب
عن جميع الأنفال، فتكون اللام في الأول للعهد وفي الثاني للجنس.
اللهم إلا أن يقال: إن قوله - تعالى - بعد ذلك: " للفقراء المهاجرين " وما بعده من
الآيات بقرينة ما ورد في تفسيرها من الروايات - وقد مر بعضها - لعله قرينة على كون
جميع الآيات مرتبطة بقصة بني النضير.
وكيف كان فالحكم لا يختص بأموال بني النضير أو بخصوص ما لم يوجف عليه
في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل يعم جميع الأشباه والنظائر ولو في عصر الغيبة، والمرجع فيها
إمام المسلمين على ما يأتي في جميع الأنفال.

1 - الوسائل 6 / 368، الباب 1 من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام، الحديث 12.
2 - الدر المنثور 6 / 192.
325

الأمر الثاني:
في حكم ما لم يوجف عليه بالخيل والركاب وأنه للرسول " ص " وبعده للإمام:
أقول: قد وردت أخبار مستفيضة بل متواترة في أن ما لم يوجف عليه
بخيل لا ركاب تكون من الأنفال وتكون لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعده للإمام، وسيأتي ذكرها
في فصل الأنفال. وقد مر سابقا ويأتي أن المراد كونها لمنصب الإمامة وفي اختيار
الإمام وهو الولي لأمرها، لا أنها لشخص الإمام، فتكون من الأموال المعدة للمصالح
العامة. نعم، إدارة شؤون الإمام وبيته وعائلته أيضا من أهم المصالح العامة.
والأموال العامة قد تضاف إلى الله، وقد تضاف إلى الرسول أو إلى الإمام، وقد
تضاف إلى المسلمين، ومآل الكل واحد:
1 - ففي الخطبة الشقشقية من نهج البلاغة: " وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله
خضمة الإبل نبتة الربيع. " (1)
2 - وفي نهج البلاغة أيضا من كلام له (عليه السلام) كلم به عبد الله بن زمعة لما طلب منه مالا
قال: " إن هذا المال ليس لي ولا لك، وإنما هو فيء للمسلمين وجلب أسيافهم. " (2) قد
مر بيان كون الغنائم من الأنفال.
3 - وفي الوسائل بإسناده، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الغنيمة،
قال: " يخرج منه الخمس ويقسم ما بقي بين من قاتل عليه وولي ذلك. وأما الفيء

1 - نهج البلاغة، فيض / 51; عبده 1 / 30; لح / 49، الخطبة 3.
2 - نهج البلاغة، فيض / 728; عبده 2 / 253; لح / 353، الخطبة 232.
326

والأنفال فهو خالص لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). " (1)
4 - وفيه أيضا بسند موثوق به، عن سماعة، قال: سألته عن الأنفال، فقال: " كل
أرض خربة أو شيء يكون للملوك فهو خالص للإمام وليس للناس فيها سهم،
قال: منها البحرين لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب. " (2)
ونحو ذلك من الروايات الكثيرة الدالة على كون الفيء والأنفال للإمام.
وليس المقصود في الآية الشريفة تقسيم الفيء ستة أسهم متساوية أو غير متساوية
على ما ينسبق إلى الأذهان، بل لم نجد من فقهائنا من يفتي بوجوب التسهيم في الفيء
والأنفال، وإن أفتوا به في الخمس ودل عليه بعض الأخبار.
فلعل المقصود كما عرفت في باب الخمس هو الترتيب في الاختصاص، وسياق
الآيتين في البابين واحد. فالفيء يكون تحت اختيار من له حق الحكم. وحيث إن
الحكم يكون أولا وبالذات لله - تعالى -، ومن قبله - تعالى - جعل للرسول، ومن قبل
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) جعل للإمام من ذي القربى، فالفيء الذي هو من ضرائب الحكم
الإسلامي يكون بأجمعه لله وتحت اختياره، ومن قبله جعل تحت اختيار الرسول، من
قبل الرسول جعل تحت اختيار الإمام.
والمراد بذي القربى هو الإمام من عترته وأهل بيته، كما ادعي عليه الإجماع في
باب الخمس، وقد مر، ويدل عليه الأخبار:
ومنها ما رواه في الكافي بسنده، عن سليم بن قيس، قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام)
يقول: " نحن والله الذين عنى الله بذي القربى، الذين قرنهم الله بنفسه ونبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)
فقال: " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى
واليتامى المساكين " منا خاصة ولم يجعل لنا سهما في الصدقة. الحديث. " (3)
وأما الأصناف الثلاثة الأخر فهي مصارف محضة يتكفل لمؤونتها الإمام ولذا

1 - الوسائل 6 / 374، الباب 2 من أبواب الأنفال، الحديث 3.
2 - الوسائل 6 / 367، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 8.
3 - الكافي 1 / 539، كتاب الحجة، باب الفيء والأنفال وتفسير الخمس...، الحديث 1.
327

لم يدخل عليها لام الملك لا في المقام ولا في آية الخمس.
وقد دلت الأخبار الواردة وكلمات أصحابنا على أن المراد بها الأصناف الثلاثة
من بني هاشم لا مطلقا، وإنما خصوا بالذكر تشريفا لهم واهتماما بشأنهم لئلا تنساهم
الأمة.
وقد مر في الجهة الثالثة التي عقدناها لبيان مصرف الخمس ذكر المحتملات في
الآية الشريفة وفي الأصناف الثلاثة وفي ذي القربى وكلمات الفقهاء والأعلام
فيها. قوينا هناك كون الخمس وكذا الفيء حقا وحدانيا يكون بأجمعه تحت اختيار
الإمام، والإمام يسد به خلات نفسه وبيته وعائلته وخلات المجتمع كما صنع
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). ولأجل ذلك صرف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أموال بني النضير مع كونها له
خاصة، كما مر في الأخبار، في مصارف أهله وأزواجه وفي فقراء
المهاجرين الأنصار. وقد تعرضت لذلك الآيات التي مرت:
فقوله: " للفقراء المهاجرين " لبيان أحد المصارف وكأنه بمنزلة البدل لما قبله.
وقوله: " والذين تبوؤوا الدار والإيمان "، وقوله: " والذين جاؤوا من بعدهم "
يحتمل فيهما العطف والاستيناف.
وعلى الاحتمال الأول يشارك الأنصار والتابعون المهاجرين في الفيء لا بنحو
الملكية بل بنحو المصرفية.
وبهذا الاحتمال أخذ عمر في حديث طويل رواه مالك بن أوس بن الحدثان، وفي
آخره: " قال عمر: لئن بقيت ليأتين الرويعي بصنعاء حقه ودمه في وجهه. "
رواه السيوطي في الدر المنثور عن أبي عبيد، والبخاري، ومسلم، وأبي
داود، الترمذي وغيرهم، فراجع (1) وإن اشتمل الحديث على ما لا نلتزم به جدا، وهو
الذي عنى به الخليفة. هذا.

1 - الدر المنثور 6 / 193.
328

اعطاء فدك لفاطمة " ع ":
وحفظ بيت الوحي والرسالة، وأغصان شجرة النبوة، وشؤون العترة الطاهرة التي
عدها الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) قرينا للكتاب العزيز في حديث الثقلين المتواتر نقله بين
الفريقين حفظا للكتاب والسنة، وسفنا لنجاة الأمة ونظاما لأمرهم، قد كان من أهم
المصالح العامة التي كان يجب على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الاهتمام بها لمستقبل الأمة.
ولأجل ذلك أعطى فاطمة (عليه السلام) فدك التي كانت خالصة له، حيث كانت هي قرينة
لباب العلم والحكمة وصدفا لدرر العترة الطاهرة:
1 - ففي الدر المنثور: " أخرج البزاز وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن مردويه، عن
أبي سعيد الخدري، قال: لما نزلت هذه الآية: " وآت ذا القربى حقه " دعا
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاطمة فأعطاها فدك. "
وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس، قال: لما نزلت: " وآت ذا القربى حقه " أقطع
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاطمة فدك. " (1)
2 - وفي الوسائل بسنده، عن علي بن أسباط، عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) في
حديث، قال: " إن الله لما فتح على نبيه فدك وما والاها لم يوجف عليه بخيل لا ركاب،
فأنزل الله على نبيه: " وآت ذا القربى حقه "، فلم يدر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من هم فراجع
في ذلك جبرئيل وراجع جبرئيل ربه، فأوحى الله إليه أن ادفع فدك إلى فاطمة.
الحديث. " (2)
3 - وروى الصدوق في العيون: " والآية الخامسة قول الله - عز وجل -: " وآت ذا القربى

1 - الدر المنثور 4 / 177. والآية المذكورة من سورة الإسراء (17)، رقمها 26.
2 - الوسائل 6 / 366، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 5.
329

حقه "... فلما نزلت هذه الآية على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ادعوا لي فاطمة، فدعيت
له، فقال: يا فاطمة، قالت: لبيك يا رسول الله، فقال: هذه فدك، هي مما لم يوجف عليه
بخيل ولا ركاب، وهي لي خاصة دون المسلمين، وقد جعلتها لك لما أمرني الله -
تعالى - به، فخذيها لك ولولدك. " (1)
ورواها أيضا في تحف العقول (2).
4 - وفي شرح ابن أبي الحديد بسنده، عن الزهري، قال:
" بقيت بقية من أهل خيبر تحصنوا فسألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يحقن
دماءهم يسيرهم ففعل، فسمع ذلك أهل فدك فنزلوا على مثل ذلك، وكانت للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
خاصة لأنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب. " (3) وروى نحو ذلك البلاذري في فتوح
البلدان. (4)
5 - وفيه أيضا:
" قال أبو بكر: وروى محمد بن إسحاق أيضا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما فرغ من خيبر
قذف الله الرعب في قلوب أهل فدك، فبعثوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فصالحوه على
النصف من فدك، فقدمت عليه رسلهم بخيبر أو بالطريق أو بعد ما أقام بالمدينة، فقبل
ذلك منهم. وكانت فدك لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خالصة له، لأنه لم يوجف عليها
بخيل لا ركاب. قال: وقد روي أنه صالحهم عليها كلها. " (5)
إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الواردة في هذا المجال.
وبالجملة، ففدك كانت مما لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، فكانت خالصة
لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، يعني لم يتعلق بها حق للمقاتلين، بل كانت بأجمعها تحت اختيار

1 - عيون أخبار الرضا / 233، الباب 23 (باب ذكر مجلس الرضا (عليه السلام) مع المأمون)، الحديث 1.
2 - تحف العقول / 430.
3 - شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد 16 / 210.
4 - فتوح البلدان / 43.
5 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16 / 210.
330

الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان له أن يضعها حيث يراها مصلحة. فأعطاها فاطمة - عليها السلام -
لا لأنها ابنته فقط، بل لأن بيتها مهبط الملائكة ومحور حفظ الكتاب والسنة وضمان مستقبل
الأمة، وهذا كان من أهم المصالح العامة. فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) أراد دعم بيت الإمامة من الجهة المالية
وبهذا الملاك أعطى ونحل فاطمة فدك، وبهذا الملاك أيضا ابتزها الغاصبون.
ومطالبة الميراث كانت في الرتبة المتأخرة ومن باب المماشاة، كما يظهر لمن تتبع.
وفي نهج البلاغة: " بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء، فشحت عليها
نفوس قوم وسخت عنها نفوس قوم آخرين، ونعم الحكم الله. وما أصنع بفدك وغير
فدك والنفس مظانها في غد جدث؟ " (1)
فظاهره أن فدك كانت في أيديهم وتحت تصرفهم، وعلى هذا فلم يكن للخليفة
مطالبتهم بالبينة، فإنها خلاف موازين القضاء.
ولم يكن إقطاع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لفاطمة (عليه السلام) وأهلها أمرا فريدا يخصها:
ففي فتوح البلدان للبلاذري: أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أقطع من أرض بني النضير
أبا بكر عبد الرحمان بن عوف وأبا دجانة وغيرهم. (2)
وأقطع الزبير بن العوام أرضا من أرض بني النضير ذات نخل. (3)
وأقطع بلالا أرضا فيها جبل ومعدن. (4)
وقال مالك بن أنس: أقطع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بلال بن الحارث معادن بناحية الفرع،
لا اختلاف في ذلك بين علمائنا. (5)
وأقطع عليا (عليه السلام) أربع أرضين: الفقيرين وبئر قيس والشجرة. " (6)
وأبو بكر نفسه أقطع الزبير الجرف، وعمر أقطعه العقيق أجمع. (7)

1 - نهج البلاغة، فيض / 967; عبده 3 / 79; لح / 417، الكتاب 45.
2 - فتوح البلدان / 31.
3 - فتوح البلدان / 34.
4 - فتوح البلدان / 27.
لبلدان / 34.
5 - فتوح البلدان / 27.
6 - فتوح البلدان / 27.
7 - فتوح البلدان / 34.
331

فما أدري لماذا أخذوا من فاطمة (عليه السلام) نحلة أبيها، وهل كانت هي فقط من الأموال
العامة للمسلمين؟ نعم، فدك كانت دعما لبيت الإمامة والوصاية كما مر، وهذا كان
سبب ابتزازها.
ومما يشهد لما ذكرناه من ارتباط أمر فدك بموضوع الخلافة والإمامة، وأن
إعطاءها لفاطمة (عليه السلام) كان لدعم بيت الإمامة لا بلحاظ العواطف الشخصية ما ورد من
أن إعطاءها وقع بعد نزول قوله - تعالى -: " وآت ذا القربى حقه. " وقد أجمع أصحابنا
الإمامية إلا ما شذ على أن المراد بذي القربى هو الإمام، وبه فسر في بعض الأخبار
أيضا. فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما أعطاها فاطمة بما أنها كانت أم الأئمة الطاهرة وقرينة لأول
الأوصياء. ولعل شدة قربها من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) توجب الحياء من هتك حريمها، والعواطف
تعوق دون ابتزاز حقها، ولكن يد السياسة هدمت ما أسسه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بناه، وما أدريك
ما السياسة؟!
ويشهد لذلك أيضا: ما ورد في تحديد فدك بحدود المملكة الإسلامية بسعتها، أو
بمطلق ما لم يوجف عليه المرتبط بمنصب الإمامة ومقامها:
ففي المناقب عن كتاب أخبار الخلفاء: " أن هارون الرشيد كان يقول لموسى بن
جعفر (عليه السلام) خذ فدك حتى أردها إليك، فيأبى حتى ألح عليه، فقال (عليه السلام): لا آخذها إلا
بحدودها، قال: وما حدودها؟ قال: إن حددتها لم تردها. قال: بحق جدك إلا فعلت.
قال: أما الحد الأول فعدن. فتغير وجه الرشيد، وقال: إيها! قل: والحد الثاني سمرقند،
فأربد وجهه. قال: والحد الثالث إفريقية، فاسود وجهه وقال: هيه! قال: والرابع سيف
البحر مما يلي الجزر وإرمينية. قال الرشيد: فلم يبق لنا شيء، فتحول إلى مجلسي! قال
موسى: قد أعلمتك أنني إن حددتها لم تردها. فعند ذلك عزم على قتله. " (1)

1 - المناقب 3 / 435.
332

ورواه عنه في البحار. (1)
وفي رواية علي بن أسباط، قال: لما ورد أبو الحسن (عليه السلام) على المهدي رآه يرد
المظالم فقال: " يا أمير المؤمنين، ما بال مظلمتنا لا ترد؟ فقال له: وما ذاك؟ يا أبا
الحسن! قال: إن الله - تعالى - لما فتح على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) فدك وما والاها لم يوجف عليه
بخيل ولا ركاب، فأنزل الله على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): " وآت ذا القربى حقه "، فلم يدر
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من هم، فراجع في ذلك جبرئيل، وراجع جبرئيل (عليه السلام) ربه، فأوحى الله
إليه أن ادفع فدك إلى فاطمة (عليه السلام)، فدعاها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال لها: يا فاطمة، إن الله
أمرني أن أدفع إليك فدك، فقالت: قد قبلت يا رسول الله من الله ومنك. فلم يزل
وكلاؤها فيها حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فلما ولى أبو بكر أخرج عنها وكلاءها، فأتته
فسألته أن يردها عليها، فقال لها: إيتيني بأسود أو أحمر يشهد لك بذلك، فجاءت
بأمير المؤمنين (عليه السلام) وأم أيمن فشهدا لها...
فقال له المهدي: يا أبا الحسن، حدها لي. فقال: حد منها جبل أحد، وحد منها
عريش مصر، وحد منها سيف البحر، وحد منها دومة الجندل.
فقال له: كل هذا؟! قال: نعم يا أمير المؤمنين، هذا كله، إن هذا كله مما لم يوجف
على أهله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بخيل ولا ركاب. فقال: كثير، وأنظر فيه. " (2) وقد روى قطعة
منه في الوسائل (3) كما مر. هذا.
توهم نسخ آية الفيء:
في الدر المنثور:
" أخرج عبد بن حميد، عن قتادة: " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله

1 - بحار الأنوار 48 / 144، تاريخ الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام)، الباب 6 (باب مناظراته (عليه السلام))،
الحديث 20.
2 - الكافي 1 / 543، كتاب الحجة، باب الفيء والأنفال وتفسير الخمس...، الحديث 5.
3 - الوسائل 6 / 366، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 5.
333

للرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. " قال: كان الفيء بين
هؤلاء فنسختها الآية التي في الأنفال فقال: " واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله
خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. " فنسخت هذه الآية
ما كان قبلها في سورة الحشر، فجعل الخمس لمن كان له الفيء وصار ما بقي من
الغنيمة لسائر الناس: لمن قاتل عليها. " (1)
وفي تفسير القرطبي:
" قال قوم من العلماء: إن قوله - تعالى -: " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى "
منسوخ بما في سورة الأنفال من كون الخمس لمن سمي له، والأخماس الأربعة لمن
قاتل. وكان في أول الإسلام تقسم الغنيمة على هذه الأصناف ولا يكون لمن قاتل
عليها شيء. وهذا قول يزيد بن رومان. وقتادة وغيرهما، ونحوه عن مالك. " (2)
أقول: يرد على ما ذكره قتادة وغيره أولا: أن موضوع الحكم هنا هو الفيء وفي
آية الخمس الغنيمة وهما مختلفان عند الأكثر، حيث أخذوا في مفهوم الفيء عدم
القتال وفي مفهوم الغنيمة القتال، فتأمل.
وثانيا: أن الظاهر من قوله: " غنمتم " صدور الاغتنام من المقاتلين. وظاهر قوله:
" فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب " نفي صدور الاغتنام منهم وإنما حصل بتسليط
الله رسوله. والظاهر أن الموضوع في كلتا آيتي الفيء واحد، وهو أموال بني النضير
كما مر.
وثالثا: أنه يستفاد من الروايات والتواريخ أن آية الخمس نزلت بعد غزوة بدر آية
الفيء نزلت في بني النضير بعد غزوة أحد، ومن المحال أن ينسخ المتقدم للمتأخر.
وكيف كان فالحكم عندنا واضح، حيث إن ما لم يوجف عليه يكون من الأنفال كما
يأتي، والأنفال كلها للإمام. بل قد عرفت منا أن الغنائم أيضا من الأنفال وأنه لا يتعين
فيها التقسيم أيضا، فراجع ما ذكرناه في أول بحث الغنائم.

1 - الدر المنثور 6 / 192.
2 - تفسير القرطبي 18 / 12.
334

الأمر الثالث:
أن الفيء والأنفال لا خمس فيها:
قد مر في بحث الغنائم أن الخمس إنما يثبت فيها بعد سد النوائب منها وإرادة
تقسيمها بين المقاتلين، فيكون الخمس فيها بلحاظ تقسيمها بينهم وصيرورتها لهم،
حيث إن الخمس ضريبة إسلامية تؤخذ من أموال الناس بنفع بيت المال والدولة
الإسلامية ويؤدونها إلى الإمام بما هو إمام المسلمين.
والفئ والأنفال تكون بأجمعها للإمام وتكون خالصة له، فلا مجال للخمس فيها.
وهو الظاهر من أكثر كلمات الأصحاب وأكثر فقهاء السنة.
وقد مر عن الواقدي قول عمر لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ألا تخمس ما أصبت من بني
النضير كما خمست ما أصبت من بدر؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا أجعل شيئا جعله الله
لي دون المؤمنين بقوله - تعالى -: " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى... " كهيئة
ما وقع فيه السهمان للمسلمين. " (1)
وظاهره كون جميع المال له، فلا تقسيم فيه ولا خمس.
ولكن عن الشافعي ثبوت الخمس في الفيء أيضا كالغنيمة وهو الظاهر من
الخلاف أيضا:
1 - قال في الخلاف (المسألة 2 من كتاب الفيء وقسمة الغنائم):
" الفيء كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة، وهو لمن قام (يقوم خ. ل) مقامه من
الأئمة (عليهم السلام). وبه قال علي (عليه السلام) وابن عباس وعمر، ولم نعرف لهم مخالفا.
وقال الشافعي: كان الفيء يقسم على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على خمسة وعشرين

1 - المغازي 1 / 377.
335

سهما: أربعة أخماسه للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو عشرون سهما، وله أيضا خمس ما بقي يكون
إحدى وعشرين سهما للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويبقى أربعة أسهم بين ذوي القربى
واليتامى المساكين وأبناء السبيل.
وقال أبو حنيفة: الفيء كله وخمس الغنيمة يقسم على ثلاثة، لأنه كان يقسم على
خمس فلما مات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رجع سهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسهم ذوي القربى إلى أصل
السهمان، فيقسم الفيء على ثلاثة.
وعندنا كان يستحق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الفيء إلا الخمس. وعند الشافعي أربعة أخماس
الفيء وخمس ما بقي من الفيء.
دليلنا إجماع الفرقة... " (1)
2 - وقال فيه أيضا (المسألة 3):
" حكم الفيء بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حكمه في أيامه في أنه خاص بمن قام مقامه للشافعي
فيه قولان في أربعة أخماسه وخمس الخمس، أحدهما يكون للمقاتلين والقول الثاني
يكون في المصالح... " (2)
أقول: قوله - قدس سره - أولا: إن الفيء لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة أو لمن قام مقامه
لعله ينافي ما ذكره أخيرا من استحقاق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الفيء إلا الخمس. اللهم إلا أن يريد
بقوله: " خاصة " عدم التقسيم بين المقاتلين لا نفي الخمس أيضا. ثم إن للرسول أيضا
سهما في الخمس فلم استثنى الخمس بنحو الإطلاق؟
ولعل الشافعي وكذا الشيخ تصورا كون الفيء لشخص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن أمواله
الشخصية فحكما بتخميسه، مع أن الفيء والأنفال للمنصب وللإمام بما أنه إمام ومثله
الخمس أيضا، فلا مجال لتعلق الخمس بها بعد كون كليهما له.
ولم أجد في نهاية الشيخ ولا مبسوطه تعرضا لخمس الفيء والأنفال بل ظاهرهما
كون الجميع للإمام.

1 - الخلاف 2 / 328.
2 - الخلاف 2 / 329.
336

نعم، قال في المبسوط:
" وأما ما يؤخذ من الجزية والصلح والأعشار فإنه يخمس لأنه من جملة الغنائم
على ما فسرناه. " (1)
والظاهر أن ما ذكر يكون من الفيء كما يأتي بيانه، وعدها من الغنائم لا يخلو من
مسامحة.
ويظهر من الخلاف خلاف ما في المبسوط، فقال فيه (المسألة 7 من كتاب الفيء):
" ما يؤخذ من الجزية والصلح والخراج وميراث من لا وارث له ومال المرتد
لا يخمس، بل هو لجهاته المستحقة لها، وبه قال عامة الفقهاء. وللشافعي فيه قولان:
أحدهما مثل ما قلناه. والثاني ذكره في الجديد أنه يخمس وهو الصحيح عندهم. دليلنا
أنه لا دليل في الشرع يدل على أنه يخمس، فوجب نفيه ويصرف إلى جهاته. " (2) هذا.
ولم أعثر على طرح المسألة فيما رأيت من كتب أصحابنا.
3 - وفي أم الشافعي:
" وما أخذ الولاة من المشركين من جزيتهم والصلح عن أرضهم، وما أخذ من
أموالهم إذا اختلفوا في بلاد المسلمين، ومن أموالهم إن صالحوا بغير إيجاف
خيل لا ركاب، ومن أموالهم إن مات منهم ميت لا وارث له، وما أشبه هذا مما أخذه
الولاة من مال المشركين فالخمس في جميعه ثابت فيه، وهو على ما قسمه الله -
عز وجل - لمن قسمه له من أهل الخمس الموجف عليه من الغنيمة، وهذا هو المسمى
في كتاب الله. " (3)
4 - وفيه أيضا:
" فالغنيمة والفئ يجتمعان في أن فيها معا الخمس من جميعهما لمن سماه الله - تعالى -
له، ومن سماه الله - عز وجل - له في الآيتين معا سواء مجتمعين غير مفترقين. " (4)

1 - المبسوط 2 / 65.
2 - الخلاف 2 / 330.
3 - الأم 4 / 77.
4 - الأم 4 / 64.
337

وحكاه عنه البيهقي في السنن وقال:
" وقال في القديم: إنما يخمس ما أوجف عليه. " (1)
5 - وفي بداية ابن رشد في قسمة الفيء:
" فقال قوم: إن الفيء لجميع المسلمين: الفقير والغني، وإن الإمام يعطي منه للمقاتلة
وللحكام وللولاة، وينفق منه في النوائب التي تنوب المسلمين كبناء القناطر وإصلاح
المساجد وغير ذلك، ولا خمس في شيء منه. وبه قال الجمهور، وهو الثابت عن أبي
بكر وعمر.
وقال الشافعي: بل فيه الخمس، والخمس مقسوم على الأصناف الذين ذكروا في
آية الغنائم، وهم الأصناف الذين ذكروا في الخمس بعينه من الغنيمة، وإن الباقي هو
مصروف إلى اجتهاد الإمام ينفق منه على نفسه وعلى عياله ومن رأى.
وأحسب أن قوما قالوا: إن الفيء غير مخمس ولكن يقسم على الأصناف الخمسة
الذين يقسم عليهم الخمس، وهو أحد أقوال الشافعي فيما أحسب...
وأما تخميس الفيء فلم يقل به أحد قبل الشافعي، وإنما حمله على هذا القول أنه
رأى الفيء قد قسم في الآية على عدد الأصناف الذين قسم عليهم الخمس، فاعتقد
لذلك أن فيه الخمس لأنه ظن أن هذه القسمة مختصة بالخمس، وليس ذلك بظاهر بل
الظاهر أن هذه القسمة تخص جميع الفيء لا جزء منه، وهو الذي ذهب إليه فيما
أحسب قوم.
وأخرج مسلم عن عمر، قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما
لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، فكانت للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خالصة، فكان ينفق
منها على أهله نفقة سنة وما بقي يجعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله. وهذا
يدل على مذهب مالك. " (2)
أقول: ما حكاه عن مالك هنا يشابه ما حكي عنه في الخمس: " هو موكول إلى

1 - سنن البيهقي 6 / 294، كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب وجوب الخمس في الغنيمة والفئ...
2 - بداية المجتهد 1 / 389 (= ط. أخرى 1 / 342).
338

نظر الإمام واجتهاده، فيأخذ منه من غير تقدير ويعطي منه القرابة باجتهاد،
ويصرف الباقي في مصالح المسلمين، وبه قال الخلفاء الأربعة وبه عملوا. " (1)
وهذا هو الذي استظهرناه أيضا في الخمس وكذا في الفيء من كونهما حقا
وحدانيا جعل للإمام بما أنه إمام المسلمين، فيسد بهما ما تنوبه ومنها مصارف
نفسه عائلته، غاية الأمر أن عليه أيضا سد خلات الأصناف الثلاثة من بني هاشم وقد
ذكروا في الآيتين بالخصوص تشريفا لهم فلا يتعين التنصيف والتسهيم على ما في
كلام الأكثر.
ويحتمل أن مالكا أخذ هذا الفتوى في المدينة من أئمة العترة الطاهرة -
عليهم السلام -.
6 - وفي مختصر الخرقي قال:
" فخمس الفيء والغنيمة مقسوم على خمسة أسهم. "
وذيله ابن قدامة في المغني بقوله:
" في هذه المسألة فصول أربعة: أحدها أن الفيء مخموس كما تخمس الغنيمة في
إحدى الروايتين، وهو مذهب الشافعي والرواية الثانية: لا يخمس. نقلها أبو طالب
فقال: إنما تخمس الغنيمة. قال القاضي: لم أجد بما قال الخرقي من أن الفيء مخموس
نصا فأحكيه وإنما نص على أنه غير مخموس، وهذا قول عامة أهل العلم. قال ابن
المنذر: ولا نحفظ عن أحد قبل الشافعي في الفيء خمس كخمس الغنيمة... " (2)
7 - وفي الناصريات (المسألة 121) عن الناصر أنه قال:
" في قليل العسل وكثيره لخمس، لأنه من جنس الفيء. " ثم قال السيد " ره ":
" لا عشر عندنا في العسل ولا خمس. " (3)
فيظهر من كلام الناصر أنه يقول بالخمس في الفيء مطلقا، وهو على ما قيل من
أئمة الزيدية.

1 - تفسير القرطبي 8 / 11.
2 - المغني 7 / 299.
3 - الجوامع الفقهية / 241 (= ط. أخرى / 205).
339

أقول: وكيف كان فالظاهر أن الفيء والأنفال والجزايا والأعشار
والزكوات الأخماس وكذلك الأراضي المفتوحة عنوة على ما مر، كل هذه الأموال
العامة وتكون تحت اختيار الإمام، ولا يتعلق بها الخمس ولا غيره من الضرائب، فإن
الضرائب إنما توضع على أموال الناس بنفع بيت المال والدولة الإسلامية وتؤدى إلى
الإمام بما هو إمام المسلمين.
وليس على مال الإمام بما هو إمام ضريبة، ولذا لا تتعلق بالنقود المخزونة في
خزانة الدولة الإسلامية زكاة.
وقد أشير إلى هذا في مرسلة حماد الطويلة، حيث قال: " وليس في مال الخمس
زكاة، لأن فقراء الناس جعل أرزاقهم في أموال الناس... ولذلك لم يكن على مال
النبي والوالي زكاة... " (1)
ولعله المقصود أيضا مما رواه أبو بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلت له: أما على
الإمام زكاة؟ فقال: " أحلت يا أبا محمد، أما علمت أن الدنيا والآخرة للإمام، يضعها
حيث يشاء ويدفعها إلى من يشاء؟ الحديث. " (2)
فيكون المقصود ما هو مال الإمام بما أنه إمام لا أمواله الشخصية، بداهة أن الإمام
الصادق (عليه السلام) مثلا كما يتعلق به التكليف بالصلاة يتوجه إليه التكليف بالزكاة أيضا إذا
صارت أمواله الشخصية بحد النصاب. ويشهد بذلك قوله: " أما علمت أن الدنيا الآخرة
للإمام؟ " إذ هما للإمام بما أنه إمام لا لشخصه.
فان قلت: من الأنفال: المعادن على الأقوى، ومع ذلك يتعلق بها الخمس.
قلت: الخمس إنما يتعلق بها بعد ما أقطعها الإمام إلى الأشخاص، فيكون الخمس
بمنزلة حق الإقطاع، ولذا لا نقول بتعلقه بها إذا كان المستخرج لها الدولة

1 - الوسائل 6 / 359، الباب 1 من أبواب قسمة الخمس، الحديث 8.
2 - الكافي 1 / 408، كتاب الحجة، باب أن الأرض كلها للإمام (عليه السلام)، الحديث 4.
340

الإسلامية بنفسها، فتدبر.
فإن قلت: ما ذكرت من عدم الخمس في الفيء والأنفال وغيرهما من الأموال
العامة وإن كان موافقا للاعتبار لكنه مخالف لما رواه العياشي عن زرارة ومحمد بن
مسلم وأبي بصير أنهم قالوا له: " ما حق الإمام في أموال الناس؟ قال: الفيء
والأنفال الخمس. وكل ما دخل منه فيء أو أنفال أو خمس أو غنيمة فإن لهم خمسه،
فإن الله يقول: " واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي
القربى اليتامى والمساكين. " وكل شيء في الدنيا فإن لهم فيه نصيبا، فمن وصلهم
بشيء فمما يدعون له لا مما يأخذون منه. " هكذا في الوسائل. (1)
وفي تفسير العياشي المطبوع: " فمن وصلهم بشيء مما يدعون له أكثر مما
يأخذون منه. " (2)
وفي كلتا العبارتين إبهام، ويحتمل أن تكون عبارة التفسير صحيحة وتكون:
" مما " مصحف " فما ".
أقول: أولا إن الحديث مرسل مقطوع، فلا اعتبار به. وثانيا إن ظاهر صدر الكلام
موافق لما نصر عليه من كون الفيء والأنفال والخمس بأجمعها حقا وحدانيا في
اختيار الإمام.
وأما قوله: " فإن لهم خمسه " ففيه أن الخمس لا خمس فيه قطعا، فيمكن أن يحمل
على تسهيم الخمس والفئ وتقسيمهما على خمسة أسهم، على ما يقول به
الشافعي غيره، ويدل عليه صحيحة ربعي، (3) ويراد بالخمس فيه سهم ذي القربى
المذكور في آية الخمس وآية الفيء، والمورد كان مورد المحاجة والجدل في قبال
خلفاء الجور، حيث أسقطوا سهم ذي القربى بعد موت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فتدبر.
والحديث أقوى شاهد على أن الفيء لا يصدق على الصدقات والزكوات، إذ
لا سهم لذوي القربى فيها. هذا.

1 - الوسائل 6 / 373، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 33.
2 - تفسير العياشي 2 / 62.
3 - راجع الوسائل 6 / 356، الباب 1 من أبواب قسمة الخمس، الحديث 3.
341

وفي أوائل كتاب الخراج ليحيى بن آدم القرشي بسنده، عن سفيان بن سعيد، يقول:
" الغنيمة ما أصاب المسلمون عنوة، ففيه الخمس لمن سمى الله وأربعة أخماس
لمن شهده. والفئ ما صالح عليه المسلمون بغير قتال، ليس فيه خمس، فهو لمن سمى
الله ورسوله. " (1) هذا.
ويمكن أن يستدل لما ذكرنا أيضا بصحيحة عبد الله بن سنان، قال: سمعت أبا
عبد الله (عليه السلام) يقول: " ليس الخمس إلا في الغنائم خاصة " (2) بأن يكون موضوع البحث
فيها خصوص ما يصل إلى المسلمين من أموال الكفار، والحصر فيها إضافيا، فيراد أن
ما يصل إليهم من أموالهم لا تخمس إلا الغنائم منها دون الفيء والأنفال، فتدبر.

1 - خراج يحيى / 19.
2 - الوسائل 6 / 338، الباب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 1.
342

الأمر الرابع:
ما هو مفهوم الفيء والمقصود منه في لسان الشرع؟
1 - قال الراغب في المفردات:
" الفيء والفيئة: الرجوع إلى حالة محمودة. قال: " حتى تفيء إلى أمر الله ". " فإن
فاءت " وقال: " فإن فاؤوا. " ومنه فاء الظل. والفئ لا يقال إلا للراجع منه. قال: " يتفيأ
ظلاله. " وقيل للغنيمة التي لا يلحق فيها مشقة فيء. قال: " ما أفاء الله على رسوله ".
" مما أفاء الله عليك " " (1)
2 - وفي النهاية:
" قد تكرر ذكر الفيء في الحديث على اختلاف تصرفه. وهو ما حصل للمسلمين
من أموال الكفار من غير حرب ولا جهاد. وأصل الفيء: الرجوع. يقال: فاء يفيء فئة
وفيوء، كأنه كان في الأصل لهم فرجع إليهم... " (2)
3 - وفي تفسير سورة الحشر من التبيان:
" فالفيء رد ما كان للمشركين على المسلمين بتمليك الله إياهم ذلك على ما شرط
فيه. يقال: فاء يفيء فيئا إذا رجع، وأفأته أنا عليه: إذا رددته عليه. وقال عمر بن
الخطاب ومعمر: مال الفيء هو مال الجزية والخراج.
والفئ كل ما رجع من أموال الكافرين إلى المؤمنين، فمنه غنيمة وغير غنيمة،
فالغنيمة ما أخذ بالسيف، فأربعة أخماسه للمقاتلة وخمسه للذين ذكرهم الله في قوله:
" واعلموا أنما غنمتم "، الآية. وقال كثير من العلماء: إن الفيء المذكور في هذه الآية
هو الغنيمة.

1 - المفردات / 402.
2 - النهاية لابن الأثير 3 / 482.
343

وقال قوم: مال الفيء خلاف مال الصدقات، لأن مال الفيء أوسع، فإنه يجوز أن
يصرف في مصالح المسلمين، ومال الصدقات إنما هو في الأصناف الثمانية.
وقال قوم: مال الفيء يأخذ منه الفقراء من قرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بإجماع الصحابة
في زمن عمر بن الخطاب، ولم يخالفه فيه أحد إلا الشافعي فإنه قال: يأخذ منه الفقراء
والأغنياء، وإنما ذكروا في الآية لأنهم منعوا الصدقة فبين الله أن لهم في مال الفيء
حقا.
وقال عمر بن الخطاب: مال بني النضير كان فيئا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة ولذي
القربى قرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من بني هاشم وبني المطلب...
والذي نذهب إليه أن مال الفيء غير مال الغنيمة: فالغنيمة كل ما أخذ من دار
الحرب بالسيف عنوة مما يمكن نقله إلى دار الإسلام، وما لا يمكن نقله إلى دار
الإسلام فهو لجميع المسلمين ينظر فيه الإمام ويصرف ارتفاعه إلى بيت المال لمصالح
المسلمين.
والفئ كل ما أخذ من الكفار بغير قتال أو انجلاء أهلها وكان ذلك للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
خاصة يضعه في المذكورين في هذه الآية. وهو لمن قام مقامه من الأئمة
الراشدين. " (1)
4 - وفي المجمع في ذيل آية الخمس:
" الغنيمة ما أخذ من أموال أهل الحرب من الكفار بقتال وهي هبة من الله - تعالى -
للمسلمين. والفئ ما أخذ بغير قتال وهو قول عطاء ومذهب الشافعي وسفيان. وهو
المروي عن أئمتنا (عليه السلام). وقال قوم: الغنيمة والفئ واحد، وادعوا أن هذه الآية ناسخة
للتي في الحشر... " (2)
أقول: وقد مضى في أول بحث الغنائم قريب من هذا عن تفسير القرطبي،
فراجع. (3)

1 - التبيان 2 / 666.
2 - مجمع البيان 2 / 543 (الجزء 4).
3 - تفسير القرطبي 8 / 1، وراجع ص 130 من الكتاب.
344

5 - وفي أم الشافعي:
" والغنيمة هي الموجف عليها بالخيل والركاب لمن حضر من غني وفقير، والفئ و
هو ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب. " (1)
6 - وفي تفسير سورة الحشر من القرطبي قال:
" الثالثة: الأموال التي للأئمة والولاة فيها مدخل ثلاثة أضرب: ما أخذ من
المسلمين على طريق التطهير لهم كالصدقات والزكوات.
والثاني: الغنائم، وهو ما يحصل في أيدي المسلمين من أموال الكافرين بالحرب
والقهر والغلبة.
والثالث: الفيء، وهو ما رجع للمسلمين من أموال الكفار عفوا صفوا من غير قتال
ولا إيجاف، كالصلح والجزية والخراج والعشور المأخوذة من تجار الكفار، ومثله أن
يهرب المشركون ويتركوا أموالهم أو يموت أحد منهم في دار الإسلام ولا وارث له...
فأما الفيء فقسمته وقسمة الخمس سواء. والأمر عند مالك فيهما إلى الإمام: فإن
رأى حبسهما لنوازل تنزل بالمسلمين فعل، وإن رأى قسمتهما أو قسمة أحدهما قسمه
كله بين الناس وسوى فيه بين عربيهم ومولاهم... " (2)
7 - وقال الماوردي:
" الباب الثاني عشر في قسم الفيء والغنيمة: وأموال الفيء والغنائم: ما وصلت من
المشركين أو كانوا سبب وصولها.
ويختلف المالان في حكمهما، وهما مخالفان لأموال الصدقات من أربعة أوجه:
أحدها: أن الصدقات مأخوذة من المسلمين تطهيرا لهم، والفئ والغنيمة مأخوذان
من الكفار انتقاما منهم.
والثاني: أن مصرف الصدقات منصوص عليه ليس للأئمة اجتهاد فيه، وفي أموال
الفيء والغنيمة ما يقف مصرفه على اجتهاد الأئمة.
والثالث: أن أموال الصدقات يجوز أن ينفرد أربابها بقسمتها في أهلها. ولا يجوز

1 - الأم 4 / 64.
2 - تفسير القرطبي 18 / 14.
345

لأهل الفيء والغنيمة أن ينفردوا بوضعه في مستحقه حتى يتولاه أهل الاجتهاد من
الولاة.
والرابع: اختلاف المصرفين على ما سنوضح.
أما الفيء والغنيمة فهما متفقان من وجهين ومختلفان من وجهين:
فأما وجها اتفاقهما فأحدهما: أن كل واحد من المالين واصل بالكفر. والثاني أن
مصرف خمسهما واحد.
وأما وجها افتراقهما فأحدهما أن مال الفيء مأخوذ عفوا ومال الغنيمة مأخوذ
قهرا.
والثاني: أن مصرف أربعة أخماس الفيء مخالف لمصرف أربعة أخماس الغنيمة
على ما سنوضح إن شاء الله - تعالى -.
وسنبدأ بمال الفيء فنقول: إن كل مال وصل من المشركين عفوا من غير
قتال لا بإيجاف خيل ولا ركاب فهو كمال الهدنة والجزية وأعشار متاجرهم، أو كان
واصلا بسبب من جهتهم كمال الخراج ففيه إذا أخذ منهم أداء الخمس لأهل الخمس
مقسوما على خمسة. وقال أبو حنيفة: لا خمس في الفيء... " (1)
وذكر نحو ذلك أبو يعلى الفراء في الأحكام السلطانية، إلا أنه جعل الخمس مختلفا
فيه عند أصحاب أحمد (2).
أقول: الماوردي من علماء الشافعية، وقد مر عن الشافعي الحكم بثبوت الخمس
في الفيء، ومر عن الخلاف أيضا ما يظهر منه الموافقة له، ومر منا الإشكال في ذلك.
وأما ما قاله الماوردي من أن أموال الصدقات يجوز أن ينفرد بها أربابها بقسمتها
في أهلها فهو وإن كان حقا عندنا في صورة عدم بسط يد الإمام العادل ولكن مع بسط
يده ولا سيما مع مطالبته فلا محيص عن إيصال الزكوات إليه أو الاستيذان منه، لما
دلت على ذلك من الأخبار المستفيضة كما مر في الجهة الثالثة من مبحث الزكاة.

