الكتاب: محصل المطالب في تعليقات المكاسب
المؤلف: الشيخ صادق الطهوري
الجزء: ١
الوفاة: معاصر
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤١٩
المطبعة: أمين
الناشر: انتشارات أنوار الهدى - قم
ردمك: ٩٦٤-٦٢٢٣-١٠-٩
ملاحظات: موسوعة فقهية تشتمل على متن المكاسب وتعليقات هامة رشيقة للعلماء الأعاظم ( الآخوند الخراساني ، الطباطبائي اليزدي ، الإيرواني ، النائيني ، الإصفهاني)

محصل المطالب
في
تعليقات المكاسب
1

منشورات أنوار الهدى
تلفن: 742346 فاكس: 737870
إيران، قم، إرم، باساج قدس الطابق الأرضي، رقم 57
ص. ب 3717 / 37185
سيد حيدر الموسوي
شابك 9 - 10 - 6223 - 964
هوية الكتاب
9 - 10 - 6223 - 964: lsbn
اسم الكتاب: محصل المطالب في تعليقات المكاسب (ج 1)
تأليف: صادق الطهوري (نوروزي)
الطبعة: الأولى / 1419 ه‍ ق
الناشر: انتشارات أنوار الهدى
صف وتنضيد الحروف: انتشارات أنوار الهدى
العدد: 1000 نسخة:
عدد الصفحات: 720
المطبعة: أمين
القطع: وزيري
جميع حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
2

محصل المطالب
في
تعليقات المكاسب
الجزء الأول
موسوعة فقهية تشتمل على متن المكاسب
وتعليقات هامة رشيقة للعلماء الأعاظم
(الآخوند الخراساني. الطباطبائي اليزدي.
الإيرواني. النائيني. الإصفهاني.)
صادق الطهوري
3

إهداء
إليك أهدي هذا المجهود يا آية الله العظمى
يا باب مدينة العلم، يا ولي المؤمنين
وإمام العارفين، يا قسيم النار والجنة
والهدايا على قدر مهديها.
نرجوا شفاعتك والتقرب إلى الله بك
4

مقدمة الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على خير خلقه وأفضل بريته المبعوث رحمة للعالمين والناسخ
بشريعته السمحاء شرايع الأولين،
وعلى عترته الذين فيهم كرائم القرآن وهم كنوز الرحمن وعيبات علم الملك العلام،
أساس الدين وعماد اليقين، فسعد من اهتدى بهداهم وشقي من تنكب عن سبلهم.
أما بعد فلا يخفى على ذوي الألباب، ما لعلم الفقه من الأهمية في نظر الدين الاسلامي
باعتباره القانون الإلهي الذي يعني بتنظيم شؤون الحياة بجميع أبعادها.
وعلماء الدين وفقهاء المذهب قد بذلوا في مختلف جوانب الفقه جهودا جبارة ومساعي
مشكورة، حيث ألفوا العديد من المصنفات والموسوعات في هذا الحقل.
وهيأ الله تعالى لهذا العلم في العصور الأخيرة ابطالا من فحول العلماء، عمقوا أبحاث
هذا العلم ومتنوا قواعده وأحكموا أسسه واكتشفوا آفاقا جديدة من هذا العلم.
ومن هذا الفحول الأعاظم الإمام المجدد الشيخ الأعظم الأنصاري الرائد الأول للتجديد
العلمي في العصر الأخير، فألف قدس سره في هذا المجال كتبا عديدة.
5

فأحسنها وأمتنها هو كتاب المكاسب في الفقه المعاملي الذي لم يكن له نظير ولا بديل
إلى الآن. وهو بحيث لا يستغني فقيه عن النظر فيه والغور في جمل معانيه واستخراج لئاليه
ومراميه وبسبب هذه المكانة السامية العليا جعل من بدو تأليفه رحى البحث والتحقيق في
مرحلتي السطح والخارج في الحوزات العلمية.
ويكفيك من عظم شأنه وعلو منزلته تأكيد ذوي الخبرة من أساطين الفقه بأن من فهم
هذا الكتاب يكون مجتهدا البتة ومن يفهم هذا الكتاب الدقيق؟!
ولأجل هذا اهتم بعض الأعاظم على شرحه والتعليق عليه وكان من أفضلهم هو:
1 - المولى محمد كاظم الآخوند الخراساني.
2 - السيد محمد كاظم الطباطبائي.
3 - الميرزا علي الإيرواني.
4 - الميرزا محمد حسين النائيني (تقريرا لدرسه الشريف بقلم تلميذيه).
5 - الشيخ محمد حسين الأصفهاني.
وإني قد كنت أراجع كتب هؤلاء الأعلام قدس سرهم منذ اشتغالي بالبحث والفحص عن مباحث
المكاسب وكان يخطر ببالي أن هناك عوائق وعويصات بحيث لا يستطيع الباحث من
الاستفادة منها بالنحو الأتم.
من أهمها:
1 - اختلاط المطالب المرتبطة بتوضيح مراد صاحب المكاسب بالمطالب التي تحكي
عن نظرات المعلقين والمحشين وهذا يعني عدم انفكاك شرح المكاسب من آراءهم الخاصة
بهم ربما يضيع زمانا كثيرا من أوقات المحققين المراجعين.
2 - الاتيان بمتن المكاسب بصورة ناقصة ومقطعة، لا بصورة موضوعية كاملة (يعني
بصورة عنوان قوله:... الخ - أقول:...).
وهذا يوجب عدم الارتباط بين الحواشي ومتن المكاسب وعدم وضوح آراء المحشين
بصورة رائعة ممتعة
6

3 - عدم الاتيان بكل هذه الآراء والنظرات بصورة مجتمعة ومنضبطة حول المتن
ليكون تطبيق نظرات كل واحد منهم مع آراء الباقي سهل التناول.
ومما حثني على الدخول في هذا المشروع ورفع هذه العويصات والموانع هو تسهيل
الاستفادة بصورة كاملة، لأن المحققين بحاجة ماسة إلى نظرات هؤلاء الأعلام.
مع أني معترف بأن هذا الأمر، أمر صعب وهذا البحر، بحر عميق يحتاج إلى الاجتهاد
البليغ في فهم كل هذه الكتب، مضافا إلى ذوق حسن سليم لكي يتم الاستفادة.
ولكن حسن ظني إلى رحمة ربي وعناياته الخاصة التي شاهدتها في حيوتي مرارا
شجعني على الورود في هذا الأمر الخطير والغوص في هذا البحر العميق. فإنه ولي
التوفيق.
ما قمنا به من عمل:
1 - قد جمعنا آراء المحشين المختصة بهم حول المباحث المطروحة في المكاسب في
طي كتاب واحد واهتممنا بالسعي البليغ والدقة الكثيرة في اصطياد آراءهم، ولو كانت تحت
عنوان توضيح تأملات صاحب المكاسب.
فأغمضنا النظر عن:
أ - عباراتهم في توضيح مراد صاحب المكاسب وشرح مرامه.
ب - وعباراتهم في توضيح مراد غير صاحب المكاسب (مثل أساتذتهم) أو
ابطال آراءهم.
ج - وأغمضنا النظر أيضا عن المباحث التي ذكروها استطرادا التي لا ربط له
بأصل مباحث المكاسب.
وكل هذه الأمور الثلاثة تستثنى في مورد واحد وهو ابتناء آراءهم قدس سرهم على ذكر كل
واحد من هذه الأمور.
هذا كله مع رعاية جانب الاحتياط لكي لا نغادر كلاما مربوطا بأصل المبحث.
7

2 - قد احتفظنا بعباراتهم وسياقهم من دون تصرف فيها إلا عند الضرورة بصورة
بسيطة وفي هذه الموارد جعلنا الزيادات بين الهلالين.
3 - قد آتينا بمتن المكاسب بصورة كاملة موضوعية مستقلة لكي يتم الاستفادة.
وقد اهتممنا (مع تحمل المشاق الكثيرة أولا، وبمقدار استطاعتنا المطبعية ثانيا) على
الاتيان بعبارات متن المكاسب بصورة رائعة في كل صفحة بحيث يعطي مطلبا كاملا في
تلك الصفحة.
هذا مع الاتيان بالتعاليق والحواشي المربوطة في تلك الصفحة لا قبل ولا بعد.
وهذا الترتيب يكون له أثر عظيم في فهم مراداتهم كما لا يخفى.
فأصبح بحمد الله كتابنا يعتبر موسوعة فقهية تشتمل على آراء الأعاظم في الفقه
المعاملي وفي الحقيقة جمعنا سبعة كتب في كتاب واحد.
فهذا الكتاب يضع آراءهم ونظراتهم في متناول القراء بيسر وسهولة من دون أن
يكلفهم جهدا في تحصيل هذه الآراء في الكتب المختلفة المستلزمة لبذل العمر وذهاب نور
البصر.
والباحث المحقق يجد فيه ضالته المنشودة ويرى فيه بغيته وأمانيه.
فهذا الكتاب يكون دليلا للمفيد والمستفيد والمستنبط والمفتي مالئا نفس الراغب، سادا
جوعة الناهم.
وبواسطة الغور فيه يعلم أن متأخريهم لم يزدادوا عليهم إلا قليلا واستفادوا من
جهودهم كثيرا، وإن لهم على متأخريهم حقا عظيما.
النسخ المعتمدة في هذا التحقيق
1 - كتاب المكاسب للشيخ الأعظم مرتضى الأنصاري، طبعة المؤتمر العالمي بمناسبة
الذكرى المئوية الثانية لميلاد الشيخ الأنصاري في قم المقدسة.
8

2 - حاشية كتاب المكاسب للمولى محمد كاظم الآخوند الخراساني، طبعة وزارة
الإرشاد، طهران.
3 - حاشية المكاسب للسيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، طبعة مؤسسة
اسماعيليان، قم المقدسة.
4 - حاشية المكاسب للميرزا على الإيرواني الغروي، طبعة انتشارات كتبي نجفي، قم
المقدسة.
5 - المكاسب والبيع تقرير أبحاث الميرزا محمد حسين النائيني بقلم الشيخ محمد تقي
الآملي، طبعة مؤسسة النشر الاسلامي - قم المقدسة.
6 - منية الطالب في شرح المكاسب تقريرات درس الميرزا محمد حسين النائيني بقلم
الشيخ موسى النجفي الخوانساري، طبعة مؤسسة النشر الاسلامي - قم المقدسة (1).
7 - حاشية كتاب المكاسب للشيخ محمد حسين الغروي الأصفهاني، طبعة دار
الذخائر - قم المقدسة.
وأخيرا رأينا قد طبعت هذه الحاشية بأسلوب جديد، ولتسهيل المراجعة طبقنا عنوان
الحاشية السابقة مع عنوانها في الحاشية الجديدة ورمزنا إلى عنوان الحاشية في الكتاب
الجديد بهذا الرمز. * (ص..، ج..). ونعني بهذا الرمز أنه الشرح المختص بالعبارة يتواجد في
الكتاب الجديد على العنوان المذكور.

* - واحترزنا عن التكرار في الاتيان بكلا التقريرين إلا في الموارد التي تختلف آراءه في التقريرين مع الآخر ومن حيث إن كتاب منية الطالب دون لتقرير الدورة الثانية من درسه فنحن في الموارد التي أشار العلامة النائيني بتغيير رأيه
ونظره السابق اكتفينا بنظره الجديد الموجود في منية الطالب.
9

وفي الختام:
(مع أني بذلت في هذا التأليف والتحقيق على أوسع مدى مستطاع).
أسأل من القراء الكرام: إذا عثروا على شئ طغى به القلم أو زلت به القدم، أن يغتفروا
ذلك في جنب ما قربت إليهم من البعيد، وأن يعلموا أن الجواد قد يكبو وإن الصارم قد ينبو،
وإن النار قد تخبو وإن الانسان محل النسيان وإن الحسنات يذهبن السيئات.
وأسأل من الأساتذة العظام أن يمنوا علي بارشاداتهم المفيدة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
يوم الغدير المبارك - سنة 1418 ه‍ ق
صادق الطهوري (نوروزي)
10

كتاب البيع
11

وهو في الأصل - كما عن المصباح -: مبادلة مال بمال (1).
13

والظاهر اختصاص المعوض بالعين (2) فلا يعم ابدال المنافع بغيرها، وعليه استقر
اصطلاح الفقهاء في البيع.
14

نعم، ربما يستعمل في كلمات بعضهم في نقل غيرها، بل يظهر ذلك من كثير من
الأخبار، كالخبر الدال على جواز بيع خدمة المدبر، وبيع سكنى الدار التي لا
يعلم صاحبها، وكأخبار بيع الأرض الخراجية وشرائها، والظاهر أنها مسامحة
في التعبير، كما أن لفظ الإجارة يستعمل عرفا في نقل بعض الأعيان، كالثمرة
على الشجرة (3).
17

وأما العوض، فلا اشكال في جواز كونها منفعة، كما في غير موضع من
القواعد، وعن التذكرة وجامع المقاصد، ولا يبعد عدم الخلاف فيه.
نعم، نسب إلى بعض الأعيان الخلاف فيه، ولعله لما اشتهر في كلامهم: من أن
البيع لنقل الأعيان، والظاهر إرادتهم بيان المبيع، نظير قولهم: إن الإجارة لنقل
المنافع.
وأما عمل الحر، فإن قلنا: إنه قبل المعاوضة عليه من الأموال، فلا اشكال،
وإلا ففيه اشكال، من حيث احتمال اعتبار كون العوضين في البيع (مالا) قبل
المعاوضة، كما يدل عليه ما تقدم عن المصباح (4).
18

وأما الحقوق لم تقبل المعاوضة بالمال - كحق الحضانة والولاية - فلا
اشكال، وكذا لم له تقبل النقل، كحق الشفعة وحق الخيار، (5)
21

لأن البيع تمليك الغير (6). ولا ينتقض ببيع الدين على من
هو عليه، لأنه لا مانع من كونه تمليكا فيسقط (7)،
24

ولذا جعل الشهيد في قواعده (الابراء) مرددا بين الاسقاط والتمليك (8).
والحاصل: أنه يعقل أن يكون مالكا لما في ذمته فيؤثر تمليكه السقوط، ولا
يعقل أن يتسلط على نفسه، والسر: إن هذا الحق سلطنة فعلية لا يعقل قيام
طرفيها بشخص واحد (9)،
25

بخلاف الملك، فإنها نسبة بين المالك والمملوك ولا يحتاج إلى من يملك عليه
حتى يستحيل اتحاد المالك والمملوك عليه (10)، فافهم.
27

وأما الحقوق القابلة للانتقال - كحق التجحير ونحوه - فهي وإن قبلت النقل
وقوبلت بالمال في الصلح، إلا أن في جواز وقوعها عوضا للبيع اشكالا، من
أخذ المال في عوضي المبايعة لغة وعرفا، مع ظهور كلمات الفقهاء - عند
التعرض لشروط العوضين ولما يصح أن يكون أجرة في الإجارة - في حصر الثمن في المال. (11)
28

ثم الظاهر: أن لفظ (البيع) ليس له حقيقة شرعية ولا متشرعية، بل هو باق على
معناه العرفي (12)، كما سنوضحه - إن شاء الله -، إلا أن الفقهاء قد اختلفوا في
تعريفه (13).
ففي المبسوط والسرائر والتذكرة وغيرها: (انتقال عين من شخص إلى غيره
بعوض مقدر على وجه التراضي).
29

وحيث إن في هذا التعريف مسامحة واضحة (14)، عدل آخرون إلى تعريفه ب‍:
(الايجاب والقبول الدالين على الانتقال)، وحيث إن البيع من مقولة المعنى
دون اللفظ - مجردا أو بشرط قصد المعنى، وإلا لم يعقل انشاءه باللفظ (15) -
عدل جامع المقاصد إلى تعريفه ب‍: (نقل العين بالصيغة المخصوصة).
ويرد عليه - مع أن النقل ليس مرادفا للبيع، ولذا صرح في التذكرة: بأن ايجاب
البيع لا يقع بلفظ (نقلت)، وجعله من الكنايات،
30

وأن المعاطاة عنده (17) بيع مع خلوها عن الصيغة:
31

إن النقل بالصيغة أيضا لا يعقل انشاؤه بالصيغة (18).
32

ولا يندفع هذا: بأن المراد أن البيع نفس النقل الذي هو مدلول الصيغة (19)
فجعله مدلول الصيغة إشارة إلى تعيين ذلك الفرد من النقل لا أنه مأخوذ في
مفهومه حتى يكون مدلول (بعت): نقلت بالصيغة، لأنه إن أريد بالصيغة
خصوص (بعت) لزم الدور، (20)
33

لأن المقصود معرفة مادة (بعت)، وإن أريد بها ما يشمل (ملكت) وجب
الاقتصار على مجرد التمليك والنقل (21).
34

فالأولى تعريفه بأنه: (إنشاء تمليك عين بمال)، (22) ولا يلزم عليه شئ مما
تقدم.
35

نعم، يبقى عليه أمور: منها: أنه موقوف على جواز الايجاب بلفظ (ملكت)
وإلا لم يكن مرادفا له (23).
40

ويرده: أنه الحق كما سيجيئ. (24)
ومنها: أنه لا يشمل بيع الدين على من هو عليه (25) لأن الانسان لا يملك مالا على نفسه.
41

وفيه - مع ما عرفت وستعرف من تعقل تملك ما على نفسه ورجوعه إلى
سقوطه عنه (26)، نظير تملك ما هو مساو لما في ذمته، وسقوطه بالتهاتر - أنه
لو لم يعقل التمليك لم يعقل البيع، إذ ليس للبيع - لغة وعرفا - معنى غير
المبادلة والنقل والتمليك وما يساويها من الألفاظ، ولذا قال فخر الدين: إن
معنى (بعت) في لغة العرب (ملكت غيري) فإذا لم يعقل ملكية ما في ذمة
نفسه لم يعقل شئ مما يساويها، فلا يعقل البيع (27).
ومنها: أنه يشمل التمليك بالمعاطاة، مع حكم المشهور، بل دعوى الاجماع
على أنها ليست بيعا.
وفيه: ما سيجئ من كون المعاطاة بيعا (28) وأن مراد النافين نفي صحته.
ومنها: صدقه على الشراء، فإن المشتري بقبوله للبيع يملك ماله بعوض المبيع
وفيه: أن التمليك فيه ضمني، وإنما حقيقته التملك بعوض (29)،
42

ولذا لا يجوز الشراء بلفظ (ملكت)، تقدم على الايجاب أو تأخر (30) وبه
يظهر اندفاع الايراد بانتقاضه بمستأجر العين بعين، حيث إن الاستئجار يتضمن
تمليك العين بمال، أعني المنفعة.
43

ومنها: انتقاض طرده بالصلح على العين بمال، وبالهبة المعوضة
وفيه: أن حقيقة
الصلح - ولو تعلق بالعين - ليس هو التمليك على وجه المقابلة
والمعاوضة (31)، بل معناه الأصلي هو التسالم (32)، ولذا لا يتعدى بنفسه إلى المال (33).
44

نعم، هو متضمن للتمليك إذا تعلق بعين، لا أنه نفسه (34).
والذي دل على هذا: إن الصلح قد يتعلق بالمال عينا أو منفعة فيفيد التمليك
وقد يتعلق بالانتفاع به، فيفيد فائدة العارية، وهو مجرد التسليط، وقد يتعلق
بالحقوق، فيفيد الاسقاط أو الانتقال، وقد يتعلق بتقرير أمر بين المتصالحين كما
في قول أحد الشريكين لصاحبه: (صالحتك على أن يكون الربح لك والخسران
عليك) فيفيد مجرد التقرير. فلو كانت حقيقة الصلح هي عين كل من هذه
المفادات الخمسة لزم كونه مشتركا لفظيا وهو واضح البطلان، فلم يبق إلا أن
يكون مفهومه معنى آخر. وهو التسالم، فيفيد في كل موضع فائدة من الفوائد
المذكورة بحسب ما يقتضيه متعلقه. فالصلح على العين بعوض (35): تسالم
عليه، وهو يتضمن التمليك لا أن مفهوم الصلح في خصوص هذا المقام وحقيقته
هو إنشاء التمليك ومن هنا لم يكن طلبه من الخصم اقرارا. بخلاف طلب
التمليك.
أما الهبة المعوضة والمراد بها هنا: ما اشترط فيها العوض، فليست
إنشاء تمليك بعوض على جهة المقابلة (36)،
45

وإلا لم يعقل تملك أحدهما لأحد العوضين من دون تملك الآخر للآخر (37)، مع
أن ظاهرهم عدم تملك العوض بمجرد تملك الموهوب الهبة، بل غاية الأمر إن
المتهب لو لم يود العوض كان للواهب الرجوع في هبته، فالظاهر أن التعويض
المشترط في الهبة كالتعويض الغير المشترط فيها في كونه تمليكا مستقلا
يقصد به وقوعه عوضا، لا أن حقيقة المعاوضة والمقابلة مقصودة في كل من
العوضين، كما يتضح ذلك بملاحظة التعويض الغير المشترط في ضمن الهبة
الأولى. فقد تحقق مما ذكرنا: إن حقيقة تمليك العين بالعوض ليست إلا البيع
فلو قال ملكتك كذا بكذا كان بيعا، ولا يصح صلحا ولا هبة معوضة وإن
قصدهما (38).
46

إذ التمليك على جهة المقابلة الحقيقية ليس صلحا، ولا هبة، فلا يقعان به (39).
نعم لو قلنا بوقوعهما بغير الألفاظ الصريحة توجه تحققهما مع قصدهما،
47

فما قيل من أن البيع هو الأصل (40) في تمليك الأعيان بالعوض، فيقدم على
الصلح والهبة المعوضة محل تأمل بل منع، لما عرفت من أن تمليك الأعيان
بالعوض هو البيع لا غير (41).
48

نعم، لو أتى بلفظ (التمليك بالعوض) واحتمل إرادة غير حقيقته كان مقتضى
الأصل اللفظي حمله على المعنى الحقيقي، فيحكم بالبيع، لكن الظاهر أن
الأصل بهذا المعنى ليس مراد القائل المتقدم، وسيجئ توضيحه في مسألة
المعاطاة في غير البايع - إن شاء الله -
بقي القرض داخلا في ظاهر الحد،
ويمكن اخراجه بأن مفهومه ليس نفس المعاوضة، بل هو تمليك على وجه
ضمان المثل أو القيمة، لا معاوضة للعين بهما ولذا لا يجري فيه ربا
المعاوضة. (1)
49

ولا الغرر المنفي فيها، ولا ذكر العوض، ولا العلم به، (43) فتأمل.
50

ثم إن ما ذكرنا، تعريف للبيع المأخوذ في صيغة (بعت) وغيره من
المشتقات (44)،
ويظهر من بعض ما قارب عصرنا استعماله في معان أخر غير
ما ذكر (45) أحدها: التمليك المذكور، لكن بشرط تعقبه بتملك المشتري، (46)
51

وإليه نظر بعض مشايخنا، حيث أخذ قيد التعقب بالقبول في تعريف البيع
المصطلح، ولعله لتبادر التمليك المقرون بالقبول من اللفظ (2)، بل وصحة
السلب عن المجرد، ولهذا لا يقال (باع فلان ماله) إلا بعد أن يكون قد اشتراه
غيره، ويستفاد من قول القائل: (بعت مالي) إنه اشتراه غيره، لا أنه أوجب البيع
فقط. الثاني: الأثر الحاصل من الايجاب والقبول، وهو الانتقال، كما يظهر من
المبسوط وغيره (48). الثالث: نفس العقد المركب من الايجاب والقبول (49)
52

وإليه ينظر من عرف البيع بالعقد. قال: بل الظاهر اتفاقهم (50) على إرادة هذا
المعنى في عناوين أبواب المعاملات، حتى الإجارة (51) وشبهها التي ليست
هي في الأصل اسما لأحد طرفي العقد (53).
53

أقول: أما البيع بمعنى الايجاب المتعقب للقبول، فالظاهر أنه ليس مقابلا للأول،
وإنما هو فرد انصرف إليه اللفظ في مقام قيام القرينة على إرادة الايجاب
المثمر، إذ لا ثمرة في الايجاب المجرد، فقول المخبر:
(بعت)، إنما أراد الايجاب المقيد، فالقيد مستفاد من الخارج، لا أن البيع
مستعمل في الايجاب المتعقب للقبول، وكذلك لفظ (النقل) و (الابدال) و
(التمليك) وشبهها (53).
56

مع أنه لم يقل أحد بأن تعقب القبول له دخل في معناها (54).
58

نعم، تحقق القبول شرط للانتقال في الخارج، لا في نظر الناقل إذ لا ينفك التأثير عن الأثر (55)، فالبيع وما يساويه معنى من قبيل الايجاب والوجوب، لا
الكسر والانكسار (56) - كما كما تخيله يعض - فتأمل.
60

ومنه يظهر ضعف أخذ القيد المذكور في معنى البيع المصطلح فضلا عن أن
يجعل أحد معانيها (57). وأما البيع بمعنى الأثر وهو الانتقال فلم يوجد في اللغة
ولا العرف وإنما وقع في تعريف جماعة تبعا للمبسوط. وقد يوجه: بأن المراد
بالبيع المحدود المصدر من المبني للمفعول، أعني المبيعية وهو تكلف
حسن (58).
62

وأما البيع بمعنى العقد، فقد صرح الشهيد الثاني رضي الله عنه: بأن اطلاقه عليه مجاز،
لعلاقة السببية (59).
63

والظاهر أن المسبب هو الأثر الحاصل في نظر الشارع، لأنه المسبب عن العقد
لا النقل الحاصل من فعل الموجب، لما عرفت من أنه حاصل بنفس إنشاء
الموجب من دون توقف على شئ، كحصول وجوب الضرب في نظر الأمر
بمجرد الأمر وإن لم يصر واجبا في الخارج في نظر غيره (60).
64

وإلى هذا نظر جميع ما ورد في النصوص والفتاوى من قولهم: (لزم البيع) أو
(وجب)، أو (لا بيع بينهما)، أو (إقالة في البيع) ونحو ذلك.
65

والحاصل: أن البيع الذي يجعلونه من العقود يراد به النقل (61) بمعنى اسم
المصدر مع اعتبار تحققه في نظر الشارع (62) المتوقف على تحقق الايجاب
والقبول، فإضافة العقد إلى البيع بهذا المعنى ليست بيانية، ولذا يقال: (انعقد
البيع) و (لا ينعقد البيع) ثم إن الشهيد الثاني نص في كتاب اليمين من
المسالك على أن عقد البيع وغيره من العقود حقيقة في الصحيح مجاز في
الفاسد (63). لوجود خواص الحقيقة والمجاز، كالتبادر وصحة السلب.
66

قال: ومن ثم حمل الاقرار به عليه، حتى لو ادعي إرادة الفاسد لم يسمع
اجماعا، ولو كان مشتركا بين الصحيح والفاسد لقبل تفسيره بأحدهما كغيره من
الألفاظ المشتركة وانقسامه إلى الصحيح والفاسد أعم من الحقيقة (64). انتهى
68

وقال الشهيد الأول في قواعده: الماهيات الجعلية كالصلاة والصوم وسائر
العقود لا تطلق على الفاسد إلا الحج، لوجوب المضي فيه انتهى. وظاهر إرادة
الاطلاق الحقيقي (65).
ويشكل ما ذكراه بأن وضعها للصحيح يوجب عدم جواز التمسك باطلاق نحو
(أحل الله البيع) واطلاقات أدلة سائر العقود في مقام الشك في اعتبار شئ
فيها (66)، مع أن سيرة علماء الاسلام التمسك بها في هذه المقامات.
69

نعم، يمكن أن يقال: إن البيع وشبهه في العرف إذا استعمل في الحاصل من
المصدر الذي يراد من قول القائل: (بعت) عند الإنشاء، لا يستعمل حقيقة إلا في
ما كان صحيحا مؤثرا ولو في نظر القائل (67)
71

ثم إذا كان مؤثرا في نظر الشارع كان بيعا عنده، وإلا كان صورة بيع نظير بيع
الهازل عند العرف.
فالبيع الذي يراد منه ما حصل عقيب قول القائل:
(بعت) عند العرف والشرع حقيقة في الصحيح المفيد للأثر، ومجاز في غيره،
إلا أن الإفادة وثبوت الفائدة مختلف في نظر العرف والشرع.
وأما وجه تمسك العلماء باطلاق أدلة البيع ونحوه، فلأن الخطابات لما وردت
على طبق العرف، حمل لفظ البيع وشبهه في الخطابات الشرعية على ما هو
الصحيح المؤثر عند العرف أو على المصدر الذي يراد من لفظ (بعت) فيستدل
باطلاق الحكم بحله أو بوجوب الوفاء على كونه مؤثرا في نظر الشارع أيضا،
فتأمل فإن للكلام محلا آخر. (68)
72

اعلم أن المعاطاة على ما فسره جماعة: أن يعطي كل من اثنين عوضا عما
يأخذه من الآخر (1)، وهو يتصور على وجهين:
79

أحدهما: أن يبيع كل منهما للآخر التصرف فيما يعطيه من دون نظر إلى تمليكه.
الثاني: أن يتعاطيا على وجه التمليك.
وربما يذكر وجهان آخران: أحدهما: أن يقع النقل (2) من غير قصد البيع ولا
تصريح بالإباحة المزبورة، بل يعطي شيئا ليتناول شيئا فدفعه الآخر إليه.
الثاني: أن يقصد الملك المطلق، دون خصوص البيع (3).
80

ويرد الأول: بامتناع خلو الدافع عن قصد عنوان من عناوين البيع، أو الإباحة
أو العارية، أو الوديعة، أو القرض، أو غير ذلك من العنوانات الخاصة (4).
81

والثاني: بما تقدم في تعريف البيع من أن التمليك بالعوض على وجه المبادلة
هو مفهوم البيع، لا غير. (5) نعم، يظهر من غير واحد منهم في بعض العقود كبيع لبن
الشاة مدة، وغير ذلك، كون التمليك المطلق أعم من البيع.
ثم إن المعروف بين
علمائنا في حكمها: أنها مفيدة لإباحة التصرف، ويحصل الملك بتلف إحدى
العينين، وعن المفيد وبعض العامة القول بكونها لازمة كالبيع، وعن العلامة قدس سره
في النهاية: احتمال كونها بيعا فاسدا في عدم إفادتها لإباحة التصرف.
ولا بد
- أولا - من ملاحظة أن النزاع في المعاطاة المقصود بها الإباحة، أو في
المقصود بها التمليك؟ الظاهر من الخاصة والعامة هو المعنى الثاني.
82

وحيث أن الحكم بالإباحة بدون الملك قبل التلف وحصوله بعده لا يجامع
ظاهرا قصد التمليك من المتعاطيين نزل المحقق الكركي الإباحة في كلامهم
على الملك الجائز المتزلزل، وأنه يلزم بذهاب إحدى العينين.
وحقق ذلك في شرحه على القواعد وتعليقه على الارشاد بما لا مزيد عليه.
لكن بعض المعاصرين لما استبعد هذا الوجه التجأ إلى جعل محل النزاع هي
المعاطاة المقصود بها مجرد الإباحة، ورجح بقاء الإباحة في كلامهم على
ظاهرها المقابل للملك.
ونزل مورد حكم قدماء الأصحاب بالإباحة على هذا الوجه.
وطعن على من جعل محل النزاع في المعاطاة بقصد التمليك قائلا:
إن القول بالإباحة الخالية عن الملك مع قصد الملك مما لا ينسب إلى أصاغر
الطلبة، فضلا عن أعاظم الأصحاب وكبرائهم.
والانصاف: أن ما ارتكبه المحقق الثاني في توجيه الإباحة بالملك المتزلزل،
بعيد في الغاية عن مساق كلمات الأصحاب، مثل الشيخ في المبسوط،
والخلاف والحلي في السرائر، وابن زهرة في الغنية والحلبي في الكافي،
والعلامة في التذكرة وغيرها، بل كلمات بعضهم صريحة في عدم الملك كما
ستعرف. (6)
83

إلا أن جعل محل النزاع ما إذا قصد الإباحة دون التمليك أبعد منه، بل لا يكاد
يوجد في كلام أحد منهم ما يقبل الحمل على هذا المعنى (7).
ولننقل أولا - كلمات جماعة ممن ظفرنا على كلماتهم ليظهر منه بعد تنزيل
الإباحة على الملك المتزلزل - كما صنعه المحقق الكركي - وأبعدية جعل محل
الكلام في كلمات قدمائنا الأعلام ما لو قصد المتعاطيان مجرد إباحة
التصرفات دون التمليك.
84

فنقول وبالله التوفيق: قال في الخلاف: إذا دفع قطعة إلى البقلي أو الشارب،
فقال: أعطني بها بقلا أو ماء، فأعطاه فإنه لا يكون بيعا - وكذلك سائر
المحقرات - وإنما يكون إباحة له، فيتصرف كل منهما في ما أخذه تصرفا مباحا
من دون أن يكون ملكه. وفائدة ذلك: أن البقلي إذا أراد أن يسترجع البقل أو
أراد صاحب القطعة أن يسترجع قطعته كان لهما ذلك، لأن الملك لم يحصل
لهما وبه قال الشافعي.
85

وقال أبو حنيفة: يكون بيعا صحيحا وإن لم يحصل الايجاب والقبول. وقال ذلك
في المحقرات، دون غيرها (9) دليلنا: إن العقد حكم شرعي. ولا دلالة في الشرع
على وجوده هنا. فيجب أن لا يثبت. وأما الإباحة بذلك، فهو مجمع عليه لا
يختلف العلماء فيها، إنتهى.
ولا يخفى صراحة هذا الكلام في عدم حصول الملك وفي أن محل الخلاف
بينه وبين أبي حنيفة ما لو قصد البيع، لا الإباحة المجردة. كما يظهر أيضا من
بعض كتب الحنفية، حيث أنه - بعد تفسير البيع ب‍: (مبادلة مال بمال) قال:
وينعقد بالايجاب والقبول وبالتعاطي وأيضا، فتمسكه بأن العقد حكم شرعي،
يدل على عدم انتفاء قصد البيعية، وإلا لكان الأولى، بل المتعين: التعليل به، إذ
مع انتفاء حقيقة البيع لغة وعرفا لا معنى للتمسك بتوقيفية الأسباب الشرعية،
كما لا يخفى.
86

وقال في السرائر بعد ذكر اعتبار الايجاب والقبول واعتبار تقدم الأول على
الثاني - ما لفظه: فإذا دفع قطعة إلى البقلي أو إلى الشارب، فقال: (أعطني)،
فإنه لا يكون بيعا ولا عقدا، لأن الايجاب والقبول ما حصلا.
وكذلك سائر المحقرات، وسائر الأشياء محقرا كان أو غير محقر من الثياب
والحيوان أو غير ذلك وإنما يكون إباحة له، فيتصرف كل منهما في ما أخذه
تصرفا مباحا، من غير أن يكون ملكه أو دخل في ملكه ولكل منهما أن يرجع
في ما بذله، لأن الملك لم يحصل لهما.
وليس ذلك من العقود الفاسدة، لأنه لو كان عقدا فاسدا لم يصح لهما. وليس
ذلك من العقود الفاسدة، لأنه لو كان عقدا فاسدا لم يصح التصرف فيما صار
إلى كل واحد منهما، وإنما ذلك على جهة الإباحة، إنتهى.
فإن تعليله عدم الملك بعدم حصول الايجاب والقبول يدل على أن ليس
المفروض ما لو لم يقصد التمليك (10).
مع أن ذكره في حيز شروط العقد يدل على ما ذكرنا. ولا ينافي ذلك قوله:
(وليس هذا من العقود الفاسدة إلخ) كما لا يخفى.
87

وقال في الغنية بعد ذكر الايجاب والقبول في عداد شروط صحة انعقاد البيع
كالتراضي ومعلومية العوضين وبعد بيان الاحتراز بكل من الشروط عن
المعاملة الفاقدة له، ما هذا لفظه: واعتبرنا حصول الايجاب والقبول، تحرزا عن
القول بانعقاده بالاستدعاء من المشتري والايجاب من البايع بأن يقول: (بعنيه
بألف). فيقول: (بعتك بألف)، فإنه لا ينعقد بذلك، بل لا بد أن يقول المشتري
بعد ذلك: (اشتريت) أو (قبلت) حتى ينعقد، واحترازا أيضا عن القول بانعقاده
بالمعاطاة نحو أن يدفع إلى البقلي قطعة ويقول: (أعطني بقلا)، فيعطيه، فإن
ذلك ليس ببيع، وإنما هو إباحة للتصرف، يدل على ما قلناه: الاجماع المشار
إليه وأيضا فما اعتبرناه مجمع على صحة العقد به، وليس على صحته بما عداه
دليل. ولما ذكرنا نهى صلى الله عليه وآله عن بيع ال‍ (المنابذة) و (الملامسة) وعن بيع
(الحصاة (على التأويل الآخر. ومعنى ذلك: أن يجعل اللمس بشئ والنبذ له،
وإلقاء الحصاة بيعا موجبا، إنتهى. فإن دلالة هذا الكلام على أن المفروض قصد
المتعاطيين التمليك من وجوه متعددة: منها: ظهور أدلته الثلاثة في ذلك ومنها:
احترازه عن المعاطاة والمعاملة بالاستدعاء بنحو واحد.
وقال في الكافي - بعد ذكر أنه يشترط في صحة البيع أمور ثمانية - ما لفظه:
واشتراط الايجاب والقبول، لخروجه من دونهما عن حكم البيع - إلى أن قال -:
فإن اختل شرط من هذه لم ينعقد البيع (11)، ولم يستحق التسليم وإن جاز التصرف
مع إخلال بعضها، للتراضي، دون عقد البيع ويصح معه الرجوع، إنتهى. وهو
في الظهور قريب من عبارة الغنية.
88

وقال المحقق قدس سره في الشرايع: ولا يكفي التقابض من غير لفظ وإن حصل من
الأمارات ما دل على إرادة البيع، إنتهى. وذكر كلمة الوصل ليس لتعميم
المعاطاة لما لم يقصد به البيع، بل للتنبيه على أنه لا عبرة بقصد البيع من الفعل.
وقال في التذكرة في حكم الصيغة: الأشهر عندنا أنه لا بد منها، فلا يكفي
التعاطي في الجليل والحقير مثل (أعطني بهذا الدينار ثوبا) فيعطيه ما يرضيه،
أو يقول: (خذ هذا الثوب بدينار) فيأخذه. وبه قال الشافعي مطلقا، لأصالة بقاء
الملك، وقصور الأفعال عن الدلالة على المقاصد. وعن بعض الحنفية وابن
شريح في الجليل. وقال أحمد: ينعقد مطلقا. ونحوه قال مالك، فإنه قال: ينعقد
بما يعتقده الناس بيعا، إنتهى. ودلالته على قصد المتعاطيين للملك لا يخفى من
وجوه (12) أدونها: جعل مالك موافقا لا حمد في الانعقاد من جهة أنه قال: ينعقد
بما يعتقده الناس بيعا.
89

