الكتاب: دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية
المؤلف: الشيخ المنتظري
الجزء: ٢
الوفاة: معاصر
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق:
الطبعة: الثانية في ايران
سنة الطبع: شوال ١٤٠٩
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الناشر: المركز العالمي للدراسات الإسلامية
ردمك:
ملاحظات: منشورات المركز العالمي للدراسات الإسلامية - قم - ايران - ص . ب ٤٣٩

دراسات
في
ولاية الفقيه
و
فقه الدولة الاسلامية
تعريف الكتاب 1

دراسات
في
ولاية الفقيه
و
فقه الدولة الاسلامية
الجزء الثاني
لمؤلفه المحقق:
سماحة الفقيه المجاهد آية الله العظمى المنتظري
تعريف الكتاب 3

منشورات
المركز العالمي للدراسات الاسلامية
قم - إيران
ص. ب 439
اسم الكتاب: دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الاسلامية - الجزء الأول
المؤلف: آية العظمى المنتظري
الناشر: المركز الإعلام الإسلامي
طبع على مطابع: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: الثانية في ايران
تاريخ النشر: شوال 1409 ه‍. ق
طبع منه: 4000 نسخة
حقوق النشر محفوظة للناشر.
السعر: 220 تومان
تعريف الكتاب 4

بسم الله الرحمن الرحيم
الإهداء:
إلى ولى الأمر وإمام العصر، ولى الأولياء وخاتم الأوصياء، المهدى المنتظر لإقامة القسط والعدل في العالم، -
عجل الله تعالى فرجه المبارك - أهدي هذه البضاعة المزجاة - وإن الهدايا على مقدار مهديها - والمرجو من ساحته
المقدسة أن يتفضل بالقبول، وأن يلحظ لحظاما إلى هذا العبد المحتاج إلى لطفه ونظره الشريف.
تعريف الكتاب 5

الباب السادس
في حدود ولاية الفقيه واختياراته، وواجبات الحاكم الإسلامي تجاه الإسلام و
الأمة، وواجبات الأمة تجاهه
وليس غرضنا في هذا الباب شرح التكاليف بالتفصيل في تمام المراحل، فإنه بنفسه
يستوعب مجلدات ضخمة، بل نقتصر على ذكر بعض الكلمات وبعض الآيات و
الروايات المتعرضة لذلك مع شرح وتوضيح يناسب هذا الكتاب، ونشير إجمالا إلى
السلطات الثلاث التي لابد منها في كل حكومة، وإلى بعض المؤسسات والمراتب
الإدارية والوظائف المهمة.
ويشتمل هذا الباب على خمسة عشر فصلا:
1

الفصل الأول
في أهداف الدولة الإسلامية وما يجب على الحاكم الإسلامي التصدي له في
حكومته
اعلم أنه قد ظهر لك في مطاوي البحث إلى هنا أن الحكومة الإسلامية ليس يراد
بها السلطة على المسلمين وبلادهم والحكم عليهم بما يريده الحاكم ويهواه كيف ما
كان، نظير ما يشاهد من الملوك والرؤساء في غالب البلاد، حيث يعاملون الناس
معاملة المالك مع مملوكه.
بل المراد بها تنفيذ أحكام الإسلام وحدوده، وإدارة شؤون الأمة على أساس
ضوابط الإسلام وقوانينه العادلة، فإن الإسلام دين جامع واسع كافل لجميع ما يحتاج
إليه الإنسان في مراحل حياته الفردية والعائلية والاجتماعية، ويتوقف عليه خيره و
سعادته في الدارين، وقد روعي فيه حقوق جميع الأفراد والفئات حتى الأقليات
غير المسلمة.
ففي الحقيقة الحاكم هو الله - تعالى - كما قال: " إن الحكم إلا لله "، وقال: " الا له
الحكم " (1)، والحكومة الإسلامية قوة منفذة لأحكامه - عز وجل -، وتتصدى