1 - الأحكام السلطانية / 126.
2 - الأحكام السلطانية / 136.
346

8 - وفي مختصر أبي القاسم الخرقي من فقهاء الحنابلة:
" والأموال ثلاثة: فيء وغنيمة وصدقة: فالفيء ما أخذ من مال مشرك
بحال لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، والغنيمة ما أوجف عليها. "
وفي المغني شرح المختصر:
" الفيء هو الراجع إلى المسلمين من مال الكفار بغير قتال. يقال: فاء الفيء: إذا
رجع نحو المشرق.
والغنيمة ما أخذ منهم قهرا بالقتال، واشتقاقها من الغنم وهو الفائدة، وكل واحد
منهما في الحقيقة فيء وغنيمة، وإنما خص كل واحد منهما باسم ميز به عن
الآخر. " (1)
أقول: فالفيء عند هؤلاء المصنفين يطلق على خصوص ما حصل بغير قتال يكون
قسيما للغنيمة. ولكن الكليني " ره " خص الفيء بما أخذ بقتال وجعل ما لم يوجف
عليه من الأنفال، فيكون الفيء عنده مساويا للغنيمة وقسيما للأنفال:
9 - ففي أصول الكافي في باب الفيء والأنفال قال:
" إن الله - تبارك وتعالى - جعل الدنيا كلها بأسرها لخليفته، حيث يقول للملائكة:
" إني جاعل في الأرض خليفة. " (2) فكانت الدنيا بأسرها لآدم وصارت بعده لأبرار
ولده وخلفائه. فما غلب عليه أعداؤهم ثم رجع إليهم بحرب أو غلبة سمي فيئا، وهو
يفيء إليهم بغلبة وحرب وكان حكمه فيه ما قال الله - تعالى -: " واعلموا أنما غنمتم
من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ".
فهو لله وللرسول ولقرابة الرسول.
فهذا هو الفيء الراجع. وإنما يكون الراجع ما كان في يد غيرهم فأخذ منهم
بالسيف.
وأما ما رجع إليهم من غير أن يوجف عليه بخيل ولا ركاب فهو الأنفال، هو لله

1 - المغني 7 / 297.
2 - سورة البقرة (2)، الآية 30.
347

وللرسول خاصة ليس لأحد فيه الشركة، وإنما جعل الشركة في شيء قوتل عليه،
فجعل لمن قاتل من الغنائم أربعة أسهم وللرسول سهم، والذي للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يقسمه
على ستة أسهم: ثلاثة له وثلاثة لليتامى والمساكين وابن السبيل.
وأما الأنفال فليس هذه سبيلها كانت للرسول خاصة. وكانت فدك لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
خاصة لأنه فتحها وأمير المؤمنين (عليه السلام) لم يكن معهما أحد فزال عنها اسم الفيء ولزمها
اسم الأنفال، وكذلك الآجام والمعادن والبحار والمفاوز هي للإمام خاصة. " (1)
أقول: ما ذكره - قدس سره - مخالف لصريح الآية في سورة الحشر وللروايات
الكثيرة الآتية ولما حكيناه عن علماء الفريقين.
10 - وفي تفسير النعماني جعل الفيء أعم مما أوجف عليه وما لم يوجف فقال:
" والفئ يقسم قسمين: فمنه ما هو خاص للإمام وهو قول الله - عز وجل - في سورة
الحشر: " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى
والمساكين وابن السبيل " وهي البلاد التي لا يوجف عليها المسلمون بخيل لا ركاب.
والضرب الآخر ما رجع إليهم مما غصبوا عليه في الأصل، قال الله - تعالى -:
" إني جاعل في الأرض خليفة. " فكانت الدنيا بأسرها لآدم (عليه السلام): إذ كان خليفة لله في
أرضه، ثم هي للمصطفين الذين اصطفاهم وعصمهم، فكانوا هم الخلفاء في الأرض،
فلما غصبهم الظلمة على الحق الذي جعله الله ورسوله لهم وحصل ذلك في أيدي
الكفار صار في أيديهم على سبيل الغصب حتى بعث الله - تعالى - رسوله محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم)
فرجع له ولأوصيائه، فما كانوا غصبوا عليه أخذوه منهم بالسيف، فصار ذلك مما أفاء
الله به، أي مما أرجعه الله إليهم، والدليل على أن الفيء هو الراجع قوله - تعالى -:
" للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر، فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم. " أي
رجعوا من الإيلاء إلى المناكحة. وقوله - عز وجل -: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا
فأصلحوا بينهما... حتى تفيء إلى أمر الله، أي ترجع. " (2)

1 - الكافي 1 / 538، كتاب الحجة.
2 - بحار الأنوار 90 / 7; (= ط. إيران 93 / 47)، كتاب القرآن، باب ما ورد في أصناف القرآن; روى
صدره في الوسائل 6 / 370، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 19.
348

أقول: وهذا التفسير وإن نسب جميعه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، لكن كون جميع ما فيه
رواية عنه (عليه السلام) غير معلوم بل معلوم العدم، لاشتماله على مطالب لا يمكن الالتزام بها.
نعم، فيه مطالب صحيحة مهمة نافعة أيضا، فراجع.
وكيف كان فظاهر الكلمات التي مرت وغيرها من الكلمات فيما رأيت أن الفيء
عندهم كان اسما لخصوص ما رجع من ناحية الكفار إلى إمام المسلمين وبيت مالهم
إما مطلقا كما في التفسير المذكور، أو ما حصل بغير قتال كما عليه الأكثر، أو ما حصل
بقتال كما في الكافي. فكأنهم اتفقوا على عدم صدقه على مثل الزكوات والأخماس
المأخوذة من أموال المسلمين.
فالأموال العامة الراجعة إلى إمام المسلمين كانت على قسمين: قسم منها من
الضرائب التي توضع على أموال المسلمين وفوائدهم. وقسم منها كانت تحصل من
ناحية سعة حكم الإسلام وسلطته على أراضي الكفر وبلاده بالقتال أو بالهدنة. فالفيء
كان يطلق على خصوص القسم الثاني إما على بعض أصنافه أو مطلقا، ولعل الثاني هو
الظاهر من كثير من الأخبار الواردة في الأبواب المختلفة، فيعم مغانم الحرب والأنفال
بأنواعها والخراج والجزايا والعشور المأخوذة من تجار الكفار ونحو ذلك.
ولعل إطلاقه عليها كان بلحاظ أن سلطان الكفر بشعبه كان قد استولى على جميع
الأموال والبلاد والأراضي والجبال والأودية وغيرها من الأموال العامة التي خلقها
الله لعباده الصالحين، وقد رجعت بحكم الإسلام إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإمام المسلمين.
وقد مر في أول بحث الغنائم أن آية الأنفال نزلت في غنائم بدر، فيظهر بذلك أن
لفظ الأنفال أيضا كان يشمل حصل بقتال، فكان اللفظان متساويين موردا وإن اختلفا
مفهوما، هذا.
ولكن شاع بعد ذلك استعمال لفظ الأنفال في خصوص ما حصل بغير قتال لم يتعلق
به حق للمقاتلين، بل لم يعهد إطلاقه على مثل الخراج والجزايا من
349

الضرائب المأخوذة تدريجا ولو حصلت بسبب الغلبة على الكفر أيضا، كما شاع
إطلاق لفظ الفيء على ما حصل بغير قتال، ولعله بلحاظ كونه موردا لقوله - تعالى -
" وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه بخيل ولا ركاب. "
وكذلك صار لفظ الغنيمة شائعا في خصوص ما حصل بقتال بعد كونه بحسب اللغة
أعم، فصار بهذا كله لفظ الفيء والأنفال قسيمين للغنيمة بحسب الاستعمالات الشائعة
والفئ مساويا للأنفال أو أعم منه إن منعنا صدق الأنفال على مثل الخراج والجزايا.
وأما الضرائب المأخوذة من أموال المسلمين كالزكوات والأخماس فلم أعثر إلى
الآن على إطلاق الفيء والأنفال عليها، بل تقع هذه قسيما لهما في الكلمات. وقد مر
عن الماوردي وأبي يعلى والقرطبي والخرقي جعل الفيء والغنيمة قسيما للصدقات.
اللهم إلا أن يطلق الفيء على جميع ما في بيت المال حتى الصدقات مسامحة وتغليبا،
فتأمل.
وفي نهج البلاغة: " إن القرآن أنزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأموال أربعة: أموال
المسلمين فقسمها بين الورثة في الفرائض، والفئ فقسمه على مستحقيه، والخمس
فوضعه الله حيث وصعه، والصدقات فجعلها الله حيث جعلها. " (1)
فذكر فيه الفيء قسيما للصدقات.
ومر في خبر العياشي قوله: " وكل ما دخل منه فيء أو أنفال أو خمس أو غنيمة
فإن لهم خمسه. " (2)
وقد مر أن المراد سهم ذي القربى، وواضح أن الصدقات ليس فيها لذي القربى
سهم.
وعمدة ما كان في بيوت الأموال في عصر الخلفاء ولا سيما الأموية والعباسية كان
من المغانم والصفايا وخراج الأرضين والجزايا لكثرة الفتوحات الإسلامية في تلك
الأعصار، وهم كانوا يستبدون في هذه الأموال ويستأثرون بها على حسب

1 - نهج البلاغة، فيض / 1217; عبده 3 / 218; لح / 523، الحكمة 270.
2 - تفسير العياشي 2 / 61; والوسائل 6 / 373، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 33.
350

آرائهم وشهواتهم.
وأما الزكوات فلعلها كانت بالنسبة إليها قليلة جدا وكذلك الأخماس، وكانت
الزكوات تصرف غالبا في الفقراء وفي سبيل الله ونحوهما.
وكيف كان فلنذكر بعض الروايات المتضمنة للفظ الفيء ومصارفه تتميما للفائدة،
وهي على ثلاث طوائف:
الطائفة الأولى: ما جعل فيها الفيء في قبال الغنيمة المأخوذة عنوة وقسيما لها:
1 - ما عن الشيخ بسنده، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الغنيمة، قال:
" يخرج منه الخمس ويقسم بقي بين من قاتل عليه وولي ذلك. وأما الفيء والأنفال
فهو خالص لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). " (1)
وعن العياشي أيضا، عن ابن سنان مثله. (2)
ويحتمل كون عطف الأنفال على الفيء تفسيريا، ولذا أرجع إليهما الضمير المفرد.
2 - موثقة محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه سمعه يقول: " إن الأنفال ما كان
من أرض لم يكن فيها هراقه دم، أو قوم صولحوا وأعطوا بأيديهم، وما كان من أرض
خربة أو بطون أودية فهذا كله من الفيء والأنفال لله وللرسول، فما كان لله فهو
للرسول يضعه حيث يحب. " (3)
والظاهر من الموثقة أيضا بدوا هو مساواة الفيء والأنفال. وربما يشهد لذلك:
3 - موثقته الأخرى، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال سمعته يقول: " الفيء والأنفال

1 - الوسائل 6 / 374، الباب 2 من أبواب الأنفال، الحديث 3.
2 - الوسائل 6 / 361، الباب 1 من أبواب قسمة الخمس، الحديث 14.
3 - الوسائل 6 / 367، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 10.
351

ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة الدماء، وقوم صولحوا وأعطوا بأيديهم،
وما كان من أرض خربة أو بطون أو دية فهو كله من الفيء، فهذا لله ولرسوله، فما كان
لله فهو لرسوله يضعه حيث شاء، وهو للإمام بعد الرسول. وأما قوله: " ما أفاء الله على
رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب " قال: ألا ترى هو هذا؟ وأما قوله:
" ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى " فهذا بمنزلة المغنم. كان أبي يقول ذلك.
وليس لنا فيه غير سهمين: سهم الرسول وسهم القربى، ثم نحن شركاء الناس فيما
بقي. " (1) وروى صدرها العياشي أيضا (2).
وذيل الخبر لا يخلو من رعاية التقية كما لا يخفى. وظاهره كون الموضوع في
الآية الثانية أعم. وقد عرفت أن ظاهر الخبرين مساواة الفيء والأنفال. اللهم إلا أن
يقال بأن ذكر الأنفال بعد الفيء من قبيل ذكر الخالص بعد العام، فتدبر.
4 - خبر الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، وفيه: " الفيء ما كان من أموال لم يكن فيها
هراقة دم أو قتل، والأنفال مثل ذلك هو بمنزلته. " (3)
5 - مرفوعة أحمد بن محمد، عن بعض أصحابنا، قال: وما كان من فتح لم يقاتل
عليه ولم يوجف عليه بخيل ولا ركاب إلا أن أصحابنا يأتونه فيعاملون عليه فكيف
ما عاملهم عليه النصف أو الثلث أو الربع أو ما كان يسهم له خاصة وليس لأحد فيه
شيء إلا ما أعطاه هو منه وبطون الأودية ورؤوس الجبال والموات كلها هي له، وهو
قوله - تعالى -: " يسألونك عن الأنفال " أن تعطيهم منه " قل الأنفال لله والرسول " ليس
هو يسألونك عن الأنفال، وما كان من القرى وميراث من لا وارث له فهو له خاصة، هو
قوله - عز وجل -: ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى. الحديث. " (4)
أقول: ظاهر الخبر كسابقه أيضا مساواة الفيء والأنفال. والظاهر كون كلمة:

1 - الوسائل 6 / 368، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 12.
2 - مستدرك الوسائل 1 / 554، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 3.
3 - الوسائل 6 / 367، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 11.
4 - الوسائل 6 / 369، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 17.
352

" عن " في قوله: " يسألونك عن الأنفال " زائدة.
فالرواية مطابقة لما حكي عن ابن مسعود وغيره من قراءة الآية كذلك.
ولكن وقوع الزيادة في الكتاب العزيز عندنا ممنوع وكذا النقيصة، والتفصيل
يطلب من محله.
ولعل المراد بميراث من لا وارث له في الحديث ميراث الكافر الذي ربما يموت
في بلاد الإسلام بعد سفره إليها، وأما المسلم الذي يموت في بلده فقل من لا يكون له
وارث ولو بعيدا، وقد مر ذكره في عبارة القرطبي أيضا.
الطائفة الثانية: ما استعمل فيها الفيء فيما حصل بقتال:
1 - ما في نهج البلاغة من كلام له (عليه السلام) كلم به عبد الله بن زمعة لما قدم عليه يطلب منه
مالا، فقال (عليه السلام): " إن هذا المال ليس لي ولا لك، وإنما هو فيء للمسلمين وجلب
أسيافهم، فإن شركتهم في حربهم كان لك مثل حظهم، وإلا فجناة أيديهم لا تكون لغير
أفواههم. " (1)
2 - وفيه أيضا من كتاب له (عليه السلام) إلى مصقلة بن هبيرة الشيباني: " بلغني عنك أمر إن
كنت فعلته فقد أسخطت إلهك وأغضبت (عصيت - لح) إمامك: أنك تقسم فيء
المسلمين الذي حازته رماحهم وخيولهم وأريقت عليه دماؤهم فيمن اعتامك من
أعراب قومك. " (2)
أقول: اعتامك أي اختارك.
3 - وفي الوسائل في رواية مروان بن الحكم، قال: " لما هزمنا علي (عليه السلام) بالبصرة...
فقال له قائل: يا أمير المؤمنين، اقسم الفيء بيننا والسبي. الحديث. " (3)
4 - وفيه أيضا موثقة سماعة، عن أحدهما (عليه السلام)، قال: " إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج

1 - نهج البلاغة، فيض / 728; عبده 2 / 253; لح / 253، الخطبة 232.
2 - نهج البلاغة، فيض / 961; عبده 3 / 76، لح / 415، الكتاب 43.
3 - الوسائل 11 / 58، الباب 25 من أبواب جهاد العدو، الحديث 5.
353

بالنساء في الحرب يداوين الجرحى، ولم يقسم لهن من الفيء شيئا ولكنه
نفلهن. " (1)
5 - وفيه أيضا: " إن عليا (عليه السلام) قال: إذا ولد المولود في أرض الحرب قسم له مما أفاء
الله عليهم. " (2)
6 - وفيه أيضا في رواية الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " سألته عن رجل لقيه
العدو وأصاب منه مالا أو متاعا ثم إن المسلمين أصابوا ذلك كيف يصنع بمتاع
الرجل؟ فقال: إذا كانوا أصابوه قبل أن يحوزوا متاع الرجل رد عليه، وإن كانوا
أصابوه بعد ما حازوه فهو فيء المسلمين، فهو أحق بالشفعة. " (3)
7 - وفيه أيضا في رواية حفص بن غياث، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل
من أهل الحرب إذا أسلم في دار الحرب فظهر عليهم المسلمون بعد ذلك؟
فقال: " إسلامه إسلام لنفسه ولولده الصغار وهم أحرار، وولده ومتاعه ورقيقه له،
فأما الولد الكبار فهم فيء للمسلمين إلا أن يكونوا أسلموا قبل ذلك، فأما
الدور الأرضون فهي فيء ولا تكون له. الحديث. " (4)
8 - وفيه أيضا خبر أبي الربيع الشامي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " لا تشتر من
أرض السواد (أراضي أهل السواد خ. ل) شيئا إلا من كانت له ذمة، فإنما هو فيء
للمسلمين. " (5)
9 - وفيه أيضا بسنده، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سئل عن رجل أصاب جارية من
الفيء فوطأها قبل أن يقسم؟ قال: " تقوم الجارية وتدفع إليه بالقيمة ويحط له منها
ما يصيبه من الفيء. الحديث. " (6)

1 - الوسائل 11 / 86، الباب 41 من أبواب جهاد العدو، الحديث 6.
2 - الوسائل 11 / 87، الباب 41 من أبواب جهاد العدو، الحديث 8.
3 - الوسائل 11 / 74، الباب 35 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
4 - الوسائل 11 / 89، الباب 43 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
5 - الوسائل 12 / 274، الباب 21 من أبواب عقد البيع وشروطه، الحديث 5.
6 - الوسائل 18 / 391، الباب 22 من أبواب حد الزنا، الحديث 6.
354

10 - وفيه أيضا خبر ابن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلت له: رجل سرق من
الفيء؟ قال: بعد ما قسم أو قبل؟ قلت: أجبني فيهما جميعا. قال: " إن كان سرق بعد
ما أخذ حصته منه قطع، وإن كان سرق قبل أن يقسم لم يقطع حتى ينظر ماله فيه.
الحديث. " (1)
11 - وفيه أيضا بسند صحيح، عن زرارة، قال: " الإمام يجري وينفل ويعطي
ما يشاء قبل أن تقع السهام، وقد قاتل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوم لم يجعل لهم في الفيء
نصيبا، وإن شاء قسم ذلك بينهم. " (2)
12 - وفي سيرة ابن هشام: " ولما فرغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من رد سبايا حنين إلى
أهلها ركب وأتبعه الناس يقولون: يا رسول الله، اقسم علينا فيئنا من الإبل والغنم...
ثم قام إلى جنب بعير فأخذ وبرة من سنامه فجعلها بين إصبعيه ثم رفعها ثم قال: أيها
الناس، والله مالي من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس، والخمس مردود عليكم.
الحديث. " (3)
13 - وفي سنن أبي داود في قصة حنين بسنده: " فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ردوا
عليهم نساءهم وأبناءهم، فمن تمسك بشيء من هذا الفيء فإن له به علينا ست فرائض
من أول شيء يفيئه الله علينا. " ثم دنا - يعني النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - من بعير، فأخذ وبرة من
سنامه ثم قال: " يا أيها الناس، إنه ليس لي من هذا الفيء شيء ولا هذا إلا
الخمس، الخمس مردود عليكم. الحديث. " (4) ورواه أيضا أحمد في المسند. (5)
14 - وفي كتاب الأموال لأبي عبيد: " فأما الحكم في أرض العنوة فإن عبد الله بن
صالح حدثنا عن الليث بن سعد، عن يونس بن يزيد الأيلي عن ابن

1 - الوسائل 18 / 519، الباب 24 من أبواب حد السرقة، الحديث 6.
2 - الوسائل 6 / 365، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 2.
3 - سيرة ابن هشام 4 / 134.
4 - سنن أبي داود 2 / 57، كتاب الجهاد، باب في فداء الأسير بالمال.
5 - مسند أحمد 2 / 184.
355

شهاب أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) افتتح خيبر عنوة بعد القتال وكانت مما أفاء الله على
رسوله. الحديث. " (1) إلى غير ذلك من الأخبار.
الطائفة الثالثة: ما ورد فيها لفظ الفيء مطلقا أو بنحو الإهمال:
1 - ما في نهج البلاغة: " فأما حقكم على فالنصيحة لكم وتوفير فيئكم عليكم.
الحديث. " (2)
2 - وفيه أيضا: " وإنه لابد للناس من أمير بر أو فاجر... ويجمع به الفيء.
الحديث. " (3)
3 - وفيه أيضا: " وقد علمتم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رجم الزاني (المحصن خ. ل) ثم
صلى عليه ثم ورثه أهله، وقتل القاتل وورث ميراثه أهله، وقطع السارق وجلد الزاني
غير المحصن ثم قسم عليهما من الفيء. " (4)
4 - وفيه أيضا من كتاب له إلى زياد بن أبيه: " وإني أقسم بالله قسما صادقا لئن
بلغني أنك خنت من فيء المسلمين شيئا صغيرا أو كبيرا لأشدن عليك. الحديث. " (5)
5 - وفيه أيضا من كتاب له إلى بعض عماله: " وكأنك إنما كنت تكيد هذه الأمة عن
دنياهم، وتنوي غرتهم عن فيئهم. الحديث. " (6)
6 - وفيه أيضا: " والأموال أربعة: أموال المسلمين فقسمها بين الورثة في الفرائض،
والفئ فقسمه على مستحقيه، والخمس فوضعه الله حيث وضعه، والصدقات.
الحديث. " (7)

1 - الأموال / 70.
2 - نهج البلاغة، فيض / 114; عبده 1 / 80; لح / 79، الخطبة 34.
3 - نهج البلاغة، فيض / 125; عبده 1 / 87; لح / 82، الخطبة 40.
4 - نهج البلاغة، فيض / 392; عبده 2 / 11; لح / 184، الخطبة 127.
5 - نهج البلاغة، فيض / 870; عبده 3 / 22; لح / 377، الكتاب 20.
6 - نهج البلاغة، فيض / 956; عبده 3 / 73; لح / 413، الكتاب 41.
7 - نهج البلاغة، فيض / 1217; عبده 3 / 218; لح / 523، الحكمة 270.
356

7 - وفي خطبة سيد الشهداء (عليه السلام) لأصحابه وأصحاب الحر: " ألا وإن هؤلاء قد لزموا
طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمان وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا
بالفيء. " (1)
8 - وفي الوسائل عن العياشي، عن الثمالي، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: سمعته يقول
في الملوك الذين يقطعون الناس، قال: " هو من الفيء والأنفال وأشباه ذلك. " (2)
9 - وفيه أيضا عن العياشي، عن زرارة ومحمد بن مسلم وأبي بصير أنهم قالوا له:
ما حق الإمام في أموال الناس؟ قال: " الفيء والأنفال والخمس، وكل ما دخل منه
فيء أو أنفال أو خمس أو غنيمة فإن لهم خمسه. الحديث. " (3)
والحديث أقوى شاهد على أن الفيء لا يصدق على الزكوات والصدقات، إذ
لا سهم لذوي القربى فيها.
10 - وفيه أيضا بسنده، عن الفضيل، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال
أمير المؤمنين (عليه السلام) لفاطمة (عليها السلام): " أحلي نصيبك من الفيء لآباء شيعتنا ليطيبوا. " (4)
11 - وفيه أيضا بسنده، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " إن الله جعل لنا
أهل البيت سهاما ثلاثة في جميع الفيء فقال - تبارك وتعالى -: " واعلموا أنما غنمتم
من شيء... " فنحن أصحاب الخمس والفئ. الحديث. " (5) فتأمل.
12 - وفيه أيضا عن الكليني بسنده، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث طويل يتعرض
فيه للجهاد وأوصاف المجاهدين، وفيه: " وذلك أن جميع ما بين السماء والأرض لله -
عز وجل - ولرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولأتباعهم من المؤمنين من أهل هذه الصفة. فما كان من
الدنيا في أيدي

1 - تاريخ الطبري 7 / 300 (ط. ليدن).
2 - الوسائل 6 / 372، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 30.
3 - الوسائل 6 / 373، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 33.
4 - الوسائل 6 / 381، الباب 4 من أبواب الأنفال، الحديث 10.
5 - الوسائل 6 / 385، الباب 4 من أبواب الأنفال، الحديث 19.
357

المشركين والكفار والظلمة والفجار من أهل الخلاف لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمولى
عن طاعتهما مما كان في أيديهم ظلموا فيه المؤمنين من أهل هذه الصفات غلبوهم
على ما أفاء الله على رسوله، فهو حقهم أفاء الله عليهم ورده إليهم، إنما كان معنى
الفيء كل ما صار إلى المشركين ثم رجع مما كان غلب عليه أو فيه، فما رجع إلى
مكانه من قول أو فعل فقد فاء، مثل قول الله - عز وجل -: " للذين يؤلون من نسائهم
تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم. " أي رجعوا...
فذلك الدليل على أن الفيء كل راجع إلى مكان قد كان عليه أو فيه، ويقال للشمس
إذا زالت: قد فاءت الشمس حين يفيء الفيء عند رجوع الشمس إلى زوالها، وكذلك
ما أفاء الله على المؤمنين من الكفار فإنما هي حقوق المؤمنين رجعت إليهم بعد ظلم
الكفار إياهم. الحديث. " (1)
ومفاد الحديث كما ترى حصر الفيء فيما حصل من الكفار والمشركين، وظاهره
الإطلاق فيعم ما حصل بالقتال أيضا.
13 - وفيه أيضا بسنده، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، عن آبائه (عليه السلام)، قال: قال
أمير المؤمنين (عليه السلام): " لا يخرج المسلم في الجهاد مع من لا يؤمن على الحكم ولا ينفذ
في الفيء أمر الله - عز وجل -. " (2)
14 - وفيه أيضا بسنده، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث طويل: " وإن أبوا أن
يهاجروا اختاروا ديارهم وأبوا أن يدخلوا في دار الهجرة كانوا بمنزلة أعراب
المؤمنين يجري عليهم ما يجري على أعراب المؤمنين، ولا يجري لهم في الفيء لا في
القسمة شيئا إلا أن يهاجروا. " (3)
15 - وفيه أيضا صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " لما ولي
علي (عليه السلام) صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما إني والله ما أرزأكم من فيئكم
هذا درهما ما قام لي عذق بيثرب. الحديث. " (4)

1 - الوسائل 11 / 25، الباب 9 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
2 - الوسائل 11 / 34، الباب 12 من أبواب جهاد العدو، الحديث 8.
3 - الوسائل 11 / 44، الباب 15 من أبواب جهاد العدو، الحديث 3.
4 - الوسائل 11 / 79، الباب 39 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
358

16 - وفيه أيضا في حديث عن كتاب الغارات، وفيه: " فقالت العربية: يا
أمير المؤمنين، إني امرأة من العرب وهذه امرأة من العجم فقال علي (عليه السلام): " والله لا أجد
لبني إسماعيل في هذا الفيء فضلا على بني إسحاق. " (1)
17 - وفيه أيضا بسنده عن الزهري، عن علي بن الحسين (عليه السلام)، قال: " الأسير إذا
أسلم فقد حقن دمه وصار فيئا. " (2)
18 - وفيه أيضا بسنده، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " قسم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الفيء فأصاب
عليا (عليه السلام) أرض. الحديث. " (3)
19 - وفي سنن أبي داود، بسنده، عن رويفع بن ثابت الأنصاري أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
قال: " من كان يؤمن بالله وباليوم الآخر فلا يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا
أعجفها ردها فيه، ومن كان يؤمن بالله وباليوم الآخر فلا يلبس ثوبا من فيء
المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه. " (4)
ورواه أيضا أحمد في المسند. (5)
20 - وفيه أيضا بسنده، عن عوف بن مالك: " أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا أتاه الفيء
قسمه في يومه فأعطى الآهل حظين، وأعطى العزب حظا. " (6) ورواه أحمد أيضا في
المسند. (7)
21 - وفي مسند أحمد بسنده، عن أبي ذر، قال: قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " كيف أنت وأئمة من بعدي

1 - الوسائل 11 / 81، الباب 39 من أبواب جهاد العدو، الحديث 4.
2 - الوسائل 11 / 54، الباب 23 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
3 - الوسائل 13 / 303، الباب 6 من كتاب الوقوف والصدقات، الحديث 2.
4 - سنن أبي داود 2 / 61، كتاب الجهاد، باب في الرجل ينتفع من الغنيمة بالشيء.
5 - مسند أحمد 4 / 108.
6 - سنن أبي داود 2 / 123، كتاب الخراج والفئ والإمارة، باب في قسم الفيء.
7 - مسند أحمد 6 / 25.
359

يستأثرون بهذا الفيء. الحديث. " (1) إلى غير ذلك الأخبار التي يعثر عليها المتتبع.
وقد ظهر بما ذكرنا عدم اختصاص لفظ الفيء بما لم يكن فيه هراقة الدماء. نعم،
ربما شاع أخيرا استعماله في خصوص ذلك أخذا من الآية الشريفة. ولم يعهد لنا
إطلاقه على مثل الزكوات والأخماس، أعني الضرائب التي تؤخذ من المسلمين. لعل
الفيء والأنفال متساويان موردا وإن اختلفا مفهوما.
اللهم إلا أن ينكر إطلاق الأنفال على الضرائب التدريجية كالخراج
والجزايا العشور، فيكون الفيء أعم من الأنفال.
وربما يؤيد ذلك بأن للإمام أن يصرف من الأنفال في مؤونة نفسه وعائلته
قطعا، لم يعهد لنا صرفه للخراج والجزايا في مصارف نفسه، بل في مرسلة حماد
الطويلة في مصرف خراج الأراضي المفتوحة عنوة قال: " فيكون بعد ذلك أرزاق
أعوانه على دين الله وفي مصلحة ما ينوبه من تقوية الإسلام وتقوية الدين في وجوه
الجهاد وغير ذلك مما فيه مصلحة العامة ليس لنفسه من ذلك قليل ولا كثير. " (2)
أقول: يظهر من الروايات الكثيرة الواردة في سيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في خيبر أنه (صلى الله عليه وآله وسلم)
عامل أهل خيبر على النصف من ثمرتها وجعل لنفسه وأزواجه أيضا سهاما منها،
فراجع ما حررناه في حكم الأراضي المفتوحة عنوة.
وعلى هذا فيحمل ما في المرسلة على أنه ليس الخراج ملكا شخصيا للإمام، لا أنه
لا يصرفه في مصارف نفسه إذا اقتضته المصلحة العامة، فتدبر.

1 - مسند أحمد 5 / 180.
2 - الكافي 1 / 541، كتاب الحجة، باب الفيء والأنفال وتفسير الخمس...، الحديث 4.
360

الأمر الخامس:
في التعرض لبعض أنواع الفيء:
أقول: حيث إن أكثر أنواع الفيء ذكرت في أخبارنا وفتاوى أصحابنا باسم الأنفال
فالأولى أن نتعرض لها في الفصل الآتي المعقود لبيان الأنفال.
ولكن هنا أمور ثلاثة عدت في كلماتهم من الفيء ولم يعهد ذكرها في باب الأنفال،
وهي الخراج والجزايا والعشور التي كانت تؤخذ من تجار أهل الذمة أو أهل الحرب.
قال أبو عبيد في كتاب الأموال:
" فالأموال التي تليها أئمة المسلمين هي هذه الثلاثة التي ذكرها عمر، وتأولها من
كتاب الله - عز وجل -: الفيء، والخمس، والصدقة...
فأما الصدقة فزكاة أموال المسلمين من الذهب والورق، والإبل والبقر
والغنم، الحب والثمار. فهي للأصناف الثمانية الذين سماهم الله - تعالى -، لاحق لأحد
من الناس فيها سواهم. ولهذا قال عمر: هذه لهؤلاء.
وأما مال الفيء فما اجتني من أموال أهل الذمة مما صولحوا عليه من جزية
رؤوسهم التي بها حقنت دماؤهم وحرمت أموالهم. ومنه خراج الأرضين التي افتتحت
عنوة، ثم أقرها الإمام في أيدي أهل الذمة على طسق يؤدونه. ومنه وظيفة أرض
الصلح التي منعها أهلها حتى صولحوا منها على خراج مسمى. ومنه ما يأخذه العاشر
من أموال أهل الذمة التي يمرون بها عليه لتجارتهم. ومنه ما يؤخذ من أهل الحرب إذا
دخلوا بلاد الإسلام للتجارات. فكل هذا من الفيء. وهو الذي يعم المسلمين:
غنيهم فقيرهم، فيكون في أعطية المقاتلة، وأرزاق الذرية، وما ينوب الإمام من أمور
الناس بحسن النظر للإسلام وأهله.
وأما الخمس فخمس غنائم أهل الحرب، والركاز العادي، وما يكون من غوص أو
361

معدن. فهو الذي اختلف فيه أهل العلم... " (1)
وكيف كان فلنتعرض هنا إجمالا للخراج والجزايا لثبوتهما في الشرع
بلا إشكال ورود الأخبار الكثيرة بهما، ونحيل البحث في العشور والكمارك إلى الفصل
الأخير الذي نعقده لبيان الضرائب التي ربما يقال بجواز أن يفرضها الحكومة الحقة
العادلة أيضا حسب الاحتياج زائدة على الضرائب المشروعة المعروفة.

1 - الأموال / 24.
362

معنى الجزية والخراج والفرق بينهما:
الجزية ضريبة كانت توضع عادة على رؤوس أهل الذمة ورقابهم. وإن كانت ربما
توضع على أراضيهم أيضا.
والخراج كان يطلق على ضريبة كانت توضع على الأراضي المفتوحة عنوة أو
صلحا على أنها للمسلمين أو لإمام المسلمين، أو الأراضي التي انجلى عنها أهلها، بل
وعلى أراضي الموات أيضا على احتمال يأتي بيانه.
وتقبيل الأراضي يمكن أن يقع بنحو الإجارة، ويمكن أن يقع بنحو المزارعة.
فربما كان يطلق على المأخوذ منها مطلقا لفظ الخراج، وربما كان يطلق على ما أخذ
بنحو الإجارة الخراج وعلى ما أخذ بنحو المزارعة المقاسمة.
ويظهر من صحيحة محمد بن مسلم إطلاق لفظ الخراج على الجزية أيضا فيكون
أعم منها: قال: " سألته عن أهل الذمة ماذا عليهم مما يحقنون به دماءهم وأموالهم؟
قال: الخراج. وإن أخذ من رؤوسهم الجزية فلا سبيل على أرضهم، وإن أخذ من
أرضهم فلا سبيل على رؤوسهم. " (1)
ولكن الظاهر من الماوردي وغيره كون اللفظين متباينين:
قال الماوردي في الباب الثالث عشر من الأحكام السلطانية:
" والجزية والخراج حقان أوصل الله - سبحانه وتعالى - المسلمين إليهما من
المشركين، يجتمعان من ثلاثة أوجه ويفترقان من ثلاثة أوجه، ثم تتفرع أحكامهما:
فأما الأوجه التي يجتمعان فيها: فأحدها: أن كل واحد منهما مأخوذ عن مشرك
صغارا له وذلة. والثاني: أنهما مالا فيء يصرفان في أهل الفيء. والثالث: أنهما يجبان

1 - الوسائل 11 / 114، الباب 68 من أبواب جهاد العدو، الحديث 3.
363

بحلول الحول ولا يستحقان قبله.
وأما الأوجه التي يفترقان فيها: فأحدها: أن الجزية نص، وأن الخراج
اجتهاد. الثاني: أن أقل الجزية مقدر بالشرع وأكثرها مقدر بالاجتهاد، والخراج
أقله أكثره مقدر بالاجتهاد. والثالث: أن الجزية تؤخذ مع بقاء الكفر وتسقط بحدوث
الإسلام، والخراج يؤخذ مع الكفر والإسلام. " (1)
وذكر نحو ذلك أبو يعلى الفراء أيضا. (2)
أقول: ما ذكراه من أنهما يصرفان في أهل الفيء لعله مساوق لاستحقاق
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ذوي القربى أيضا منهما على ما هو مقتضى آية الفيء في سورة الحشر،
ولكن قد مر منا عدم كونه معهودا في الجزايا، فراجع وتتبع.
وبالجملة فهنا مسألتان: الأولى في الجزية، والثانية في الخراج.

1 - الأحكام السلطانية / 142.
2 - الأحكام السلطانية / 153.
364

المسألة الأولى: في الجزية:
والأصل فيها قوله - تعالى - في سورة التوبة: " قاتلوا الذين لا يؤمنون
بالله لا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من
الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. " (1)
في المجمع:
" قيل: هذه الآية نزلت حين أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بحرب الروم فغزا بعد نزولها غزوة
تبوك، عن مجاهد. وقيل: هي على العموم. " (2)
والظاهر أن كلمة: " من " بيانية لا للتبعيض، وأن نفي الإيمان بالله وباليوم الآخر
عنهم مع أنهم من أهل الكتاب من جهة أنهم لا يرون ما هو الحق في باب
التوحيد المعاد، ولا يلتزمون بلوازمهما في مقام العمل. وقيل: لأنهم يضيفون إلى الله -
تعالى - ما لا يليق بذاته، فكأنهم لا يعرفونه حتى يؤمنوا به.
والمراد برسوله إما النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي يجدونه مكتوبا عندهم في
التوراة الإنجيل، وإما رسول أنفسهم كموسى وعيسى (عليه السلام). فالمعنى أنه لا يحرم كل أمة
منهم ما حرمه رسولهم أيضا. حيث إنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم. وقد وصفهم
الله - تعالى - بهذه الأوصاف الدالة على ذمهم تعليلا لإيجاب قتالهم وتهييجا
للمؤمنين على ذلك.
ومن المظنون أن " الجزية " معربة من كلمة: " گزيت " الفارسية وليست عربية.
وقال الماوردي:

1 - سورة التوبة (9)، الآية 29.
2 - مجمع البيان 3 / 21 (الجزء 5).
365

" اسمها مشتق من الجزاء، إما جزاء على كفرهم لأخذها منهم صغارا، وإما جزاء
على أماننالهم لأخذها منهم رفقا. " (1) وذكر نحوه أبو يعلى أيضا. (2)
وفي الجواهر:
" هي فعلة من جزى يجزي، يقال: جزيت ديني: إذا قضيته. " (3)
وعلى هذا تكون الفارسية مأخوذة من العربية. ويحتمل أصالتهما أيضا، فتدبر.
وكانت الجزية تؤخذ من أهل الكتاب عوضا عن حفظ ذمتهم والكف عنهم الدفاع
عن حقوقهم وحرماتهم. ولا غنى للحكومة التي تريد أن تقوم على ساقها عن
الضرائب المالية حقا كانت الدولة أم باطلة.
ولعل اليد في الآية كناية عن القوة والقدرة، فيراد أنهم يعطون الجزية عن
قدرة سلطة لكم عليهم، وهم خاضعون منقادون في قبال الحكم الإسلامي. فالآية تدل
على ركني عقد الذمة، أعني بذل الجزية والالتزام بأحكام المسلمين.
وقيل: يعني عن غنى وقدرة لهم. وقيل: يعني نقدا لا نسية. وقيل: يعطيها من يده
إلى يد من يدفعه إليه من غير واسطة، كما يقال: كلمته فما بفم. والله - تعالى - أعلم.
والظاهر أن الصغار لا يراد به أزيد من التزامهم بأحكامنا وانقيادهم للدولة
الإسلامية، وسيأتي تفصيل ذلك.
وظاهر الآية أن قبول الجزية من أهل الكتاب إلزامي، فلا يجوز قتالهم بعد ما قبلوا
إعطاءها، اللهم إلا أن يقال إن إعطاء الجزية في الآية غاية لوجوب القتال لا لجوازه.
والحاصل أن الأمر بالقتال إن كان مفاده الوجوب كما هو الظاهر منه بدوا كان
إعطاء الجزية غاية لوجوبه، فلا ينافي بقاء الجواز معه. نعم، لو قيل: بأن مفاد الأمر هنا
هو الجواز فقط لكونه في مقام توهم الحظر كانت الغاية غاية للجواز،

1 - الأحكام السلطانية / 142.
2 - الأحكام السلطانية / 153.
3 - الجواهر 21 / 227.
366

فلا يجوز القتال بعد قبولهم لإعطائها، فتدبر.
والآية بنفسها لا تنفي قبول الجزية من سائر الكفار، فإنه من قبيل مفهوم اللقب ليس
بحجة.
والمراد بأهل الكتاب على ما هو المتبادر منه في تلك الأعصار هو
اليهود والنصارى، وألحق بهم المجوس أيضا للسنة، وإنما وقع الخلاف والبحث في
غيرهم كما سيأتي.
وكيف كان فهنا جهات من البحث:
367

الجهة الأولى:
فيمن تؤخذ منه الجزية من الفرق وأنها هل تؤخذ من سائر الكفار أيضا أم لا؟ وهل
تؤخذ من العرب أيضا؟
1 - قال الشيخ في كتاب الجزية من الخلاف (المسألة 1):
" لا يجوز أخذ الجزية من عباد الأوثان، سواء كانوا من العجم أو من العرب، وبه
قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: تؤخذ من العجم ولا تؤخذ من العرب. وقال مالك:
تؤخذ من جميع الكفار إلا مشركي قريش.
دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم. وأيضا قوله - تعالى -: " اقتلوا المشركين حيث
وجدتموهم. " وقال - تعالى -: " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب. " ولم يستثن.
وقال - تعالى -: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله وباليوم الآخر. الآية. " فخص أهل
الكتاب بالجزية دون غيرهم. وأيضا قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا:
لا إله إلا الله. "
(المسألة 2):
" يجوز أخذ الجزية من أهل الكتاب من العرب، وبه قال جميع الفقهاء، وقال أبو
يوسف: لا يجوز. دليلنا قوله - تعالى -: " من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية
عن يد وهم صاغرون " ولم يفرق. وأيضا بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خالد بن الوليد إلى
دومة الجندل فأغار عليها وأخذ أكيدر دومة فأتي به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فصالحه على الجزية.
وقال الشافعي: أكيدر بن حسان رجل من كندة أو غسان، وكلاهما عرب. وأخذ
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الجزية من أهل نجران وفيهم عرب. "
(المسألة 3):
" المجوس كان لهم كتاب ثم رفع عنهم، وهو أصح قولي الشافعي، وله قول آخر أنه
368

لم يكن لهم كتاب، وبه قال أبو حنيفة. دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم. ورووا عن
علي (عليه السلام) أنه قال: كان لهم كتاب أحرقوه ونبي قتلوه. فثبت أنهم أهل الكتاب. " (1)
2 - وقال في النهاية:
" كل من خالف الإسلام من سائر أصناف الكفار يجب مجاهدتهم وقتالهم، غير
أنهم ينقسمون قسمين: قسم لا يقبل منهم إلا الإسلام والدخول فيه، أو يقتلون وتسبى
ذراريهم وتؤخذ أموالهم، وهم جميع أصناف الكفار إلا اليهود والنصارى والمجوس.
والقسم الآخر هم الذين تؤخذ منهم الجزية، وهم الأجناس الثلاثة الذين
ذكرناهم، فإنهم متى انقادوا للجزية وقبلوها وقاموا بشرائطها لم يجز قتالهم ولم يسغ
سبي ذراريهم. ومتى أبوا الجزية أو أخلوا بشرائطها كان حكمهم حكم غيرهم من
الكفار في أنه يجب عليهم القتل وسبي الذراري وأخذ الأموال. " (2)
3 - وفيه أيضا:
" الجزية واجبة على أهل الكتاب ممن أبى منهم الإسلام وأذعن بها، وهم
اليهود والنصارى. والمجوس حكمهم حكم اليهود والنصارى. " (3)
4 - وقال في جهاد المبسوط:
" الكفار على ثلاثة أضرب: أهل كتاب، وهم اليهود والنصارى، فهؤلاء يجوز
إقرارهم على دينهم ببذل الجزية. ومن له شبهة كتاب، فهم المجوس، فحكمهم حكم
أهل الكتاب يقرون على دينهم ببذل الجزية. ومن لا كتاب له ولا شبهة كتاب، وهم من
عدا هؤلاء الثلاثة أصناف من عباد الأصنام والأوثان والكواكب وغيرهم، فلا يقرون
على دينهم ببذل الجزية.
ومتى امتنع أهل الكتاب من بذل الجزية قوتلوا وسبيت ذراريهم ونساؤهم،

1 - الخلاف 3 / 237.
2 - النهاية / 291.
3 - النهاية / 193.
369

وأموالهم تكون فيئا. " (1)
وذكر قريبا من ذلك في أول كتاب الجزايا منه أيضا، فراجع. (2)
ولعل التعبير بشبهة الكتاب كان من جهة عدم تحقق كون ما بأيديهم الآن من
الكتاب، حيث أحرقوا كتابهم، فتأمل.
5 - وفي الأحكام السلطانية للماوردي:
" فيجب على ولى الأمر أن يضع الجزية على رقاب من دخل في الذمة من أهل
الكتاب ليقروا بها في دار الإسلام، ويلتزم لهم ببذلها حقان: أحدهما: الكف
عنهم. الثاني: الحماية لهم، ليكونوا بالكف آمنين وبالحماية محروسين. روى نافع عن
ابن عمر، قال: كان آخر ما تكلم به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن قال: " احفظوني في ذمتي. "
والعرب
في أخذ الجزية منهم كغيرهم. وقال أبو حنيفة: لا آخذها من العرب، لئلا يجري عليهم
صغار.
ولا تؤخذ من مرتد ولا دهري ولا عابد وثن. وأخذها أبو حنيفة من عبدة الأوثان
إذا كانوا عجما. ولم يأخذها منهم إذا كانوا عربا.
وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى، وكتابهم التوراة والإنجيل. ويجري المجوس
مجراهم في أخذ الجزية منهم وإن حرم أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم.
وتؤخذ من الصابئين والسامرة إذا وافقوا اليهود والنصارى في أصل معتقدهم وإن
خالفوهم في فروعه. ولا تؤخذ منهم إذا خالفوا اليهود والنصارى في أصل
معتقدهم. " (3)
ولا يخفى أن الماوردي يكون من علماء الشافعية.
6 - وفي جهاد البداية لابن رشد بعد ذكر الجزية لأهل الكتاب وذكر الآية الشريفة
قال:
" وكذلك اتفق عامة الفقهاء على أخذها من المجوس، لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " سنوا بهم سنة

1 - المبسوط 2 / 9.
2 - المبسوط 2 / 36.
3 - الأحكام السلطانية / 143.
370

أهل الكتاب. " واختلفوا فيما سوى أهل الكتاب من المشركين هل تقبل منهم الجزية أم
لا، فقال قوم: تؤخذ الجزية من كل مشرك، وبه قال مالك. وقوم استثنوا من ذلك مشركي
العرب. وقال الشافعي وأبو ثور وجماعة: لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب المجوس. " (1)
7 - وفي خراج أبي يوسف:
" قال أبو يوسف: والجزية واجبة على جميع أهل الذمة: ممن في السواد وغيرهم
من أهل الحيرة وسائر البلدان، من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين والسامرة
ما خلا نصارى بني تغلب وأهل نجران خاصة. " (2)
8 - وفيه أيضا:
" وجميع أهل الشرك من المجوس وعبدة الأوثان وعبدة النيران
والحجارة الصابئين والسامرة تؤخذ منهم الجزية ما خلا أهل الردة من أهل
الإسلام أهل الأوثان من العرب. " (3)
9 - وفي مختصر الخرقي في فقه الحنابلة قال:
" ولا تقبل الجزية إلا من يهودي أو نصراني أو مجوسي، إذا كانوا مقيمين على
ما عوهدوا عليه. ومن سواهم فالإسلام أو القتل. " (4)
وقال في المغني في شرحه:
" يعني من سوى اليهود والنصارى والمجوس لا تقبل منهم الجزية ولا يقرون
بها لا يقبل منهم إلا الإسلام، فإن لم يسلموا قتلوا. هذا ظاهر مذهب أحمد، وروى عنه
الحسن بن ثواب أنها تقبل من جميع الكفار إلا عبدة الأوثان من العرب، لأن حديث
بريدة يدل بعمومه على قبول الجزية من كل كافر إلا أنه خرج منه عبدة الأوثان من
العرب... " (5)

1 - بداية المجتهد 1 / 376 (= ط. أخرى 1 / 331).
2 - الخراج / 122.
3 - الخراج / 128.
4 - المغني 10 / 568 و 573.
5 - المغني 10 / 537.
371

10 - وفي المنتهى:
" ويعقد الجزية لكل كتابي عاقل بالغ ذكر، ونعني بالكتابي من له كتاب حقيقة وهم
اليهود والنصارى، ومن له شبهة كتاب وهم المجوس، فيؤخذ الجزية من هؤلاء
الأصناف الثلاثة بلا خلاف بين علماء الإسلام في ذلك في قديم الوقت وحديثه، فإن
الصحابة أجمعوا على ذلك وعمل به الفقهاء القدماء ومن بعدهم إلى زماننا هذا من
أهل الحجاز والعراق والشام ومصر وغيرهم من أهل الأصقاع في جميع الأزمان،
عملا بالآية الدالة على أخذ الجزية، والأحاديث المتقدمة. وفعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك، أخذ
الجزية من مجوس هجر. وبعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) معاذا إلى اليمن، فأمره أن يأخذ من كل
حالم دينارا أو عدله من المعافري، وهو إجماع. " (1)
أقول: قال في النهاية بعد ذكر الحديث:
" وهي برود باليمن منسوبة إلى معافر، وهي قبيلة باليمن. والميم زائدة. " (2)
11 - وفيه أيضا:
" ولا يقبل من غير الأصناف الثلاثة من سائر فرق الكفار إلا الإسلام، فلو بذلوا
الجزية لم يقبل منهم كعباد الأوثان والأصنام والأحجار والنيران والشمس وغير ذلك
من غير اليهود والنصارى والمجوس من العرب والعجم، وبه قال الشافعي. وقال أبو
حنيفة: تقبل من جميع الكفار إلا العرب. وقال أحمد: تقبل من جميع الكفار إلا عبدة
الأوثان من العرب. وقال مالك: إنها تقبل من جميعهم إلا مشركي قريش، فإنهم
ارتدوا. وقال الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز: إنها تقبل من جميعهم. " (3)
12 - وفي جهاد الشرائع في أحكام الذمة قال:
" الأول: من تؤخذ الجزية؟ تؤخذ ممن يقر على دينه، وهم اليهود والنصارى، ومن
لهم شبهة كتاب وهم المجوس، ولا يقبل من غيرهم إلا الإسلام.