وقال الشهيد في قواعده - بعد قوله: قد يقوم السبب الفعلي مقام السبب
القولي، وذكر أمثلة لذلك - ما لفظه: وأما المعاطاة في المبايعات، فهي تفيد
الإباحة لا الملك وإن كان في الحقير عندنا، إنتهى. ودلالتها على قصد
المتعاطيين للملك مما لا يخفى (13).
90

هذا كله، مع أن الواقع في أيدي الناس هي المعاطاة بقصد التمليك ويبعد فرض
الفقهاء - من العامة والخاصة - الكلام في غير ما هو الشائع بين الناس، مع
أنهم صرحوا بإرادة المعاملة المتعارفة بين الناس.
ثم إنك قد عرفت ظهور أكثر العبارات المتقدمة في عدم حصول الملك، بل
صراحة بعضها، كالخلاف والسرائر والتذكرة والقواعد.
ومع ذلك كله فقد قال المحقق الثاني في جامع المقاصد:
إنهم أرادوا بالإباحة الملك المتزلزل فقال: المعروف بين الأصحاب أن المعاطاة
بيع وإن لم تكن كالعقد في اللزوم، خلافا لظاهر عبارة المفيد، ولا يقول أحد
بأنها بيع فاسد سوى المصنف في النهاية، وقد رجع عنه في كتبه المتأخرة
عنها.
وقوله تعالى: (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم)، عام إلا ما أخرجه الدليل.
وما يوجد في عبارة جمع من متأخري الأصحاب من أنها تفيد الإباحة وتلزم
بذهاب إحدى العينين، يريدون به عدم اللزوم في أول الأمر وبالذهاب يتحقق
اللزوم، لامتناع إرادة الإباحة المجردة عن أصل الملك إذ المقصود للمتعاطيين
الملك، فإذا لم يحصل كان بيعا فاسدا ولم يجز التصرف، وكافة الأصحاب على
خلافه.
91

وأيضا، فإن الإباحة المحضة لا تقتضي الملك أصلا ورأسا، فكيف يتحقق ملك
شخص بذهاب مال آخر في يده؟ وإنما الأفعال (14) لما لم تكن دلالتها على
المراد بالصراحة كالقول - لأنها تدل بالقرائن - منعوا من لزوم العقد بها، فيجوز
التراد ما دام ممكنا (15)، ومع تلف إحدى العينين يمتنع التراد فيتحقق اللزوم،
ويكفي تلف بعض إحدى العينين، لامتناع التراد في الباقي، إذ هو موجب
لتبعض الصفقة والضرر، إنتهى. ونحوه المحكي عنه في تعليقه على الارشاد.
وزاد فيه: إن مقصود المتعاطيين إباحة مترتبة على ملك الرقبة كسائر البيوع،
فإن حصل مقصودهما ثبت ما قلناه، وإلا لوجب أن لا تحصل إباحة بالكلية، بل
يتعين الحكم بالفساد: إذ المقصود غير واقع، فلو وقع غيره لوقع بغير قصد،
وهو باطل.
وعليه يتفرع النماء، وجواز وطء الجارية، ومن منع فقد أغرب، إنتهى.
92

والذي يقوى في النفس: إبقاء ظواهر كلماتهم على حالها، وأنهم يحكمون
بالإباحة المجردة عن الملك في المعاطاة مع فرض قصد المتعاطيين التمليك،
وأن الإباحة لم تحصل بإنشائها ابتداء، بل إنما حصلت كما اعترف به في
المسالك. من استلزام إعطاء كل منهما سلعته مسلطا عليها الإذن في التصرف
فيه بوجوه التصرفات (16).
فلا يرد عليهم عدا ما ذكره المحقق المتقدم في عبارته المتقدمة، وحاصله: أن
المقصود هو الملك، فإذا لم يحصل فلا منشأ لإباحة التصرف، إذ الإباحة إن
كانت من المالك فالمفروض أنه لم يصدر منه إلا التمليك وإن كانت من
الشارع فليس عليها دليل، ولم يشعر كلامهم بالاستناد إلى نص في ذلك، (17)
مع أن إلغاء الشارع للأثر المقصود وترتيب غيره بعيد جدا. (18)
93

مع أن التأمل في كلامهم يعطي إرادة الإباحة المالكية لا الشرعية.
ويؤيد إرادة الملك: أن ظاهر إطلاقهم (إباحة التصرف) شمولها للتصرفات
التي لا تصح إلا من المالك، كالوطء والعتق والبيع لنفسه والتزامهم حصول
الملك مقارنا لهذه التصرفات - كما إذا وقعت هذه التصرفات من ذي الخيار، أو
من الواهب الذي يجوز له الرجوع - بعيد وسيجئ ما ذكره بعض الأساطين:
من أن هذا القول مستلزم لتأسيس قواعد جديدة (19).
94

لكن الانصاف: أن القول بالتزامهم لهذه الأمور أهون من توجيه كلماتهم (20)،
فإن هذه الأمور لا استبعاد في التزامها إذا اقتضى الأصل عدم الملكية، ولم
يساعد عليها دليل معتبر، واقتضى الدليل صحة التصرفات المذكورة (21)، مع
أن المحكي عن حواشي الشهيد على القواعد: المنع عما يتوقف على الملك،
كإخراجه في خمس أو زكاة، وكوطء الجارية. ومما يشهد على نفي البعد عما
ذكرنا - من إرادتهم الإباحة المجردة مع قصد المتعاطيين التمليك: أنه قد صرح
الشيخ في المبسوط، والحلي في السرائر، كظاهر العلامة في القواعد بعدم
حصول الملك بإهداء الهدية بدون الايجاب والقبول ولو من الرسول، نعم يفيد
ذلك إباحة التصرف، لكن الشيخ استثنى وطء الجارية.
ثم إن المعروف بين المتأخرين أن من قال بالإباحة المجردة في المعاطاة، قال
بأنها ليست بيعا حقيقة كما هو ظاهر بعض العبائر المتقدمة ومعقد إجماع الغنية، 22
وما أبعد بينه وبين توجيه المحقق الثاني من إرادة نفي اللزوم وكلاهما خلاف
الظاهر. (22)
95

ويدفع الثاني: تصريح بعضهم: بأن شرط لزوم البيع منحصر في مسقطات
الخيار (23)،
98

فكل بيع عنده لازم من غير جهة الخيارات (24).
وتصريح غير واحد بأن الإيجاب والقبول من شرائط صحة انعقاد البيع
بالصيغة (25) وأما الأول، فإن قلنا بأن البيع عند المتشرعة حقيقة في الصحيح -
ولو بناء على ما قدمناه في آخر تعريف البيع: من أن البيع في العرف اسم
للمؤثر منه في النفل.
99

فإن كان في نظر الشارع أو المتشرعة، من حيث أنهم متشرعة ومتدينون
بالشرع، صحيحا (26) مؤثرا في الانتقال كان بيعا حقيقيا، وإلا كان صوريا، نظير
بيع الهازل في نظر العرف، فيصح على ذلك نفي البيعية على وجه الحقيقة في
كلام كل من اعتبر في صحته الصيغة، أو فسره بالعقد، لأنهم في مقام تعريف
البيع بصدد بيان ما هو المؤثر في النقل في نظر الشارع. إذا عرفت ما ذكرنا،
فالأقوال في المعاطاة - على ما يساعده ظواهر كلماتهم - ستة (27):
اللزوم مطلقا، كما عن ظاهر المفيد، ويكفي في وجود القائل به قول العلامة قدس سره
في التذكرة: الأشهر عندنا أنه لا بد من الصيغة. واللزوم بشرط كون الدال على
التراضي أو المعاملة لفظا، حكي عن بعض معاصري الشهيد الثاني وبعض
متأخري المحدثين، لكن في عد هذا من الأقوال في المعاطاة تأمل (28)،
والملك الغير اللازم، ذهب إليه المحقق الثاني، ونسبه إلى كل من قال بالإباحة.
وفي النسبة ما عرفت. وعدم الملك مع إباحة جميع التصرفات وعدم الملك مع
إباحة جميع التصرفات حتى المتوقفة على الملك، كما هو ظاهر عبائر كثير.
100

بل ذكر في المسالك: أن كل من قال بالإباحة يسوغ جميع التصرفات. وإباحة
ما لا يتوقف على الملك.
وهو الظاهر من الكلام من حواشي الشهيد على القواعد، وهو المناسب لما
حكيناه من الشيخ في إهداء الجارية من دون إيجاب وقبول.
والقول بعدم إباحة التصرف مطلقا، نسب إلى ظاهر النهاية، لكن ثبت رجوعه
عنه في غيرها.
والمشهور بين علمائنا: عدم ثبوت الملك بالمعاطاة وإن قصد المتعاطيان بها
التمليك، بل لم نجد قائلا به إلى زمان المحقق الثاني الذي قال به، ولم يقتصر
على ذلك حتى نسبه إلى الأصحاب.
نعم، ربما يوهمه ظاهر عبارة التحرير، حيث قال فيه: الأقوى أن المعاطاة غير
لازمة، بل لكل منهما فسخ المعاوضة ما دامت العين باقية فإن تلفت لزمت،
إنتهى. ولذا نسب ذلك إليه في المسالك، لكن قوله بعد ذلك: (ولا يحرم على
كل منهما الانتفاع بما قبضه، بخلاف البيع الفاسد) ظاهر في أن مراده مجرد
الانتفاع، إذ لا معنى لهذه العبارة بعد الحكم بالملك (29).
وأما قوله: (والأقوى إلخ)، فهو إشارة إلى خلاف المفيد والعامة القائلين
باللزوم. وإطلاق (المعاوضة) عليها باعتبار ما قصده المتعاطيان وإطلاق
(الفسخ) على (الرد) بهذا الاعتبار أيضا وكذا (اللزوم).
101

ويؤيد ما ذكرنا - بل يدل عليه - أن الظاهر من عبارة التحرير في باب الهبة
توقفها على الإيجاب والقبول ثم قال وهل يستغنى عن الإيجاب والقبول في
هدية الأطعمة؟ الأقرب عدمه، نعم يباح التصرف بشاهد الحال إنتهى. وصرح
بذلك أيضا في الهدية فإذا لم يقل في الهبة بصحة المعاطاة فكيف يقول بها في
البيع؟
وذهب جماعة تبعا - للمحقق الثاني - إلى حصول الملك ولا يخلو عن
قوة للسيرة المستمرة على معاملة المأخوذ بالمعاطاة معاملة الملك في التصرف
فيه بالعتق، والبيع، والوطء، والإيصاء، وتوريثه، وغير ذلك من آثار
الملك (30).
102

ويدل عليه أيضا: عموم قوله تعالى: أحل الله البيع حيث أنه يدل على حلية
جميع التصرفات المترتبة على البيع.
بل قد يقال: بأن الآية دالة عرفا بالمطابقة على صحة البيع لا مجرد الحكم
التكليفي. لكنه محل تأمل. (31)
104

وأما منع صدق البيع عليه عرفا فمكابرة (32). وأما دعوى الاجماع في كلام
بعضهم على عدم كون المعاطاة بيعا - كابن زهرة في الغنية - فمرادهم بالبيع:
المعاملة اللازمة التي هي إحدى العقود ولذا صرح في الغنية بكون الايجاب
والقبول من شرائط صحة البيع (33).
ودعوى: أن البيع الفاسد عندهم ليس بيعا، قد عرفت الحال فيها.
ومما ذكر
يظهر وجه التمسك بقوله تعالى: (إلا أن تكون تجارة عن تراض) (34).
107

وأما قوله صلى الله عليه وآله: (الناس مسلطون على أموالهم) فلا دلالة فيه على المدعى لأن
عمومه باعتبار أنواع السلطة، فهو إنما يجدي فيما إذا شك في أن هذا النوع من
السلطة ثابتة للمالك، وماضية شرعا في حقه أم لا؟ (35)
108

أما إذا قطعنا بأن سلطنة خاصة - كتمليك ماله للغير - نافذة في حقه، ماضية
شرعا، لكن شك في أن هذا التمليك الخاص هل يحصل بمجرد التعاطي مع
القصد، أم لا بد من القول الدال عليه؟ فلا يجوز الاستلال على سببية المعاطاة
في الشريعة للتمليك بعموم تسلط الناس على أموالهم، ومنه يظهر أيضا: عدم
جواز التمسك به لما سيجئ من شروط الصيغة.
وكيف كان، ففي الآيتين مع السيرة كفاية. اللهم إلا أن يقال: إنهما لا تدلان على
الملك، وإنما تدلان على إباحة جميع التصرفات حتى المتوقفة على الملك،
كالبيع والوطء والعتق والايصاء، وإباحة هذه التصرفات إنما تستلزم الملك
بالملازمة الشرعية الحاصلة في سائر المقامات من الاجماع وعدم القول
بالانفكاك، دون المقام الذي لا يعلم ذلك منهم، حيث أطلق القائلون بعدم الملك
إباحة التصرفات (36).
110

وصرح في المسالك: بأن من أجاز المعاطاة سوغ جميع التصرفات، غاية الأمر،
أنه لا بد من التزامهم بأن التصرف المتوقف على الملك يكشف عن سبق الملك
عليه آنا ما، فإن الجمع بين إباحة هذه التصرفات وبين توقفها على الملك
يحصل بالتزام هذا المقدار. ولا يتوقف على الالتزام بالملك من أول الأمر،
ليقال: إن مرجع هذه الإباحة أيضا إلى التمليك. وأما ثبوت السيرة واستمرارها
على التوريث، فهي كسائر سيراتهم الناشئة عن المسامحة وقلة المبالاة في
الدين مما لا يحصى في عباداتهم ومعاملاتهم وسياساتهم، كما لا يخفى. (37)
112

ودعوى: أنه لم يعلم من القائل بالإباحة جواز مثل هذه التصرفات المتوقفة
على الملك، كما يظهر من المحكي من حواشي الشهيد على القواعد من منع
إخراج المأخوذ بالمعاطاة في الخمس والزكاة وثمن الهدي، وعدم جواز وطء
الجارية المأخوذة بها، (38)
113

وقد صرح الشيخ قدس سره بالأخير في معاطاة الهدايا - فيتوجه التمسك حينئذ بعموم
الآية على جوازها، فيثبت الملك، مدفوعة: بأنه وإن لم يثبت ذلك، إلا أنه لم
يثبت أن كل من قال بإباحة جميع هذه التصرفات قال بالملك من أول
الأمر (39)، فيجوز للفقيه حينئذ التزام إباحة جميع التصرفات مع التزام حصول
الملك عند التصرف المتوقف على الملك، لا من أول الأمر
فالأولى حينئذ:
التمسك في المطالب بأن المتبادر عرفا من (حل البيع) صحته شرعا (40).
هذا مع إمكان إثبات صحة المعاطاة في الهبة والإجارة ببعض إطلاقاتهما،
وتتميمه في البيع بالإجماع المركب. هذا، مع أن ما ذكر: من أن للفقيه التزام
حدوث الملك عند التصرف المتوقف عليه، لا يليق بالمتفقه فضلا عن
الفقيه!.
114

ولذا ذكر بعض الأساطين في شرحه على القواعد في مقام الاستبعاد: أن القول
بالإباحة المجردة، مع فرض قصد المعاطيين التمليك والبيع مستلزم لتأسيس
قواعد جديدة: (42)
115

منها: أن العقود وما قام مقامها لا تتبع القصود، ومنها: أن يكون إرادة التصرف
من المملكات، فتملك العين أو المنفعة بإرادة التصرف بهما، أو معه دفعة وإن
لم يخطر ببال المالك الأول الأذن في شئ من هذه التصرفات. (43)
116

لأنه قاصد للنقل من حين الدفع، وأنه لا سلطان له بعد ذلك، بخلاف من قال:
أعتق عبدك عني، وتصدق بمالي عنك.
ومنها: أن الأخماس والزكوات والاستطاعة والديون والنفقات وحق المقاسمة
والشفعة والمواريث والربا والوصايا تتعلق بما في اليد مع العلم ببقاء مقابله،
وعدم التصرف فيه، أو عدم العلم به، فينفي بالأصل، فتكون متعلقة بغير
الأملاك، وأن صفة الغني والفقر ترتب عليه كذلك، فيصير ما ليس من الأملاك
بحكم الأملاك. (44)
117

ومنها: كون التصرف من جانب مملكا للجانب الآخر، مضافا إلى غرابة استناد
الملك إلى التصرف. (45) ومنها: جعل التلف السماوي من جانب مملكا للجانب
الآخر، والتلف من الجانبين معينا للمسمى من الطرفين، ولا رجوع إلى قيمة
المثل حتى يكون له الرجوع بالتفاوت. (46)
121

ومع حصوله في يد الغاصب أو تلفه فيها، فالقول بأنه المطالب، لأنه تملك
بالغصب أو التلف في يد الغاصب، غريب! (47) والقول بعدم الملك بعيد جدا.
مع أن في التلف القهري (48) إن ملك التالف قبل التلف فهو عجيب ومعه بعيد
لعدم قابليته. وبعده ملك معدوم (49)،
122

ومع عدم الدخول في الملك يكون ملك الآخر بغير عوض (50)، ونفي الملك
مخالف للسيرة وبناء المتعاطيين.
ومنها: أن التصرف إن جعلناه من النواقل القهرية فلا يتوقف على النية، فهو
بعيد، وإن أوقفناه عليها كان الوطئ للجارية من غيرها واطئا بالشبهة 51،
والجاني عليه والمتلف جانيا على مال الغير ومتلفا له.
123

ومنها: أن النماء الحادث قبل التصرف، إن جعلنا حدوثه مملكا له دون العين
فبعيد، أو معها فكذلك، وكلاهما مناف لظاهر الأكثر وشمول الأذن له خفي (52).
124

ومنها: قصر التمليك على التصرف مع استناد فيه إلى أن إذن المالك فيه إذن في
التمليك (53)، فيرجع إلى كون المتصرف في تمليكه نفسه موجبا قابلا، وذلك
جار في القبض، بل هو أولى منه لاقترانه بقصد التمليك، دونه، (54) إنتهى.
125

والمقصود من ذلك كله استبعاد هذا القول، لا أن الوجوه المذكورة تنهض في
مقابل الأصول والعمومات، إذ ليس فيها تأسيس قواعد جديدة لمتخالف
القواعد المتداولة بين الفقهاء. (55)
126

أما حكاية تبعية العقود وما قام مقامها للقصود (56)، ففيها: أولا: إن المعاطاة
ليست عند القائل بالإباحة المجردة من العقود، ولا من القائم مقامها شرعا، فإن
تبعية العقد للقصد وعدم انفكاكه عنه إنما هو لأجل دليل صحة ذلك العقد،
بمعنى ترتب الأثر المقصود عليه فلا يعقل حينئذ الحكم بالصحة مع عدم ترتب
الأثر المقصود عليه،
أما المعاملات الفعلية التي لم يدل على صحتها دليل، فلا يحكم بترتب الأثر
المقصود عليها (57)،
127

كما نبه عليه الشهيد في كلامه المتقدم من أن السبب الفعلي لا يقوم مقام
السبب القولي في المبايعات.
نعم إذا دل الدليل على ترتب أثر عليه حكم به وإن لم يكن مقصودا. (58)
129

وثانيا: إن تخلف العقد عن مقصود المتبايعين كثير، (59) فإنهم أطبقوا على أن
عقد المعاوضة إذا كان فاسدا يؤثر في ضمان كل من العوضين القيمة، لإفادة
العقد الفاسد الضمان عندهم فيما يقتضيه صحيحة، مع أنهما لم يقصدا إلا ضمان
كل منهما بالآخر. (60)
130

وتوهم: أن دليلهم على ذلك (قاعدة اليد)، مدفوع بأنه لم يذكر هذا الوجه إلا
بعضهم معطوفا على الوجه الأول وهو إقدامهما على الضمان، فلاحظ
المسالك.
132

وكذا الشرط الفاسد له يقصد المعاملة إلا مقرونة به غير مفسد عند أكثر
القدماء (62).
133

وبيع ما يملك وما لا يملك صحيح عند الكل (63).
134

وبيع الغاصب لنفسه يقع للمالك مع إجازته على قول كثير (64)
135

وترك ذكر الأجل في العقد المقصود به الانقطاع يجعله دائما، (65)
136

على قول نسبه في المسالك وكشف اللثام إلى المشهور (66).
نعم، الفرق بين العقود وما نحن فيه: أن التخلف عن القصود يحتاج إلى الدليل
المخرج عن أدلة صحة العقود، وفيما نحن فيه عدم الترتب المطابق للأصل.
137

وأما ما ذكره من لزوم كون إرادة التصرف مملكا، فلا بأس بالتزامه إذا كان
مقتضي الجمع بين الأصل ودليل جواز التصرف المطلق، وأدلة توقف بعض
التصرفات على الملك، فيكون كتصرف ذي الخيار والواهب فيما انتقل عنهما
بالوطء والبيع والعتق وشبهها (67).
138

وأما ما ذكره من تعلق الأخماس والزكوات - إلى آخر ما ذكره - فهو استبعاد
محض (68)، ودفعه بمخالفته للسيرة رجوع إليها مع أن تعلق الاستطاعة
الموجبة للحج، وتحقق الغنى المانع عن استحقاق الزكاة، لا يتوقفان على
الملك.
141

وأما كون التصرف مملكا للجانب الآخر (70)، فقد ظهر جوابه.
142

وأما كون التلف مملكا للجانبين (71)، فإن ثبت بإجماع أو سيرة كما هو الظاهر
كان كل من المالين مضمونا بعوضه، فيكون تلفه في يد كل منهما من ماله
مضمونا بعوضه، نظير تلف المبيع قبل قبضه في يد البائع، لأن هذا هو مقتضى
الجمع بين هذا الاجماع وبين عموم (على اليد ما أخذت) وبين أصالة عدم
الملك إلا في الزمان المتيقن وقوعه فيه.
143

توضيحه: إن الاجماع لما دل على عدم ضمانه بمثله أو قيمته حكم بكون التلف
من مال ذي اليد، رعاية لعموم (على اليد ما أخذت) فذلك الاجماع مع العموم
المذكور بمنزلة الرواية الواردة في أن: تلف المبيع قبل قبضه من مال بائعه،
فإذا قدر التلف من مال ذي اليد، فلا بد من أن يقدر في آخر أزمنة إمكان
تقديره، رعاية لأصالة عدم حدوث الملكية قبله، كما يقدر ملكية المبيع للبائع
وفسخ البيع من حيث التلف، استصحابا لأثر العقد.
وأما ما ذكره من صورة غصب المأخوذ بالمعاطاة، فالظاهر على القول بالإباحة
أن لكل منهما المطالبة ما دام باقيا.
وإذا تلف، فظاهر إطلاقهم (التملك بالتلف) تلفه من مال المغصوب منه. (73)
نعم، لولا قام إجماع كان تلفه من مال المالك لو لم يتلف عوضه قبله.
وأما ما ذكره من حكم النماء، (74)
144

فظاهر المحكي عن بعض أن القائل بالإباحة لا يقول باشتمال النماء إلى الأخذ،
بل حكمه حكم أصله. (75) ويحتمل أن يحدث النماء في ملكه بمجرد
الإباحة. (76) ثم إنك بملاحظة ما ذكرنا تقدر على التخلص عن سائر ما ذكره،
مع أنه قدس سره لم يذكرها للاعتماد (77)،
145

والانصاف: أنها استبعادات (78) في محلها، وبالجملة: فالخروج عن أصالة عدم
الملك المعتضد بالشهرة المحققة إلى زمان المحقق الثاني، وبالاتفاق المدعى
في الغنية والقواعد هنا وفي المسالك في مسألة توقف الهبة على الايجاب
والقبول مشكل، ورفع اليد عن عموم أدلة البيع والهبة ونحوهما المعتضدة
بالسيرة القطعية المستمرة، وبدعوى الاتفاق المتقدم عن المحقق الثاني - بناء
على تأويله لكلمات القائلين بالإباحة - أشكل.
146

فالقول الثاني لا يخلو عن قوة. وعليه، فهل هي لازمة ابتداء مطلقا؟ كما حكي
عن ظاهر المفيد قدس سره أو بشرط كون الدال على التراضي لفظا؟ كما حكي عن
بعض معاصري الشهيد الثاني. وقواه جماعة من متأخري المحدثين،
أو هي غير لازمة مطلقا فيجوز لكل منهما الرجوع في ماله؟ كما عليه أكثر
القائلين بالملك، بل كلهم عدا من عرفت، وجوه:
أوفقها بالقواعد هو الأول، بناء
على أصالة اللزوم في الملك، للشك في زواله بمجرد رجوع مالكه الأصلي.
147

ودعوى: أن الثابت هو الملك المشترك بين المتزلزل والمستقر، والمفروض
انتفاء الفرد الأول بعد الرجوع، والفرد الثاني كان مشكوك الحدوث من أول
الأمر، فلا ينفع الاستصحاب (1) بل ربما يراد استصحاب بقاء علقة المالك
الأول (2) مدفوعة.
148

مضافا إلى إمكان دعوى كفاية تحقق القدر المشترك في الاستصحاب،
فتأمل. (82)
149

بأن انقسام الملك إلى المتزلزل والمستقر ليس باعتبار اختلاف في حقيقة، وإنما
هو باعتبار حكم الشارع عليه في بعض المقامات بالزوال برجوع المالك
الأصلي. ومنشأ هذا الاختلاف، اختلاف حقيقة السبب المملك، لا اختلاف
حقيقة الملك. المأخوذة في المسبب. (83)
150

ويدل عليه: مع أنه يكفي في الاستصحاب الشك في أن اللزوم من خصوصيات
الملك أو من لوازم السبب المملك، (84)
154

ومع أن المحسوس بالوجدان إن إنشاء الملك في الهبة اللازمة وغيرها على
نهج واحد (85) - إن اللزوم والجواز لو كانا من خصوصيات الملك، فإما أن
يكون تخصيص القدر المشترك بإحدى الخصوصيتين بجعل المالك، أو بحكم
الشارع. (86)
155

فإن كان الأول، كان اللازم التفصيل بين أقسام التمليك المختلفة بحسب قصد
الرجوع، وقصد عدمه، أو عدم قصده وهو بديهي البطلان، إذ لا تأثير لقصد
المالك في الرجوع وعدمه.
وإن كان الثاني، لزم إمضاء الشارع العقد على غير ما قصده المنشئ، وهو
باطل في العقود، لما تقدم أن العقود المصححة عند الشارع تتبع القصود، وإن
أمكن القول بالتخلف هنا في مسألة المعاطاة، (87) بناء على ما ذكرنا سابقا
انتصارا للقائل بعدم الملك:
من منع وجوب إمضاء المعاملات الفعلية على طبق قصود المتعاطيين، لكن
الكلام في قاعدة اللزوم في الملك يشمل العقود أيضا.
158

وبالجملة، فلا إشكال في أصالة اللزوم في كل عقد شك في لزومه شرعا، وكذا
لو شك في أن الواقع في الخارج هو العقد اللازم أو الجائز، (88) كالصلح من
دون عوض، والهبة. نعم، لو تداعيا احتمل التخالف في الجملة (89)
ويدل على
اللزوم - مضافا إلى ما ذكر - عموم قوله صلى الله عليه وآله: (الناس مسلطون على أموالهم) فإن
مقتضى السلطنة أن لا يخرج عن ملكيته بغير اختياره.
159

فجواز تملكه عنه بالرجوع فيه من دون رضاه مناف للسلطنة المطلقة. (90)
160

فاندفع (91) ما ربما يتوهم: من أن غاية مدلول الرواية سلطنة الشخص على
ملكه، ولا نسلم ملكيته له بعد رجوع المالك الأصلي.
161

ولما ذكرنا تمسك المحقق قدس سره في الشرايع على لزوم القرض بعد القبض، بأن
فائدة الملك السلطنة، ونحوه العلامة قدس سره في موضع آخر.
ومنه يظهر جواز
التمسك بقوله عليه السلام: (لا يحل مال امرئ إلا عن طيب نفسه)، حيث دل على انحصار
سبب حل مال الغير أو جزء سببه في رضا المالك، فلا يحل بغير رضاه. (92)
وتوهم: تعلق الحل بمال الغير، وكونه مال الغير بعد الرجوع أول الكلام،
مدفوع: بما تقدم، مع أن تعلق الحل بالمال يفيد العموم، بحيث يشمل التملك
أيضا، فلا يحل التصرف فيه ولا تملكه إلا بطيب نفس المالك (93).
162

ويمكن الاستدلال أيضا بقوله تعالى: (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون
تجارة عن تراض). ولا ريب أن الرجوع ليست تجارة ولا عن تراض، فلا يجوز
أكل المال (94).
والتوهم المتقدم في السابق غير جار هنا، لأن حصر مجوز أكل
المال في التجارة إنما يراد به أكله على أن يكون ملكا للأكل لا لغيره (95).
163

ويمكن التمسك أيضا بالجملة المستثنى منها، حيث إن أكل المال ونقله عن
مالكه بغير رضا المالك، أكل وتصرف بالباطل عرفا (96).
نعم، بعد إذن المالك الحقيقي وهو الشارع وحكمه بالتسلط على فسخ المعاملة
من دون رضا المالك يخرج عن البطلان، ولذا كان أكل المارة من الثمرة
المرور بها أكلا بالباطل لولا إذن المالك الحقيقي وكذا الأخذ بالشفعة، والفسخ
بالخيار، وغير ذلك من الأسباب القهرية.
هذا كله، مضافا إلى ما دل على لزوم
خصوص البيع، مثل قوله صلى الله عليه وآله (البيعان بالخيار ما لم يفترقا) (97).
166

وقد يستدل أيضا بعموم قوله تعالى: أوفوا بالعقود بناء على أن العقد هو
مطلق العهد، كما في صحيحة عبد الله بن سنان، أو العهد المشدد، كما عن بعض
أهل اللغة، وكيف كان يختص باللفظ فيشمل المعاطاة (98).
168

وكذلك قوله: (المؤمنون عند شروطهم)، فإن الشرط لغة مطلق الالتزام، فيشمل
ما كان بغير اللفظ (99).
173

والحاصل: أن الحكم باللزوم في مطلق الملك وفي خصوص البيع مما لا ينكر،
إلا أن الظاهر فيما نحن فيه قيام الإجماع على عدم لزوم المعاطاة بل ادعاه
صريحا بعض الأساطين في شرح القواعد ويعضده الشهرة المحققة، بل لم
يوجد به قائل إلى زمان بعض متأخري المتأخرين، فإن العبارة المحكية عن
المفيد قدس سره في المقنعة لا تدل على هذا القول - كما عن المختلف الاعتراف به -
فإنه قال: ينعقد البيع على تراض بين الاثنين فيما يملكان التتابع له إذا عرفاه
جميعا وتراضيا بالبيع، وتقابضا، وافترقا بالأبدان، انتهى. ويقوى إرادة بيان
شروط صحة العقد الواقع بين اثنين وتأثيره في اللزوم، وكأنه لذلك حكى
كاشف الرموز عن المفيد والشيخ أنه لا بد في البيع عندهما من لفظ مخصوص
وقد تقدم دعوى الاجماع من الغنية على عدم كونها بيعا، وهو نص في عدم
اللزوم، ولا يقدح كونه ظاهرا في عدم الملكية الذي لا نقول به. وعن جامع
المقاصد: يعتبر اللفظ في العقود اللازمة بالاجماع.
176

نعم، قول العلامة في التذكرة: (إن الأشهر عندنا أنه لا بد من الصيغة) يدل على
وجود الخلاف المعتد به في المسألة، لو كان المخالف شاذا لعبر بالمشهور،
وكذلك نسبته في المختلف إلى الأكثر وفي التحرير: أن الأقوى أن المعاطاة
غير لازمة. ثم ولو فرضنا الاتفاق من العلماء على عدم لزومها - مع ذهاب
كثيرهم أو أكثرهم إلى أنها ليست مملكة، وإنما تفيد الإباحة - لم يكن هذا
الاتفاق كاشفا، إذ القول باللزوم فرع الملكية، ولم يقل بها إلا بعض من تأخر
عن المحقق الثاني تبعا له، وهذا مما يوهن حصول القطع - بل الظن - من
الاتفاق المذكور، لأن قول الأكثر بعدم اللزوم سالبة بانتفاء الموضوع.
نعم، يمكن أن يقال - بعد ثبوت الاتفاق المذكور - إن أصحابنا بين قائل بالملك
الجائز، وبين قائل بعدم الملك رأسا، فالقول بالملك اللازم قول ثالث،
فتأمل (100).
177

وكيف كان فتحصيل الإجماع على وجه استكشاف قول الإمام عن قول غيره
من العلماء - كما هو طريق المتأخرين - مشكل، لما ذكرنا وإن كان هذا لا يقدح
في الاجماع على طريق القدماء، كما بين في الأصول.
وبالجملة، فما ذكره في المسالك من قوله - بعد ذكر قول من اعتبر مطلق اللفظ
في اللزوم (ما أحسنه وأمتن دليله، إن لم يكن إجماع على خلافه) في غاية
الحسن والمتانة.
والاجماع وإن لم يكن محققا على وجه يوجب القطع، إلا أن المظنون قويا
تحققه على عدم اللزوم، مع عدم لفظ دال على إنشاء التمليك سواء لم يوجد
لفظ أصلا أم وجد ولكن لم ينشأ التمليك به بل كان من جملة القرائن على
قصد التمليك بالتقابض.
178

وقد يظهر ذلك من غير واحد من الأخبار. بل يظهر منها أن إيجاب البيع باللفظ
دون مجرد التعاطي كان متعارفا بين أهل السوق والتجار (101).
بل يمكن دعوى السيرة على عدم الاكتفاء في البيوع الخطيرة التي يراد بها
عدم الرجوع بمجرد التراضي (102).
نعم، ربما يكتفون بالمصافقة فيقول البائع: بارك الله لك، أو ما أدى هذا المعنى
بالفارسية. نعم يكتفون بالتعاطي في المحقرات ولا يلتزمون بعدم جواز
الرجوع فيها (103) بل ينكرون على الممتنع على الرجوع مع بقاء العينين.
179

نعم، الاكتفاء في اللزوم بمطلق الإنشاء القولي غير بعيد، للسيرة ولغير واحد من
الأخبار كما سيجئ إن شاء الله تعالى في شروط الصيغة. (104)
180

بقي الكلام في الخبر الذي تمسك به في باب المعاطاة، تارة على عدم إفادة
المعاطاة إباحة التصرف، وأخرى على عدم إفادتها اللزوم، جمعا بينه وبين ما
دل على صحة مطلق البيع (105) - كما صنعه في الرياض - وهو قوله عليه السلام (إنما
يحلل الكلام ويحرم الكلام).
وتوضيح المراد منه يتوقف على بيان تمام الخبر، وهو ما رواه ثقة الإسلام في
باب (بيع ما ليس عنده) (106).
181

والشيخ في باب (النقد والنسيئة) عن ابن أبي عمير، عن يحيى بن الحجاج،
عن خالد بن الحجاج - أو ابن نجيح - قال: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: الرجل
يجيئني ويقول: اشتر لي هذا الثوب وأربحك كذا وكذا. فقال: أليس إن شاء أخذ
ون شاء ترك؟ قلت: بلى. قال: لا بأس، إنما يحلل الكلام ويحرم الكلام). وقد
ورد بمضمون هذا الخبر روايات أخر مجردة عن قوله عليه السلام (إنما يحلل... الخ)،
كلها تدل على أنه لا بأس بهذه المواعدة والمقاولة ما لم يوجب بيع المتاع قبل
أن يشتريه من صاحبه. ونقول: إن هذه الفقرة - مع قطع النظر عن صدر الرواية
تحتمل وجوها: (107) الأول: أن يراد من (الكلام) في المقامين اللفظ الدال على
التحليل والتحريم، بمعنى أن تحريم شئ وتحليله لا يكون إلا بالنطق بهما،
فلا يتحقق بالقصد المجرد عن الكلام، ولا بالقصد المدلول عليه بالأفعال دون
الأقوال.
182

الثاني: أن يراد ب‍ (الكلام) اللفظ مع مضمونه، كما في قولك: (هذا الكلام
صحيح) أو (فاسد)، لا مجرد اللفظ - أعني الصوت - ويكون المراد: أن
المطلب الواحد يختلف حكمه الشرعي حلا وحرمة باختلاف المضامين المؤداة
بالكلام، مثلا: المقصود الواحد، وهو التسليط على البضع مدة معينة يتأتى
بقولها: (ملكتك بضعي) أو (سلطتك عليه) أو (آجرتك نفسي) أو (أحللتها
لك)، وبقولها: (متعتك نفسي بكذا)، فما عدا الأخير موجب لتحريمه، والأخير
محلل، وبهذا المعنى ورد قوله عليه السلام: (إنما يحرم الكلام) في عدة من روايات
المزارعة (109).
منها: ما في التهذيب عن ابن محبوب، عن خالد بن جرير، عن أبي الربيع
الشامي، عن أبي عبد الله عليه السلام أنه سئل عن الرجل يزرع أرض رجل آخر فيشترط
عليه ثلثا للبذر، وثلثا للبقر، فقال: (لا ينبغي له أن يسمي بذرا ولا بقرا،
183

ولكن يقول لصاحب الأرض: ازرع في أرضك ولك منها كذا وكذا: نصف، أو
ثلث، أو ما كان من شرط، ولا يسى بذرا ولا بقرا، فإنما يحرم الكلام.
الثالث: أن يراد ب‍ (الكلام) في الفقرتين الكلام الواحد، ويكون تحليله
وتحريمه باعتبار وجوده وعدمه (1)، فيكون وجوده محللا وعدمه محرما، أو
بالعكس، أو باعتبار محله وغير محله، فيحل في محله ويحرم في غيره (111)،
ويحتمل هذا الوجه الروايات الواردة في المزارعة.
184

الرابع: أن يراد من الكلام المحلل خصوص المقاولة والمواعدة، ومن الكلام
المحرم إيجاب البيع وإيقاعه (112) ثم، إن الظاهر عدم إرادة المعنى الأول لأنه
مع لزوم تخصيص الأكثر حيث إن ظاهره حصر أسباب التحليل والتحريم في
الشريعة، في اللفظ، يوجب عدم ارتباطه بالحكم المذكور في الخبر، جوابا عن
السؤال، مع كونه كالتعليل له.
185

لأن ظاهر الحكم كما يستفاد من عدة روايات أخر تخصيص الجواز بما إذا لم
يوجب البيع على الرجل قبل شراء المتاع من مالكه ولا دخل لاشتراط النطق
في التحليل والتحريم في هذا الحكم أصلا فكيف يعلل به؟ وكذا المعنى الثاني،
إذ ليس هنا مطلب واحد، حتى يكون تأديته بمضمون محللا وبآخر محرما.
فتعين: المعنى الثالث، وهو: إن الكلام الدال على الالتزام بالبيع لا يحرم هذه
المعاملة إلا وجوده قبل شراء العين التي يريدها الرجل، لأنه بيع ما ليس عنده،
ولا يحلل إلا عدمه، إذ مع عدم الكلام الموجب لالتزام البيع لم يحصل إلا
التواعد بالمبايعة، وهو غير مؤثر.
186