1 - سورة الأنعام (6)، الآية 57 و 62.
3

لمصالح الأمة على أساس ضوابط الإسلام.
وليست حكومة استبدادية ديكتاتورية. ولذا نعبر عن الحاكم الإسلامي بالإمام و
الوالي والراعي، وعن الأمة بالرعية. فهو إمام لأنه أسوة يقتدى به، ووال لأنه يتولى
مصالح الأمة كما يتولى متولي الوقف مثلا مصالحه، وراع لأنه يرعاهم في جميع
مراحلهم حتى لا يعتري عليهم الفساد والضرر.
ولا يلتفت عندنا إلى الحكومة بما هي مقام وشأن يتفاخر به وتكون حملا وعبأ
ثقيلا على ظهر الأمة، بل يلتفت إليها بما هي وظيفة ومسؤولية خطيرة على عاتق
الحاكم تحقق بها مصالح الأمة ويرفع بها عن الأمة إصرهم والأغلال التي كانت
عليهم وراثة أو تقليدا أو تحميلا.
فيفترق نظام الحكم الإسلامي عن أنظمة الحكم الدارجة في العالم بوجهين
أساسيين كما مر:
الأول: أن أساس الحكم الإسلامي هو أحكام الله - تعالى - وقوانينه العادلة.
الثاني: أن الحاكم يشترط فيه أن يكون فقيها عادلا بصيرا لا يهمه إلا إجراء
أحكام الله وإدامة طرق الأنبياء والأئمة (عليهم السلام).
والنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) كان هو أول من أقام الدولة الإسلامية وكان هو بنفسه يتولى
في جنب رسالته الخطيرة إدارة شؤون المسلمين: السياسية والاجتماعية و
الاقتصادية والعسكرية، ويعين الأمراء والقضاة والجباة للنواحي والبلاد، ويرسم
لهم منهجهم في الحكم والسياسة. والحكم الذي قام به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في عصره كان
حكما فريدا في الحياة لم تعرف البشرية إلى الآن شبيها له في سهولته وسذاجته وما
وجد فيه الناس من عدل وحرية ومساواة وإيثار.
وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) رؤوفا بهم وحريصا عليهم يطلب خيرهم ورشادهم ويرفع عنهم
إصرهم والأغلال التي كانت عليهم. ولشدة رأفته ورحمته وأخلاقه الكريمة جذب
الناس إلى الإسلام وخلع سلاح أعدائه الذين جمعوا قواهم وإمكاناتهم ضد تقدمه;
4

فتراه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ما فتح مكة وسلطه الله على أعدائه الألداء خاطبهم فقال: " يا
معشر قريش، ما ترون اني فاعل بكم؟ قالوا خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم. قال:
اذهبوا، فأنتم الطلقاء. " (1)
فعفا (صلى الله عليه وآله وسلم) عنهم وفيهم أمثال أبي سفيان، وصفوان بن أمية وغيرهما من الرؤساء،
وقد أمكنه الله منهم، ولم ينتقم حتى من وحشي قاتل عمه حمزة، ومن هند مع ما
صنعت في أحد بأجساد القتلى وجسد حمزة وكبده.
ولم يكن أساس حكمه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا ما أنزله الله - تعالى -
1 - قال الله - تعالى - في سورة النساء: " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين
الناس بما أراك الله. " (2)
2 - وقال في سورة المائدة: " وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من
الكتاب ومهيمنا عليه، فاحكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من
الحق. الآية. " (3)
3 - " وأن احكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن
بعض ما أنزل الله إليك. الآية. " (4)
4 - " أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون " (5)
إلى غير ذلك من الآيات الكريمة.
وظائف الحاكم الإسلامي:
وكيف كان فلنتعرض لوظائف الحاكم الإسلامي وواجباته، فنقول:

1 - الكامل لابن الأثير 2 / 252. (ذكر فتح مكة).
2 - سورة النساء (4)، الآية 105.
3 - سورة المائدة (5)، الآية 48.
4 - سورة المائدة (5)، الآية 49.
5 - سورة المائدة (5)، الآية 50.
5

قال الماوردي:
" والذي يلزمه من الأمور العامة عشرة أشياء:
أحدها: حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة، فإن نجم
مبتدع أو زاغ ذو شبهة عنه أوضح له الحجة وبين له الصواب، وأخذه بما يلزمه من
الحقوق والحدود، ليكون الدين محروسا من خلل، والأمة ممنوعة من زلل.
الثاني: تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين وقطع الخصام بين المتنازعين حتى تعم
النصفة، فلا يتعدى ظالم ولا يضعف مظلوم.
الثالث: حماية البيضة والذب عن الحريم، ليتصرف الناس في المعايش وينتشروا
في الأسفار آمنين من تغرير بنفس أو مال.
والرابع: إقامة الحدود، لتصان محارم الله - تعالى - عن الانتهاك وتحفظ حقوق
عباده من إتلاف واستهلاك.
والخامس: تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة حتى لا تظهر الأعداء بغرة
ينتهكون فيها محرما أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد دما.
والسادس: جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة،
ليقام بحق الله - تعالى - في إظهاره على الدين كله.
والسابع: جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصا واجتهادا من غير
خوف ولا عسف.
والثامن: تقدير العطايا وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقتير ودفعه
في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير.
التاسع: استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوضه إليهم من الأعمال ويكله
إليهم من الأموال، لتكون الأعمال بالكفاية مضبوطة، والأموال بالأمناء محفوظة.
العاشر: أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال لينهض بسياسة الأمة و
حراسة الملة، ولا يعول على التفويض تشاغلا بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين و
يغش الناصح، وقد قال الله - تعالى -: " يا داود، إنا جعلناك خليفة في الأرض،
6

فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله. " (1) فلم يقتصر الله -
سبحانه - على التفويض دون المباشرة ولا عذره في الاتباع حتى وصفه بالضلال.
وهذا وإن كان مستحقا عليه بحكم الدين ومنصب الخلافة فهو من حقوق
السياسة لكل مسترع.
قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته. " (2)...
وإذا قام الإمام بما ذكرناه من حقوق الأمة فقد أدى حق الله - تعالى - فيما لهم و
عليهم، ووجب له عليهم حقان: الطاعة والنصرة ما لم يتغير حاله. " (3)
وذكر قريبا من ذلك أبو يعلى الفراء الحنبلي في كتابه المسمى بالأحكام السلطانية
أيضا. (4)
والرجلان كانا في عصر واحد، إذ وفاة الماوردي كانت في " 450 ه‍ "، ووفاة أبي
يعلى في " 458 ه‍ " وتقارب كتابيهما في العبارات يوجب العلم بأخذ أحدهما من
الآخر، فلعل أبا يعلى أخذ من الماوردي.
وقد تعرضا كما ترى لأصول واجبات الحكومة الإسلامية، فالأولى أن نذكر بعض
الآيات والروايات المبينة للأهداف من الحكومة الإسلامية وواجباتها; فخير الكلام
ما صدر عن منبع الوحي. وقد مضى أكثر هذه الروايات فيما مضى ولكن التكرار قد
يجب ولا محيص عنه، كما ترى نظيره في الكتاب الكريم حيث إنه مليء من التكرار
في القصص والآيات المذكرة، فنقول:
1 - قال الله - تعالى -: " الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا
عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم
الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم،
فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور

1 - سورة ص (38)، الآية 26.
2 - مسند أحمد 2 / 111; وصحيح البخاري 1 / 160، كتاب الجمعة; وصحيح مسلم 3 / 1459،
كتاب الإمارة، الباب 5، الحديث 1829.
3 - الأحكام السلطانية للماوردي / 15.
4 - الأحكام السلطانية / 27.
7

الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون. " (1)
فالآية تعرضت لخمس من الأمور المهمة التي كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يهتم بها ويستمر
عليها في حياته في قبال الأمة، وهو (صلى الله عليه وآله وسلم) أسوة حسنة لكل من يتصدى للحكومة
الإسلامية، فيجب عليه أن يتأسى به في ذلك.
والمعروف ما تعرفه الفطرة والعقول السليمة وأمر به الشرع لذلك. والمنكر ما
تنكره العقول السليمة ونهى عنه الشريعة المطهرة.
فعلى الحاكم الإسلامي أن يجعل الجو بقدرته ونفوذه جوا إسلاميا سالما ينتشر
فيه المعروف بشعبه وتنقطع فيه جذور المنكر والفساد.
ولعل المراد بالأغلال هو الأعم من الرسوم والقيود الخرافية الطائفية، ومن
الأحكام الصعبة المشروعة في شريعة اليهود أو التي حرمها إسرائيل على نفسه.
وفي الحديث عن أبي أمامة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " إني لم أبعث باليهودية و
لا بالنصرانية، ولكن بعثت بالحنيفية السمحة. " (2)
2 - وقال - تعالى -: " ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوى عزيز * الذين إن
مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر،
ولله عاقبة الأمور. " (3)
فالناصرون لله - تعالى - المنصورون من قبله هم الذين إن تمكنوا في الأرض و
حكموا عليها أقاموا ونفذوا فرائض الله من الصلاة والزكاة ونحوهما وأمروا
بالمعروف ونهوا عن المنكر.
3 - وقال: " فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا
أرحامكم؟! " (4)
بناء على كون المراد التصدي للولاية، كما لعله الظاهر، اللهم إلا أن يقال إن السياق
يأباه، فتأمل.