1 - المنتهى 2 / 959.
2 - النهاية لابن الأثير 3 / 262.
3 - المنتهى 2 / 960.
372

والفرق الثلاث إذا التزموا شرائط الذمة أقروا، سواء كانوا عربا أو عجما. ولو ادعى
أهل حرب أنهم منهم وبذلوا الجزية لم يكلفوا البينة وأقروا. " (1)
13 - وفي الجواهر في ذيل قول المحقق: " ولا يقبل من غيرهم إلا الإسلام "، قال:
" بلا خلاف أجده فيه، بل عن الغنية وغيرها الإجماع عليه، بل ولا إشكال بعد قوله
- تعالى -: " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم. " وقوله - تعالى -: " فإذا لقيتم الذين
كفروا فضرب الرقاب. " وغير ذلك من الكتاب والسنة. من غير فرق بين من كان منهم
له أحد كتب إبراهيم وآدم وإدريس وداود، ومن لم يكن له، ضرورة أن المنساق من
الكتاب في القرآن العظيم التوراة والإنجيل... " (2)
وقد تحصل مما حكيناه من الكلمات أنه لا إشكال عند أصحابنا في قبول الجزية
من اليهود والنصارى، بل ومن المجوس أيضا. نعم، عن ظاهر العماني أنه ألحقهم بعباد
الأوثان وغيرهم ممن لا يقبل منهم إلا الإسلام، ولكن قال في الجواهر: " قد سبقه
الإجماع بقسميه ولحقه. " (3)
وأفتى أصحابنا بعدم قبولها من غير الفرق الثلاث، وبه قال الشافعي أيضا، وأفتى
أبو حنيفة ومالك وأحمد في رواية بقبولها من جميع الكفار إلا مشركي العرب أو
قريش، وقال بعضهم بقبولها من جميعهم. هذا.
14 - ولكن في كتاب السير من الخلاف (المسألة 24):
" إذا صالح الإمام قوما من المشركين على أن يفتحوا الأرض ويقرهم فيها يضرب
على أرضهم خراجا بدلا عن الجزية كان ذلك جائزا على حسب ما يعلمه (يراه - ظ.)
من المصلحة ويكون جزية. وإذا أسلموا أو باعوا الأرض من مسلم سقط، وبه قال
الشافعي إلا أنه قيد ذلك بأن قال: إذا علم أن ذلك يفي بما يختص كل بالغ

1 - الشرائع 1 / 327 (= ط. أخرى / 250).
2 - الجواهر 21 / 231.
3 - الجواهر 21 / 228.
373

دينارا في كل سنة. وقال أبو حنيفة: لا يسقط ذلك بالإسلام. دليلنا إجماع الفرقة
وأخبارهم. " (1)
أقول: أراد الشافعي بما قيده أن لا يقل المأخوذ منهم عن أقل الجزية لأهل
الكتاب، فإن الأقل عنده دينار واحد لكل سنة.
ولا يخفى أن هذه المسألة من الخلاف تنافي ما سبق منه ومن المبسوط وغيرهما
من عدم قبول الجزية من المشركين.
اللهم إلا أن يفرق بين المسألتين بأن قبول الجزية من أهل الكتاب والمجوس بنحو
الإلزام، ومن المشركين بنحو الجواز ورعاية المصلحة.
أو أن جزية أهل الكتاب على رقابهم وجزية المشركين على الأراضي، أو أن
جزية أهل الكتاب على نحو الدوام والاستمرار، وجزية المشركين على نحو التوقيت،
حيث لا يجوز المهادنة على ترك القتال أكثر من عشر سنين كما بين في محله، أو أن
المنع من أخذ الجزية من المشرك وأمثاله محمول على أخذها من الكفار الموجودين
في داخل المجتمعات الإسلامية والحكم الإسلامي، فنقول بجواز أخذها من دول
الكفر وحكامهم ومدنهم وقراهم ليكف عنهم ويكونوا مأمونين في ظل حماية الدولة
الإسلامية والتعهد الدولي، إذ يبعد جدا وجوب قتل جميع الكفار في بلاد الكفر مع
سعتها وكثرتهم كالهنود والبوذيين وأمثالهم، ولا إكراه في الدين ولا اعتبار به
ما لم يكن على أساس العلم والمعرفة، وقد مر عن الماوردي قوله: " فيجب على ولي
الأمر أن يضع الجزية على رقاب من دخل في الذمة من أهل الكتاب ليقروا في دار
الإسلام. " فيظهر بذلك أن محل البحث في الجزية عندهم هي الأقلية الداخلة في
المجتمعات الإسلامية في دار الإسلام. والمسألة محتاجة إلى كثرة بحث وتنقيح.
ويحتمل بعيدا أن الشيخ أراد بالمشركين في كلامه هنا خصوص أهل الكتاب،

1 - الخلاف 3 / 235.
374

وكان عنوان المسألة لبيان كفاية ضرب الخراج على الأرض بدلا عن جزية
الرؤوس، فتدبر.
وكيف كان فلنتعرض لما يستدل به في المقام من الآيات والروايات:
1 - قال الله - تعالى -: " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب. الآية. " (1)
2 - وقال: " فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم خذوهم
واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد، فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا
سبيلهم إن الله غفور رحيم. " (2)
3 - وقال: " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله. الآية. " (3)
إلى غير ذلك من الآيات التي يستفاد منها الحث على القتال لبسط التوحيد العدالة
ورفع أساس الكفر والفتنة من ساحة الأرض. نعم، يمكن المناقشة في بعضها بكونها
في مقام رفع توهم الحظر، فلا تدل على أزيد من الترخيص.
4 - وقد مر قوله - تعالى -: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم
الآخر لا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب
حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. " (4)
ومر شرح الآية ومقدار دلالتها في أول البحث.
5 - وروى البيهقي بسنده، عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: " أمرت أن
أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله
نفسه إلا بحقه

1 - سورة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) (47)، الآية 4.
2 - سورة التوبة (9)، الآية 5.
3 - سورة الأنفال (8)، الآية 39.
4 - سورة التوبة (9)، الآية 29.
375

وحسابه على الله. " رواه مسلم... وأخرجه البخاري في الصحيح. (1)
6 - وفيه أيضا بسنده، عن أبي هريرة: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أمرت أن أقاتل الناس
حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها منعوا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، حسابهم
على الله. " أخرجه مسلم في الصحيح. (2)
7 - وفيه أيضا بسنده، عن ابن عصام، عن أبيه أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا بعث سرية
قال: " إذا سمعتم مؤذنا أو رأيتم مسجدا فلا تقتلوا أحدا. " (3)
فيستفاد من هذه الآيات والروايات أن الكافر يدعى إلى الإسلام; فإن قبل جرى
عليه حكم الإسلام وإلا قتل، فتكون الجزية على خلاف القاعدة لا يصار إليها إلا
بدليل، وآية سورة التوبة الواردة فيها تكون بمنزلة الاستثناء، وموردها خصوص أهل
الكتاب.
8 - وفي الوسائل في خبر حفص بن غياث، عن أبي عبد الله (عليه السلام) الوارد في
الأسياف الخمسة، قال: " فأما السيوف الثلاثة المشهورة (الشاهرة) فسيف على
مشركي العرب، قال الله - عز وجل -: " اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم
واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد، فإن تابوا (يعني آمنوا) وأقاموا الصلاة وآتوا
الزكاة فإخوانكم في الدين. " فهؤلاء لا يقبل منهم إلا القتل أو الدخول في
الإسلام، أموالهم (وما لهم فيء) وذراريهم سبي على ما سن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنه
سبى
وعفا وقبل الفداء.
والسيف الثاني على أهل الذمة، قال الله - تعالى -: " وقولوا للناس حسنا. " (4)
نزلت هذه الآية في أهل الذمة، ثم نسخها قوله - عز وجل -: " قاتلوا الذين لا يؤمنون
بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من
الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم

1 - سنن البيهقي 9 / 182، كتاب الجزية، باب من لا تؤخذ منه الجزية من أهل الأوثان.
2 - سنن البيهقي 9 / 182، كتاب الجزية، باب من لا تؤخذ منه الجزية من أهل الأوثان.
3 - سنن البيهقي 9 / 182، كتاب الجزية، باب من لا تؤخذ منه الجزية من أهل الأوثان.
4 - سورة البقرة (2)، الآية 83.
376

صاغرون. " فمن كان منهم في دار الإسلام فلن يقبل منهم إلا الجزية أو القتل،
وما لهم فيء، وذراريهم سبي، وإذا قبلوا الجزية على أنفسهم حرم علينا سبيهم،
وحرمت أموالهم، وحلت لنا مناكحتهم، ومن كان منهم في دار الحرب حل لنا سبيهم،
ولم تحل لنا مناكحتهم ولم يقبل منهم إلا الدخول في دار الإسلام أو الجزية أو القتل.
والسيف الثالث سيف على مشركي العجم، يعني الترك والديلم والخزر، قال الله -
عز وجل - في أول السورة التي يذكر فيها الذين كفروا فقص قصتهم ثم قال: " فضرب
الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب
أوزارها. " فأما قوله: " فإما منا بعد " يعني بعد السبي منهم، " وإما فداء " يعني المفاداة
بينهم وبين أهل الإسلام. فهؤلاء لن يقبل منهم إلا القتل أو الدخول في الإسلام، لا تحل
لنا مناكحتهم ما داموا في دار الحرب. " (1)
ولا يخفى أن الآية الأولى المذكورة في الحديث تحصلت من ضم آيتي 5 و 11
من سورة التوبة، فراجع.
9 - وفي المستدرك، عن العياشي، عن جعفر بن محمد، عن أبي جعفر (عليه السلام) " أن الله
بعث محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) بخمسة أسياف: فسيف على مشركي العرب، قال الله - جل وجهه -:
" اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد،
فإن تابوا (يعني فإن آمنوا) فإخوانكم في الدين " لا يقبل منهم إلا القتل أو الدخول في
الإسلام. الحديث. " (2)
10 - وفي الوسائل في صحيحة عبد الكريم بن عتبة الهاشمي الواردة في مناظرة
الإمام الصادق (عليه السلام) مع عمرو بن عبيد وغيره من المعتزلة في شأن محمد بن عبد الله بن
الحسن، قال (عليه السلام): " يا عمرو، أرأيت لو بايعت صاحبك الذي تدعوني إلى بيعته ثم
اجتمعت لكم الأمة فلم يختلف عليكم رجلان فيها فأفضيتم إلى المشركين الذين
لا يسلمون ولا يؤدون الجزية، أكان عندكم وعند صاحبكم من العلم ما تسيرون فيه
بسيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المشركين في حروبه؟ قال: نعم. قال: فتصنع ماذا؟ قال:
ندعوهم إلى الإسلام، فإن أبوا

1 - الوسائل 11 / 16، الباب 5 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
2 - مستدرك الوسائل 2 / 246، الباب 5 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
377

دعوناهم إلى الجزية. قال: إن كانوا مجوسا ليسوا بأهل الكتاب؟ قال: سواء. قال:
وإن كانوا مشركي العرب وعبدة الأوثان؟ قال: سواء. قال: أخبرني عن القرآن تقرأه؟
قال: نعم. قال: اقرأ: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله لا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم
الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد
وهم صاغرون. " فاستثناء الله - تعالى - واشتراطه من أهل الكتاب، فهم والذين
لم يؤتوا الكتاب سواء؟ قال: نعم. قال: عمن أخذت ذا؟ قال: سمعت الناس يقولون.
الحديث. " (1)
أقول: فيظهر من هذه الصحيحة إجمالا مخالفة أهل الكتاب لغيرهم من الكفار في
قبول الجزية منهم، بل ومخالفة المجوس أيضا لأهل الكتاب وإن كان الحق كونهم مثل
أهل الكتاب في ذلك كما سيظهر.
وربما ينسبق إلى الذهن من قوله (عليه السلام): " فأفضيتم إلى المشركين الذين
لا يسلمون لا يؤدون الجزية " قبول الجزية من المشركين أيضا ولكن الذيل يدفع
ذلك، فتدبر.
11 - وفي المستدرك، عن دعائم الإسلام، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: " لا يقبل
من عربي جزية، وإن لم يسلموا قوتلوا. " (2)
12 - وفي الوسائل، عن الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن
أبي يحيى الواسطي، عن بعض أصحابنا، قال: " سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن المجوس أكان
لهم نبي؟ فقال: نعم. أما بلغك كتاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أهل مكة: أن أسلموا وإلا
نابذتكم بحرب. فكتبوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أن خذ منا الجزية ودعنا على عبادة الأوثان.
فكتب إليهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إني لست آخذ الجزية إلا من أهل الكتاب. فكتبوا إليه -
يريدون بذلك تكذيبه -: زعمت أنك لا تأخذ الجزية إلا من أهل الكتاب ثم أخذت
الجزية من مجوس هجر. فكتب إليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أن المجوس كان لهم نبي فقتلوه
وكتاب أحرقوه، أتاهم نبيهم بكتابهم في اثني عشر ألف جلد ثور. "

1 - الوسائل 11 / 28، الباب 9 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
2 - مستدرك الوسائل 2 / 262، الباب 42 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
378

ورواه أيضا، عن الشيخ بإسناده، عن محمد بن يعقوب، وبإسناده، عن أحمد بن
محمد مثله. (1)
وفي الخبر كما ترى إرسال. ويظن بحسب الطبقة أن أبا يحيى الواسطي يراد به
زكريا بن يحيى الواسطي، وهو ثقة كسائر رواة الحديث.
وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إني لست آخذ الجزية إلا من أهل الكتاب " هل هو حكم إلهي كلي
فلا يجوز التخلف عنه، أو أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بما أنه كان حاكما على المسلمين في
عصره لم ير أخذها صلاحا إلا من أهل الكتاب فلا ينافي ذلك أخذ الأئمة والحكام
بعده ولو من غيرهم إذا رأوا في ذلك مصلحة للإسلام والمسلمين؟ كل محتمل، بل لعل
ظاهر التعبير هو الثاني.
هذا مع قطع النظر عما ورد في الروايات السابقة من الفرق بين أهل
الكتاب غيرهم.
ثم إن تعليل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأخذ الجزية من مجوس هجر بأنه كان لهم نبي وكتاب،
لعله يقتضي إسراء الحكم إلى كل أمة ثبت لهم نبي وكتاب سماوي ولو لم يطلق عليها
أحد العناوين الثلاثة.
13 - وفيه أيضا، عن الشيخ بإسناده، عن أحمد بن محمد، عن أبي يحيى الواسطي،
قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن المجوس، فقال: " كان لهم نبي قتلوه وكتاب أحرقوه،
أتاهم نبيهم بكتابهم في اثني عشر ألف جلد ثور، وكان يقال له جاماسب. " (2)
14 - وفيه أيضا، عن الصدوق في الفقيه، قال: " المجوس تؤخذ منهم الجزية، لأن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب. " وكان لهم نبي اسمه داماسب
فقتلوه، كتاب يقال له جاماسب كان يقع في اثني عشر ألف جلد ثور فحرقوه. " (3)

1 - الوسائل 11 / 96، الباب 49 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
2 - الوسائل 11 / 97، الباب 49 من أبواب جهاد العدو، الحديث 3.
3 - الوسائل 11 / 97، الباب 49 من أبواب جهاد العدو، الحديث 5.
379

15 - وفيه أيضا، عن مجالس الصدوق بسنده، عن الأصبغ بن نباتة: " أن عليا (عليه السلام)
قال على المنبر: سلوني قبل أن تفقدوني، فقام إليه الأشعث فقال: يا أمير المؤمنين،
كيف تؤخذ الجزية من المجوس ولم ينزل عليهم كتاب ولم يبعث إليهم نبي؟ فقال: بلى
يا أشعث، قد أنزل الله عليهم كتابا وبعث إليهم نبيا. الحديث. " (1)
16 - وفيه أيضا، عن المفيد في المقنعة، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: " المجوس
إنما ألحقوا باليهود والنصارى في الجزية والديات، لأنه قد كان لهم فيما مضى
كتاب. " (2)
17 - وفيه أيضا، عن مجالس ابن الشيخ بسنده، عن علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، عن
أبيه، عن آبائه، عن علي بن الحسين - عليهم السلام - أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " سنوا
بهم سنة أهل الكتاب. " يعني المجوس. (3)
18 - وفي كتاب الأموال لأبي عبيد في ذكر كتب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بسنده، عن عروة
بن الزبير، قال: " وكتب إلى أهل اليمن: من محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أهل اليمن -
برسالة فيها -: وأنه من أسلم من يهودي أو نصراني فإنه من المؤمنين، له ما لهم وعليه
ما عليهم.
ومن كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يفتن عنها وعليه الجزية. " (4)
19 - وفي سنن البيهقي بسنده، عن ابن إسحاق، قال: " فلما انتهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
إلى تبوك أتاه يحنة بن روبة صاحب أيلة فصالح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأعطاه الجزية. أتاه
أهل جربا وأذرح فأعطوه الجزية. " (5)
20 - وفيه أيضا بسنده، عن أنس بن مالك وعن عثمان بن أبي سليمان " أن

1 - الوسائل 11 / 98، الباب 49 من أبواب جهاد العدو، الحديث 7.
2 - الوسائل 11 / 98، الباب 49 من أبواب جهاد العدو، الحديث 8.
3 - الوسائل 11 / 98، الباب 49 من أبواب جهاد العدو، الحديث 9.
4 - الأموال / 29.
5 - سنن البيهقي 9 / 185، كتاب الجزية، باب من يؤخذ الجزية من أهل الكتاب.
380

النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة، فأخذوه فأتوا به فحقن له
دمه صالحه على الجزية. " (1)
21 - وفيه أيضا بسنده " أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث خالد بن الوليد إلى أكيدر بن
عبد الملك - رجل من كندة كان ملكا على دومة وكان نصرانيا... ثم إن خالدا قدم
بالأكيدر على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فحقن له دمه وصالحه على الجزية وخلى سبيله،
فرجع إلى قريته.
قال الشافعي: وأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الجزية من أهل ذمة اليمن وعامتهم عرب، من
أهل نجران وفيهم عرب. " (2)
22 - وفيه أيضا بسنده، عن معاذ بن جبل، قال: بعثني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى
اليمن أمرني أن آخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافر. قال يحيى بن آدم: وإنما هذه
الجزية على أهل اليمن وهم قوم عرب لأنهم أهل كتاب، ألا ترى أنه قال: لا يفتن
يهودي عن يهوديته. (3)
23 - وفيه أيضا بسنده، عن ابن عباس، قال: صالح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أهل نجران
على ألفي حلة. (4)
24 - وفيه أيضا بسنده، قال الشافعي: قد أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الجزية من أكيدر
الغساني، ويروون أنه صالح رجالا من العرب على الجزية.
فأما عمر بن الخطاب ومن بعده من الخفاء إلى اليوم فقد أخذوا الجزية من بني
تغلب وتنوخ وبهراء وخلط من خلط العرب، وهم إلى الساعة مقيمون على النصرانية

1 - سنن البيهقي 9 / 186، كتاب الجزية، باب من قال تؤخذ منهم الجزية...
2 - سنن البيهقي 9 / 187، كتاب الجزية، باب من قال تؤخذ منهم الجزية...
3 - سنن البيهقي 9 / 187، كتاب الجزية، باب من قال تؤخذ منهم الجزية...
4 - سنن البيهقي 9 / 187، كتاب الجزية، باب من قال تؤخذ منهم الجزية...
381

يضاعف عليهم الصدقة، وذلك جزية وإنما الجزية على الأديان على
الأنساب... (1)
25 - وفيه أيضا بسنده، عن نصر بن عاصم، قال: قال فروة بن نوفل الأشجعي:
علام تؤخذ الجزية من المجوس وليسوا بأهل كتاب؟ فقام إليه المستورد فأخذ بلببه
فقال: يا عدو الله، تطعن على أبي بكر وعمر وعلى أمير المؤمنين - يعني عليا (عليه السلام) - قد
أخذوا منهم الجزية؟ فذهب به إلى القصر، فخرج علي (عليه السلام) عليهما وقال: البدا، فجلسا
في ظل القصر، فقال علي (عليه السلام): " أنا أعلم الناس بالمجوس; كان لهم علم يعلمونه كتاب
يدرسونه، وأن ملكهم سكر فوقع على ابنته أو أخته فاطلع عليه بعض أهل مملكته،
فلما صحا جاؤوا يقيمون عليه الحد فامتنع منهم، فدعا أهل مملكته فلما أتوه قال:
تعلمون دينا خيرا من دين آدم وقد كان ينكح بنيه من بناته وأنا على دين آدم،
ما يرغب بكم عن دينه؟ قال: فبايعوه وقاتلوا الذين خالفوهم حتى قتلوهم، فأصبحوا
وقد أسري على كتابهم فرفع من بين أظهرهم وذهب العلم الذي في صدورهم فهم
أهل كتاب وقد أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبو بكر وعمر منهم الجزية. " (2)
26 - وفيه أيضا بسنده، عن مالك، عن جعفر بن محمد، عن أبيه: أن عمر بن
الخطاب ذكر المجوس فقال: ما أدري كيف أصنع في أمرهم، فقال له عبد الرحمان بن
عوف: أشهد لسمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب. " (3)
27 - وفيه أيضا بسنده، قال: كتب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى مجوس هجر يعرض عليهم
الإسلام، فمن أسلم قبل منه ومن أبى ضربت عليه الجزية على أن لا تؤكل لهم
ذبيحة لا تنكح لهم امرأة. (4)

1 - سنن البيهقي 9 / 187، كتاب الجزية، باب من قال تؤخذ منهم الجزية...
2 - سنن البيهقي 9 / 188، كتاب الجزية، باب المجوس من أهل الكتاب والجزية تؤخذ منهم.
3 - سنن البيهقي 9 / 189، كتاب الجزية، باب المجوس من أهل الكتاب والجزية تؤخذ منهم.
4 - سنن البيهقي 9 / 192، كتاب الجزية، باب الفرق بين نكاح نساء من يؤخذ منه الجزية ذبائحهم.
382

28 - وفي البخاري فيما قاله المغيرة لعامل كسرى في حرب إيران قال: " فأمرنا
نبينا رسول ربنا (صلى الله عليه وآله وسلم) أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية. " (1)
وظاهر أن الإيرانيين كانوا مجوسا.
إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في هذا المجال.
أقول: قد عرفت أن الآية الشريفة ناطقة بثبوت الجزية على أهل الكتاب ولا تدل
على نفيها عن سائر الكفار. ومفاد بعض هذه الأخبار أيضا ثبوتها في أهل الكتاب أو
المجوس، وأما نفي غيرهم فلا. نعم، بعضها دلت على النفي أيضا.
وهنا بعض الأخبار التي ربما يمكن أن يستفاد منها إجمالا ثبوتها في غير الفرق
الثلاث أيضا، فلنتعرض لها:
1 - ما رواه في الوسائل، عن الشيخ بسنده، عن أبي بصير، قال: سألت أبا
عبد الله (عليه السلام) عن الجزية فقال: " إنما حرم الله الجزية من مشركي العرب. " (2)
وفي السند وهب، وهو مجهول أو ضعيف. ومفاد الحديث يساوق ما حكوه عن
أبي حنيفة، إذ كلمة إنما للحصر.
2 - ما رواه أيضا، عن الكليني بسند صحيح، عن محمد بن مسلم، قال: قلت لأبي
جعفر (عليه السلام): قول الله - عز وجل -: " قاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله "؟
فقال: لم يجئ تأويل هذه الآية بعد، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رخص لهم لحاجته وحاجة
أصحابه، فلو قد جاء تأويلها لم يقبل منهم، ولكن يقتلون حتى يوحد الله وحتى
لا يكون شرك. (3)
ومورد الآية ومرجع الضمير فيها مشركو مكة.

1 - صحيح البخاري 2 / 201، كتاب الجهاد والسير، باب الجزية والموادعة.
2 - الوسائل 11 / 97، الباب 49 من أبواب جهاد العدو، الحديث 4.
3 - الوسائل 11 / 97، الباب 49 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
383

قال في مرآة العقول:
" أي بقبول الجزية من أهل الكتاب، والفداء من المشركين، وإظهار الإسلام من
المنافقين مع علمه بكفرهم. " (1)
فالصحيحة تدل إجمالا على الترخيص في ترك القتل مع الشرك أيضا للحاجة.
3 - ما رواه أيضا، عن الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن هارون بن مسلم، عن
مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا بعث أميرا له على
سرية أمره بتقوى الله - عز وجل - في خاصة نفسه ثم في أصحابه عامة ثم يقول...:
" وإذا لقيتم عدوا للمسلمين فادعوهم إلى إحدى ثلاث، فإن هم أجابوكم إليها
فاقبلوا منهم وكفوا عنهم:
ادعوهم إلى الإسلام، فان دخلوا فيه فاقبلوا منهم وكفوا عنهم. وادعوهم إلى
الهجرة بعد الإسلام، فإن فعلوا فاقبلوا منهم وكفوا عنهم، وإن أبوا أن يهاجروا اختاروا
ديارهم وأبوا أن يدخلوا في دار الهجرة كانوا بمنزلة أعراب المؤمنين يجري عليهم
ما يجري على أعراب المؤمنين ولا يجري لهم في الفيء ولا في القسمة شيئا إلا أن
يهاجروا (يجاهدوا خ. ل) في سبيل الله. فإن أبوا هاتين فادعوهم إلى إعطاء الجزية
عن يد وهم صاغرون، فإن أعطوا الجزية فاقبل منهم وكف عنهم، وإن أبوا فاستعن
بالله - عز وجل - عليهم وجاهدهم في الله حق جهاده. الحديث. " (2)
ورواه الشيخ أيضا عن محمد بن يعقوب، ولكنه قال: " وإذا لقيتم عدوا من
المشركين فادعوهم. " (3)
والسند موثوق به، كما لا يخفى.
وإطلاق هذه الموثقة يعم غير أهل الكتاب أيضا، بل لعل أكثر بعوث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان
إلى غيرهم، بل المذكور في نقل التهذيب وكذا خبر بريدة الآتي لفظ المشركين، قوله:
" إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان " ظاهر في الاستمرار. وقوله: " عن يد وهم

1 - مرآة العقول 4 / 337 من ط. القديم.
2 - الوسائل 11 / 43، الباب 15 من أبواب جهاد العدو، الحديث 3.
3 - تهذيب الأحكام 6 / 138، كتاب الجهاد، باب ما ينبغي لوالي الإمام أن يفعله إذا سرى في
سرية، الحديث 2.
384

صاغرون " اقتباس من الآية الشريفة، لا أنه إشارة إليها حتى يقال بأن مورد الآية
هو أهل الكتاب فقط، اللهم إلا أن يقال: إن قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مرسلة الواسطي: " إني لست
آخذ الجزية إلا من أهل الكتاب " يفسر هذه الموثقة ويقيد إطلاقها، فتأمل.
4 - ويقرب من هذه الموثقة ما في سنن البيهقي بسنده، عن مسلم وغيره، عن
سليمان بن بريدة، عن أبيه، قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا بعث أميرا على سرية أو
جيش أوصاه بتقوى الله في خاصة نفسه وبمن معه من المسلمين خيرا، قال: " إذا
لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال أو خلال، فأيتهن أجابوك
إليها فاقبل منهم وكف عنهم: ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم.
ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأعلمهم أنهم إن فعلوا ذلك أن
لهم ما للمهاجرين وأن عليهم ما على المهاجرين. فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم
أنهم يكونون مثل أعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي كان يجري على
المؤمنين ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب إلا أن يجاهدوا مع المسلمين. فإن
هم أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن أبوا
فاستعن بالله وقاتلهم. الحديث. " (1)
قال الشوكاني في نيل الأوطار بعد نقل الحديث:
" ظاهره عدم الفرق بين الكافر العجمي والعربي والكتابي وغير الكتابي، وإلى ذلك
ذهب مالك والأوزاعي وجماعة من أهل العلم وخالفهم الشافعي. " (2)
5 - وفي المستدرك، عن دعائم الإسلام، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: " لا يقبل
من عربي جزية، وإن لم يسلموا قوتلوا. " (3)
نعم، الاستدلال به يتوقف على عموم المفهوم لغير أهل الكتاب أيضا، ولكن عموم
المفهوم ممنوع.

1 - سنن البيهقي 9 / 184، كتاب الجزية، باب من يؤخذ منه الجزية من أهل الكتاب.
2 - نيل الأوطار 7 / 232، كتاب الجهاد والسير، باب الدعوة قبل القتال.
3 - مستدرك الوسائل 2 / 262، الباب 42 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
385

6 - وفي مسند زيد: " حدثني زيد بن على، عن أبيه، عن جده، عن علي (عليه السلام)، قال:
" لا يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف، وأما مشركوا العجم فتؤخذ منهم
الجزية. وأما أهل الكتاب من العرب والعجم فإن أبوا أن يسلموا أو سألونا أن يكونوا
من أهل الذمة قبلنا منهم الجزية. " (1)
ولا يخفى أن حمل مشركي العجم على خصوص المجوس مشكل.
7 - وفيه أيضا: سمعت زيد بن علي (عليه السلام) يقول: " إذا غلب الإمام على أرض فرأى أن
يمن على أهلها جعل الخراج على رؤوسهم، فإن رأى أن يقسمها جعلها أرض
عشر. " (2)
8 - وفي المصنف لعبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، قال: " صالح
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عبدة الأوثان على الجزية إلا من كان منهم من العرب. وقبل الجزية
من أهل البحرين وكانوا مجوسا. " (3)
9 - وفي الدر المنثور: عن ابن عساكر، عن أبي أمامة، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال:
" القتال قتالان: قتال المشركين حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية عن يد وهم
صاغرون، قتال الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله. الحديث. " (4)
10 - وروي نحو ذلك عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أيضا: ففي التهذيب بسنده، عن أبي
البختري، عن جعفر، عن أبيه، قال: قال علي (عليه السلام): " القتال قتالان: قتال لأهل الشرك
لا ينفر عنهم حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وقتال لأهل الزيغ
لا ينفر

1 - مسند زيد / 317، كتاب السير، باب العهد والذمة.
2 - مسند زيد / 316، كتاب السير، باب قسمة الغنائم.
3 - المصنف 6 / 86، كتاب أهل الكتاب، الجزية، الحديث 10091.
4 - الدر المنثور 3 / 228.
386

عنهم حتى يفيؤوا إلى أمر الله أو يقتلوا. " (1) ورواه عنه في الوسائل. (2)
أقول: بل في عصر خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يوجد قطعا في البلاد الإسلامية
مثل العراق وإيران ومصر كفار غير أهل الكتاب والمجوس كثيرا، ولم يعهد أمره -
عليه السلام - عماله بإكراههم على الإسلام أو القتل.
11 - وفي كتاب الغارات بسنده، قال: " بعث علي (عليه السلام) محمد بن أبي بكر أميرا على
مصر، فكتب إلى علي (عليه السلام) يسأله عن رجل مسلم فجر بامرأة نصرانية، وعن زنادقة
فيهم من يعبد الشمس والقمر، وفيهم من يعبد غير ذلك، وفيهم مرتد عن الإسلام، كتب
يسأله عن مكاتب مات وترك مالا وولدا.
فكتب إليه علي (عليه السلام) " أن أقم الحد فيهم على المسلم الذي فجر بالنصرانية، وادفع
النصرانية إلى النصارى يقضون فيها ما شاؤوا. وأمره في الزنادقة أن يقتل من كان
يدعي الإسلام، ويترك سائرهم يعبدون ما شاؤوا. الحديث. " (3)
ورواه عنه في الوسائل. (4)
والظاهر أن المراد بقتل من كان يدعي الإسلام قتل من أسلم ثم ارتد وإنما أمر
بقتل المرتد لأن الارتداد من الإسلام ولا سيما ما كان عن فطرة له وجهة سياسية وداء
عضال يسري في المجتمع سريعا، وبه تضعف شوكة دولته وعظمتها.
ولعل الحكم من أصله حكم سياسي وولائي; فتراعى فيه شروط الزمان والمكان
والبيئات أيضا:
ففي كتاب الرضا (عليه السلام) إلى المأمون، قال: " لا يحل (لا يجوز - العيون) قتل أحد من
النصاب والكفار في دار التقية إلا قاتل أو ساع في فساد. وذلك إذا لم تخف على
نفسك وعلى أصحابك. " (5)

1 - التهذيب 4 / 114، باب الجزية، الحديث 4.
2 - الوسائل 11 / 18، الباب 5 من أبواب جهاد العدو، الحديث 3.
3 - الغارات 1 / 230.
4 - الوسائل 18 / 415، الباب 50 من أبواب حد الزنا، الحديث 1.
5 - الوسائل 11 / 62، الباب 26 من أبواب جهاد العدو، الحديث 9; والوسائل 18 / 552، الباب 5
من أبواب حد المرتد، الحديث 6; وعيون أخبار الرضا 2 / 124.
387

وكيف كان فالحكم بوجوب قتل من لم يسلم من غير أهل الكتاب بنحو الإطلاق
مشكل بل ممنوع. فاللازم إحالة أمرهم إلى إمام المسلمين وحاكمهم فيراعي ما هو
الأصلح. نعم، لا يتعين إقرارهم على دينهم بقبول الجزية منهم على نحو ما كان يتعين
ذلك في أهل الكتاب بناء على نفي التعميم في الحكم، ولعل هذا هو الفارق بين أهل
الكتاب وبين غيرهم. وإن شئت فسم هذا صلحا موقتا، وعقد الذمة مع أهل الكتاب
صلح دائم.
وبالجملة: المهادنة والمعاهدة على ترك القتال وترك التعرض للعدو مدة معينة
جائزة بلا إشكال إذا رآها الإمام مصلحة، قال الله - تعالى -: " وإن جنحوا للسلم
فاجنح لها وتوكل على الله. " (1)
وقد صالح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قريشا عام الحديبية على ترك القتال عشر سنين. وفي
كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر: " ولا تدفعن صلحا دعاك إليه عدوك ولله فيه
رضا، فإن في الصلح دعة لجنودك وراحة من همومك وأمنا لبلادك. " (2) وإطلاقه
يشمل غير أهل الكتاب أيضا.
وليس من شرط الهدنة أن تكون بلا عوض، فيمكن أن تكون بعوض أيضا: قال
العلامة في التذكرة:
" المهادنة والموادعة والمعاهدة ألفاظ مترادفة معناها وضع القتال وترك الحرب
مدة بعوض وغير عوض، وهي جائزة بالنص والإجماع. " (3)
والعوض كما يصح أن يقع على الأراضي يصح أيضا أن يقع على الرقاب، لا نعني
بالجزية إلا هذا. وقد مرت عبارة الخلاف في كتاب السير في هذا المعنى. غاية الأمر
أن قبولها ليس بنحو اللزوم، بل يكون باختيار الإمام ويكون موقتا على

1 - سورة الأنفال (8)، الآية 61.
2 - نهج البلاغة، فيض / 1027; عبده 3 / 117; لح / 442، الكتاب 53.
3 - التذكرة 1 / 447.
388

ما قالوا، يجدد إذا لزم.
ولعل ما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " تاركوا الترك ما تركوكم "، أو قال:
" تاركوا الحبشة ما تركوكم. " (1) يكون من هذا القبيل، إذ لم يثبت كون جميع الترك أو
الحبشة نصرانيا أو مجوسيا.
وفي الكتاب الكريم: " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين لم يخرجوكم
من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن
الذين قاتلواكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن
تولوهم. الآية. " (2)
وظاهرها الإطلاق بل المورد مشركو مكة، فراجع.
ولا أظن أن يلتزم أحد بوجوب قتل ما يقرب من نصف سكان الأرض أعني
مليارات من البشر إذا فرض القدرة عليهم، مع أن استبقاءهم والنشاط الثقافي فيهم
ربما يوجب تنبه كثير منهم تدريجا وانجذابهم يوما فيوما إلى الإسلام. ولعل المقصود
من قبول الجزية ليس إلا مخالطة أهل الذمة للمسلمين فيتأثروا بالعلوم
الإسلامية أخلاقها ومقرراتها الصالحة العادلة، ولا اعتبار بدين ليس على أساس العلم
والمعرفة، فتدبر.
حكم من تهود أو تنصر أو تمجس بعد طلوع الإسلام:
لو قلنا باختصاص الجزية بالفرق الثلاث فهل يختص الحكم بالسابقين
منهم أولادهم نسلا بعد نسل، أو يشمل من تهود أو تنصر أو تمجس بعد نسخ الجميع
بالإسلام؟
أقول: ظاهر الآيات والروايات التي علق الحكم فيها على عنوان أهل الكتاب أو
اليهود والنصارى والمجوس كون القضايا على نحو القضايا الحقيقية لا القضايا

1 - راجع الوسائل 11 / 42، الباب 14 من أبواب جهاد العدو.
2 - سورة الممتحنة (60)، الآية 8 و 9.
389

الخارجية، وكون الملاك هو الانتحال إلى الأديان الثلاثة لا النسب، فيراد
بالنصارى مثلا: المنتحلون إلى النصرانية ولو بتبديل دينهم إليها في الأعصار اللاحقة
كسائر الموضوعات في الأحكام الشرعية. وكون الحكم مقصورا على السابقين
وأولادهم فقط خلاف الظاهر جدا.
1 - ولكن في كتاب الجزية من الخلاف (المسألة 19):
" إذا انتقل الذمي من دينه إلى دين يقر أهله عليه، مثل يهودي صار نصرانيا أو
نصراني صار يهوديا أو مجوسيا، أقر عليه، وبه قال أبو حنيفة، وللشافعي فيه قولان:
أحدهما مثل ما قلناه. والثاني وهو الأصح عندهم أنه لا يقر، لقوله (عليه السلام): " من بدل دينه
فاقتلوه. " ولقوله - تعالى -: " ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه. "
دليلنا هو أن الكفر كالملة الواحدة، بدلالة أنه يرث بعضهم من بعض وإن
اختلفوا، عليه إجماع الفرقة. " (1)
2 - وفي المبسوط:
" وأما من كان من عبدة الأوثان فدخل في دينهم فلا يخلو أن يدخل في دينهم قبل
نسخ شرعهم أو بعده. فإن كان قبل نسخ شرعهم أقروا عليه، وإن كان بعد نسخ شرعهم
لم يقروا عليه، لقوله (عليه السلام): " من بدل دينه فاقتلوه. " وهذا عام إلا من خصه الدليل. " (2)
3 - وفيه أيضا:
" من كان مقيما على دين ببذل الجزية فدخل في غير دينه وانتقل إليه لم يخل إما
أن ينتقل إلى دين يقر أهله عليه ببذل الجزية، أو دين لا يقر عليه أهله. فإن انتقل إلى
دين يقر عليه أهله كاليهودي ينتقل إلى النصرانية أو المجوسية فظاهر المذهب يقتضي
أنه يجوز أن يقر عليه، لأن الكفر عندنا كالملة الواحدة.
ولو قيل: إنه لا يقر عليه لقوله - تعالى -: " ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل
منه "، ولقوله (عليه السلام) " من بدل دينه فاقتلوه "، وذلك عام إلا من أخرجه الدليل كان قويا...

1 - الخلاف 3 / 241.
2 - المبسوط 2 / 36.
390

وأما إذا انتقل إلى دين لا يقر عليه أهله كالوثنية فإنه لا يقر عليه... " (1)
4 - وفي التذكرة:
" تؤخذ الجزية ممن دخل في دينهم من الكفار إن كانوا قد دخلوا فيه قبل
النسخ التبديل ومن نسله وذراريه، ويقرون بالجزية ولو ولدوا بعد النسخ.
ولو دخلوا في دينهم بعد النسخ فلم يقبل منهم إلا الإسلام ولا تؤخذ منهم الجزية
عند علمائنا، وبه قال الشافعي، لقوله (عليه السلام): " من بدل دينه فاقتلوه. " ولأنه ابتغى دينا
غير الإسلام فلا يقبل منه، لقوله - تعالى -: " من بدل دينه فاقتلوه. " ولأنه ابتغى دينا
غير الإسلام فلا يقبل منه، لقوله - تعالى -: " ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه. "
وقال المزني: يقر على دينه وتقبل منه الجزية مطلقا... " (2)
وذكر نحو ذلك في المنتهى أيضا فراجع (3)، وراجع المختلف أيضا. (4)
5 - وفي الجواهر:
" الظاهر عدم إلحاق حكم اليهود والنصارى لمن تهود أو تنصر بعد النسخ، بل عن
ظاهر التذكرة والمنتهى الإجماع عليه، ولعل بني تغلب بن وائل من العرب من
ربيعة بن نزار ممن انتقل في الجاهلية إلى النصرانية، كما صرح به بعض
أصحابنا... " (5)
أقول: المسلم إن بدل دينه إلى الكفر بأقسامه صار مرتدا، ولا إشكال في أنه لا يقر
على كفره، وقد تعرض الفقهاء لحكم المرتد بقسميه في كتاب الحدود، ولكن لا يجري
حكم المرتد على أولادهم بل يجري عليهم حكم الكافر الأصيل.
وكذلك الوثني أو الكتابي إن بدل دينه إلى النصرانية ونحوها فالظاهر كما مر
شمول حكم أهل الكتاب له، لإطلاق الآيات والروايات.

1 - المبسوط 2 / 57.
2 - التذكرة 1 / 438.
3 - المنتهى 2 / 960.
4 - المختلف / 336.
5 - الجواهر 21 / 232.
391

وما في التذكرة والمنتهى من نسبة خلاف ذلك إلى علمائنا مشعرا بالإجماع عليه
يمكن أن يناقش فيه بعدم كون المسألة من المسائل الأصلية المعنونة في الكتب
المعدة لنقل الفتاوى المأثورة، فادعاء الإجماع في كل من طرفي المسألة بلا وجه.
والظاهر أن الإجماع الذي في الخلاف لا يرتبط بأصل المسألة بل بمسألة أرث
بعضهم من بعض.
وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من بدل دينه فاقتلوه "، ينصرف إلى المسلم إذا بدل دينه وارتد،
فلا يشمل الكافر إذا بدل دينه إلى كفر آخر، كما لا يشمل الكافر إذا بدل دينه إلى
الإسلام.
بل لعل الآية الشريفة أيضا تنصرف إلى خصوص المسلم إذا ابتغى غير الإسلام إلا
لا تنقض عمومها بالذمي الأصيل، أو يراد بالآية عدم القبول في الآخرة ويكون ذيلها
أعني قوله: " وهو في الآخرة من الخاسرين " مفسرا للصدر.
كيف! ومقتضى ما ذكروه أنه يجب أن يكون لكل نصراني مثلا قائمة تاريخية يعلم
بها أنه من نسل النصارى السابقين على طلوع الإسلام أو من نسل من تنصر بعده،
فتدبر.
بحث في حكم الصابئة:
1 - قال الشيخ في كتاب الجزية من الخلاف (المسألة 4):
" الصابئة لا يؤخذ منهم الجزية ولا يقرون على دينهم، وبه قال أبو سعيد
الإصطخري. وقال باقي الفقهاء انه يؤخذ منهم الجزية.
دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم. وأيضا قوله - تعالى -: " اقتلوا المشركين حيث
وجدتموهم. " وقال: " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب. " ولم يأمر بأخذ الجزية
منهم. وأيضا قوله - تعالى -: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله " إلى قوله: " من الذين
أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. " فشرط في أخذ الجزية
392

أن يكونوا من أهل الكتاب، وهؤلاء ليسوا بأهل الكتاب. " (1)
أقول: قد مر منا الإشكال في دلالة الآية الأخيرة على نفي الجزية من غير أهل
الكتاب، فإنه من قبيل مفهوم اللقب، فتأمل.
2 - وقال المفيد في المقنعة:
" والواجب عليه الجزية من الكفار ثلاثة أصناف: اليهود على اختلافهم، النصارى
على اختلافهم، والمجوس على اختلافهم.
وقد اختلف فقهاء العامة في الصابئين ومن ضارعهم في الكفر سوى من ذكرناه
من الثلاثة الأصناف.
فقال مالك بن أنس والأوزاعي: كل دين بعد دين الإسلام سوى اليهودية النصرانية
فهو مجوسية وحكم أهله حكم المجوس.
وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: الصابئون مجوس. وقال الشافعي وجماعة
من أهل العراق حكمهم حكم المجوس. وقال بعض أهل العراق: حكمهم حكم
النصارى.
فأما نحن فلا نجاوز بإيجاب الجزية على غير من عددناه، لسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
فيهم والتوقيف الوارد عنه في أحكامهم. وقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال:
" المجوس إنما الحقوا باليهود والنصارى في الجزية والديات لأنه قد كان لهم فيما
مضى كتاب. " فلو خلينا والقياس لكانت المانوية والمزدقية والديصانية عندي
بالمجوسية أولى من الصابئين، لأنهم يذهبون في أصولهم مذاهب تقارب
المجوسية تكاد تختلط بها...
فأما الصابئون فمنفردون بمذاهبهم عمن عددناه، لأن جمهورهم يوحد الصانع في
الأزل، ومنهم من يجعل معه هيولي في القدم صنع منها العالم فكانت عندهم
الأصل، يعتقدون في الفلك وما فيه الحياة والنطق وأنه المدبر لما في هذا العالم والدال
عليه، وعظموا الكواكب وعبدوها من دون الله - عز وجل -، وسماها

1 - الخلاف 3 / 238.
393

بعضهم ملائكة، جعلها بعضهم آلهة وبنوا لها بيوتا للعبادات. وهؤلاء على طريق
القياس إلى مشركي العرب وعباد الأوثان أقرب من المجوس، لأنهم وجهوا عبادتهم
إلى غير الله في التحقيق وعلى القصد والضمير وسموا من عداه من خلقه بأسمائه -
جل عما يقول المبطلون -... " (1)
وحكاه عنه العلامة في جهاد المختلف، فراجع. (2)
أقول: لعل ابتلاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في عصره كان باليهود والنصارى والمجوس،
فيشكل الاستدلال بسنته وعمله في أخذ الجزية منهم على عدم جواز الأخذ من
غيرهم ممن ادعى الكتاب.
وتعليل أمير المؤمنين (عليه السلام) إلحاق المجوس باليهود والنصارى بأنه قد كان لهم فيما
مضى كتاب يقتضي كفاية وجود الكتاب فيما مضى في الإلحاق حكما وإن فرض
تحريفه والالتزام بالعقائد الفاسدة، كما نعتقد بالتحريف في التوراة والإنجيل وفساد
الاعتقاد بالأقانيم الثلاثة.
3 - وفي تفسير علي بن إبراهيم القمي:
" الصابئون قوم لا مجوس ولا يهود ولا نصارى ولا مسلمين، وهم يعبدون
الكواكب والنجوم. " (3)
4 - وفي مجمع البيان في تفسير الآية 62 من سورة البقرة قال:
" والصابئون جمع صابئ، وهو من انتقل إلى دين آخر، وكل خارج من دين كان
عليه إلى آخر غيره سمي في اللغة صائبا... والدين الذي فارقوه هو تركهم التوحيد
إلى عبادة النجوم أو تعظيمها.
قال قتادة: وهم قوم معروفون ولهم مذهب يتفردون به، ومن دينهم عبادة النجوم.
وهم يقرون بالصانع وبالمعاد وببعض الأنبياء. وقال مجاهد والحسن: الصابئون بين
اليهود والمجوس لا دين لهم. وقال السدي: هم طائفة من أهل الكتاب يقرؤون

1 - المقنعة / 44.
2 - المختلف 1 / 333.
3 - تفسير علي إبراهيم (القمي) 1 / 41 (= ط. أخرى 1 / 48).
394