فحاصل الرواية: أن سبب التحليل والتحريم في هذه المعاملة منحصر في
الكلام عدما ووجودا (114) أو المعنى الرابع، وهو: إن المقاولة والمراضاة مع
المشتري الثاني قبل اشتراء العين محلل للمعاملة، وإيجاب البيع معه محرم لها.
وعلى كلا المعنيين يسقط الخبر عن الدلالة على اعتبار الكلام في التحليل،
كما هو المقصود في مسألة المعاطاة (115).
187

نعم يمكن استظهار اعتبار الكلام في إيجاب البيع بوجه آخر - بعدما عرفت
من أن المراد ب‍ (الكلام) هو إيجاب البيع، بأن يقال: إن حصر المحلل والمحرم
في الكلام لا يتأتى إلا مع انحصار إيجاب البيع في الكلام، إذ لو وقع بغير
الكلام لم ينحصر المحلل والمحرم في الكلام (116).
188

إلا أن يقال: إن وجه انحصار إيجاب البيع في الكلام في مورد الرواية هو عدم
إمكان المعاطاة في خصوص المورد، إذ المفروض أن المبيع عند مالكه الأول،
فتأمل (117).
189

وكيف كان، فلا تخلو الرواية عن إشعار أو ظهور كما يشعر به قوله عليه السلام في
رواية أخرى واردة في هذا الحكم أيضا، وهي رواية يحيى بن الحجاج عن أبي
عبد الله عليه السلام (عن رجل قال لي: اشتر لي هذا الثوب أو هذه الدابة، وبعنيها أربحك فيها كذا
وكذا؟ قال: لا بأس بذلك، اشترها، ولا تواجبه البيع قبل أن تستوجبها أو تشتريها) فإن
الظاهر أن المراد من مواجبة البيع ليس مجرد إعطاء العين للمشتري. ويشعر به
أيضا رواية العلاء الواردة في نسبة الربح إلى أصل المال، قال: (قلت لأبي
عبد الله عليه السلام: الرجل يريد أن يبيع بيعا فيقول: أبيعك به دوازده، [أو ده يازده]؟ فقال: لا بأس،
إنما هذه (المراوضة) فإذا جمع البيع جعله جملة واحدة)، فإن ظاهره على ما فهمه
بعض الشراح أنه لا يكره ذلك في المقاولة التي قبل العقد وإنما يكره حين
العقد. وفي صحيحة ابن سنان: (لا بأس بأن تبيع الرجل المتاع ليس عندك، تساومه ثم
تشتري له نحو الذي طلب، ثم توجبه على نفسك ثم تبيعه منه بعد) (118).
190

تنبيهات المعاطاة
وينبغي التنبيه على أمور:
191

الأول: الظاهر أن المعاطاة قبل اللزوم - على القول بإفادتها الملك بيع بل
الظاهر من كلام المحقق الثاني في جامع المقاصد: أنه مما لا كلام فيه حتى عند
القائلين بكونها فاسدة كالعلامة في النهاية. ودل على ذلك تمسكهم له بقوله
تعالى: (أحل الله البيع).
وأما على القول بإفادتها للإباحة، فالظاهر: أنها بيع عرفي لم يؤثر شرعا إلا
الإباحة (1)، فنفي البيع عنها في كلامهم ومعاقد إجماعاتهم هو البيع المفيد
شرعا اللزوم زيادة على الملك.
هذا على ما اخترناه سابقا: من أن مقصود المتعاطيين في المعاطاة التملك
والبيع.
وأما على ما احتمله بعضهم - بل استظهره - من أن محل الكلام هو ما إذا قصدا
مجرد الإباحة فلا إشكال في عدم كونها بيعا عرفا، ولا شرعا.
وعلى هذا فلا بد عند الشك في اعتبار شرط فيها من الرجوع إلى الأدلة الدالة
على صحة هذه الإباحة العوضية من خصوص أو عموم.
193

وحيث إن المناسب لهذا القول التمسك في مشروعيته بعموم (الناس مسلطون
على أموالهم) (2) كان مقتضى القاعدة هو نفي شرطية غير ما ثبت شرطية، كما أنه
لو تمسك لها بالسيرة كان مقتضى القاعدة العكس. والحاصل: أن المرجع -
على هذا - عند الشك في شروطها، هي أدلة هذه المعاملة، سواء اعتبرت في
البيع أم لا.
194

وأما على المختار من أن الكلام فيما قصد به البيع، فهل يشترط فيه شروط
البيع مطلقا، أم لا كذلك، أم يبتني على القول بإفادتها للملك، والقول بعدم إفادتها الإباحة؟ وجوه: يشهد للأول: كونها بيعا عرفا، فيشترط فيها جميع ما
دل على اشتراطه في البيع. (3)
195

ويؤيده: أن محل النزاع بين العامة والخاصة في المعاطاة هو: أن الصيغة معتبرة
في البيع كسائر الشرائط، أم لا؟
كما يفصح عنه عنوان المسألة في كتب كثير من الخاصة والعامة فما انتفى فيه
غير الصيغة من شروط البيع، خارج عن هذا العنوان وإن فرض مشاركا له في
الحكم.
ولذا ادعى في الحدائق: أن المشهور بين القائلين بعدم لزوم المعاطاة: صحة
المعاطاة المذكورة إذا استكملت شروط البيع غير الصيغة المخصوصة، وأنها
تفيد إباحة تصرف كل منهما فيما صار إليه من العوض.
ومقابل المشهور في كلامه، قول العلامة في النهاية بفساد المعاطاة - كما صرح
به بعد ذلك فلا يكون كلامه موهما لثبوت الخلاف في اشتراط صحة المعاطاة
باستجماع شرائط البيع.
ويشهد للثاني: أن البيع في النص والفتوى ظاهر فيما حكم فيه باللزوم، وثبت
له الخيار في قولهم: (البيعان بالخيار ما لم يفترقا) ونحوه.
197

أما على القول بالإباحة، فواضح، لأن المعاطاة ليست على هذا القول بيعا في
نظر الشارع والمتشرعة إذ لا نقل فيه عند الشارع فإذا ثبت إطلاق الشارع
عليه في مقام، فنحمله على الجري على ما هو بيع باعتقاد العرف، لاشتماله
على النقل في نظرهم.
وقد تقدم سابقا - في تصحيح دعوى الإجماع على عدم كون المعاطاة بيعا بيان
ذلك.
وأما على القول بالملك فلأن المطلق ينصرف إلى الفرد المحكوم باللزوم (4)
في قولهم: (البيعان بالخيار) (5) وقولهم: (إن الأصل في البيع اللزوم، والخيار
إنما ثبت لدليل) و (أن البيع بقول مطلق من العقود اللازمة) وقولهم: (البيع هو
العقد الدال على كذا) ونحو ذلك.
198

وبالجملة، فلا يبقى للمتأمل شك في أن إطلاق البيع في النص والفتوى يراد به
ما لا يجوز فسخه إلا بفسخ عقده بخيار أو بتقابل. (6) ووجه الثالث: ما تقدم
للثاني على القول بالإباحة، من سلب البيع عنه، وللأول على القول بالملك، من
صدق البيع عليه حينئذ وإن لم يكن لازما ويمكن الفرق بين الشرط الذي ثبت
اعتباره في البيع من النص فيحمل على البيع العرفي وإن لم يفد عند الشارع
إلا الإباحة، وبين ما ثبت بالاجماع على اعتباره في البيع بناء على انصراف
(البيع) في كلمات المجمعين إلى العقد اللازم (7)، والاحتمال الأول لا يخلو
عن قوة، لكونها بيعا ظاهرا على القول بالملك كما عرفت من جامع المقاصد -
وأما على القول بالإباحة فلأنها لم تثبت إلا في المعاملة الفاقدة للصيغة فقط،
فلا تشمل الفاقدة للشرط الآخر أيضا (8).
199

ثم إنه حكي عن الشهيد قدس سره في حواشيه على القواعد أنه بعدما منع من إخراج
المأخوذ بالمعاطاة في الخمس والزكاة وثمن الهدي إلا بعد تلف العين، يعني
العين الأخرى - ذكر: أنه يجوز أن يكون الثمن والمثمن في المعاطاة مجهولين،
لأنها ليست عقدا، وكذا جهالة الأجل، وأنه لو اشترى أمة بالمعاطاة لم يجز له
نكاحها قبل تلف الثمن، انتهى. وحكي عنه في باب الصرف أيضا: أنه لا يعتبر
التقابض في المجلس في معاطاة النقدين. أقول: حكمه قدس سره بعدم جواز إخراج
المأخوذ بالمعاطاة في الصدقات الواجبة وعدم جواز نكاح المأخوذ بها صريح
في عدم إفادتها للملك، إلا أن حكمه قدس سره بعدم اعتبار الشروط المذكورة للبيع
والصرف معللا بأن المعاطاة ليست عقدا يحتمل أن يكون باعتبار عدم الملك.
حيث إن المفيد للملك منحصر في العقد وأن يكون باعتبار عدم اللزوم، حيث
إن الشروط المذكورة شرائط للبيع العقدي اللازم. والأقوى: اعتبارها وإن قلنا
بالإباحة، لأنها بيع عرفي وإن لم يفد شرعا إلا الإباحة. (9)
201

ومورد الأدلة الدالة على اعتبار تلك الشروط هو البيع العرفي لا خصوص
العقدي، بل تقييدها بالبيع العقدي تقييد بغير الغالب، ولما عرفت من أن الأصل
في المعاطاة بعد القول بعدم الملك، الفساد وعدم تأثيره شيئا، خرج ما هو محل
الخلاف بين العلماء من حيث اللزوم والعدم، وهو المعاملة الجامعة للشروط
عدا الصيغة، وبقي الباقي.
وبما ذكرنا يظهر وجه تحريم الربا فيها أيضا وإن
خصصنا الحكم بالبيع (10)، بل الظاهر التحريم حتى عند من لا يراها مفيدة
للملك. لأنها معاوضة عرفية وإن لم تفد الملك، بل معاوضة شرعية، كما
اعترف بها الشهيد قدس سره في موضع من الحواشي، حيث قال: إن المعاطاة معاوضة
مستقلة جائزة أو لازمة، إنتهى. (11)
202

ولو قلنا بأن المقصود للمتعاطيين الإباحة لا الملك، فلا يبعد أيضا جريان الربا،
لكونها معاوضة عرفا، فتأمل.
وأما حكم جريان الخيار فيها قبل اللزوم، فيمكن
نفيه على المشهور، لأنها إباحة عندهم، فلا معنى للخيار (12).
203

وإن قلنا بإفادة الملك (13)، فيمكن القول بثبوت الخيار فيه مطلقا. بناء على
صيرورتها بيعا بعد اللزوم (14) كما سيأتي عند تعرض الملزمات فالخيار
موجود من زمان المعاطاة، إلا أن أثره يظهر بعد اللزوم، وعلى هذا فيصح
إسقاطه والمصالحة عليه قبل اللزوم ويحتمل أن يفصل بين الخيارات المختصة
بالبيع، فلا تجري كاختصاص أدلتها بما وضع على اللزوم من غير جهة الخيار،
وبين غيرها كخيار الغبن والعيب بالنسبة إلى الرد دون الأرش فتجري لعموم
أدلتها. وأما حكم الخيار بعد اللزوم، فسيأتي بعد ذكر الملزمات. (15)
204

الأمر الثاني
إن المتيقن من مورد المعاطاة هو حصول التعاطي فعلا من الطرفين، فالملك أو
الإباحة في كل منهما بالإعطاء، فلو حصل الإعطاء من جانب واحد لم يحصل
ما يوجب إباحة الآخر أو ملكيته فلا يتحقق المعاوضة ولا الإباحة رأسا، لأن
كلا منهما ملك أو مباح في مقابل ملكية الآخر أو إباحته (16).
205

إلا أن الظاهر من جماعة من متأخري المتأخرين - تبعا للشهيد في الدروس -
جعله من المعاطاة، ولا ريب أنه لا يصدق معنى المعاطاة.
لكن هذا لا يقدح في جريان حكمها عليه، بناء على عموم الحكم لكل بيع
فعلي، فيكون إقباض أحد العوضين من مالكه تمليكا له بعوض، أو مبيحا له به،
وأخذ الآخر له تملكا له بالعوض، أو إباحة له بإزائه.
فلو كان المعطي هو الثمن كان دفعه على القول بالملك والبيع اشتراء، وأخذه
بيعا للمثمن به، فيحصل الإيجاب والقبول الفعليان بفعل واحد في زمان واحد.
ثم، صحة هذا على القول بكون المعاطاة بيعا مملكا واضحة، إذ يدل عليها ما دل
على صحة المعاطاة من الطرفين. وأما على القول بالإباحة، فيشكل بأنه بعد
عدم حصول الملك بها لا دليل على تأثيرها في الإباحة. اللهم إلا أن يدعى قيام
السيرة عليها، كقيامها على المعاطاة الحقيقية.
208

وربما يدعى انعقاد المعاطاة بمجرد إيصال الثمن وأخذ المثمن من غير صدق
إعطاء أصلا، فضلا عن التعاطي، كما تعارف أخذ الماء مع غيبة السقاء، ووضع
الفلس في المكان المعد له إذا علم من حال السقاء الرضا بذلك، وكذا غير الماء
من المحقرات كالخضروات ونحوها، ومن هذا القبيل الدخول في الحمام
ووضع الأجرة في كوز صاحب الحمام مع غيبته (17).
209

فالمعيار في المعاطاة: وصول العوضين، أو أحدهما مع الرضا بالتصرف،
ويظهر ذلك من المحقق الأردبيلي قدس سره أيضا في مسألة المعاطاة وسيأتي توضيح
ذلك في مقامه إن شاء الله.
210

ثم، أنه لو قلنا بأن اللفظ الغير المعتبر في العقد كالفعل في انعقاد المعاطاة،
أمكن خلو المعاطاة من الإعطاء والإيصال رأسا، فيتقاولان على مبادلة شئ
بشئ من غير إيصال (18)، ولا يبعد صحته مع صدق البيع عليه بناء على
الملك، وأما على القول بالإباحة، فالإشكال المتقدم هنا آكد (19).
211

الأمر الثالث
تميز البائع من المشتري في المعاطاة الفعلية مع كون أحد العوضين مما تعارف
جعله ثمنا - كالدراهم والدنانير والفلوس المسكوكة - واضح. (20)
212

فإن صاحب الثمن هو المشتري ما لم يصرح بالخلاف (21)
وأما مع كون
العوضين من غيرها (22)، فالثمن ما قصدا قيامه مقام الثمن في العوضية (23)
فإذا أعطى الحنطة في مقابل اللحم قاصدا إن هذا المقدار من الحنطة يسوي
درهما هو ثمن اللحم، فيصدق عرفا أنه اشترى اللحم بالحنطة، وإذا انعكس
انعكس الصدق، فيكون المدفوع بنية البدلية عن الدرهم والدينار هو الثمن،
وصاحبه هو المشتري (24). ولو لم يلاحظ إلا كون أحدهما بدلا عن الآخر من
دون نية قيام أحدهما مقام الثمن في العوضية، أو لوحظ القيمة في كليهما، بأن
لوحظ كون المقدار من اللحم بدرهم، وذلك المقدار من الحنطة بدرهم، فتعاطيا
من غير سبق مقاولة تدل على كون أحدهما بالخصوص بائعا:
213

ففي كونه بيعا وشراء بالنسبة إلى كل منهما، بناء على أن البيع لغة - كما
عرفت - مبادلة مال بمال، والاشتراء: ترك شئ والأخذ بغيره كما عن بعض
أهل اللغة فيصدق على صاحب اللحم أنه باعه بحنطة وأنه اشترى الحنطة (25)،
فيحنث لو حلف على عدم بيع اللحم وعدم شراء الحنطة. نعم، لا يترتب عليهما
أحكام البائع ولا المشتري لانصرافهما في أدلة تلك الأحكام إلى من اختص
بصفة البيع أو الشراء (26)، فلا يعم من كان في معاملة واحدة مصداقا لهما
باعتبارين. أو كونه بيعا بالنسبة إلى من يعطي أولا، لصدق الموجب عليه
وشراء بالنسبة إلى الآخذ، لكونه قابلا عرفا. (27)
214

أو كونها معاطاة مصالحة (28)، لأنها بمعنى التسالم على شئ، ولذا حملوا
الرواية الواردة في قول أحد الشريكين لصاحبه: (لك ما عندك ولي ما عندي)
على الصلح.
215

أو كونها معاوضة مستقلة لا يدخل تحت العناوين المتعارفة وجوه. لا يخلو
ثانيها عن قوة، لصدق تعريف (البائع) لغة وعرفا على الدافع أولا، دون الآخر،
وصدق (المشتري) على الآخذ أولا، دون الآخر، فتدبر. (29)
216

الأمر الرابع
أن أصل المعاطاة وهي إعطاء كل منهما الآخر ماله يتصور بحسب قصد
المتعاطيين على وجوه (30):
217

أحدها: أن يقصد كل منهما تمليك ماله بمال الآخر، فيكون الآخر في أخذه قابلا
ومتملكا بإزاء ما يدفعه، فلا يكون في دفعه العوض إنشاء تمليك، بل دفع لما
التزمه على نفسه بإزاء ما تملكه فيكون الإيجاب والقبول بدفع العين الأولى
وقبضها، فدفع العين الثاني خارج عن حقيقة المعاطاة،
219

فلو مات الآخذ قبل دفع ماله مات بعد تمام المعاطاة.
وبهذا الوجه صححنا سابقا عدم توقف المعاطاة على قبض كلا العوضين،
فيكون إطلاق المعاطاة عليه من حيث حصول المعاملة فيه بالعطاء دون القول،
لا من حيث كونها متقومة بالعطاء من الطرفين ومثله في هذا الإطلاق: لفظ
(المصالحة) و (المساقاة) و (المزارعة) و (المؤاجرة) وغيرها.
وبهذا الاطلاق يستعمل المعاطاة في الرهن والقرض والهبة، وربما يستعمل
في المعاملة الحاصلة بالفعل ولو لم يكن عطاء وفي صحته تأمل.
220

ثانيها: أن يقصد كل منهما تمليك الآخر ماله بإزاء تمليك ماله إياه، فيكون
تمليكا بإزاء تمليك، فالمقاولة بين التمليكين لا الملكين (33) والمعاملة متقومة
بالعطاء من الطرفين، فلو مات الثاني قبل الدفع لم تتحقق المعاطاة (34).
222

وهذا بعيد عن معنى البيع وقريب إلى الهبة المعوضة، لكون كل من المالين
خاليا عن العوض. (35)
223

لكن إجراء حكم الهبة المعوضة عليه مشكل، إذ لو لم يملكه الثاني هنا لم
يتحقق التمليك من الأول، لأنه إنما ملكه بإزاء تمليكه، فما لم يتحقق تمليك
الثاني لم يتحقق تمليكه، إلا أن يكون تمليك الآخر له ملحوظا عند تمليك
الأول على نحو الداعي لا العوض، فلا يقدح تخلفه. (36) فالأولى أن يقال: إنها
مصالحة وتسالم على أمر معين أو معاوضة مستقلة (37).
224

ثالثها: أن يقصد الأول إباحة ماله بعوض، فيقبل الآخر بأخذه إياه، فيكون
الصادر من الأول الإباحة بالعوض، ومن الثاني - بقبوله لها - التمليك (38).
كما لو صرح بقوله: أبحت لك كذا بدرهم.
رابعها: أن يقصد كل منهما الإباحة بإزاء إباحة الآخر.
فيكون إباحة بإزاء إباحة (39)، أو إباحة بداعي إباحة، على ما تقدم نظيره في
الوجه الثاني من إمكان تصوره على نحو الداعي، وعلى نحو العوضية.
226

وكيف كان، فالإشكال في حكم القسمين الأخيرين على فرض قصد المتعاطيين
لهما (40) ومنشأ الإشكال:
أولا - الإشكال في صحة إباحة جميع التصرفات حتى المتوقفة على ملكية
المتصرف، بأن يقال: أبحت لك كل تصرف، من دون أن يملكه العين (41).
227

وثانيا - الإشكال في صحة الإباحة بالعوض، الراجعة إلى عقد مركب من إباحة
وتمليك. فنقول: إما إباحة جميع التصرفات حتى المتوقفة على الملك، فالظاهر
أنها لا تجوز، إذ التصرف الموقوف على الملك لا يسوغ لغير المالك بمجرد
إذن المالك، فإن إذن المالك ليس مشرعا، وإنما يمضي فيما يجوز شرعا (42).
229

فإذا كان بيع الإنسان مال غيره لنفسه - بأن يملك الثمن مع خروج المبيع عن
ملك غيره - غير معقول - كما صرح به العلامة في القواعد.
فكيف يجوز للمالك أن يأذن فيه؟ (43)
230

نعم، يصح ذلك بأحد وجهين، كلاهما في المقام مفقود. أحدهما أن يقصد المبيح
بقوله: أبحت لك أن تبيع مالي لنفسك أن ينشأ توكيلا له في بيع ماله له، ثم نقل
الثمن إلى نفسه بالهبة، أو في نقله أولا إلى نفسه ثم بيعه، أو تمليكا له بنفس
هذه الإباحة (44)، فيكون إنشاء تمليك له، ويكون بيع المخاطب بمنزلة قبوله،
كما صرح في التذكرة: بأن قول الرجل لمالك العبد: (أعتق عبدك عني بكذا)
استدعاء لتمليكه، وإعتاق المولى عند جواب لذلك الاستدعاء فيحصل النقل
والانتقال بهذا الاستدعاء والجواب، ويقدر وقوعه قبل العتق آنا ما.
233

فيكون هذا بيعا ضمنيا لا يحتاج إلى الشروط المقررة لعقد البيع.
ولا شك أن المقصود فيما نحن فيه ليس الأذن في نقل المال إلى نفسه أولا، ولا
في نقل الثمن إليه ثانيا، ولا قصد التمليك بالإباحة المذكورة، ولا قصد
المخاطب التملك عند البيع حتى يتحقق تمليك ضمني مقصود للمتكلم
والمخاطب، كما كان مقصودا ولو إجمالا في مسألة (أعتق عبدك عني). ولذا
عد العامة والخاصة من الأصوليين دلالة هذا الكلام على التمليك من دلالة
الاقتضاء التي عرفوها: بأنها دلالة مقصودة للمتكلم يتوقف صحة الكلام عقلا
أو شرعا عليه، فمثلوا للعقلي بقوله تعالى: (واسأل القرية) وللشرعي بهذا
المثال، ومن المعلوم - بحكم الفرض - إن المقصود فيما نحن فيه ليس إلا مجرد
الإباحة.
234

الثاني: أن يدل دليل شرعي على حصول الملكية للمباح له بمجرد الإباحة،
فيكون كاشفا عن ثبوت الملك له عند إرادة البيع آنا ما (47)، فيقع البيع في
ملكه، أو يدل دليل شرعي على انتقال الثمن عن المبيح بلا فصل بعد البيع
فيكون ذلك شبه دخول العمودين في ملك الشخص آنا ما لا يقبل غير العتق
فإنه حينئذ يقال بالملك المقدر آنا ما، للجمع بين الأدلة. وهذا الوجه مفقود فيما
نحن فيه، إذ المفروض أنه لم يدل دليل بالخصوص على صحة هذه الإباحة
العامة.
238

وإثبات صحته بعموم مثل (الناس مسلطون على أموالهم) يتوقف على عدم
مخالفة مؤداها لقواعد أخر مثل: توقف انتقال الثمن إلى الشخص على كون
المثمن مالا له، وتوقف صحة العتق على الملك وصحة الوطء على التحليل
بصيغة خاصة، لا بمجرد الأذن في مطلق التصرف.
239

ولأجل ما ذكرنا صرح المشهور، بل قيل: لم يوجد خلاف في أنه لو دفع إلى
غيره مالا وقال: اشتر به لنفسك طعاما - من غير قصد الأذن في افتراض المال
قبل الشراء، أو اقتراض الطعام أو استيفاء الدين منه بعد الشراء (50) - لم يصح،
كما صرح به في مواضع من القواعد، وعلله في بعضها بأنه لا يعقل شراء شئ
لنفسه بمال الغير. وهو كذلك. فإن مقتضى مفهوم المعاوضة والمبادلة دخول
العوض في ملك من خرج المعوض عن ملكه، وإلا لم يكن عوضا وبدلا (51).
240

ولما ذكرنا حكم الشيخ وغيره بأن الهبة الخالية عن الصيغة تفيد إباحة
التصرف، لكن لا يجوز وطء الجارية مع أن الإباحة المتحققة من الواهب تعم
جميع التصرفات (52).
241

وعرفت أيضا: أن الشهيد في الحواشي لم يجوز إخراج المأخوذ بالمعاطاة في
الخمس والزكاة وثمن الهدي، ولا وطء الجارية، مع أن مقصود المتعاطيين
الإباحة المطلقة (53).
242

ودعوى أن الملك التقديري هنا أيضا لا يتوقف على دلالة دليل خاص، بل
يكفي الدلالة بمجرد الجمع بين عموم الناس مسلطون على أموالهم الدل على
جواز هذه الإباحة المطلقة، وبين أدلة توقف مثل العتق والبيع على الملك، نظير
الجمع بين الأدلة في الملك التقديري، مدفوعة بأن عموم (الناس مسلطون على
أموالهم) إنما يدل على تسلط الناس على أموالهم لا على أحكامهم فمقتضاه
إمضاء الشارع لإباحة المالك كل تصرف جائز شرعا، فالإباحة وإن كانت
مطلقة، إلا أنه لا يباح بتلك الإباحة المطلقة إلا ما هو جائز بذاته في الشريعة.
244

ومن المعلوم: أن بيع الإنسان مال غيره لنفسه غير جائز بمقتضى العقل والنقل
الدال على لزوم دخول العوض في ملك مالك المعوض، فلا يشمله العموم في
(الناس مسلطون على أموالهم) حتى يثبت التنافي بينه وبين الأدلة الدالة على
توقف البيع على الملك، فيجمع بينهما بالتزام الملك التقديري آنا ما (54).
وبالجملة، دليل عدم جواز بيع ملك الغير أو عتقه عتقه لنفسه حاكم على عموم
(الناس مسلطون على أموالهم) الدال على إمضاء الإباحة المطلقة من المالك
على إطلاقها. نظير حكومة دليل عدم جواز عتق مال الغير على عموم وجوب
الوفاء بالنذر والعهد إذا نذر عتق عبده غيره له أو لنفسه، فلا يتوهم الجمع
بينهما بالملك القهري للناذر.
245

نعم لو كان هناك تعارض وتزاحم من الطرفين بحيث أمكن تخصيص كل منهما
لأجل الآخر أمكن الجمع بينهما بالقول بحصول الملك القهري آنا ما،
فتأمل (56).
وأما حصول الملك في الآن المتعقب بالبيع والعتق، فيما إذا باع الواهب عبده
الموهوب أو أعتقه، فليس ملكا تقديريا نظير الملك التقديري في الدية
بالنسبة إلى الميت (57)، أو شراء العبد المعتق عليه، بل هو ملك حقيقي حاصل
قبل البيع من جهة كشف البيع عن الرجوع قبله في الآن المتصل. بناء على
الاكتفاء بمثل هذا في الرجوع، وليس كذلك فيما نحن فيه. (58)
246

وبالجملة، فما نحن فيه لا ينطبق على التمليك الضمني المذكور أولا في (أعتق
عبدك عني)، لتوقفه على القصد، ولا على الملك المذكور ثانيا في شراء من
ينعتق عليه، لتوقفه على التنافي بين دليل التسلط ودليل توقف العتق على
الملك، وعدم حكومة الثاني على الأول، ولا على التمليك الضمني المذكور
ثالثا في بيع الواهب وذي الخيار، لعدم تحقق سبب الملك هنا سابقا بحيث
يكشف البيع عنه.
فلم يبق إلا الحكم ببطلان الأذن في بيع ماله لغيره، سواء صرح بذلك كما لو
قال: (بع مالي لنفسك)، أو (اشتر بمالي لنفسك)، أم أدخله في عموم قوله:
(أبحت لك كل تصرف).
248

فإذا باع المباح له على هذا الوجه وقع البيع للمالك إما لازما، بناء على أن
قصد البائع البيع لنفسه غير مؤثر (60)، أو موقوفا على الإجازة، بناء على أن
المالك لم ينو تملك الثمن. هذا، ولكن الذي يظهر من جماعة منهم قطب الدين
والشهيد في باب بيع الغاصب: أن تسليط المشتري للبائع الغاصب على الثمن
والإذن في إتلافه يوجب جواز شراء الغاصب به شيئا، وأنه يملك الثمن بدفعه
إليه، فليس للمالك إجازة هذا الشراء. ويظهر أيضا من محكي المختلف، حيث
استظهر من كلامه فيما لو اشترى جارية بعين مغصوبة أن له وطء الجارية مع
علم البائع بغصبية الثمن، فراجع. ومقتضى ذلك: أن يكون تسليط الشخص
لغيره على ماله وإن لم يكن على وجه الملكية يوجب جواز التصرفات
المتوقفة على الملك، فتأمل. وسيأتي توضيحه في مسألة الفضولي.
249

وأما الكلام في صحة الإباحة بالعوض - سواء صححنا إباحة التصرفات
المتوقفة على الملك أم خصصنا الإباحة بغيرها - فمحصله: أن هذا النحو من
الإباحة المعوضة ليست معاوضة مالية ليدخل كل من العوضين في ملك مالك
العوض الآخر (62)، بل كلاهما ملك للمبيح، إلا أن المباح له يستحق التصرف، فيشكل الأمر فيه من جهة خروجه عن المعاوضات المعهودة شرعا وعرفا (63).
251

مع أن التأمل في صدق التجارة عليها، فضلا عن البيع (64).
إلا أن يكون نوعا من الصلح، لمناسبة له لغة، لأنه في معنى التسالم على أمر
252

بناء على أنه لا يشترط فيه لفظ (الصلح)، كما يستفاد من بعض الأخبار الدالة
على صحته بقول المتصالحين: (لك ما عندك ولي ما عندي)، ونحوه ما ورد
في مصالحة الزوجين، ولو كانت معاملة مستقلة كفى فيها عموم (الناس
مسلطون على أموالهم)، و (المؤمنون عند شروطهم) (65).
253

وعلى تقدير الصحة، ففي لزومها مطلقا، لعموم (المؤمنون عند شروطهم)، أو
من طرف المباح له، حيث إنه يخرج ماله عن ملكه، دون المبيح، حيث إن ماله
باق على ملكه (66)، فهو مسلط عليه، أو جوازها مطلقا، وجوه، أقواها أولها، ثم
أوسطها (67).
254

وأما حكم الإباحة بالإباحة، فالإشكال فيه أيضا يظهر مما ذكرنا في سابقه،
والأقوى فيها أيضا الصحة واللزوم، للعموم، أو الجواز من الطرفين، لأصالة
التسلط (68).
255

الأمر الخامس
في حكم جريان المعاطاة في غير البيع من العقود وعدمه.
إعلم أنه ذكر المحقق الثاني قدس سره في جامع المقاصد - على ما حكي عنه - أن في
كلام بعضهم ما يقتضي اعتبار المعاطاة في الإجارة، وكذا في الهبة، وذلك لأنه
إذا أمره بعمل على عوض معين فعمله استحق الأجرة، ولو كانت هذه إجارة
فاسدة لم يجز له العمل، ولم يستحق أجرة مع علمه بالفساد، وظاهرهم الجواز
بذلك. وكذا لو وهب بغير عقد، فإن ظاهرهم جواز الإتلاف، ولو كانت هبة
فاسدة لم يجز، بل منع مطلق التصرف، وهي ملحظ وجيه، إنتهى.
وفيه: أن معنى جريان المعاطاة في الإجارة على مذهب المحقق الثاني: الحكم
بملك الأمور الأجر المعين على الآمر، وملك الآمر العمل المعين على المأمور
به، ولم نجد من صرح به في المعاطاة (70).
256

وأما قوله: (لو كانت إجارة فاسدة لم يجز له العمل) فموضع نظر، لأن فساد
المعاملة لا يوجب منعه عن العمل (71)، سيما إذا لم يكن العمل تصرفا في عين
من أموال المستأجر.
وقوله: لم يستحق أجرة مع علمه بالفساد)، ممنوع، لأن الظاهر ثبوت أجرة
المثل، لأنه لم يقصد التبرع وإنما قصد عوضا لم يسلم له (72).
257

وأما مسألة الهبة (73)، فالحكم فيها بجواز إتلاف الموهوب لا يدل على جريان
المعاطاة فيها، إلا إذا قلنا في المعاطاة بالإباحة (74)، فإن جماعة - كالشيخ
والحلي والعلامة - صرحوا بأن إعطاء الهدية من دون الصيغة يفيد الإباحة دون
الملك، لكن المحقق الثاني قدس سره ممن لا يرى كون المعاطاة عند القائلين بها مفيدا
للإباحة المجردة.
258

وتوقف الملك في الهبة على الايجاب والقبول كاد أن يكون متفقا عليه كما
يظهر من المسالك. ومما ذكرنا يظهر المنع في قوله: (بل مطلق التصرف).
هذا، ولكن الأظهر بناء على جريان المعاطاة في البيع جريانها في غيره من
الإجارة والهبة، لكون الفعل مفيدا للتمليك فيهما.
وظاهر المحكي عن التذكرة: عدم القول بالفصل بين البيع وغيره، حيث قال في
باب الرهن: إن الخلاف في الاكتفاء فيه بالمعاطاة والاستيجاب والايجاب عليه
المذكورة في البيع آت هنا، إنتهى. لكن استشكله في محكي جامع المقاصد:
بأن البيع ثبت فيه حكم المعاطاة بالإجماع، بخلاف ما هنا.
259

ولعل وجه الإشكال: عدم تأتي المعاطاة بالاجماع في الرهن على النحو الذي
أجروها في البيع، لأنها هناك إما مفيدة للإباحة أو الملكية الجائزة على
الخلاف. والأول غير متصور هنا، وأما الجواز فكذلك، لأنه ينافي الوثوق
الذي به قوام مفهوم الرهن، خصوصا بملاحظة أنه لا يتصور هنا ما يوجب
رجوعها إلى اللزوم، ليحصل به الوثيقة في بعض الأحيان. (76)
260

وإن جعلناها مفيدة للزوم، كان مخالفا لما أطبقوا عليه من توقف العقود اللازمة
على اللفظ، وكأن هذا هو الذي دعا المحقق الثاني إلى الجزم بجريان المعاطاة
في مثل الإجارة والهبة والقرض، والاستشكال في الرهن.
نعم، من لا يبالي مخالفة ما هو المشهور، بل المتفق عليه بينهم، من توقف
العقود اللازمة على اللفظ، أو حمل تلك العقود على اللازمة من الطرفين، فلا
يشمل الرهن.
ولذا جوز بعضهم الايجاب بلفظ الأمر ك‍ (خذه)، والجملة الخبرية - أمكن أن
يقول بإفادة المعاطاة في الرهن اللزوم، لإطلاق بعض أدلة، ولم يقم هنا إجماع
على عدم اللزوم كما قام في المعاوضات.
ولأجل ما ذكرنا في الرهن يمنع من
جريان المعاطاة في الوقف بأن يكتفي فيه بالاقباض، لأن القول فيه باللزوم
مناف لما اشتهر بينهم من توقف اللزوم على اللفظ، والجواز غير معروف في
الوقف من الشارع، فتأمل (77).
261

نعم، احتمل الاكتفاء بغير اللفظ في باب وقف المساجد من الذكرى تبعا
للشيخ قدس سره. ثم إن الملزم للمعاطاة فيما تجري فيه من العقود الأخر هو الملزم في
باب البيع، كما سننبه به بعد هذا الأمر.
262

الأمر السادس
في ملزمات المعاطاة على كل من القول بالملك والقول بالإباحة.
إعلم: أن الأصل على القول بالملك اللزوم، لما عرفت من الوجوه الثمانية
المتقدمة (78).
263

وأما على القول بالإباحة فالأصل عدم اللزوم، لقاعدة تسلط الناس على
أموالهم، وأصالة سلطنة المالك الثابتة قبل المعاطاة (79).
266

وهي حاكمة على أصالة بقاء الإباحة الثابتة قبل رجوع المالك لو سلم
جريانها (80).
269

إذا عرفت هذا فاعلم: أن تلف العوضين ملزم إجماعا - على الظاهر المصرح به
في بعض العبائر - أما على القول بالإباحة فواضح، لأن تلفه من مال مالكه ولم
يحصل ما يوجب ضمان كل منهما مال صاحبه (81).
270

وتوهم جريان قاعدة الضمان باليد هنا مندفع بما سيجئ. وأما على القول
بالملك، فلما عرفت من أصالة اللزوم، والمتيقن من مخالفتها جواز تراد
العينين (82).
272

وحيث ارتفع مورد التراد امتنع، ولم يثبت قبل التلف جواز المعاملة على نحو
جواز البيع الخياري حتى يستصحب بعد التلف، لأن ذلك الجواز من عوارض
العقد لا العوضين فلا مانع من بقائه. بل لا دليل على ارتفاعه بعد تلفهما،
بخلاف ما نحن فيه، فإن الجواز فيه هنا بمعنى جواز الرجوع في العين، نظير
جواز الرجوع في العين الموهوبة، فلا يبقى بعد التلف متعلق الجواز، بل الجواز
هنا يتعلق بموضوع التراد، لا مطلق الرجوع الثابت في الهبة (83).
274

هذا، مع أن الشك في أن متعلق الجواز هل هو أصل المعاملة أو الرجوع في
العين، أو تراد العينين؟ يمنع من استصحابه، فإن المتيقن تعلقه بالتراد، إذ لا
دليل في مقابلة أصالة اللزوم على ثبوت أزيد من جواز تراد العينين الذي لا
يتحقق إلا مع بقائهما. (84)
276

ومنه يعلم حكم ما لو تلف إحدى العينين أو بعضها على القول بالملك (85).
وأما على القول بالإباحة، فقد استوجه بعض مشائخنا - وفاقا لبعض معاصريه،
277

تبعا للمسالك أصالة عدم اللزوم، لأصالة بقاء سلطنة مالك العين الموجودة،
وملكه لها. (86)
278

وفيه: أنها معارضة بأصالة براءة ذمته عن مثل التالف أو قيمته (87).
279

والتمسك بعموم (على اليد) هنا في غير محله (88).
282

بعد القطع بأن هذه اليد قبل تلف العين لم تكن يد ضمان (89)، بل ولا بعده إذا
بنى مالك العين الموجودة على إمضاء المعاطاة ولم يرد الرجوع (90).
283

إنما الكلام في الضمان إذا أراد الرجوع، وليس هذا من مقتضى اليد قطعا (91).
هذا، ولكن يمكن أن يقال: إن أصالة بقاء السلطنة حاكمة على أصالة عدم
284