1 - سورة الأعراف (7)، الآية 157.
2 - مسند احمد 5 / 266.
3 - سورة الحج (22)، الآية 40 - 41.
4 - سورة محمد (47)، الآية 22.
8

4 - وقال: " وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله
لا يحب الفساد * وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم، فحسبه جهنم ولبئس
المهاد. " (1)
والظاهر أن المراد بالتولي هو التصدي للحكم والولاية بقرينة قوله: " يهلك
الحرث والنسل " وقوله: " أخذته العزة بالإثم. "
فالحاكم الإسلامي يحرم عليه الإفساد والتعدي على الحرث والنسل، يعني الأموال
والنفوس، ويجب عليه أن يكون خاضعا مستسلما في قبال الذكرى والنصح.
فتدبر في كلامه - تعالى - وانظر كيف بلي المسلمون في أعصارنا بالحكام الطغاة
الذين خمر في طبعهم الإفساد وهتك الأموال والأعراض والنفوس، ولا يسمحون
لأحد الوعظ والنصيحة. وليس ذلك إلا بتفرق المسلمين واختلافهم، وفرارهم من
الموت وإعجابهم بالدنيا وشؤونها، وإن الله - تعالى - " لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما
بأنفسهم. " (2)
5 - ولما بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) معاذ بن جبل إلى اليمن وصاه فقال: " يا معاذ، علمهم
كتاب الله، وأحسن أدبهم على الأخلاق الصالحة. وأنزل الناس منازلهم: خيرهم و
شرهم. وأنفذ فيهم أمر الله ولا تحاش في أمره ولا ماله أحدا، فإنها ليست بولايتك و
لا مالك، وأد إليهم الأمانة في كل قليل وكثير. وعليك بالرفق والعفو في غير ترك الحق،
يقول الجاهل: قد تركت من حق الله. واعتذر إلى أهل عملك من كل أمر خشيت أن يقع
إليك منه عيب حتى يعذروك. وأمت أمر الجاهلية إلا ما سنه الإسلام. وأظهر أمر الإسلام
كله صغيره وكبيره. وليكن أكثر همك الصلاة، فإنها رأس الإسلام بعد الإقرار بالدين. و
ذكر الناس بالله واليوم الآخر. واتبع الموعظة، فإنه أقوى لهم على العمل بما يحب الله.
ثم بث فيهم المعلمين. واعبد الله الذي إليه ترجع. ولا تخف في الله لومة لائم.
وأوصيك بتقوى الله، وصدق الحديث، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وترك الخيانة،
ولين الكلام، وبذل السلام، وحفظ الجار، ورحمة اليتيم، وحسن العمل، وقصر الأمل،
وحب الآخرة،

1 - سورة البقرة (2)، الآية 205 - 206.
2 - سورة الرعد (13)، الآية 11.
9

والجزع من الحساب، ولزوم الايمان، والفقه في القرآن، وكظم الغيظ، وخفض الجناح.
وإياك ان تشتم مسلما، أو تطيع آثما، أو تعصي إماما عادلا، أو تكذب إماما صادقا،
أو تصدق كاذبا. واذكر ربك عند كل شجر وحجر. وأحدث لكل ذنب توبة: السر بالسر و
العلانية بالعلانية.
يا معاذ، لولا أنني أرى ألا نلتقي إلى يوم القيامة لقصرت في الوصية، ولكنني أرى أن
لا نلتقي أبدا. ثم اعلم يا معاذ، أن أحبكم إلى من يلقاني على مثل الحال التي فارقني
عليها. " (1)
وذكر في كنز العمال حديثين طويلين في بعث معاذ يشتملان على أكثر مضمون هذا
الحديث وزيادات نافعة، فراجع (2).
وقد ذكرنا الحديث بطوله لما يتضمن من النصائح العالية النافعة لكل من يتصدى لعمل
من أعمال الدولة الإسلامية.
وقد دل على أن من تكاليف الحاكم الإسلامي في نطاق حكومته: 1 - تعليم كتاب
الله. 2 - تأديب الناس على الأخلاق الصالحة الفاضلة. - الفرق بين خير الناس وشرهم
بالتقدير عن الخير وإكرامه، وتأنيب الشر ومجازاته. 4 - إجراء المساواة في حكم الله و
ماله بالنسبة إلى الجميع بلا استثناء لأحد. 5 - أداء الأمانة إلى أهلها وإن قلت. 6 - الرفق و
العفو بالنسبة إلى المسئ ما لم يستلزم ترك حق. 7 - تداوم الوعظ والتذكير. 8 - بث
المعلمين فيهم لنشر العلوم.
ولا يخفى مناسبة الجملة الأخيرة في الحديث لما صار إليه أمر معاذ في النهاية.
6 - وفي رواية أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لمعاذ: " فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة; تؤخذ
من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم طاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق
دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب. " (3)
يظهر من الرواية أن المكلف إذا أدى واجب ماله فالتعدي إلى سائر أمواله من