الزبور. وقال الخليل: هم قوم دينهم شبيه بدين النصارى إلا أن قبلتهم نحو مهب
الجنوب حيال منتصف النهار، يزعمون أنهم على دين نوح. وقال ابن زيد: هم أهل
دين من الأديان كانوا بالجزيرة - جزيرة الموصل - يقولون: لا إله إلا الله ولم يؤمنوا
برسول الله، فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولأصحابه: هؤلاء
الصابئون; يشبهونهم بهم. وقال آخرون: هم طائفة من أهل الكتاب.
والفقهاء بأجمعهم يجيزون أخذ الجزية منهم، وعندنا لا يجوز ذلك لأنهم ليسوا
بأهل كتاب. " (1)
5 - وفي تفسير القرطبي:
" واختلف في الصابئين: فقال السدي: هم فرقة من أهل الكتاب. وقاله إسحاق بن
راهويه. قال ابن المنذر: وقال إسحاق: لا بأس بذبائح الصابئين، لأنهم طائفة من أهل
الكتاب. وقال أبو حنيفة: لا بأس بذبائحهم ومناكحة نسائهم. وقال الخليل: هم قوم يشبه
دينهم دين النصارى إلا أن قبلتهم نحو مهب الجنوب، يزعمون أنهم على دين نوح -
عليه السلام -. وقال مجاهد والحسن وابن أبي نجيح: هم قوم تركب دينهم بين اليهودية
والمجوسية، لا تؤكل ذبائحهم. ابن عباس: ولا تنكح نساؤهم. وقال الحسن أيضا وقتادة: هم
قوم يعبدون الملائكة ويصلون إلى القبلة ويقرؤون الزبور ويصلون الخمس، رآهم زياد بن
أبي سفيان، فأراد وضع الجزية عنهم حين عرف أنهم يعبدون الملائكة.
والذي تحصل من مذهبهم - فيما ذكره بعض علمائنا - أنهم موحدون معتقدون تأثير
النجوم وأنها فعالة، ولهذا أفتى أبو سعيد الإصطخري القادر بالله بكفرهم حين سأله
عنهم ". (2)
6 - وفي المصنف لعبد الرزاق بسنده، عن قتادة، قال:
" الصابئون قوم يعبدون الملائكة ويصلون إلى القبلة ويقرؤون الزبور. وعن مجاهد
قال: الصابئون بين المجوس واليهود; ليس لهم دين. وعنه أيضا قال: سئل ابن

1 - مجمع البيان 1 / 126.
2 - تفسير القرطبي 1 / 434.
395

عباس عن الصابئين فقال: هم قوم بين اليهود والنصارى; لا تحل ذبائحهم
ولا مناكحتهم. " (1)
7 - وفي أوائل المجلد الثاني من كتاب الملل والنحل للشهرستاني قال في مقام
تقسيمها:
" والتقسيم الضابط أن نقول:
[1] - من الناس من لا يقول بمحسوس ولا معقول، وهم السوفسطائية.
[2] - ومنهم من يقول بالمحسوس ولا يقول بالمعقول، وهم الطبيعية.
[3] - ومنهم من يقول بالمحسوس والمعقول ولا يقول بحدود وأحكام، وهم
الفلاسفة الدهرية.
[4] - ومنهم من يقول بالمحسوس والمعقول والحدود والأحكام ولا يقول
بالشريعة والإسلام، وهم الصابئة.
[5] - ومنهم من يقول بهذه كلها وبشريعة ما وإسلام، ولا يقول بشريعة نبينا
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهم المجوس واليهود والنصارى.
[6] - ومنهم من يقول بهذه كلها، وهم المسلمون. "
ثم أطال الكلام في عقائد الصابئة والمناظرات بينهم وبين الحنفاء، فراجع. (2)
8 - وللفاضل المحقق السيد محمد محيط الطباطبائي مقالة تحقيقية في الصابئين
كتبها بالفارسية وطبعت في الجزء الثاني من كتاب ذكرى العلامة الشهيد آية الله
المطهري - طاب ثراه -.
وملخص ما ذكره تقسيم الصابئة إلى قسمين: الصابئة الأصيلة المندائية الساكنة في
واسط وميسان من خوزستان، والصابئة المنتحلة الحرنانية:
" فالصابئة المندائية كانوا أهل كتاب ويوجد لهم الآن كتاب باللغة السريانية
يسمونه صحف آدم وكنز الرب أو الكنز العظيم، يعتقدون أن يحيى بن زكريا رواه

1 - المصنف 6 / 124، كتاب أهل الكتاب، الصابئون، الأحاديث 10206 - 10208.
2 - الملل والنحل 2 / 4.
396

لهم عن نوح وشيث وآدم. ولهم كتاب آخر يسمونه دروس يحيى ويجعلون يحيى
آخر الأنبياء.
وقد قال الله - تعالى - في سورة مريم: " يا يحيى خذ الكتاب بقوة، وآتيناه الحكم
صبيا. " (1) وفي سورة الأنعام بعد ذكر جمع من الأنبياء ومنهم زكريا ويحيى
وعيسى إلياس قال: " أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة. الآية. " (2) فيظهر
بذلك أنه كان ليحيى (عليه السلام) كتاب وحكم ونبوة نظير ما كان لعيسى (عليه السلام).
وعلى هذا الأساس نسب بعض المفسرين كتاب الزبور المنسوب إلى داود النبي
إلى الصابئين وأرادوا بذلك توجيه عدهم من أهل الكتاب.
ووجود الصابئة المندائية في منطقة ميسان في عصر الساسانية أمر مسلم، ولعل
كثيرا منهم كانوا تفرقوا في جزيرة العرب ثم خرجوا منها حينما خرج اليهود والنصارى
منها وانضموا إلى قومهم في ميسان.
وانتساب بيت ماني إلى مغتسلة البطائح أقوى شاهد على وجود المغتسلة في
عصر أردشير بابكان. والمغتسلة هم الصابئة المندائية. وقد أشار ابن النديم في
فهرسته إليهم.
وشرح " تئودور " البرقوني المسيحي في المأة الثانية من الهجرة في كتابه المسمى
" شوليون " سابقة سكونة الصابئة المندائية في ميسان وذكرهم بأسامي
المندائية الصابئة والمغتسلة.
ولم يكن لمفسري القرآن الكريم في القرون الأولية كالسدي وقتادة ومقاتل وابن
عباس ومجاهد والكلبي وابن زيد والحسن وأمثالهم اطلاع صحيح على وجود
الصابئة المغتسلة في بطائح ميسان، فخلطوا في معنى كلمة الصابئين المذكورة في
القرآن.
والمأمون العباسي حينما توجه إلى غزو الروم بلغ بلدة حران فوجد فيها قوما من
بقايا الكلدانيين واليونانيين المهاجرين كانوا يعبدون النجوم وأرباب الأنواع، فسألهم
عن دينهم ليرى هل إنهم ممن يقرون على دينهم. فلم يستطيعوا أن يجيبوه جوابا

1 - سورة مريم (19)، الآية 12.
2 - سورة الأنعام (6)، الآية 89.
397

مقنعا، فطلب منهم أن يوضحوا أمر دينهم حينما يرجع هو من غزوه، فانضم بعضهم
إلى المسيحيين. ودلهم بعض إلى أن ينتحلوا دين الصابئين الذين سكنوا معهم مدة في
القرون السالفة حين رحلتهم من فلسطين إلى ميسان، فأخذ الحرنانيون بهذه
الدلالة انتحلوا الصابئة حذرا من المخمصة.
ثم بعد وفاة المأمون انتشر هؤلاء المنتحلة في البلاد الإسلامية، واكتسبوا
العلوم الآداب وتجرؤوا على إظهار عقائدهم الفاسدة ولكن تحت ستار اسم
الصابئين، فجعلوا هذا الاسم وقاية وجنة لأنفسهم، وخفي أمر الصابئين الأصليين
الموجودين في واسط وميسان. واشتبه الأمر على المفسرين والمؤرخين أيضا، حيث
نسبوا الآراء والعقائد الفاسدة الدائرة بين الصابئة المنتحلة إلى الصابئين الأصليين
المذكورين في القرآن في عداد اليهود والنصارى. وحيث لم يقفوا على اللغات
السريانية والآرامية والعبرية زعموا أن كلمة الصابي عربية بمعنى الخروج من دين إلى
دين آخر، مع أن اللفظ في تلك اللغات كان بمعنى الاغتسال والرمس في
الماء التعميد. "
ثم تعرض لكلام الإمام الرازي وأبي الفتوح الرازي في تفسيريهما ونقد عليهما ثم
قال ما محصله:
" إنه في أثر غفلة المفسرين وعدم اطلاعهم اتخذ الحرنانيون اسم الصابئين وقاية
لأنفسهم واستطاعوا في قرون متطاولة أن يحتفظوا بأنفسهم تحت ستاره، والصابئون
الأصليون أعني المغتسلة تحملوا إلى القرن الحاضر تهمة عبادة النجوم
والملائكة، لم يستطيعوا بعد أن يحرزوا حقهم من المصونية الدينية.
والقاضي أبو يوسف في خراجه جعل الصابئة من أهل الكتاب مثل
اليهود والنصارى والمجوس. والقفطي مؤلف تاريخ الحكماء قد التفت إلى اختلاف
العقائد والآراء الموجودتين في قسمي الصابئة فحمل اختلاف الفقهاء في نكاحهم
ذبائحهم على اختلاف موضوع الاستفتاء، فيحل النكاح والذبيحة من صابئة البطائح
ولا يحلان من الحرنانيين المنتحلة... "
أقول: يمكن أن يقال: إن وجود كتاب لهم نظير الزبور لا يكفي في عدهم أهل
398

الكتاب، إذا الظاهر أن المراد بالكتاب هو الكتاب المشتمل على دين جديد
وشريعة جديدة. ويحيى النبي (عليه السلام) كان عندنا على شريعة موسى. نعم، نوح النبي كان
صاحب دين وشريعة.
ثم إن ما أراده من نسبة عبادة النجوم والملائكة إلى الحرنانيين وتطهير ساحة
الصابئين الأصليين منها ربما ينافي ما مر عن قتادة من أن من دينهم عبادة النجوم، عن
الحسن وقتادة من أنهم يعبدون الملائكة، وأن زياد بن أبي سفيان أراد وضع الجزية
عنهم حين عرف أنهم يعبدون الملائكة، إذ من الواضح أن زيادا وقتادة والحسن كانوا
قبل المأمون الذي في عصره انتحل الحرنانيون الصابئة. ولعل صابئة البطائح أخذوا
عبادة النجوم أو تعظيمها من الكلدانيين في بابل، وإن كانوا في الأصل من يهود
فلسطين على ما قيل.
وفي نهاية ابن الأثير في لغة " صبأ " قال:
" في حديث بني جذيمة: كانوا يقولون لما أسلموا: صبأنا، صبأنا. قد تكررت هذه
اللفظة في الحديث. يقال: صبأ فلان: إذا خرج من دين إلى غيره، من قولهم: صبأ ناب
البعير: إذا طلع، وصبأت النجوم: إذا خرجت من مطالعها. وكانت العرب تسمي
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الصابئ، لأنه خرج من دين قريش إلى دين الإسلام. " (1)
فيظهر من النهاية أن استعمال الكلمة بمعنى الخارج من دين إلى دين آخر وقع في
الأحاديث أيضا، وأن الكلمة عربية مهموزة اللام.
وفي رواية المفضل، عن الصادق (عليه السلام): " قال المفضل: فقلت: يا مولاي، فلم سمي
الصابئون الصابئين؟ فقال (عليه السلام): إنهم صبوا إلى تعطيل الأنبياء والرسل والملل والشرائع،
وقالوا: كل ما جاؤوا به باطل. " (2)
وظاهر هذه الرواية أن الكلمة عربية من الناقص الواوي، فتدبر.
9 - وابن النديم - المتوفى في أواخر القرن الرابع - قال في فهرسته ما ملخصه:

1 - النهاية 3 / 3.
2 - بحار الأنوار 53 / 5، تاريخ الإمام الثاني عشر، الباب 25 (باب ما يكون عند ظهوره (عليه السلام)).
399

" قال أبو يوسف إيشع النصراني في كتابه في الكشف عن مذاهب الحرنانيين
المعروفين في عصرنا بالصابة: إن المأمون اجتاز في آخر أيامه بديار مضر يريد بلاد
الروم للغزو، فتلقاه الناس وفيهم جماعة من الحرنانيين، وكان زيهم إذ ذاك لبس
الأقبية وشعورهم طويلة، فأنكر المأمون زيهم وقال لهم: من أنتم من الذمة؟ فقالوا:
نحن الحرنانية. فقال: أنصارى أنتم؟ قالوا: لا. قال: فيهود أنتم؟ قالوا: لا. قال:
فمجوس أنتم؟ قالوا: لا. قال: أفلكم كتاب أم نبي؟ فمجمجوا في القول. فقال لهم: فأنتم
إذا زنادقة عبدة الأوثان لا ذمة لكم. فقالوا: نحن نؤدي الجزية. فقال لهم: إنما تؤخذ
الجزية من أهل الأديان الذين ذكرهم الله - تعالى -، فاختاروا الآن أحد أمرين: إما
أن تنتحلوا دين الإسلام أو دينا من الأديان التي ذكرها الله في كتابه، وإلا قتلتكم عن
آخركم، فإني قد أنظرتكم إلى أن أرجع من سفرتي هذه.
ورحل المأمون يريد بلد الروم، فغيروا زيهم وحلقوا شعورهم وتركوا لبس الأقبية
وتنصر كثير منهم وأسلم طائفة منهم وبقي منهم شرذمة بحالهم وجعلوا
يحتالون يضطربون، حتى انتدب لهم شيخ من أهل حران فقيه فقال لهم إذا رجع
المأمون من سفره فقولوا له: نحن الصابئون، فهذا اسم دين قد ذكره الله في القرآن،
فانتحلوه فأنتم تنجون به، وقضي أن المأمون توفي في سفرته تلك وانتحلوا هذا الاسم
منذ ذلك الوقت، فلما اتصل بهم وفاة المأمون ارتد أكثر من تنصر منهم ورجعوا إلى
الحرنانية وطولوا شعورهم، ومن أسلم منهم لم يمكنه الارتداد خوفا من القتل فأقاموا
متسترين بالإسلام... " (1)
10 - وقال أيضا فيه:
" المغتسلة: هؤلاء القوم كثيرون بنواحي البطائح، وهم صابة البطائح يقولون
بالاغتسال ويغسلون جميع ما يأكلونه، ورئيسهم يعرف بالمسيح، وهو الذي شرع
الملة... وكانوا يوافقون المانوية في الأصلين وتفترق ملتهم بعد، وفيهم من يعظم
النجوم إلى وقتنا هذا.

1 - فهرست ابن النديم / 459 (= ط. أخرى / 385).
400

حكاية أخرى في أمر صابة البطائح: هؤلاء القوم على مذهب النبط القديم،
يعظمون النجوم ولهم أمثلة وأصنام، وهم عامة الصابة المعروفين بالحرنانيين، وقد
قيل: إنهم غيرهم جملة وتفصيلا. " (1)
فابن النديم أيضا التفت إلى كونهم فرقتين ولكنه نسب تعظيم النجوم إلى كلتيهما.
11 - وفي الآثار الباقية لأبي الريحان البيروني في ذكر المتنبئين ما ملخصه مع
حفظ ألفاظه:
" وأول المذكورين منهم بوذاسف، وقد ظهر عند مضي سنة من ملك طهمورث
بأرض الهندواتي بالكتابة الفارسية ودعا إلى ملة الصابئين فأتبعه خلق كثير، وكانت
الملوك البيشداذية وبعض الكيانية ممن كان يستوطن بلخ يعظمون النيرين والكواكب
وكليات العناصر ويقدسونها إلى وقت ظهور زرادشت، وبقايا أولئك الصابئة بحران
ينسبون إلى موضعهم فيقال لهم الحرانية. وقد قيل: إنها نسبة إلى هاران بن ترح أخي
إبراهيم - عليه السلام -...
وكذلك حكى عبد المسيح الكندي النصراني عنهم أنهم يعرفون بذبح الناس، ولكن
ذلك لا يمكنهم اليوم جهرا.
ونحن لا نعلم منهم إلا أنهم أناس يوحدون الله وينزهونه عن القبائح، ويصفونه
بالسلب لا الإيجاب كقولهم: لا يحد ولا يرى ولا يظلم ولا يجور، ويسمونه بالأسماء
الحسنى مجازا إذ ليس عندهم صفة بالحقيقة، وينسبون التدبير إلى الفلك
وأجرامه يقولون بحياتها ونطقها وسمعها وبصرها ويعظمون الأنوار.
ومن آثارهم القبة التي فوق المحراب عند المقصورة في جامع دمشق وكان
مصلاهم أيام كان اليونانيون والروم على دينهم، ثم صارت في أيدي اليهود فعملوها
كنيستهم ثم تغلب عليها النصارى فصيروها بيعة إلى أن جاء الإسلام وأهله فاتخذوها
مسجدا. وكانت لهم هياكل وأصنام بأسماء الشمس معلومة الأشكال مثل هيكل

1 - فهرست ابن النديم / 491 (= ط. أخرى / 403).
401

بعلبك كان لصنم الشمس وحران فإنها منسوبة إلى القمر، ويذكرون أن الكعبة
وأصنامها كانت لهم وعبدتها كانوا من جملتهم وأن اللات كان باسم زحل، والعزى
باسم الزهرة، ولهم أنبياء كثيرة أكثرهم فلاسفة يونان... ولهم صلوات ثلاث
مكتوبات: أولها عند طلوع الشمس ثماني ركعات. والثانية قبل زوال الشمس عن
وسط السماء خمس ركعات، والثالثة عند غروب الشمس خمس ركعات... ويصلون
على طهر ووضوء، يغتسلون من الجنابة ولا يختتنون، وأكثر أحكامهم في المناكح
والحدود مثل أحكام المسلمين، وفي التنجس عند مس الموتى وأمثال ذلك شبيهة
بالتوراة ولهم قرابين متعلقة بالكواكب وأصنامها وهياكلها، وذبائح يتولاها كهنتهم
وفاتنوهم...
وقد قيل: إن هؤلاء الحرانية ليسوا هم الصابئة بالحقيقة، بل هم المسمون في الكتب
بالحنفاء والوثنية، فإن الصابئة هم الذين تخلفوا ببابل من جملة الأسباط الناهضة في
أيام كورش وأيام أرطحشست إلى بيت المقدس ومالوا إلى شرائع المجوس فصبوا
إلى دين بختنصر فذهبوا مذهبا ممتزجا من المجوسية واليهودية كالسامرة بالشام.
وقد يوجد أكثرهم بواسط وسواد العراق بناحية جعفر والجامدة ونهري الصلة
منتمين إلى أنوش بن شيث ومخالفين للحرانية عائبين مذاهبهم لا يوافقونهم إلا في
أشياء قليلة حتى إنهم يتوجهون في الصلاة إلى جهة القطب الشمالي، والحرانية إلى
الجنوبي.
وزعم بعض أهل الكتاب أنه كان لمتوشالح ابن غير لمك تسمى صابئ وأن
الصابئة سموا به... " (1) هذا.
ونقل هذا الكلام عن البيروني العلامة الطباطبائي " ره " في تفسير آية البقرة،
فراجع. (2)
12 - وفي الآثار الباقية أيضا:

1 - الآثار الباقية / 204 - 206.
2 - الميزان 1 / 194 (= ط. أخرى 1 / 195).
402

" وأما الصابئون فقد قدمنا أن هذا الاسم يقع على من هم بالحقيقة أصحاب هذا
الاسم وهم المتخلفون من أسرى بابل الذين نقلهم بختنصر من بيت المقدس إليها،
فإنهم لما تصرفوا في الأرض واعتادوا بقعة بابل استثقلوا العود إلى الشام فآثروا
المقام ببابل، ولم يكونوا من دينهم بمكان معتمد، فسمعوا أقاويل المجوس وصبوا إلى
بعضها، فامتزجت مذاهبهم من المجوسية واليهودية، كحال المنقولين من بابل إلى
الشام أعني المعروفين بالسامرة.
ويوجد أكثر هذه الطبقة بسواد العراق، وهم الصابئون بالحقيقة، وهم متفرقون غير
مجتمعين ولا كائنين في بلدان مخصوصة بهم دون غيرهم ومع ذلك غير متفقين على
حال واحدة كأنهم لا يسندونها إلى ركن ثابت في الدين من وحي أو إلهام أو
ما يشبههما وينتمون إلى أنوش بن شيث بن آدم.
وقد يقع الاسم على الحرانية الذين هم بقايا أهل الدين القديم المغربي البائنون
عنه بعد تنصر الروم اليونانيين... وهذا الاسم أشهر بهم من غيرهم وإن كانوا تسموا به
في الدولة العباسية في سنة ثمان وعشرين ومائتين ليعدوا في جملة من يؤخذ منه
[الجزية] ويرعى له الذمة، وكانوا قبلها يسمون الحنفاء والوثنية والحرانية... " (1)
أقول: فأبو الريحان أيضا قد تعرض لكون الصابئين على قسمين مختلفين في
الآراء والعقائد. وظاهره كون الصابئة بالحقيقة من بقايا اليهود ببابل فامتزج بها دينهم
بالمجوسية الرائجة فيها فيكون مركبا منهما.
13 - وفي كتاب خلاصة الأديان تأليف الفاضل الدكتور محمد جواد المشكور ذكر
في عداد المذاهب العرفانية: " المندائية " وقال ما حاصله:
" المندائية من لفظ أرامي بمعنى المعرفة تسمى بها الصابئون. والدليل على أنهم
كانوا من فلسطين استعمالهم للفظ " ياردنا " بمعنى الماء الجاري الذي يقع فيه غسل
التعميد والصابئة المندائية هاجروا من فلسطين إلى العراق وإيران، وهم من شيعة
يحيى المعمد الذي كان يعمد تلاميذه ومنهم عيسى المسيح في نهر الأردن.

1 - الآثار الباقية / 318.
403

وتأثير علم النجوم الكلداني في عقائدهم كان من جهة إقامتهم في بابل وتأثرهم
بثقافة بابل. وسبب مهاجرتهم وقوع الاختلاف بينهم وبين اليهود.
ففي أصح كتبهم عندهم المسمى: " گنزا " أن يحيى حين وفاته انتخب من تلاميذه
بعدد أيام السنة 366 نفرا واستخلفهم وأقرهم في بيت المقدس عند الهيكل، فدخل في
دينهم " ماريا " بنت العازار كاهن اليهود، فلما يئس أبوها من ردها إلى دين اليهود أمر
بإغارة اليهود على المندائيين وقتلهم، فمن بقي منهم هاجر إلى حران ومنه إلى بابل.
وفي هذا الكتاب أيضا: أن يحيى كان يعمد قبل أن يتعمد بيده المسيح اثنين أربعين
سنة، ولكن المسيح أفسد مذهب يحيى ونقل التعميد من نهر الأردن إلى المواضع
الأخر ودعا الناس إلى نفسه. والمندائيون لا يعتقدون بنبوة يحيى، بل هو عندهم من
أعظم المؤمنين والكهنة المندائية الذي كان يشفي أرواح الناس وأجسادهم، وهو
الذي غير بعض مراسيم المندائية، ومن جملة ذلك أنه جعل الصلوات الخمس ثلاث
صلوات. والمندائية يعتقدون بارتداد المسيح. وتسموا مندائية لعرفانهم،
والصابي المغتسلة لارتماسهم في الماء واغتسالهم فيه.
وهؤلاء هم الصابئون المذكورون في القرآن. وملخص عقائدهم أنهم يعتقدون
بالله الواحد الأزلي الأبدي الذي لا نهاية له، ويكون منزها عن المادة والطبيعة، وأنه
يوجد له بعدد أيام السنة قوى روحانية يكونون جنوده في خلقه وأعوانه ولكل منهم
منطقة خاصة به. ويوجد في دينهم مظاهر الثنوية، حتى أن وجود الإنسان مركب من
الروح الذي يكون من عالم النور والجسم الذي يكون من عالم الظلمة. وأصح الكتب
عندهم: " گنزا " ويحسبونه صحف آدم. وأساس دينهم على الغسل والغسل ويخفون
مراسيمهم الدينية عن أعين الناس. ولهم ثلاثة أنواع من الغسل.
والغسل الكامل يقع في اليوم الأحد وبعد الولادة وعند الازدواج والمرض السفر
في حضور الكاهن. الصوم عندهم حرام كما في مذهب زردشت. والصلاة عندهم
رائجة في كل يوم ثلاث مرات في ثلاثة أوقات. ومن أنبيائهم هرمس الحكيم. التوراة
عندهم كتاب ضلال، وهم لا يعبدون الأجرام السماوية ولكنهم يعدونها
404

من عالم النور. ويحرم عندهم قتل النفوس وشرب الخمر واليمين الكاذبة والأكل
والشرب في حال الجنابة قبل الغسل، وقطع الطريق والسرقة والعمل في الأعياد
ولا سيما في اليوم الأحد والغيبة والزنا والاختتان ومطل الدين وأكل لحوم الحيوانات
التي لها ذنب، التزوج بنساء الأجانب ولبس الثوب الأسود وشهادة الزور وأكل الربا
والخيانة في الأمانة واللواط والقمار. وعدد نفوسهم في العراق وإيران ثمانية
آلاف. " (1)
أقول: ولا ينافي وجود الاختلاف بينهم وبين اليهود في بيت المقدس كونهم من
اليهود، لاحتمال التشعب في دين اليهود كسائر الأديان، ولعلهم كانوا في اليهودية
نظير متصوفة المسلمين فيهم، حيث يكفر بعضهم بعضا، فتدبر.
14 - وفي كتاب الأموال لأبي عبيد:
" شرائع القرآن كلها إنما نزلت جملا حتى فسرتها السنة. فعلى هذا كان أخذه (صلى الله عليه وآله وسلم)
الجزية من العجم كافة، إن كانوا أهل كتاب أو لم يكونوا، وتركه أخذها من العرب إلا
أن يكونوا أهل كتاب.
فلما فعل ذلك استدللنا بفعله (صلى الله عليه وآله وسلم) على أن الآية التي نزل فيها شرط الكتاب على
أهل الجزية إنما كانت خاصة للعرب، وأن العجم يؤخذ منهم الجزية على كل حال.
ومما يبين ذلك إجماع الأمة على قبولها من الصابئين بعده وليس يشهد لهم القرآن
بكتاب. وإنما نرى الناس فعلوا ذلك واستجازوه استنانا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في أمر المجوس
وتشبيها بهم، لأن المسلمين أو أكثرهم على كراهية ذبائحهم ومناكحتهم لأنهم في حد
المجوس.
وقد قال ذلك غير واحد من العلماء:
قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرني مطرف، قال: كنا عند الحكم بن عتيبة فحدثه
رجل عن الحسن البصري: أنه كان يقول في الصابئين: هم بمنزلة المجوس، فقال

1 - خلاصة الأديان / 220 - 228. والكتاب فارسية.
405

الحكم: أليس قد كنت أخبرتكم بذلك؟...
مجاهد قال: الصابئون قوم من المشركين بين اليهود والنصارى، ليس لهم كتاب.
قال أبو عبيد: وكذلك يروى عن الأوزاعي: أنه كان يقول: كل دين بعد الإسلام
سوى اليهودية والنصرانية فهم مجوس. يقول: أحكامهم كأحكامهم. وهو أيضا قول
مالك.
واختلف فيه أهل العراق: فأكثرهم يجعل الصابئين بمنزلة المجوس. وقالت طائفة
منهم: هم كالنصارى.
قال: حدثنا يزيد، عن حبيب بن أبي حبيب، عن عمر بن هرم، عن جابر بن زيد:
أنه سئل عن الصابئين: أمن أهل الكتاب هم، وطعامهم ونساؤهم حل للمسلمين؟
فقال: نعم. قال أبو عبيد: والأمر عندنا على ما قال مجاهد والحسن والحكم الأوزاعي
ومالك: أنهم كالمجوس، لأن القرآن لا يصدقهم على كتاب. " (1)
15 - وفي أحكام القرآن للجصاص قال:
" وتقدم الكلام أيضا في حكم الصابئين. وهل هم أهل الكتاب أم لا، وهم فريقان:
أحدهما بنواحي كسكر والبطائح، وهم فيما بلغنا صنف من النصارى وإن كانوا
مخالفين لهم في كثير من ديانتهم لأن النصارى فرق كثيرة منهم المرقونية والأريوسية
والمارونية. والفرق الثلاث من النسطورية والملكية واليعقوبية يبرؤون
منهم يحرمونهم، وهم ينتمون إلى يحيى بن زكريا وشيث وينتحلون كتبا يزعمون أنها
كتب الله التي أنزلها على شيث بن آدم ويحيى بن زكريا، والنصارى تسميهم
يوحناسية. فهذه الفرقة يجعلها أبو حنيفة من أهل الكتب ويبيح أكل ذبائحهم ومناكحة
نسائهم.
وفرقة أخرى قد تسمت بالصابئين، وهم الحرانيون الذين بناحية حران، وهم
عبدة الأوثان ولا ينتمون إلى أحد من الأنبياء ولا ينتحلون شيئا من كتب الله. فهؤلاء

1 - الأموال / 654.
406

ليسوا أهل الكتاب ولا خلاف أن هذه النحلة لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم.
فمذهب أبي حنيفة في جعله الصابئين من أهل الكتاب محمول على مراده الفرقة
الأولى. وأما أبو يوسف ومحمد فقالا: إن الصابئين ليسوا أهل الكتاب ولم يفصلوا
(لم يفصلا - ظ.) بين الفريقين. وقد روي في ذلك اختلاف بين التابعين... " (1)
16 - وفي نكاح الجواهر:
" وأما الصابئون فعن أبي علي: " أنهم قوم من النصارى " وعن المبسوط: " أن
الصحيح خلافه، لأنهم يعبدون الكواكب. " وعن التبيان ومجمع البيان: " أنه لا يجوز
عندنا أخذ الجزية منهم، لأنهم ليسوا أهل الكتاب. " وفي المحكي عن الخلاف نقل
الإجماع على أنه لا يجري على الصابئة حكم أهل الكتاب. وعن العين: أن دينهم
يشبه دين النصارى إلا أن قبلتهم نحو مهب الجنوب حيال نصف النهار، يزعمون أنهم
على دين نوح. وقيل: قوم من أهل الكتاب يقرؤون الزبور. وقيل: بين اليهود المجوس.
وقيل: قوم يوحدون ولا يؤمنون برسول. وقيل: قوم يقرون بالله - عز وجل - ويعبدون
الملائكة ويقرؤون الزبور ويصلون إلى الكعبة. وقيل: قوم كانوا في زمن إبراهيم (عليه السلام)
يقولون بأنا نحتاج في معرفة الله ومعرفة طاعته إلى متوسط روحاني لا جسماني. ثم
لما لم يمكنهم الاقتصار على الروحانيات والتوسل بها فزعوا إلى الكواكب، فمنهم من
عبد السيارات السبع ومنهم من عبد الثوابت. ثم إن منهم من اعتقد الإلهية في
الكواكب، ومنهم من سماها ملائكة. ومنهم من تنزل عنها إلى الأصنام.
لكن في القواعد: " الأصل في الباب أنهم أي السامرة والصابئين إن كانوا إنما
يخالفون القبيلتين في فروع الدين فهم منهم، وإن خالفوهم في أصله فهم ملحدة لهم
حكم الحربيين. "
وفي كشف اللثام: " بهذا يمكن الجمع بين القولين، لجواز أن يعدوا منهم وإن
خالفوهم ببعض الأصول، كما يعد كثير من الفرق من المسلمين مع المخالفة في

1 - أحكام القرآن 3 / 112، باب أخذ الجرية من أهل الكتاب.
407

الأصول، بل الأمر كذلك في غير الإمامية، وقد قيل: إنه لا كلام في عدهما من
القبيلتين وإنما الكلام في الأحكام. "
قلت: لا ينبغي الكلام في الأحكام بعد فرض أنهم من القبيلتين أي اليهود النصارى،
ضرورة تعليق الأحكام في النص والفتوى على المسمين بهذا الاسم الذي يشملهم
أهل الكتاب... " (1)
17 - وفي جهاد الجواهر:
" وأما الصابئون فعن ابن الجنيد التصريح بأخذ الجزية منهم والإقرار على دينهم. و
لا بأس به إن كانوا من إحدى الفرق الثلاث. فعن أحد قولي الشافعي: " أنهم من أهل
الكتاب، وإنما يخالفونهم في فروع المسائل لا في أصولهم. " وعن ابن حنبل وجماعة
من أهل العراق: " أنهم جنس من النصارى ". وعنه أيضا: " أنهم يسبتون، فهم من
اليهود. " وعن مجاهد: " هم من اليهود أو النصارى. " وقال السدي: " هم من أهل
الكتاب وكذا السامرة. " وعن الأوزاعي ومالك: " أن كل دين بعد دين الإسلام سوى
اليهودية والنصرانية مجوسية وحكمهم حكم المجوس. " وعن عمر بن عبد العزيز:
" هم مجوس. " وعن الشافعي أيضا وجماعة من أهل العراق: " حكمهم حكم
المجوس. " وحينئذ يتجه قبول الجزية منهم. ولكن قيل عنهم: إنهم يقولون: إن الفلك
حي ناطق، وإن الكواكب السبعة السيارة آلهة. وعن تفسير القمي وغيره: " أنهم ليسوا
أهل كتاب، وإنما هم قوم يعبدون النجوم. " وعليه يتجه عدم قبولها منهم. ولعله لذا
صرح الفاضل في المختلف بعدم قبول الجزية منهم حاكيا له عن الشيخين، اللهم إلا أن
يكون قسم من النصارى يقولون بهذه المقالة وإن زعموا أنهم على دين المسيح، إذ
الجزية مقبولة من جميعهم: اليعقوبية والنسطورية والملكية والفرنج والروم
والأرمن غيرهم ممن يدين بالإنجيل وينتسب إلى عيسى (عليه السلام) وإن اختلفوا في الأصول
والفروع، وكذلك اليهود والمجوس... " (2)

1 - الجواهر 30 / 45.
2 - الجواهر 21 / 230.
408

أقول: وقد تحصل مما مر من الكلمات أن الصابئة عند فقهاء السنة يعدون من أهل
الكتاب وتقبل منهم الجزية، نعم خالفهم في ذلك أبو سعيد الإصطخري منهم.
وأما فقهاؤنا فالمشهور بينهم عدم قبول الجزية منهم وخالف في ذلك ابن الجنيد
منا.
ويمكن أن يقال: إن ذكر الصابئين في الكتاب العزيز في عداد اليهود
والنصارى المجوس لعله يدل على تمايزهم عن سائر الكفار، وأنه كان يوجد لدينهم
وجهة حق وارتباط بالوحي السماوي إما لارتباطهم بأحد الأنبياء السابقين ويعدون
لذلك من أهل الكتاب، أو لكونهم من إحدى الفرق الثلاث وإنما ذكروا بالخصوص من
باب ذكر الخاص بعد العام لرفع الشبهة.
وما ورد في تعليل أخذ الجزية من المجوس بأنه كان لهم نبي وكتاب يقتضي إسراء
الحكم إلى كل من لهم نبي وكتاب سماوي وإن لم يكونوا من الفرق الثلاث.
قال الله - تعالى - في سورة البقرة: " إن الذين آمنوا والذين هادوا
والنصارى الصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم
ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. " (1)
وفى المائدة: " إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن
بالله اليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. " (2)
وفي سورة الحج: " إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس
والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة، إن الله على كل شيء شهيد. " (3)
ولو ثبت أنهم كانوا في الأصل أهل كتاب سماوي فاعتقادهم الضمني بالعقائد
الفاسدة المشوبة بالشرك لا يوجب خروجهم من حكم أهل الكتاب، كما لا يوجب
اعتقاد النصارى بالأقانيم الثلاثة خروجهم عن هذا الحكم. هذا.

1 - سورة البقرة (2)، الآية 62.
2 - سورة المائدة (5)، الآية 69.
3 - سورة الحج (22)، الآية 17.
409

وقد واجهت عالما من علماء صابئي الأهواز فاستفسرته عن بعض
عقائدهم مراسيمهم فأجاب وأهدى إلى نسخة من أعظم كتبهم: " گنزا ربا " باللغة
الآرامية الذي يعتقدون أنه صحف آدم، وكراسة بالفارسية يسمى: " درفش " حاوية
لبعض المراسيم اليومية الدينية.
ومما تحصل لي من أجوبته ومن محتويات الكراسة: أنهم يعتقدون بإله واحد
مجرد عن المادة أزلي أبدي جامع لصفات الكمال ليس كمثله شيء غفور رحيم
لا تراه العيون والأبصار. ويعظمون الملائكة ويسلمون عليهم بأسمائهم في
الأذكار والأدعية ويستشفعون بهم. ويعتقدون بالجنة والنار وأنه بالموت يفنى جسد
الإنسان ويبقى روحه خالدا مجزيا بأعماله. وأول الأنبياء آدم. ويؤمنون بنوح وسام
ويحيى المعمد، وهو آخرهم. وينكرون موسى وعيسى والتوراة والإنجيل، وأنكر
إيمانهم بزبور داود وكذا تعظيم النجوم وعبادتها. وقال: إن إبراهيم كان منا ثم انعزل
منا، فلا يؤمنون به. وقال: إن كلمة الصابي من لغة آرامية بمعنى المغتسل، ويغتسلون
من الجنابة ومس الميت وللتوبة ويغسلون المحتضر. ويهتمون كثيرا بغسل التعميد في
الماء الجاري، وتاريخهم يحيائي وتعطيلهم يوم الأحد، وأعيادهم أربعة. ولهم ثلاث
صلوات في ثلاثة أوقات بالوضوء المخصوص، ولهم أذكار وأوردة عند
الغسل الوضوء والأكل والذبح يلقيها الكاهن، والذبح إلى نقطة الشمال ويستغفر الذابح
من عمله، ويستغفرون لأمواتهم ويقيمون لهم حفلات التابين ويتصدقون لهم. يحرمون
قتل النفوس والزنا والربا والكذب والنميمة والغش والمسكرات بأنواعها ولحم
الخنزير والاختتان والتزوج بالأخت وبنت الأخ والأخت والعمة والخالة وزوجة
الأخ ولا يتناكحون غيرهم ويحلون تعدد الأزواج مع العدالة. هذا.
ثم إنه إن ثبت أن الصابئين من أهل الكتاب أو أنهم ليسوا من أهل الكتاب
فلا إشكال. وأما مع احتمال كونهم منهم فالأحوط تحقيق حالهم بالرجوع إلى
علمائهم وكتبهم، فإن بقي الشك فالأحوط إقرارهم على دينهم وأخذ الجزية منهم
410

حفظا للدماء، ويشكل الحكم بجواز قتلهم.
وما يمكن أن يتمسك به القائل بجواز القتل وعدم قبول الجزية أمور:
الأول: ما مر من الخلاف وغيره من التمسك بعمومات الكتاب والسنة، كقوله -
تعالى -: " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب "، ونحو ذلك.
وفيه أنه من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصص اللفظي، إذ
المفروض احتمال كونهم من أهل الكتاب وقد منعنا في محله جواز ذلك، اللهم إلا إذا
فرض رجوع الشبهة إلى الشبهة في المفهوم لا في المصداق مثل أن المقصود بالكتاب
هل هو مطلق الكتاب السماوي أو ما اشتمل على دين جديد وشريعة جديدة مثلا.
الثاني: أن الكفر مقتض لجواز القتل، كونه من أهل الكتاب مع إعطاء الجزية مانع
عن ذلك، فمع الشك في وجود المانع يؤثر المقتضي أثره.
وفيه منع قاعدة المقتضي والمانع، إذ الحكم تابع لموضوعه، وهو مركب من
المقتضي والشرائط وفقد الموانع، فمع الشك في واحد منها يشك في الحكم قهرا.
الثالث: إثبات عدم المانع باستصحاب العدم إما لأنه قبل صيرورته مميزا لم يكن
كتابيا فيستصحب، أو لاستصحاب العدم الأزلي نظير استصحاب عدم كون المرأة
قرشية وعدم كونها من المحارم قبل أن توجد.
وفيه منع الاستصحاب الأزلي بنحو السلب المركب، لعدم اعتبار العقلاء لذلك في
احتجاجاتهم، حيث إن السالبة بانتفاء الموضوع لا عرفية لها عندهم ولا هذية
للمعدوم حتى يشار إليه ويسلب عنه المحمول، واستصحاب حكمهم في حال الصغر
يقتضي عدم جواز قتلهم. والتحقيق يطلب من محله.
الرابع: أن إناطة الرخصة تكليفا أو وضعا بأمر وجودي يدل بالالتزام العرفي على
إناطتها بإحراز ذلك الأمر الوجودي وانتفاء الرخصة بمجرد عدم إحرازه، فإذا قال
المولى لعبده لا تأذن لأحد في الدخول على إلا لمن كان من أصدقائي، فالعبد يرى
نفسه موظفا على إحراز الصداقة في الإذن، ولو أذن لمشكوك الصداقة كان
411

ملوما عند العقلاء.
وفيه أنه إن كان المراد أن إناطة الرخصة بأمر وجودي مرجعها إلى إناطة الرخصة
الواقعية بالوجود الواقعي لهذا الأمر وإناطة الرخصة الظاهرية بالعلم بوجوده والحكم
بعدمها مع الشك فيكون المجعول حكمين: واقعيا وظاهريا بدليل واحد والأول
مدلول مطابقي والثاني التزامي عرفي فهذا ممنوع جدا.
وإن كان المراد أن المجعول شرعا واحد ولكن هنا قاعدة عقلائية ظاهرية نظير
سائر القواعد العقلائية ففيه أيضا منع ذلك.
هذا مضافا إلى أن توقف إجراء حكم الرخصة على إحراز موضوعه لا يوجب
إجراء حكم العام على المشكوك فيه. وبالجملة فإجراء كل من الحكمين يتوقف على
إحراز موضوعه، والمفروض أن الموضوع في طرف العام مركب من وجود عنوان
العام وعدم عنوان الخاص، والعدم غير محرز مع الشك، فتدبر.
وقد أطلنا الكلام في الصابئين، فلنعتذر من الإخوان القارئين، والحمد لله رب
العالمين.
412

الجهة الثانية:
في ذكر من تسقط عنه الجزية:
1 - قال الشيخ في كتاب الجزية من الخلاف (المسألة 6):
" المجنون المطبق لا خلاف أنه لا جزية عليه، وإن كان ممن يجن أحيانا ويفيق
أحيانا حكم بحكم الأغلب، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: يسقط حكم المجنون
ولا تلفق أيامه. وقال أكثر أصحابه: تلفق أيامه فإذا بلغت الأيام حولا وجبت الجزية.
دليلنا قوله - تعالى -: " حتى يعطوا الجزية "، ولم يستثن ولم يشرط التلفيق، وإنما
أخرجنا المطبق ومن غلب على أكثر أيامه الجنون بدليل. "
(المسألة 7):
" الشيوخ الهرمى وأصحاب الصوامع والرهبان يؤخذ منهم الجزية وللشافعي فيه
قولان. بناء على القولين إذا وقعوا في الأسر هل يجوز قتلهم أم لا. وفي أصحابنا من
قال: لا تؤخذ منهم الجزية.
دليلنا على الأول قوله تعالى: " حتى يعطوا الجزية عن يد وهم
صاغرون "، لم يفصل "...
(المسألة 10):
" من لا كسب له ولا مال لا يجب عليه الجزية، وبه قال أبو حنيفة وللشافعي فيه
قولان: أحدهما مثل ما قلناه، والآخر وهو أصحهما: أنها تجب عليه.
دليلنا إجماع الفرقة. وأيضا الأصل براءة الذمة، وأيضا قوله - تعالى -: " لا يكلف
الله نفسا إلا وسعها "، وأيضا قوله - تعالى -: " لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها ". وإذا
لم يكن له قدرة على المال ولا الكسب فلا يجوز أن يجب عليه الجزية. " (1)

1 - الخلاف 3 / 238.
413

2 - وفي النهاية:
" وهي واجبة على جميع الأصناف المذكورة إذا كانوا بشرائط المكلفين، وتسقط
عن الصبيان والمجانين والبله والنساء منهم. " (1)
3 - وفي كتاب الجزايا من المبسوط:
" والفقير الذي لا شيء معه تجب عليه الجزية، لأنه لا دليل على إسقاطها عنه. عموم
الآية يقتضيه، ثم ينظر فإن لم يقدر على الأداء كانت في ذمته فإذا استغنى أخذت منه
الجزية من يوم ضمنها وعقد العقد له بعد أن يحول عليه الحول. وأما النساء والصبيان
والبله والمجانين فلا جزية عليهم بحال... فأما المملوك فلا جزية عليه، لقوله - عليه
السلام -: " لا جزية على العبيد. "... والشيخ الفاني والزمن وأهل الصوامع والرهبان
الذين لا قتال فيهم ولا رأي لهم تؤخذ منهم الجزية لعموم الآية. كذلك إذا وقعوا في
الأسر جاز للإمام قتلهم، وقد روي أنه لا جزية عليهم. " (2)
فهو - قدس سره - أفتى في الخلاف بعدم وجوب الجزية على الفقير وادعى عليه
إجماع الفرقة، وفي المبسوط أفتى فيه بالوجوب.
ويمكن الجمع بينهما بثبوتها عليه وضعا ووجوب إنظاره إلى اليسار، أو أن
الموضوع في عبارة المبسوط الفقير الصادق على من يتمكن من الأداء
ولو تدريجا، في الخلاف من لا كسب له ولا مال أصلا وبينهما فرق، فتأمل.
4 - وفي جهاد الشرائع:
" ولا تؤخذ الجزية من الصبيان والمجانين والنساء. وهل تسقط عن الهم؟ قيل:
نعم. وهو المروي، وقيل: لا. وقيل: تسقط عن المملوك، وتؤخذ ممن عدا
هؤلاء لو كانوا رهبانا أو مقعدين. وتجب على الفقير وينظر بها حتى يوسر ولو ضرب
عليهم جزية فاشترطوها على النساء لم يصح الصلح. " (3)
5 - وفي الأحكام السلطانية للماوردي:

1 - النهاية / 193.
2 - المبسوط 2 / 38، و 40 و 42.
3 - الشرائع 1 / 327 (= ط. أخرى / 250).
414

" ولا تجب الجزية إلا على الرجال الأحرار العقلاء، ولا تجب على امرأة ولا صبي
ولا مجنون ولا عبد لأنهم أتباع وذراري.
ولو تفردت منهم امرأة على أن تكون تبعا لزوج أو نسيب لم تؤخذ منها، لأنها تبع
لرجال قومها وإن كانوا أجانب منها. ولو تفردت امرأة من دار الحرب فبذلت الجزية
للمقام في دار الإسلام لم يلزمها ما بذلته وكان ذلك منها كالهبة لا تؤخذ منها إن امتنعت
ولزمت ذمتها وإن لم تكن تبعا لقومها. " (1)
وذكر نحو ذلك أيضا أبو يعلى في الأحكام السلطانية، فراجع. (2)
6 - وفي مختصر أبي القاسم الخرقي:
" ولا جزية على صبي ولا زائل العقل ولا امرأة ولا على فقير، ولا شيخ فان لا زمن
ولا أعمى ولا على سيد عبد عن عبده إذا كان السيد مسلما. " (3)
7 - وفي خراج أبي يوسف:
" وإنما تجب الجزية على الرجال منهم دون النساء والصبيان... ولا تؤخذ الجزية
من المسكين الذي يتصدق عليه، ولا من أعمى لا حرفة له ولا عمل، ولا من ذمي
يتصدق عليه، ولا من مقعد، والمقعد والزمن إذا كان لهما يسار أخذ منهما، وكذلك
الأعمى وكذلك المترهبون الذين في الديارات إذا كان لهم يسار أخذ منهم... " (4)
وكيف كان فلا خلاف ولا إشكال في سقوط الجزية عن النساء والصبيان
والبله المجنون المطبق.
ففي الجواهر بعد قول المصنف: " ولا تؤخذ الجزية من الصبيان والمجانين النساء "
قال:
" كما صرح به غير واحد، بل لا أجد فيه خلافا، بل في المنتهى ومحكي الغنية