الضمان بالمثل أو القيمة (92). مع أن ضمان التالف يبدله معلوم (93).
285

مع أن ضمان التالف ببدله معلوم (93).
287

إلا أن الكلام في أن البدل هو البدل الحقيقي، أعني المثل أو القيمة، أو البدل
الجعلي، أعني العين الموجودة، فلا أصل (94).
288

هذا، مضافا إلى ما قد يقال: من أن عموم (الناس مسلطون على أموالهم) يدل
على السلطنة على المال الموجود بأخذه، وعلى المال التالف بأخذ بدله
الحقيقي، وهو المثل أو القيمة، فتدبر (95).
289

ولو كان أحد العوضين دينا في ذمة أحد المتعاطيين، فعلى القول بالملك يملكه
من في ذمته، فيسقط عنه، والظاهر أنه في حكم التلف (96).
290

لأن الساقط لا يعود (97). ويحتمل العود، وهو ضعيف (98).
291

والظاهر أن الحكم كذلك على القول بالإباحة، فافهم (99).
292

ولو نقل العينان أو إحداهما بعقد لازم، فهو كالتلف على القول بالملك، لامتناع
التراد (100)، وكذا على القول بالإباحة إذا قلنا بإباحة التصرفات الناقلة (101).
ولو عادت العين بفسخ (103)
293

ففي جواز التراد على القول بالملك، لإمكانه فيستصحب، (103) وعدمه، لأن
المتيقن من التراد هو المحقق قبل خروج العين عن ملك مالكه وجهان:
أجودهما ذلك، إذ لم يثبت في مقابلة أصالة اللزوم جواز التراد بقول مطلق، بل
المتيقن منه غير ذلك.
294

فالموضوع غير محرز في الاستصحاب (105). وكذا على القول بالإباحة، لأن
التصرف الناقل يكشف عن سبق الملك للمتصرف، فيرجع بالفسخ إلى ملك
الثاني، فلا دليل على زواله.
295

بل الحكم هنا أولى منه على القول بالملك، لعدم تحقق جواز التراد في السابق
هنا حتى يستصحب، بل المحقق أصالة بقاء سلطنة المالك الأول المقطوع
بانتفائها.
نعم، لو قلنا: بأن الكاشف عن الملك هو العقد الناقل، فإذا فرضنا ارتفاعه
بالفسخ عاد الملك إلى المالك الأول (107).
296

وإن كان مباحا لغيره ما لم يسترد عوضه، كان مقتضى قاعدة السلطنة جواز
التراد لو فرض (108) كون العوض الآخر باقيا على ملك مالكه الأول، أو عائدا
إليه بفسخ.
297

وكذا لو قلنا: بأن البيع لا يتوقف على سبق الملك، بل يكفي فيه إباحة التصرف
والاتلاف، ويملك الثمن بالبيع، كما تقدم استظهاره عن جماعة في الأمر
الرابع (109).
لكن الوجهين ضعيفان (110)، بل الأقوى رجوعه بالفسخ إلى البائع.
298

ولو كان الناقل عقدا جائزا لم يكن لمالك العين الباقية إلزام الناقل بالرجوع
فيه، ولا رجوعه بنفسه إلى عينه، فالتراد (111) غير متحقق وتحصيله غير
واجب، وكذا على القول بالإباحة، لكون المعاوضة كاشفة عن سبق الملك.
نعم، لو كان غير معاوضة كالهبة، وقلنا بأن التصرف في مثله لا يكشف عن
سبق الملك إذ لا عوض فيه حتى لا يعقل كون العوض مالا لواحد وانتقال
المعوض إلى الآخر.
299

بل الهبة ناقلة للملك (112) عن ملك المالك إلى المتهب فيتحقق حكم جواز
الرجوع بالنسبة إلى المالك لا الواهب - اتجه الحكم بجواز التراد مع بقاء العين
الأخرى (113) أو عودها إلى مالكها بهذا النحو من العود، إذ لو عادت بوجه آخر كان
حكمه حكم التلف. (2)
300

ولو باع العين ثالث فضولا، فأجاز المالك الأول، على القول بالملك، لم يبعد
كون إجازته رجوعا كبيعه وسائر تصرفاته الناقلة (114).
302

ولو أجاز المالك الثاني، نفذ بغير إشكال. (115) وينعكس الحكم إشكالا
ووضوحا على القول بالإباحة (116).
303

ولكل منهما رده قبل إجازة الآخر. (117) ولو رجع الأول فأجاز الثاني، فإن
جعلنا الإجازة كاشفة لغي الرجوع، ويحتمل (118) عدمه، لأنه رجوع قبل
تصرف الآخر فينفذ ويلغو الإجازة.
وإن جعلناها ناقلة لغت الإجازة قطعا (119).
305

ولو امتزجت العينان أو إحداهما، سقط الرجوع على القول بالملك، لامتناع
التراد، ويحتمل الشركة، وهو ضعيف (120).
307

أما على القول بالإباحة، فالأصل بقاء التسلط على ماله الممتزج بمال الغير،
فيصير المالك شريكا مع مالك الممتزج به (121)، نعم لو كان المزج ملحقا له
بالاتلاف جرى عليه حكم التلف.
310

ولو تصرف في العين تصرفا مغيرا للصورة - كطحن الحنطة وفصل الثوب - فلا
لزوم على القول بالإباحة، وعلى القول بالملك، ففي اللزوم وجهان مبنيان على
جريان استصحاب جواز التراد، ومنشأ الإشكال: أن الموضوع في الاستصحاب
عرفي أو حقيقي.
311

ثم إنك قد عرفت مما ذكرنا أنه ليس جواز الرجوع في مسألة المعاطاة نظير
الفسخ في العقود اللازمة حتى يورث بالموت ويسقط بالإسقاط ابتداء أو في
ضمن المعاملة (123).
بل هو على القول بالملك نظير الرجوع في الهبة.
312

وعلى القول بالإباحة نظير الرجوع في إباحة الطعام، بحيث يناط الحكم فيه
بالرضا الباطني، بحيث لو علم كراهة المالك باطنا لم يجز له التصرف (124).
313

فلو مات أحد المالكين لم يجز لوارثه الرجوع على القول بالملك للأصل، لأن
من له وإليه الرجوع هو المالك الأصلي، ولا يجري الاستصحاب (125).
ولو جن أحدهما، فالظاهر قيام وليه مقامه في الرجوع على القولين (126).
314

الأمر السابع
أن الشهيد الثاني ذكر في المسالك وجهين في صيرورة المعاطاة بيعا بعد التلف
أو معاوضة مستقلة (127)، قال: يحتمل الأول، لأن المعاوضات محصورة
وليست إحداها، وكونها معاوضة برأسها يحتاج إلى دليل. ويحتمل الثاني،
لإطباقهم على أنها ليست بيعا حال وقوعها، فكيف تصير بيعا بعد التلف. (128)
316

وتظهر الفائدة في ترتب الأحكام المختصة بالبيع عليها، كخيار الحيوان، لو كان
التالف الثمن أو بعضه. وعلى تقدير ثبوته، فهل الثلاثة من حين المعاطاة، أو
من حين اللزوم. كل محتمل، ويشكل الأول بقولهم: (إنها ليست بيعا)، والثاني
بأن التصرف ليس معاوضة بنفسها.
317

اللهم إلا أن يجعل المعاطاة جزء السبب والتلف تمامه. والأقوى عدم ثبوت
خيار الحيوان هنا، بناء على أنها ليست لازمة، وإنما يتم على قول المفيد ومن
تبعه، وأما خيار العيب والغبن فيثبتان على التقديرين كما أن خيار المجلس
منتف، إنتهى. (130) والظاهر أن هذا تفريع على القول بالإباحة في المعاطاة،
وأما على القول بكونها مفيدة للملك المتزلزل، فيلغى الكلام في كونها
معاوضة مستقلة أو بيعا متزلزلا قبل اللزوم، حتى يتبعه حكمها بعد اللزوم، إذ
الظاهر أنه عند القائلين بالملك المتزلزل بيع بلا إشكال في ذلك عندهم على ما
تقدم من المحقق الثاني.
318

فإذا لزم صار بيعا لازما، فيلحقه أحكام البيع عدا ما استفيد من دليله ثبوته
للبيع العقدي الذي مبناه على اللزوم لولا الخيار. وقد تقدم أن الجواز هنا لا
يراد به ثبوت الخيار.
319

وكيف كان، فالأقوى أنها على القول بالإباحة بيع عرفي لم يصححه الشارع
ولم يمضه إلا بعد تلف إحدى العينين أو ما في حكمه (132)، وبعد التلف
يترتب عليه أحكام البيع عدا ما اختص دليله بالبيع الواقع صحيحا من أول
الأمر (133).
320

والمحكي عن حواشي الشهيد: أن المعاطاة معاوضة مستقلة جائزة أو لازمة.
والظاهر أنه أراد التفريع على مذهبه من الإباحة وكونها معاوضة قبل اللزوم،
من جهة كون كل من العينين مباحا عوضا عن الأخرى، لكن لزوم هذه
المعاوضة لا يقتضي حدوث الملك كما لا يخفى، فلا بد أن يقول بالإباحة
اللازمة (134)، فافهم.
321

الأمر الثامن
لا إشكال في تحقق المعاطاة المصطلحة التي هي معركة الآراء بين الخاصة
والعامة بما إذا تحقق إنشاء التمليك أو الإباحة بالفعل، وهو قبض العينين.
أما إذا حصل بالقول الغير الجامع لشرائط اللزوم: فإن قلنا بعدم اشتراط اللزوم
بشئ زائد على الإنشاء اللفظي - كما قويناه سابقا بناء على التخلص بذلك عن
اتفاقهم على توقف العقود اللازمة على اللفظ - فلا إشكال في صيرورة
المعاملة بذلك عقدا لازما
322

وإن قلنا بمقالة المشهور من اعتبار أمور زائدة على اللفظ، فهل يرجع ذلك
الإنشاء القولي إلى حكم المعاطاة مطلقا، أو بشرط تحقق قبض العين معه، أو لا
يتحقق به مطلقا (136).
323

نعم، إذا حصل إنشاء آخر بالقبض المتحقق بعده تحقق المعاطاة فالإنشاء القولي
السابق كالعدم، لا عبرة به ولا بوقوع القبض بعده خاليا عن قصد الإنشاء، بل
بانيا على كونه حقا لازما لكونه من آثار الإنشاء القولي السابق، نظير القبض
في العقد الجامع للشرائط.
ظاهر كلام غير واحد من مشايخنا المعاصرين: الأول، تبعا لما يستفاد من ظاهر
كلام المحقق والشهيد الثانيين.
قال المحقق في صيغ عقوده - على ما حكي عنه بعد ذكره الشروط المعتبرة في
الصيغة: إنه لو أوقع البيع بغير ما قلناه، وعلم التراضي منهما كان معاطاة،
إنتهى.
وفي الروضة في مقام عدم كفاية الإشارة مع القدرة على النطق: أنها تفيد
المعاطاة مع الإفهام الصريح، إنتهى.
وظاهر الكلامين: صورة وقوع الإنشاء بغير القبض، بل يكون القبض من
آثاره (137).
325

وظاهر تصريح جماعة - منهم المحقق والعلامة -: بأنه لو قبض ما ابتاعه بالعقد
الفاسد لم يملك وكان مضمونا عليه، هو الوجه الأخير، لأن مرادهم بالعقد
الفاسد إما خصوص ما كان فساده من جهة مجرد اختلال شروط الصيغة - كما
ربما يشهد به ذكر هذا الكلام بعد شروط الصيغة، وقبل شروط العوضين
والمتعاقدين - وإما ما يشمل هذا وغيره كما هو الظاهر.
وكيف كان، فالصورة الأولى داخلة قطعا، ولا يخفى أن الحكم فيها بالضمان
مناف لجريان حكم المعاطاة.
وربما يجمع بين هذا الكلام وما تقدم من المحقق والشهيد الثانيين (138)،
فيقال: إن موضوع المسألة في عدم جواز التصرف بالعقد الفاسد ما إذا علم
عدم الرضا إلا بزعم صحة المعاملة، فإذا انتفت الصحة انتفى الأذن، لترتبه على
زعم الصحة، فكان التصرف تصرفا بغير إذن وأكلا للمال بالبطل، لانحصار وجه
الحل في كون المعاملة بيعا أو تجارة عن تراض أو هبة، أو نحوها من وجوه
الرضا بأكل المال من غير عوض. والأولان قد انتفيا بمقتضى الفرض، وكذا
البواقي، للقطع - من جهة زعمهما صحة المعاملة - بعدم الرضا بالتصرف مع
عدم بذل شئ في المقابل، فالرضا المقدم كالعدم. فإن تراضيا بالعوضين بعد
العلم بالفساد واستمر رضاهما فلا كلام في صحة المعاملة، ورجعت إلى
المعاطاة، كما إذا علم الرضا من أول الأمر بإباحتهما التصرف بأي وجه اتفق،
سواء صحت المعاملة أم فسدت، فإن ذلك ليس من البيع الفاسد.
326

أقول: المفروض أن الصيغة الفاقدة لبعض الشرائط لا تتضمن إلا إنشاء واحدا
هو التمليك، ومن المعلوم أن هذا المقدار لا يوجب بقاء الأذن الحاصل في
ضمن التمليك بعد فرض انتفاء التمليك، والموجود بعده إن كان إنشاءا آخر في
ضمن التقابض خرج عن محل الكلام، لأن المعاطاة حينئذ إنما تحصل به، لا
بالعقد الفاقد للشرائط، مع أنك عرفت أن ظاهر كلام الشهيد والمحقق الثانيين
حصول المعاوضة والمراضاة بنفس الإشارة المفهمة بقصد البيع وبنفس الصيغة
الخالية عن الشرائط، لا بالتقابض الحاصل بعدهما (139).
327

ومنه يعلم: فساد ما ذكره من حصول المعاطاة بتراض جديد بعد العقد غير مبني
على صحة العقد.
ثم إن ما ذكره من التراضي الجديد بعد العلم بالفساد - مع اختصاصه بما إذا
علما بالفساد، دون غيره من الصور، مع أن كلام الجميع مطلق.
يرد عليه: أن هذا التراضي إن كان تراضيا آخر حادثا بعد العقد:
فإن كان لا على وجه المعاطاة، بل كل منهما رضي بتصرف الآخر في ماله من
دون ملاحظة رضا صاحبه بتصرفه في ماله، فهذا ليس من المعاطاة.
بل هي إباحة مجانية من الطرفين تبقى ما دام العلم بالرضا.
ولا يكفي فيه عدم العلم بالرجوع، لأنه كالأذن الحاصل من شاهد الحال، ولا
يترتب عليه أثر المعاطاة: من اللزوم بتلف إحدى العينين، أو جواز التصرف إلى
حين العلم بالرجوع، وإن كان على وجه المعاطاة فهذا ليس إلا التراضي السابق
على ملكية كل منهما لمالك الآخر، وليس تراضيا جديدا، بناء على أن المقصود
بالمعاطاة التمليك كما عرفته من كلام المشهور - خصوصا المحقق الثاني - فلا
يجوز له أن يريد بقوله المتقدم عن صيغ العقود: (إن الصيغة الفاقدة للشرائط
مع التراضي تدخل في المعاطاة) التراضي الجديد الحاصل بعد العقد، لا على
وجه المعاوضة.
وتفصيل الكلام: أن المتعاملين بالعقد الفاقد لبعض الشرائط: إما أن يقع
تقابضهما بغير رضا من كل منهما في تصرف الآخر بل حصل قهرا عليهما أو
على أحدهما، وإجبارا على العمل بمقتضى العقد.
328

فلا إشكال في حرمة التصرف في المقبوض على هذا الوجه وكذا إن وقع على
وجه الرضا الناشئ عن بناء كل منهما على ملكية الآخر اعتقادا أو تشريعا
- كما في كل قبض وقع على هذا الوجه -، لأن حيثية كون القابض مالكا مستحقا
لما يقبضه جهة تقييدية مأخوذة في الرضا ينتفي بانتفائها في الواقع، كما في
نظائره.
وهذان الوجهان مما لا إشكال فيه في حرمة التصرف في العوضين، كما أنه لا
إشكال في الجواز إذا أعرضا عن أثر العقد وتقابضا بقصد إنشاء التمليك ليكون
معاطاة صحيحة عقيب عقد فاسد. (140)
وأما إن وقع الرضا بالتصرف بعد العقد من دون ابتنائه على استحقاقه بالعقد
السابق ولا قصد لإنشاء التمليك، بل وقع مقارنا لاعتقاد الملكية الحاصلة،
بحيث لولاها لكان الرضا أيضا موجودا، وكان المقصود الأصلي من المعاملة
التصرف، وأوقعا العقد الفاسد وسيلة له - ويكشف عنه أنه لو سئل كل منهما
عن رضاه بتصرف صاحبه على تقدير عدم التمليك، أو بعد تنبيهه على عدم
حصول الملك كان راضيا - فإدخال هذا في المعاطاة يتوقف على أمرين:
الأول: كفاية هذا الرضا المركوز في النفس، بل الرضا الشأني، لأن الموجود
بالفعل هو رضاه من حيث كونه مالكا في نظره.
329

وقد صرح بعض من قارب عصرنا بكفاية ذلك، ولا يبعد رجوع الكلام المتقدم
ذكره إلى هذا، ولعله لصدق طيب النفس على هذا الأمر المركوز في النفس.
الثاني: أنه لا يشترط في المعاطاة إنشاء الإباحة أو التمليك بالقبض، بل ولا
بمطلق الفعل، بل يكفي وصول كل من العوضين إلى مالك الآخر، والرضا
بالتصرف قبله أو بعده على الوجه المذكور (141).
330

وفيه إشكال: من أن ظاهر محل النزاع بين العامة والخاصة هو العقد الفعلي كما
ينبئ عنه قول العلامة قدس سره في رد كفاية المعاطاة في البيع: إن الأفعال قاصرة
عن إفادة المقاصد، وكذا استدلال المحقق الثاني على عدم لزومها: بأن الأفعال
ليست كالأقوال في صراحة الدلالة، وكذا ما تقدم من الشهيد قدس سره في قواعده:
من أن الفعل في المعاطاة لا يقوم مقام القول، وإنما يفيد الإباحة، إلى غير ذلك
من كلماتهم الظاهرة في أن محل الكلام هو الإنشاء الحاصل بالتقابض، وكذا
كلمات العامة، فقد ذكر بعضهم أن البيع ينعقد بالإيجاب والقبول وبالتعاطي.
ومن أن الظاهر أن عنوان التعاطي في كلماتهم لمجرد الدلالة على الرضا، وأن
عمدة الدليل على ذلك هي السيرة، ولذا تعدوا إلى ما إذا لم يحصل إلا قبض
أحد العوضين، والسيرة موجودة في المقام أيضا.
331

فإن بناء الناس على أخذ الماء والبقل وغير ذلك من الجزئيات من دكاكين
أربابها مع عدم حضورهم ووضعهم الفلوس في الموضع المعد له، وعلى
دخول الحمام مع عدم حضور صاحبه ووضع الفلوس في كوز الحمامي.
فالمعيار في المعاطاة: وصول المالين أو أحدهما مع التراضي بالتصرف وهذا
ليس ببعيد على القول بالإباحة (142).
332

الكلام
في عقد البيع
333

قد عرفت أن اعتبار اللفظ في البيع - بل في جميع العقود - مما نقل عليه
الاجماع وتحقق فيه الشهرة العظيمة، مع الإشارة إليه في بعض النصوص، لكن
هذا يختص بصورة القدرة، أما مع العجز عنه كالأخرس (1).
335

فمع عدم القدرة على التوكيل لا إشكال ولا خلاف في عدم اعتبار اللفظ وقيام
الإشارة مقامه (2).
337

وكذا مع القدرة على التوكيل، لا لأصالة عدم وجوبه (3) - كما قيل - لأن الوجوب
بمعنى الاشتراط - كما فيما نحن فيه - هو الأصل.
339

بل لفحوى ما ورد من عدم اعتبار اللفظ في طلاق الأخرس (4)، فإن حمله على
صورة عجزه عن التوكيل حمل المطلق على الفرد النادر، مع أن الظاهر عدم
الخلاف في عدم الوجوب.
ثم لو قلنا: بأن الأصل في المعاطاة اللزوم بعد القول بإفادتها الملكية، فالقدر
المخرج صورة قدرة المتبايعين على مباشرة اللفظ (5).
340

والظاهر أيضا: كفاية الكتابة مع العجز عن الإشارة، لفحوى ما ورد من النص
على جوازها في الطلاق، مع أن الظاهر عدم الخلاف فيه. وأما مع القدرة على
الإشارة فقد رجح بعض الإشارة، ولعله لأنها أصرح في الإنشاء من الكتابة.
وفي بعض روايات الطلاق ما يدل على العكس. وإليه ذهب الحلي قدس سره
هناك.
341

ثم الكلام في الخصوصيات المعتبرة في اللفظ:
تارة يقع في مواد الألفاظ من حيث إفادة المعنى بالصراحة والظهور والحقيقة
والمجاز والكناية، ومن حيث اللغة المستعملة في معنى المعاملة.
وأخرى في هيئة كل من الإيجاب والقبول، من حيث اعتبار كونه بالجملة
الفعلية، وكونه بالماضي.
وثالثة في هيئة تركيب الإيجاب والقبول من حيث الترتيب والموالاة.
أما الكلام من حيث المادة، فالمشهور عدم وقوع العقد بالكنايات (1).
343

قال في التذكرة: الرابع من شروط الصيغة: التصريح، فلا يقع بالكناية بيع البتة،
مثل قوله: أدخلته في ملكك، أو جعلته لك، أو خذه مني بكذا، أو سلطتك عليه
بكذا، عملا بأصالة بقاء الملك، ولأن المخاطب لا يدري بم خوطب، إنتهى.
347

وزاد في غاية المراد على الأمثلة مثل قوله: (أعطيتكه بكذا) أو (تسلط عليه
بكذا).
وربما يبدل هذا باشتراط الحقيقة في الصيغة فلا ينعقد بالمجازات، حتى صرح
بعضهم: بعدم الفرق بين المجاز القريب والبعيد.
والمراد بالصريح - كما يظهر من جماعة من الخاصة والعامة في باب الطلاق،
وغيره - ما كان موضوعا لعنوان ذلك العقد لغة أو شرعا.
ومن الكناية: ما أفاد لازم ذلك العقد بحسب الوضع، فيفيد إرادة نفسه بالقرائن.
وهي على قسمين عندهم: جلية وخفية.
والذي يظهر من النصوص المتفرقة في أبواب العقود اللازمة والفتاوى
المتعرضة لصيغها في البيع بقول مطلق وفي بعض أنواعه وفي غير البيع من
العقود اللازمة، هو: الاكتفاء بكل لفظ له ظهور عرفي معتد به في المعنى
المقصود.
فلا فرق بين قوله: بعت وملكت، وبين قوله: نقلت إلى ملك، أو جعلته ملكا لك
بكذا.
وهذا هو الذي قواه جماعة من متأخري المتأخرين.
وحكى عن جماعة ممن تقدمهم كالمحقق على ما حكى عن تلميذه كاشف
الرموز، أنه حكى عن شيخه المحقق - إن عقد البيع لا يلزم فيه لفظ مخصوص،
وإنه اختاره أيضا. وحكى عن الشهيد قدس سره في حواشيه: إنه جوز البيع بكل لفظ
دل عليه، مثل (سلمت إليك) و (عاوضتك) وحكاه في المسالك عن بعض
مشايخه المعاصرين.
348

بل هو ظاهر العلامة قدس سره في التحرير، حيث قال: إن الإيجاب اللفظ الدال على
النقل، مثل: (بعتك) أو (ملكتك) أو ما يقوم مقامهما.
ونحوه المحكي عن التبصرة والإرشاد وشرحه لفخر الإسلام. فإذا كان الإيجاب
هو اللفظ الدال على النقل، فكيف لا ينعقد بمثل (نقلته إلى ملكك) أو (جعلته
ملكا لك بكذا)؟
بل ربما يدعى: أنه ظاهر كل من أطلق اعتبار الإيجاب والقبول فيه من دون
ذكر لفظ خاص، كالشيخ وأتباعه، فتأمل.
وقد حكي عن الأكثر: تجويز البيع حالا بلفظ السلم.
وصرح جماعة أيضا في بيع (التولية): بانعقاده بقوله: (وليتك العقد) أو
(وليتك السلعة)، والتشريك في المبيع بلفظ: (شركتك).
وعن المسالك - في مسألة تقبل أحد الشريكين في النخل حصة صاحبه بشئ
معلوم من الثمرة -: أن ظاهر الأصحاب جواز ذلك بلفظ التقبيل، مع أنه لا
يخرج عن البيع أو الصلح أو معاملة ثالثة لازمة عند جماعة.
هذا ما حضرني من كلماتهم في البيع.
وأما في غيره، فظاهر جماعة في القرض عدم اختصاصه بلفظ خاص، فجوزوه
بقوله: (تصرف فيه - أو انتفع به - وعليك رد عوضه)، أو (خذه بمثله)،
و (أسلفتك)، وغير ذلك مما عدوا مثله في البيع من الكنايات، مع أن القرض
من العقود اللازمة على حسب لزوم البيع والإجارة.
وحكي عن جماعة في الرهن: أن إيجابه يؤدى بكل لفظ يدل عليه، مثل قوله:
(هذه وثيقة عندك)، وعن الدروس تجويزه بقوله: (خذه)، أو (أمسكه بمالك).
349

وحكي عن غير واحد: تجويز إيجاب الضمان الذي هو من العقود اللازمة بلفظ
(تعهدت المال) و (تقلدته)، وشبه ذلك.
وقد ذكر المحقق وجماعة ممن تأخر عنه: جواز الإجارة بلفظ العارية، معللين
بتحقق القصد. وتردد جماعة في انعقاد الإجارة بلفظ بيع المنفعة.
وقد ذكر جماعة جواز المزارعة بكل لفظ يدل على تسليم الأرض للمزارعة،
وعن مجمع البرهان كما في غيره: أنه لا خلاف في جوازها بكل لفظ يدل على
المطلوب، مع كونه ماضيا.
وعن المشهور: جوازها بلفظ (ازرع).
وقد جوز جماعة: الوقف بلفظ: (حرمت) و (تصدقت) مع القرينة الدالة على
إرادة الوقف، مثل: (أن لا يباع ولا يورث)، مع عدم الخلاف - كما عن غير
واحد - على أنهما من الكنايات.
وجوز جماعة: وقوع النكاح الدائم بلفظ التمتع مع أنه ليس صريحا فيه.
ومع هذه الكلمات، كيف يجوز أن يسند إلى العلماء أو أكثرهم وجوب إيقاع
العقد باللفظ الموضوع له، وأنه لا يجوز بالألفاظ المجازية؟! خصوصا مع
تعميمها للقريبة والبعيدة كما تقدم عن بعض المحققين.
ولعله لما عرفت من تنافي ما اشتهر بينهم من عدم جواز التعبير بالألفاظ
المجازية في العقود اللازمة، مع ما عرفت منهم من الاكتفاء في أكثرها
بالألفاظ الغير الموضوعة لذلك العقد، جمع المحقق الثاني - على ما حكي عنه
في باب السلم والنكاح بين كلماتهم بحمل المجازات الممنوعة على
المجازات البعيدة، وهو جمع حسن.
350

ولعل الأحسن منه: أن يراد باعتبار الحقائق في العقود اعتبار الدلالة اللفظية
الوضعية، سواء كان اللفظ الدال على إنشاء العقد موضوعا له بنفسه أو
مستعملا فيه مجازا بقرينة لفظ موضوع آخر، ليرجع الإفادة بالآخرة إلى
الوضع، إذ لا يعقل الفرق في الوضوح - الذي هو مناط الصراحة - بين إفادة
لفظ للمطلب بحكم الوضع، أو إفادته له بضميمة لفظ آخر يدل بالوضع على
إرادة المطلب من ذلك اللفظ.
وهذا بخلاف اللفظ الذي يكون دلالته على المطلب لمقارنة حال أو سبق مقال
خارج عن العقد، فإن الاعتماد عليه في متفاهم المتعاقدين - وإن كان من
المجازات القريبة جدا - رجوع عما بني عليه من عدم العبرة بغير الأقوال في
إنشاء المقاصد. ولذا لم يجوزوا العقد بالمعاطاة ولو مع سبق مقال أو اقتران
حال تدل على إرادة البيع جزما. (8)
351

ومما ذكرنا يظهر الإشكال في الاقتصار على المشترك اللفظي اتكالا على
القرينة الحالية المعينة، وكذا المشترك المعنوي.
ويمكن أن ينطبق على ما ذكرنا الاستدلال المتقدم في عبارة التذكرة بقوله قدس سره:
(لأن المخاطب لا يدري بم خوطب)، إذ ليس المراد: أن المخاطب لا يفهم منها
المطلب ولو بالقرائن الخارجية، بل المراد أن الخطاب بالكناية لما لم يدل على
المعنى المنشأ ما لم يقصد الملزوم، - لأن اللازم الأعم، كما هو الغالب بل
المطرد في الكنايات، لا يدل على الملزوم ما لم يقصد المتكلم خصوص الفرد
المجامع مع الملزوم الخاص - فالخطاب في نفسه محتمل، لا يدري المخاطب
بم خوطب. وإنما يفهم المراد بالقرائن الخارجية الكاشفة عن قصد المتكلم.
353

والمفروض - على ما تقرر في مسألة المعاطاة - أن النية بنفسها أو مع
انكشافها بغير الأقوال لا تؤثر في النقل والانتقال، فلم يحصل هنا عقد لفظي
يقع التفاهم به، لكن هذا الوجه لا يجري في جميع ما ذكروه من أمثلة الكناية.
ثم إنه ربما يدعى: أن العقود المؤثرة في النقل والانتقال أسباب شرعية
توقيفية، كما حكي عن الإيضاح من أن كل عقد لازم وضع له الشارع صيغة
مخصوصة بالاستقراء، فلا بد من الاقتصار على المتيقن. وهو كلام لا محصل له
عند من لاحظ فتاوى العلماء، فضلا عن الروايات المتكثرة الآتية بعضها.
وأما ما ذكره الفخر قدس سره، فلعل المراد فيه من الخصوصية المأخوذة في الصيغة
شرعا، هي: اشتمالها على العنوان المعبر عن تلك المعاملة به في كلام الشارع،
فإذا كانت العلاقة الحادثة بين الرجل والمرأة معبرا عنها في كلام الشارع
بالنكاح، أو الزوجية، أو المتعة، فلا بد من اشتمال عقدها على هذه العناوين، فلا
يجوز بلفظ الهبة أو البيع أو الإجارة أو نحو ذلك، وهكذا الكلام في العقود
المنشأة للمقاصد الأخر كالبيع والإجارة ونحوهما.
فخصوصية اللفظ من حيث اعتبار اشتمالها على هذه العنوانات الدائر في لسان
الشارع، أو ما يرادفها لغة أو عرفا، لأنها بهذه العنوانات موارد للأحكام
الشرعية التي لا تحصى. وعلى هذا، فالضابط وجوب إيقاع العقد بإنشاء
العناوين الدائرة في لسان الشارع، إذ لو وقع بإنشاء غيرها، فإن كان لا مع قصد
تلك العناوين - كما لو لم تقصد المرأة إلا هبة نفسها أو إجارة نفسها مدة
للاستمتاع - لم يترتب عليه الآثار المحمولة في الشريعة على الزوجية الدائمة
أو المنقطعة.
354

وإن كان بقصد هذه العناوين دخلت في الكناية التي عرفت أن تجويزها رجوع
إلى عدم اعتبار إفادة المقاصد بالأقوال.
فما ذكره الفخر قدس سره مؤيد لما ذكرناه واستفدناه من كلام والده قدس سره.
وإليه يشير - أيضا - ما عن جامع المقاصد: من أن العقود متلقاة من الشارع، فلا
ينعقد عقد بلفظ آخر ليس من جنسه.
وما عن المسالك: من أنه يجب الاقتصار في العقود اللازمة على الألفاظ
المنقولة شرعا المعهودة لغة، ومراده من (المنقولة شرعا)، هي: المأثورة في
كلام الشارع. وعن كنز العرفان - في باب النكاح -: أنه حكم شرعي حادث
فلا بد له من دليل يدل على حصوله، وهو العقد اللفظي المتلقى من النص. ثم
ذكر لإيجاب النكاح ألفاظا ثلاثة، وعللها بورودها في القرآن.
ولا يخفى أن تعليله هذا كالصريح فيما ذكرناه: من تفسير توقيفية العقود، وأنها
متلقاة من الشارع، ووجوب الاقتصار على المتيقن. (9)
355

ومن هذا الضابط تقدر على تمييز الصريح المنقول شرعا المعهود لغة - من
الألفاظ المتقدمة في أبواب العقود المذكورة - من غيره. وأن الإجارة بلفظ
العارية غير جائزة، وبلفظ بيع المنفعة أو السكنى - مثلا - لا يبعد جوازه،
وهكذا.
إذا عرفت هذا، فلنذكر ألفاظ الإيجاب والقبول:
منها: لفظ (بعت) في
الايجاب، ولا خلاف فيه فتوى ونصا، وهو وإن كان من الأضداد بالنسبة إلى
البيع والشراء، لكن كثرة استعماله في وقوع البيع تعينه.
ومنها: لفظ (شريت) لوضعه له، كما يظهر من المحكي عن بعض أهل اللغة،
بل قيل: لم يستعمل في القرآن الكريم إلا في البيع.
وعن القاموس: شراه يشريه: ملكه بالبيع وباعه، كاشترى فيهما ضد.
وعنه أيضا: كل من ترك شيئا وتمسك بغيره فقد اشتراه.
357

وربما يستشكل فيه: بقلة استعماله عرفا في البيع، وكونه محتاجا إلى القرينة
المعينة، وعدم نقل الايجاب به في الأخبار وكلام القدماء. ولا يخلو عن
وجه (11).
358

ومنها: لفظ (ملكت) - بالتشديد - والأكثر على وقوع البيع به، بل ظاهر نكت
الارشاد الاتفاق، حيث قال: إنه لا يقع البيع بغير اللفظ المتفق عليه ك‍ (بعت)
و (ملكت) (12).
ويدل عليه: ما سبق في تعريف البيع، من أن التمليك بالعوض المنحل إلى
مبادلة العين بالمال هو المرادف للبيع عرفا ولغة، كما صرح به فخر الدين،
حيث قال: إن معنى (بعت) في لغة العرب: ملكت غيري.
وما قيل: من أن التمليك يستعمل في الهبة بحيث لا يتبادر عند الإطلاق غيرها.
359

فيه: أن الهبة إنما يفهم من تجريد اللفظ عن العوض، لا من مادة التمليك، فهي
مشتركة معنى بين ما يتضمن المقابلة وبين المجرد عنها، فإن اتصل بالكلام
ذكر العوض أفاد المجموع المركب - بمقتضى الوضع التركيبي - البيع، وإن
تجرد عن ذكر العوض اقتضى تجريده الملكية المجانية.
وقد عرفت سابقا: أن تعريف البيع بذلك تعريف بمفهومه الحقيقي، فلو أراد منه
الهبة المعوضة أو قصد المصالحة، بنى صحة العقد به على صحة عقد بلفظ
غيره مع النية. ويشهد لما ذكرنا قول فخر الدين في شرح الارشاد: إن معنى
(بعت) في لغة العرب ملكت غيري.
وأما الايجاب ب‍ (اشتريت)، ففي مفتاح الكرامة: أنه قد يقال بصحته، كما هو
الموجود في بعض نسخ التذكرة، والمنقول عنها في نسختين من تعليق
الارشاد.
360

أقول: وقد يستظهر ذلك من عبارة كل من عطف على (بعت) و (ملكت)،
شبههما أو ما يقوم مقامهما، إذ إرادة خصوص لفظ (شريت) من هذا بعيد جدا،
وحمله على إرادة ما يقوم مقامهما في اللغات الأخر للعاجز عن العربية أبعد،
فيتعين إرادة ما يرادفهما لغة أو عرفا، فيشمل (شريت) و (اشتريت).
لكن الإشكال المتقدم في شريت) أولى بالجريان هنا، لأن (شريت) استعمل
في القرآن الكريم في البيع، بل لم يستعمل فيه إلا فيه، بخلاف (اشتريت). (14)
ودفع الإشكال في تعيين المراد منه بقرينة تقديمه الدال على كونه إيجابا - إما
بناء على لزوم تقديم الإيجاب على القبول، وإما لغلبة ذلك - غير صحيح، لأن
الاعتماد على القرينة الغير اللفظية في تعيين المراد من ألفاظ العقود قد عرفت
ما فيه (15).
361

إلا أن يدعى أن ما ذكر سابقا من اعتبار الصراحة مختص بصراحة اللفظ من
حيث دلالته على خصوص العقد، وتميزه عما عداه من العقود.
وأما تميز إيجاب عقد معين عن قبوله الراجع إلى تميز البائع عن المشتري فلا
يعتبر فيه الصراحة.
بل يكفي استفادة المراد، ولو بقرينة المقام أو غلبته أو نحوهما، وفيه
إشكال (16).
وأما القبول، فلا ينبغي الإشكال في وقوعه بلفظ (قبلت) و (رضيت)
و (اشتريت) و (شريت) و (ابتعت) و (تملكت) و (ملكت) مخففا.
وأما (بعت)، فلم ينقل إلا من الجامع، مع أن المحكي عن جماعة من أهل اللغة:
اشتراكه بين البيع والشراء، ولعل الإشكال فيه كإشكال (اشتريت) في
الايجاب (17). واعلم أن المحكي عن نهاية الأحكام والمسالك: أن الأصل في
القبول (قبلت)، وغيره بدل، لأن القبول على الحقيقة مما لا يمكن به الابتداء،
والابتداء بنحو (اشتريت و (ابتعت) ممكن، وسيأتي توضيح ذلك في اشتراط
تقديم الايجاب (18).
362

ثم إن انعقاد القبول بلفظ الإمضاء والإجازة والإنفاذ وشبهها، وجهين (19).
363

(فرع)
لو أوقعا العقد بالألفاظ المشتركة بين الإيجاب والقبول. (20)
364

ثم اختلفا في تعيين الموجب والقابل - إما بناء على جواز تقديم القبول، وإما
من جهة اختلافهما في المتقدم - فلا يبعد الحكم بالتحالف، ثم عدم ترتب
الآثار المختصة بكل من البيع والاشتراء على واحد منهما.
365

(مسألة)
المحكي عن جماعة، منهم: السيد عميد الدين والفاضل المقداد والمحقق
والشهيد الثانيان: اعتبار العربية في العقد (21)، للتأسي - كما في جامع
المقاصد - ولأن عدم صحته بالعربي الغير الماضي يستلزم عدم صحته بغير
العربي بطريق أولى.
وفي الوجهين ما لا يخفى.
وأضعف منهما: منع صدق العقد على غير العربي (22).
فالأقوى صحته بغير العربي (23).
366