1 - تحف العقول / 25.
2 - كنز العمال 10 / 594 - 595، باب غزواته وبعوثه... من كتاب الغزوات والوفود من قسم
الأفعال، الحديث 30291 و 30292.
3 - صحيح البخاري 3 / 73، كتاب المغازي، بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع.
10

أشد الظلم.
7 - وفي رواية أخرى: " إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين بعث معاذا أوصاه وعهد إليه ثم قال
له: يسر ولا تعسر، وبشر ولا تنفر. " (1)
8 - وبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عمرو بن حزم واليا على بني الحارث ليفقههم في الدين و
يعلمهم السنة ومعالم الإسلام، ويأخذ منهم صدقاتهم. وكتب له كتابا عهد اليه فيه عهده و
أمره فيه بأمره:
" بسم الله الرحمن الرحيم
هذا بيان من الله ورسوله، يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود، عهد من محمد النبي
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن، أمره بتقوى الله في أمره كله، فإن الله
مع الذين اتقوا والذين هم محسنون. وأمره أن يأخذ بالحق كما أمره الله، وأن يبشر
الناس بالخير ويأمرهم به، ويعلم الناس القرآن ويفقههم فيه. وينهى الناس; فلا يمس
القرآن إنسان إلا وهو طاهر. ويخبر الناس بالذي لهم والذي عليهم. ويلين للناس في
الحق، ويشتد عليهم في الظلم، فإن الله كره الظلم ونهى عنه فقال: " ألا لعنة الله على
الظالمين ". ويبشر الناس بالجنة وبعملها، وينذر الناس النار وعملها. ويستألف الناس
حتى يفقهوا في الدين، ويعلم الناس معالم الحج وسنته وفريضته، وما أمر الله به في
الحج الأكبر والحج الأصغر، وهو العمرة.
وينهى الناس أن يصلي أحد في ثوب واحد صغير، إلا أن يكون ثوبا يثني طرفيه على
عاتقيه، وينهى الناس أن يحتبي أحد في ثوب واحد يفضي بفرجه إلى السماء. وينهى أن
يعقص أحد شعر رأسه في قفاه. وينهى إذا كان بين الناس هيج عن الدعاء إلى القبائل و
العشائر. وليكن دعواهم إلى الله - عز وجل - وحده لا شريك له. فمن لم يدع إلى الله و
دعا إلى القبائل والعشائر فليقطفوا بالسيف حتى تكون دعواهم إلى الله وحده لا شريك
له.
ويأمر الناس بإسباغ الوضوء وجوههم وأيديهم إلى المرافق وأرجلهم إلى الكعبين و
يمسحون برؤوسهم كما أمرهم الله وأمر بالصلاة لوقتها، وإتمام الركوع والسجود و
الخشوع، ويغلس

1 - سيرة ابن هشام 4 / 237.
11

بالصبح، ويهجر بالهاجرة حين تميل الشمس، وصلاة العصر والشمس في الأرض
مدبرة، والمغرب حين يقبل الليل لا يؤخر حتى تبدو النجوم في السماء، والعشاء أول
الليل. وأمر بالسعي إلى الجمعة إذ نودي لها، والغسل عند الرواح إليها.
وأمره أن يأخذ من المغانم خمس الله، وما كتب على المؤمنين في الصدقة من العقار
عشر ما سقت العين وسقت السماء، وعلى ما سقى الغرب نصف العشر. وفى كل عشر من
الإبل شاتان، وفي كل عشرين أربع شياه. في كل أربعين من البقر بقرة، وفي كل ثلاثين
من البقر تبيع، جذع أو جذعة. وفي كل أربعين من الغنم سائمة وحدها، شاة. فإنها فريضة
الله التي افترض على المؤمنين في الصدقة، فمن زاد خيرا فهو خير له.
وأنه من أسلم من يهودي أو نصراني إسلاما خالصا من نفسه ودان بدين الإسلام فإنه
من المؤمنين; له مثل ما لهم، وعليه مثل ما عليهم. ومن كان على نصرانيته أو يهوديته
فإنه لا يرد عنها. وعلى كل حال: ذكر أو أنثى، حر أو عبد، دينار واف أو عوضه ثيابا.
فمن أدى ذلك فإن له ذمة الله وذمة رسوله. ومن منع ذلك فإنه عدو لله ولرسوله و
للمؤمنين جميعا. صلوات الله على محمد والسلام عليه ورحمة الله وبركاته. " (1)
وإنما نقلنا الحديث بطوله لأنه على ما قالوا أجمع وأطول كتاب حفظ التاريخ نصه
من كتبه (صلى الله عليه وآله وسلم). واعتنى به أرباب السنن والمسانيد في الأبواب المختلفة من الفقه، وادعى
بعض إجماع الصدر الأول على الأخذ به وإن قطعوه على الأبواب واختلفوا في بعض
ألفاظه.
وعن النووي في التهذيب في ترجمة عمرو بن حزم قال:
" استعمله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على نجران باليمن وهو ابن سبع عشرة سنة، وبعث معه كتابا فيه
الفرائض والسنن والصدقات والجروح والديات. " (2)
والنكات المهمة في هذا العهد أولا: الأخذ بالحق على نحو ما أمر الله به، لاعلى نحو
إعمال الرأي والسليقة الشخصية.