1 - الأحكام السلطانية / 144.
2 - الأحكام السلطانية / 154.
3 - المغني 10 / 581، 585 و 586.
4 - الخراج / 122.
415

والتذكرة الإجماع عليه، وهو الحجة. " (1)
وفي المغني بعد قول المصنف: " ولا جزية على صبي ولا زائل العقل ولا امرأة "
قال: " لا نعلم بين أهل العلم خلافا في هذا، وبه قال مالك وأبو حنيفة
وأصحابه الشافعي وأبو ثور. وقال ابن المنذر: ولا أعلم عن غيرهم خلافهم. " (2)
والمشهور سقوطها عن العبيد أيضا، كما يأتي.
وأما الشيخ الفاني والمقعد والزمن والأعمى والفقير والرهبان وأهل الصوامع
الذين لا قتال لهم ففيهم خلاف. وإطلاق الآية الشريفة وكثير من أخبار الباب يقتضي
الثبوت فيهم إلا أن يدل دليل على الخلاف.
ومن الأخبار المطلقة في هذا الباب ما مر من خبر معاذ بن جبل، قال: " بعثني
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى اليمن وأمرني أن آخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافر. " (3)
فلنتعرض لأخبار المسألة، وتفصيل العناوين المذكورة:
أ - في حكم النساء الصبيان والمجانين:
1 - ما رواه في الوسائل عن المشايخ الثلاثة بأسانيدهم، عن حفص بن غياث (في
حديث) أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن النساء كيف سقطت الجزية عنهن ورفعت عنهن؟
قال: فقال: " لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى عن قتل النساء والولدان في دار الحرب إلا أن
يقاتلن، فإن قاتلن (قاتلت) أيضا فأمسك عنها ما أمكنك ولم تخف خللا (حالا خ. ل)
فلما نهى عن قتلهن في دار الحرب كان (ذلك) في دار الإسلام أولى. ولو امتنعت أن
تؤدي

1 - الجواهر 21 / 236.
2 - المغني 10 / 581.
3 - سنن البيهقي 9 / 187، كتاب الجزية، باب من قال تؤخذ منهم الجزية...
416

الجزية لم يمكن قتلها، فلما لم يمكن قتلها رفعت الجزية عنها. ولو امتنع الرجال أن
يؤدوا الجزية كانوا ناقضين للعهد وحلت دماؤهم وقتلهم، لأن قتل الرجال مباح في
دار الشرك.
وكذلك المقعد من أهل الذمة والأعمى والشيخ الفاني والمرأة والولدان في أرض
الحرب، فمن أجل ذلك رفعت عنهم الجزية. " (1)
والسند وإن كان مخدوشا ولكن رواية حفص بهذا السند قد عمل بها الأصحاب
في كثير من الأبواب. ودلالتها على سقوط الجزية عن النساء والولدان واضحة. بل
دلت على السقوط الجزية عن النساء والولدان واضحة. بل دلت على السقوط عن
المقعد والأعمى والشيخ الفاني أيضا، وسيأتي البحث فيهم. وظاهر الخبر وجود
الملازمة بين جواز القتل وثبوت الجزية، فلا جزية على من لا يجوز قتله.
2 - ما رواه أيضا عن المشايخ الثلاثة بأسانيدهم، عن طلحة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:
" جرت السنة أن لا تؤخذ الجزية من المعتوه، ولا من المغلوب على عقله. " (2)
والسند موثوق به إلى طلحة، وقال الشيخ إن كتاب طلحة معتمد (3). وقال في الصحاح:
" المعتوه: الناقص العقل. " (4) وفي القاموس: " عته فهو معتوه: نقص عقله. " (5)
وفي الجواهر بعد نقل الخبر قال:
" ولعل المراد من المعتوه فيه ما عن المبسوط والنهاية والوسيلة والسرائر من
زيادة البله، وإن كان قد فسر هنا بمن لا عقل له، إلا أن المراد به كما صرح به آخر
ضعيف العقل، بل هو المراد مما في محكي الوسيلة من التعبير بالسفيه الذي هو في
العرف عبارة عن الأحمق لا السفه الشرعي الذي لا أجد خلافا في عدم سقوط
الجزية عنه لعموم الأدلة. " (6)

1 - الوسائل 11 / 47، الباب 18 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
2 - الوسائل 11 / 48 و 100، الباب 18 و 51 من أبواب جهاد العدو، الحديث 3 و 1.
3 - الفهرست للشيخ / 86 (= ط. أخرى / 112.
4 - صحاح اللغة 6 / 2239.
5 - القاموس / 853.
6 - الجواهر 21 / 237.
417

أقول: ويدل على إرادة ناقص العقل لا فاقده عطف المغلوب على عقله
عليه، ظاهره المغايرة، ولكن في النهاية: " هو المجنون المصاب بعقله " (1)، فتدبر.
3 - وفي المستدرك، عن الصدوق في الخصال بسنده، عن جابر الجعفي، قال:
سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: "... ولا جزية على النساء. " (2)
4 - وفي سنن البيهقي بسنده، عن أسلم مولى عمر: " أن عمر بن الخطاب كتب إلى
عماله أن لا يضربوا الجزية على النساء والصبيان ولا يضربوها إلا على من جرت
عليه المواسي ويختم في أعناقهم ويجعل جزيتهم على رؤوسهم. " (3)
وراجع البيهقي باب من يرفع عنه الجزية أيضا. (4) هذا.
5 - ولكن فيه أيضا بسنده، عن الحكم، قال: كتب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى معاذ بن جبل
باليمن على كل حالم أو حالمة دينارا أو قيمته، ولا يفتن يهودي عن يهوديته. قال
يحيى: ولم أسمع أن على النساء جزية إلا في هذا الحديث. (5)
6 - وفيه أيضا بسنده، عن ابن عباس أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كتب إلى معاذ بن جبل: أن من
أسلم من المسلمين فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم، ومن أقام على يهودية أو
نصرانية فعلى كل حالم دينارا أو عدله من المعافر، ذكرا أو أنثى، حرا أو مملوكا ". (6)
7 - وفيه أيضا بسنده، عن أبي زرعة بن سيف بن ذي يزن قال: كتب إلى
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كتابا هذا نسخته - فذكرها، وفيها -: " ومن يكن على يهوديته أو على
نصرانيته فإنه لا يفتن عنها وعليه الجزية على كل حالم ذكر أو أنثى حر أو عبد دينار
أو قيمته من

1 - النهاية لابن الأثير 3 / 181.
2 - مستدرك الوسائل 2 / 267، الباب 56 من أبواب جهاد العدو، الحديث 7.
3 - سنن البيهقي 9 / 195، كتاب الجزية، باب الزيادة على الدينار بالصلح.
4 - سنن البيهقي 9 / 198، كتاب الجزية.
5 - سنن البيهقي 9 / 194، كتاب الجزية، باب كم الجزية.
6 - سنن البيهقي 9 / 194، كتاب الجزية، باب كم الجزية.
418

المعافر. " قال: وهذه الرواية في رواتها من يجهل ولم يثبت بمثلها عند أهل العلم
حديث. (1)
8 - وفيه أيضا بسنده، عن ابن إسحاق، قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد
بن عمرو بن حزم، قال: هذا كتاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عندنا الذي كتبه لعمرو بن حزم
حين بعثه إلى اليمن - فذكره، وفي آخره -: "... ومن كان على نصرانية أو يهودية فإنه
لا يفتن عنها، وعلى كل حالم ذكر أو أنثى حر أو عبد دينار واف أو عرضه من
الثياب. " (2)
أقول: هذه الأخبار الأخيرة أعرض عنها فقهاء السنة أيضا وناقشوا في أسانيدها.
ويحتمل فيها النسخ أيضا.
وكيف كان فسقوط الجزية على النساء والصبيان والمجانين مما لا خلاف
فيه لا إشكال عند الفريقين.
نعم، هنا شيء ينبغي الإشارة إليه، وهو أن للإمام أن يزيد في جزية الرجل بلحاظ
أهله وعياله، حيث إن الحماية لهم تستدعي مؤونة زائدة على الدولة الإسلامية، ولكن
الجميع على عهدة المعيل لا العيال. واختيار الجزية كما وكيفا يكون بيد الإمام كما
يأتي، فوزان ذلك وزان زكاة الفطر، حيث إنها لا تجب على المرأة والصبي والعبد وإن
كانوا موسرين، ولكن تجب فطرتهم على الرجل إن كانوا تحت عيلولته، فتدبر.
وليعلم أيضا أنه لو كان في اختيار المرأة أو الصبي أو المجنون أرض خراج
فالظاهر أخذ الخراج منهم، إذ لا وجه لوقوع أرض المسلمين في أيديهم مجانا، وهذا
غير الجزية

1 - سنن البيهقي 9 / 194، كتاب الجزية، باب كم الجزية.
2 - سنن البيهقي 9 / 194، كتاب الجزية، باب كم الجزية.
419

التي ربما توضع على الأرض أيضا كما يأتي.
قال في دعائم الإسلام بعد ذكر الجزية على الرجال الأحرار البالغين:
" وعليهم مع ذلك الخراج في أرضهم لمن كانت في الأرض منهم من صغير أو كبير
أو امرأة أو رجل فالخراج عليها. ومن أسلم وضعت عنه الجزية ولم يوضع عنه
الخراج. " (1)
ب - حكم الجزية على المملوك:
وأما المملوك فقد مر بعض الكلمات فيه. وفي المنتهى قال:
" اختلف علماؤنا في إيجاب الجزية على المملوك. فالمشهور عدم وجوبها عليه،
ذهب إليه الشيخ وهو قول الجمهور كافة. وقال آخرون: لا تسقط عنهم الجزية.
احتج الشيخ بما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " لا جزية على العبد. " ولأن العبد
مال فلا يؤخذ عنه الجزية كغيره من الحيوان... " (2)
ومر عن أبي القاسم الخرقي قوله:
" ولا على سيد عبد عن عبده إذا كان السيد مسلما. " (3)
وفي المغني في شرح العبارة قال:
" لا خلاف في هذا نعلمه، لأنه يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " لا جزية على العبد "،
وعن ابن عمر مثله. ولأن ما لزم العبد إنما يؤديه سيده فيؤدي إيجابه على عبد المسلم
إلى إيجاب الجزية على مسلم. فأما إن كان العبد لكافر فالمنصوص عن أحمد أنه
لا جزية عليه أيضا، وهو قول عامة أهل العلم.
قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أنه لا جزية على العبد.

1 - دعائم الإسلام 1 / 381، كتاب الجهاد - ذكر الصلح والموادعة والجزية.
2 - المنتهى 2 / 965.
3 - المغني 10 / 586.
420

وذلك لما ذكر من الحديث، ولأنه محقون الدم فأشبه النساء والصبيان، أو لا مال له
فأشبه الفقير العاجز... " (1) هذا.
ولكن في الوسائل، عن الصدوق بإسناده، عن أبي الورد (أبي الدرداء خ. ل) أنه
سأل أبا جعفر (عليه السلام) عن مملوك نصراني لرجل مسلم، عليه جزية؟ قال: نعم. قال: فيؤدي
عنه مولاه المسلم الجزية؟ قال: " نعم، إنما هو ماله يفتديه إذا أخذ يؤدي عنه. "
وعنه بإسناده، عن الحسن بن محبوب، عن هشام بن سالم، عن أبي الورد مثله. (2)
وفي باب العتق من المقنع:
" وإن كان للرجل مملوك نصراني وعليه الجزية أدى مولاه الجزية فيه. " (3)
وفي المنتهى:
" قال ابن الجنيد: وفي كتاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لمعاذ وعمرو بن حزم أخذ الجزية من
العبد. ولأنه مشرك فلا يجوز أن يستوطن دار الإسلام بغير عوض كالحر. ولأن سيده
لو كان مشركا لم يمكن من الإقامة إلا بعقد الذمة، فالعبد أولى. ولأنه من أهل الجهاد
فلا يسقط عنه الجزية لأنها عوض حقن الدم وهو مباح الدم. " (4)
أقول: ما رووه من كتاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لمعاذ وعمرو بن حزم المشتملين على العبد
مشتملان على الأنثى أيضا، وقد مر إعراض الفريقين عن العمل بهما. وما ذكره من
كون العبد أولى لم يظهر لي وجه أولويته في ذلك.
وبالجملة فالمسألة ذات قولين فينا، والأخبار المحكية ضعيفة متعارضة. وإطلاق
الآية الشريفة وبعض الأخبار يقتضي الثبوت. وحيث إن موضوع البحث منتف في
عصرنا ندرج البحث فيها.

1 - المغني 10 / 586.
2 - الوسائل 11 / 97، الباب 49 من أبواب جهاد العدو، الحديث 6.
3 - الجوامع الفقهية / 38.
4 - المنتهى 2 / 965.
421

ج - حكم الشيخ الفاني المعبر عنه بالهم، وكذا المقعد والأعمى:
وأما الشيخ الفاني فقد مر عن الخلاف والمبسوط ثبوت الجزية عليه.
وفي الجواهر عن الإسكافي والنافع والقواعد السقوط عنه (1)، وبه أفتى الخرقي
أيضا كما مر. يظهر من الشرائع التوقف فيه.
وإطلاق الآية وبعض الأخبار ومنها خبر معاذ وإن اقتضى الثبوت، لكن مقتضى
رواية حفص التي مرت هو السقوط عنه.
ويؤيد ذلك ما رواه الشيخ بإسناده، عن الصفار، عن إبراهيم بن هاشم، عن
النوفلي، عن السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن آبائه (عليه السلام) أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " اقتلوا
المشركين، واستحيوا شيوخهم وصبيانهم. " (2) والسند كما ترى لا بأس به.
وإذا لم يقتل شيوخ المشركين فشيوخ أهل الكتاب أولى بذلك. وقد مر في رواية
حفص تعليل سقوط الجزية عن النساء بأنه لما لم يمكن قتلها رفعت الجزية عنها، هذا
التعليل جار في المقام أيضا.
وربما يفصل فيه بأنه إن كان ذا رأي وقتال أخذت منه، وإلا فلا، فيكون جواز أخذ
الجزية وعدمه تابعا لجواز قتله وعدمه.
قال في التذكرة:
" الشيخ من المحاربين إن كان ذا رأي وقتال جاز قتله إجماعا وكذا إن كان فيه
قتال ولا رأي له أو كان له رأي ولا قتال فيه، لأن دريد بن الصمة قتل يوم بدر (يوم
حنين - ظ.) وكان له مأة وخمسون سنة وكان له معرفة بالحرب وكان المشركون
يحملونه معهم في قفص حديد ليعرفهم كيفية القتال فقتله المسلمون ولم ينكر عليهم
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). وإن لم يكن له رأي ولا قتال لم يجز قتله عندنا، وبه قال أبو حنيفة

1 - الجواهر 21 / 237.
2 - الوسائل 11 / 48، الباب 18 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
422

والثوري ومالك والليث والأوزاعي وأبو ثور... " (1)
وهذا التفصيل قريب، والاحتياط حسن على كل حال. هذا.
ومقتضى خبر حفص سقوطها عن المقعد والأعمى أيضا. ونسب هذا إلى ابن
الجنيد منا، وبه قال الخرقي كما مر. ومر عن خراج أبي يوسف التفصيل فيهما بين من
له يسار وغيره. ولكن المشهور بيننا عدم السقوط.
قال العلامة في المختلف: " حفص بن غياث عامي فلا نعول على روايته خصوصا
مع معارضتها بعموم القرآن. " (2)
أقول: خبر حفص بهذا السند قد عمل به الأصحاب في الأبواب المختلفة، فرفع اليد
عنه مشكل، اللهم إلا أن يحرز إعراض الأصحاب عنه في مقام. نعم، يمكن أن يحمل
إطلاقه على ما هو الغالب في الأعمى والمقعد من الفقر الدائم، فلا يعم صورة
يسارهما.
وفي الجواهر اختار عدم السقوط وقال:
" لعموم الأدلة الذي لا يخصصه ما في الخبر المزبور بعد عدم الجابر له في ذلك، بعد
تأييده بأنها وضعت للصغار والإهانة المناسبين للكفر فيهما. " (3)
أقول: الظاهر أن الجزية لم توضع للإهانة، بل لأن إدارة المجتمع تتوقف قهرا على
أموال وضرائب. والجزية ضريبة أهل الكتاب. والمراد بقوله - تعالى -: " وهم
صاغرون " هو انقيادهم للحكم الإسلامي وتسليمهم له، كما يأتي بحثه.
د - حكم الفقير في هذا الباب:
وأما الفقير فقد مر عن الخلاف السقوط عنه وادعى عليه إجماع الفرقة. وعن

1 - التذكرة 1 / 412.
2 - المختلف 1 / 335.
3 - الجواهر 21 / 237.
423

المبسوط والشرائع ثبوتها عليه. ونسب في الخلاف إلى أبي حنيفة أيضا السقوط،
وبه قال الخرقي أيضا كما مر.
وفي المنتهى ما ملخصه:
" وفي سقوط الجزية عن الفقير منهم لعلمائنا قولان: أشهرهما أنها لا تسقط،
اختاره الشيخ، بل ينظر إلى وقت يساره، وبه قال المزني وهو أحد قولي الشافعي. قال
المفيد وابن الجنيد: لا جزية عليه، وهو القول الآخر للشافعي، وبه قال أحمد. لنا عموم
قوله - تعالى -: " حتى يعطوا الجزية ". يعني حتى يلزموا بالإعطاء، ولأنه كافر مكلف
فلا يعقد الذمة بغير عوض. ولقوله (عليه السلام) لمعاذ: " خذ من كل حالم دينارا " وهو عام، لأن
عليا (عليه السلام) وظف على الفقير دينارا. " (1)
أقول: إن أريد بالفقير الفقير الشرعي، أي من لا يملك مؤونة سنته، أو الفقير العرفي
وإن تمكن من أداء الجزية ولو تدريجا كأكثر أفراد المجتمع، فعموم الأدلة يشمله. وقد
كان الخلفاء وأمير المؤمنين (عليه السلام) يوظفون عليهم كما يأتي في رواية مصعب بن يزيد
الأنصاري. وإن أريد به من لا كسب له ولا مال أصلا فالحق هو السقوط. ويدل عليه
قوله - تعالى -: " لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها. " والشيخ في الخلاف لم يعبر بالفقير،
بل عبر بمن لا كسب له ولا مال، فموضوع بحثه في الخلاف يخالف موضوع بحثه في
المبسوط، فراجع.
ه‍ - حكم الرهبان وأصحاب الصوامع في هذا الباب:
وأما الرهبان وأصحاب الصوامع فقد مر عن الخلاف ثبوت الجزية عليهم، قال: في
أصحابنا من قال: لا تؤخذ منهم الجزية، وللشافعي فيه قولان. (2)

1 - المنتهى 2 / 963.
2 - راجع الخلاف 3 / 238، كتاب الجزية، المسألة 7.
424

أقول: إطلاق الآية الشريفة وعموم كل حالم في خبر معاذ يقتضيان الثبوت لا وجه
لاستثنائهم إلا إذا كانوا شيوخا هرمى أو فقراء وقلنا باستثنائهما، أو يقال بأن الجزية
تابعة لجواز القتل كما مر في النساء والشيوخ، والرهبان لا يقتلون لقوله - تعالى -:
" وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا. " (1) والراهب لا يقاتل، ولقول
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في خبر مسعدة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): " ولا تقتلوا وليدا لا متبتلا
في شاهق. " (2) وفي خبر ابن عباس عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا تقتلوا الولدان ولا أصحاب
الصوامع. " (3) هذا.
وفي المغني لابن قدامة:
" ولا جزية على أهل الصوامع من الرهبان، ويحتمل وجوبها عليهم، وهذا أحد
قولي الشافعي. وروي عن عمر بن عبد العزيز: أنه فرض على رهبان الديارات الجزية
على كل راهب دينارين. ووجه ذلك عموم النصوص، ولأنه كافر صحيح قادر على
أداء الجزية فأشبه الشماس. ووجه الأول أنهم محقونون بدون الجزية فلم تجب عليهم
كالنساء وقد ذكرنا أنه يحرم قتلهم والنصوص مخصوصة بالنساء وهؤلاء في معناهن،
ولأنه لا كسب له فأشبه الفقير غير المعتمل. " (4)
أقول: الشماس موظف دون القسيس، قالوا: أصلها سريانية بمعنى الخادم.
ولو قيل بأن إدارة المجتمع تتوقف على أموال وضرائب، والجزية ضريبة أهل
الكتاب، والرهبان أيضا يتمتعون من مزايا الدولة العادلة، ومن له الغنم فعليه الغرم
فللحاكم الإسلامي أن يضع عليهم الجزية إن قدروا عليها ورأى في ذلك مصلحة
لم يكن هذا بعيدا عن الصواب. والله - تعالى - أعلم.

1 - سورة البقرة (2)، الآية 190.
2 - الوسائل 11 / 43، الباب 15 من أبواب جهاد العدو، الحديث 3.
3 - سنن البيهقي 9 / 90، كتاب السير، باب ترك قتل من لا قتال فيه من الرهبان...
4 - المغني 10 / 587.
425

الجهة الثالثة:
في كمية الجزية:
1 - قال الشيخ في كتاب الجزية من الخلاف (المسألة 9):
" ليس للجزية حد محدود، بل ذلك موكول إلى اجتهاد الإمام يأخذ منهم بحسب
ما يراه أصلح وما يحتمل أحوالهم مما يكونون به صاغرين، وبه قال الثوري. وقال
الشافعي: إذا بذل الكافر دينارا في الجزية قبل منه موسرا كان أو معسرا أو
متوسطا. قال مالك: أقل الجزية أربعة دنانير على أهل الذهب وثمانية وأربعون درهما
على أهل الورق في جميع من ذكرناه. وقال أبو حنيفة: جزية المقل اثنا عشر درهما،
والمتوسط أربعة وعشرون درهما، والغني ثمانية وأربعون درهما.
دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم. ولأن تقدير ذلك بحد يحتاج إلى دليل شرعي ليس
في الشرع ما يدل عليه، والآية إنما أوجبت الجزية التي يكون بإعطائها صاغرا وذلك
يختلف الحال فيه. " (1)
2 - وفيه النهاية:
" وليس للجزية حد محدود ولا قدر موقت، بل يأخذ الإمام منهم على قدر ما يراه
من أحوالهم من الغنى والفقر بقدر ما يكونون به صاغرين. " (2)
3 - وفي المبسوط:
" وليس للجزية حد محدود ولا قدر مقدور، بل يضعها الإمام على أراضيهم أو على
رؤوسهم على قدر أحوالهم من الضعف والقوة بمقدار ما يكونون صاغرين به. " (3)

1 - الخلاف 3 / 239.
2 - النهاية / 193.
3 - المبسوط 2 / 38.
426

أقول: المترائي من كلمات الشيخ أن الغرض من وضع الجزية جعل الكافر صاغرا
به. والظاهر أنه اجتهاد منه، ولعله أخذ ذلك من الصحيحة الآتية، وسيأتي بيانها. وأما
الآية الشريفة فلا تدل على أزيد من كون الصغار حالا مقارنا لإعطائها، وظاهر ذلك
مقارنة إعطائها لانقيادهم للحكومة الإسلامية وتسليمهم لها.
4 - وفي الشرائع:
" الثاني في كمية الجزية، ولا حد لها، بل تقديرها إلى الإمام بحسب
الأصلح. ما قرره علي (عليه السلام) محمول على اقتضاء المصلحة في تلك الحال. ومع انتفاء
ما يقتضي التقدير يكون الأولى إطراحه تحقيقا للصغار. " (1)
أقول: والمراد بإطراحه عدم التقدير إلى وقت مطالبتها في آخر الحول فيقول لهم:
ادفعوا كذا وكذا.
5 - وفي الجواهر نسب عدم الحد لها إلى المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة ثم
قال:
" بل عن الغنية الإجماع، كما عن السرائر نسبته إلى أهل البيت (عليه السلام)، بل لم نعرف
القائل منا بتقديرهها في جانب القلة والكثرة وإن أرسله الفاضل وغيره. نعم، عن
الإسكافي تقديرها في جانب القلة بالدينار... " (2)
6 - وفي الأحكام السلطانية للماوردي:
" واختلف الفقهاء في قدر الجزية: فذهب أبو حنيفة إلى تصنيفهم ثلاثة أصناف:
أغنياء يؤخذ منهم ثمانية وأربعون درهما، وأوساط يؤخذ منهم أربعة وعشرون
درهما، وفقراء يؤخذ منهم اثنا عشر درهما، فجعلها مقدرة الأقل والأكثر ومنع من
اجتهاد الولاة فيها.
وقال مالك: لا يقدر أقلها ولا أكثرها، وهي موكولة لاجتهاد الولاة في الطرفين.

1 - الشرائع 1 / 328 (= ط. أخرى / 251).
2 - الجواهر 21 / 245.
427

وذهب الشافعي إلى أنها مقدرة الأقل بدينار لا يجوز الاقتصار على أقل منه، عنده
غير مقدرة الأكثر يرجع فيه إلى اجتهاد الولاة ويجتهد رأيه في التسوية بين جميعهم
أو التفضيل بحسب أحوالهم. " (1)
أقول: ما حكاه الماوردي عن مالك والشافعي يخالفان لما حكاه الشيخ عنهما في
الخلاف، فراجع مظان المسألة.
7 - وفي مختصر أبي القاسم الخرقي في فقه الحنابلة:
" والمأخوذ منهم الجزية على ثلاث طبقات: فيؤخذ من أدونهم اثنا عشر
درهما، من أوسطهم أربعة وعشرون درهما، ومن أيسرهم ثمانية وأربعون درهما. " (2)
ولكن روى أبو يعلى الفراء عن أحمد ثلاث روايات في هذه المسألة. (3) وراجع
المغني أيضا في هذه المسألة. (4)
وبالجملة فالمسألة واضحة عندنا وأن مقدارها موكول إلى اجتهاد الإمام كما كيفا
وقلة وكثرة.
ويدل على ذلك مضافا إلى الشهرة المحققة والإجماعات المنقولة ما رواه في
الوسائل بسند صحيح، عن زرارة، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما حد الجزية على أهل
الكتاب، وهل عليهم في ذلك شيء موظف لا ينبغي أن يجوز إلى غيره؟ فقال: " ذلك
إلى الإمام، يأخذ من كل إنسان منهم ما شاء على قدر ماله وما يطيق، إنما هم قوم فدوا
أنفسهم من أن يستعبدوا أو يقتلوا، فالجزية تؤخذ منهم على قدر ما يطيقون له أن
يأخذهم به حتى يسلموا، فإن الله قال: " حتى يعطوا الجزية عن يد وهم
صاغرون. " كيف يكون صاغرا وهو لا يكترث لما يؤخذ منه حتى لا يجد ذلا (ألما
خ. ل) لما أخذ منه فيألم لذلك فيسلم؟! " (5)

1 - الأحكام السلطانية / 144.
2 - المغني 10 / 574.
3 - الأحكام السلطانية / 155.
4 - المغني 10 / 574 وما بعدها.
5 - الوسائل 11 / 113، الباب 68 من أبواب الجهاد العدو، الحديث 1.
428

ورواه في المستدرك أيضا، عن تفسير العياشي، عن زرارة. (1)
أقول: دلالة الصحيحة على المقصود واضحة، وتدل أيضا على أن الجزية عوض
عن الكف عنهم. ولكن المستفاد من آخرها كون الغرض من أخذ الجزية إذ
لا لهم إيلامهم حتى يسلموا، ولكن الالتزام بذلك مشكل. وأي إيلام في إعطاء دينار
أو دينارين في ظرف السنة مع وقوعهم تحت حماية الدولة الإسلامية واستفادتهم من
مزاياها؟ والدولة لا محيص لها عن أخذ مال وضريبة، فتدبر.
ويستدل للقائل بالتقدير شرعا بما أمر به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) في
هذا الباب:
1 - ففي سنن البيهقي بسنده، عن معاذ بن جبل: " أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعثه إلى اليمين
وأمره أن يأخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعا، ومن كل أربعين بقرة مسنة، ومن كل
حالم دينارا أو عدله ثوب معافر. " (2)
2 - وفيه أيضا بسنده، عن عمر بن عبد العزيز: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كتب إلى أهل اليمن:
" أن على كل إنسان منكم دينارا كل سنة أو قيمته من المعافر. " يعني أهل الذمة
منهم. (3)
وروي هذا الكتاب منه (صلى الله عليه وآله وسلم) بطرق وألفاظ مختلفة كلها تشتمل على هذا
المضمون، فراجع البيهقي وغيره.
وفيما كتبه (صلى الله عليه وآله وسلم) لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن أيضا ذكر هذا المضمون،
فراجع البيهقي. (4)

1 - مستدرك الوسائل 2 / 267، الباب 56 من أبواب جهاد العدو، الحديث 6.
2 - سنن البيهقي 9 / 193، كتاب الجزية، باب كم الجزية.
3 - سنن البيهقي 9 / 193، كتاب الجزية، باب كم الجزية.
4 - سنن البيهقي 9 / 193، كتاب الجزية، باب كم الجزية.
429

3 - وفيه أيضا بسنده، عن أبي الحويرث، قال: " ضرب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على
نصارى بمكة دينارا لكل سنة. " (1)
4 - وفيه أيضا بسنده، عن أبي الحويرث: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ضرب على نصراني بمكة
يقال له موهب دينارا كل سنة. وأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ضرب على نصارى أيلة ثلاثمأة دينار
كل سنة. الحديث.
قال: وأخبرنا إبراهيم، أنبأ إسحاق بن عبد الله أنهم كانوا ثلاثمأة فضرب عليهم
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يؤمئذ ثلاثمأة دينار كل سنة. (2)
5 - وفيه أيضا بسنده، عن ابن عباس، قال: صالح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أهل نجران على
ألفي حلة: النصف في صفر والنصف في رجب يؤدونها إلى المسلمين، وعارية ثلاثين
درعا وثلاثين فرسا وثلاثين بعيرا وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يغزون
بها، المسلمون ضامنون لها حتى يردوها عليهم إن كان باليمن كيد.
قال الشافعي: وقد سمعت بعض أهل العلم من المسلمين ومن أهل الذمة من أهل
نجران يذكر أن قيمة ما أخذ من كل واحد أكثر من دينار. (3)
أقول: استدل الشافعي بهذا السنخ من الأخبار على وجوب أن لا تكون الجزية في
كل سنة أقل من دينار واحد:
قال في الأم في باب كم الجزية:
" وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المبين عن الله - عز وجل - معنى ما أراد; فأخذ
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جزية أهل اليمن دينارا في كل سنة أو قيمته من المعافري وهي
الثياب. وكذلك روي أنه أخذ من أهل أيلة ومن نصارى مكة دينارا عن كل
إنسان. أخذ الجزية من أهل نجران فيها كسوة، ولا أدري ما غاية ما أخذ منهم. وقد

1 - سنن البيهقي 9 / 195، كتاب الجزية، باب كم الجزية.
2 - سنن البيهقي 9 / 195، كتاب الجزية، باب كم الجزية.
3 - سنن البيهقي 9 / 195، كتاب الجزية، باب كم الجزية.
430

سمعت بعض أهل العلم من المسلمين ومن أهل الذمة من أهل نجران يذكر أن قيمة
ما أخذ من كل واحد أكثر من دينار. وأخذها من أكيدر ومن مجوس البحرين لا أدري
كم غاية ما أخذ منهم، ولم أعلم أحدا قط حكى عنه أنه أخذ من أحد أقل من
دينار. " (1) هذا.
6 - وفي الوسائل بسنده، عن مصعب بن يزيد الأنصاري، قال: استعملني
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) على أربعة رساتيق المدائن: البهقباذات ونهر سير
(شير خ. ل) (بهر سير - فتوح البلدان.) ونهر جوير ونهر الملك، وأمرني أن أضع على
كل جريب زرع غليظ درهما ونصفا، وعلى كل جريب وسط درهما، وعلى كل
جريب زرع رقيق ثلثي درهم، وعلى كل جريب كرم عشرة دراهم، وعلى كل جريب
نخل عشرة دراهم، وعلى كل جريب البساتين التي تجمع النخل والشجر عشرة
دراهم. وأمرني أن ألقى كل نخل شاذ عن القرى لمارة الطريق وابن السبيل ولا آخذ
منه شيئا. وأمرني أن أضع على الدهاقين الذين يركبون البراذين ويتختمون بالذهب
على كل رجل منهم ثمانية وأربعين درهما، وعلى أوساطهم والتجار منهم على كل
رجل منهم أربعة وعشرين درهما، وعلى سفلتهم وفقرائهم اثني عشر درهما على كل
إنسان منهم. قال: فجبيتها ثمانية عشر ألف ألف درهم في سنة. " (2) وروى نحوه
البلاذري في فتوح البلدان. (3)
قال في الوسائل:
" حمله الشيخ على أنه رأى المصلحة في ذلك، ويجوز أن تتغير المصلحة إلى
زيادة أو نقصان بحسب ما يراه الإمام، وكذا ذكر المفيد وغيرهما. "
7 - وفيه أيضا، عن المفيد في المقنعة، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " أنه جعل على أغنيائهم
ثمانية وأربعين درهما، وعلى أوساطهم أربعة وعشرين درهما، وجعل على فقرائهم اثني
عشر درهما. " وكذلك صنع عمر بن الخطاب قبله وإنما صنعه بمشورته (عليه السلام). (4)

1 - الأم 4 / 101.
2 - الوسائل 11 / 115، الباب 68 من أبواب جهاد العدو، الحديث 5.
3 - فتوح البلدان / 270.
4 - الوسائل 11 / 116، الباب 68 من أبواب جهاد العدو، الحديث 8.
431

أقول: وكيف كان فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) في عصرهما في موارد
خاصة بضرب مقدار معين لا ظهور له في تعين ذلك في جميع الأعصار وجميع
البلدان، بداهة أن هذا السنخ من الأمور ليست تابعة للتعبد المحض، بل يلاحظ فيها
مصالح المسلمين والدولة الإسلامية، وقد دلت صحيحة زرارة على كونها عوضا عن
قتل الشخص أو استعباده، فلا تتقدر بقدر خاص كالأجرة. ولا يرفع اليد عن الصحيحة
التي عمل بها الأصحاب وأيدها الإجماع المنقول والشهرة المحققة بهذه الأخبار
الحاكية للفعل في موارد خاصة، فتدبر.
432

الجهة الرابعة:
في اختيار الإمام أو من نصبه بين أن يضع الجزية على الرؤوس أو الأراضي أو
كليهما:
1 - قال الشيخ في كتاب الجزية من الخلاف (المسألة 17):
" يجوز للإمام أن يصالح قوما على أن يضرب الجزية على أرضهم بحسب ما يراه،
وإذا أسلموا سقط ذلك عنهم وصارت الأرض عشرية، وبه قال الشافعي إلا أنه قيد
ذلك بأن يضع عليها بأقل ما يكون من الجزية فصاعدا.
وقال أبو حنيفة: لا يجوز الاقتصار على هذا حتى ينضم إليه ضرب الجزية على
الرؤوس. ومتى أسلموا لا تسقط عنهم بل تكون الأرض خراجية على ما وضع عليها.
دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم. " (1)
2 - وفي النهاية:
" وكل من وجبت عليه الجزية فالإمام مخير بين أن يضعها على رؤوسهم أو على
أرضيهم، فإن وضعها على رؤوسهم فليس له أن يأخذ من أرضيهم شيئا. وإن وضعها
على أرضيهم فليس له أن يأخذ من رؤوسهم شيئا. " (2)
أقول: الظاهر أن مراده أنه لو جعلت على الرؤوس فقط أو على الأرضين فقط في
عقد الذمة فلا يجوز التخلف عن العقد، لا أنه لا يجوز الوضع عليهما في بادي
الأمر، من أقسام المنفصلة ما يراد بها منع الخلو فقط فلا تنافي جواز الجمع.
3 - وقد مر عن المبسوط قوله:
" وليس للجزية حد محدود ولا قدر مقدور، بل يضعها الإمام على أراضيهم أو على

1 - الخلاف 3 / 241.
2 - النهاية / 193.
433

رؤوسهم على قدر أحوالهم من الضعف أو القوة بمقدار ما يكونون صاغرين به. " (1)
4 - وفي الشرائع:
" ويجوز وضعها على الرؤوس أو على الأرض. ولا يجمع بينهما. وقيل بجوازه
ابتداء، وهو الأشبه. " (2)
5 - وفي الجواهر في ذيل الجملة الأولى قال:
" بلا خلاف أجده فيه، بل ولا إشكال بعد الأصل والعمومات كتابا وسنة، خصوص
النصوص المتضمنة لإثبات كل منهما... " (3)
وفي ذيل قول المحقق: " وهو الأشبه " قال:
" بأصول المذهب وقواعده التي منها ما سمعته من عدم موظف للجزية، وأن
تقديرها إلى الإمام (عليه السلام) كما وكيفا هو مقتضى الأصل وغيره، بل هو المناسب للصغار لما
دل على مشروعية العقود بالتراضي ولغير ذلك. " (4)
أقول: ويدل على جواز ضرب الجزية على الأرض إجمالا مضافا إلى الإجماع
المدعى في الخلاف والعمومات من الكتاب والسنة:
1 - صحيحة محمد بن مسلم، قال: سألته عن أهل الذمة ماذا عليهم مما يحقنون به
دماءهم وأموالهم؟ قال: " الخراج وإن أخذ من رؤوسهم الجزية فلا سبيل على أرضهم،
وإن أخذ من أرضهم فلا سبيل على رؤوسهم. " (5)
ومرجع الضمير بقرينة ما قبله في الكافي هو أبو عبد الله (عليه السلام)، مضافا إلى أن مثل
محمد بن مسلم الفقيه لا يروي عن غير الإمام (عليه السلام).
والمنساق منها بدوا وإن كان عدم جواز الجمع، ولكن لما كانت الجزية إنما تثبت
بتبع عقد الذمة فلعل المراد أنه بعد ما وقع العقد على أحدهما فلا يجوز التخلف

1 - المبسوط 2 / 38.
2 - الشرائع 1 / 328 (= ط. أخرى / 251).
3 - الجواهر 21 / 249.
ل 11 / 114، الباب 68 من أبواب جهاد العدو، الحديث 3.
4 - الجواهر 21 / 249.
5 - الوسائل 11 / 114، الباب 68 من أبواب جهاد العدو، الحديث 3.
434

عنه بالأخذ من الآخر، فلا ينافي هذا جواز الجمع بينهما ابتداء في متن العقد.
والأخذ يراد به الوضع في متن العقد لا الأخذ خارجا، نظير الإعطاء في قوله - تعالى -
" حتى يعطوا الجزية "، أي يقبلوا إعطاءها.
2 - الصحيحة الأخرى له، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أرأيت ما يأخذ هؤلاء من
هذا الخمس من أرض الجزية ويأخذ من الدهاقين جزية رؤوسهم أما عليهم في ذلك
شيء موظف؟ فقال: " كان عليهم ما أجازوا على أنفسهم، وليس للإمام أكثر من
الجزية، إن شاء الإمام وضع ذلك على رؤوسهم وليس على أموالهم شيء، وإن شاء
فعلى أموالهم وليس على رؤوسهم شيء. " فقلت: فهذا الخمس؟ فقال: " إنما هذا شيء
كان صالحهم عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). " (1)
أقول: الظاهر أن المراد بالخمس الذي كان يؤخذ من أرض الجزية في عصر
الإمام الصادق (عليه السلام) هي الصدقة المضاعفة التي كانت توضع على بعض القبائل عوضا
عن جزية الرؤوس. ويظهر من الحديث أن هذا كان ثابتا من عصر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
بالمصالحة معه، وانسباق نفي الجمع من الحديث بدوا قد مر الجواب عنه وأن المراد
عدم جواز التخلف عما عقد عليه لا عدم جواز الجمع بينهما في متن العقد. بل
المستفاد من قوله (عليه السلام): " عليهم ما أجازوا على أنفسهم " وقوله: " هذا شيء كان
صالحهم عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، " هو صحة العقد معهم عليهما معا أيضا
باختيارهم رضاهم، إذ بعد ما لم يكن لها حد في ناحية الكثرة كما مر وأن اختيارها
إلى الإمام فأي فرق بين أن يضع القدر المختار على الأراضي أو على الرؤوس أو
يوزعه عليهما؟ والمستفاد من خبر مصعب بن يزيد السابق أيضا جواز الجمع، إذ
لم يقيد أمير المؤمنين (عليه السلام) فيمن أمر بوضع الجزية على رؤوسهم بأقسامه أن لا يكون
في أيديهم أرض الجزية، وقد تعرض في الحديث لخراج الأراضي وجزية الرؤوس
معا، فتأمل.

1 - الوسائل 11 / 114، الباب 68 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
435

3 - وعن الصدوق، قال: قال الرضا (عليه السلام): " إن بني تغلب أنفوا من الجزية وسألوا عمر
أن يعفيهم، فخشي أن يلحقوا بالروم فصالحهم على أن صرف ذلك عن
رؤوسهم ضاعف عليهم الصدقة، فعليهم ما صالحوا عليه ورضوا به إلى أن يظهر
الحق. " (1)
وظاهر هذا الخبر أيضا أن الملاك في عصر الهدنة والتقية، هو ما صالحوا
عليه رضوا به، فليس فيه موظف خاص. نعم، يترائى من الحديث أن هذا الحكم
ثانوي موسمي لا أولي دائم، فتدبر.
والعلامة في المنتهى قوى جواز الجمع فقال:
" ويتخير الإمام في وضع الجزية إن شاء على رؤوسهم وإن شاء على أرضيهم. هل
يجوز له أن يجمع بينهما فيأخذ منهم عن رؤوسهم شيئا وعن أرضهم شيئا؟ قال
الشيخان وابن إدريس: لا يجوز ذلك، بل له أن يأخذ من أيهما شاء.
وقال أبو الصلاح: يجوز الجمع بينهما، وهو الأقوى عندي.
لنا أن الجزية غير مقدرة في طرفي الزيادة والنقصان على ما تقدم، بل هي موكولة
إلى نظر الإمام، فجاز له أن يأخذ من أرضيهم ورؤوسهم كما يجوز له أن يضعف
الجزية التي على رؤوسهم في الحول الثاني، ولأن ذلك أنسب بالصغار. " (2)
ولكنه قرب في جهاد المختلف خلاف ذلك وإن رجع عنه في آخر كلامه فقال فيه:
" وهل له الجمع؟ قال الشيخ في النهاية: لا، وبه قال ابن حمزة وابن إدريس. جوز
ابن الجنيد الجمع، وهو اختيار أبي الصلاح. والأقرب الأول.
لنا ما رواه ابن بابويه في الصحيح عن محمد بن مسلم... احتج الآخرون بأن
الجزية لا حد لها، فجاز أن يضع قسطا على رؤوسهم وقسطا على أرضهم.
والجواب ليس النزاع في تقسيط الجزية على الرأس والأرض بل وضع جزيتين
عليهما، وبالجملة فلا بأس بهذا القول. " (3)

1 - الوسائل 11 / 116، الباب 68 من أبواب جهاد العدو، الحديث 6.
2 - المنتهى 2 / 966.
3 - المختلف 1 / 334.
436

أقول: عبارة النهاية قد مرت، وليس فيها تصريح بعدم جواز الجمع ابتداء كما
مر، في المقنعة لم يفت بشيء وإنما اقتنع بذكر الأخبار التي مرت. (1) وصحيحة محمد
بن مسلم مر بيانها.
وقال في الجواهر ما محصله:
" أن عقد الذمة شيء وتقدير الجزية أمر آخر، ضرورة أن عقد الذمة عبارة عن
العهد لهم بالأمان وسكنى أراضي المسلمين بالجزية التي يبقى تقديرها إلى الإمام في
كل سنة على حسب ما يراه من المصلحة كما وكيفا وله في الابتداء تقديرها على
رؤوسهم أو على أراضيهم أو غير ذلك أو على الجميع. وظاهر المختلف المفروغية من
جواز تقسيط الجزية عليهما وأن النزاع في الجزيتين، ولكنه كلام مجمل، إذ من
المعلوم عدم مدخلية النية في ذلك، فإن شئت سميتها تقسيطا وإن شئت سميتها
جزيتين، على معنى إيقاع العقد عليهما ابتداء بالرضا من الإمام ومنهم. نعم، من
المعلوم عدم مشروعية جزية أخرى بعد عقدها على أحدهما فإن التعدي عما اقتضاه
العقد غير جائز إجماعا ويكون أكلا للمال بالباطل. " (2)
أقول: الظاهر صحة ما ذكر في الجواهر ويظهر وجهه مما مر، فتدبر.
والظاهر عدم الخصوصية للأرض، فيجوز وضعها على الأنعام والسيارات نحوها
من الممتلكات، لما مر من العمومات والإطلاقات.