وهل يعتبر عدم اللحن من حيث المادة والهيئة (4)، بناء على اشتراط
العربي؟ (25) الأقوى ذلك، بناء على أن دليل اعتبار العربية هو لزوم الاقتصار
على المتيقن من أسباب النقل، وكذا اللحن في الأعراب.
وحكي عن فخر الدين: الفرق بين ما لو قال: (بعتك) - بفتح الباء - وبين ما لو
قال: (جوزتك) بدل (زوجتك)، فصحح الأول دون الثاني إلا مع العجز عن
التعلم والتوكيل. ولعله لعدم معنى صحيح في الأول إلا البيع، بخلاف التجويز،
فإن له معنى آخر، فاستعماله في التزويج غير جائز.
ومنه يظهر أن اللغات المحرفة لا بأس بها إذا لم يتغير بها المعنى.
367

ثم هل المعتبر عربية جميع أجزاء الإيجاب والقبول، كالثمن والمثمن، أم يكفي
عربية الصيغة الدالة على إنشاء الإيجاب والقبول (3)، حتى لو قال: (بعتك أين
كتاب را به ده درهم) كفى؟
الأقوى هو الأول، لأن غير العربي كالمعدوم، فكأنه لم يذكر في الكلام.
368

نعم، لو لم يعتبر ذكر متعلقات الإيجاب - كما لا يجب في القبول - واكتفي
بانفهامها ولو من غير اللفظ، صح الوجه الثاني (28). لكن الشهيد قدس سره في غاية
المراد - في مسألة تقديم القبول - نص على وجوب ذكر العوضين في
الايجاب.
ثم إنه هل يعتبر كون المتكلم عالما تفصيلا بمعنى اللفظ، بأن يكون
فارقا بين معنى (بعت) و (أبيع) و (أنا بائع) أو يكفي مجرد علمه بأن هذا
اللفظ يستعمل في لغة العرب لإنشاء البيع؟ الظاهر هو الأول، لأن عربية
الكلام ليست باقتضاء نفس الكلام، بل بقصد المتكلم منه المعنى الذي وضع
له عند العرب، فلا يقال: إنه تكلم وأدى المطلب على طبق لسان العرب، إلا إذا
ميز بين معنى (بعت) و (أبيع) و (أوجدت البيع) وغيرها.
369

بل على هذا لا يكفي معرفة أن (بعت) مرادف لقوله: (فروختم)، حتى يعرف
أن الميم في الفارسي عوض تاء المتكلم، فيميز بين بعتك) و (بعت) - بالضم -
و (بعت) - بفتح التاء - فلا ينبغي ترك الاحتياط وإن كان في تعينه نظر، ولذا
نص بعض على عدمه.
370

(مسألة)
المشهور كما عن غير واحد: اشتراط الماضوية بل في التذكرة: الإجماع على
عدم وقوعه بلفظ (أبيعك) أو (اشتر مني). (30)
371

ولعله لصراحته في الإنشاء، إذ المستقبل أشبه بالوعد. (31)
372

والأمر استدعاء لا إيجاب، مع أن قصد الإنشاء في المستقبل خلاف المتعارف
وعن القاضي في الكامل والمهذب: عدم اعتبارها، ولعله لإطلاق البيع
والتجارة وعموم العقود، وما دل في بيع الآبق واللبن في الضرع: من الايجاب
بلفظ المضارع، وفحوى ما دل عليه في النكاح. ولا يخلو هذا من قوة لو فرض
صراحة المضارع في الإنشاء على وجه لا يحتاج إلى قرينة المقام (32)، فتأمل.
373

مسألة
الأشهر كما قيل لزوم تقديم الايجاب على القبول، وبه صرح في الخلاف
والوسيلة والسرائر والتذكرة، كما عن الايضاح وجامع المقاصد ولعله للأصل
بعد حمل آية وجوب الوفاء على العقود المتعارفة (33)، كإطلاق (البيع)
و (التجارة) في الكتاب والسنة. وزاد بعضهم: إن القبول فرع الايجاب (34)
فلا يتقدم عليه، وأنه تابع له فلا يصح تقدمه عليه وحكى في غاية المراد عن
الخلاف: الإجماع عليه، وليس في الخالف في هذه المسألة إلا أن البيع مع
تقديم الايجاب متفق عليه فيؤخذ به، فراجع. خلافا للشيخ في المبسوط في
باب النكاح، وإن وافق الخلاف في البيع إلا أنه عدل عنه في باب النكاح، بل
ظاهر كلامه عدم الخلاف في صحته بين الإمامية حيث إنه - بعد ما ذكر أن
تقديم القبول بلفظ الأمر في النكاح بأن يقول الرجل: (زوجني فلانة) جائز بلا
خلاف - قال: أما البيع، فإنه إذا قال: (بعنيها) فقال: (بعتكها) صح عندنا وعند
قوم من المخالفين، وقال قوم منهم: لا يصح حتى يسبق الإيجاب، إنتهى.
374

وكيف كان فنسبة القول الأول إلى المبسوط مستند إلى كلامه في باب البيع،
وأما في باب النكاح فكلامه صريح في جواز التقديم كالمحقق قدس سره في الشرائع
والعلامة في التحرير والشهيدين في بعض كتبهما وجماعة ممن تأخر عنهما،
للعمومات السليمة عما يصلح لتخصيصها، وفحوى جوازه في النكاح الثابت
بالأخبار، مثل خبر أبان بن تغلب - الوارد في كيفية الصيغة - المشتمل على
صحة تقديم القبول بقوله للمرأة: (أتزوجك متعة على كتاب الله وسنة رسول
الله صلى الله عليه وآله) إلى أن قال: فإذا قالت: (نعم) فهي امرأتك وأنت أولى الناس بها.
ورواية سهل الساعدي المشهورة في كتب الفريقين - كما قيل - المشتملة على
تقديم القبول من الزوج بلفظ (زوجنيها).
375

والتحقيق: أن القبول إما أن يكون بلفظ (قبلت) و (رضيت)، وإما أن يكون
بطريق الأمر والاستيجاب، نحو (بعني) فيقول المخاطب: (بعتك)، وإما أن
يكون بلفظ (اشتريت) و (ملكت) مخففا و (ابتعت).
فإن كان بلفظ (قبلت) فالظاهر عدم جواز تقديمه، وفاقا لمن عرفته في صدر
المسألة، بل المحكي عن الميسية والمسالك ومجمع الفائدة: أنه لا خلاف في
عدم جواز تقديم لفظ (قبلت)، وهو المحكي عن نهاية الأحكام وكشف اللثام
في باب النكاح، وقد اعترف به غير واحد من متأخري المتأخرين أيضا، بل
المحكي هناك عن ظاهر التذكرة: الإجماع عليه.
ويدل عليه - مضافا إلى ما ذكر، وإلى كونه خلاف المتعارف من العقد -: أن
القبول الذي هو أحد ركني عقد المعاوضة فرع الإيجاب، فلا يعقل تقدمه عليه،
وليس المراد من هذا القبول الذي هو ركن للعقد مجرد الرضا بالإيجاب حتى
يقال: إن الرضا بشئ لا يستلزم تحققه قبله، فقد يرضى الإنسان بالأمر
المستقبل، بل المراد منه الرضا بالإيجاب على وجه يتضمن إنشاء نقل ماله في
الحال إلى الموجب على وجه العوضية، لأن المشتري ناقل كالبائع، وهذا لا
يتحقق إلا مع تأخر الرضا عن الإيجاب، إذ مع تقدمه لا يتحقق النقل في الحال.
فإن من رضي بمعاوضة ينشئها الموجب في المستقبل لم ينقل في الحال ماله
إلى الموجب، بخلاف من رضي بالمعاوضة التي أنشأها الموجب سابقا، فإنه
يرفع بهذا الرضا يده من ماله، وينقله إلى غيره على وجه العوضية. (1)
376

ومن هنا يتضح فساد ما حكي عن بعض المحققين في رد الدليل المذكور -
وهو كون القبول فرعا للإيجاب وتابعا له - وهو: أن تبعية القبول للايجاب ليس
تبعية اللفظ للفظ، ولا القصد للقصد حتى يمتنع تقديمه، وإنما هو على سبيل
الفرض والتنزيل، بأن يجعل القابل نفسه متناولا لما يلقى إليه من الموجب،
والموجب مناولا. كما يقول السائل في مقام الإنشاء: (أنا راض بما تعطيني
وقابل لما تمنحني) فهو متناول، قدم إنشاءه أو أخر، فعلى هذا يصح تقديم
القبول ولو بلفظ (قبلت) و (رضيت) إن لم يقم إجماع على خلافه، إنتهى.
379

ووجه الفساد: ما عرفت سابقا من أن الرضا بما يصدر من الموجب في
المستقبل من نقل ماله بإزاء مال صاحبه، ليس فيه إنشاء نقل من القابل في
الحال، بل هو رضا منه بالانتقال في الاستقبال، وليس المراد أن أصل الرضا
بشئ تابع لتحققه في الخارج أو لأصل الرضا به حتى يحتاج إلى توضيحه بما
ذكره في المثال، بل المراد الرضا الذي يعد قبولا وركنا في العقد (37).
ومما ذكرنا يظهر الوجه في المنع عن تقديم القبول بلفظ الأمر، كما لو قال:
(بعني هذا بدرهم) فقال: (بعتك)، لأن غاية الأمر دلالة طلب المعاوضة على
الرضا بها، لكن لم يتحقق بمجرد الرضا بالمعاوضة المستقبلة نقل في الحال
للدرهم إلى البائع، كما لا يخفى.
وأما ما يظهر من المبسوط من الاتفاق - هنا - على الصحة به، فموهون بما
ستعرف من مصير الأكثر على خلافه. وأما فحوى جوازه في النكاح، ففيها -
بعد الإغماض عن حكم الأصل، بناء على منع دلالة رواية سهل على كون لفظ
الأمر هو القبول، لاحتمال تحقق القبول بعد إيجاب النبي صلى الله عليه وآله ويؤيده أنه لولاه
يلزم الفصل الطويل بين الايجاب والقبول - منع الفحوى، وقصور دلالة رواية
أبان، من حيث اشتمالها على كفاية قول المرأة: (نعم) في الإيجاب.
380

ثم اعلم: أن في صحة تقديم القبول بلفظ الأمر اختلافا كثيرا بين كلمات
الأصحاب، فقال في المبسوط: إن قال: (بعنيها بألف) فقال: (بعتك)، صح،
والأقوى عندي أنه لا يصح حتى يقول المشتري بعد ذلك: (اشتريت)، واختار
ذلك في الخلاف. وصرح به في الغنية، فقال: واعتبرنا حصول الإيجاب من
البائع والقبول من المشتري، حذرا عن القول بانعقاده بالاستدعاء من المشتري،
وهو أن يقول: (بعنيه بألف)، فيقول: (بعتك) فإنه لا ينعقد حتى يقول المشتري
بعد ذلك: (اشتريت) أو (قبلت)، وصرح به أيضا في السرائر والوسيلة.
وعن جامع المقاصد: أن ظاهرهم أن هذا الحكم اتفاقي، وحكي الإجماع أيضا
عن ظاهر الغنية أو صريحها.
وعن المسالك: المشهور، بل قيل: إن هذا الحكم ظاهر كل من اشتراط
الايجاب والقبول. (38)
381

ومع ذلك كله، فقد صرح الشيخ في المبسوط - في باب النكاح -: بجواز
التقديم بلفظ الأمر بالبيع، ونسبته إلينا مشعر - بقرينة السياق - إلى عدم
الخلاف فيه بيننا، فقال:
إذا تعاقدا، فإن تقدم الايجاب على القبول فقال: (زوجتك) فقال: (قبلت
التزويج) صح، وكذا إذا تقدم الإيجاب على القبول في البيع صح بلا خلاف،
وأما إن تأخر الايجاب وسبق القبول، فإن كان في النكاح فقال الزوج:
(زوجنيها) فقال: (زوجتكها) صح وإن لم يعد الزوج القبول، بلا خلاف، لخبر
الساعدي: (قال: زوجنيها يا رسول الله، فقال: زوجتكها بما معك من القرآن)،
فتقدم القبول وتأخر الإيجاب، وإن كان هذا في البيع فقال: (بعنيها) فقال:
(بعتكها) صح عندنا وعند قوم من المخالفين، وقال قوم منهم: لا يصح حتى
يسبق الايجاب، إنتهى.
وحكي جواز التقديم بهذا اللفظ عن القاضي في الكامل، بل يمكن نسبة هذا
الحكم إلى كل من جوز تقديم القبول على الإيجاب بقول مطلق، وتمسك له
في النكاح برواية سهل الساعدي المعبر فيها عن القبول بطلب التزويج، إلا أن
المحقق قدس سره مع تصريحه في البيع بعدم كفاية الاستيجاب والإيجاب صرح
بجواز تقديم القبول على الايجاب.
382

وذكر العلامة قدس سره الاستيجاب والإيجاب، وجعله خارجا عن قيد اعتبار الإيجاب
والقبول كالمعاطاة وجزم بعدم كفايته، مع أنه تردد في اعتبار تقديم القبول.
وكيف كان، فقد عرفت أن الأقوى المنع في البيع لما عرفت، بل لو قلنا بكفاية
التقديم بلفظ (قبلت) يمكن المنع هنا، بناء على اعتبار الماضوية فيما دل على
القبول.
ثم إن هذا كله بناء على المذهب المشهور بين الأصحاب: من عدم كفاية مطلق
اللفظ في اللزوم وعدم القول بكفاية مطلق الصيغة في الملك.
وأما على ما قويناه سابقا في مسألة المعاطاة: من أن البيع العرفي موجب
للملك وأن الأصل في الملك اللزوم، فاللازم الحكم باللزوم في كل مورد لم
يقم إجماع على عدم اللزوم، وهو ما إذا خلت المعاملة عن الإنشاء باللفظ
رأسا، أو كان اللفظ المنشأ به المعاملة مما قام الإجماع على عدم إفادتها
اللزوم، وأما في غير ذلك فالأصل اللزوم.
وقد عرفت أن القبول على وجه طلب البيع قد صرح في المبسوط بصحته، بل
يظهر منه عدم الخلاف فيه بيننا، وحكي عن الكامل أيضا، فتأمل.
وإن كان التقديم بلفظ (اشتريت) أو (ابتعت) أو (تملكت) أو (ملكت هذا
بكذا) فالأقوى جوازه (39).
383

لأنه أنشأ ملكيته للمبيع بإزاء ماله عوضا، ففي الحقيقة أنشأ المعاوضة كالبائع
إلا أن البائع ينشئ ملكية ماله لصاحبه بإزاء مال صاحبه، والمشتري ينشئ
ملكية مال صاحبه لنفسه بإزاء ماله، ففي الحقيقة كل منهما يخرج ماله إلى
صاحبه ويدخل مال صاحبه في ملكه، إلا أن الإدخال في الإيجاب مفهوم من
ذكر العوض وفي القبول مفهوم من نفس الفعل، والإخراج بالعكس.
وحينئذ فليس في حقيقة الاشتراء - من حيث هو - معنى القبول (40).
لكنه لما كان الغالب وقوعه عقيب الايجاب، وإنشاء انتقال مال البائع إلى نفسه
إذا وقع عقيب نقله إليه يوجب تحقق المطاوعة ومفهوم القبول، أطلق عليه
القبول، وهذا المعنى مفقود في الإيجاب المتأخر. لأن المشتري إنما ينقل ماله
إلى البائع بالالتزام الحاصل من جعل ماله عوضا، والبائع إنما ينشئ انتقال
المثمن إليه كذلك، لا بمدلول الصيغة. (41)
386

وقد صرح في النهاية والمسالك على ما حكي: بأن (اشتريت) ليس قبولا
حقيقة، وإنما هو بدل، وأن الأصل في القبول (قبلت)، لأن القبول في الحقيقة ما
لا يمكن الابتداء به،
ولفظ (اشتريت) يجوز الابتداء به. ومرادهما: أنه بنفسه
لا يكون قبولا، فلا ينافي ما ذكرنا من تحقق مفهوم القبول فيه إذا وقع عقيب
تمليك البائع، كما أن (رضيت بالبيع) ليس فيه إنشاء لنقل ماله إلى البائع إلا إذا
وقع متأخرا، ولذا منعنا عن تقديمه.
فكل من (رضيت) و (اشتريت) بالنسبة إلى إفادة نقل المال ومطاوعة البيع
عند التقدم والتأخر متعاكسان.
387

فإن قلت: إن الإجماع على اعتبار القبول في العقد يوجب تأخير قوله:
(اشتريت) حتى يقع قبولا، لأن إنشاء مالكيته لمال الغير إذا وقع عقيب تمليك
الغير له يتحقق فيه معنى الانتقال وقبول الأثر، فيكون (اشتريت) متأخرا التزاما
بالأثر عقيب إنشاء التأثير من البائع، بخلاف ما لو تقدم، فإن مجرد إنشاء المالكية لمال لا يوجب تحقق مفهوم القبول (42)، كما لو نوى تملك المباحات أو اللقطة، فإنه لا قبول فيه رأسا.
قلت: المسلم من الإجماع هو اعتبار القبول من المشتري بالمعنى الشامل
للرضا بالإيجاب، وأما وجوب تحقق مفهوم القبول المتضمن للمطاوعة وقبول
الأثر، فلا.
فقد تبين من جميع ذلك: أن إنشاء القبول لا بد أن يكون جامعا لتضمن إنشاء
النقل وللرضا بإنشاء البائع - تقدم أو تأخر - ولا يعتبر إنشاء انفعال نقل البائع.
فقد تحصل مما ذكرناه: صحة تقديم القبول إذا كان بلفظ (اشتريت) وفاقا لمن
عرفت، بل هو ظاهر إطلاق الشيخ في الخلاف، حيث إنه لم يتعرض إلا للمنع
عن الانعقاد بالاستيجاب والإيجاب.
388

وقد عرفت عدم الملازمة بين المنع عنه والمنع عن تقديم مثل (اشتريت).
وكذا السيد في الغنية، حيث أطلق اعتبار الإيجاب والقبول، واحترز بذلك عن
انعقاده بالمعاطاة وبالاستيجاب والإيجاب.
وكذا ظاهر إطلاق الحلبي في الكافي، حيث لم يذكر تقديم الإيجاب من
شروط الانعقاد.
والحاصل أن المصرح بذلك - في ما وجدت من القدماء - الحلي وابن حمزة،
فمن التعجب بعد ذلك حكاية الإجماع عن الخلاف على تقديم الإيجاب، مع
أنه لم يزد على الاستدلال لعدم كفاية الاستيجاب والإيجاب بأن ما عداه مجمع
على صحته، وليس على صحته دليل.
ولعمري أن مثل هذا مما يوهن الاعتماد على الإجماع المنقول (43).
وقد نبهنا على أمثال ذلك في مواردها.
نعم، يشكل الأمر بأن المعهود المتعارف من الصيغة تقديم الإيجاب، ولا فرق
بين المتعارف هنا وبينه في المسألة الآتية، وهو الوصل بين الإيجاب والقبول،
فالحكم لا يخلو عن شوب الإشكال. (44)
389

ثم إن ما ذكرنا جار في كل قبول يؤدى بإنشاء مستقل كالإجارة التي يؤدى
قبولها بلفظ (تملكت منك منفعة كذا) أو (ملكت)، والنكاح الذي يؤدى قبوله
بلفظ (أنكحت) و (تزوجت).
وأما ما لا إنشاء في قبوله إلا (قبلت) أو ما يتضمنه ك‍ (ارتهنت) فقد يقال
بجواز تقديم القبول فيه، إذ لا التزام في قبوله بشئ كما كان في قبول البيع
التزام بنقل ماله إلى البائع، بل لا ينشئ به معنى غير الرضا بفعل الموجب،
وقد تقدم أن الرضا يجوز تعلقه بأمر مترقب كما يجوز تعلقه بأمر محقق،
فيجوز أن يقول: (رضيت برهنك هذا عندي) فيقول: (رهنت) (45).
391

والتحقيق: عدم الجواز، لأن اعتبار القبول فيه من جهة تحقق عنوان المرتهن،
ولا يخفى أنه لا يصدق الارتهان على قبول الشخص إلا بعد تحقق الرهن، لأن
الإيجاب إنشاء للفعل، والقبول إنشاء للانفعال. وكذا القول في الهبة والقرض،
فإنه لا يحصل من إنشاء القبول فيهما التزام بشئ، وإنما يحصل به الرضا بفعل
الموجب، ونحوها قبول المصالحة المتضمنة للإسقاط أو التمليك بغير
عوض. (46)
392

وأما المصالحة المشتملة على المعاوضة، فلما كان ابتداء الالتزام بها جائزا من
الطرفين، وكان نسبتها إليهما على وجه سواء، وليس الالتزام الحاصل من
أحدهما أمرا مغايرا للالتزام الحاصل من الآخر، كان البادئ منهما موجبا
لصدق الموجب عليه لغة وعرفا. (47)
393

ثم لما انعقد الاجماع على توقف العقد على القبول (48)، لزم أن يكون الالتزام
الحاصل من الآخر بلفظ القبول، إذ لو قال أيضا: " صالحتك " كان ايجابا
آخر (49)، فيلزم تركيب العقد من ايجابين. (50)
وتحقق من جميع ذلك: إن تقديم القبول في الصلح أيضا غير جائز، إذ لا قبول
فيه بغير لفظ " قبلت " و " رضيت ". وقد عرفت أن " قبلت " و " رضيت " مع
التقديم لا يدل على إنشاء لنقل العوض في الحال (51).
394

فتلخص مما ذكرنا: إن القبول في العقود على أقسام: (52)
396

لأنه إما أن يكون التزاما بشئ من القابل، كنقل مال عنه أو زوجية، وإما أن لا
يكون فيه سوى الرضا بالإيجاب.
والأول على قسمين:
لأن الالتزام الحاصل من القابل، إما أن يكون نظير الالتزام الحاصل من
الموجب كالمصالحة، أو متغايرا كالاشتراء.
والثاني أيضا على قسمين:
لأنه إما أن يعتبر فيه عنوان المطاوعة (53) كالارتهان والاتهاب والاقتراض،
وإما أن لا يثبت فيه اعتبار أزيد من الرضا بالإيجاب كالوكالة والعارية
وشبههما.
فتقديم القبول على الإيجاب لا يكون إلا في القسم الثاني من كل من القسمين.
ثم إن مغايرة الالتزام في قبول البيع لالتزام إيجابه اعتبار عرفي، فكل من التزم
بنقل ماله على وجه العوضية لمال آخر يسمى مشتريا، وكل من نقل ماله على
أن يكون عوضه مالا من آخر يسمى بائعا.
وبعبارة أخرى: كل من ملك ماله غيره بعوض فهو البائع، وكل من ملك مال
غيره بعوض ماله فهو المشتري، وإلا فكل منهما في الحقيقة يملك ماله غيره
بإزاء مال غيره، ويملك مال غيره بإزاء ماله.
397

الموالاة بين إيجابه وقبوله
ذكره الشيخ في المبسوط في باب الخلع، ثم العلامة والشهيدان والمحقق
الثاني، والشيخ المقداد.
قال الشهيد في القواعد: الموالاة معتبرة في العقد ونحوه، وهي مأخوذة من
اعتبار الاتصال بين الاستثناء والمستثنى منه، وقال بعض العامة: لا يضر قول
الزوج بعد الإيجاب: (الحمد لله والصلاة على رسول الله، قبلت نكاحها).
ومنه: الفورية في استتابة المرتد، فيعتبر في الحال، وقيل: إلى ثلاثة أيام.
ومنه: السكوت في أثناء الأذان، فإن كثيرا أبطله.
ومنه: السكوت الطويل في أثناء القراءة أو قراءة غيرها، وكذا التشهد.
ومنه: تحريم المأمومين في الجمعة قبل الركوع، فإن تعمدوا أو نسوا حتى ركع
فلا جمعة. واعتبر بعض العامة تحريمهم معه قبل الفاتحة.
ومنه: الموالاة في التعريف بحيث لا ينسى أنه تكرار، والموالاة في سنة
التعريف، فلو رجع في أثناء المدة استؤنفت ليتوالى، إنتهى. (54)
398

أقول: حاصله أن الأمر المتدرج شيئا فشيئا إذا كان له صورة اتصالية في
العرف، فلا بد في ترتب الحكم المعلق عليه في الشرع من اعتبار صورته
الاتصالية، فالعقد المركب من الإيجاب والقبول القائم بنفس المتعاقدين بمنزلة
كلام واحد مرتبط بعضه ببعض، فيقدح تخلل الفصل المخل بهيئته الاتصالية،
ولذا لا يصدق التعاقد إذا كان الفصل مفرطا في الطول كسنة أو أزيد، وانضباط
ذلك إنما يكون بالعرف، فهو في كل أمر بحسبه، فيجوز الفصل بين كل من
الإيجاب والقبول بما لا يجوز بين كلمات كل واحد منهما، ويجوز الفصل بين
الكلمات بما لا يجوز بين الحروف، كما في الأذان والقراءة.
وما ذكره حسن لو كان حكم الملك واللزوم في المعاملة منوطا بصدق العقد
عرفا، كما هو مقتضى التمسك بآية الوفاء بالعقود، وبإطلاق كلمات الأصحاب
في اعتبار العقد في اللزوم بل الملك، أما لو كان منوطا بصدق (البيع) أو
(التجارة عن تراض) فلا يضره عدم صدق العقد (55).
399

وأما جعل المأخذ في ذلك اعتبار الاتصال بين الاستثناء والمستثنى منه، فلأنه
منشأ الانتقال إلى هذه القاعدة، فإن أكثر الكليات إنما يلتفت إليها من التأمل في
مورد خاص، وقد صرح في القواعد مكررا بكون الأصل في هذه القاعدة كذا.
ويحتمل بعيدا أن يكون الوجه فيه: أن الاستثناء أشد ربطا بالمستثنى منه من
سائر اللواحق، لخروج المستثنى منه معه عن حد الكذب إلى الصدق، فصدقه
يتوقف عليه، فلذا كان طول الفصل هناك أقبح، فصار أصلا في اعتبار الموالاة
بين أجزاء الكلام.
ثم تعدي منه إلى سائر الأمور المرتبطة بالكلام لفظا أو معنى، أو من حيث
صدق عنوان خاص عليه، لكونه عقدا أو قراءة أو أذانا، ونحو ذلك.
ثم في تطبيق بعضها على ما ذكره خفاء، كمسألة توبة المرتد، فإن غاية ما
يمكن أن يقال في توجيهه: إن المطلوب في الإسلام الاستمرار، فإذا انقطع
فلا بد من إعادته في أقرب الأوقات.
وأما مسألة الجمعة، فلأن هيئة الاجتماع في جميع أحوال الصلاة من القيام
والركوع والسجود مطلوبة، فيقدح الإخلال بها. وللتأمل في هذه الفروع، وفي
صحة تفريعها على الأصل المذكور مجال. ثم إن المعيار في الموالاة موكول
إلى العرف، كما في الصلاة والقراءة والأذان ونحوها.
402

ويظهر من رواية سهل الساعدي - المتقدمة في مسألة تقديم القبول - جواز
الفصل بين الإيجاب والقبول بكلام طويل أجنبي.
بناء على ما فهمه الجماعة من أن القبول فيها قول ذلك الصحابي: (زوجنيها)،
والإيجاب قوله صلى الله عليه وآله بعد فصل طويل: (زوجتكها بما معك من القرآن)، ولعل
هذا موهن آخر للرواية، فافهم.
403

ومن جملة الشرائط التي ذكرها جماعة:
التنجيز في العقد
بأن لا يكون معلقا على شئ بأداة الشرط، بأن يقصد المتعاقدان انعقاد
المعاملة في صورة وجود ذلك الشئ، لا في غيرها.
وممن صرح بذلك: الشيخ والحلي والعلامة وجميع من تأخر عنه، كالشهيدين
والمحقق الثاني وغيرهم قدس الله تعالى أرواحهم.
وعن فخر الدين في شرح الإرشاد في باب الوكالة: أن تعليق الوكالة على
الشرط لا يصح عند الإمامية، وكذا غيره من العقود، لازمة كانت أو جائزة.
وعن تمهيد القواعد: دعوى الإجماع عليه، وظاهر المسالك في مسألة اشتراط
التنجيز في الوقف: الاتفاق عليه.
والظاهر عدم الخلاف فيه كما اعترف به غير واحد، وإن لم يتعرض الأكثر في
هذا المقام.
ويدل عليه: فحوى فتاويهم ومعاقد الإجماعات في اشتراط التنجيز في
الوكالة، مع كونه من العقود الجائزة التي يكفي فيها كل ما دل على الإذن، حتى
أن العلامة ادعى الإجماع - على ما حكي عنه - على عدم صحة أن يقول
الموكل: (أنت وكيلي في يوم الجمعة أن تبيع عبدي)، وعلى صحة قوله: (أنت
وكيلي، ولا تبع عبدي إلا في يوم الجمعة. مع كون المقصود واحدا.
404

وفرق بينهما جماعة - بعد الاعتراف بأن هذا في معنى التعليق: (56) بأن العقود
لما كانت متلقاة من الشارع أنيطت بهذه الضوابط، وبطلت فيما خرج عنها وإن
أفادت فائدتها.
فإذا كان الأمر كذلك. عندهم في الوكالة فكيف الحال في البيع؟ وبالجملة، فلا
شبهة في اتفاقهم على الحكم.
وأما الكلام في وجه الاشتراط، فالذي صرح به العلامة في التذكرة: أنه مناف
للجزم حال الإنشاء، بل جعل الشرط هو الجزم ثم فرع عليه عدم جواز التعليق،
قال: الخامس من الشروط: الجزم، فلو علق العقد على شرط لم يصح وإن
شرط المشيئة، للجهل بثبوتها حال العقد وبقائها مدته، وهو أحد قولي
الشافعي، وأظهر هما عندهم: الصحة، لأن هذه صفة يقتضيها إطلاق العقد، لأنه
لو لم يشأ لم يشتر، انتهى كلامه.
405

وتبعه على ذلك الشهيد قدس سره في قواعده، قال: لأن الانتقال بحكم الرضا ولا رضا
إلا مع الجزم، والجزم ينافي التعليق، إنتهى.
406

ومقتضى ذلك: أن المعتبر هو عدم التعليق على أمر مجهول الحصول، كما صرح
به المحقق في باب الطلاق.
وذكر المحقق والشهيد الثانيان في الجامع والمسالك في مسألة (إن كان لي
فقد بعته): أن التعليق إنما ينافي الإنشاء في العقود والإيقاعات حيث يكون
المعلق عليه مجهول الحصول. لكن الشهيد في قواعده ذكر في الكلام المتقدم:
أن الجزم ينافي التعليق، لأنه بعرضة عدم الحصول ولو قدر العلم بحصوله،
كالتعليق على الوصف، لأن الاعتبار بجنس الشرط دون أنواعه (58)، فاعتبر
المعنى العام دون خصوصيات الأفراد.
ثم قال: فإن قلت: فعلى هذا يبطل قوله في صورة إنكار التوكيل: (إن كان لي
فقد بعته منك بكذا). قلت: هذا تعليق على واقع، لا [على] متوقع الحصول، فهو
علة للوقوع أو مصاحب له، لا معلق عليه الوقوع، وكذا لو قال في صورة إنكار
وكالة التزويج وإنكار التزويج حيث تدعيه المرأة: (إن كانت زوجتي فهي
طالق) إنتهى كلامه قدس سره.
407

وعلل العلامة في القواعد صحة إن كان لي فقد بعته بأنه أمر واقع يعلمان
وجوده، فلا يضر جعله شرطا، وكذا كل شرط علم وجوده، فإنه لا يوجب شكا
في البيع ولا وقوفه، إنتهى.
وتفصيل الكلام: أن المعلق عليه، إما أن يكون معلوم التحقق، وإما أن يكون
محتمل التحقق.
وعلى الوجهين، فإما أن يكون تحققه المعلوم أو المحتمل في الحال أو
المستقبل.
408

وعلى التقادير، فإما أن يكون الشرط مما يكون مصححا للعقد - ككون الشئ
مما يصح تملكه شرعا، أو مما يصح إخراجه عن الملك، كغير أم الولد، وغير
الموقوف ونحوه، وكون المشتري ممن يصح تملكه شرعا، كأن لا يكون عبدا،
وممن يجوز العقد معه بأن يكون بالغا -، وإما أن لا يكون كذلك.
ثم التعليق، إما مصرح به، وإما لازم من الكلام، كقوله: (ملكتك هذا بهذا يوم
الجمعة)، وقوله في القرض والهبة: (خذ هذا بعوضه)، أو (خذه بلا عوض يوم
الجمعة)، فإن التمليك معلق على تحقق الجمعة في الحال أو في الاستقبال (61).
410

ولهذا احتمل العلامة في النهاية وولده في الإيضاح بطلان بيع الوارث لمال
مورثه بظن حياته، معللا بأن العقد وإن كان منجزا في الصورة إلا أنه معلق،
والتقدير: إن مات مورثي فقد بعتك.
فما كان منها معلوم الحصول حين العقد، فالظاهر أنه غير قادح، وفاقا لمن
عرفت كلامه - كالمحقق والعلامة والشهيدين والمحقق الثاني والصيمري -
وحكي أيضا عن المبسوط والإيضاح في مسألة ما لو قال: (إن كان لي فقد
بعته)، بل لم يوجد في ذلك خلاف صريح، ولذا ادعى في الرياض - في باب
الوقف - عدم الخلاف فيه صريحا.
وما كان معلوم الحصول في المستقبل - وهو المعبر عنه بالصفة - فالظاهر أنه
داخل في معقد اتفاقهم على عدم الجواز - وإن كان تعليلهم للمنع باشتراط
الجزم لا يجري فيه - كما اعترف به الشهيد فيما تقدم عنه، ونحوه الشهيد
الثاني فيما حكي عنه.
بل يظهر من عبارة المبسوط في باب الوقف كونه مما لا خلاف فيه بيننا، بل
بين العامة، فإنه قال: إذا قال الواقف: (إذا جاء رأس الشهر فقد وقفته) لم يصح
الوقف بلا خلاف، لأنه مثل البيع والهبة، وعندنا مثل العتق أيضا، انتهى، فإن
ذيله يدل على أن مماثلة الوقف للبيع والهبة غير مختص بالإمامية، نعم مماثلته
للعتق مختص بهم.
411

وما كان منها مشكوك الحصول وليست صحة العقد معلقة عليه في الواقع
كقدوم الحاج فهو المتيقن من معقد اتفاقهم (62).
وما كان صحة العقد معلقة عليه - كالأمثلة المتقدمة - فظاهر إطلاق كلامهم
يشمله، إلا أن الشيخ في المبسوط حكى في مسألة (إن كان لي فقد بعته) قولا
من بعض الناس بالصحة، وأن الشرط لا يضره، مستدلا بأنه لم يشترط إلا ما
يقتضيه إطلاق العقد، لأنه إنما يصح البيع لهذه الجارية من الموكل إذا كان أذن
له في الشراء، فإذا اقتضاه الإطلاق لم يضر إظهاره وشرطه، كما لو شرط في
البيع تسليم الثمن أو تسليم المثمن أو ما أشبه ذلك، إنتهى.
وهذا الكلام وإن حكاه عن بعض الناس، إلا أن الظاهر ارتضاؤه له. وحاصله:
أنه كما لا يضر اشتراط بعض لوازم العقد المترتبة عليه، كذلك لا يضر تعليق
العقد بما هو معلق عليه في الواقع، فتعليقه ببعض مقدماته كالإلزام ببعض
غاياته، فكما لا يضر الإلزام بما يقتضي العقد التزامه، كذلك التعليق بما كان
الإطلاق معلقا عليه ومقيدا به.
وهذا الوجه وإن لم ينهض لدفع محذور التعليق في إنشاء العقد - لأن المعلق
على ذلك الشرط في الواقع هو ترتب الأثر الشرعي على العقد، دون إنشاء
مدلول الكلام الذي هو وظيفة المتكلم. (63)
412

فالمعلق في كلام المتكلم غير معلق في الواقع على شئ، والمعلق على شئ
ليس معلقا في كلام المتكلم على شئ، بل ولا منجزا، بل هو شئ خارج عن
مدلول الكلام - إلا أن ظهور ارتضاء الشيخ له كاف في عدم الظن بتحقق
الإجماع عليه.
مع أن ظاهر هذا التوجيه لعدم قدح التعليق يدل على أن محل الكلام فيما لم
يعلم وجود المعلق عليه وعدمه، فلا وجه لتوهم اختصاصه بصورة العلم.
ويؤيد ذلك: أن الشهيد في قواعده جعل الأصح صحة تعليق البيع على ما هو
شرط فيه، كقول البائع: (بعتك إن قبلت) ويظهر منه ذلك أيضا في أواخر
القواعد.
413

ثم إنك قد عرفت أن العمدة في المسألة هو الإجماع (64)، وربما يتوهم أن
الوجه في اعتبار التنجيز هو عدم قابلية الإنشاء للتعليق، وبطلانه واضح، لأن
المراد بالإنشاء إن كان هو مدلول الكلام فالتعليق غير متصور فيه، إلا أن
الكلام ليس فيه، وإن كان الكلام في أنه كما يصح إنشاء الملكية المتحققة على
كل تقدير، فهل يصح إنشاء الملكية المتحققة على تقدير دون آخر، كقوله: (هذا
لك إن جاء زيد غدا) أو (خذ المال قرضا - أو قراضا - إذا أخذته من فلان)،
ونحو ذلك؟ فلا ريب في أنه أمر متصور واقع في العرف والشرع كثيرا في
الأوامر والمعاملات، من العقود والإيقاعات (65).
414

ويتلو هذا الوجه في الضعف: ما قيل: من أن ظاهر ما دل على سببية العقد
ترتب مسببه عليه حال وقوعه، فتعليق أثره بشرط من المتعاقدين مخالف
لذلك (66).
وفيه بعد الغض عن عدم انحصار أدلة الصحة واللزوم في مثل قوله تعالى:
(أوفوا بالعقود)، لأن دليل حلية البيع وتسلط الناس على أموالهم كاف في
إثبات ذلك -: أن العقد سبب لوقوع مدلوله فيجب الوفاء به على طبق مدلوله،
فليس مفاد (أوفوا بالعقود) إلا مفاد (أوفوا بالعقود) في أن العقد كالعهد إذا
وقع على وجه التعليق فترقب تحقق المعلق عليه في تحقق المعلق لا يوجب
عدم الوفاء بالعهد (67).
417

والحاصل: أنه إن أريد بالمسبب هو مدلول العقد، فعدم تخلفه عن إنشاء العقد
من البديهيات التي لا يعقل خلافها، وإن أريد به الأثر الشرعي وهو ثبوت
الملكية، فيمنع كون أثر مطلق البيع الملكية المنجزة، بل هو مطلق الملك، فإن
كان البيع غير معلق كان أثره الشرعي الملك الغير المعلق، وإن كان معلقا فأثره
الملكية المعلقة، مع أن تخلف الملك عن العقد كثير جدا (68).
مع أن ما ذكره لا يجري في مثل قوله: (بعتك إن شئت أو إن قبلت)، فإنه لا
يلزم هنا تخلف أثر العقد عنه.
مع أن هذا لا يجري في الشرط المشكوك المتحقق في الحال، فإن العقد حينئذ
يكون مراعى لا موقوفا.
418