1 - سيرة ابن هشام 4 / 241; وتاريخ الطبري 4 / 1727 - 1729.
2 - راجع التراتيب الإدارية 1 / 168.
12

وثانيا: البشارة بالخير والأمر به.
وثالثا: تعليم القرآن وتفهيمهم مطالبه المتنوعة.
ورابعا: إرشاد الناس إلى ما ينفعهم وما يضرهم.
وخامسا: إعمال الرفق واللين مع المحق، وإعمال الشدة في قبال الظلم.
وسادسا: التبشير والإنذار.
وسابعا: تأليف القلوب وتشويقها ليرغبوا في تعلم الدين والتفقه فيه.
وثامنا: تعليم معالم الحج وسائر الفرائض والسنن. إلى غير ذلك مما اشتمل عليه.
ومن هذا العهد وسابقه يعلم إجمالا ما يترقبه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ممن يصير واليا على
البلاد الإسلامية.
9 - وفي نهج البلاغة: " اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان، و
لا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في
بلادك فيأمن المظلومون من عبادك وتقام المعطلة من حدودك. " (1)
وقد مر نحو ذلك عن تحف العقول في خطبة تنسب إليه تارة، وإلى سيد الشهداء (عليه السلام)
أخرى. (2)
ويظهر من هذا الكلام أن أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يكن ساكتا في قبال ما كان يقع، بل كان
منه مطالبة ومحاجة، ولكن لا للتنافس وطلب الدنيا والمقام، بل لإحياء معالم الدين و
الإصلاح في البلاد ورفع الظلم وإقامة الحدود المعطلة.
10 - وفيه أيضا: " قال عبد الله بن عباس: دخلت على أمير المؤمنين (عليه السلام) بذي قار وهو
يخصف نعله، فقال لي: " ما قيمة هذه النعل؟ " فقلت: لا قيمة لها. فقال - عليه السلام -: و
الله لهي أحب إلى من إمرتكم إلا أن أقيم حقا أو أدفع باطلا. " (3)

1 - نهج البلاغة، فيض / 406; عبده 2 / 19; لح / 189، الخطبة 131.
2 - راجع تحف العقول / 239.
3 - نهج البلاغة، فيض / 111; عبده 1 / 76; لح / 76، الخطبة 33.
13

فهذا الكلام باختصاره جامع لجميع ما يكون على عهدة الحاكم الإسلامي، أي: " إقامة
الحق ودفع الباطل. "
11 - وفيه أيضا: " لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله
على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها و
لسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز. " (1)
أقول: الكظة بالكسر وتشديد الظاء: البطنة وما يعتري الإنسان عند الامتلاء من
الطعام. والسغب: الجوع. وعفطة العنز: ما تنثره من أنفها.
يظهر من الحديث الشريف أن المسلمين - ولا سيما أهل العلم الواقفين على مذاق
الشرع وحثه على العدالة الاجتماعية - لا يجوز لهم السكوت في قبال التفاوت الفاحش
الطبقي المنتج من غصب الأقوياء لحقوق الضعفاء والمستضعفين.
وإحقاق الحقوق لا يمكن إلا بتحصيل القوة والقدرة، فبذلك يظهر وجوب إقامة
الدولة الحقة وإحقاق الحقوق في ضوئها.
واعلم أن الله - تعالى - لم يخلق الإنسان من دون أن يخلق له ما يحتاج إليه في
عيشته وما يتوقف عليه حياته. ولو ترى الفقر الشديد والنقص الفاحش في بعض منهم
فإنما نشأ من ظلم بعضهم لبعض أو من كفرانهم نعم الله - تعالى - وعدم الاستفادة منها
بالاستخراج والاستنتاج:
ففي سورة إبراهيم قال بعد ذكر أصول نعمه: " وآتاكم من كل ما سألتموه، وإن تعدوا
نعمة الله لا تحصوها، إن الإنسان لظلوم كفار. " (2)
والظاهر أن المقصود بالسؤال هو الحاجة التكوينية الكامنة في الذوات; فالله - تعالى
- علل النقص الموجود بالأمرين، أعني الظلم والكفران، فتدبر في الآيات الشريفة.