1 - المقنعة / 44.
2 - الجواهر 21 / 250 وما بعدها.
437

الجهة الخامسة:
في جواز مضاعفة الصدقة عليهم جزية:
قد مر سابقا أن في ثبوت الجزية على أهل الكتاب لا فرق عندنا بين العرب
منهم العجم.
ومر آنفا أنه لا يتعين وضعها على الرؤوس فيجوز وضعها على الأراضي أو على
كليهما حسب ما يراه الإمام من المصلحة.
إذا عرفت هذا فنقول: من الممكن أن يكون ذلك بمضاعفة الصدقة عليهم فتكون
هذه جزية لا صدقة، وعلى هذا يحمل ما مر عن الرضا (عليه السلام) من مضاعفة عمر الصدقة
على بني تغلب.
بل وعليه يحمل أيضا الخمس الذي كان يؤخذ من أرض الجزية على ما في
صحيحة محمد بن مسلم السابقة. وهذا تابع للمصلحة التي يراها الإمام بحسب الزمان
والمكان والظروف والشرائط، فلا يكون حكما دائما لا يجوز التخلف عنه كما قد
يتوهم خلافا لأكثر فقهاء السنة:
قال العلامة في التذكرة:
" مسألة: بنو تغلب بن وائل من العرب من ربيعة بن نزار انتقلوا في الجاهلية إلى
النصرانية، وانتقل أيضا من العرب قبيلتان أخريان وهم تنوخ وبهراء، فصارت القبائل
الثلاثة من أهل الكتاب تؤخذ منهم الجزية كافة كما تؤخذ من غيرهم، وبه قال
علي (عليه السلام) وعمر بن عبد العزيز لأنهم أهل كتاب فيدخلون تحت عموم الأمر بأخذ
الجزية من أهل الكتاب.
وقال أبو حنيفة: لا تؤخذ منهم الجزية، بل تؤخذ منهم الصدقة مضاعفة فيؤخذ من
كل خمس من الإبل شاتان، ويؤخذ من كل عشرين دينارا دينار، ومن كل مأتي
438

درهم عشرة دراهم، ومن كل ما يجب فيه نصف العشر العشر، وما يجب فيه العشر
الخمس، وبه قال الشافعي وابن أبي ليلى والحسن بن صالح بن حي وأحمد بن حنبل،
لأن عمر ضعف الصدقة عليهم.
وهي حكاية حال لا عموم لها، فجاز أن تكون المصلحة للمسلمين في كف أذاهم
بذلك، ولأنه كان يأخذ جزية لا صدقة وزكاة، ولأنه يؤدي إلى أن يأخذ أقل من دينار
بأن تكون صدقته أقل من ذلك، ولأنه يلزم أن يقيم بعض أهل الكتاب في بلد الإسلام
مؤبدا بغير عوض بأن لا يكون له زرع ولا ماشية.
وروى العامة عن علي (عليه السلام) أنه قال: " لئن تفرغت لبني تغلب ليكونن لي فيهم رأي:
لأقتلن مقاتلهم ولأسبين ذراريهم، فقد نقضوا العهد وبرئت منهم الذمة حين نصروا
أولادهم. " (1) وذكر نحو ذلك في المنتهى. (2)
وفي مختصر الخرقي في فقه الحنابلة:
" ولا تؤخذ الجزية من نصارى بني تغلب، وتؤخذ الزكاة من أموالهم
ومواشيهم ثمرهم مثلي ما يؤخذ من المسلمين. "
وقال في المغني في شرح العبارة:
" بنو تغلب بن وائل من العرب من ربيعة بن نزار انتقلوا في الجاهلية إلى النصرانية،
فدعاهم عمر إلى بذل الجزية فأبوا وأنفوا وقالوا: نحن عرب، خذ منا كما يأخذ بعضكم
من بعض باسم الصدقة، فقال عمر: لا آخذ من مشرك صدقة، فلحق بعضهم بالروم فقال
النعمان بن زرعة: يا أمير المؤمنين، إن القوم لهم بأس وشدة وهم عرب يأنفون من الجزية
فلا تعن عليك عدوك بهم وخذ منهم الجزية باسم الصدقة، فبعث عمر في طلبهم فردهم
وضعف عليهم من الإبل من كل خمس شاتين، ومن كل ثلاثين بقرة تبيعين، ومن كل
عشرين دينارا دينارا، ومن كل مأتي درهم عشرة دراهم. وفيما سقت السماء الخمس،
وفيما سقي بنضح أو غرب أو دولاب العشر، فاستقر ذلك من قول عمر ولم يخالفه أحد
من الصحابة فصار إجماعا، وقال

1 - التذكرة 1 / 439.
2 - المنتهى 2 / 962.
439

به الفقهاء بعد الصحابة منهم ابن أبي ليلى والحسن بن صالح وأبو حنيفة وأبو يوسف
والشافعي. ويروى عن عمر بن عبد العزيز أنه أبى على نصارى بني تغلب إلا الجزية،
وقال: لا والله إلا الجزية، وإلا فقد آذنتكم بالحرب، والحجة لهذا عموم الآية فيهم. وروي
عن علي (عليه السلام) أنه قال: " لئن تفرغت لبني تغلب ليكونن لي فيهم رأي: لأقتلن مقاتلتهم
ولأسبين ذراريهم، فقد نقضوا العهد وبرئت منهم الذمة حين نصروا أولادهم. " وذلك أن
عمر صالحهم على أن لا ينصروا أولادهم. والعمل على الأول لما ذكرنا من الإجماع.
وأما الآية فإن هذا المأخوذ منهم جزية باسم الصدقة، فإن الجزية يجوز أخذها من
العروض. " (1)
أقول: الحديث الذي رواه العلامة وابن قدامة عن علي (عليه السلام) رواه عنه أبو عبيد في
كتاب الأموال، فراجع. (2)
وملخص ما ذكره ابن قدامة أنه يتعين العمل بما صنعه عمر من تضعيف الصدقة
على بعض قبائل العرب، وتكون جزية لا صدقة، وظاهر العلامة على ما مر إفتاء
الفقهاء بذلك صدقة وزكاة. ونحن نقول بجواز ذلك إذا رآه الإمام مصلحة ولكنه
لا دليل على تعينه. ومجرد عمل عمر في عصره في طوائف خاصة ليس حجة شرعية
يؤخذ بها في جميع الأعصار.
وكيف كان فهي جزية كما ذكر لا صدقة، وبه قال الشافعي أيضا، فلا تؤخذ من
النساء والصبيان والمجانين ونحوهم ممن تسقط عنهم الجزية، ومصرفها أيضا مصرف
الجزية.
قال الماوردي في الأحكام السلطانية:
" فإن صولحوا على مضاعفة الصدقة عليهم ضوعفت، كما ضاعف عمر بن الخطاب
مع تنوخ وبهراء وبني تغلب بالشام. ولا تؤخذ من النساء والصبيان، لأنها جزية
تصرف في أهل الفيء فخالفت الزكاة المأخوذة من النساء والصبيان، فإن جمع بينها

1 - المغني 10 / 590.
2 - الأموال / 37.
440

وبين الجزية أخذتا معا، وإن اقتصر عليها وحدها كانت جزية إذا لم تنقص في
السنة عن دينار. " (1) والماوردي شافعي المذهب.
وبالجملة، فأمر الجزية كما وكيفا إلى إمام المسلمين، من غير فرق بين
العرب العجم وبني تغلب وغيرهم. ولا يتعين ما صنعه عمر في عصره.
نعم، قد مر منا في بحث الخمس أن الذمي إذا اشترى من مسلم أرضا عشرية
ضوعف عليه العشر فأخذ منه الخمس، وعلى هذا حملنا حكم الخمس المذكور في
صحيحة أبي عبيدة الحذاء، خلافا للمشهور بين أصحابنا من حملها على خمس رقبة
الأرض التي اشتراها الذمي من مسلم، فراجع تلك المسألة.
والظاهر أن هذا الخمس غير الجزية التي تؤخذ من كل ذمي، بل هو في الحقيقة غرامة
اشترائه لأرض عشرية. وعلى هذا فيؤخذ هذا الخمس من النساء أيضا بل الصبيان إن
قيل بتعلق الزكاة بهم. ومصرفه أيضا مصرف الزكاة. ويحتمل بعيدا أن يكون هذا الخمس
أيضا من قبيل الجزية، فيترتب عليه أحكامها. والمسألة تحتاج إلى دقة أكثر.

1 - الأحكام السلطانية / 144.
441

الجهة السادسة:
في جواز اشتراط الضيافة على أهل الذمة:
1 - قال في المبسوط:
" يجوز أن يشرط عليهم ضيافة من مر بهم من المسلمين مجاهدين وغير
مجاهدين، لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ضرب على نصارى أيلة ثلاثمأة دينار وأن يضيفوا من مر
بهم من المسلمين ثلاثا ولا يغشوا.
فإذا ثبت ذلك احتاج إلى شرطين: أحدهما: أن يكون ذلك زائدا على أقل ما يجب
عليهم من الجزية...
والشرط الثاني أن يكون معلوما لأنه لا يصح العقد على مجهول، ويصير معلوما
بأن يكون عدد أيام الضيافة من الحول معلومة... ويكون عدد من يضاف معلوما...
ويكون القوت معلوما ولكل رجل كذا وكذا رطلا من الخبز وكذا من الأدم من لحم
وجبن وسمن وزيت وشيرج ويكون مبلغ الأدم معلوما، ويكون علف الدواب
معلوما... ومبلغ الضيافة ثلاثة أيام، لما تضمنه الخبر وما زاد عليه فهو مكروه. فأما
موضع النزول فينبغي أن يكون في فضول منازلهم وبيعهم وكنائسهم... " (1)
2 - وفي الشرائع:
" ويجوز أن يشترط عليهم مضافا إلى الجزية ضيافة مارة العساكر، ويحتاج أن
تكون الضيافة معلومة، ولو اقتصر على الشرط وجب أن يكون زائدا عن أقل مراتب
الجزية. " (2)
3 - وفي المسالك:
" وكما يجوز اشتراط ضيافة مارة العساكر يجوز اشتراط ضيافة مطلق المارة من

1 - المبسوط 2 / 38.
2 - الشرائع 1 / 329 (= ط. أخرى / 251).
442

المسلمين، بل هذا هو المشهور في الأخبار والفتاوى وهو الذي شرطه
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). " (1)
4 - وفي التذكرة:
" يجوز أن يشترط عليهم في عقد الذمة ضيافة من يمر بهم من المسلمين إجماعا
بل يستحب، لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ضرب على نصارى أيلة ثلاثمأة دينار - وكانوا ثلاثمأة
نفر - في كل سنة، وأن يضيفوا من يمر بهم من المسلمين ثلاثة أيام ولا يغشوا
مسلما. شرط على نصارى نجران إقراء رسله عشرين ليلة فما دونها وعارية ثلاثين
فرسا وثلاثين بعيرا وثلاثين درعا مضمونة إذا كان حدث باليمن. ولأن الحاجة تدعو
إليه، وربما امتنعوا من مبايعة المسلمين معاندة وإضرارا.
ولو لم يشترط الضيافة لم تكن واجبة، وبه قال الشافعي، للأصل ولأن أصل
الجزية إنما تثبت بالتراضي فالضيافة أولى.
وقال بعض العامة: تجب بغير شرط. وتجوز لجميع الطارقين ولا تختص بأهل
الفيء خلافا لبعض الشافعية أنه لا يجوز لغير المجاهدين... " (2)
وذكر نحو ذلك في المنتهى أيضا، فراجع. (3)
أقول: ويدل على المسألة - مضافا إلى عمومات العقود والشروط وأن تقدير
الجزية كما وكيفا إلى الإمام كما مر، والضيافة جزء منها - أخبار كثيرة حاكية عن عمل
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والخلفاء بعده بلا ردع واعتراض من الصحابة:
1 - ففي سنن البيهقي بسنده، عن أبي الحويرث: " أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ضرب على
نصارى أيلة ثلاثمأة دينار كل سنة، وأن يضيفوا من مر بهم من المسلمين ثلاثا وأن
لا يغشوا مسلما. " (4)

1 - المسالك 1 / 158.
2 - التذكرة 1 / 441.
3 - المنتهى 2 / 966.
4 - سنن البيهقي 9 / 195، كتاب الجزية، باب كم الجزية.
443

2 - وفيه أيضا بسنده، عن عقبة بن عامر، قال: قلنا: يا رسول الله، إنك تبعثنا فننزل
بقوم فلا يقروننا فما ترى؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي
للضيف فاقبلوا، فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم. " رواه
البخاري ومسلم. (1)
3 - وفيه أيضا بسنده، عن أبي كريمة، سمع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " ليلة الضيف حق على
كل مسلم. من أصبح الضيف بفنائه فهو عليه حق، أو قال: دين، إن شاء اقتضاه وإن
شاء تركه. " (2)
أقول: وظاهر هاتين الروايتين ثبوت حق النزول والضيافة حتى على
المسلمين، حتى مع عدم الاشتراط، بحيث يجوز إجبار الشخص عليه، ولكن الالتزام
بذلك مشكل ولا سيما بالنسبة إلى المسلم.
4 - وفيه أيضا بسنده، عن أبي سعيد: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " حق الضيافة ثلاثة أيام،
فما زاد على ذلك فهو صدقة. " وروى نحو ذلك بسنده، عن أبي هريرة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)
أيضا. (3)
5 - وفي قرب الإسناد، عن مسعدة بن زياد، عن جعفر، عن أبيه: " أن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر بالنزول على أهل الذمة ثلاثة أيام. " (4)
6 - وفيه أيضا، عن أبي البختري، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: " ينزل
المسلمون على أهل الذمة في أسفارهم وحاجاتهم، ولا ينزل المسلم على المسلم إلا
بإذنه. " (5)

1 - سنن البيهقي 9 / 197، كتاب الجزية، باب ما جاء في ضيافة من نزل به.
2 - سنن البيهقي 9 / 197، كتاب الجزية، باب ما جاء في ضيافة من نزل به.
3 - سنن البيهقي 9 / 197، كتاب الجزية، باب ما جاء في الضيافة ثلاثة.
4 - قرب الإسناد / 39.
5 - قرب الإسناد / 62.
444

7 - وفي البيهقي أيضا بسنده، عن أسلم: " أن عمر بن الخطاب ضرب الجزية على
أهل الذهب أربعة دنانير، وعلى أهل الورق أربعين درهما، ومع ذلك أرزاق المسلمين
وضيافة ثلاثة أيام. " (1)
8 - وفيه أيضا بسنده، عن الأحنف بن قيس: " أن عمر بن الخطاب كان يشترط
على أهل الذمة ضيافة يوم وليلة وأن يصلحوا قناطر، وإن قتل بينهم قتيل فعليهم
ديته. " (2)
أقول: والأخبار في هذا المجال كثيرة، ويظهر من بعضها أنه ربما كان يشرط
الزيت والعسل ونحوهما.
ولا يخفى أن مثل الضيافة والتصرف في مثل الزيت والعسل ونحوهما يوجب
غالبا المس بالأيادي، فلأحد أن يستشهد بهذه الأخبار أيضا على أن طهارة أهل
الكتاب ذاتا كانت مفروغا عنها عند المسلمين، فتأمل.
وفي الأحكام السلطانية للماوردي:
" وإذا صولحوا على ضيافة من مر بهم من المسلمين قدرت عليهم ثلاثة أيام أخذوا
بها لا يزادون عليها، كما صالح عمر نصارى الشام على ضيافة من مر بهم من
المسلمين ثلاثة أيام مما يأكلون، ولا يكلفهم ذبح شاة ولا دجاجة، وتبييت دوابهم من
غير شعير. وجعل ذلك على أهل السواد دون المدن. فإن لم يشترط عليهم الضيافة و
مضاعفة الصدقة فلا صدقة عليهم في زرع ولا ثمر، ولا يلزمهم إضافة
سائل لا سابل. " (3)
أقول: وللمسألة فروع كثيرة أدرجناها، فمن شاء فليراجع مظانها.

1 - سنن البيهقي 9 / 169، كتاب الجزية، باب الضيافة في الصلح.
2 - سنن البيهقي 9 / 196، كتاب الجزية، باب الضيافة في الصلح.
3 - الأحكام السلطانية / 144.
445

الجهة السابعة:
في أنه لا يؤخذ منهم سوى الجزية وما اشترط عليهم في عقد الذمة شيء آخر من
زكاة وغيرها:
أقول: الظاهر أن ضريبة أهل الجزية تنحصر في الجزية الموضوعة عليهم
بكمها كيفها وما اشترط عليهم في عقد الذمة، فليس عليهم بعدها شيء.
بل الظاهر من الأخبار والفتاوى سقوط الزكاة أيضا عنهم، وإن ثبت عندنا كون
الكفار مكلفين بالفروع أيضا كما حققناه في كتاب الزكاة، فراجع (1):
1 - ففي صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) في أهل الجزية يؤخذ من
أموالهم ومواشيهم شيء سوى الجزية؟ قال: لا. (2)
2 - وعن المقنعة، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " إذا أخذت الجزية
من أهل الكتاب فليس على أموالهم ومواشيهم شيء بعدها. " (3)
والظاهر اتحاد الخبرين وكون الثاني نقلا بالمعنى والمضمون، كما هو سيرة الفقهاء
في كتبهم الفقهية.
والظاهر منهما نفي الزكاة عنهم. اللهم إلا أن يقال بعدم دلالتهما على نفي الزكاة
عن الغلات، إذ الظاهر من الأموال خصوص النقود، فتدبر.
3 - وقد مر في صحيحة محمد بن مسلم السابقة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قوله:

1 - كتاب الزكاة 1 / 125 وما بعدها.
2 - الوسائل 11 / 115، الباب 68 من أبواب جهاد العدو، الحديث 4.
3 - الوسائل 11 / 116، الباب 68 من أبواب جهاد العدو، الحديث 7.
446

" وليس للإمام أكثر من الجزية، إن شاء الإمام وضع ذلك على رؤوسهم، وليس
على أموالهم شيء، وإن شاء فعلى أموالهم وليس على رؤوسهم شيء. " فقلت: فهذا
الخمس؟ فقال: " إنما هذا شيء كان صالحهم عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). " (1)
أقول: قد مر أن المراد بالخمس هنا هو الزكاة المضاعفة، فيجوز مطالبتها إن
شرطت في عقد الذمة وتكون في الحقيقة بعنوان الجزية، نظير ما وضعه عمر على بني
تغلب حين أنفوا من جزية الرؤوس.
ومن هذا القبيل أيضا على الظاهر جعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) العشر ونصف العشر على
أهل خيبر بعد تقبيلهم أراضيها، كما دل عليه صحيحة صفوان والبزنطي وخبر البزنطي
أيضا، فراجع. (2)
4 - وفي معاهدة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع نصارى نجران: " بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما كتب
محمد النبي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأهل نجران: إذا كان عليهم حكمه في كل ثمرة، في كل صفراء
وبيضاء ورقيق - فأفضل ذلك عليهم وترك ذلك كله لهم - على ألفي حلة من حلل الأواقي:
في كل رجب ألف حلة، وفي كل صفر ألف حلة. الحديث. " (3)
والحلل وضعت عليهم جزية كما مر.
وفي الأموال: " كل حلة أوقية، ما زاد الخراج أو نقص فعلى الأواقي فليحسب. "
5 - وفي دعائم الإسلام: " ونهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن التعدي على المعاهدين. " (4)
6 - وفيه أيضا: " روينا عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه، عن علي (عليه السلام)، عن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " لا تقوم الساعة حتى يؤكل المعاهد كل تؤكل
الخضر. " (5) رواهما عنه في المستدرك. (6)

1 - الوسائل 11 / 114، الباب 68 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
2 - راجع الوسائل 11 / 120، الباب 72 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1 و 2.
3 - الوثائق السياسية / 175، الرقم 94; وفي الأموال / 244 بتفاوت.
4 - دعائم الإسلام 1 / 380، كتاب الجهاد - ذكر الصلح والموادعة والجزية.
الوسائل 2 / 267، الباب 56 من أبواب جهاد العدو، الحديث 5 و 4.
5 - دعائم الإسلام 1 / 380، كتاب الجهاد - ذكر الصلح والموادعة والجزية.
6 - مستدرك الوسائل 2 / 267، الباب 56 من أبواب جهاد العدو، الحديث 5 و 4.
447

7 - وفي سنن البيهقي بسنده، عن العرباض بن سارية السلمي، قال: نزلنا مع
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خيبر، ومعه من معه من أصحابه، وكان صاحب خيبر رجلا ماردا منكرا،
فأقبل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا محمد، ألكم أن تذبحوا حمرنا وتأكلوا ثمارنا وتضربوا
نساءنا؟ فغضب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: " يا بن عوف، اركب فرسك ثم ناد: أن الجنة لا تحل
إلا لمؤمن، وأن اجتمعوا للصلاة. " قال: فاجتمعوا ثم صلى بهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم قام فقال:
" أيحسب أحدكم متكئا على أريكته قد يظن أن الله - عز وجل - لم يحرم شيئا إلا
ما في هذا القرآن؟ ألا وإني والله قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء إنها لمثل القرآن
أو أكثر. وإن الله - عز وجل - لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا
بإذن لا ضرب نسائهم ولا أكل ثمارهم إذا أعطوكم الذي عليهم. " (1)
أقول: وفي الحديث رد على من قال أو يقول: حسبنا كتاب الله، وروايات
أئمتنا (عليهم السلام) حاكية لما وصل إليهم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما مر بيانه في بعض الأبحاث
السابقة.
8 - وفيه أيضا بسنده، عن رجل من جهينة من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إنكم لعلكم تقاتلون قوما وتظهرون عليهم فيما دونكم بأموالهم دون
أنفسهم وأبنائهم وتصالحوهم على صلح، فلا تصيبوا منهم فوق ذلك، فإنه لا يحل
لكم. " (2)
9 - وفيه أيضا بسنده، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: " ألا من ظلم معاهدا وانتقصه كلفه
فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس منه فأنا حجيجه يوم القيامة. - وأشار
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بإصبعه إلى صدره - ألا ومن قتل معاهدا له ذمة الله وذمة رسوله حرم
الله عليه ريح الجنة، وإن ريحها لتوجد من مسيرة سبعين خريفا. " (3)
10 - وفي خراج أبي يوسف قال: وحدثني بعض المشايخ المتقدمين يرفع

1 - سنن البيهقي 9 / 204، كتاب الجزية، باب لا يأخذ المسلمون من ثمار أهل الذمة...
2 - سنن البيهقي 9 / 204، كتاب الجزية، باب لا يأخذ المسلمون من ثمار أهل الذمة...
3 - سنن البيهقي 9 / 205، كتاب الجزية، باب لا يأخذ المسلمون من ثمار أهل الذمة...
448

الحديث إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه ولى عبد الله بن أرقم على جزية أهل الذمة، فلما ولى
من عنده ناداه فقال: " ألا من ظلم معاهدا أو كلفه فوق طاقته أو انتفصه أو أخذ منه
شيئا بغير طيب نفسه فأنا حجيجه يوم القيامة. " (1) إلى غير ذلك من الأخبار في هذا
المجال.
أقول: وإذا كان هذا حال من أخذ من أموال أهل الذمة بغير طيب أنفسهم فكيف
حال من توغل في دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم بلا توق واحتياط بمجرد
الأحاسيس النفسية والتوهمات والإلقاءات، اللهم فأعذنا من موجبات
سخطك عذابك.
نعم، لو كان غاصبا للأموال العامة جاز استردادها بالمصادرة بل وجب، كما مر
تفصيله في محله. هذا.
11 - وفي كتاب الأموال لأبي عبيد بسنده، عن الحسن، قال:
" ليس على أهل الذمة صدقة في أموالهم، وليس عليهم إلا الجزية. " (2)
12 - وفي باب أحكام الأرضين من النهاية قال:
" والضرب الثالث: كل أرض صالح أهلها عليها، وهي أرض الجزية، يلزمهم
ما يصالحهم الإمام عليه من النصف أو الثلث أو الربع، وليس عليهم غير ذلك. " (3)
13 - وفي المبسوط في نصارى العرب قال:
" وينبغي أن تؤخذ منهم الجزية، ولا تؤخذ منهم الزكاة، لأن الزكاة لا تؤخذ إلا من
مسلم. " (4)
14 - وفي موطأ مالك:
" ولا صدقة على أهل الكتاب ولا المجوس في شيء من أموالهم ولا من مواشيهم

1 - الخراج / 125.
2 - الأموال / 119.
3 - النهاية / 195.
4 - المبسوط 2 / 50.
449

ولا ثمارهم ولا زروعهم، مضت بذلك السنة. " (1)
15 - وفي خراج أبي يوسف:
" وليس في شيء من أموالهم - الرجال منهم والنساء - زكاة إلا ما اختلفوا به في
تجارتهم، فإن عليهم نصف العشر. " (2)
أقول: أراد بذلك تضعيف زكاة مال التجارة، كما لا يخفى.
16 - وقد مر عن الماوردي قوله:
" فإن لم يشترط عليهم الضيافة ومضاعفة الصدقة فلا صدقة عليهم في زرع لا ثمر،
ولا يلزمهم إضافة سائل ولا سابل. " (3)
إلى غير ذلك من الكلمات التي يعثر عليها المتتبع، وقد تعرضنا للمسألة إجمالا في
كتابنا في الزكاة، فراجع. (4)

1 - موطأ مالك 1 / 208، كتاب الزكاة، جزية أهل الكتاب والمجوس.
2 - الخراج / 123.
3 - الأحكام السلطانية / 145.
4 - كتاب الزكاة 1 / 133.
450

الجهة الثامنة:
في جواز أخذ الجزية من ثمن الخمور والخنازير ونحوهما من المحرمات:
1 - قال الشيخ في النهاية:
" ولا بأس أن تؤخذ الجزية من أهل الكتاب مما أخذوه من ثمن الخمور الخنازير
والأشياء التي لا يحل للمسلمين بيعها والتصرف فيها. " (1)
2 - وفي المختلف:
" لا بأس بأخذ الجزية من ثمن المحرمات وعليه علماؤنا، وبه قال ابن الجنيد
ولكنه قال: ولو علم المسلمون بأن الذمي أداها من ثمن خمر جاز ذلك منه، لا من
حوالة على المبتاع للخمر منه. والأقرب أنه لا فرق بين الحوالة وبين قبضه منه، عملا
بالعموم الدال على جواز الأخذ من ثمن المحرمات. " (2)
3 - والأصل في المسألة ما رواه في الوسائل بسند صحيح، عن محمد بن مسلم،
قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن صدقات أهل الذمة وما يؤخذ من جزيتهم من ثمن
خمورهم وخنازيرهم وميتتهم، قال: " عليهم الجزية في أموالهم، تؤخذ من ثمن لحم
الخنزير أو خمر، فكل ما أخذوا منهم من ذلك فوز ذلك عليهم وثمنه للمسلمين حلال
يأخذونه في جزيتهم. " (3)
4 - وفيه أيضا، عن المفيد في المقنعة، قال: وروى محمد بن مسلم، عن أبي
عبد الله (عليه السلام) أنه سأله عن خراج أهل الذمة وجزيتهم إذا أدوها من ثمن خمورهم

1 - النهاية / 194.
2 - المختلف 1 / 335.
3 - الوسائل 11 / 117، الباب 70 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
451

وخنازيرهم وميتتهم أيحل للإمام أن يأخذها ويطيب ذلك للمسلمين؟ فقال: " ذلك
للإمام والمسلمين حلال، وهي على أهل الذمة حرام وهم المحتملون لوزره. " (1)
ومن المحتمل اتحاد الروايتين، لاتحاد الراوي والمروي عنه والمضمون، وكان
بناء الفقهاء في كتبهم الفقهية على نقل الروايات بمضامينها.
والمقصود بالصدقات في الرواية الأولى الصدقات المضاعفة أو المستحبة أو
الخراج المجعول على أراضيهم، حيث إنه يشبه صدقة العشر، ويشهد لذلك رواية
المقنعة، فتأمل.
5 - وفي دعائم الإسلام: " وعن جعفر بن محمد (عليه السلام) " أنه رخص في أخذ الجزية من
أهل الذمة من ثمن الخمر والخنزير، لأن أموالهم كذلك أكثرها من الحرام الربا. " (2) و
رواه عنه في المستدرك. (3)
6 - وفي كتاب الأموال لأبي عبيد بسنده، عن سويد بن غفلة " أن بلالا قال لعمر بن
الخطاب: إن عمالك يأخذون الخمر والخنازير في الخراج؟ فقال: لا تأخذوا منهم،
ولكن ولوهم بيعها وخذوا أنتم من الثمن. " (4)
قال ابن قدامة في المغني بعد نقل الخبر:
" ويجوز أخذ ثمن الخمر والخنزير منهم على جزية رؤوسهم وخراج أرضهم،
احتجاجا بقول عمر هذا، ولأنها من أموالهم التي نقرهم على اقتنائها والتصرف فيها،
فجاز أخذ أثمانها منهم كثيابهم. " (5)
أقول: ومقتضى بعض الأخبار أنه يجوز لأنفسهم أيضا بعد ما أسلموا ترتيب آثار

1 - الوسائل 11 / 118، الباب 70 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
2 - دعائم الإسلام 1 / 381، كتاب الجهاد - ذكر الصلح والموادعة والجزية.
3 - مستدرك الوسائل 2 / 267، الباب 58 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
4 - الأموال / 62.
5 - المغني 10 / 601.
452

الصحة على هذا السنخ من المعاملات الواقعة منهم حال الكفر: ففي خبر علي بن
جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام)، قال: سألته عن رجلين نصرانيين باع أحدهما
خمرا أو خنزيرا إلى أجل فأسلما قبل أن يقبضا الثمن هل يحل له ثمنه بعد الإسلام؟
قال: " إنما له الثمن فلا بأس أن يأخذه. " (1)
وقد وردت أخبار مستفيضة تدل على جواز اقتضاء الرجل ماله الذي في عهدة
غيره من ثمن الخمر والخنزير، وأكثرها مطلقة وإن كان المذكور في بعضها خصوص
الذمي، فراجع الوسائل. (2)
فمن جملة هذه الأخبار صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) في رجل كان
له على رجل دراهم فباع خمرا وخنازير وهو ينظر فقضاه؟ فقال: " لا بأس به، أما
للمقتضي فحلال، وأما للبايع فحرام. "
وفي صحيحة زرارة، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " في الرجل يكون لي عليه الدراهم
فيبيع بها خمرا وخنزيرا ثم يقضي منها؟ قال: لا بأس، أو قال: خذها. "
إلى غير ذلك من الأخبار.
وكون موضوع السؤال في بعضها الذمي لا يوجب حمل المطلقات عليه لعدم
التنافي.
اللهم إلا أن يقال: إن بيع الخمر والخنزير في البلاد الإسلامية في تلك الأعصار
لم يكن يصدر إلا من أهل الذمة. هذا.
ونظير هذا الباب ما ورد في جواز بيع المختلط بالميتة ممن يستحلها، كصحيحة
الحلبي، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " إذا اختلط الذكي والميتة باعه ممن يستحل
الميتة وأكل ثمنه. " ونحو ذلك صحيحته الأخرى عنه (عليه السلام)، فراجع. (3)

1 - الوسائل 12 / 172، الباب 61 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.
2 - راجع الوسائل 12 / 171، الباب 60 من أبواب ما يكتسب به.
3 - راجع الوسائل 12 / 67 و 68، الباب 7 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1 و 2.
453

ومن هذا القبيل أيضا ما ورد في بيع العجين بالماء النجس ممن يستحل الميتة: ففي
خبر حفص بن البختري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في العجين من الماء النجس كيف يصنع
به؟ قال: " يباع ممن يستحل الميتة. " (1)
والسند إلى حفص صحيح، والراوي عن حفص، ابن أبي عمير.
ولا يخفى أن الخمر والخنزير لا مالية لهما عند المسلمين وتكون المعاملة عليهما
باطلة، فيستفاد من هذه الأخبار الكثيرة جواز إلزام الكفار بما ألزموا به أنفسهم من
صحة المعاملة عليهما وأخذ ثمنهما، وكذلك الميتة ونحوها.
ولعله ينفتح من ذلك باب واسع يمكن أن تنتفع به الدول المسلمة في معاملاتهم مع
الدول الأجنبية الكافرة، فتدبر.

1 - الوسائل 12 / 68، الباب 7 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.
454

الجهة التاسعة:
فيما إذا مات الذمي أو أسلم:
1 - قال الشيخ في كتاب الجزية من الخلاف (المسألة 11):
" إذا وجبت الجزية على الذمي بحول الحول ثم مات أو أسلم قال الشافعي:
لم تسقط. وقال أبو حنيفة: تسقط. وقال أصحابنا: إن أسلم سقطت، ولم يذكروا الموت.
والذي يقتضيه المذهب: أنه إذا مات لا تسقط عنه، لأن الحق واجب عليه فيؤخذ
من تركته، وبه قال مالك.
وأما الدليل على أنها تسقط بالإسلام فقوله - تعالى -: " حتى يعطوا الجزية عن يد
وهم صاغرون. " فشرط في إعطائها الصغار، وهذا لا يمكن مع الإسلام، فيجب أن
تسقط. وأيضا قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " الإسلام يجب ما قبله " يفيد سقوطها، لأن عمومه يقتضي
ذلك.
وروي عنه (عليه السلام) أنه قال: " لا جزية على مسلم. " وذلك على عمومه في
الإعطاء الوجوب. " (1)
2 - وفي النهاية:
" ومن وجبت عليه الجزية وحل الوقت فأسلم قبل أن يعطيها سقطت عنه لم يلزمه
أداؤها. " (2)
3 - وفي المبسوط:
" وإذا أسلم الذمي بعد الحول سقطت عنه الجزية، وإن مات لم تسقط عنه وتؤخذ

1 - الخلاف 3 / 239.
2 - النهاية / 193.
455

من تركته، فإن لم يترك شيئا فلا شيء على ورثته. وإن أسلم وقد مضى بعض
الحول فلا يلزمه شيء; مثل ذلك. وإن مات قبل الحول لا يجب أخذها من تركته، لأنها
إنما تجب بحؤول الحول، وما حال. " (1)
4 - وفي المنتهى:
" إذا مات الذمي بعد الحول لم تسقط عنه الجزية وأخذت من تركته، وبه قال
الشافعي ومالك. وقال أبو حنيفة: تسقط، وهو قول عمر بن عبد العزيز. وعن أحمد
روايتان... لو مات في أثناء الحول ففي مطالبته بالقسط نظر; أقربه المطالبة، وبه قال
ابن الجنيد، لأن الجزية معاوضة عن المساكنة وحقن الدم وإنما أخرنا المطالبة
إرفاقا...
إذا أسلم الذمي قبل أداء الجزية فإن كان في أثناء الحول سقطت عنه الجزية
إجماعا منا. وإن أسلم بعد حولان الحول ففيه قولان: أحدهما تسقط عنه أيضا ذهب
إليه الشيخان وابن إدريس وأكثر علمائنا، وبه قال مالك والثوري وأبو عبيد
وأحمد أصحاب الرأي. والثاني لا تسقط، اختاره الشيخ " ره " في الخلاف وبه قال
الشافعي وأبو ثور وابن المنذر. " (2)
أقول: ما حكاه عن الخلاف لم نجده فيه بل مر عن الخلاف خلافه، اللهم إلا أن
يقال: إن نسبته إلى أصحابنا لا تدل على موافقته بل تشعر بمخالفته.
5 - وفي الشرائع:
" وإذا أسلم قبل الحول أو بعده قبل الأداء سقطت الجزية على الأظهر. ولو مات بعد
الحول لم تسقط وأخذت من تركته كالدين. " (3)
6 - وفي الجواهر بعد قول المصنف: " على الأظهر " قال:
" بل لا أجد فيه خلافا في الأول، بل في المنتهى ومحكي التذكرة الإجماع عليه هو
الحجة، مضافا إلى ما تسمعه في الثاني الذي هو المشهور شهرة عظيمة، بل عن الغنية

1 - المبسوط 2 / 42.
2 - المنتهى 2 / 967 وما بعدها.
3 - الشرائع 1 / 329 (= ط. أخرى / 251).
456

الإجماع عليه، ولعله كذلك. " (1)
7 - وقال الماوردي:
" ولا تجب الجزية عليهم في السنة إلا مرة واحدة بعد انقضائها بشهور هلالية، ومن
مات منهم فيها أخذ من تركته بقدر ما مضى منها. ومن أسلم منهم كان ما لزم من
جزيته دينا في ذمته يؤخذ بها، وأسقطها أبو حنيفة بإسلامه وموته. " (2)
وأبو يعلى حكم بسقوط الجزية بالإسلام دون الموت كافرا، فراجع (3) وهو حنبلي
والماوردي شافعي.
8 - وفي خراج أبي يوسف:
" ولا يؤخذ من مسلم جزية رأسه إلا أن يكون أسلم بعد خروج السنة، فإنه إذا
أسلم بعد خروجها فقد كانت الجزية وجبت عليه وصارت خراجا لجميع المسلمين
فتؤخذ منه. وإن أسلم قبل تمام السنة بيوم أو يومين أو شهر أو شهرين أو أكثر أو أقل
لم يؤخذ بشيء من الجزية إذا كان أسلم قبل انقضاء السنة. وإن وجبت عليه الجزية
فمات قبل أن تؤخذ منه أو أخذ بعضها وبقي البعض لم يؤخذ بذلك ورثته ولم تؤخذ
من تركته، لأن ذلك ليس بدين عليه. وكذلك إن أسلم وقد بقي عليه شيء من جزية
رأسه لم يؤخذ بذلك. " (4)
أقول: لما كانت الجزية ضريبة سنوية توضع على أهل الذمة في قبال الكف
عنهم الحماية لهم طول السنة فالقاعدة تقتضي ثبوتها بعقد الذمة واشتغال ذمتهم
بها. السقوط بالموت أو بالإسلام بالنسبة إلى ما مضى مخالف للأصل. نعم بالإسلام
ينتفي الموضوع بالنسبة إلى ما بعده.
وتعيين وقت المطالبة وتحديده بآخر الحول في العقد لا يوجب عدم تقسيطها

1 - الجواهر 21 / 258.
2 - الأحكام السلطانية / 145.
3 - الأحكام السلطانية / 160.
4 - الخراج / 122.
457

بحسب أيام السنة، بداهة أنها ضريبة سنوية توضع بحساب جميع أيام السنة
لا بحساب اليوم الآخر منها، فالسقوط بعد الثبوت يحتاج إلى دليل.
إذا عرفت هذا فنقول: الظاهر أنه لا خلاف ولا إشكال عندنا في عدم سقوطها
بالموت بعد الحول، بل تتعلق بالتركة كسائر الديون خلافا لأبي حنيفة، قال: لأنها
عقوبة كالحد. وفيه أنه قياس مع الفارق، لما مر من أنها ضريبة ومعاوضة وإن
استلزمت العقوبة أيضا. والحدود تسقط بالموت لفوات محلها بخلاف الجزية التي هي
أمر مالي يمكن أن تتعلق بالتركة. بل لو مات في أثناء الحول أيضا كان مقتضى
القاعدة والاعتبار التقسيط كما مر وإن كان لو لم يمت يطالب في الأثناء عملا بمقتضى
العقد وإنما يحل الأجل بالموت كسائر الديون المؤجلة، فتدبر.
وأما من أسلم قبل الحول أو بعده قبل أداء الجزية فالمشهور فيهما السقوط، بل مر
ادعاء الإجماع فيهما ولا سيما في الأول.
واستدلوا لذلك بقوله - تعالى -: " قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد
سلف. " (1)
وبالنبويين المستغنيين بشهرتهما نقلا وعملا عن البحث في سنديهما على ما في
الجواهر: (2)
أحدهما قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " الإسلام يجب ما قبله. " (3) وقد تعرضنا لسند الحديث ومتنه
بالتفصيل في المجلد الأول من كتابنا في الزكاة، فراجع. (4)
والآخر قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ليس على مسلم جزية. " (5) ورواه البيهقي بسنده، عن ابن

1 - سورة الأنفال (8)، الآية 38.
2 - الجواهر 21 / 258.
3 - مستدرك الوسائل 1 / 580، الباب 15 من أبواب أحكام شهر رمضان، الحديث 2.
4 - كتاب الزكاة 1 / 137 وما بعدها.
5 - مستدرك الوسائل 2 / 270، الباب 61 من أبواب جهاد العدو، الحديث 34; والأموال
/ 59; سنن أبي داود 2 / 152، كتاب الخراج والفئ والإمارة، باب في الذمي يسلم في بعض
السنة...
458

عباس، عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: " ليس على مؤمن جزية. " (1)
وبالنبوي الثالث: " لا ينبغي للمسلم أن يؤدي خراجا. " (2)
وبأن الجزية عقوبة تجب بسبب الكفر، فيسقطها الإسلام.
وبأن وضعها للصغار والإهانة للرغبة في الإسلام المنزه عنهما المسلم.
وبظهور دليلها في الإعطاء صاغرا، ومن المعلوم عدمه في المسلم.
وروي عن مسروق أن رجلا من الشعوب أسلم فكانت تؤخذ منه الجزية فأتى
عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين، إني أسلمت، فقال: لعلك أسلمت متعوذا.
فقال: أما في الإسلام ما يعيذني؟ قال: بلى. قال: فكتب (عمر): أن لا تؤخذ منه
الجزية. قال أبو عبيد: الشعوب: الأعاجم (3)
أقول: لولا وضوح المسألة عند الأصحاب واشتهارها بينهم بل الإجماع عليها
لأمكن الإشكال في كثير مما ذكر بالمناقشة في سند الروايات، وبأن المتبادر من عدم
الجزية على المسلم عدمها بلحاظ حال إسلامه لا بلحاظ حال كفره السابق، ولا نسلم
كون الجزية عقوبة، بل هي ضريبة توضع في قبال حماية الدولة الإسلامية له، لا نسلم
أن وضعها للصغار والإهانة. نعم يعطيها صاغرا، ولكنه من المحتمل أن يراد به التسليم
والانقياد في قبال الدولة الحقة، وليس هذا إهانة. هذا.
وقد يقال بالنسبة إلى حديث الجب: إن الجزية من الديون ولا يجبها الإسلام.
وفيه أن الظاهر من الحديث جب الإسلام لكل ما كان يقتضيه الكفر وإن كان أمرا
ماليا.
بل الظاهر جبه لجميع الواجبات المالية وغيرها بناء على عموم أدلتها للكفار أيضا
كما هو الظاهر. وقد بينا ذلك في كتاب الزكاة، فراجع.
وقال في مصباح الفقيه في بيان دلالة الحديث:

1 - سنن البيهقي 9 / 199، كتاب الجزية، باب الذمي يسلم فيرفع عنه الجزية...
2 - سنن البيهقي 9 / 139، كتاب السير، باب الأرض إذا كان صلحا...، نقله عن الشافعي.
3 - الأموال / 59.
459

" فإن مثل الزكاة والخمس والكفارات وأشباهها من الحقوق الثابتة في الإسلام
بمنزلة القدر المتيقن منها، كما يؤيد ذلك بل يدل على أصل المدعى قضاء الضرورة
بجريان سيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة القائمين مقامه على عدم مؤاخذة من دخل في
الإسلام بشيء من هذه الحقوق بالنسبة إلى الأزمنة الماضية. " (1)
أقول: اللهم إلا أن يقال: إن عدم مؤاخذتهم بها لعله كان لعدم تعلقها بالكفار لا لجب
الإسلام إياها.
وكيف كان فبعد الإسلام لا يجوز أخذ الجزية بلا إشكال ولا سيما بالنسبة إلى
المستقبل وحال إسلامه.
ولكن في أحكام القرآن للجصاص:
" وقد كان آل مروان يأخذون الجزية ممن أسلم من أهل الذمة ويذهبون إلى أن
الجزية بمنزلة ضريبة العبد فلا يسقط إسلام العبد ضريبته. "
قال:
" وهذا خلل في جنب ما ارتكبوه من المسلمين ونقض الإسلام عروة عروة إلى أن
ولى عمر بن عبد العزيز فكتب إلى عامله بالعراق عبد الحميد بن عبد الرحمان: أما بعد،
فإن الله بعث محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) داعيا ولم يبعثه جابيا، فإذا أتاك كتابي هذا فارفع الجزية
عمن أسلم من أهل الذمة. فلما ولي هشام بن عبد الملك أعادها على المسلمين. وكان
أحد الأسباب التي لها استجاز القراء والفقهاء قتال عبد الملك بن مروان والحجاج -
لعنهما الله - أخذهم (هما - ظ.) الجزية من المسلمين، ثم صار ذلك أيضا أحد اثبات
(أسباب - ظ.) زوال دولتهم وسلب نعمتهم. " (2)

1 - مصباح الفقيه، كتاب الزكاة / 17.
2 - أحكام القرآن 3 / 126، باب وقت وجوب الجزية.
460

الجهة العاشرة:
في مصرف الجزية:
1 - قال الشيخ في كتاب الفيء من الخلاف (المسألة 42):
" ما يؤخذ من الجزية والصلح والأعشار من المشركين للمقاتلة
المجاهدين. للشافعي فيه قولان: أحدهما أن جميعه لمصالح المسلمين ويبدأ بالأهم
فالأهم، والأهم هم الغزاة. والباقي للمقاتلة كما قلناه.
هذا إذا قال: إنه لا يخمس، وأما إذا قال: يخمس فأربعة أخماسه تصرف إلى أحد
هذين النوعين على القولين. والمصالح مقدمة عندهم.
دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم في أن الجزية للمجاهدين لا يشركهم فيها غيرهم.
وإذا ثبت ذلك ثبت في الكل، لأن الصلح أيضا جزية عندنا. فأما الأعشار فإنه يصرف
في مصالح المسلمين لأنه لا دليل على تخصيص شيء منه به دون شيء. " (1)
أقول: المراد بقوله: " والباقي " القول الآخر للشافعي، ويمكن أن تكون الكلمة
مصحفة: " والثاني ".
2 - وفي النهاية:
" وكان المستحق للجزية في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المهاجرين دون غيرهم، وهي
اليوم لمن قام مقامهم في نصرة الإسلام والذب من سائر المسلمين. " (2)
أقول: إعطاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إياها لخصوص المهاجرين لا يدل على اختصاصها
بهم، فتأمل.

1 - الخلاف 2 / 344.
2 - النهاية / 193.
461

3 - وفي المبسوط:
" ومصرف الجزية مصرف الغنيمة سواء للمجاهدين، وكذلك ما يؤخذ منهم على
وجه المعاوضة لدخول بلاد الإسلام لأنه مأخوذ من أهل الشرك. " (1)
وقد ذكر مثل ذلك أيضا العلامة في المنتهى. (2)
4 - وفي التذكرة:
" تذنيب: مصرف الجزية هو مصرف الغنيمة سواء، لأنه مال أخذ بالقهر والغلبة
فكان مصرفه مصرف المجاهدين كغنيمة دار الحرب. " (3)
أقول: الغنيمة فائدة تحصل دفعة فتقسم في جيش اغتنمها، فلا تقاس عليها الجزية
التي تحصل تدريجا في آخر كل سنة، إذ نسبتها إلى الجيش الفاتح لهذا البلد الخاص
قد انقطعت، ولا نسبة لها أيضا إلى الجيوش الأخر، فتدبر.
5 - وفي المقنعة:
" وكانت الجزية على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عطاء المهاجرين، وهي من بعده لمن
قام مع الإمام مقام المهاجرين، وفيما يراه الإمام من مصالح المسلمين. " (4)
6 - وفي السرائر:
" وكان المستحق للجزية على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المهاجرين دون غيرهم على
ما روي، وهي اليوم لمن قام مقامهم مع الإمام في نصرة الإسلام والذب عنه، ولمن
يراه الإمام من الفقراء والمساكين من سائر المسلمين. " (5)
7 - وفي الأحكام السلطانية للماوردي:
" إن كل مال وصل من المشركين عفوا من غير قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب
كمال الهدنة والجزية وأعشار متاجرهم، أو كان واصلا بسبب من جهتهم كمال

1 - المبسوط 2 / 50.
2 - المنتهى 2 / 973.
3 - التذكرة 1 / 442.
4 - المقنعة / 44.
5 - السرائر / 110
462

الخراج ففيه إذا أخذ منهم أداء الخمس لأهل الخمس مقسوما على خمسة. وقال
أبو حنيفة: لا خمس في الفيء...
وأما أربعة أخماسه ففيه قولان: أحدهما أنه للجيش خاصة لا يشاركهم فيه غيرهم
ليكون معدا لأرزاقهم. والقول الثاني أنه مصروف في المصالح التي منها أرزاق
الجيش وما لا غنى للمسلمين عنه.
ولا يجوز أن يصرف الفيء في أهل الصدقات، ولا تصرف الصدقات في أهل
الفيء، ويصرف كل واحد من المالين في أهله. وأهل الصدقة من لا هجرة له وليس
من المقاتلة عن المسلمين ولا من حماة البيضة. وأهل الفيء هم ذوو الهجرة الذابون
عن البيضة والمانعون عن الحريم والمجاهدون للعدو... " (1)
أقول: الماوردي من علماء الشافعية، والشافعي قائل بثبوت الخمس في الفيء
بأنواعه. وقد مر البحث في ذلك ونفينا نحن ثبوت الخمس في الفيء وأمثاله من
الضرائب والأموال العامة، فراجع.
وفيما ذكره من عدم جواز صرف الصدقات في أهل الفيء وبالعكس كلام، إذ من
أهم مصارف الصدقات سبيل الله الشامل لجميع سبل الخير والمصالح العامة ومنها
الجهاد في سبيل الله كما أن من أهم المصالح العامة سد خلات المسلمين ورفع حاجة
المساكين والمحتاجين وأهل البؤسى والزمنى منهم كما أوصى بذلك أمير المؤمنين (عليه السلام)
في كتابه لمالك حين ولاه مصر. وبالجملة فالتباين بين المصرفين غير واضح. هذا.
8 - وراجع في مصرف الجزية الأحكام السلطانية لأبي يعلى. (2)
وفي مصرف الفيء الذي من أقسامه الجزية المغني لابن قدامة. وقد حكى فيه عن
أحمد أن الفيء بأنواعه حق لكل المسلمين غنيهم وفقيرهم.
وفيه عن القاضي قال:

1 - الأحكام السلطانية / 126 - 127.
2 - الأحكام السلطانية / 136.
463

" ومعنى كلام أحمد: أنه بين الغني والفقير، يعني الغني الذي فيه مصلحة المسلمين
من المجاهدين والقضاة والفقهاء... وسياق كلامه يدل على أنه ليس مختصا
بالجند إنما هو مصروف في مصالح المسلمين لكن يبدأ بجند المسلمين لأنهم أهم
المصالح لكونهم يحفظون المسلمين فيعطون كفاياتهم، فما فضل قدم الأهم فالأهم من
عمارة الثغور وكفايتها فالأسلحة والكراع وما يحتاج إليه، ثم الأهم فالأهم من عمارة
المساجد والقناطر وإصلاح الطرق وكراء الأنهار وسد بثوقها، وأرزاق القضاة والأئمة
والمؤذنين والفقهاء ونحو ذلك مما للمسلمين فيه نفع. " (1)
أقول: وقد تحصل مما ذكرناه من الكلمات أن في مصرف الجزية قولين: أحدهما
أنها بحكم الغنيمة فتختص بالمقاتلين. والثاني أنها من أنواع الفيء، ومصرف الفيء
مصالح المسلمين بشعبها المختلفة ومنها مصارف المقاتلين. ولعل عمدة نظر الفريق
الأول إلى أن الجزية كأنها نتيجة الحرب وفداء عن النفوس التي وقعت في معرض
القتل أو الأسر، والأسارى يعدون من جملة الغنائم كما مر. هذا.
والأصل في المسألة عندنا:
1 - صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: سألته عن سيرة الإمام في
الأرض التي فتحت بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: " إن أمير المؤمنين (عليه السلام) قد سار في أهل
العراق بسيرة، فهي إمام لسائر الأرضين. "
وقال: " إن أرض الجزية لا ترفع عنهم الجزية، وإنما الجزية عطاء
المهاجرين. الصدقات لأهلها الذين سمى الله في كتابه ليس لهم في الجزية شيء. " ثم
قال: " ما أوسع العدل، إن الناس يتسعون (يستغنون - الفقيه) إذا عدل فيهم وتنزل
السماء رزقها وتخرج الأرض بركتها بإذن الله - تعالى -. "
رواها الفقيه (2)، والتهذيب (3). ولكن في الفقيه: " عطاء المجاهدين ".