مع أن ما ذكره لا يجري في غيره من العقود التي قد يتأخر مقتضاها عنها كما لا
يخفي، وليس الكلام في خصوص البيع، وليس على هذا الشرط في كل عقد
دليل على حدة ثم الأضعف من الوجه المتقدم: التمسك في ذلك بتوقيفية
الأسباب الشرعية الموجبة لوجب الاقتصار فيها على المتيقن، وليس إلا العقد
العاري عن التعليق، إذ فيه: إن إطلاق الأدلة - مثل حلية البيع، وتسلط الناس
على أموالهم، وحل التجارة عن تراض، ووجوب الوفاء بالعقود، وأدلة سائر
العقود كاف في التوقيف.
وبالجملة: فإثبات هذا الشرط في العقود مع عموم أدلتها ووقوع كثير منها في
العرف على وجه التعليق بغير الإجماع محققا أو منقولا مشكل (69).
ثم إن القادح هو تعليق الإنشاء، وأما إذا أنشأ من غير تعليق صح العقد وإن كان
المنشئ مترددا في ترتب الأثر عليه شرعا أو عرفا، كمن ينشئ البيع وهو لا
يعلم أن المال له، أو أن المبيع مما يتمول، أو أن المشتري راض حين الإيجاب
أم لا، أو غير ذلك مما يتوقف صحة العقد عليه عرفا أو شرعا، بل الظاهر أنه لا
يقدح اعتقاد عدم ترتب الأثر عليه إذا تحقق القصد إلى التمليك العرفي. وقد
صرح بما ذكرنا بعض المحققين، حيث قال: (لا يخل زعم فساد المعاملة ما لم
يكن سببا لارتفاع القصد.)
419

نعم، ربما يشكل الأمر في فقد الشروط المقومة (70) - كعدم الزوجية - أو
الشك فيها في إنشاء الطلاق، فإنه لا يتحقق القصد إليه منجرا إليه منجرا من
دون العلم بالزوجية، وكذا الرقية في العتق، وحينئذ فإذا مست الحاجة إلى
شئ من ذلك للاحتياط، وقلنا بعدم جواز تعليق الإنشاء على ما هو شرط فيه،
فلا بد من إبرازه بصورة التنجيز (71)، وإن كان في الواقع معلقا، أو يوكل غيره
الجاهل بالحال بإيقاعه، ولا يقدح فيه تعليق الوكالة واقعا على كون الموكل
مالكا للفعل، لأن فساد الوكالة بالتعليق لا يوجب ارتفاع الإذن (72).
420

إلا أن ظاهر الشهيد في القواعد الجزم بالبطلان فيما لو زوجه امرأة يشك في
أنها محرمة عليه أو محللة، فظهر حلها، وعلل، وعلل ذلك بعدم الجزم حال
العقد قال: وكذا الإيقاعات، كما لو خالع امرأة أو طلقها وهو شاك في زوجيتها،
أو ولى نائب الإمام عليه السلام قاضيا لا يعلم أهليته وإن ظهر أهلا.
ثم قال: ويخرج من هذا بيع مال مورثه لظنه حياته، فبان ميتا، لأن الجزم هنا
حاصل، لكن خصوصية البايع غير معلومة، وإن قيل بالبطلان أمكن، لعدم
القصد إلى نقل ملكه. وكذا لو زوج أمة أبيه فظهر ميتا، إنتهى.
والظاهر الفرق بين مثال الطلاق وطرفيه، بامكان الجزم فيهما، دون مثال
الطلاق (73)، فافهم.
421

وقال في موضوع آخر: ولو طلق بحضور خنثيين فظهرا رجلين، أمكن الصحة،
وكذا بحضور من يظنه فاسقا فظهر عدلا، ويشكلان في العالم بالحكم، لعدم
قصدهما إلى طلاق صحيح (74)، إنتهى.
422

ومن جملة شروط العقد:
التطابق بين الإيجاب والقبول (75)
فلو اختلفا في المضمون بأن أوجب البائع البيع على وجه خاص من حيث
خصوص المشتري أو المثمن أو الثمن أو توابع العقد من الشروط، فقبل
المشتري على وجه آخر، لم ينعقد (76).
423

ووجه هذا الاشتراط واضح، وهو مأخوذ من اعتبار القبول (77)، وهو الرضا
بالإيجاب، فحينئذ لو قال: (بعته من موكلك بكذا)، فقال الموكل الغير
المخاطب، (قبلت) صح، وكذا لو قال: (بعتك) فأمر المخاطب وكيله بالقبول
فقبل، ولو قال: (بعتك العبد بكذا)، فقال: (اشتريت نصفه بتمام الثمن - أو
نصفه) لم ينعقد (78)، وكذا لو قال: (بعتك العبد بمائة درهم)، فقال: (اشتريه
بعشرة دينار).
424

ولو قال للاثنين: (بعتكما العبد بألف)، فقال أحدهما: (اشتريت نصفه بنصف
الثمن) لم يقع (79).
ولو قال كل منهما ذلك، لا يبعد الجواز، ونحوه لو قال البائع: (بعتك العبد
بمائة) فقال المشتري: (اشتريت كل نصف منه بخمسين) وفيه إشكال (80).
425

ومن جملة الشروط في العقد:
أن يقع كل من إيجابه وقبوله في حال يجوز لكل واحد منهما الإنشاء (81).
فلو كان المشتري في حال إيجاب البائع غير قابل للقبول، أو خرج البائع حال
القبول عن قابلية الإيجاب، لم ينعقد.
ثم إن عدم قابليتهما إن كان لعدم كونهما قابلين للتخاطب - كالموت والجنون
والإغماء بل النوم - فوجه الاعتبار عدم تحقق معنى المعاقدة والمعاهدة
حينئذ (82).
426

وأما صحة القبول من الموصى له بعد موت الموصى، فهو شرط حقيقة، لا
ركن، فإن حقيقة الوصية الإيصاء، ولذا لو مات قبل القبول قام وارثه
مقامه (83)، ولو رد جاز له القبول بعد ذلك.
427

وإن كان لعدم الاعتبار برضا هما، فلخروجه أيضا عن مفهوم التعاهد والتعاقد،
لأن المعتبر فيه عرفا رضا كل منهما لما ينشئه الآخر حين إنشائه (84)، كمن
يعرض له الحجر بفلس أو سفه أو ورق - لو فرض - أو مرض موت (85).
والأصل في جميع ذلك: إن الموجب لو فسخ قبل القبول لغي الايجاب
السابق. (86)
428

وكذا لو كان المشتري في زمان الايجاب غير راض، أو كان ممن لا يعتبر رضاه
- كالصغير - فصحة كل من الايجاب والقبول يكون معناه قائما في نفس المتكلم
من أول العقد إلى أن يتحقق تمام السبب.
وبه يتم معنى المعاقدة فإذا لم يكن هذا المعنى قائما في نفس أحدهما، أو قام
ولم يكن قيامه معتبرا، لم يتحقق معنى المعاقدة.
429

ثم إنهم صرحوا بجواز لحوق الرضا لبيع المكره، ومقتضاه عدم اعتباره من
أحدهما حين العقد، بل يكفي حصوله بعده، فضلا عن حصوله بعد الايجاب
وقبل القبول، اللهم إلا أن يلتزم بكون الحكم في المكره على خلاف القاعدة
لأجل الاجماع (87).
430

(فرع)
لو اختلف المتعاقدان اجتهادا أو تقليدا في شروط الصيغة، فهل يجوز أن يكتفي
كل منهما بما يقتضيه مذهبه أم لا؟ وجوه، ثالثها: اشتراط عدم كون العقد
المركب منهما مما لا قائل بكونه سببا في النقل كما لو فرضنا أنه لا قائل بجواز
تقديم القبول على الايجاب وجواز العقد بالفارسي أردؤها أخيرها. (88)
431

والأولان مبنيان على أن الأحكام الظاهرية المجتهد فيها بمنزلة الواقعية
الاضطرارية، فالايجاب بالفارسية من المجتهد القائل بصحته عند من يراه
باطلا بمنزلة إشارة الأخرس وايجاب العاجز عن العربية وكصلاة المتيمم
بالنسبة إلى واجد الماء، أم هي أحكام عذرية لا يعذر فيها إلا من اجتهد أو قلد
فيها، والمسألة محررة في الأصول.
432

هذا كله إذا كان بطلان العقد عند كل من المتخالفين مستندا إلى فعل الآخر،
كالصراحة والعربية والماضوية والترتيب (90).
435

وأما الموالاة والتنجيز وبقاء المتعاقدين على صفات صحة الإنشاء إلى آخر
العقد.
فالظاهر أن اختلافها يوجب فساد المجموع، لأن بالاخلال بالموالاة أو التنجيز
أو البقاء على صفات صحة الإنشاء، يفسد عبارة من يراها شروطا.
فإن الموجب إذا علق مثلا، أو لم يبق على صفة صحة الإنشاء إلى زمان القبول
باعتقاد مشروعية ذلك، لم يجز من القائل ببطلان هذا تعقيب هذا الايجاب
بالقبول، وكذا القابل إذا لم يقبل إلا بعد فوات الموالاة بزعم صحة ذلك، فإنه
يجب على الموجب إعادة إجابه إذا اعتقد اعتبار الموالاة، فتأمل.
436

أحكام
المقبوض بالعقد الفاسد
437

الأول
لو قبض ما ابتاعه بالعقد الفاسد لم يملكه، وكان مضمونا عليه.
أما عدم الملك، فلأنه مقتضى فرض الفساد.
وأما الضمان بمعنى كون تلفه عليه - وهو أحد الأمور المتفرعة على القبض
بالعقد الفاسد - فهو المعروف، وادعى الشيخ في باب الرهن، وفي موضع من
البيع: الاجماع عليه صريحا، وتبعه في ذلك فقيه عصره في شرح القواعد.
وفي السرائر: أن البيع الفاسد يجري عند المحصلين مجرى الغضب في
الضمان، وفي موضع آخر نسبه إلى أصحابنا.
ويدل عليه: النبوي المشهور: (على اليد ما أخذت حتى تؤدي) (1).
439

والخدشة في دلالته: بأن كلمة (على) ظاهرة في الحكم التكليفي فلا يدل على
الضمان، ضعيفة جدا، فإن هذا الظهور إنما هو إذا أسند الظرف إلى فعل من
أفعال المكلفين، لا إلى مال من الأموال، كما يقال: (عليه دين)، فإن لفظة
(على) حينئذ لمجرد الاستقرار في العهدة، عينا كان أو دينا، ومن هنا كان
المتجه صحة الاستدلال به على ضمان الصغير، بل المجنون إذا لم يكن يدهما
ضعيفة، لعدم التمييز والشعور (2).
441

ويدل على الحكم المذكور أيضا: قوله 7 في الأمة المبتاعة إذا وجدت مسروقة
بعد أن أولدها المشتري: إنه (يأخذ الجارية صاحبها، ويأخذ الرجل ولده
بالقيمة)، فإن ضمان الولد بالقيمة - مع كونه نماء لم يستوفه المشتري -
يستلزم ضمان الأصل بطريق أولى. وليس استيلادها من قبيل إتلاف النماء (3).
442

بل من قبيل إحداث نمائها غير قابل للملك، فهو كالتالف لا المتلف، فافهم.
ثم إن هذه المسألة من جزئيات القاعدة المعروف (كل عقد يضمن بصحيحه
يضمن بفساده وما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفساده) وهذه القاعدة أصلا
وعكسا وإن لم أجدها بهذه العبارة في كلام من تقدم على العلامة، إلا أنها
تظهر من كلمات الشيخ قدس سره في المبسوط، فإنه علل الضمان في غير واحد من
العقود الفاسدة: بأنه دخل على أن يكون المال مضمونا عليه.
444

وحاصله: أن قبض المال مقدما على ضمانه بعوض واقعي أو جعلي موجب
للضمان وهذا المعنى شمل المقبوض بالعقود الفاسدة التي تضمن بصحيحها.
وذكر أيضا في مسألة عدم الضمان في الرهن الفاسد: أن صحيحه لا يوجب
الضمان فكيف يضمن بفساده؟ وهذا يدل على العكس المذكور.
ولم أجد من تأمل فيما عدا الشهيد في المسالك فيما لو فسد عقد السبق في أنه
يستحق السابق أجرة المثل أم لا؟
وكيف كان، فالمهم بيان معنى القاعدة أصلا وعكسا، ثم بيان المدرك فيها (5).
445

فنقول ومن الله الاستعانة: إن المراد ب‍ (العقد) أعم من الجائز واللازم، بل مما
كان فيه شائبة الإيقاع أو كان أقرب إليه، فيشمل الجعالة والخلع (6).
446

والمراد بالضمان في الجملتين: هو كون درك المضمون، عليه، بمعنى كون
خسارته ودركه في ماله الأصلي، فإذا تلف وقع نقصان فيه، لوجوب تداركه
منه (7).
447

وأما مجرد كون تلفه في ملكه بحيث يتلف مملوكا له - كما يتوهم - فليس هذا
معنى للضمان أصلا، فلا يقال: إن الإنسان ضامن لأمواله (8).
449

ثم تداركه من ماله، تارة يكون بأداء عوضه الجعلي الذي تراضى هو والمالك
على كونه عوضا وأمضاه الشارع، كما في المضمون بسبب العقد الصحيح.
وأخرى بأداء عوضه الواقعي وهو المثل أو القيمة وإن لم يتراضيا عليه.
وثالثة بأداء أقل الأمرين من العوض الواقعي والجعلي، كما ذكره بعضهم في
بعض المقامات مثل تلف الموهوب بشرط التعويض قبل دفع العوض (9).
فإذا ثبت هذا، فالمراد بالضمان بقول مطلق، هو لزوم تداركه بعوضه الواقعي،
لأن هذا هو التدارك حقيقة، ولذا لو اشترط ضمان العارية لزم غرامة مثلها أو
قيمتها. ولم يرد في أخبار ضمان المضمونات - من المغصوبات وغيرها - عدا
لفظ (الضمان) بقول مطلق (10).
450

وأما تداركه بغيره فلا بد من ثبوته من طريق آخر، مثل تواطئهما عليه بعقد
صحيح يمضيه الشارع.
فاحتمال: أن يكون المراد بالضمان في قولهم: (يضمن بفاسده) هو وجوب أداء
العوض المسمى - نظير الضمان في العقد الصحيح -، ضعيف في الغاية، لا لأن
ضمانه بالمسمى يخرجه من فرض الفساد، إذ يكفي في تحقق فرض الفساد
بقاء كل من العوضين على ملك مالكه وإن كان عند تلف أحدهما يتعين الآخر
للعوضية - نظير المعاطاة على القول بالإباحة (11).
451

بل لأجل ما عرفت من معنى الضمان. (12)
وأن التدارك بالمسمى في الصحيح لامضاء الشارع ما تواطئا على عوضيته، لا
لأن معنى الضمان في الصحيح مغاير لمعناه في الفاسد حتى يوجب ذلك تفككا
في العبارة، فافهم.
452

ثم العموم في العقود ليس باعتبار خصوص الأنواع.
ليكون أفراده مثل البيع والصلح والإجارة ونحوها، لجواز كون نوع لا يقتضي
بنوعه الضمان، وإنما المقتضي له بعض أصنافه.
فالفرد الفاسد من ذلك الصنف يضمن به دون الفرد الفاسد من غير ذلك
الصنف، مثلا الصلح بنفسه لا يوجب الضمان، لأنه قد لا يفيد إلا فائدة الهبة
الغير المعوضة أو الابراء، فالموجب للضمان هو المشتمل على المعاوضة.
فالفرد الفاسد من هذا القسم موجب للضمان أيضا، ولا يلتفت إلى أن نوع
الصلح الصحيح من حيث هو لا يوجب ضمانا فلا يضمن بفساده.
وكذا الكلام في الهبة المعوضة، وكذا عارية الذهب والفضة.
نعم، ذكروا في وجه عدم ضمان الصيد الذي استعاره المحرم:
أن صحيح العارية لا يوجب الضمان فينبغي أن لا يضمن بفاسدها، ولعل المراد
عارية غير الذهب والفضة، وغير المشروط ضمانها.
453

ثم المتبادر من اقتضاء الصحيح للضمان اقتضاؤه له بنفسه، فلو اقتضاه الشرط
المتحقق في ضمن العقد الصحيح، ففي الضمان بالفاسد من هذا الفرد المشروط
فيه الضمان تمسكا بهذه القاعدة إشكال (13).
454

كما لو استأجر إجارة فاسدة واشترط فيها ضمان العين (14)، وقلنا بصحة هذا
الشرط، فهل يضمن بهذا الفاسد لأن صحيحه يضمن به ولو لأجل الشرط، أم
لا؟ وكذا الكلام في الفرد الفاسد من العارية المضمونة.
ويظهر من الرياض اختيار الضمان بفاسدها مطلقا، تبعا لظاهر المسالك.
ويمكن جعل الهبة المعوضة من هذا القبيل، بناء على أنها هبة مشروطة لا
معاوضة.
وربما يحتمل في العبارة أن يكون معناه: أن كل شخص من العقود يضمن به لو
كان صحيحا، يضمن به مع الفساد (15).
ويترتب عليه عدم الضمان فيما لو استأجر بشرط أن لا أجرة كما اختاره
الشهيدان، أو باع بلا ثمن، كما هو أحد وجهي العلامة في القواعد.
455

ويضعف: بأن الموضوع هو العقد الذي يوجد له بالفعل صحيح وفاسد، لا ما
يفرض تارة صحيحا وأخرى فاسدا، فالمتعين بمقتضى هذه القاعدة: الضمان في
مسألة البيع، لأن البيع الصحيح يضمن به (16).
459

نعم، ما ذكره بعضهم من التعليل لهذه القاعدة: بأنه أقدم على العين مضمونة
عليه، لا يجري في هذا الفرع، لكن الكلام في معنى القاعدة، لا في مدركها.
ثم إن لفظة (الباء) في (بصحيحة) (بفاسدة)، إما بمعنى (في)، بأن يراد: كل ما
تحقق الضمان في صحيحه تحقق في فاسده، وإما لمطلق السببية الشامل
للناقصة لا العلة التامة (17).
460

فإن العقد الصحيح قد لا يوجب الضمان إلا بعد القبض، كما في السلم والصرف،
بل مطلق البيع، حيث إن المبيع قبل القبض مضمون على البائع، بمعنى أن دركه
عليه، ويتداركه برد الثمن، (18) فتأمل. وكذا الإجارة والنكاح والخلع، فإن المال في
ذلك كله مضمون على ما انتقل عنه إلى أن يتسلمه من انتقل إليه.
462

وأما العقد الفاسد، فلا يكون علة تامة أبدا، بل يفتقر في ثبوت الضمان به إلى
القبض فقبله لا ضمان، فجعل الفاسد سببا: إما لأنه المنشأ للقبض على وجه
الضمان الذي هو سبب للضمان، وإما لأنه سبب الحكم بالضمان بشرط
القبض (19).
464

ولذا علل الضمان الشيخ وغيره بدخوله على أن تكون العين مضمونة عليه، ولا
ريب أن دخوله على الضمان إنما هو بإنشاء العقد الفاسد، فهو سبب لضمان ما
يقبضه (20).
والغرض من ذلك كله: دفع ما يتوهم أن سبب الضمان في الفاسد هو القبض، لا
العقد الفاسد، فكيف يقاس الفاسد على الصحيح في سببية الضمان ويقال: كل
ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده؟
وقد ظهر من ذلك أيضا: فساد توهم أن ظاهر القاعدة عدم توقف الضمان في
الفاسد على القبض، فلا بد من تخصيص القاعدة بإجماع ونحوه.
465

ثم إن المدرك لهذه الكلية (21) - على ما ذكره في المسالك في مسألة الرهن
المشروط بكون المرهون مبيعا بعد انقضاء الأجل - هو: إقدام الأخذ على
الضمان، ثم أضاف إلى ذلك قوله صلى الله عليه وآله: (على اليد ما أخذت حتى تؤدي).
والظاهر أنه تبع في استدلاله بالإقدام الشيخ في المبسوط، حيث علل الضمان
في موارد كثيرة - من البيع والإجارة الفاسدين -: بدخوله على أن يكون المال
مضمونا عليه بالمسمى، فإذا لم يسلم له المسمى رجع إلى المثل أو القيمة.
وهذا الوجه لا يخلو عن تأمل، لأنهما إنما أقدما وتراضيا وتواطئا بالعقد الفاسد
على ضمان خاص، لا الضمان بالمثل أو القيمة. والمفروض عدم إمضاء
الشارع لذلك الضمان الخاص، ومطلق الضمان لا يبقى بعد انتفاء الخصوصية
حتى يتقوم بخصوصية أخرى، فالضمان بالمثل أو القيمة إن ثبت، فحكم شرعي
تابع لدليله وليس مما أقدم عليه المتعاقدان. (22)
466

هذا كله، مع أن مورد هذا التعليل أعم من وجه من المطلب، إذ قد يكون الإقدام
موجودا ولا ضمان، كما قبل القبض، وقد لا يكون إقدام في العقد الفاسد مع
تحقق الضمان، كما إذا شرط في عقد البيع ضمان المبيع على البائع إذا تلف في
يد المشتري، وكما إذا قال: (بعتك بلا ثمن) أو (أجرتك بلا أجرة). (23)
467

نعم، قوى الشهيدان في الأخير عدم الضمان، واستشكل العلامة في مثال البيع
في باب السلم. (24)
وبالجملة، فدليل الاقدام مع أنه مطلب يحتاج إلى دليل لم نحصله منقوض
طردا وعكسا.
468

وأما خبر اليد فدلالته وإن كانت ظاهرة وسنده منجبرا، إلا أن مورده مختص
بالأعيان، فلا يشمل المنافع والأعمال المضمونة في الإجارة الفاسدة (1).
469

اللهم إلا أن يستدل على الضمان فيها بما دل على احترام مال المسلم، وأنه لا
يحل مال امرئ إلا عن طيب نفسه (26).
471

وأنه لا يصلح ذهاب حق أحد، مضافا إلى أدلة نفي الضرر (28).
476

فكل عمل وقع من عامل لأحد بحيث يقع بأمره وتحصيلا لغرضه، فلا بد من
أداء عوضه، لقاعدتي الاحترام ونفي الضرار (29).
477

ثم إنه لا يبعد أن يكون مراد الشيخ ومن تبعه من الاستدلال على الضمان
بالإقدام والدخول عليه: بيان أن العين والمنفعة اللذين تسلمهما الشخص لم
يتسلمهما مجانا وتبرعا حتى لا يقضي احترامهما بتداركهما بالعوض، كما في
العمل المتبرع به والعين المدفوعة مجانا أو أمانة، فليس دليل الإقدام دليلا
مستقلا، بل هو بيان لعدم المانع عن مقتضى اليد في الأموال واحترام
الأعمال (30).
نعم، في المسالك ذكر كلا من الإقدام واليد دليلا مستقلا، فيبقى عليه ما ذكر
سابقا من النقض والاعتراض.
ويبقى الكلام حينئذ في بعض الأعمال المضمونة التي لا يرجع نفعها إلى
الضامن ولم يقع بأمره، كالسبق في المسابقة الفاسدة، حيث حكم الشيخ
والمحقق وغيرهما بعدم استحقاق السابق أجرة المثل، خلافا لآخرين، ووجهه:
أن عمل العامل لم يعد نفعه إلى الآخر، ولم يقع بأمره أيضا، فاحترام الأموال
التي منها الأعمال لا يقضي بضمان الشخص له ووجوب عوضه عليه، لأنه
ليس كالمستوفي له، ولذا كانت شرعيته على خلاف القاعدة، حيث إنه بذل مال
في مقابل عمل لا ينفع الباذل، وتمام الكلام في بابه.
479

ثم إنه لا فرق في ما ذكرنا من الضمان في الفاسد، بين جهل الدافع بالفساد
وبين علمه مع جهل القابض (32).
480

وتوهم: أن الدافع في هذه الصورة هو الذي سلطه عليه والمفروض أن القابض
جاهل، مدفوع: بإطلاق النص والفتوى، وليس الجاهل مغرورا، لأنه أقدم على
الضمان قاصدا، وتسليط الدافع العالم لا يجعلها أمانة مالكية، لأنه دفعه على
أنه ملك المدفوع إليه، لا أنه أمانة عنده أو عارية، ولذا لا يجوز له التصرف
فيه والانتفاع به، وسيأتي تتمة ذلك في مسألة بيع الغاصب مع علم
المشتري (33).
481

هذا كله في أصل الكلية المذكورة.
وأما عكسها، وهو أن ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده، فمعناه: أن كل
عقد لا يفيد صحيحه ضمان مورده ففاسده لا يفيد ضمانا (34)، كما في عقد
الرهن والوكالة والمضاربة والعارية الغير المضمونة، بل المضمونة - بناء على
أن المراد بإفادة الصحيح للضمان إفادته بنفسه، لا بأمر خارج عنه، كالشرط
الواقع في متنه - وغير ذلك من العقود اللازمة والجائزة.
ثم إن مقتضى ذلك عدم ضمان العين المستأجرة فاسدا. لأن صحيح الإجارة
غير مفيد لضمانها كما صرح به في القواعد والتحرير وحكي عن التذكرة
وإطلاق الباقي.
482

إلا أن صريح الرياض الحكم بالضمان، وحكى فيها عن بعض نسبته إلى
المفهوم من كلمات الأصحاب، والظاهر أن المحكي عنه هو المحقق الأردبيلي
في مجمع الفائدة.
وما أبعد ما بينه وبين ما عن جامع المقاصد، حيث قال في باب الغصب: إن
الذي يلوح من كلامهم هو عدم ضمان العين المستأجرة فاسدا باستيفاء المنفعة،
والذي ينساق إليه النظر هو الضمان.
لأن التصرف فيه حرام، لأنه غصب فيضمنه.
ثم قال:
إلا أن كون الإجارة الفاسدة لا يضمن بها كما لا يضمن بصحيحها مناف لذلك
فيقال: إنه دخل على عدم الضمان بهذا الاستيلاء وإن لم يكن مستحقا والأصل
براءة الذمة من الضمان فلا تكون العين بذلك مضمونة.
ولولا ذلك لكان المرتهن ضامنا مع فساد الرهن، لأن استيلاءه بغير حق وهو
باطل، انتهى.
483

ولعل الحكم بالضمان في المسألة:
إما لخروجها عن قاعدة (ما لا يضمن)، لأن المراد بالمضمون مورد العقد،
ومورد العقد في الإجارة المنفعة (36). فالعين يرجع في حكمها إلى القواعد،
وحيث كانت في صحيح الإجارة أمانة مأذونا فيها شرعا ومن طرف المالك، لم
يكن فيه ضمان (37).
484

وأما في فاسدها، فدفع المؤجر للعين إنما هو للبناء على استحقاق المستأجر
لها، لحق الانتفاع فيه، والمفروض عدم الاستحقاق، فيده عليه يد عدوان
موجبة للضمان.
وإما لأن قاعدة (ما لا يضمن) معارضة هنا بقاعدة اليد (38).
والأقوى: عدم الضمان، (39) فالقاعدة المذكورة غير مخصصة بالعين
المستأجرة، ولا متخصصة. (40)
486

ثم إنه يشكل اطراد القاعدة في موارد: (41)
منها: الصيد الذي استعاره المحرم من المحل، بناء على فساد العارية، فإنهم
حكموا بضمان المحرم له بالقيمة، مع أن صحيح العارية لا يضمن به، ولذا
ناقش الشهيد الثاني في الضمان على تقديري الصحة والفساد.
إلا أن يقال: إن وجه ضمانه - بعد البناء على أنه يجب على المحرم إرساله
وأداء قيمته: (42) أن المستقر عليه قهرا بعد العارية هي القيمة لا العين.
487

فوجوب دفع القيمة ثابت قبل التلف بسبب وجوب الإتلاف الذي هو سبب
لضمان ملك الغير في كل عقد، لا بسبب التلف. (43)
488

ويشكل اطراد القاعدة أيضا في المبيع فاسدا بالنسبة إلى المنافع التي لم
يستوفها، فإن هذه المنافع غير مضمونة في العقد الصحيح، مع أنها مضمونة في
العقد الفاسد (44)، إلا أن يقال: إن ضمان العين يستتبع ضمان المنافع في العقد
الصحيح والفاسد (45).
489

وفيه نظر، لأن نفس المنفعة غير مضمونة بشئ في العقد الصحيح، لأن الثمن
إنما هو بإزاء العين دون المنافع. (46)
ويمكن نقض القاعدة أيضا بحمل المبيع فاسدا، على ما صرح به في المبسوط
والشرائع والتذكرة والتحرير. من كونه مضمونا على المشتري، خلافا
للشهيدين والمحقق الثاني وبعض آخر تبعا للعلامة في القواعد، مع أن الحمل
غير مضمون في البيع الصحيح، بناء على أنه للبائع (47).
وعن الدروس توجيه كلام العلامة بما إذا اشترط الدخول في البيع، وحينئذ لا
نقض على القاعدة.
490

ويمكن النقض أيضا بالشركة الفاسدة، بناء على أنه لا يجوز التصرف بها، فأخذ
المال المشترك حينئذ عدوانا موجب للضمان (48).
492

ثم إن مبنى هذه القضية السالبة - على ما تقدم من كلام الشيخ في المبسوط -
هي الأولوية، حاصلها: أن الرهن لا يضمن بصحيحه فكيف بفاسده (94).
وتوضيحه: أن الصحيح من العقد إذا لم يقتض الضمان مع إمضاء الشارع له،
فالفاسد الذي هو بمنزلة العدم لا يؤثر في الضمان.
493

لأن أثر الضمان إما من الأقدام على الضمان، والمفروض عدمه، وإلا لضمن
بصحيحه، وإما من حكم الشارع بالضمان بواسطة هذه المعاملة الفاسدة،
والمفروض أنها لا تؤثر شيئا. (50)
494

ووجه الأولوية: أن الصحيح إذا كان مفيدا للضمان أمكن أن يقال: إن الضمان
من مقتضيات الصحيح، فلا يجري في الفاسد، لكونه لغوا غير مؤثر، على ما
سبق تقريبه: من أنه أقدم على ضمان خاص، والشارع لم يمضه فيرتفع أصل
الضمان (51).
495

لكن يخدشها: أنه يجوز أن يكون صحة الرهن والإجارة المستلزمة لتسلط
المرتهن والمستأجر على العين شرعا مؤثرة في رفع الضمان، بخلاف الفاسد
الذي لا يوجب تسلطا لهما على العين، فلا أولوية.
فإن قلت: إن الفاسد وإن لم يكن له دخل في الضمان، إلا أن مقتضى عموم
(على اليد) هو الضمان، خرج منه المقبوض بصحاح العقود التي يكون
مواردها غير مضمونة على القابض، وبقي الباقي (52).
قلت: ما خرج به المقبوض بصحاح تلك العقود يخرج به المقبوض بفاسدها،
وهي عموم ما دل على أن من لم يضمنه المالك سواء ملكه إياه بغير عوض،
أو سلطه على الانتفاع به، أو استأمنه عليه لحفظه، أو دفعه إليه لاستيفاء حقه،
أو العمل فيه بلا أجرة أو معها أو غير ذلك فهو غير ضامن (53).
496

أما في غير التمليك بلا عوض - أعني الهبة - فالدليل المخصص لقاعدة
الضمان عموم ما دل على أن من استأمنه المالك على ملكه غير ضامن، بل
ليس لك أن تتهمه.
وأما في الهبة الفاسدة، فيمكن الاستدلال على خروجها من عموم (اليد):
بفحوى ما دل على خروج صور الاستئمان، فإن استئمان المالك لغيره على
ملكه إذا اقتضى عدم ضمانه له، اقتضى التسليط المطلق عليه مجانا عدم
ضمانه بطريق أولى. والتقييد بالمجانية لخروج التسليط المطلق بالعوض، كما
في المعاوضات، فإنه عين التضمين (54).
فحاصل أدلة عدم ضمان المستأمن: أن من دفع المالك إليه ملكه على وجه لا
يضمنه بعوض واقعي - أعني المثل أو القيمة - ولا جعلي، فليس عليه ضمان.
497

الثاني
الثاني من الأمور المتفرعة على عدم تملك المقبوض بالبيع الفاسد، وجوب
رده فورا إلى المالك (55).
والظاهر أنه مما لا خلاف فيه على تقدير عدم جواز التصرف فيه كما يلوح من
مجمع الفائدة. (56)
498

بل صرح في التذكرة كما عن جامع المقاصد: أن مؤونة الرد على المشتري
لوجوب ما لا يتم الرد إلا به (57)، وإطلاقه يشمل ما لو كان في رده مؤونة
كثيرة، إلا أن يقيد بغيرها بأدلة نفي الضرر (58).
501

ويدل عليه: أن الإمساك آنا ما تصرف في مال الغير بغير إذنه، فلا يجوز، لقوله
(عجل الله فرجه): (لا يجوز لأحد أن يتصرف في مال غيره إلا بإذنه) (59).
502

ولو نوقش في كون الإمساك تصرفا (2)، كفى عموم قوله صلى الله عليه وآله: (لا يحل مال
امرئ مسلم لأخيه إلا عن طيب نفسه) حيث يدل على تحريم جميع الأفعال
المتعلقة به، التي منها كونه في يده (61).
503

وأما توهم: أن هذا بإذنه حيث إنه دفعه باختياره (1)، فمندفع: بأنه إنما ملكه
إياه عوضا، فإذا انتفت صفة العوضية باعتبار عدم سلامة العوض له شرعا،
والمفروض أن كونه على وجه الملكية المجانية مما لم ينشئها المالك، وكونه
مالا للمالك وأمانة في يده أيضا مما لم يؤذن فيه، ولو أذن له فهو استيداع
جديد، كما أنه لو ملكه مجانا كانت هبة جديدة.
هذا، ولكن الذي يظهر من المبسوط: عدم الإثم في إمساكه، وكذا السرائر
ناسبا له إلى الأصحاب، وهو ضعيف، والنسبة غير ثابتة، ولا يبعد إرادة صورة
الجهل، لأنه لا يعاقب. (2)
505

الثالث
أنه لو كان للعين المبتاعة منفعة استوفاها المشتري قبل الرد (3)، كان عليه
عوضها على المشهور. بل ظاهر ما تقدم من السرائر من كونه بمنزلة
المغضوب: الاتفاق عفى الحكم.
ويد عليه: عموم قوله صلى الله عليه وسلم لا يحل ما امرئ مسلم الأرض عن طيب نفسه.
بناء على صدق المال على المنفعة ولذا يجعل ثمنا في البيع وصداقا في
النكاح (65).
506

خلافا للوسيلة، فنفي الضمان، محتجا بأن الخراج بالضمان كما في النبوي
المرسل (1).
وتفسيره: أن من ضمن شيئا وتقبله لنفسه فخراجه له، فالباء للسببية أو المقابلة،
فالمشتري لما أقدم على ضمان المبيع وتقبله على نفسه بتقبيل البائع وتضمينه
إياه على أن يكون الخراج له مجانا، كان اللازم على ذلك أن خراجه له على
تقدير الفساد، كما أن الضمان عليه على هذا التقدير أيضا (2).
508

والحاصل: أن ضمان العين لا يجتمع مع ضمان الخراج، ومرجعه إلى أن الغنيمة
والفائدة بإزاء الغرامة، وهذا المعنى مستنبط من أخبار كثيرة متفرقة (1)، مثل
قوله عليه السلام في مقام الاستشهاد على كون منفعة المبيع في زمان الخيار للمشتري:
(ألا ترى أنها لو أحرقت كانت من مال المشتري؟) ونحوه في الرهن وغيره.
وفيه: أن هذا الضمان ليس هو ما أقدم عليه المتبايعان حتى يكون الخراج
بإزائه، وإنما هو أمر قهري حكم به الشارع كما حكم بضمان المقبوض بالسوم
والمغصوب.
فالمراد بالضمان الذي بإزائه الخراج: التزام الشئ على نفسه وتقبله له مع
إمضاء الشارع له. (2)
513

وربما ينتقض ما ذكرنا في معنى الرواية بالعارية المضمونة، حيث إنه أقدم
على ضمانها، مع أن خراجها ليس له، لعدم تملكه للمنفعة، وإنما تملك الانتفاع
الذي عينه المالك (3)، فتأمل.
514

والحاصل: أن دلالة الرواية لا تقصر عن سندها في الوهن (71)، فلا يترك
لأجلها قاعدة ضمان مال المسلم واحترامه وعدم حله إلا عن طيب النفس 72.
وربما يرد هذا القول: بما ورد في شراء الجارية المسروقة، من ضمان قيمة
الولد وعوض اللبن، بل عوض كل ما انتفع.
وفيه: أن الكلام في البيع الفاسد الحاصل بين مالكي العوضين من جهة أن
مالك العين جعل خراجها له بإزاء ضمانها بالثمن، لا ما كان فساده من جهة
التصرف في مال الغير. (2)
515

وأضعف من ذلك رده بصحيحة أبي ولاد المتضمنة لضمان منفعة المغصوب
المستوفاة، ردا على أبي حنيفة القائل بأنه إذا تحقق ضمان العين ولو بالغصب
سقط كراها، كما يظهر من تلك الصحيحة. (73)
نعم، لو كان القول المذكور موافقا لقول أبي حنيفة في إطلاق القول بأن الخراج
بالضمان، انتهضت الصحيحة وما قبلها ردا عليه (74).
هذا كله في المنفعة المستوفاة، وأما المنفعة الفائتة بغير استيفاء، فالمشهور فيها
أيضا الضمان (75).
516

وقد عرفت عبارة السرائر المتقدمة، ولعله لكون المنافع أموالا في يد من بيده
العين، فهي مقبوضة في يده، ولذا يجري على المنفعة حكم المقبوض إذا قبض
العين، فتدخل المنفعة في ضمان المستأجر، ويتحقق قبض الثمن في السلم
بقبض الجارية المجعول خدمتها ثمنا، وكذا الدار المجعول سكناها ثمنا، مضافا
إلى أنه مقتضى احترام مال المسلم، إذ كونه في يد غير مالكه مدة طويلة من
غير أجرة مناف للاحترام.
لكن يشكل الحكم - بعد تسليم كون المنافع أموالا حقيقة -: بأن مجرد ذلك لا
يكفي في تحقق الضمان، إلا أن يندرج في عموم (على اليد ما أخذت).
518

ولا إشكال في عدم شمول صلة الموصول للمنافع (76)، وحصولها في اليد
بقبض العين لا يوجب صدق الأخذ. ودعوى: أنه كناية عن مطلق الاستيلاء
الحاصل في المنافع بقبض الأعيان، مشكلة (2).
519