1 - نهج البلاغة، فيض / 52; عبده 1 / 31; لح / 50، الخطبة 3.
2 - سورة إبراهيم (14)، الآية 34.
14

وفي نهج البلاغة: " إن الله - سبحانه - فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما
جاع فقير إلا بما متع به غنى، والله - تعالى - سائلهم عن ذلك. " (1) هذا.
12 - وفي نهج البلاغة أيضا في رد الخوارج: " هؤلاء يقولون: لا إمرة إلا لله، وإنه لابد
للناس من أمير بر أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها
الأجل ويجمع به الفيء ويقاتل به العدو وتأمن به السبل ويؤخذ به للضعيف من القوى
حتى يستريح بر ويستراح من فاجر. " (2)
13 - وفيه أيضا فيما رده (عليه السلام) على المسلمين من قطائع عثمان: " والله لو وجدته قد
تزوج به النساء وملك به الإماء لرددته، فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل
فالجور عليه أضيق. " (3)
يظهر من الحديث الشريف أن من وظائف الحاكم الإسلامي رد الأموال العامة
المغصوبة المتعلقة بالمجتمع إلى أهلها. ويأتي في الفصل الذي نعقده لوجوب اهتمام
الإمام بأموال المسلمين شرح للخطبة وتتميم لها وروايات أخرى لها عن شرح ابن أبى
الحديد وكتاب دعائم الاسلام، فانتظر.
14 - وفيه أيضا: " إنه ليس على الإمام إلا ما حمل من أمر ربه، إلا البلاغ في الموعظة
والاجتهاد في النصيحة والإحياء للسنة وإقامة الحدود على مستحقيها وإصدار
السهمان على أهلها. " (4)
15 - وفيه أيضا في خطابه (عليه السلام) لعثمان: " فاعلم أن أفضل عباد الله عند الله إمام عادل
هدي وهدى; فأقام سنة معلومة وأمات بدعة مجهولة. " (5)

1 - نهج البلاغة، فيض / 1242; عبده 3 / 231; لح / 533، الحكمة 328.
2 - نهج البلاغة، فيض / 125; عبده 1 / 87; لح / 82، الخطبة 40.
3 - نهج البلاغة، فيض / 66; عبده 1 / 42; لح / 57، الخطبة 15.
4 - نهج البلاغة، فيض / 311; عبده 1 / 202; لح / 152، الخطبة 105.
5 - نهج البلاغة، فيض / 526; عبده 2 / 85; لح / 234، الخطبة 164.
15

يظهر بذلك أن من تكاليف الإمام العادل إحياء السنة وإماتة البدع.
16 - وفيه أيضا: " أيها الناس، إن لي عليكم حقا، ولكم على حق، فأما حقكم على
فالنصيحة لكم وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتأديبكم كيما تعلموا. و
أما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والإجابة حين أدعوكم
والطاعة حين آمركم. " (1) ومفاد الحديث واضح، هذا.
ونهج البلاغة مليء من هذا القبيل من الكلمات المتعرضة لتكاليف الحاكم ولا سيما
كتابه (عليه السلام) لمالك الأشتر (2)، فراجع.
17 - وفي الغرر والدرر للآمدي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " على الإمام أن يعلم أهل
ولايته حدود الإسلام والإيمان. " (3)
والمراد بأهل ولايته جميع من يكون تحت لواء حكومته.
18 - وقد مر في كلام له (عليه السلام) أرسله إلى معاوية: " والواجب في حكم الله وحكم
الإسلام على المسلمين بعد ما يموت إمامهم أو يقتل، ضالا كان أو مهتديا مظلوما كان أو
ظالما حلال الدم أو حرام الدم أن لا يعملوا عملا ولا يحدثوا حدثا ولا يقدموا يدا و
لا رجلا ولا يبدؤوا بشيء قبل أن يختاروا لأنفسهم إماما عفيفا عالما ورعا عارفا بالقضاء
والسنة، يجمع أمرهم، ويحكم بينهم، ويأخذ للمظلوم من الظالم حقه، ويحفظ أطرافهم و
يجبى فيئهم ويقيم حجتهم (حجهم وجمعتهم البحار) ويجبى صدقاتهم. " (4)
19 - ومر عن كتاب المحكم والمتشابه نقلا عن تفسير النعماني، عن
أمير المؤمنين (عليه السلام): " لابد للأمة من إمام يقوم بأمرهم، فيأمرهم وينهاهم ويقيم فيهم
الحدود ويجاهد العدو ويقسم الغنائم ويفرض الفرائض ويعرفهم أبواب ما فيه صلاحهم
ويحذرهم ما فيه