1 - المغني 7 / 307 - 308.
2 - الفقيه 2 / 53، باب الخراج والجزية، الحديث 1677.
3 - التهذيب 4 / 118، باب مستحق عطاء الجزية من المسلمين، الحديث 1.
464

ورواها في الوسائل (1) عن المشايخ الثلاثة، ولكني لم أجده في الكافي.
2 - وفي دعائم الإسلام، عن أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) أنه قال: " الجزية عطاء
المجاهدين، والصدقة لأهلها الذين سماهم الله - تعالى - في كتابه ليس من الجزية في
شيء. " ثم قال: " ما أوسع العدل، إن الناس يستغنون إذا عدل عليهم. " (2) ورواه عنه
في المستدرك. (3)
3 - خبر ابن أبي يعفور، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " إن أرض الجزية لا ترفع عنها
الجزية، وإنما الجزية عطاء المهاجرين، والصدقة لأهلها الذين سمى الله في كتابه
فليس لهم من الجزية شيء. " ثم قال: " ما أوسع العدل. " ثم قال: " إن الناس يستغنون
إذا عدل بينهم وتنزل السماء رزقها وتخرج الأرض بركتها بإذن الله. "
رواه في الوسائل (4) عن الكليني بسند لا بأس به، إلا أن فيه سهلا والأمر فيه سهل،
وعن المقنعة أيضا مرسلا. وعبر عنه في الجواهر (5) بالصحيح، ولعله منه سهو.
وهل يراد بالمهاجرين في الخبرين خصوص من هاجر في صدر الإسلام في
عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة المنورة أو الأعم منهم؟ يبعد جدا إرادة الأول، إذ هم
لم يبقوا إلى عصر الصادقين (عليه السلام)، وحكم الجزية عام ثابت في جميع الأعصار،
فلا محالة يراد بهم جنود الإسلام المهاجرين من بلادهم إلى صفوف القتال أو إلى
الثغور، فينطبق قهرا على المجاهدين. وحيث إن مصارف الصدقة سبيل الله ومن أظهر
مصاديقه الجهاد بلا إشكال فلا محالة لا يمكن الحكم بتباين المصرفين بالكلية. فلعل
المراد بمصرف الصدقة في هذه الأخبار مصرفها الغالب، أعني الفقراء والمساكين. قد
كانت الصدقات تقسم غالبا في المحل: تقسم صدقات البوادي في البوادي

1 - الوسائل 11 / 117، الباب 69 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
2 - دعائم الإسلام 1 / 380، كتاب الجهاد - ذكر الصلح والموادعة والجزية.
3 - مستدرك الوسائل 2 / 267، الباب 57 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
4 - الوسائل 11 / 116، الباب 69 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1، عن الكافي 3 / 568، وعن
المقنعة / 45.
5 - الجواهر 21 / 262.
465

وصدقات أهل الحضر في أهل الحضر كما نطقت بذلك الأخبار. (1)
فلم يكن يبقى منها غالبا ما يصرف في المهاجرين المجاهدين في سبيل الله،
فخص بهم الخراج والجزية ونحوهما مما كان يؤخذ من الكفار، ومع وجودهم عند
الإمام واحتياجهم يقدمون بحسب المصلحة على أكثر المصالح العامة قطعا
فلا تصرف الجزية قهرا في فقراء المحل بما هم فقراء فقط، إذ على الإمام أن يراعي
فيها ما هو الأهم من المصالح العامة. وبالجملة، فالتباين بين المصرفين كان في مقام
العمل والابتلاء خارجا بملاحظة الأعم الأغلب، فتدبر.
ثم لو سلم كون الجزية الغنيمة بحسب المصرف لكونها مثلها في الأخذ من أهل
الشرك بالقهر والغلبة كما مر في بعض الكلمات فنقول:
قد مر منا في مبحث الغنائم أنها أيضا تكون تحت اختيار الإمام، فله أن يصرفها
فيما يراه صلاحا ولا يتعين فيها التقسيم بين المقاتلين: ففي مرسلة حماد الطويلة قال
في شأن الغنيمة: " وله أن يسد بذلك المال جميع ما ينوبه من مثل إعطاء المؤلفة قلوبهم
وغير ذلك مما ينوبه، فإن بقي بعد ذلك شيء أخرج الخمس منه فقسمه في أهله، قسم
الباقي على من ولي ذلك، وإن لم يبق بعد سد النوائب شيء فلا شيء لهم.
الحديث. " (2)
وبالجملة فالأقوى في مصرف الجزية بل مطلق الفيء هو صرفها فيما يراه الإمام
من مصالح المسلمين، كما مر من المقنعة. نعم، مع وجود المهاجرين
المجاهدين احتياجهم لا تصل النوبة غالبا إلى غيرهم فإن إدارة شؤونهم من أهم
المصالح العامة، فتدبر.
ولعل الخلفاء في عصر الأئمة (عليهم السلام) كانوا يستبدون ويستأثرون بالفيء والجزايا
فيصرفونها في حواشيهم والمحامين لهم باسم الاحتياج والفقر وكانت مصارف
المجاهدين في الثغور مهملة، فكانت الروايات التي مرت ناظرة إليهم.

1 - راجع الوسائل 6 / 183، الباب 28 من أبواب المستحقين للزكاة.
2 - الوسائل 6 / 365، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 4.
466

ويشبه أن يكون مصرف الجزية والخراج واحدا، لأنهما من الفيء ومصرف الفيء
بأنواعه واحد، بل ربما أطلق لفظ الجزية على الخراج وبالعكس:
ففي رواية إبراهيم بن أبي زياد، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الشراء من أرض
الجزية، قال: فقال: " اشترها، فإن لك من الحق ما هو أكثر من ذلك. " (1) فتأمل.
وفي حديث ابن عباس، قال: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الجزية عن يد، قال:
" جزية الأرض والرقبة، جزية الأرض والرقبة. " (2)
وفي صحيحة محمد بن مسلم، قال: سألته عن أهل الذمة ماذا عليهم مما يحقنون
به دماءهم وأموالهم؟ قال: " الخراج، وإن أخذ من رؤوسهم الجزية فلا سبيل على
أرضهم. الحديث. " (3)
وقد ورد في مصرف خراج الأرض المفتوحة عنوة في مرسلة حماد قوله:
" ويؤخذ الباقي فيكون بعد ذلك أرزاق أعوانه على دين الله وفي مصلحة ما ينوبه من
تقوية الإسلام وتقوية الدين في وجوه الجهاد وغير ذلك مما فيه مصلحة العامة ليس
لنفسه من ذلك قليل ولا كثير. " (4) فيما ثلة مصرف الجزية أيضا.

1 - الوسائل 11 / 119، الباب 71 من أبواب جهاد العدو، الحديث 4.
2 - الدر المنثور 3 / 228.
3 - الوسائل 11 / 114، الباب 68 من أبواب جهاد العدو، الحديث 3.
4 - الوسائل 11 / 85، الباب 41 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
467

الجهة الحادية عشرة:
في معنى الصغار المذكور في الآية والإشارة إلى ماهية الجزية وتاريخها:
1 - قال الشيخ في كتاب الجزية من الخلاف (المسألة 5):
" الصغار المذكور في آية الجزية هو التزام الجزية على ما يحكم به الإمام من غير
أن تكون مقدرة. والتزام أحكامنا عليهم. وقال الشافعي: هو التزام أحكامنا عليهم. من
الناس من قال: هو وجوب جري أحكامنا عليهم. ومنهم من قال: الصغار أن يؤخذ
الجزية منه قائما والمسلم جالس.
دليلنا إجماع الفرقة على أن الصغار هو أن لا يقدر الجزية فيوطن نفسه عليها، بل
تكون بحسب ما يراه الإمام مما يكون معه صاغرا. وأيضا قوله - تعالى -: " حتى
يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " فجعل الصغار شرطا لرفع السيف، فمن قال: إنه
لا يرفع حتى تجري أحكامنا وحتى يعطوا الجزية خالف الظاهر. " (1)
أقول: فالشيخ " ره " حمل قوله - تعالى -: " حتى يعطوا الجزية " على معنى: " حتى
يلتزموا بإعطاء الجزية "، وحمل قوله: " وهم صاغرون " على معنى: " حتى يلتزموا
بأحكام الإسلام "، فتأمل.
2 - وقال في المبسوط:
" وأما التزام أحكامنا وجريانها عليهم فلابد منه أيضا، وهو الصغار المذكور في
الآية. وفي الناس من قال: إن الصغار هو وجوب جري أحكامنا عليهم. ومنهم من
قال: الصغار أن تؤخذ منهم الجزية قائما والمسلم جالس. " (2)

1 - الخلاف 3 / 238.
2 - المبسوط 2 / 38.
468

3 - وفي جهاد التذكرة:
" مسألة: اختلف علماؤنا في الصغار فقال ابن الجنيد: إنه عبارة عن أن يشترط
عليهم وقت العقد إجراء أحكام المسلمين عليهم إذا كانت الخصومات بينهم وبين
المسلمين أو يتحاكموا إلينا في خصوماتهم، وأن تؤخذ منهم وهم قيام على الأرض.
قال الشيخ: الصغار: التزام أحكامنا وإجراؤها عليهم.
وقال الشافعي: هو أن يطأطأ رأسه عند التسليم فيأخذ المستوفي بلحيته ويضربه
في لهازمه، وهو واجب في أحد قوليه حتى لو وكل مسلما بالأداء لم يجز، وإن ضمن
المسلم الجزية لم يصح، لكن يجوز إسقاط هذه الإهانة مع اسم الجزية عند المصلحة
بتضعيف الصدقة. " (1)
وراجع في هذه المسألة المنتهى أيضا والمختلف (2).
4 - وقال الشافعي في الأم:
" سمعت عددا من أهل العلم يقولون: الصغار أن يجري عليهم حكم الإسلام. وما
أشبه ما قالوا بما قالوا لامتناعهم من الإسلام، فإذا جرى عليهم حكمه فقد أصغروا بما
يجري عليهم منه. " (3)
أقول: الظاهر أن الأم يشتمل على الفتاوى الأخيرة للشافعي.
5 - وفي منهاج النووي في فقه الشافعية:
" وتؤخذ بإهانة فيجلس الآخذ ويقوم الذمي ويطأطأ رأسه ويحني ظهره ويضعها
في الميزان، ويقبض الآخذ لحيته ويضرب لهزمتيه، وكله مستحب، وقيل: واجب.
فعلى الأول له توكيل مسلم بالأداء وحوالة عليه وأن يضمنها. قلت: هذه الهيئة باطلة،
ودعوى استحبابها أشد خطأ، والله أعلم. " (4)
6 - وفي المغني المحتاج في ذيل قول المنهاج: " هذه الهيئة باطلة " قال:

1 - التذكرة 1 / 442.
2 - المنتهى 2 / 967; والمختلف / 334.
3 - الأم 4 / 99، الصغار مع الجزية.
4 - المنهاج (المطبوع مع شرحه السراج الوهاج) / 551.
469

" لأنها لا أصل لها من السنة ولا نقل عن فعل أحد من السلف... قال في زيادة
الروضة: وإنما ذكرها طائفة من الخراسانيين. وقال جمهور الأصحاب تؤخذ الجزية
برفق كأخذ الديون. " (1)
7 - وفي تفسير الكشاف في تفسير الآية الشريفة قال:
" تؤخذ منهم على الصغار والذل، وهو أن يأتي بها بنفسه ماشيا غير راكب ويسلمها
وهو قائم والمتسلم جالس. وأن يتلتل تلتلة ويؤخذ بتلبيبه ويقال له: أد الجزية، وإن
كان يؤديها ويزخ في قفاه ". (2)
أقول: اللهزمة كزبرجة: العظم الناتئ في اللحى تحت الأذن. والتلبيب الثوب
الواقع على اللبة، أي المنحر. وتله: صرعه. وتلتله: زعزعه وأقلقه وزلزله. وزخه: دفعه
في وهدة. هذا.
ولا يخفى أن الهيئات المذكورة في كلماتهم لا تناسب ثقافة الإسلام وما نعرفه من
سيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الهداة (عليه السلام)، ويشبه أن تكون متخذة من سيرة
الأمويين عمالهم، حيث كانوا يعاملون غير العرب بل من لم يكن من قومهم معاملة
خشنة. والإسلام بريء من هذه الأعمال الخشنة ومن الميزات الطائفية والعنصرية.
وفي كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك حين ولاه مصر: " وأشعر قلبك الرحمة للرعية
والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان:
إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق... " (3)
وقد روي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قام لجنازة يهودي فقيل له: إنها جنازة يهودي، فقال:
" أليست نفسا ". (4)
فهذا منهج الإسلام وثقافته في الكافر الذي تحت لوائه وذمته حتى بالنسبة إلى

1 - مغني المحتاج 4 / 250.
2 - تفسير الكشاف 2 / 184 (= ط. أخرى 2 / 263).
3 - نهج البلاغة، فيض / 993; عبده 3 / 93; لح / 427، الكتاب 53.
4 - صحيح البخاري 1 / 228، باب من قام لجنازة يهودي.
470

جنازته ونعشه، لا أن يؤخذ منه ما له ثم تضرب لهزمته أو يزخ في قفاه ويتلتل،
فتدبر.
وهناك أخبار تدل على الإرفاق بأهل الذمة في جباية الجزية منهم وعدم جواز
ضربهم لذلك ووجوب إمهالهم مع الإعواز، وسنذكرها في مسألة الخراج لاشتراكهما
في هذا الحكم، فانتظر. هذا.
8 - وفي الدر المنثور عن ابن عباس في قوله: " عن يد وهم صاغرون " قال:
" ولا يلكزون. " (1)
9 - وفيه أيضا عن سلمان في قوله: " وهم صاغرون " قال: " غير محمودين. " (2)
10 - وفيه أيضا عن المغيرة:
" أنه بعث إلى رستم فقال له رستم إلى م تدعو؟ فقال له: أدعوك إلى الإسلام، فإن
أسلمت فلك مالنا وعليك ما علينا. قال: فإن أبيت؟ قال: فتعطي الجزية عن يد وأنت
صاغر، فقال لترجمانه: قل له: أما إعطاء الجزية فقد عرفتها فما قولك: وأنت صاغر؟
قال: تعطيها وأنت قائم وأنا جالس والسوط على رأسك. " (3)
أقول: ليس قول مغيرة من الحجج الشرعية مع ما نعرفه من سابقته ولا حقته. هذا.
وقد أشرنا في صدر المسألة إلى أن الجزية ضريبة تؤخذ عوضا عن الكف
عنهم عن حرماتهم ومشاعرهم والحماية لهم وتمتعهم بمزايا الدولة الإسلامية، وأن
يعامل كل واحد منهم كمواطن مسلم إذا التزموا بشرائط الذمة، وليست مفروضة
بداعي العقوبة والإهانة والتذليل، نعم يلازم قبولها نوعا من التسليم والانقياد، وهذا
شأن كل ضريبة، ولا غنى للحكومات عن الأموال والضرائب.
قال المفيد في المقنعة:
" وجعلها - تعالى - حقنا لدمائهم ومنعا من استرقاقهم ووقاية لما عداها من أموالهم. " (4)
ويستفاد هذا من نصوص المعاهدات التي عقدها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والخلفاء

1 - الدر المنثور 3 / 228.
2 - الدر المنثور 3 / 228.
3 - الدر المنثور 3 / 228.
4 - المقنعة / 44.
471

وأمراؤهم مع أهل الكتاب.
ففيما كتبه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأهل نجران: " ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد
النبي رسول الله على أموالهم وأنفسهم وأرضهم وملتهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم
وبيعهم وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير. لا يغير أسقف من أسقفيته ولا راهب من
رهبانيته ولا كاهن من كهانته، وليس عليه دنية (وليس عليهم ربية - الوثائق) ولا دم
جاهلية ولا يخسرون ولا يعسرون (ولا يحشرون ولا يعشرون - الوثائق) ولا يطأ
أرضهم جيش، ومن سأل منهم حقا فبينهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين... " (1)
أقول: قوله: " لا يحشرون " أي لا يندبون إلى المغازي ولا تضرب عليهم
البعوث. قيل: لا يجلون من أوطانهم و " لا يعشرون " أي لا يؤخذ منهم العشر. هذا.
ولما صالح أبو عبيدة بن الجراح أهل بلاد الشام ثم تتابعت الأخبار عليه بأن الروم
قد جمعوا لهم جمعا لم ير مثله اشتد ذلك عليه وعلى المسلمين فكتب إلى كل وال ممن
خلفه في المدن التي صالح أهلها يأمرهم أن يردوا عليهم ما جبي منهم من
الجزية الخراج، وكتب إليهم أن يقولوا لهم: إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه قد بلغنا
ما جمع لنا من المجموع وأنكم اشترطتم علينا أن نمنعكم وأنا لا نقدر على ذلك، وقد
رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشرط وما كتبنا بيننا وبينكم إن نصرنا
الله عليهم. فلما قالوا ذلك لهم وردوا عليهم الأموال التي جبوها منهم، قالوا: ردكم الله
علينا ونصركم عليهم، فلو كانوا هم لم يردوا علينا شيئا وأخذوا كل شيء بقي لنا حتى
لا يدعوا لنا شيئا. (2)
ومقدار الجزية قليل ضئيل بالنسبة إلى ما يلتزم به المسلمون ويضرب عليهم من
الزكوات والأخماس وإعداد وسائل الجهاد والخدمات العسكرية وغيرها، فكيف
يسمون هذه عقوبة.
وفي كتاب آثار الحرب للدكتور وهبة الزحيلي قال:
" والجزية ليست من مبتدعات الإسلام، وإنما كانت مقررة عند مختلف الأمم التي

1 - الخراج لأبي يوسف / 72، والوثائق السياسية / 176، الرقم 94.
2 - الخراج لأبي يوسف / 139.
472

سبقته كبني إسرائيل واليونان والرومان والبيزنطيين والفرس، وكان أول من سن
الجزية من الفرس كسرى أنوشروان، وهو الذي رتب أصولها وجعله طبقات، إذن
فالحالة العامة بين الأمم كانت تألف نظام الجزية والإسلام أقر ذلك فقط. " (1)
وراجع في هذا المجال تفسير المنار أيضا. (2)
وكم فرقا بين ما أقره الإسلام وبين ما كان يضعه الفاتحون على الأمم المغلوبة
المقهورة، كما هو واضح.
وبالجملة فيظهر من الأخبار والسير أن الجزية كانت ضريبة بتة عادلة يأخذها
إمام المسلمين من أهل الكتاب عوضا عن الزكوات والأخماس التي كانت تؤخذ من
المسلمين. والدولة لا مناص لها من الأموال التي بها يقوم الملك وتدار شؤونه وبها
يدفع عن البلاد والعباد.
قال في تفسير المنار:
" إن الجزية في الإسلام لم تكن كالضرائب التي يضعها الفاتحون على من يتغلبون
عليهم فضلا عن المغارم التي يرهقونهم بها، وإنما هي جزاء قليل على ما تلتزمه
الحكومة الإسلامية من الدفاع عن أهل الذمة وإعانة للجند الذي يمنعهم أي يحميهم
ممن يعتدي عليهم كما يعلم من سيرة أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهم أعلم الناس
بمقاصد الشريعة وأعدلهم في تنفيذها، والشواهد على ذلك كثيرة أوردنا طائفة منها
في تفسير الآية. " (3)
وقال أستاذه الشيخ محمد عبده في بعض مقالاته ما ملخصه:
" قالوا: إن الدين الإسلامي دين جهادي شرع في القتال، وفي طبيعته روح الشدة
على من يخالفه وليس فيها الصبر والمسالمة اللذان تقضي بهما شريعة المسيح حيث
ورد فيها: " من ضربك على خدك الأيسر فأدر له خدك الأيمن. " " من سخرك

1 - آثار الحرب / 693.
2 - المنار 10 / 292.
3 - المنار 11 / 282.
473

ميلا فسر معه ميلين. "
قلنا: بل طبيعة الإسلام هو العفو والمسامحة، قال - تعالى -: " خذ العفو وأمر
بالعرف وأعرض عن الجاهلين " (1) وإنما القتال فيه لرد اعتداء المعتدين على
الحق أهله إلى أن يؤمن شرهم وتضمن السلامة من غوائلهم. ولم يكن ذلك للإكراه في
الدين ولا للانتقام من مخالفيه ولهذا لا تسمع في تاريخ الفتوح الإسلامية ما تسمعه في
الحروب المسيحية من قتل الشيوخ والنساء والأطفال.
الإسلام الحربي كان يكتفي من الفتح بإدخال الأرض المفتوحة تحت سلطانه ثم
يترك الناس وما كانوا عليه من الدين يؤدون ما يجب عليهم في اعتقادهم، وإنما
يكلفهم بجزية يدفعونها لتكون عونا على صيانتهم والمحافظة على أمنهم في ديارهم،
وهم في عقائدهم ومعابدهم وعاداتهم بعد ذلك أحرار لا يضايقون في
عمل لا يضامون في معاملة.
خلفاء المسلمين كانوا يوصون قوادهم باحترام العباد في الصوامع والأديار كما
كانوا يوصونهم باحترام دماء النساء والأطفال وكل من لم يعن على القتال.
جاءت السنة المتواترة بالنهي عن إيذاء أهل الذمة وبتقرير ما لهم من الحقوق على
المسلمين: " لهم ما لنا وعليهم ما علينا. " و " من آذى ذميا فليس منا. " واستمر العمل
على ذلك ما استمرت قوة الإسلام.
والمسيحية السلمية كانت ترى لها حق القيام على كل دين يدخل تحت سلطانها;
تراقب أعمال أهله وتخصصهم دون الناس بضروب من المعاملة لا يحتملها الصبر
مهما عظم حتى إذا تمت لها القدرة على طردهم بعد العجز عن إخراجهم من
دينهم تعميدهم، أجلتهم عن ديارهم وغسلت الديار من آثارهم كما حصل ويحصل
في كل أرض استولت عليها أمة مسيحية استيلاء حقيقيا... " (2)
أقول: فأهل الذمة بعد عقدها والعمل بشرائطها يعيشون بين المسلمين في ظل

1 - سورة الأعراف (7)، الآية 199.
2 - الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية / 65 - 67.
474

حكومتهم عيشة حرة آمنين في الأموال والأعراض والنفوس، لهم ما لهم وعليهم
ما عليهم. بل الشواهد التاريخية تشهد بأنهم ربما كانوا يؤثرون العيش في ظل الدولة
الإسلامية العادلة على البقاء تحت لواء الحكومات المسيحية الدارجة المستكبرة.
واليهود كانوا عائشين في البلاد الإسلامية قرونا متطاولة برفق وتلطف وأمن في
الأموال والنفوس في حال أن الدول المسيحية وفي رأسهم الحكومة النازية كانت
تضغط عليهم وتستأصلهم. ومن المؤسف عليه أنهم قد جازوا المسلمين بأحسن
الجزاء في مجازر فلسطين ولبنان، وكأن غرامة جنايات الدول الأوربية الظالمة كانت
على عهدة أطفال المسلمين ونسائهم ومستضعفيهم!!
اللهم! فأيقظ المسلمين من سباتهم الغالب عليهم وادفع عنهم وعن بلادهم شر
الصهاينة وعملاء الكفر والفساد.
ولا يحصل هذا إلا بوحدة المسلمين واتحاد صفوفهم حتى كأنهم بنيان مرصوص،
وإحساسهم بوظيفة الدفاع عن حرمات الله وحرمات المسلمين، فإن الله - تعالى -
يقول: " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. " (1)

1 - سورة الرعد (13)، الآية 11.
475

الجهة الثانية عشرة:
في إشارة إجمالية إلى شرائط الذمة:
أقول: شرائط الذمة كثيرة وبابها واسع والبحث فيها تفصيلا لا يناسب المقام، حيث
إن بحثنا هنا في المنابع المالية للدولة الإسلامية، فلنكتف في هذه الجهة بنقل بعض
الكلمات من أعاظم الفقهاء ونعقبها بسرد بعض الأخبار المناسبة ونحيل البحث
التفصيلي والاستدلال عليها إلى مظانه وأهله فنقول:
1 - قال الشيخ في كتاب الجزية من الخلاف (المسألة 22):
" أهل الذمة إذا فعلوا ما يجب به الحد مما يحرم في شرعهم مثل الزنا
واللواطة السرقة والقتل والقطع أقيم عليهم الحد بلا خلاف، لأنهم عقدوا الذمة بشرط
أن تجري عليهم أحكامنا.
وإن فعلوا ما يستحلونه مثل شرب الخمر وأكل لحم الخنزير ونكاح المحرمات
فلا يجوز أن يتعرض لهم ما لم يظهروه بلا خلاف. فإن أظهروه وأعلنوه كان للإمام أن
يقيم عليهم الحدود. وقال جميع الفقهاء: ليس له أن يقيم الحدود التامة بل يعزرهم
على ذلك لأنهم يستحلون ذلك ويعتقدون إباحته.
دليلنا الآيات الموجبات لإقامة الحدود، وهي على عمومها، وإنما خصصنا حال
الاستتار بدليل الإجماع. وأيضا عليه إجماع الفرقة. " (1)
2 - وفي جهاد النهاية:
" وشرائط الذمة: الامتناع من مجاهرة المسلمين بأكل لحم الخنزير وشرب الخمور
وأكل الربا ونكاح المحرمات في شريعة الإسلام، فمتى فعلوا شيئا من ذلك فقد

1 - الخلاف 3 / 242.
476

خرجوا من الذمة وجرى عليهم أحكام الكفار. " (1)
أقول: وظاهره الإطلاق، فيعم ما إذا شرط عليهم ذلك في العقد وما إذا لم يشرط،
اللهم إلا أن يراد بالشرائط خصوص ما يشرط في العقد.
3 - وفي جهاد المبسوط:
" ومن تقبل منه الجزية إنما تقبل منه إذا التزم شرائط الذمة، وهي الامتناع عن
مجاهرة المسلمين بأكل لحم الخنزير وشرب الخمر وأكل الربا ونكاح المحرمات في
شرع الإسلام، فمتى لم يقبلوا ذلك أو شيئا منه لا تقبل منهم الجزية. وإن قبلوا ذلك ثم
فعلوا شيئا من ذلك فقد خرجوا من الذمة وجرى عليهم أحكام الكفار. " (2)
4 - وفي كتاب الجزايا منه:
" وأما عقد الجزية فهو الذمة ولا يصح إلا بشرطين: التزام الجزية وأن يجري عليهم
أحكام المسلمين مطلقا من غير استثناء. فالتزام الجزية وضمانها لابد منه لقوله -
تعالى -: " قاتلوا الذين لا يؤمنون " إلى قوله: " حتى يعطوا الجزية عن يد وهم
صاغرون " (3) وحقيقة الإعطاء هو الدفع غير أن المراد ههنا الضمان وإن لم يحصل
الدفع.
وأما التزام أحكامنا وجريانها عليهم فلابد منه أيضا وهو الصغار المذكور في
الآية. وفي الناس من قال: إن الصغار هو وجوب جري أحكامنا عليهم. ومنهم من
قال: الصغار أن تؤخذ منهم الجزية قائما والمسلم جالس. " (4)
5 - وفيه أيضا:
" المشروط في عقد الذمة ضربان: أحدهما يجب عليهم فعله، والآخر يجب عليهم
الكف عنه.
فما يجب عليهم فعله على ضربين: أحدهما بذل الجزية والآخر التزام أحكام

1 - النهاية / 292.
2 - المبسوط 2 / 13.
3 - سورة التوبة (9)، الآية 29.
4 - المبسوط 2 / 37.
477

المسلمين. ولا بد من ذكر هذين الشرطين في عقد الجزية لفظا ونطقا، فإن أغفل
ذكرهما أو ذكر أحدهما لم ينعقد، لقوله - تعالى -: " حتى يعطوا الجزية عن يد وهم
صاغرون. " (1) والصغار التزام أحكام المسلمين وإجراؤها عليهم.
وأما ما يجب الكف عنه فعلى ثلاثة أضرب: ضرب فيه منافاة الأمان، وضرب فيه
ضرر على المسلمين، وضرب فيه إظهار منكر في دار الإسلام. فذكر هذه الأشياء كلها
تأكيد وليس بشرط في صحة العقد.
فأما ما فيه منافاة الأمان فهو أن يجتمعوا على قتال المسلمين، فمتى فعلوا ذلك
نقضوا العهد، وسواء شرط ذلك في عقد الذمة أو لم يشرط لأن شرط الذمة يقتضي أن
يكونوا في أمان من المسلمين والمسلمون في أمان منهم.
وأما ما فيه ضرر على المسلمين يذكر فيه ستة أشياء: ألا يزني بمسلمة ولا يصيبها
باسم نكاح، ولا يفتن مسلما عن دينه، ولا يقطع عليه الطريق، ولا يؤوي للمشركين
عينا، ولا يعين على المسلمين بدلالة أو بكتب كتاب إلى أهل الحرب بأخبار
المسلمين ويطلعهم على عوراتهم، فإن خالفوا شرطا من هذه الشرائط نظر فإن
لم يكن مشروطا في عقد الذمة لم ينقض العهد لكن إن كان ما فعله يوجب حدا أقيم
عليه الحد فإن لم يوجبه عزر. وإن كان مشروطا عليه في عقد الذمة كان نقضا للعهد
لأنه فعل ما ينافي الأمان.
فأما إذا ذكر الله - تعالى - أو نبيه بالسب فإنه يجب قتله ويكون ناقضا للعهد...
وأما ما فيه إظهار منكر في دار الإسلام ولا ضرر على المسلمين فيه فهو إحداث
البيع والكنائس وإطالة البنيان وضرب النواقيس وإدخال الخنازير وإظهار الخمر في
دار الإسلام، فكل هذا عليه الكف عنه، سواء كان مشروطا أو غير مشروط فإن عقد
الذمة يقتضيه، وإن خالفوا ذلك لم ينتقض ذمته، سواء كان مشروطا عليه أو لم يكن
لكن يعزر فاعله أو يحد إن كان مما يوجب الحد.
وقد روى أصحابنا أنهم متى تظاهروا بشرب الخمر أو لحم الخنزير أو نكاح

1 - سورة التوبة (9)، الآية 29.
478

المحرمات في شرع الإسلام نقضوا بذلك العهد. وكل موضع قلنا ينتقض عهدهم
فأول ما يعمل به أن يستوفي منه بموجب الجرم (الحد خ. ل) ثم بعد ذلك يكون الإمام
بالخيار بين القتل والاسترقاق والمن والفداء... " (1)
6 - وفي جهاد الشرائع:
" الثالث في شرائط الذمة وهي ستة: الأول: قبول الجزية. الثاني: أن لا يفعلوا
ما ينافي الأمان مثل العزم على حرب المسلمين، أو إمداد المشركين. ويخرجون عن
الذمة بمخالفة هذين (الشرطين). الثالث: أن لا يؤذوا المسلمين: كالزنا بنسائهم اللواط
بصبيانهم والسرقة لأموالهم وإيواء عين المشركين والتجسس لهم، فإن فعلوا شيئا من
ذلك وكان تركه مشترطا في الهدنة كان نقضا. وإن لم يكن مشترطا كانوا على عهدهم
وفعل بهم ما يقتضيه جنايتهم من حد أو تعزير. ولو سبوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قتل
الساب، لو نالوه بما دونه عزروا إذا لم يكن شرط عليهم الكف. الرابع: أن لا يتظاهروا
بالمناكير: كشرب الخمر والزنا وأكل لحم الخنزير ونكاح المحرمات، ولو تظاهروا
بذلك نقض العهد. وقيل: لا ينقض بل يفعل بهم ما يوجبه شرع الإسلام من حد أو
تعزير. الخامس: أن لا يحدثوا كنيسة ولا يضربوا ناقوسا ولا يطيلوا بناء، ويعزرون
لو خالفوا، ولو كان تركه مشترطا في العهد انتقض. السادس: أن يجري عليهم أحكام
المسلمين. " (2)
أقول: الظاهر أن المراد بأحكام المسلمين ما يحكم به حاكم المسلمين من الحدود
والأحكام الاجتماعية والجزائية لا الأحكام الشخصية.
7 - وفي الأحكام السلطانية للماوردي:
" ويشترط عليهم في عقد الجزية شرطان: مستحق ومستحب:
أما المستحق فستة شروط: أحدها: أن لا يذكروا كتاب الله - تعالى - بطعن
فيه لا تحريف له. والثاني: أن لا يذكروا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بتكذيب له ولا ازدراء. الثالث:
أن لا يذكروا دين الإسلام بذم له ولا قدح فيه. والرابع: أن لا يصيبوا

1 - المبسوط 2 / 43.
2 - الشرائع 1 / 329 (= طبعة أخرى / 251).
479

مسلمة بزنا ولا باسم نكاح. والخامس: أن لا يفتنوا مسلما عن دينه ولا يتعرضوا
لماله ولا دينه. والسادس: أن لا يعينوا أهل الحرب ولا يودوا أغنياءهم. فهذه الستة
حقوق ملتزمة فتلزمهم بغير شرط. وإنما تشترط إشعارا لهم وتأكيدا لتغليظ العهد
عليهم ويكون ارتكابها بعد الشرط نقضا لعهدهم.
وأما المستحب فستة أشياء: أحدها: تغيير هيئاتهم بلبس الغيار وشد الزنار. الثاني:
أن لا يعلوا على المسلمين في الأبنية ويكونوا إن لم ينقصوا مساوين لهم. والثالث: أن
لا يسمعوهم أصوات نواقيشهم ولا تلاوة كتبهم ولا قولهم في عزير والمسيح. والرابع:
أن لا يجاهروهم بشرب خمورهم ولا بإظهار صلبانهم وخنازيرهم. والخامس: أن
يخفوا دفن موتاهم ولا يجاهروا بندب عليهم ولا نياحة. والسادس: أن يمنعوا من
ركوب الخيل عتاقا وهجانا ولا يمنعوا من ركوب البغال والحمير. وهذه الستة
المستحبة لا تلزم بعقد الذمة حتى تشترط فتصير بالشرط ملتزمة. ولا يكون ارتكابها
بعد الشرط نقضا لعهدهم لكن يؤخذون بها إجبارا ويؤدبون عليها زجرا ولا يؤدبون
إن لم يشترط ذلك عليهم. " (1)
وراجع في هذا المجال الأحكام السلطانية لأبي يعلى أيضا (2) والخراج لأبي
يوسف (3) والمغني لابن قدامة. (4)
أقول: الغيار بالكسر: علامة أهل الذمة كالزنار للمجوس ونحوه، كذا في أقرب
الموارد.
وكان الغرض من إلزامهم بلبس الزنار ونحوه تذليلهم بذلك وامتيازهم في الزي
من زي المسلمين. راجع في ذلك الأموال لأبي عبيد (5). هذا.
8 - وفي الوسائل بسنده، عن زرارة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " إن

1 - الأحكام السلطانية / 145.
2 - الأحكام السلطانية / 158.
3 - الخراج / 127 و 138 وما بعدها.
4 - المغني 10 / 606 وما بعدها.
5 - الأموال / 65 وما بعدها.
480

رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل الجزية من أهل الذمة على أن لا يأكلوا الربا، ولا يأكلوا لحم
الخنزير ولا ينكحوا الأخوات ولا بنات الأخ ولا بنات الأخت، فمن فعل ذلك منهم
برئت منه ذمة الله ذمة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: وليست لهم اليوم ذمة. " (1)
9 - وفيه أيضا عن الصدوق، عن فضل بن عثمان الأعور، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه
قال: " ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه اللذان يهودانه وينصرانه
ويمجسانه. إنما أعطى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذمة وقبل الجزية عن رؤوس أولئك بأعيانهم
على أن لا يهودوا أولادهم ولا ينصروا. وأما أولاد أهل الذمة اليوم فلا ذمة لهم. " (2)
أقول: لعل نفي الذمة لهم كان لعدم شمول ما عقده النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم وعدم أهلية
الخلفاء في عصر الإمام الصادق (عليه السلام) لعقدها.
10 - وفيه أيضا بسنده، عن أبي بصير، عن أحدهما (عليه السلام)، قال: " كان علي (عليه السلام) يضرب
في الخمر والنبيذ ثمانين: الحر والعبد واليهودي والنصراني. قلت: وما شأن
اليهودي النصراني؟ قال: " ليس لهم ان يظهروا شربه; يكون ذلك في بيوتهم. " (3)
11 - وفيه أيضا بسنده، عن أبي بصير، قال: " كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يجلد الحر العبد
واليهودي والنصراني في الخمر والنبيذ ثمانين. قلت: ما بال اليهودي والنصراني؟
فقال: " إذا أظهروا ذلك في مصر من الأمصار، لأنهم ليس لهم أن يظهروا شربها. " وفي
هذا المجال روايتان أخريان أيضا عن أبي بصير، فراجع. (4)
12 - وفيه أيضا بسنده، عن محمد بن قيس، عن أبي جعفر، قال: " قضى
أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يجلد اليهودي والنصراني في الخمر والنبيذ المسكر ثمانين جلدة
إذا أظهروا شربه في مصر من أمصار المسلمين، وكذلك المجوسي. ولم يعرض لهم إذا
شربوها في منازلهم وكنائسهم

1 - الوسائل 11 / 95، الباب 48 من أبواب جهاد العدو...، الحديث 1.
2 - الوسائل 11 / 96، الباب 48 من أبواب جهاد العدو، الحديث 3.
3 - الوسائل 18 / 471، الباب 6 من أبواب حد المسكر، الحديث 1.
4 - الوسائل 18 / 471، الباب 6 من أبواب حد المسكر، الحديث 2 و 4 و 5.
481

حتى يصيروا بين المسلمين. " (1)
13 - وفيه أيضا بسنده، عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام)، قال:
سألته عن يهودي أو نصراني أو مجوسي أخذ زانيا أو شارب خمر ما عليه؟ قال: " يقام
عليه حدود المسلمين إذا فعلوا ذلك في مصر من أمصار المسلمين أو في غير أمصار
المسلمين إذا رفعوا إلى حكام المسلمين. " (2)
14 - وفيه أيضا بسنده، عن إسماعيل بن أبي زياد، عن جعفر بن محمد، عن
آبائه (عليه السلام): " أن محمد بن أبي بكر كتب إلى علي (عليه السلام) في الرجل زنى بالمرأة
اليهودية النصرانية. فكتب (عليه السلام) إليه: إن كان محصنا فارجمه، وإن كان بكرا فاجلده مأة
جلدة ثم انفه. وأما اليهودية فابعث بها إلى أهل ملتها فليقضوا فيها ما أحبوا. " (3)
15 - وفيه أيضا عن الغارات، قال: بعث علي (عليه السلام) محمد بن أبي بكر أميرا على
مصر، فكتب إلى علي (عليه السلام) يسأله عن رجل مسلم فجر بامرأة نصرانية... فكتب إليه
علي (عليه السلام): " أن أقم الحد فيهم على المسلم الذي فجر بالنصرانية، وادفع النصرانية إلى
النصارى يقضون فيها ما شاؤوا. " (4) وروى نحوه البيهقي. (5).
وراجع في هذا المجال فروع الكافي، باب ما يجب على أهل الذمة من
الحدود. (6)
أقول: الذمي إذا ارتكب الزنا ونحوه فللإمام أن يقيم عليه الحد بموجب شرع
الإسلام. وله أيضا أن يدفعه إلى أهل نحلته ليقيموا عليه الحد على معتقدهم، كما أفتى
بذلك المحقق في حدود الشرائع فيما إذا زنى الذمي بذمية.

1 - الوسائل 18 / 471، الباب 6 من أبواب حد المسكر، الحديث 3.
2 - الوسائل 18 / 338، الباب 29 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1.
3 - الوسائل 18 / 361، الباب 8 من أبواب حد الزنا، الحديث 5.
4 - الوسائل 18 / 415، الباب 50 من أبواب حد الزنا، الحديث 1.
5 - سنن البيهقي 8 / 247، كتاب الحدود، باب ما جاء في حد الذميين...
6 - الكافي 7 / 238.
482

واستدل على ذلك بقوله - تعالى -: " فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض
عنهم. " (1) بما ورد لها من شأن النزول والتفسير، وبالروايات التي مر بعضها.
ونحن قد قوينا جواز حكم حاكم الإسلام أيضا بأحكامهم، فراجع ما حررناه في
كتابنا في الحدود في شرح تلك المسألة من الشرائع. (2)
16 - وفي سنن البيهقي بسنده عن علي (عليه السلام): " أن يهودية كانت تشتم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تقع
فيه فخنقها رجل حتى ماتت فأبطل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دمها. " (3)
17 - وفيه أيضا عن الشافعي، عن جماعة ممن روى السيرة: " أن بني قينقاع كان
بينهم وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) موادعة وعهد فأتت امرأة من الأنصار إلى صائغ منهم
ليصوغ لها حليا - وكانت اليهود معادية للأنصار - فلما جلست عند الصائغ عمد إلى
بعض حدائده فشد به أسفل ذيلها وجيبها وهي لا تشعر، فلما قامت المرأة وهي في
سوقهم نظروا إليها منكشفة فجعلوا يضحكون منها ويسخرون، فبلغ ذلك
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنابذهم وجعل ذلك منهم نقضا للعهد. " (4)
18 - وفي دعائم الإسلام عن علي (عليه السلام): " أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى عن إحداث
الكنائس في دار الإسلام. " (5)
19 - وفي المستدرك، عن الجعفريات بسنده، عن علي (عليه السلام) أنه قال: " ليس في
الإسلام كنيسة محدثة. " وعن السيد فضل الله في نوادره بإسناده عنه (عليه السلام) مثله. (6)
أقول: الظاهر من هذا الحديث أيضا إرادة دار الإسلام.