وأما احترام مال المسلم، فإنما يقتضي عدم حل التصرف فيه وإتلافه بلا
عوض، وإنما يتحقق ذلك في الاستيفاء (78).
فالحكم بعدم الضمان مطلقا - كما عن الإيضاح - أو مع علم البائع بالفساد (79)
- كما عن بعض آخر - موافق للأصل السليم.
مضافا إلى أنه قد يدعى شمول قاعدة (ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن
بفاسده) له 80. ومن المعلوم أن صحيح البيع لا يوجب ضمانا للمشتري للمنفعة،
لأنها له مجانا ولا يتقسط الثمن عليها، وضمانها مع الاستيفاء لأجل الاتلاف،
فلا ينافي القاعدة المذكورة، لأنها بالنسبة إلى التلف لا الاتلاف.
520

مضافا إلى الأخبار الواردة في ضمان المنافع المستوفاة من الجارية المسروقة
المبيعة، الساكتة من ضمان غيرها في مقام البيان.
وكذا صحيحة محمد بن قيس الواردة في من باع وليدة أبيه بغير إذنه،
فقال عليه السلام: (الحكم أن يأخذ الوليدة وابنها) وسكت عن المنافع الفائتة، فإن عدم
الضمان في هذه الموارد مع كون العين لغير البائع يوجب عدم الضمان هنا
بطريق أولى. والإنصاف: أن للتوقف في المسألة - كما في المسالك تبعا
للدروس والتنقيح مجالا.
521

وربما يظهر من القواعد في باب الغصب - عند التعرض لأحكام البيع الفاسد:
اختصاص الإشكال والتوقف بصورة علم البائع على ما استظهره السيد العميد
والمحقق الثاني من عبارة الكتاب، وعن الفخر: حمل الإشكال في العبارة على
مطلق صورة عدم الاستيفاء.
فتحصل من ذلك كله: أن الأقوال في ضمان المنافع الغير المستوفاة خمسة:
الأول: الضمان، وكأنه للأكثر.
الثاني: عدم الضمان، كما عن الايضاح.
الثالث: الضمان إلا مع علم البائع، كما عن بعض من كتب على الشرائع.
الرابع: التوقف في هذه الصورة، كما استظهره جامع المقاصد والسيد العميد من
عبارة القواعد.
الخامس: التوقف مطلقا (82)، كما عن الدروس والتنقيح والمسالك ومحتمل
القواعد، كما يظهر من فخر الدين.
522

وقد عرفت أن التوقف أقرب إلى الإنصاف، إلا أن المحكي من التذكرة ما لفظه:
إن منافع الأموال من العبيد والثياب والعقاد وغيرها مضمونة بالتفويت
والفوات تحت اليد العادية، فلو غصب عبدا أو جارية أو عقارا أو حيوانا
مملوكا ضمن منافعه سواء أتلفها بأن استعملها، أو فاتت تحت يده بأن بقيت
مدة في يده لا يستعملها عند علمائنا أجمع.
ولا يبعد أن يراد ب‍ (اليد العادية) مقابل اليد الحقة، فيشمل يد المشتري في ما
نحن فيه، خصوصا مع علمه، سيما مع جهل البائع به.
وأظهر منه ما في السرائر في آخر باب الإجارة: من الاتفاق أيضا على ضمان
منافع المغصوب الفائتة، مع قوله في باب البيع: إن البيع الفاسد عند أصحابنا
بمنزلة الشئ المغصوب إلا في ارتفاع الإثم عن إمساكه، انتهى.
وعلى هذا، فالقول بالضمان لا يخلو عن قوة، وإن كان المتراءى من ظاهر
صحيحة أبي ولاد اختصاص الضمان في المغصوب بالمنافع المستوفاة من
البغل المتجاوز به إلى غير محل الرخصة، إلا أنا لم نجد بذلك عاملا في
المغصوب الذي هو موردها. (2)
523

الرابع (84)
إذا تلف المبيع، فإن كان مثليا وجب مثله بلا خلاف.
524

إلا ما يحكى عن ظاهر الإسكافي (85). وقد اختلف كلمات أصحابنا في تعريف
المثلي، فالشيخ وابن زهرة وابن إدريس والمحقق وتلميذه والعلامة
وغيرهم قدس سرهم، بل المشهور - على ما حكي - أنه: ما يتساوى أجزاؤه من حيث
القيمة.
والمراد بأجزائه: ما يصدق عليه اسم الحقيقة. والمراد بتساويها من حيث
القيمة: تساويها بالنسبة، بمعنى كون قيمة كل بعض بالنسبة إلى قيمة البعض
الآخر كنسبة نفس البعضين من حيث المقدار، ولذا قيل في توضيحه: إن
المقدار منه إذا كان يستوي قيمة، فنصفه يستوي نصف تلك القيمة (86).
ومن هنا رجح الشهيد الثاني كون المصوغ من النقدين قيميا، قال: إذ لو
انفصلت نقصت قيمتها.
525

قلت: وهذا يوجب أن لا يكون الدرهم الواحد مثليا، إذ لو انكسر نصفين نقص
قيمة نصفه عن نصف قيمة المجموع، إلا أن يقال: إن الدرهم مثلي بالنسبة إلى
نوعه. وهو الصحيح، ولذا لا يعد الجريش مثلا للحنطة، ولا الدقاقة مثلا للأرز.
ومن هنا يظهر أن كل نوع من أنواع الجنس الواحد، بل كل صنف من أصناف
نوع واحد مثلي بالنسبة إلى أفراد ذلك النوع أو الصنف.
فلا يرد ما قيل: من أنه إن أريد التساوي بالكلية، فالظاهر عدم صدقه على
شئ من المعرف، إذ ما من مثلي إلا وأجزاؤه مختلفة في القيمة كالحنطة، فإن
قفيزا من حنطة يساوي عشرة ومن أخرى يساوي عشرين.
وإن أريد التساوي في الجملة، فهو في القيمي موجود، كالثوب والأرض،
إنتهى.
526

وقد لوح هذا المورد في آخر كلامه إلى دفع إيراده بما ذكرنا: من أن كون
الحنطة مثلية معناه: أن كل صنف منها متماثل الأجزاء ومتساو في القيمة، لا
بمعنى أن جميع أبعاض هذا النوع متساوية في القيمة، فإذا كان المضمون بعضا
من صنف، فالواجب دفع مساويه من هذا الصنف، لا القيمة ولا بعض من
صنف آخر.
لكن الانصاف: أن هذا خلاف ظاهر كلماتهم، فإنهم يطلقون المثلي على جنس
الحنطة والشعير ونحوهما، مع عدم صدق التعريف عليه (1).
527

وإطلاق المثلي على الجنس باعتبار مثلية أنواعه أو أصنافه وإن لم يكن بعيدا،
إلا أن انطباق التعريف على الجنس بهذا الاعتبار بعيد جدا (88)، إلا أن يهملوا
خصوصيات الأصناف الموجبة لزيادة القيمة ونقصانها، كما التزمه بعضهم (89).
غاية الأمر وجوب رعاية الخصوصيات عند أداء المثل عوضا عن التالف، أو
القرض، وهذا أبعد. هذا، مضافا إلى أنه يشكل اطراد التعريف بناء على هذا،
بأنه: إن أريد تساوي الأجزاء من صنف واحد من حيث القيمة تساويا حقيقيا،
فقل ما يتفق ذلك في الصنف الواحد من النوع، لأن أشخاص ذلك الصنف لا
تكاد تتساوى في القيمة، لتفاوتها بالخصوصيات الموجبة لزيادة الرغبة
ونقصانها، كما لا يخفى. (3)
530

وإن أريد تقارب أجزاء ذلك الصنف من حيث القيمة وإن لم يتساو حقيقة،
تحقق ذلك في أكثر القيميات، فإن لنوع الجارية أصنافا متقاربة في الصفات
الموجبة لتساوي القيمة، وبهذا الاعتبار يصح السلم فيها، ولذا اختار العلامة
في باب القرض من التذكرة - على ما حكي عنه - أن ما يصح فيه السلم من
القيميات مضمون في القرض بمثله.
وقد عد الشيخ في المبسوط الرطب والفواكه من القيميات، مع أن كل نوع منها
مشتمل على أصناف متقاربة في القيمة، بل متساوية عرفا.
ثم لو فرض أن الصنف المتساوي من حيث القيمة في الأنواع القيمية عزيز
الوجود بخلاف الأنواع المثلية، لم يوجب ذلك إصلاح طرد التعريف. نعم،
يوجب ذلك الفرق بين النوعين في حكمة الحكم بضمان المثلي بالمثل،
والقيمي بالقيمة.
ثم إنه قد عرف المثلي بتعاريف أخر أعم من التعريف المتقدم أو أخص (91).
531

فعن التحرير: أنه ما تماثلت أجزاؤه وتقاربت صفاته.
وعن الدروس والروضة: أنه المتساوي الأجزاء والمنفعة، المتقارب الصفات،
وعن المسالك والكفاية: أنه أقرب التعريفات إلى السلامة.
وعن غاية المراد: ما تساوى أجزاؤه في الحقيقة النوعية.
وعن بعض العامة: أنه ما قدر بالكيل أو الوزن.
وعن آخر منهم زيادة: جواز بيعه سلما.
وعن ثالث منهم زيادة: جواز بيع بعضه ببعض، إلى غير ذلك مما حكاه في
التذكرة عن العامة (92).
532

ثم لا يخفى أنه ليس للفظ (المثلي) حقيقة شرعية ولا متشرعية، وليس المراد
معناه اللغوي (93)، إذ المراد بالمثل لغة: المماثل، فإن أريد من جميع الجهات
فغير منعكس، وإن أريد من بعضها، فغير مطرد.
وليس في النصوص حكم يتعلق بهذا العنوان حتى يبحث عنه. نعم، وقع هذا
العنوان في معقد إجماعهم على أن المثلي يضمن بالمثل، وغيره بالقيمة، (94)
533

ومن المعلوم أنه لا يجوز الاتكال في تعيين معقد الإجماع على قول بعض
المجمعين مع مخالفة الباقين.
534

وحينئذ فينبغي أن يقال: كل ما كان مثليا باتفاق المجمعين فلا إشكال في
ضمانه بالمثل، للاجماع، ويبقى ما كان مختلفا فيه بينهم، كالذهب والفضة الغير
المسكوكين، فإن صريح الشيخ في المبسوط كونهما من القيميات، وظاهر غيره
كونهما مثليين، وكذا الحديد والنحاس والرصاص، فإن ظواهر عبائر المبسوط
والغنية والسرائر كونها قيمية.
وعبارة التحرير صريحة في كون أصولها مثلية وإن كان المصوغ منها قيميا.
وقد صرح الشيخ في المبسوط: بكون الرطب والعنب قيميا، والتمر والزبيب
مثليا. وقال في محكي المختلف: إن في الفرق إشكالا، بل صرح بعض من
قارب عصرنا بكون الرطب والعنب مثليين. وقد حكي عن موضع من جامع
المقاصد: أن الثوب مثلي، والمشهور خلافه. وأيضا فقد مثلوا للمثلي بالحنطة
والشعير، ولم يعلم أن المراد نوعهما أو كل صنف؟ وما المعيار في الصنف؟
وكذا التمر. والحاصل: أن موارد عدم تحقق الاجماع (95) على المثلية فيها
كثيرة، فلا بد من ملاحظة أن الأصل الذي يرجع إليه عند الشك هو الضمان
بالمثل، أو بالقيمة، أو تخيير المالك أو الضامن بين المثل والقيمة؟
ولا يبعد أن يقال: إن الأصل هو تخيير الضامن، لأصالة براءة ذمته عما زاد على
ما يختاره، فإن فرض إجماع على خلافه فالأصل تخيير المالك، لأصالة عدم
براءة ذمته بدفع ما لا يرضى به المالك (96).
535

مضافا إلى عموم (على اليد ما أخذت حتى تؤدي فإن مقتضاه عدم ارتفاع
الضمان بغير أداء العين، خرج ما إذا رضي المالك بشئ آخر. (97)
540

والأقوى: تخيير المالك من أول الأمر، لأصالة الاشتغال، والتمسك بأصالة
البراءة لا يخلو من منع.
نعم، يمكن أن يقال - بعد عدم الدليل لترجيح أحد الأقوال (98)، والاجماع على
عدم تخيير المالك: التخيير في الأداء من جهة دوران الأمر بين المحذورين،
أعني: تعين المثل بحيث لا يكون للمالك مطالبة القيمة ولا للضامن الامتناع،
وتعيين القيمة كذلك، فلا متيقن في البين، ولا يمكن البراءة اليقينية عند
التشاح، فهو من باب تخيير المجتهد في الفتوى (99)، فتأمل.
543

هذا، ولكن يمكن أن يقال: إن القاعدة المستفادة من اطلاقات الضمان في
المغصوبات والأمانات المفرط فيها، وغير ذلك، هو الضمان بالمثل:
547

لأنه أقرب إلى التألف من حيث المالية والصفات (100)، ثم بعده قيمة التألف
من النقدين وشبههما، لأنهما أقرب من حيث المالية، لأن ما عداهما يلاحظ
مساواته للتألف بعد ارجعه إليهما (101).
548

ولأجل الاتكال على هذا الظهور لا تكاد تظفر على مورد واحد من هذه
الموارد على كثرتها قد نص الشارع فيه على ذكر المضمون به، بل كلها - إلا ما
شذ وندر - قد أطلق فيها الضمان، فلولا الاعتماد على ما هو المتعارف لم
يحسن من الشارع اهماله في موارد البيان (102).
549

وقد استدل في المبسوط والخلاف على ضمان المثلي بالمثل، والقيمي بالقيمة
قوله تعالى: (فمن أعدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) بتقريب: إن
مماثل (ما اعتدى) هو المثل في المثلي، والقيمة في غيره، واختصاص الحكم
بالمتلف عدوانا لا يقدح بعد عدم القول بالفصل (103)
وربما يناقش في الآية بأن مدلولها اعتبار المماثلة في مقدار الاعتداء لا
المعتدى به (104)، وفيه نظر.
550

نعم، الانصاف عدم وفاء الآية - كالدليل السابق عليه - بالقول المشهور، لأن
مقتضاهما وجوب المماثلة العرفية في الحقيقة والمالية، وهذا يقتضي اعتبار
المثل حتى في القيميات، سواء وجد المثل فيها أم لا (105).
551

أما مع وجود المثل فيها، كما لو أتلف ذراعا من كرباس طوله عشرون ذراعا
متساوية من جميع الجهات، فإن مقتضى العرف والآية: إلزام الضامن بتحصيل
ذراع آخر من ذلك ولو بأضعاف قيمته - ودفعه إلى مالك الذراع المتلف، مع
أن القائل بقيمية الثوب لا يقول به، وكذا لو أتلف عليه عبدا وله في ذمة المالك
بسبب القرض أو السلم - عبد موصوف بصفات التالف، فإنهم لا يحكمون
بالتهاتر القهري، كما يشهد به ملاحظة كلماتهم في بيع عبد من عبدين.
نعم، ذهب جماعة - منهم الشهيدان في الدروس والمسالك إلى جواز رد العين
المقترضة إذا كانت قيمية، لكن لعله من جهة صدق أداء القرض بأداء العين، لا
من جهة ضمان القيمي بالمثل، (106)
553

ولذا اتفقوا على عدم وجوب قبول غيرها وإن كان مماثلا لها من جميع
الجهات. وأما مع عدم وجود المثل للقيمي التالف، فمقتضى الدليلين عدم
سقوط المثل من الذمة بالتعذر، كما لو تعذر المثل في المثلي، فيضمن بقيمته
يوم الدفع كالمثلي، ولا يقولون به (107).
554

وأيضا، فلو فرض نقصان المثل عن التالف من حيث القيمة نقصانا فاحشا،
فمقتضى ذلك عدم وجوب إلزام المالك بالمثل، لاقتضائهما اعتبار المماثلة في
الحقيقة والمالية، مع أن المشهور - كما يظهر من بعض - إلزامه به وإن قوى
خلافه بعض، بل ربما احتمل جواز دفع المثل ولو سقط من القيمة بالكلية وإن
كان الحق خلافه.
555

فتبين: أن النسبة بين مذهب المشهور ومقتضى العرف والآية عموم من وجه،
فقد يضمن بالمثل بمقتضى الدليلين ولا يضمن به عند المشهور، كما في
المثالين المتقدمين (109)، وقد ينعكس الحكم كما في المثال الثالث، وقد
يجتمعان في المضمون به كما في أكثر الأمثلة.
ثم إن الاجماع على ضمان القيمي بالقيمة على تقدير تحققه لا يجدي بالنسبة
إلى ما لم يجمعوا على كونه قيميا، ففي موارد الشك يجب الرجوع إلى المثل
بمقتضى الدليل السابق وعموم الآية، بناء على ما هو الحق المحقق: من أن
العام المخصص بالمجمل مفهوما، المتردد بين الأقل والأكثر لا يخرج عن
الحجية بالنسبة إلى موارد الشك.
فحاصل الكلام: أن ما أجمع على كون مثليا يضمن بالمثل، مع مراعاة الصفات
التي تختلف بها الرغبات وإن فرض نقصان قيمته في زمان الدفع أو مكانه عن
قيمة التالف، بناء على تحقق الإجماع على إهمال هذا التفاوت،
556

مضافا إلى الخبر الوارد في أن الثابت في ذمة من اقترض دراهم وأسقطها
السلطان وروج غيرها، هي الدراهم الأولى (110).
557

وما أجمع على كون قيميا يضمن بالقيمة - بناء على ما سيجئ من الاتفاق على
ذلك وإن وجد مثله أو كان مثله في ذمة الضامن.
وما شك في كونه قيميا أو مثليا يلحق بالمثلي، مع عدم اختلاف قيمتي
المدفوع والتالف، ومع الاختلاف ألحق بالقيمي (111)، فتأمل.
559

الخامس
ذكر في القواعد: أنه لو لم يوجد المثل إلا بأكثر من ثمن المثل، ففي وجوب
الشراء تردد، انتهى. أقول: كثرة الثمن إن كانت لزيادة القيمة السوقية للمثل بأن
صارت قيمته أضعاف قيمة التالف يوم تلفه، فالظاهر أنه لا إشكال في وجوب
الشراء ولا خلاف، كما صرح به في الخلاف، حيث قال: إذا غصب ما له مثل -
كالحبوب والأدهان - فعليه مثل ما تلف في يده، يشتريه بأي ثمن كان، بلا
خلاف، انتهى. وفي المبسوط: يشتريه بأي ثمن كان إجماعا، انتهى. ووجهه:
عموم النص والفتوى بوجوب المثل في المثلي، ويؤيده فحوى حكمهم بأن
تنزل قيمة المثل حين الدفع عن يوم التلف لا يوجب الانتقال إلى القيمة، بل
ربما احتمل بعضهم ذلك مع سقوط المثل في زمان الدفع عن المالية، كالماء
على الشاطئ والثلج في الشتاء. وأما إن كان لأجل تعذر المثل وعدم وجدانه
إلا عند من يعطيه بأزيد مما يرغب فيه الناس مع وصف الأعواز، بحيث يعد
بذل ما يريد مالكه بإزائه ضررا عرفا - والظاهر أن هذا هو المراد بعبارة
القواعد، لأن الثمن في الصورة الأولى ليس بأزيد من ثمن المثل، بل هو ثمن
المثل، وإنما زاد على ثمن التالف يوم التلف - وحينئذ فيمكن التردد في
الصورة الثانية كما قيل: من أن الموجود بأكثر من ثمن المثل كالمعدوم، كالرقبة
في الكفارة والهدي، وأنه يمكن معاندة البائع وطلب أضعاف القيمة، وهو
ضرر.
560

ولكن الأقوى مع ذلك: وجوب الشراء، وفاقا للتحرير كما عن الإيضاح
والدروس وجامع المقاصد، بل إطلاق السرائر، ونفي الخلاف المتقدم عن
الخلاف، لعين ما ذكر في الصورة الأولى. (113)
561

ثم إنه لا فرق في جواز مطالبة المالك بالمثل بين كونه في مكان التلف أو
غيره.
ولا بين كون قيمته في مكان المطالبة أزيد من قيمته في مكان التلف، أم لا،
وفاقا لظاهر المحكي عن السرائر والتذكرة والإيضاح والدروس وجامع
المقاصد.
562

وفي السرائر أنه الذي يقتضيه عدم الإسلام والأدلة وأصول المذهب، وهو
كذلك لعموم الناس مسلطون على أموالهم هذا مع وجود المثل في بلد
المطالبة، وأما مع تعذره فسيأتي حكمه في المسألة السادسة.
563

السادس
لو تعذر المثل في المثلي، فمقتضى القاعدة وجوب دفع القيمة مع مطالبة
المالك، لأن منع المالك ظلم، وإلزام الضامن بالمثل منفي بالتعذر، فوجب
القيمة، جمعا بين الحقين (115).
564

مضافا إلى قوله تعالى: (فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) فإن الضامن
إذا ألزم بالقيمة مع تعذر المثل لم يعتد عليه أزيد مما اعتدى (116).
567

وأما مع عدم مطالبة المالك، فلا دليل على إلزامه بقبول القيمة (117)،
570

لأن المتيقن أن دفع القيمة علاج لمطالبة المالك، وجمع بين حق المالك
بتسليطه على المطالبة وحق الضامن بعدم تكليفه بالمعذور أو المعسور، أما
مع عدم المطالبة فلا دليل على سقوط حقه عن المثل.
وما ذكرناه يظهر من المحكي عن التذكرة والإيضاح، حيث ذكرا في رد بعض
الاحتمالات الآتية في حكم تعذر المثل ما لفظه: إن المثل لا يسقط بالإعواز،
ألا ترى أن المغصوب منه لو صبر إلى زمان وجدان المثل ملك المطالبة به؟
وإنما المصير إلى القيمة وقت تغريمها، إنتهى.
لكن أطلق كثير منهم الحكم بالقيمة عند تعذر المثل، ولعلهم يريدون صورة
المطالبة، وإلا فلا دليل على الإطلاق.
ويؤيد ما ذكرنا: أن المحكي عن الأكثر في باب القرض: أن المعتبر في المثل
المتعذر قيمته يوم المطالبة، نعم عبر بعضهم بيوم الدفع، فليتأمل.
وكيف كان، فلنرجع إلى حكم المسألة (118)
572

فنقول: المشهور أن العبرة في قيمة المثل المتعذر بقيمته يوم الدفع، لأن المثل
ثابت في الذمة إلى ذلك الزمان ولا دليل على سقوطه بتعذره، كما لا يسقط
الدين بتعذر أدائه.
وقد صرح بما ذكرنا المحقق الثاني، وقد عرفت من التذكرة والإيضاح ما يدل
عليه.
574

ويحتمل اعتبار وقت تعذر المثل، وهو للحلي في البيع الفاسد، وللتحرير في
باب القرض، ومحكي عن المسالك، لأنه وقت الانتقال إلى القيمة.
ويضعفه: أنه إن أريد بالانتقال انقلاب ما في الذمة إلى القيمة في ذلك الوقت،
فلا دليل عليه.
وإن أريد عدم وجوب إسقاط ما في الذمة إلا بالقيمة، فوجوب الإسقاط بها
وإن حدث يوم التعذر مع المطالبة.
إلا أنه لو أخر الإسقاط بقي المثل في الذمة إلى تحقق الإسقاط، وإسقاطه في
كل زمان بأداء قيمته في ذلك الزمان وليس في الزمان الثاني مكلفا بما صدق
عليه الإسقاط في الزمان الأول.
578

هذا، ولكن لو استندنا في لزوم القيمة في المسألة إلى ما تقدم سابقا: من الآية،
ومن أن المتبادر من إطلاقات الضمان هو وجوب الرجوع إلى أقرب الأموال
إلى التالف بعد تعذر المثل، توجه القول بصيرورة التالف قيميا بمجرد تعذر
المثل، إذ لا فرق في تعذر المثل بين تحققه ابتداء كما في القيميات، وبين
طروه بعد التمكن، كما في ما نحن فيه. (120)
579

ودعوى: اختصاص الآية وإطلاقات الضمان بالحكم بالقيمة بتعذر المثل ابتداء،
لا يخلو عن تحكم (121).
580

ثم إن في المسألة احتمالات أخر، ذكر أكثرها في القواعد، وقوى بعضها في
الإيضاح، وبعضها بعض الشافعية.
وحاصل جميع الاحتمالات في المسألة مع مبانيها، أنه:
إما أن نقول باستقرار المثل في الذمة إلى أوان الفراغ منه بدفع القيمة، وهو
الذي اخترناه - تبعا للأكثر - من اعتبار القيمة عند الإقباض، وذكره في القواعد
خامس الاحتمالات. (122)
582

وإما أن نقول بصيرورته قيميا عند الإعواز، فإذا صار كذلك، فإما أن نقول: إن
المثل المستقر في الذمة قيمي، فتكون القيمية صفة للمثل بمعنى أنه لو تلف
وجب قيمته. (123)
583

وإما أن نقول: إن المغصوب انقلب قيميا بعد أن كان مثليا (124).
584

فإن قلنا بالأول، فإن جعلنا الاعتبار في القيمي بيوم التلف كما هو أحد الأقوال
كان المتعين قيمة المثل يوم الإعواز، كما صرح به في السرائر في بيع الفاسد،
والتحرير في باب القرض، لأنه يوم تلف القيمي.
وإن جعلنا الاعتبار فيه بزمان الضمان - كما هو القول الآخر في القيمي - كان
المتجه اعتبار زمان تلف العين (125)، لأنه أول أزمنة وجوب المثل في الذمة
المستلزم لضمانه بقيمته عند تلفه، وهذا مبني على القول بالاعتبار في القيمي
بوقت الغصب كما عن الأكثر.
وإن جعلنا الاعتبار فيه بأعلى القيم من زمان الضمان إلى زمان التلف - كما
حكي عن جماعة من القدماء في الغصب - كان المتجه الاعتبار بأعلى القيم من
يوم تلف العين إلى زمان الأعواز، وذكر هذا الوجه في القواعد ثاني
الاحتمالات (126).
586

وإن قلنا: إن التالف انقلب قيميا، احتمل الاعتبار بيوم الغصب - كما في القيمي
المغصوب - والاعتبار بالأعلى منه إلى يوم التلف، وذكر هذا أول الاحتمالات
في القواعد.
وإن قلنا: إن المشترك بين العين والمثل صار قيميا، جاء احتمال الاعتبار
بالأعلى من يوم الضمان إلى يوم تعذر المثل، لاستمرار الضمان فيما قبله من
الزمان، إما للعين وإما للمثل، فهو مناسب لضمان الأعلى من حين الغصب إلى
التلف، وهذا ذكره في القواعد ثالث الاحتمالات.
واحتمل الاعتبار بالأعلى من يوم الغصب إلى دفع المثل، ووجهه في محكي
التذكرة والإيضاح: بأن المثل لا يسقط بالإعواز، قالا: ألا ترى أنه لو صبر
المالك إلى وجدان المثل، استحقه؟ فالمصير إلى القيمة عند تغريمها. والقيمة
الواجبة على الغاصب أعلى القيم.
وحاصله: أن وجوب دفع قيمة المثل يعتبر من زمن وجوبه أو وجوب مبدله
أعني العين فيجب أعلى القيم منها، فافهم.
587

إذا عرفت هذا، فاعلم: أن المناسب لإطلاق كلامهم لضمان المثل في المثلي هو
أنه مع تعذر المثل لا يسقط المثل عن الذمة.
غاية الأمر يجب إسقاطه مع مطالبة المالك، فالعبرة بما هو إسقاط حين الفعل،
فلا عبرة بالقيمة إلا يوم الإسقاط وتفريغ الذمة.
وأما بناء على ما ذكرنا - من أن المتبادر من أدلة الضمان التغريم بالأقرب إلى
التالف فالأقرب - كان المثل مقدما مع تيسره، ومع تعذره ابتداء كما في
القيمي، أو بعد التمكن كما فيما نحن فيه، كان المتعين هو القيمة (128).
فالقيمة قيمة للمغصوب من حين صار قيميا، وهو حال الإعواز.
فحال الإعواز معتبر من حيث أنه أول أزمنة صيرورة التالف قيميا، لا من حيث
ملاحظة القيمة قيمة للمثل دون العين، فعلى القول باعتبار يوم التلف في
القيمي توجه ما اختاره الحلي قدس سره.
ولو قلنا بضمان القيمي بأعلى القيم من حين الغصب إلى حين التلف - كما عليه
جماعة من القدماء - توجه ضمانه فيما نحن فيه بأعلى القيم من حين الغصب
إلى زمان الإعواز، إذ كما أن ارتفاع القيمة مع بقاء العين مضمون بشرط تعذر
أدائه المتدارك لارتفاع القيم، كذلك بشرط تعذر المثل في المثلي، إذ مع رد
المثل يرتفع ضمان القيمة السوقية.
588

وحيث كانت العين فيما نحن فيه مثلية كان أداء مثلها عند تلفها كرد عينها في
إلغاء ارتفاع القيم، فاستقرار ارتفاع القيم إنما يحصل بتلف العين والمثل.
فإن قلنا: إن تعذر المثل يسقط المثل (130) كما أن تلف العين يسقط العين
توجه القول بضمان القيمة من زمان الغصب إلى زمان الإعواز، وهو أصح
الاحتمالات في المسألة عند الشافعية على ما قيل.
وإن قلنا: إن تعذر المثل لا يسقط المثل وليس كتلف العين، كان ارتفاع القيمة
فيما بعد تعذر المثل أيضا مضمونا، فيتوجه ضمان القيمة من حين الغصب إلى
حين دفع القيمة، وهو المحكي عن الإيضاح، وهو أوجه الاحتمالات على القول
بضمان ارتفاع القيمة مراعى بعدم رد العين أو المثل (131).
589

ثم اعلم: أن العلامة ذكر في عنوان هذه الاحتمالات: أنه لو تلف المثلي
والمثل موجود ثم أعوز وظاهره اختصاص هذه الاحتمالات بما إذا طرأ تعذر
المثل بعد تيسره في بعض أزمنة التلف، لا ما تعذر فيه المثل ابتداء (132).
وعن جامع المقاصد: أنه يتعين حينئذ قيمته يوم التلف، ولعله لعدم تنجز
التكليف بالمثل عليه في وقت من الأوقات (133).
590

ويمكن أن يخدش فيه: بأن التمكن من المثل ليس بشرط لحدوثه في
الذمة ابتداء، كما لا يشترط في استقراره استدامة - على ما اعترف به - مع
طرو التعذر بعد التلف، ولذا لم يذكر أحد هذا التفصيل في باب القرض.
وبالجملة، فاشتغال الذمة بالمثل إن قيد بالتمكن لزم الحكم بارتفاعه بطرو
التعذر، وإلا لزم الحكم بحدوثه مع التعذر من أول الأمر، إلا أن يقول: إن أدلة
وجوب المثل ظاهرة في صورة التمكن وإن لم يكن مشروطا به عقلا، فلا تعم
صورة العجز (134).
نعم، إذا طرأ العجز فلا دليل على سقوط المثل وانقلابه قيميا (135).
وقد يقال على المحقق المذكور: إن اللازم مما ذكره أنه لو ظفر المالك
بالمثل قبل أخذ القيمة لم يكن له المطالبة، ولا أظن أحدا يلتزمه، وفيه تأمل.
وعن جامع المقاصد: الرجوع فيه إلى العرف.
591

ويمكن أن يقال: إن مقتضى عموم وجوب أداء مال الناس وتسليطهم على
أموالهم أعيانا كانت أم في الذمة: وجوب تحصيل المثل كما كان يجب رد العين
أينما كانت ولو كانت في تحصيله مؤونة كثيرة، ولذا كان يجب تحصيل المثل
بأي ثمن كان (137)، وليس هنا تحديد التكليف بما عن التذكرة.
نعم، لو انعقد الإجماع على ثبوت القيمة عند الإعواز تعين ما عن جامع
المقاصد، كما أن المجمعين إذا كانوا بين معبر بالإعواز ومعبر بالتعذر، كان
المتيقن الرجوع إلى الأخص وهو التعذر، لأنه المجمع عليه.
نعم، ورد في بعض أخبار المسلم: أنه إذا لم يقدر المسلم إليه على إيفاء
المسلم فيه تخير المشتري.
ومن المعلوم: أن المراد بعدم القدرة ليس التعذر العقلي المتوقف على
استحالة النقل من بلد آخر، بل الظاهر منه عرفا ما عن التذكرة، وهذا يستأنس
به للحكم فيما نحن فيه (138).
592

ثم، إن في معرفة قيمة المثل مع فرض عدمه إشكالا، من حيث إن العبرة
بفرض وجوده ولو في غاية العزة - كالفاكهة في أول زمانها أو آخره - أو وجود
المتوسط؟ الظاهر هو الأول، لكن مع فرض وجوده بحيث يرغب في بيعه
وشرائه، فلا عبرة بفرض وجوده عند من يستغني عن بيعه بحيث لا يبيعه إلا إذا
بذل له عوض لا يبذله الراغبون في هذا الجنس بمقتضى رغبتهم. نعم، لو
ألجئ إلى شرائه لغرض آخر بذل ذلك، كما لو فرض الجمد في الصيف عند
ملك العراق، بحيث لا يعطيه إلا أن يبذله بإزاء عتاق الخيل وشبهها.
593

فإن الراغب في الجمد في العراق من حيث إنه راغب لا يبذل هذا العوض
بإزائه، وإنما يبذله من يحتاج إليه لغرض آخر كالإهداء إلى سلطان قادم إلى
العراق مثلا، أو معالجة مشرف على الهلاك به، ونحو ذلك من الأغراض.
ولذا لو وجد هذا الفرد من المثل لم يقدح في صدق التعذر كما ذكرنا في
المسألة الخامسة.
فكل موجود لا يقدح وجوده في صدق التعذر فلا عبرة بفرض وجوده في
التقويم عند عدمه (140).
ثم إنك قد عرفت أن للمالك مطالبة الضامن بالمثل عند تمكنه ولو كان في
غير بلد الضمان وكان قيمة المثل هناك أزيد.
وأما مع تعذره وكون قيمة المثل في بلد التلف مخالفا لها في بلد المطالبة،
فهل له المطالبة بأعلى القيمتين، أم يتعين قيمة بلد المطالبة، أم بلد التلف؟
وجوه. (141) وفصل الشيخ في المبسوط في باب الغصب: بأنه إن لم يكن في
596

نقله مؤونة كالنقدين فله المطالبة بالمثل، سواء أكانت القيمتان مختلفتين أم لا.
وإن كان في نقله مؤونة، فإن كانت القيمتان متساويتين كان له المطالبة
أيضا، لأنه لا ضرر عليه في ذلك، وإلا فالحكم أن يأخذ قيمة بلد التلف أو
يصبر حتى يوفيه بذلك البلد.
597

ثم قال: إن الكلام في القرض كالكلام في الغصب. وحكي نحو هذا عن
القاضي أيضا (142)، فتدبر.
598

يمكن أن يقال: إن الحكم باعتبار بلد القرض أو السلم على القول به مع
الإطلاق لانصراف العقد إليه، وليس في باب الضمان ما يوجب هذا
الانصراف. (143)
بقي الكلام في أنه هل يعد من تعذر المثل خروجه عن القيمة كالماء على
الشاطئ إذا أتلفه في مفازة، والجمد في الشتاء إذا أتلفه في الصيف أم
لا؟ (144)
599

الأقوى بل المتعين هو الأول (145)، بل حكي عن بعض نسبته إلى
الأصحاب وغيرهم. والمصرح به في محكي التذكرة والإيضاح والدروس:
قيمة المثل في تلك المفازة.
601

ويحتمل آخر مكان أو زمان سقط المثل فيه عن المالية. (146)
602

(فروع)
لو دفع القيمة في المثلي المتعذر مثله ثم تمكن من المثل (147).
603

فالظاهر عدم عود المثل في ذمته، وفاقا للعلامة قدس سره ومن تأخر عنه ممن
تعرض للمسألة، لأن المثل كان دينا في الذمة سقط بأداء عوضه مع التراضي
فلا يعود، كما لو تراضيا بعوضه مع وجوده (148).
604

هذا على المختار، من عدم سقوط المثل عن الذمة بالإعواز، وأما على
القول بسقوطه وانقلابه قيميا، فإن قلنا: بأن المغصوب انقلب قيميا عند تعذر
مثله، فأولى بالسقوط، لأن المدفوع نفس ما في الذمة.
وإن قلنا: بأن المثل بتعذره - النازل منزلة التلف - صار قيميا، احتمل
وجوب المثل عند وجوده، لأن القيمة حينئذ بدل الحيلولة عن المثل، وسيأتي
أن حكمه عود المبدل عند انتفاء الحيلولة (149).
605

السابع
لو كان التالف المبيع فاسدا قيميا، فقد حكي: الاتفاق على كونه مضمونا
بالقيمة (150).
ويدل: عليه الأخبار المتفرقة في كثير من القيميات، فلا حاجة إلى التمسك
بصحيحة أبي ولاد الآتية في ضمان البغل (151)، ولا بقوله عليه السلام: (من أعتق
شقصا من عبد قوم عليه) بل الأخبار كثيرة، بل قد عرفت أن مقتضى إطلاق
أدلة الضمان في القيميات هو ذلك بحسب المتعارف (152)، إلا أن المتيقن من
هذا المتعارف ما كان المثل فيه متعذرا. بل يمكن دعوى انصراف الإطلاقات
الواردة في خصوص بعض القيميات كالبغل والعبد ونحوهما لصورة تعذر
المثل، كما هو الغالب.
607

فالمرجع في وجوب القيمة في القيمي وإن فرض تيسر المثل له - كما في
من أتلف عبدا من شخص باعه عبدا موصوفا بصفات ذلك العبد بعينه (154)،
وكما لو أتلف عليه ذراعا من مائة ذراع كرباس منسوج على طريقة واحدة لا
تفاوت في أجزائه أصلا هو الإجماع، كما يستظهر.
وعلى تقديره، ففي شموله لصورة تيسر المثل من جميع الجهات تأمل،
608

خصوصا مع الاستدلال عليه كما في الخلاف وغيره بقوله تعالى: (فاعتدوا
عليه بمثل ما اعتدى عليكم). بناء على أن القيمة مماثلة للتالف في المالية، فإن
ظاهر ذلك جعلها من باب الأقرب إلى التالف بعد تعذر المثل. (155)
وكيف كان، فقد حكي الخلاف في ذلك عن الإسكافي، وعن الشيخ
والمحقق في الخلاف والشرائع في باب القرض (156).
فإن أرادوا ذلك مطلقا حتى مع تعذر المثل فيكون القيمة عندهم بدلا عن
المثل حتى يترتب عليه وجوب قيمة يوم دفعها - كما ذكروا ذلك احتمالا في
مسألة تعين القيمة متفرعا على هذا القول - فيرده إطلاقات الروايات الكثيرة
في موارد كثيرة.
منها: صحيحة أبي ولاد الآتية.
609