1 - سورة المائدة (5)، الآية 42.
2 - كتاب الحدود / 88 وما بعدها.
3 - سنن البيهقي 9 / 200، كتاب الجزية، باب يشترط عليهم أن لا يذكروا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا بما
هو أهله.
4 - سنن البيهقي 9 / 200، كتاب الجزية، باب يشترط عليهم أن أحدا من رجالهم إن أصاب
مسلمة...
5 - دعائم الإسلام 1 / 381، كتاب الجهاد - ذكر الصلح والموادعة والجزية.
6 - مستدرك الوسائل 2 / 262، الباب 41 من أبواب جهاد العدو، الحديث 5.
483

20 - وفي سنن البيهقي بسنده، عن ابن عباس، قال: " صالح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أهل
نجران على ألفي حلة، فذكر الحديث كما مضى قال فيه: " على أن لا تهدم لهم
بيعة لا يخرج لهم قس ولا يفتنون عن دينهم ما لم يحدثوا حدثا أو يأكلوا الربا. " (1)
21 - وفيه أيضا بسنده، عن ابن عباس، قال: " كل مصر مصره المسلمون لا يبنى
فيه بيعة ولا كنيسة ولا يضرب فيه بناقوس ولا يباع فيه لحم خنزير. " (2)
22 - وفيه أيضا بسنده، عن ابن عباس أيضا، قال: " أيما مصر أعده العرب فليس
للعجم أن يبنوا فيه بيعة - أو قال: كنيسة - ولا يضربوا فيه ناقوسا ولا يدخلوا فيه خمرا
ولا خنزيرا. وأيما مصر اتخذه العجم فعلى العرب أن يفوا لهم بعهدهم فيه لا يكلفوهم
ما لا طاقة لهم به. " (3)
23 - وفي خراج أبي يوسف بسنده عن ابن عباس أنه سئل عن العجم ألهم أن
يحدثوا بيعة أو كنيسة في أمصار المسلمين؟ فقال: " أما مصر مصرته العرب فليس لهم
أن يحدثوا فيه بناء بيعة ولا كنيسة ولا يضربوا فيه بناقوس ولا يظهروا فيه
خمرا لا يتخذوا فيه خنزيرا. وكل مصر كانت العجم مصرته ففتحه الله على العرب
فنزلوا على حكمهم فللعجم ما في عهدهم وعلى العرب أن يوفوا لهم بذلك. " (4)
أقول: الظاهر أن المراد هو الفرق بين بلد بناه المسلمون وبين بلد بناه أهل الذمة ثم
فتحه المسلمون وشرطوا لهم فيه شرطا، وليس المدار هو العربية والعجمية بملاك اللغة
أو العنصرية.
24 - وفي سنن البيهقي بسنده، عن عبد الرحمن بن غنم، قال: كتبت لعمر بن

1 - سنن البيهقي 9 / 202، كتاب الجزية، باب لا تهدم لهم كنيسة ولا بيعة.
2 - سنن البيهقي 9 / 201، كتاب الجزية، باب يشترط عليهم أن لا يحدثوا في أمصار المسلمين
كنيسة...
3 - سنن البيهقي 9 / 202، كتاب الجزية، باب لا تهدم لهم كنيسة ولا بيعة.
4 - الخراج / 149.
484

الخطاب حين صالح أهل الشام: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب لعبد الله عمر
أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا. إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان
لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا، وشرطنا لكم على أنفسنا أن لا نحدث في
مدينتنا ولا فيما حولها ديرا ولا كنيسة ولا قلاية ولا صومعة راهب ولا نجدد ما خرب
منها ولا نحيي ما كان منها في خطط المسلمين، وأن لا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من
المسلمين في ليل ولا نهار وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل، وان ننزل من مر بنا
من المسلمين ثلاثة أيام ونطعمهم، وأن لا نؤمن في كنائسنا ولا منازلنا
جاسوسا لا نكتم غشا (عينا - الكنز) للمسلمين، ولا نعلم أولادنا القرآن ولا نظهر شركا
ولا ندعو إليه أحدا ولا نمنع أحدا من قرابتنا الدخول في الإسلام إن أراده، وأن نوقر
المسلمين وأن نقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا جلوسا، ولا نتشبه بهم في شيء من
لباسهم من قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا نتكلم بكلامهم ولا نتكنى
بكناهم، ولا نركب السروج ولا نتقلد السيوف ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله
معنا ولا ننقش خواتيمنا بالعربية، ولا نبيع الخمور، وأن نجز مقاديم رؤوسنا وأن نلزم
زينا حيث ما كنا وأن نشد الزنانير على أوساطنا، وأن لا نظهر صلبنا وكتبنا في شيء
من طريق المسلمين ولا أسواقهم وأن لا نظهر الصليب على كنائسنا وأن لا نضرب
بناقوس في كنائسنا بين حضرة المسلمين، وأن لا نخرج سعانين ولا باعوثا، ولا نرفع
أصواتنا مع أمواتنا ولا نظهر النيران معهم في شيء من طريق المسلمين ولا نجاورهم
موتانا، ولا نتخذ من الرقيق ما جرى عليه سهام المسلمين، وأن نرشد
المسلمين لا نطلع عليهم في منازلهم.
فلما أتيت عمر بالكتاب زاد فيه: وأن لا نضرب أحدا من المسلمين، شرطنا لهم
ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا وقبلنا منهم الأمان، فإن نحن خالفنا شيئا مما شرطناه لكم
فضمناه على أنفسنا فلا ذمة لنا وقد حل لكم ما يحل لكم من أهل المعاندة والشقاوة
(الشقاق - الكنز). وراجع الرواية أيضا في كنز العمال. (1)

1 - سنن البيهقي 9 / 202، كتاب الجزية، باب الإمام يكتب كتاب الصلح على الجزية; وكنز العمال
4 / 503 شروط النصارى، الحديث 11493.
485

وقال العلامة في المنتهى:
" وينبغي للإمام أن يشرط عليهم كل ما فيه نفع المسلمين ورفعتهم كما شرطه عمر;
فقد روي أنه كتب أهل الجزيرة إلى عبد الرحمن بن غنم ".
وذكر قريبا من ذلك فراجع وراجع الجواهر أيضا (1).
أقول: القلاية بكسر القاف وتشديد اللام: مسكن الأسقف. والسعانين: عيد الأحد
الذي قبل الفصح. والباعوث: صلاة ثاني عيد الفصح. هكذا في المنجد.
25 - وفيه أيضا بسنده، عن حرام بن معاوية، قال: كتب إلينا عمر بن الخطاب: " أن
أدبوا الخيل ولا يرفعن بين ظهرانيكم الصليب ولا يجاورنكم الخنازير. " (2)
وراجع في حكم إحداث البيع والكنائس مبسوط الشيخ. (3)
ويظهر من الروايات والمعاهدات والسير المنقولة أن لإمام المسلمين أن
يزيد ينقص في حدود الذمة وشرائطها حسب ما يراه صلاحا بلحاظ شرائط
الزمان المكان، فتدبر.

1 - المنتهى 2 / 968; والجواهر 21 / 273.
2 - سنن البيهقي 9 / 201; كتاب الجزية، باب يشترط عليهم أن لا يحدثوا في أمصار المسلمين
كنيسة...
3 - المبسوط 2 / 45 وما بعدها.
486

المسألة الثانية: في الخراج:
أقول: قد كان بحثنا في هذا الفصل في الفيء وقد تعرضنا أولا لآيتي الفيء في
سورة الحشر، ثم تعرضنا لخمسة أمور وبينا في خلالها معنى الفيء، وعدم الخمس
فيه، والنسبة بينه وبين الغنائم والأنفال والصدقات، وتعرضنا لمعنى الفيء ومصارفه
إجمالا، ونقلنا فيه الأخبار وكلمات الأصحاب، وتعرضنا لمسألة فدك أيضا
بالإجمال. وعقدنا الأمر الخامس لبيان بعض مصاديق الفيء وقلنا إن من مصاديقه
الجزية والخراج فنتعرض لهما في مسألتين. وقد طال بحثنا في المسألة الأولى، أعني
الجزية. فالآن نتعرض لمسألة الخراج، وقد ظهر كثير من أحكامه في خلال البحث في
مطلق الفيء وكذا في الجهة السادسة من بحث الغنائم المذكور فيها حكم الأراضي
المفتوحة عنوة بالتفصيل الذي مر.
وكيف كان فهنا أيضا جهات من البحث:
487

الجهة الأولى:
في معنى الخراج وموضوعه ومقداره:
فنقول: الخراج مثلثة الفاء، وقد مر منا أنه كان يطلق على الضريبة التي كانت توضع
على الأراضي المفتوحة عنوة أو صلحا على أنها للمسلمين أو لإمام المسلمين، أو
على الأراضي التي انجلى عنها أهلها، بل وعلى أراضي الموات أيضا على احتمال
قوي عندنا كما يأتي بيانه في فصل الأنفال، سواء وقع التقبيل بنحو الإجارة أو بنحو
المزارعة. وربما كان يطلق على ما يؤخذ بنحو الإجارة الخراج وعلى ما يؤخذ بنحو
المزارعة المقاسمة.
وربما يظهر من صحيحة محمد بن مسلم إطلاق الخراج على الجزية بقسميها
أيضا، قال: " سألته عن أهل الذمة ماذا عليهم مما يحقنون به دماءهم وأموالهم؟ قال:
الخراج، وإن أخذ من رؤوسهم الجزية فلا سبيل على أرضهم وإن أخذ من أرضهم
فلا سبيل على رؤوسهم. " (1)
فيظهر من الصحيحة أن الخراج أعم من الجزية.
وفي مجمع البحرين:
" وقيل: يقع اسم الخراج على الضريبة والفئ والجزية والغلة، ومنه خراج
العراقين. " (2)
وفي لسان العرب عن الفراء:
" أن جملة معنى الخراج الغلة، وقيل للجزية التي ضربت على رقاب أهل الذمة
خراج، لأنه كالغلة الواجبة عليهم. " (3) هذا.

1 - الوسائل 11 / 114، الباب 68 من أبواب جهاد العدو، الحديث 3.
2 - مجمع البحرين / 157.
3 - لسان العرب 2 / 252.
488

ولكن الظاهر من الماوردي وأبي يعلى كونهما متباينين، فقد مر عن الماوردي
قوله:
" والجزية والخراج حقان أوصل الله - سبحانه وتعالى - المسلمين إليهما من
المشركين، يجتمعان من ثلاثة أوجه ويفترقان من ثلاثة أوجه ثم تتفرع أحكامهما:
فأما الأوجه التي يجتمعان فيها فأحدها: أن كل واحد منهما مأخوذ عن مشرك
صغارا له وذلة. والثاني: أنهما مالا فيء يصرفان في أهل الفيء. والثالث: أنهما يجبان
بحلول الحول ولا يستحقان قبله.
وأما الأوجه التي يفترقان فيها فأحدها: أن الجزية نص وأن الخراج اجتهاد. الثاني:
أن أقل الجزية مقدر بالشرع وأكثرها مقدر بالاجتهاد، والخراج أقله أكثره مقدر
بالاجتهاد. والثالث أن الجزية تؤخذ مع بقاء الكفر وتسقط بحدوث الإسلام، والخراج
يؤخذ مع الكفر والإسلام. " (1)
وذكر نحو ذلك أبو يعلى الفراء أيضا. (2)
أقول: قد مر منا أن مقدار الجزية أيضا عندنا مفوض إلى الإمام قلة وكثرة، وأن
الجزية أيضا قد توضع على الأرض.
وقال الماوردي في فصل الخراج ما ملخصه ومحصله:
" وأما الخراج فهو ما وضع على رقاب الأرض من حقوق تؤدى عنها، قال الله -
تعالى -: " أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير. " وفي قوله: " أم تسألهم خرجا " جهان:
أحدهما: أجرا، والثاني: نفعا. وفي قوله: " فخراج ربك خير " وجهان: أحدهما: فرزق
ربك في الدنيا خير منه. والثاني: فأجر ربك في الآخرة خير منه.
قال أبو عمرو بن العلاء: والفرق بين الخرج والخراج أن الخرج من الرقاب الخراج
من الأرض. والخراج في لغة العرب اسم للكراء والغلة، ومنه قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" الخراج بالضمان. "
والأرضون كلها تنقسم أربعة أقسام:

1 - الأحكام السلطانية للماوردي / 142.
2 - الأحكام السلطانية لأبي يعلى / 153.
489

أحدها: ما استأنف المسلمون إحياءه، فهو أرض عشر لا يجوز أن يوضع عليها
خراج. والقسم الثاني: ما أسلم عليه أربابه، فهم أحق به، فتكون على مذهب الشافعي
أرض عشر. وقال أبو حنيفة: الإمام مخير بين أن يجعلها خراجا أو عشرا.
والقسم الثالث: ما ملك من المشركين عنوة وقهرا، فتكون على مذهب الشافعي
غنيمة تقسم بين الغانمين وتكون أرض عشر، وجعلها مالك وقفا على المسلمين
بخراج يوضع عليها، وقال أبو حنيفة: يكون الإمام مخيرا بينهما.
والقسم الرابع: ما صولح عليه المشركون من أرضهم، فهي الأرض المختصة بوضع
الخراج عليها، وهي على ضربين: أحدهما: ما خلا عنه أهله وحصلت للمسلمين بغير
قتال، فتصير وقفا على مصالح المسلمين ويضرب عليها الخراج ويكون أجرة تقر
على الأبد. والضرب الثاني: ما أقام فيه أهله وصولحوا على إقراره في أيديهم بخراج
يضرب عليهم، فهذا على ضربين:
أحدهما: أن ينزلوا عن ملكها لنا عند صلحنا، فتصير هذه الأرض وقفا على
المسلمين كالذي انجلى عنه أهله ويكون الخراج المضروب عليهم أجرة لا تسقط
بإسلامهم ولا يجوز لهم بيع رقابها، ولا يسقط عنهم بهذا الخراج جزية رقابهم. الضرب
الثاني: أن يستبقوها على أملاكهم ولا ينزلوا عن رقابها ويصالحوا عنها بخراج يوضع
عليها، فهذا الخراج جزية تؤخذ منهم ما أقاموا على شركهم وتسقط عنهم
بإسلامهم، يجوز أن لا يؤخذ منهم جزية رقابهم، ويجوز لهم بيع هذه الأرض على من
شاؤوا منهم أو من المسلمين أو من أهل الذمة.
فأما قدر الخراج المضروب فيعتبر بما تحتمله الأرض، فإن عمر حين وضع
الخراج على سواد العراق ضرب في بعض نواحيه على كل جريب قفيزا
ودرهما، جرى في ذلك على ما استوفقه من رأي كسرى بن قباذ، فإنه أول من مسح
السواد ووضع الخراج وحد الحدود ووضع الدواوين، وراعى ما تحتمله الأرض من
غير حيف بمالك ولا إجحاف بزارع.
وضرب عمر على ناحية أخرى غيرها غير هذا القدر. فاستعمل عثمان بن حنيف
عليه وأمره بالمساحة فمسح ووضع على كل جريب من الكرم والشجر الملتف عشرة
490

دراهم، ومن النخل ثمانية دراهم، ومن قصب السكر ستة دراهم، ومن الرطبة
خمسة دراهم، ومن البر أربعة دراهم، ومن الشعير درهمين وكتب بذلك إلى عمر
فأمضاه. عمل في نواحي الشام على غير هذا.
وكذلك يجب أن يكون واضع الخراج بعده يراعي في كل أرض ما تحتمله، فإنها
تختلف من ثلاثة أوجه يؤثر كل واحد منها في زيادة الخراج ونقصانه: أحدها:
ما يختص بالأرض من جودة يزكو بها زرعها أو رداءة يقل بها ريعها. والثاني:
ما يختص بالزرع من اختلاف أنواعه من الحبوب والثمار. والثالث: ما يختص بالسقي
والشرب. فلابد لواضع الخراج من اعتبار ما وصفناه من الأوجه الثلاثة: من اختلاف
الأرضين واختلاف الزروع واختلاف السقي ليعلم قدر ما تحمله الأرض فيقصد
العدل من غير إجحاف بأهل الخراج ولا نقصان يضر بأهل الفيء. ومن الناس من
اعتبر شرطا رابعا وهو قربها من البلدان والأسواق وبعدها لزيادة أثمانها ونقصانها.
ولا يستقصي في وضع الخراج غاية ما يحتمله، وليجعل فيه لأرباب الأرض بقية
يجبرون بها النوائب والحوائج. حكي أن الحجاج كتب إلى عبد الملك بن مروان يستأذنه
في أخذ الفضل من أموال السواد فمنعه من ذلك وكتب إليه: لا تكن على درهمك المأخوذ
أحرص منك على درهمك المتروك، وأبق لهم لحوما يعقدون بها شحوما. " (1)
انتهى ما أدرنا نقله من كلام الماوردي في الخراج ملخصا.
أقول: يشبه أن يكون الخرج والخراج مأخوذين من الخروج، حيث إن غلة الشيء
وعائدته كأنهما تخرجان من هذا الشيء.
وما رواه الماوردي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من قوله: " الخراج بالضمان " قد رواه أرباب
السنن، منهم أبو داود في البيوع بأسانيد عن عائشة. ومتن الحديث في أحدها هكذا:
إن رجلا ابتاع غلاما فأقام عنده ما شاء الله أن يقيم، ثم وجد به عيبا، فخاصمه إلى
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فرده عليه فقال الرجل: يا رسول الله، قد استغل غلامي، فقال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " الخراج بالضمان. " (2)

1 - الأحكام السلطانية للماوردي / 146 - 149.
2 - سنن أبي داود 2 / 254 و 255، كتاب الإجارة، باب فيمن اشترى عبدا فاستعمله ثم وجد به
عيبا.
491

وروى أبو عبيد في الأموال عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): " أنه قضى أن الخراج بالضمان. " وظاهره
أن هذا من أقضية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
ثم قال:
" قال أبو عبيد: وهو أن يشتري الرجل العبد فيستغله ثم يجد به عيبا كان عند
البائع: أنه يرده بالعيب وتطيب له تلك الغلة بضمانه لأنه لو مات في يده مات من
ماله. " (1)
والظاهر أن ذكر العبد من باب المثال فلا خصوصية له.
وذكر نحو ذلك بنحو أوفى في النهاية ثم قال:
" الباء في بالضمان متعلقة بمحذوف تقديره: الخراج مستحق بالضمان أي
بسببه. " (2)
أقول: لا يخفى أن هذا المعنى للحديث لا يوافق ما هو المشهور بين أصحابنا من أن
التلف في زمن الخيار ممن لا خيار له، اللهم إلا أن يحمل هذه القاعدة على خصوص
الخيارات الزمانية كما احتمل والتحقيق يطلب من محله، أو يراد بالضمان في
الحديث ضمان الإتلاف أو التلف مع التقصير في حفظه.
ويحتمل فيه كون المراد بالضمان ضمان نفقة المبيع وحفظه في مدة الخيار
لا ضمان عينه لو تلفت فتكون غلة شيء في قبال نفقته.
وأما احتمال كون المعنى أن غلة الشيء ومنفعته مضمونة فهو خلاف الظاهر جدا،
فتدبر. هذا.
وقول الماوردي إن ما استأنف المسلمون إحياءه لا يجوز أن يوضع عليها خراج
مبني على تملك رقبة الأرض بالإحياء، وأما إن قلنا ببقائها على ملك الإمام بما هو
إمام فالظاهر جواز أخذه الطسق والخراج منها، كما يدل عليه بعض الأخبار وسيأتي
تحقيقه في فصل الأنفال.

1 - الأموال / 93.
2 - النهاية لابن الأثير 2 / 19.
492

وقال أبو يعلى الفراء:
" فأما الكلام في الخراج فهو ما وضع على رقاب الأرضين من حقوق تؤدى عنها،
والأرضون كلها تنقسم أربعة أقسام. "
ثم تعرض لأحكام الأرضين بالتفصيل، فراجع. (1)
وراجع في بيان أقسام الأرضين وأحكامها زكاة النهاية أيضا (2) وقد تعرضنا
لكلامه ولنكت عليه في الجهة السادسة من بحث الغنائم أعني حكم الأراضي
المفتوحة عنوة. وراجع فيها أيضا جهاد المنتهى والتذكرة (3). وراجع في حكم
الأراضي المفتوحة عنوة جهاد المبسوط (4)، وقد تعرضنا له أيضا هناك.
ونحن نقول هنا إجمالا أن الأراضي على أربعة أقسام:
الأول: ما أسلم أهلها عليها طوعا من غير قتال، فتترك في أيديهم وتكون
لهم يؤخذ منهم العشر أو نصف العشر كغيرهم من المسلمين; لهم ما لهم وعليهم
ما عليهم، ويدل على ذلك خبر صفوان والبزنطي وكذا صحيحة البزنطي، فراجع. (5)
الثاني: ما أخذت من الكفار عنوة وقهرا بالسيف، فهي عندنا لا تقسم بل تكون
للمسلمين بما هم مسلمون وتكون تحت اختيار الإمام يقبلها لهم بما يراه صلاحا، يدل
عليه الخبران وغيرهما وقد مر تفصيله في الجهة السادسة من بحث الغنائم.
الثالث: ما صولح عليها على أن تكون للمسلمين، وحكمها حكم ما قبلها. هذا إذا
صولح عليها على أن تكون الرقبات ملكا للمسلمين وأما إن صولح عليها على أن
تبقى ملكا لأنفسهم ويؤدوا عنها الخراج سميت أرض الجزية ويسقط عنهم الخراج
بالإسلام ويصير حكمها حكم ما أسلم أهلها عليها.

1 - الأحكام السلطانية / 162 وما بعدها.
2 - النهاية للشيخ / 194 وما بعدها.
3 - المنتهى 2 / 934 وما بعدها، والتذكرة 1 / 427 و 428.
4 - المبسوط 2 / 33 - 35.
5 - الوسائل 11 / 119 و 120، الباب 72 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1 و 2.
493

الرابع: كل أرض انجلى أهلها عنها أو صولح عليها على أن تكون الإمام المسلمين
بما هو إمام أو كانت مواتا بأقسامه، فهذه الأرضون كلها للإمام بما هو إمام وتكون من
الفيء والأنفال، وقد مر منا مرارا معنى كون الشيء للإمام ويجيء تفصيله في بحث
الأنفال ومحصل ذلك أنه ليس لشخص الإمام بل لمقام الإمامة ومنصبها وينتقل منه
إلى الإمام بعده لا إلى وارثه.
ومقدار الخراج في جميع الأقسام الثلاثة مفوض إلى الإمام يقبلها بالذي يرى، أما
ما للإمام فكون أمره بيده واضح. وأما ما للمسلمين فيدل على ذلك مضافا إلى أن ذلك
مقتضى ولايته وإمامته الخبران المشار إليهما وكذا مرسلة حماد الطويلة، وبه أفتى
الأصحاب أيضا:
ففي صحيحة البزنطي قال: ذكرت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام) الخراج وما سار به أهل
بيته، فقال: " العشر ونصف العشر على من أسلم طوعا; تركت أرضه في يده وأخذ منه
العشر ونصف العشر فيما عمر منها، وما لم يعمر منها أخذه الوالي فقبله ممن يعمره كان
للمسلمين. وليس فيما كان أقل من خمسة أو ساق شيء. وما أخذ بالسيف فذلك إلى
الإمام يقبله بالذي يرى كما صنع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بخيبر. الحديث. " (1) ونحوها خبر
صفوان والبزنطي، فراجع.
وقد تعرضنا لسند الحديثين وفقههما بالتفصيل في مبحث الأراضي المفتوحة عنوة
من فصل الغنائم.
وفي مرسل حماد، عن بعض أصحابه، عن أبي الحسن (عليه السلام): " والأرضون التي
أخذت عنوة بخيل أو ركاب فهي موقوفة متروكة في يدي من يعمرها ويحييها ويقوم
عليها على ما صالحهم الوالي على قدر طاقتهم من الحق: النصف أو الثلث أو الثلثين
على قدر ما يكون لهم صلاحا ولا يضرهم. " (2)
وكيف كان فيسمى حاصل هذه الأراضي وما يؤخذ منها بعد تقبيلها بالخراج.

1 - الوسائل 11 / 120، الباب 72 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
2 - الوسائل 11 / 84، الباب 41 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
494

الجهة الثانية:
في مصرف الخراج:
أقول: يظهر مما مر في أوائل فصل الفيء والأمور الخمسة التي ذكرناها - من كون
الفيء بأجمعه للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعده للإمام بما هو إمام وكونه تحت اختياره، وأن له أن
يصرفه في كل ما تقتضيه شؤون الإمامة ومصالح المسلمين - أن الخراج أيضا كذلك،
لأنه أحد مصاديق الفيء. ومما مر هناك في هذا المجال خبر عبد الله بن سنان، عن
أبي عبد الله (عليه السلام) في الغنيمة، قال: " يخرج منه الخمس ويقسم ما بقي بين من قاتل عليه
وولي ذلك. وأما الفيء والأنفال فهو خالص لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). " (1)
ونضيف هنا أن الأراضي التي تكون للإمام بما هو إمام فحكمها واضح إذا يكون
خراجها لا محالة تحت اختياره. وأما ما كانت للمسلمين بما هم مسلمون كالمفتوحة
عنوة أو صلحا على أن تكون لهم فيدل على صرف خراجها في مصالحهم مرسلة
حماد الطويلة التي عمل بها الأصحاب في الأبواب المختلفة:
ففيها بعد ذكر تقبيل الإمام للأراضي المفتوحة عنوة قال: " ويؤخذ الباقي فيكون
بعد ذلك أرزاق أعوانه على دين الله وفي مصلحة ما ينوبه من تقوية الإسلام وتقوية
الدين في وجوه الجهاد وغير ذلك مما فيه مصلحة العامة ليس لنفسه من ذلك
قليل لا كثير. " (2)
وقوله (عليه السلام): " ليس لنفسه من ذلك قليل ولا كثير " لعله يراد به عدم كونه ملكا
لشخص الإمام والوالي أو عدم تعلق الخمس به للإمام، وإلا فإدارة شؤون الوالي وسد
خلاته أيضا من أهم المصالح العامة التي تنوبه.

1 - الوسائل 6 / 374، الباب 2 من أبواب الأنفال...، الحديث 3.
2 - الوسائل 11 / 85، الباب 41 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
495

ويظهر من بعض الأخبار أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صرف من عوائد خيبر في حاجات نفسه
أيضا، وخيبر كانت مفتوحة عنوة كما يظهر من خبر صفوان والبزنطي: ففي كتاب
الخراج والفئ من سنن أبي داود بسنده، عن سهل بن أبي حثمة، قال: " قسم
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خيبر نصفين: نصفا لنوائبه وحاجته ونصفا بين المسلمين، قسمها بينهم
على ثمانية عشر سهما. " (1) هذا.
وأفتى بمفاد مرسلة حماد في المقام فقهاؤنا:
1 - ففي المبسوط في حكم الأرض المفتوحة عنوة قال:
" ويأخذ ارتفاعها ويصرفه في مصالح المسلمين وما ينوبهم من سد الثغور ومعونة
(تقوية خ. ل) المجاهدين وبناء القناطر وغير ذلك من المصالح. " (2)
2 - وفيه أيضا:
" وأما الخراج فهو لجميع المسلمين، فإن كان قد خمست الأرضون لا يخمس، إن
كانت لم تخمس خمس، والباقي للمسلمين مصروف في مصالحهم. " (3)
3 - وفي كتاب الفيء من الخلاف (المسألة 18):
" ما لا ينقل ولا يحول من الدور والعقارات والأرضين عندنا ان فيه الخمس
فيكون لأهله، والباقي لجميع المسلمين: من حضر القتال ومن لم يحضر، فيصرف
ارتفاعه إلى مصالحهم. " (4)
وقد مر منا الإشكال في ثبوت الخمس في الأرضين المفتوحة عنوة، فراجع.
4 - وفي جهاد الشرائع:
" ويصرف الإمام حاصلها في المصالح مثل سد الثغور ومعونة الغزاة وبناء
القناطر. " (5)

1 - سنن أبي دود 2 / 142، كتاب الخراج والفئ والإمارة، باب ما جاء في حكم أرض خيبر.
2 - المبسوط 2 / 34.
3 - المبسوط 2 / 66.
4 - الخلاف 2 / 333.
5 - الشرائع 1 / 322 (= طبعة أخرى / 246).
496

5 - وفي جهاد المنتهى:
" وارتفاع هذه الأرض ينصرف إلى المسلمين بأجمعهم وإلى مصالحهم. " (1)
6 - وفيه أيضا:
" ولا يصح بيعها ولا هبتها ولا وقفها، بل يصرف الإمام حاصلها في المصالح مثل
سد الثغور ومعاونة الغزاة وبناء القناطر، ويخرج منها أرزاق القضاة والولاة وصاحب
الديوان وغير ذلك من مصالح المسلمين. " (2)
وفي التذكرة أيضا نحو ما في المنتهى. (3) هذا.
7 - وفي كتاب الأموال لأبي عبيد:
" وأما مال الفيء فما اجتني من أموال أهل الذمة مما صولحوا عليه من جزية
رؤوسهم التي بها حقنت دماؤهم وحرمت أموالهم ومنه خراج الأرضين التي افتتحت
عنوة ثم أقرها الإمام في أيدي أهل الذمة على طسق يؤدونه، ومنه وظيفة أرض
الصلح التي منعها أهلها حتى صولحوا منها على خراج مسمى، ومنه ما يأخذه العاشر
من أموال أهل الذمة التي يمرون بها عليه لتجارتهم، ومنه ما يؤخذ من أهل الحرب إذا
دخلوا بلاد الإسلام للتجارات، فكل هذا من الفيء. وهو الذي يعم المسلمين:
غنيهم فقيرهم، فيكون في أعطية المقاتلة، وأرزاق الذرية، وما ينوب الإمام من أمور
الناس بحسن النظر للإسلام وأهله. " (4)
8 - وفي المغني لابن قدامة الحنبلي:
" ذكر أحمد الفيء فقال: فيه حق لكل المسلمين وهو بين الغني والفقير. "
ثم حكى عن القاضي انه قال:
" ومعنى كلام أحمد: " أنه بين الغني والفقير " يعني الغني الذي فيه مصلحة المسلمين
من المجاهدين والقضاة والفقهاء، ويحتمل أن يكون معنى كلامه أن لجميع المسلمين

1 - المنتهى 2 / 935.
2 - المنتهى 2 / 936.
3 - التذكرة 1 / 427.
4 - الأموال / 24.
497

الانتفاع بذلك المال لكونه يصرف إلى من يعود نفعه على جميع المسلمين، وكذلك
ينتفعون بالعبور على القناطر والجسور المعقودة بذلك المال وبالأنهار والطرقات التي
أصلحت به... " (1)
إلى غير ذلك من كلمات علماء الفريقين في مصرف الفيء الذي عمدته الخراج
بأقسامه، حيث يستفاد من جميع ذلك أنه يكون تحت اختيار إمام المسلمين وأنه
يصرفه في ما تنوبه من مصالح المسلمين.
نعم إدارة معايش الفقراء والضعفاء ومن لا حيلة له من أفراد المجتمع أيضا تكون
من المصالح المهمة التي وضعت على عاتق الإمام، فيجب سد خلاتهم من
الزكوات من خراج الأرضين إن لم تف الزكوات. كما أن سد خلات شخص
الإمام عماله وولاته أيضا من أهم المصالح العامة.
ولأجل ذلك صرف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) - على ما روي - من أموال بني النضير في نفقة
نفسه وأزواجه وفقراء المهاجرين وبعض الأنصار، كما مر بيانه في تفسير آية الفيء
في أول الفصل.
وفي نهج البلاغة فيما كتبه (عليه السلام) لمالك: " ثم الله الله في الطبقة السفلى! من الذين
لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين وأهل البؤسى والزمنى، فإن في هذه الطبقة
قانعا ومعترا، واحفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قسما من بيت
مالك قسما من غلات صوافي الإسلام في كل بلد، فإن للأقصى منهم مثل الذي
للأدنى... " (2)
والظاهر أن المراد بالصوافي: أراضي الغنيمة أو الخالصة التي جلا أهلها عنها.
وفي خبر إبراهيم بن أبي زياد قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الشراء من أرض
الجزية، قال: فقال: " اشترها، فإن لك من الحق ما هو أكثر من ذلك. " (3) ونحوه في

1 - المغني 7 / 308.
2 - نهج البلاغة، فيض / 1019; عبده 3 / 111; لح / 438، الكتاب 53.
3 - الوسائل 11 / 119، الباب 71 من أبواب جهاد العدو، الحديث 4.
498

صحيحة محمد بن مسلم. (1)
ومن أهم المصالح العامة للدولة الإسلامية سد خلات جميع ولاتها وعمالها حتى
لا يطمعوا في الارتشاء وتطمئن نفوسهم في مجالات أعمالهم، وعلى ذلك يحمل
ما رواه أبو عبيد بسنده، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: " من ولى لنا شيئا فلم تكن له امرأة
فليتزوج امرأة. ومن لم يكن له مسكن فليتخذ مسكنا. ومن لم يكن له مركب فليتخذ
مركبا. ومن لم يكن له خادم فليتخذ خادما. فمن اتخذ سوى ذلك كنزا أو إبلا جاء الله
به يوم القيامة غالا أو سارقا. " (2)
وبالجملة، فمصرف الخراج بأقسامه ما ينوب الإمام من المصالح، وسد خلات
العمال وكذا المحتاجين أيضا من أهم المصالح العامة، وعلى ذلك يجب أن يحمل
ما ذكره الشيخ في النهاية في حكم الأرضين المفتوحة عنوة، قال:
" وهذه الأرضون للمسلمين قاطبة، وارتفاعها يقسم فيهم كلهم:
المقاتلة غيرهم. " (3)
فلا يراد بذلك التقسيم بين جميع المسلمين من الغني والفقير والعمال وغيرهم
بلا رعاية للمصالح العامة، فتدبر. هذا.
وقد مر البحث في حكم الأراضي المفتوحة عنوة وجواز تقبل الأراضي الخراجية
من حكام الجور وقبول الخراج منهم بالشراء والهبة ونحو ذلك بالتفصيل، فراجع
الجهة السادسة من فصل الغنائم.

1 - الوسائل 12 / 274، الباب 21 من أبواب عقد البيع وشروطه، الحديث 1.
2 - الأموال / 338.
3 - النهاية / 195.
499

الجهة الثالثة:
في أنه يجب على إمام المسلمين وعماله أن يرفقوا بأهل الجزية والخراج ويخففوا
عنهم بما يصلح به أمرهم ولا يجوز تعذيبهم والتضييق عليهم في أمر الخراج والجزية:
1 - ففي نهج البلاغة في كتابه (عليه السلام) لمالك قال: " وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله،
فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحا لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم، لأن
الناس كلهم عيال على الخراج وأهله. وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك
في استجلاب الخراج لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة. ومن طلب الخراج بغير عمارة
أخرب البلاد وأهلك العباد ولم يستقم أمره إلا قليلا. فإن شكوا ثقلا أو علة أو انقطاع
شرب أو بالة، أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش، خففت عنهم بما
ترجو أن يصلح به أمرهم.
ولا يثقلن عليك شيء خففت به المؤونة عنهم، فإنه ذخر يعودون به عليك في
عمارة بلادك وتزيين ولايتك، مع استجلابك حسن ثنائهم وتبجحك باستفاضة العدل
فيهم معتمدا فضل قوتهم بما ذخرت عندهم من إجمامك لهم والثقة منهم بما عودتهم
من عدلك عليهم في رفقك بهم. فربما حدث من الأمور ما إذا عولت فيه عليهم من بعد
احتملوه طيبة أنفسهم به، فإن العمران محتمل ما حملته، وانما يؤتى خراب الأرض
من إعواز أهلها، وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع وسوء ظنهم بالبقاء
وقلة انتفاعهم بالعبر. " (1)
أقول: المراد بالثقل: ثقل الخراج المضروب. والبالة: ما يبل الأرض من مطر
وندى. وإحالة الأرض: تحويلها البذور إلى الفساد. والتبجح: السرور. والإجمام:
الإراحة.
فليتأمل في هذه الكلمات الشريفة أولياء الأمور وجباة الأموال
والضرائب

1 - نهج البلاغة، فيض / 1013; عبده 3 / 106; لح / 436، الكتاب 53.
500

ولا يلحظوا النفع العاجل فقط بل يراعوا شرائط الأمة وحاجاتها ومستقبل الملك
والدولة، واحتياجهم إلى إيمان الأمة وعواطفهم في المقاطع الحادة. فليرفقوا بهم في
وضع الخراج والضرائب وجبايتها. ولا يحملوا عليهم ما لا يحتملونها.
2 - وفيه أيضا في كتاب له (عليه السلام) إلى عماله على الخراج قال: " فأنصفوا الناس من
أنفسكم واصبروا لحوائجهم، فإنكم خزان الرعية، ووكلاء الأمة، وسفراء
الأئمة. لا تحسموا أحدا عن حاجته ولا تحبسوه عن طلبته، ولا تبيعن للناس في
الخراج كسوة شتاء ولا صيف ولا دابة يعتملون عليها ولا عبدا، ولا تضربن أحدا
سوطا لمكان درهم، ولا تمسن مال أحد من الناس: مصل ولا معاهد إلا أن تجدوا
فرسا أو سلاحا يعدى به على أهل الإسلام، فإنه لا ينبغي للمسلم أن يدع ذلك في
أيدي أعداء الإسلام فيكون شوكة عليه. " (1)
3 - وفي فروع الكافي بسنده، عن رجل من ثقيف، قال: استعملني علي بن أبي طالب (عليه السلام)
على بانقيا وسواد من سواد الكوفة فقال لي والناس حضور: " انظر خراجك فجد فيه
ولا تترك منه درهما، فإذا أردت أن تتوجه إلى عملك فمربي. " قال: فأتيته فقال لي: " إن
الذي سمعت مني خدعة، إياك أن تضرب مسلما أو يهوديا أو نصرانيا في درهم خراج، أو
تبيع دابة عمل في درهم، فإنما أمرنا أن نأخذ منهم العفو. " (2) رواه عنه في البحار. (3)
أقول: في حاشية الكافي عن الوافي:
" بانقيا: هي القادسية وما والاها من أعمالها، وإنما سميت القادسية بدعوة إبراهيم
الخليل (عليه السلام) لأنه قال لها كوني مقدسة أي مطهرة من التقديس. وإنما سميت بانقيا لأن
إبراهيم (عليه السلام) اشتراها بمأة نعجة من غنمه لأن " با " مأة و " نقيا " شاة بلغة نبط، كذا في
السرائر... وقوله: خدعة: أي تقية. والعفو: ما جاء بسهولة. " وعن مرآة العقول في
معنى العفو: " أي الزيادة أو الوسط أو يكون منصوبا بنزع الخافض. " (4)

1 - نهج البلاغة، فيض / 984; عبده 3 / 90; لح / 425، الكتاب 51.
2 - الكافي 3 / 540، كتاب الزكاة، باب أدب المصدق، الحديث 8.
3 - بحار الأنوار 41 / 128، تاريخ أمير المؤمنين (عليه السلام)، الباب 107 (باب جوامع مكارم أخلاقه)،
الحديث 37.
4 - الكافي 3 / 540، كتاب الزكاة، باب أدب المصدق.
501

4 - وفي سنن البيهقي بسنده، عن رجل من ثقيف، قال: استعملني علي بن أبي
طالب على بزرج سابور فقال: " لا تضربن رجلا سوطا في جباية درهم ولا تبيعن لهم
رزقا ولا كسوة شتاء ولا صيف ولا دابة يعتملون عليها ولا تقم رجلا قائما في طلب
درهم. " قال: قلت: يا أمير المؤمنين، إذا أرجع إليك كما ذهبت من عندك. قال: " وإن
رجعت كما ذهبت، ويحك إنما أمرنا أن نأخذ منهم العفو " يعني الفضل. (1)
وروى نحوه يحيى بن آدم القرشي أيضا في خراجه، ورواه في كنز العمال
أيضا، فيه: " على برج سابور. " (2)
5 - وفي كتاب الأموال لأبي عبيد بسنده، عن رجل من آل أبي المهاجر، قال:
استعمل علي بن أبي طالب (عليه السلام) رجلا على عكبري فقال له على رؤوس الناس:
" لا تدعن لهم درهما من الخراج. " قال: وشدد عليه القول ثم قال له: " القني عند
انتصاف النهار " فأتاه فقال: " إني كنت قد أمرتك بأمر وإني أتقدم إليك الآن فإن
عصيتني نزعتك: لا تبيعن لهم في خراج حمارا ولا بقرة وكسوة شتاء ولا صيف وارفق
بهم وافعل بهم وافعل بهم. " (3)
أقول: ولعل الوقائع كانت متعددة. وعكبري بضم الأول وسكون الثاني موضع بينه
وبين بغداد عشرة فراسخ.
6 - وفي صحيح مسلم بسنده، عن هشام بن حكيم بن حزام، قال: مر بالشام على
أناس، وقد أقيموا في الشمس وصب على رؤوسهم الزيت. فقال: ما هذا؟ قيل يعذبون
في الخراج. فقال: أما إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " إن الله يعذب الذين يعذبون
في الدنيا. " (4)

1 - سنن البيهقي 9 / 205، كتاب الجزية، باب النهي عن التشديد في جباية الجزية.
2 - خراج يحيى بن آدم / 70; وكنز العمال 4 / 501، كتاب الجهاد، الجزية، الحديث 11488.
3 - الأموال / 55.
4 - صحيح مسلم 4 / 2017، كتاب البر والصلة والآداب، الباب 33، الحديث 2613.
502

7 - وفيه أيضا بسنده، قال: مر هشام بن حكيم بن حزام على أناس من الأنباط
بالشام قد أقيموا في الشمس، فقال: ما شأنهم؟ قالوا: حبسوا في الجزية. فقال هشام:
اشهد لسمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في
الدنيا. " (1)
8 - وفيه أيضا بسنده عن عروة بن الزبير: أن هشام بن حكيم وجد رجلا وهو على
حمص يشمس ناسا من النبط في أداء الجزية فقال: ما هذا؟ إني سمعت
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا. " (2)
وراجع في هذا المعنى مسند أحمد والبيهقي والأموال لأبي عبيد (3).
أقول: ولا يخفى انصراف قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن التعذيب بحق كالقصاص
والحدود والتعزيرات الشرعية.
9 - وفي الوسائل بسند صحيح، عن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن أعتى الناس على الله - عز وجل - من قتل غير قاتله، ومن ضرب
من لم يضربه. " (4)
10 - وفيه أيضا بسنده، عن الوشاء، قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: " قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لعن الله من قتل غير قاتله أو ضرب غير ضاربه. " (5)
11 - وفيه أيضا بسنده، عن المثنى، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " وجد في قائم سيف

1 - صحيح مسلم 4 / 2018، كتاب البر والصلة والآداب، الباب 33.
2 - صحيح مسلم 4 / 2018، كتاب البر والصلة والآداب، الباب 33.
3 - مسند أحمد 3 / 403 و 404; وسنن البيهقي 9 / 205، كتاب الجزية، باب النهي عن التشديد في
جباية الجزية; والأموال / 53 وما بعدها.
4 - الوسائل 19 / 11، الباب 4 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 1.
5 - الوسائل 19 / 11، الباب 4 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 3.
503

رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): صحيفة: " إن أعتى الناس على الله القاتل غير قاتله والضارب
غير ضاربه. " الحديث " (1)
12 - وفيه أيضا بسنده، عن الفضيل بن سعدان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " كانت
في ذوابة سيف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صحيفة مكتوب فيها: لعنة الله والملائكة والناس
أجمعين على من قتل غير قاتله أو ضرب غير ضاربه. " الحديث. " (2)
13 - وفيه أيضا بسنده، عن الرضا (عليه السلام)، عن آبائه، عن علي (عليه السلام)، قال: " ورثت عن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كتابين: كتاب الله وكتاب في قراب سيفي. قيل: يا
أمير المؤمنين! ما الكتاب الذي في قراب سيفك؟ قال: " من قتل غير قاتله أو ضرب
غير ضاربه فعليه لعنة الله. " (3)
14 - وفيه أيضا بسنده، عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام)، قال:
ابتدر الناس إلى قراب سيف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد موته فإذا صحيفة صغيرة وجدوا
فيها: " من آوى محدثا فهو كافر، ومن تولى غير مواليه فعليه لعنة الله، وأعتى الناس
على الله من قتل غير قاتله أو ضرب غير ضاربه. " (4)
15 - وفيه أيضا بسنده، عن الثمالي، قال: قال: " لو أن رجلا ضرب رجلا سوطا
لضربه الله سوطا من النار. " (5)
16 - وفيه أيضا بسنده، عن جابر بن عبد الله، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " لو أن
رجلا ضرب رجلا سوطا لضربه الله سوطا من نار. " (6)

1 - الوسائل 19 / 11، الباب 4 من أبواب القصاص في النفس،
2 - الوسائل 19 / 12، الباب 4 من أبواب القصاص في النفس،
3 - الوسائل 19 / 12، الباب 4 من أبواب القصاص في النفس،
4 - الوسائل 19 / 13، الباب 4 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 10.
5 - الوسائل 19 / 12، الباب 4 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 5.
6 - الوسائل 19 / 12، الباب 4 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 7.
504

17 - وفيه أيضا بسنده، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث المناهي، قال: " ومن لطم خد
امرئ مسلم أو وجهه بدد الله عظامه يوم القيامة وحشر مغلولا حتى يدخل جهنم إلا
أن يتوب. " (1)
أقول: ما رويناها هنا من الوسائل وإن لم يكن موردها الخراج والضرائب لكن
إطلاقها يشملها كما لا يخفى.
وإنما ذكرناها ليعتبر الشرطة والضباط والمسؤولون في دوائر الحكم
والتحقيق الاستخبارات واللجان الثورية والسجون، ويدركوا اهتمام الشرع المبين
بحرمة الناس وقداستهم فلا يضربوا الناس ويلطموهم ويعذبوهم بالاتهامات
التافهة النمائم والأوهام. هذا.
18 - وفي خراج أبي يوسف:
" قال أبو يوسف: وقد ينبغي يا أمير المؤمنين - أيدك الله - أن تتقدم في الرفق بأهل
ذمة نبيك وابن عمك محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والتفقد لهم حتى لا يظلموا ولا يؤذوا ولا يكلفوا فوق
طاقتهم ولا يؤخذ شيء من أموالهم إلا بحق يجب عليهم.
فقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " من ظلم معاهدا أو كلفه فوق طاقته فأنا
حجيته. "
وكان فيما تكلم به عمر بن الخطاب عند وفاته: " أوصي الخليفة من بعدي بذمة
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يوفي لهم بعهدهم وأن يقاتل من ورائهم ولا يكلفوا فوق طاقتهم. "
قال: وحدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن سعيد بن زيد أنه مر على قوم قد أقيموا
في الشمس في بعض أرض الشام فقال: ما شأن هؤلاء؟ فقيل له: أقيموا في الشمس
في الجزية. قال: فكره ذلك ودخل على أميرهم وقال: إني سمعت

1 - الوسائل 19 / 12، الباب 4 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 8.
505

رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " من عذب الناس عذبه الله. "
قال: وحدثنا بعض أشياخنا، عن عروة، عن هشام بن حكيم بن حزام: أنه وجد
عياض بن غنم قد أقام أهل الذمة في الشمس في الجزية فقال: يا عياض! ما هذا؟ فإن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " إن الذين يعذبون الناس في الدنيا يعذبون في الآخرة. "
قال: وحدثنا هشام بن عروة، عن أبيه أن عمر بن الخطاب مر بطريق الشام وهو
راجع في مسيره من الشام على قوم قد أقيموا في الشمس يصب على رؤوسهم
الزيت، فقال: ما بال هؤلاء؟ فقالوا: عليهم الجزية لم يؤدوها، فهم يعذبون حتى
يؤدوها. فقال عمر: فما يقولون هم وما يعتذرون به في الجزية؟ قالوا: يقولون: لا نجد.
قال: فدعوهم، تكلفوهم ما لا يطيقون، فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " لا تعذبوا
الناس فإن الذين يعذبون الناس في الدنيا يعذبهم الله يوم القيامة " وأمر بهم فخلي
سبيلهم. " (1)
19 - وفيه أيضا بسنده قال:
" كتب عدي بن أرطاة - عامل كان لعمر بن عبد العزيز - إليه: " أما بعد، فإن أناسا
قبلنا لا يؤدون ما عليهم من الخراج حتى يمسهم شيء من العذاب. " فكتب إليه عمر:
أما بعد، فالعجب كل العجب من استيذانك إياي في عذاب البشر! كأني جنة لك من
عذاب الله وكأن رضاي ينجيك من سخط الله! إذا أتاك كتابي هذا فمن أعطاك ما قبله
عفوا وإلا فأحلفه، فوالله لأن يلقوا الله بجناياتهم أحب إلى من أن ألقاه
بعذابهم. السلام. " (2)
20 - وفي الكامل لابن الأثير:
" وقال أبو فراس: خطب عمر الناس فقال: أيها الناس! إني ما أرسل إليكم عمالا
ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم وإنما أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم

1 - الخراج / 124 و 125.
2 - الخراج / 199.
506

وسنتكم، فمن فعل به شيء سوى ذلك فليرفعه إلى، فوالذي نفس عمر بيده لأقصنه
منه. فوثب عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين! أرأيتك إن كان رجل من أمراء
المسلمين على رعية فأدب بعض رعيته إنك لتقصه منه؟ قال: إي والذي نفس عمر
بيده إذا لأقصنه منه، وكيف لا أقصه منه وقد رأيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقص من نفسه! ألا
لا تضربوا المسلمين فتذلوهم ولا تحمدوهم فتفتنوهم ولا تمنعوهم حقوقهم
فتكفروهم، لا تنزلوهم الغياض فتضيعوهم. " (1) هذا.
وقد طال البحث في الفيء; فلنختم الكلام هنا ونشرع بعده في الأنفال، وعلى الله
الاتكال.
24 رمضان المبارك 1408 ه‍، وأنا العبد المفتقر إلى رحمة ربه الباري حسينعلي
المنتظري النجف آبادي - غفر الله له ولوالديه.
تم الجزء الثالث من الكتاب
ويتلوه إن شاء الله الجزء الرابع، وأوله الفصل الخامس من الباب الثامن في
الأنفال
والحمد لله رب العالمين.

1 - الكامل 3 / 56.
507