ومنها: رواية تقويم العبد.
ومنها: ما دل على أنه إذا تلف الرهن بتفريط المرتهن سقط من ذمته
بحساب ذلك، فلولا ضمان التالف بالقيمة لم يكن وجه لسقوط الدين بمجرد
ضمان التالف. (157)
ومنها: غير ذلك من الأخبار الكثيرة (158).
610

وإن أرادوا أنه مع تيسر المثل يجب المثل لم يكن بعيدا (159)، نظرا إلى
ظاهر آية الاعتداء ونفي الضرر (160)، لأن خصوصيات الحقائق قد تقصد.
اللهم إلا أن يحقق إجماع على خلافه ولو من جهة أن ظاهر كلمات هؤلاء
إطلاق القول بضمان المثل (161)، فيكون الفصل بين التيسر وعدمه قولا ثالثا
في المسألة (162).
ثم إنهم اختلفوا في تعيين القيمة في المقبوض بالبيع الفاسد (163).
611

فالمحكي في غاية المراد عن الشيخين وأتباعهما: تعين قيمة يوم التلف،
وعن الدروس والروضة نسبته إلى الأكثر.
والوجه فيه - على ما نبه عليه جماعة، منهم العلامة في التحرير -: أن
الانتقال إي البد إنما هو يوم التلف، إذ الواجب قبله هو رد العين.
وربما يورد عليه: أن يوم التلف يوم الانتقال إلى القيمة، أما كون المنتقل
إليها قيمة يوم التلف فلا.
ويدفع: بأن معنى ضمان العين عند قبضه: كونه في عهدته، ومعنى ذلك
وجوب تداركه ببدله عند التلف، حتى يكون عند التلف كأنه لم يتلف، وتداركه
على هذا النحو بالتزام مال معادل له قائم مقامه (164).
615

ومما ذكرنا ظهر أن الأصل في ضمان التالف: ضمانه بقيمته يوم التلف، فإن
خرج المغصوب من ذلك مثلا فبدليل من خارج. (165)
617

نعم، لو تم ما تقدم عن الحلي في هذا المقام: من دعوى الاتفاق على كون
البيع فاسدا بمنزلة المغصوب إلا في ارتفاع الإثم، ألحقناه بالمغصوب إن ثبت
فيه حكم مخالف لهذا الأصل، بل يمكن أن يقال: إذا ثبت في المغصوب
الاعتبار بقيمة يوم الغصب - كما هو ظاهر صحيحة أبي ولاد الآتية - كشف
ذلك عن عدم اقتضاء إطلاقات الضمان لاعتبار قيمة يوم التلف، إذ يلزم حينئذ
أن يكون المغصوب عند كون قيمته يوم التلف أضعاف ما كانت يوم الغصب
غير واجب التدارك عند يوم التلف، لما ذكرنا من أن معنى التدارك التزام بقيمته
يوم وجوب التدارك (166).
618

نعم، لو فرض دلالة الصحيحة على وجوب أعلى القيم، أمكن جعل التزام
الغاصب بالزائد على مقتضى التدارك مؤاخذة له بأشق الأحوال.
فالمهم حينئذ صرف الكلام إلى معنى الصحيحة بعد ذكرها، ليلحق به البيع
الفاسد، إما لما ادعاه الحلي، وإما لكشف الصحيحة عن معنى التدارك والغرامة
في المضمونات، وكون العبرة في جميعها بيوم الضمان، كما هو أحد الأقوال
فيما نحن فيه من البيع الفاسد.
619

وحيث إن الصحيحة مشتملة على أحكام كثيرة وفوائد خطيرة، فلا بأس
بذكرها جميعا وإن كان الغرض متعلقا ببعضها.
فروى الشيخ في الصحيح عن أبي ولاد، قال: اكتريت بغلا إلى قصر بني
هبيرة ذاهبا وجائيا بكذا وكذا، وخرجت في طلب غريم لي. فلما صرت إلى
قرب قنطرة الكوفة خبرت أن صاحبي توجه إلى النيل، فتوجهت نحو النيل،
فلما أتيت خبرت أنه توجه إلى بغداد، فأتبعته فظفرت به وفرغت فيما بيني
وبينه، ورجعت إلى الكوفة، وكان ذهابي ومجيئي خمسة عشر يوما، فأخبرت
صاحب البغل بعذري، وأردت أن أتحلل منه فيما صنعت وأرضيه، فبذلت له
خمسة عشر درهما فأبى أن يقبل، فتراضينا بأبي حنيفة، وأخبرته بالقصة وأخبره
الرجل، فقال لي: ما صنعت بالبغل؟
فقلت: قد رجعته سليما.
620

قال: نعم، بعد خمسة عشر يوما! قال: فما تريد من الرجل؟
قال: أريد كري بغلي فقد حبسه علي خمسة عشر يوما. فقال: إني ما أرى
لك حقا، لأنه اكتراه إلى قصر بني هبيرة فخالف فركبه إلى النيل وإلى بغداد،
فضمن قيمة البغل وسقط الكري، فلما رد البغل سليما وقبضته لم يلزمه الكري.
قال: فخرجنا من عنده وجعل صاحب البغل يسترجع، فرحمته مما أفتى به أبو
حنيفة، وأعطيته شيئا وتحللت منه، وحججت تلك السنة.
فأخبرت أبا عبد الله عليه السلام بما أفتى به أبو حنيفة.
فقال عليه السلام: في مثل هذا القضاء وشبهه تحبس السماء ماءها وتمنع الأرض
بركتها. قال: فقلت لأبي عبد الله عليه السلام فما ترى أنت؟
قال: أرى له عليك مثل كري البغل ذاهبا من الكوفة إلى النيل ومثل كري
البغل من النيل إلى بغداد، ومثل كري البغل من بغداد إلى الكوفة، وتوفيه إياه.
قال: قلت: جعلت فداك، قد علفته بدراهم، فلي عليه علفه؟
قال عليه السلام: لا، لأنك غاصب. فقلت: أرأيت لو عطب البغل أو أنفق، أليس كان
يلزمني؟
قال عليه السلام: نعم، قيمة بغل يوم خالفته.
قلت: فإن أصاب البغل كسر أو دبر أو عقر؟
فقال عليه السلام: عليك قيمة ما بين الصحة والعيب يوم ترده عليه.
قلت: فمن يعرف ذلك؟ قال عليه السلام: أنت وهو، إما أن يحلف هو على القيمة
فيلزمك، فإن رد اليمين عليك فحلفت على القيمة لزمك ذلك، أو يأتي صاحب
البغل بشهود يشهدون أن قيمة البغل حين اكتري كذا وكذا فيلزمك. (*)
621

قلت: إني أعطيته دراهم ورضي بها وحللني. قال عليه السلام: إنما رضي فأحلك
حين قضى عليه أبو حنيفة بالجور والظلم، ولكن ارجع إليه وأخبره بما أفتيتك
به، فإن جعلك في حل بعد معرفته فلا شئ عليك بعد ذلك... الخبر) (168).
ومحل الاستشهاد فيه فقرتان:
الأولى: قوله: (نعم، قيمة بغل يوم خالفته) إلى ما بعد، فإن الظاهر أن اليوم
قيد للقيمة، إما بإضافة القيمة المضافة إلى البغل إليه ثانيا، يعني قيمة يوم
الخالفة للبغل، فيكون إسقاط حرف التعريف من البغل للإضافة، لا لأن ذا
القيمة بغل غير معين، حتى توهم الرواية مذهب من جعل القيمي مضمونا
بالمثل، والقيمة إنما هي قيمة المثل.
622

وإما بجعل اليوم قيدا للاختصاص الحاصل من إضافة القيمة إلى
البغل (170).
624

وأما ما احتمله جماعة من تعلق الظرف بقوله: (نعم) القائم مقام قوله عليه السلام:
(يلزمك) يعني يلزمك يوم المخالفة قيمة بغل - فبعيد جدا، بل غير
ممكن (171).
626

لأن السائل إنما سأل عما يلزمه بعد التلف بسبب المخالفة بعد العلم بكون
زمان المخالفة زمان حدوث الضمان. كما يدل عليه: (أرأيت لو عطب البغل، أو
نفق أليس كان يلزمني؟)، فقوله: (نعم) يعني يلزمك بعد التلف بسبب المخالفة
قيمة بغل يوم خالفته.
627

وقد أطنب بعض في جعل الفقرة ظاهرة في تعلق الظرف بلزوم القيمة عليه،
ولم يأت بشئ يساعده التركيب اللغوي، ولا المتفاهم العرفي (173).
629

الثانية قوله: (أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أن قيمة البغل يوم
اكتري كذا وكذا)، فإن إثبات قيمة يوم الاكتراء من حيث هو يوم الاكتراء لا
جدوى فيه (174)، لعدم الاعتبار به، فلا بد أن يكون الغرض منه إثبات قيمة يوم
المخالفة، بناء على أنه يوم الاكتراء، لأن الظاهر من صدر الرواية أنه خالف
المالك بمجرد خروجه من الكوفة، ومن المعلوم أن اكتراء البغل لمثل تلك
المسافة القليلة إنما يكون يوم الخروج، أو في عصر اليوم السابق. ومعلوم
أيضا عدم اختلاف القيمة في هذه المدة القليلة (175).
630

وأما قوله عليه السلام في جواب السؤال عن إصابة العيب: (عليك قيمة ما بين
الصحة والعيب يوم ترده) فالظرف متعلق ب‍ (عليك) لا قيد للقيمة. إذ لا عبرة
في أرش العيب بيوم الرد إجماعا، لأن النقص الحادث تابع في تعيين يوم قيمته
لأصل العين.
631

فالمعنى: عليك أداء الأرش يوم رد البغلة (177).
633

ويحتمل أن يكون قيدا ل‍ (العيب)، والمراد: العيب الموجود في يوم الرد،
لاحتمال ازدياد العيب إلى يوم الرد فهو المضمون، دون العيب القليل الحادث
أولا.
635

لكن يحتمل أن يكون العيب قد تناقص إلى يوم الرد، والعبرة حينئذ بالعيب
الموجود حال حدوثه، لأن المعيب لو رد إلى الصحة أو نقص لم يسقط ضمان
ما حدث منه وارتفع على مقتضى الفتوى (179)، فهذا الاحتمال من هذه الجهة
ضعيف أيضا، فتعين تعلقه بقوله عليه السلام: (عليك). (180)
636

والمراد ب‍ (قيمة ما بين الصحة والعيب) قيمة التفاوت بين الصحة والعيب،
ولا تعرض في الرواية ليوم هذه القيمة، فيحتمل يوم الغصب، ويحتمل يوم
حدوث العيب الذي هو يوم تلف وصف الصحة الذي هو بمنزلة جزء العين في
باب الضمانات والمعاوضات، وحيث عرفت ظهور الفقرة السابقة عليه
واللاحقة له في اعتبار يوم الغصب، تعين حمل هذا أيضا على ذلك.
نعم، يمكن أن يوهن ما استظهرناه من الصحيحة بأنه لا يبعد أن يكون
مبنى الحكم في الرواية على ما هو الغالب في مثل مورد الرواية من عدم
اختلاف قيمة البغل في مدة خمسة عشر يوما، ويكون السر في التعبير ب‍ (يوم
المخالفة) دفع ما ربما يتوهمه أمثال صاحب البغل من العوام: أن العبرة بقيمة
ما اشتري به البغل وإن نقص بعد ذلك، لأنه خسره المبلغ الذي اشترى به
البغلة.
ويؤيده: التعبير عن يوم المخالفة في ذيل الرواية ب‍ (يوم الاكتراء) فإن فيه
إشعارا بعدم عناية المتكلم بيوم المخالفة من حيث إنه يوم المخالفة.
إلا أن يقال: إن الوجه في التعبير بيوم الاكتراء مع كون المناط يوم المخالفة
هو التنبيه على سهولة إقامة الشهود على قيمته في زمان الاكتراء، لكون البغل
فيه غالبا بمشهد من الناس وجماعة من المكارين، بخلاف زمان المخالفة من
حيث إنه زمان المخالفة، فتغيير التعبير ليس لعدم العبرة بزمان المخالفة، بل
للتنبيه على سهولة معرفة القيمة بالبينة كاليمين، في مقابل قول السائل: (ومن
يعرف ذلك؟)، فتأمل. (181)
637

ويؤيده أيضا: قوله عليه السلام في ما بعد، في جواب قول السائل: (ومن يعرف
ذلك؟) قال: (أنت وهو، إما أن يحلف هو على القيمة فيلزمك، فإن رد اليمين
عليك فحلفت على القيمة لزمه، أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون على أن
قيمة البغل يوم اكتري كذا وكذا، فيلزمك... الخبر)، فإن العبرة لو كان بخصوص
يوم المخالفة لم يكن وجه لكون القول قول المالك مع كونه مخالفا
للأصل. (182)
638

ثم لا وجه لقبول بينته، لأن من كان القول قوله فالبينة بينة صاحبه (183).
640

وحمل الحلف هنا على الحلف المتعارف الذي يرضى به المحلوف له
ويصدقه فيه من دون محاكمة والتعبير برده اليمين على الغاصب من جهة أن
المالك أعرف بقيمة بغله، فكأن الحلف حق له ابتداء - خلاف الظاهر.
641

وهذا بخلاف ما لو اعتبرنا يوم التلف، فإنه يمكن أن يحمل توجه اليمين
642

على المالك على ما إذا اختلفا في تنزل القيمة يوم التلف مع اتفاقهما أولا
الاطلاع من الخارج على قيمته سابقا (185).
ولا شك حينئذ أن القول قول المالك، ويكون سماع البينة في صورة
اختلافهما في قيمة البغل سابقا مع اتفاقهما على بقائه عليها إلى يوم التلف،
فتكون الرواية قد تكفلت بحكم صورتين من صور تنازعهما، ويبقى بعض
643

الصور، مثل دعوى المالك زيادة قيمة يوم التلف عن يوم المخالفة، ولعل
حكمها أعني حلف الغاصب - يعلم من حكم عكسها المذكور في
الرواية. (186)
وأما على تقدير كون العبرة في القيمة بيوم المخالفة، فلا بد من حمل
الرواية على ما إذا اتفقا على قيمة اليوم السابق على يوم المخالفة، أو اللاحق
له وادعى الغاصب نقصانه عن تلك يوم المخالفة، ولا يخفى بعده (187). وأبعد
منه: حمل النص على التعبد، وجعل الحكم في خصوص الدابة المغصوبة أو
مطلقا مخالفا للقاعدة المتفق عليها نصا وفتوى: من كون البينة على المدعي
واليمين على من أنكر، كما حكي عن الشيخ في بابي الإجارة والغصب (188).
644

وأضعف من ذلك: الاستشهاد بالرواية على اعتبار أعلى القيم من حين
الغصب إلى التلف - كما حكي عن الشهيد الثاني - إذ لم يعلم لذلك وجه
صحيح، ولم أظفر بمن وجه دلالتها على هذا المطلب (189).
645

نعم، استدلوا على هذا القول بأن العين مضمونة في جميع تلك الأزمنة
التي منها زمان ارتفاع قيمته (133).
646

وفيه: إن ضمانها في تلك الحال، إن أريد به وجوب قيمة ذلك الزمان لو
تلف فيه فمسلم، إذ تداركه لا يكون إلا بذلك، لكن المفروض أنها لم تتلف
فيه (191).
وإن أريد به استقرار قيمة ذلك الزمان عليه فعلا وإن تنزلت بعد ذلك، فهو
مخالف لما تسالموا عليه من عدم ضمان ارتفاع القيمة مع رد العين. (192)
649

وإن أريد استقرارها عليه بمجرد الارتفاع مراعى بالتلف، فهو وإن لم
يخالف الاتفاق إلا أنه مخالف لأصالة البراءة من غير دليل شاغل، عدا ما حكاه
في الرياض عن خاله العلامة قدس سره من قاعدة نفي الضرر الحاصل على المالك.
وفيه نظر، كما اعترف به بعض من تأخر (193).
650

نعم، يمكن توجيه الاستدلال المتقدم من كون العين مضمونة في جميع
الأزمنة: بأن العين إذا ارتفعت قيمتها في زمان وصار ماليتها مقومة بتلك
القيمة، فكما أنه إذا تلفت حينئذ يجب تداركها بتلك القيمة.
فكذا إذا حيل بينها وبين المالك حتى تلفت، إذ لا فرق مع عدم التمكن
منها بين أن تتلف أو تبقى.
نعم، لو ردت تدارك تلك المالية بنفس العين، وارتفاع القيمة السوقية أمر
اعتباري لا يضمن بنفسه، لعدم كونه مالا، وإنما هو مقوم لمالية المال، وبه
تمايز الأموال كثرة وقلة. (194)
651

والحاصل: أن للعين في كل زمان من أزمنة تفاوت قيمته مرتبة من المالية،
أزيلت يد المالك منها وانقطعت سلطنته عنها، فإن ردت العين فلا مال سواها
يضمن، وإن تلفت استقرت عليا تلك المراتب، لدخول الأدنى تحت الأعلى،
نظير ما لو فرض للعين منافع متفاوتة متضادة، حيث إنه يضمن الأعلى
منها (195). ولأجل ذلك استدل العلامة في التحرير للقول باعتبار يوم الغصب
بقوله: لأنه زمان إزالة يد المالك.
652

ونقول في توضيحه: إن كل زمان من أزمنة الغصب قد أزيلت فيه يد
المالك من العين على حسب ماليته، ففي زمان أزيلت من مقدار درهم، وفي
آخر عن درهمين، وفي ثالث عن ثلاثة، فإذا استمرت الإزالة إلى زمان التلف
وجبت غرامة أكثرها (196)، فتأمل.
653

واستدل في السرائر وغيرها على هذا القول بأصالة الاشتغال، لاشتغال
ذمته بحق المالك، ولا يحصل البراءة إلا بالأعلى.
وقد يجاب بأن الأصل في المقام البراءة، حيث إن الشك في التكليف
بالزائد (197).
نعم، لا بأس بالتمسك باستصحاب الضمان المستفاد من حديث اليد (198).
654

ثم إنه حكي عن المفيد والقاضي والحلبي: الاعتبار بيوم البيع فيما كان
فساده من جهة التفويض إلى حكم المشتري، ولم يعلم له وجه، ولعلهم
يريدون به يوم القبض، لغلبة اتحاد زمان البيع والقبض، فافهم. (199)
ثم إنه لا عبرة بزيادة القيمة بعد التلف على جميع الأقوال، (200) إلا أنه
تردد فيه في الشرائع، ولعله - كما قيل - من جهة احتمال كون القيمي مضمونا
بمثله، ودفع القيمة إنما هو لإسقاط المثل.
وقد تقدم أنه مخالف لإطلاق النصوص والفتاوى (201).
656

ثم إن ما ذكرنا من الخلاف إنما هو في ارتفاع القيمة بحسب الأزمنة، وأما
إذا كان بسبب الأمكنة، كما إذا كان في محل الضمان بعشرة، وفي مكان التلف
بعشرين، وفي مكان المطالبة بثلاثين، فالظاهر اعتبار محل التلف، لأن مالية
الشئ تختلف بحسب الأماكن، وتداركه بحسب ماليته. (132)
ثم إن جميع ما ذكرنا من الخلاف إنما هو في ارتفاع القيمة السوقية الناشئة
من تفاوت رغبة الناس، وأما إذا كان حاصلا من زيادة في العين.
657

فالظاهر كما قيل عدم الخلاف في ضمان أعلى القيم، وفي الحقيقة ليست
قيم التالف مختلفة، وإنما زيادتها في بعض أوقات الضمان لأجل الزيادة العينية
الحاصلة فيه النازلة منزلة الجزء الفائت. (203)
658

نعم، يجري الخلاف المتقدم في قيمة هذه الزيادة الفائتة، وأن العبرة بيوم
فواتها أو يوم ضمانها أو أعلى القيم (204).
ثم إن في حكم تلف العين في جميع ما ذكر - من ضمان المثل أو القيمة -
حكم تعذر الوصول إليه وإن لم يهلك كما لو سرق أو غرق أو ضاع أو أبق، لما
دل على الضمان بهذه الأمور في باب الأمانات المضمونة (205).
659

وهل يقيد ذلك بما إذا حصل اليأس من الوصول إليه، أو بعدم رجاء
وجدانه، أو يشمل ما لو علم وجدانه في مدة طويلة يتضرر المالك من
انتظارها، أو ولو كانت قصيرة؟ وجوه.
ظاهر أدلة ما ذكر من الأمور: الاختصاص بأحد الأولين، لكن ظاهر إطلاق
الفتاوى الأخير، كما يظهر من إطلاقهم أن اللوح المغصوب في السفينة إذا
خيف من نزعه غرق مال لغير الغاصب انتقل إلى قيمته إلى أن يبلغ الساحل.
666

ويؤيده: أن فيه جمعا بين الحقين بعد فرض رجوع القيمة إلى ملك الضامن
عند التمكن من العين، فإن تسلط الناس على مالهم الذي فرض كونه في
عهدته يقتضي جواز مطالبة الخروج عن عهدته عند تعذر نفسه. (206)
667

نظير ما تقدم في تسلطه على مطالبة القيمة للمثل المتعذر في
المثلي (207).
نعم، لو كان زمان التعذر قصيرا جدا، بحيث لا يحصل صدق عنوان الغرامة
والتدارك على أداء القيمة، أشكل الحكم.
ثم الظاهر عدم اعتبار التعذر المسقط للتكليف، بل لو كان ممكنا بحيث
يجب عليه السعي في مقدماته لم يسقط القيمة زمان السعي، لكن ظاهر كلمات
بعضهم: التعبير بالتعذر، وهو الأوفق بأصالة عدم تسلط المالك على أزيد من
إلزامه برد العين (208)، فتأمل.
668

ولعل المراد به التعذر في الحال وإن كان لتوقفه على مقدمات زمانية
يتأخر لأجلها ذو المقدمة (209).
ثم إن ثبوت القيمة مع تعذر العين ليس كثبوتها مع تلفها في كون دفعها
حقا للضامن. (210)
669

فلا يجوز للمالك الامتناع، بل له أن يمتنع من أخذها ويصبر إلى زوال
العذر (211)، كما صرح به الشيخ في المبسوط.
ويدل عليه قاعدة تسلط الناس على أموالهم (212).
671

وكما أن تعذر رد العين في حكم التلف فكذا خروجه عن التقويم (213).
ثم إن المال المبذول يملكه المالك بلا خلاف. (214)
673

كما في المبسوط والخلاف والغنية والسرائر وظاهرهم إرادة نفي الخلاف
بين المسلمين ولعل الوجه فيه: أن التدارك لا يتحقق إلا بذلك.
ولولا ظهور الإجماع وأدلة الغرامة في الملكية لاحتملنا أن يكون مباحا له
إباحة مطلقة وإن لم يدخل في ملكه، نظير الإباحة المطلقة في المعاطاة على
القول بها فيها، ويكون دخوله في ملكه مشروطا بتلف العين، وحكي الجزم
بهذا الاحتمال عن المحقق القمي قدس سره في أجوبة مسائله.
675

وعلى أي حال، فلا ينتقل العين إلى الضامن، فهي غرامة لا تلازم فيها بين
خروج المبذول عن ملكه ودخول العين في ملكه، وليست معاوضة ليلزم
الجمع بين العوض والمعوض، فالمبذول هنا كالمبذول مع تلف العين في عدم
البدل له (216).
676

وقد استشكل في ذلك المحقق والشهيد الثانيان.
قال الأول في محكي جامعه: إن هنا إشكالا، فإنه كيف يجب القيمة
ويملكها الآخذ ويبقى العين على ملكه؟ وجعلها في مقابلة الحيلولة لا يكاد
يتضح معناه (217)، انتهى.
680

وقال الثاني: إن هذا لا يخلو من إشكال من حيث اجتماع العوض
والمعوض على ملك المالك من دون دليل واضح، ولو قيل بحصول الملك لكل
منهما متزلزلا، وتوقف تملك المغصوب منه للبدل على اليأس من العين وإن
جاز له التصرف، كان وجها في المسألة (218)، انتهى. واستحسنه في محكي
الكفاية.
أقول: الذي ينبغي أن يقال هنا: إن معنى ضمان العين ذهابها من مال
الضامن، ولازم ذلك إقامة مقابله من ماله مقامه، ليصدق ذهابها من كيسه.
ثم إن الذهاب إن كان على وجه التلف الحقيقي، أو العرفي المخرج للعين
عن قابلية الملكية عرفا، وجب قيام مقابله من ماله مقامه في الملكية، وإن كان
الذهاب بمعنى انقطاع سلطنته عنه وفوات الانتفاع به في الوجوه التي بها قوام
الملكية، وجب قيام مقابله مقامه في السلطنة، لا في الملكية، ليكون مقابلا
وتداركا للسلطنة الفائتة، فالتدارك لا يقتضي ملكية المتدارك في هذه الصورة.
681

نعم، لما كانت السلطنة المطلقة المتداركة للسلطنة الفائتة متوقفة على
الملك، لتوقف بعض التصرفات عليها، وجب ملكيته للمبذول تحقيقا لمعنى
التدارك والخروج عن العهدة (219).
682

وعلى أي تقدير: فلا ينبغي الإشكال في بقاء العين المضمونة على ملك
مالكها، إنما الكلام في البدل المبذول، ولا كلام أيضا في وجوب الحكم
بالإباحة وبالسلطنة المطلقة عليها (220).
وبعد ذلك فيرجع محصل الكلام حينئذ إلى أن إباحة جميع التصرفات حتى
المتوقفة على الملك هل تستلزم الملك من حين الإباحة، أو يكفي فيه حصوله
من حين التصرف؟ (221) وقد تقدم في المعاطاة بيان ذلك.
ثم إنه قد تحصل مما ذكرنا: أن تحقق ملكية البدل أو السلطنة المطلقة عليه
مع بقاء العين على ملك مالكها، إنما هو مع فوات معظم الانتفاعات به، بحيث
يعد بذل البدل غرامة وتداركا.
683

أما لو لم يفت إلا بعض ما ليس به قوام الملكية (222)، فالتدارك لا يقتضي
ملكه ولا السلطنة المطلقة على البدل (223).
ولو فرض حكم الشارع بوجوب غرامة قيمته حينئذ لم يبعد انكشاف ذلك
عن انتقال العين إلى الغارم (224).
684

ولذا استظهر غير واحد أن الغارم لقيمة الحيوان الذي وطأه يملكه، لأنه
وإن وجب بالوطء نفيه عن البلد وبيعه في بلد آخر، لكن هذا لا يعد فواتا لما
به قوام المالية (225).
هذا كله مع انقطاع السلطنة عن العين مع بقائها على مقدار ملكيتها
السابقة.
أما لو خرج عن التقويم مع بقائها على صفة الملكية، فمقتضى قاعدة
الضمان وجوب كمال القيمة، مع بقاء العين على ملك المالك (226).
685

لأن القيمة عوض الأوصاف أو الأجزاء (227) التي خرجت العين لفواتها
عن التقويم، لا عوض العين نفسها، كما في الرطوبة الباقية بعد الوضوء بالماء
المغصوب، فإن بقاءها على ملك مالكها لا ينافي معنى الغرامة، لفوات معظم
الانتفاعات به، فيقوى عدم جواز المسح بها إلا بإذن المالك ولو بذل
القيمة (228).
686

قال في القواعد في ما لو خاط ثوبه بخيوطه مغصوبة: ولو طلب المالك
نزعها وإن أفضى إلى التلف وجب، ثم يضمن الغاصب النقص، ولو لم يبق لها
قيمة غرم جميع القيمة، إنتهى.
وعطف على ذلك في محكي جامع المقاصد قوله: ولا يوجب ذلك
خروجها عن ملك المالك، كما سبق من أن جناية الغاصب توجب أكثر الأمرين،
ولو استوعبت القيمة أخذها ولم تدفع العين، إنتهى.
وعن المسالك في هذه المسألة: أنه إن لم يبق له قيمة ضمن جميع القيمة،
ولا يخرج بذلك عن ملك مالكه كما سبق، فيجمع بين العين والقيمة.
687

لكن عن مجمع البرهان في هذه المسألة: اختيار عدم وجوب النزع، بل
قال: يمكن أن لا يجوز ويتعين القيمة، لكونه بمنزلة التف (229)، وحينئذ يمكن
جواز الصلاة في هذا الثوب المخيط، إذ لا غصب فيه يجب رده، كما قيل بجواز
المسح بالرطوبة الباقية من الماء المغصوب الذي حصل العلم به بعد إكمال
الغسل وقبل المسح، إنتهى. واستجوده بعض المعاصرين، ترجيحا لاقتضاء ملك
المالك للقيمة خروج المضمون عن ملكه، لصيرورته عوضا شرعا. وفيه: أنه لا
منشأ لهذا الاقتضاء، وأدلة الضمان قد عرفت أن محصلها يرجع إلى وجوب
تدارك ما ذهب من المالك، سواء كان الذاهب نفس العين كما في التلف
الحقيقي، أو كان الذاهب السلطنة عليها التي بها قوام ماليتها كغرق المال، أو
كان الذاهب الأجزاء أو أوصاف التي يخرج بذهابها العين عن التقويم مع بقاء
ملكيته.
ولا يخفى أن العين على التقدير الأول خارج عن الملكية عرفا.
688

وعلى الثاني: السلطنة المطلقة على البدل بدل عن السلطنة المنقطعة عن
العين، وهذا معنى بدل الحيلولة.
وعلى الثالث: فالمبذول عوض عما خرج المال بذهابه عن التقويم، لا عن
نفس العين (231)، فالمضمون في الحقيقة هي تلك الأوصاف التي تقابل بجميع
القيمة، لا نفس العين الباقية، كيف! ولم تتلف هي (134). وليس لها على تقدير
التلف أيضا عهدة مالية؟ (233)
بل الأمر بردها مجرد تكليف لا يقابل بالمال (234).
689

بل لو استلزم رده ضررا ماليا على الغاصب أمكن سقوطه، فتأمل (235).
ولعل ما عن المسالك: من أن ظاهرهم عدم وجوب إخراج الخيط
المغصوب عن الثوب بعد خروجه عن القيمة بالإخراج، فتعين القيمة فقط،
محمول على صورة تضرر المالك بفساد الثوب المخيط أو البناء المستدخل
فيه الخشبة، كما لا يأبى عنه عنوان المسألة، فلاحظ، وحينئذ فلا تنافي ما تقدم
عنه سابقا: من بقاء الخيط على ملك مالكه وإن وجب بذل قيمته (236).
690

ثم إن هنا قسما رابعا، وهو ما لو خرج المضمون عن الملكية مع بقاء حق
الأولوية فيه، كما لو صار الخل المغصوب خمرا، (237)
691

فاستشكل في القواعد وجوب ردها مع القيمة (238).
693

ولعله من استصحاب وجوب ردها. ومن أن الموضوع في المستصحب
ملك المالك، إذ لم يجب إلا رده ولم يكن المالك إلا أولى به (239).
إلا أن يقال: إن الموضوع في الاستصحاب عرفي (240)، ولذا كان الوجوب
مذهب جماعة، منهم الشهيدان والمحقق الثاني، ويؤيده أنه لو عاد خلا ردت
إلى المالك بلا خلاف ظاهر.
ثم إن مقتضى صدق الغرامة على المدفوع خروج
الغارم عن عهدة العين وضمانها، فلا يضمن ارتفاع قيمة العين بعد الدفع، سواء
كان للسوق أو للزيادة المتصلة، بل المنفصلة - كالثمرة - ولا يضمن منافعه، فلا
يطالب الغارم بالمنفعة بعد ذلك (241).
694

وعن التذكرة وبعض آخر: ضمان المنافع، وقواه في المبسوط بعد أن جعل
الأقوى خلافه. وفي موضع من جامع المقاصد: أنه موضع توقف. وفي موقع
آخر رجح الوجوب. ثم إن ظاهر عطف التعذر على التلف في كلام بعضهم - عند
التعرض لضمان المغصوب بالمثل أو القيمة - يقتضي عدم ضمان ارتفاع القيمة
السوقية الحاصل بعد التعذر وقبل الدفع، كالحاصل بعد التلف (242).
696

لكن مقتضى القاعدة ضمانه له، لأن مع التلف يتعين القيمة، ولذا ليس له
الامتناع من أخذها، بخلاف تعذر العين، فإن القيمة غير متعينة، فلو صبر المالك
حتى يتمكن من العين كان له ذلك ويبقى العين في عهدة الضامن في هذه
المدة، فلو تلفت كان له قيمتها من حين التلف، أو أعلى القيم إليه، أو يوم
الغصب، على الخلاف.
والحاصل: (243) أن قبل دفع القيمة يكون العين الموجودة في عهدة
الضامن، فلا عبرة بيوم التعذر، والحكم بكون يوم التعذر بمنزلة يوم التلف مع
الحكم بضمان الأجرة والنماء إلى دفع البدل وإن تراخى عن التعذر، مما لا
يجتمعان ظاهرا، فمقتضى القاعدة ضمان الارتفاع إلى يوم دفع البدل، نظير دفع
القيمة عن المثل المتعذر في المثلي.
ثم إنه لا إشكال في أنه إذا ارتفع تعذر رد العين وصار ممكنا، وجب ردها
إلى مالكها كما صرح به في جامع المقاصد فورا، وإن كان في إحضارها مؤونة،
كما كان قبل التعذر، لعموم (على اليد ما أخذت حتى تؤدي).
697

ودفع البدل لأجل الحيلولة إنما أفاد خروج الغاصب عن الضمان، بمعنى أنه
لو تلف لم يكن عليه قيمته بعد (245)، واستلزم ذلك على ما اخترناه - عدم
ضمان المنافع والنماء المنفصل والمتصل بعد دفع الغرامة.
وسقوط وجوب الرد حين التعذر للعذر العقلي، فلا يجوز استصحابه، بل
مقتضى الاستصحاب والعموم هو الضمان المدلول عليه بقوله عليه السلام: (على اليد
ما أخذت) المغيا بقوله: (حتى تؤدي) (246).
701

وهل الغرامة المدفوعة تعود ملكه إلى الغارم بمجرد طرو التمكن، فيضمن
العين من يوم التمكن ضمانا جديدا بمثله أو قيمته يوم حدوث الضمان أو يوم
التلف أو أعلى القيم. (247)
702

أو أنها باقية على ملك مالك العين، وكون العين مضمونة بها لا بشئ آخر
في ذمة الغاصب، فلو تلفت استقر ملك المالك على الغرامة، فلم يحدث في
العين إلا حكم تكليفي بوجوب رده، (248) وأما الضمان وعهدة جديدة فلا؟
وجهان:
أظهرهما الثاني، لاستصحاب كون العين مضمونة بالغرامة، وعدم طرو ما
يزيل ملكيته عن الغرامة أو يحدث ضمانا جديدا.
704

ومجرد عود التمكن لا يوجب عود سلطنة المالك حتى يلزم من بقاء
ملكيته على الغرامة الجمع بين العوض والمعوض، غاية ما في باب قدرة
الغاصب على إعادة السلطنة الفائتة المبدلة عنها بالغرامة ووجوبها عليه (250).
وحينئذ، فإن دفع العين فلا إشكال في زوال ملكية المالك للغرامة، وتوهم:
أن المدفوع كان بدلا عن القدر الفائت من السلطنة في زمان التعذر فلا يعود
لعدم عود مبدله، ضعيف في الغاية، بل كان بدلا عن أصل السلطنة يرتفع
بعودها، فيجب دفعه، أو دفع بدله مع تلفه، أو خروجه عن ملكه بناقل لازم بل
جائز، ولا يجب رد نمائه المنفصل.
706

ولو لم يدفعها لم يكن له مطالبة الغرامة أولا، إذ ما لم يتحقق السلطنة لم
يعد الملك إلى الغارم (251)، فإن الغرامة عوض السلطنة لا عوض قدرة
الغاصب على تحصيلها للمالك، فتأمل.
نعم، للمالك مطالبة عين ماله، لعموم (الناس مسلطون على أموالهم)،
وليس ما عنده من المال عوضا من مطلق السلطنة حتى سلطنة المطالبة، بل
سلطنة الانتفاع بها على الوجه المقصود من الأملاك، ولذا لا يباح لغيره بمجرد
بذل الغرامة (252).
ومما ذكرنا يظهر أنه ليس للغاصب حبس العين إلى أن يدفع المالك القيمة،
كما اختاره في التذكرة والإيضاح وجامع المقاصد.
وعن التحرير: الجزم بأن له ذلك، ولعله لأن القيمة عوض إما عن العين،
وإما عن السلطنة عليه، وعلى أي تقدير فيتحقق التراد، وحينئذ فلكل من
صاحبي العوضين حبس ما بيده حتى يتسلم ما بيد الآخر.
707

وفيه: أن العين بنفسها ليست عوضا ولا معوضا، ولذا تحقق للمالك الجمع
بينها وبين الغرامة، فالمالك مسلط عليها، والمعوض للغرامة السلطنة الفائتة
التي هي في معرض العود بالتراد.
اللهم إلا أن يقال: له حبس العين من حيث تضمنه لحبس مبدل الغرامة
وهي السلطنة الفائتة.
والأقوى: الأول. (253)
708

ثم لو قلنا بجواز الحبس، لو حبسه فتلفت العين محبوسا، فالظاهر أنه لا
يجري عليه حكم المغصوب، لأنه حبسه بحق.
710

نعم يضمنه، لأنه قبضه لمصلحة نفسه.
والظاهر أنه بقيمة يوم التلف (254) على ما هو الأصل في كل مضمون ومن
قال بضمان المقبوض بأعلى القيم يقول به هنا من زمان الحبس إلى زمان
التلف.
711

وذكر العلامة في القواعد: أنه لو حبس فتلف محبوسا، فالأقرب ضمان
قيمته الآن واسترجاع القيمة الأولى
والظاهر أن مراده ب‍ (قيمة الآن): مقابل القيمة السابقة، بناء على زوال
حكم الغصب عن العين، لكونه محبوسا بغير عدوان، لا خصوص حين التلف.
وكلمات كثير منهم لا يخلو عن اضطراب.
ثم إن أكثر ما ذكرناه مذكور في كلماتهم في باب الغصب، لكن الظاهر أن
أكثرها بل جميعها حكم المغصوب من حيث كونه مضمونا، إذ ليس في الغصب
خصوصية زائدة.
نعم، ربما يفرق من جهة نص في المغصوب مخالف لقاعدة الضمان، كما
احتمل في الحكم بوجوب قيمة يوم الضمان من جهة صحيحة أبي ولاد أو
أعلى القيم على ما تقدم من الشهيد الثاني دعوى دلالة الصحيحة عليه، وأما ما
اشتهر من أن الغاصب مأخوذ بأشق الأحوال، فلم نعرف له مأخذا واضحا.
ولنختم بذلك أحكام المبيع بالبيع الفاسد وإن بقي منه أحكام أخر أكثر مما
ذكر، ولعل بعضها يجئ في بيع الفضولي إن شاء الله تعالى.
712