1 - نهج البلاغة، فيض / 114; عبده 1 / 80; لح / 79، الخطبة 34.
2 - نهج البلاغة، فيض / 991; عبده 3 / 92; لح / 426، الكتاب 53.
3 - الغرر والدرر 4 / 318، الحديث 6199.
4 - كتاب سليم بن قيس / 182; وبحار الأنوار 8 / 555 (ط. القديم).
16

مضارهم، إذ كان الأمر والنهي أحد أسباب بقاء الخلق وإلا سقطت الرغبة والرهبة، و
لم يرتدع ولفسد التدبير وكان ذلك سببا لهلاك العباد. فتمام أمر البقاء والحياة في الطعام
والشراب والمساكن والملابس والمناكح من النساء والحلال والحرام، الأمر والنهي،
إذ كان - سبحانه - لم يخلقهم بحيث يستغنون عن جميع ذلك، ووجدنا أول المخلوقين و
هو آدم (عليه السلام) لم يتم له البقاء والحياة إلا بالأمر والنهي ". (1)
20 - وفي الخبر الطويل الذي رواه عبد العزيز بن مسلم، عن الرضا (عليه السلام): " إن الإمامة
زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح الدنيا وعز المؤمنين. إن الإمامة أس الإسلام
النامي وفرعه السامي. بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وتوفير
الفيء والصدقات، وإمضاء الحدود والأحكام، ومنع الثغور والأطراف. الإمام يحل
حلال الله ويحرم حرام الله ويقيم حدود الله ويذب عن دين الله ويدعوا إلى سبيل ربه
بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة البالغة. " (2)
21 - وفي خبر فضل بن شاذان، عن الرضا (عليه السلام) الذي مر: فإن قال: فلم جعل أولي
الأمر وأمر بطاعتهم، قيل: لعلل كثيرة:
منها: أن الخلق لما وقفوا على حد محدود وأمروا أن لا يتعدوا ذلك الحد لما فيه من
فسادهم لم يكن يثبت ذلك ويقوم إلا بأن يجعل عليهم فيه أمينا... يمنعهم من التعدي و
الدخول فيما حظر عليهم، لأنه لو لم يكن ذلك كذلك لكان أحد لا يترك لذته ومنفعته
لفساد غيره فجعل عليهم قيما يمنعهم من الفساد ويقيم فيهم الحدود والأحكام.
ومنها: أنا لا نجد فرقة من الفرق ولا ملة من الملل بقوا وعاشوا إلا بقيم ورئيس، لما
لابد لهم منه في أمر الدين والدنيا، فلم يجز في حكمة الحكيم أن يترك الخلق مما يعلم
أنه لابد لهم منه ولا قوام لهم إلا به فيقاتلون به عدوهم ويقسمون به فيئهم ويقيم لهم
جمعتهم وجماعتهم ويمنع ظالمهم من مظلومهم.
ومنها: أنه لو لم يجعل لهم إماما قيما أمينا حافظا مستودعا لدرست الملة وذهب الدين وغيرت

1 - المحكم والمتشابه / 50; وبحار الأنوار 90 / 41 (= طبعة إيران 93 / 41)، كتاب القرآن. وفيه
" في أمر البقاء " بدل " فتمام أمر البقاء ".
2 - الكافي 1 / 200، كتاب الحجة، باب نادر جامع في فضل الإمام...; ورواه في تحف العقول
/ 438.
17

السنة (السنن - العلل). والأحكام ولزاد فيه المبتدعون ونقص منه الملحدون وشبهوا ذلك على
المسلمين، لأنا قد وجدنا الخلق منقوصين محتاجين غير كاملين مع اختلافهم واختلاف أهوائهم و
تشتت أنحائهم (حالاتهم - العلل)، فلو لم يجعل لهم قيما حافظا لما جاء به الرسول لفسدوا على نحو
ما بينا وغيرت الشرائع والسنن والأحكام والإيمان وكان في ذلك فساد الخلق أجمعين. " (1)
22 - وقد مر خبر حنان، عن أبيه، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا تصلح
الإمامة إلا لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن معاصي الله، وحلم يملك به غضبه،
وحسن الولاية على من يلي حتى يكون لهم كالوالد الرحيم. "
وفي رواية أخرى: " حتى يكون للرعية كالأب الرحيم. " (2)
فيجب أن يكون الوالي على الأمة بمنزلة الأب الرحيم الذي قد أشرب في قلبه محبة
الأولاد واللطف بهم فيجبر ضعفهم ونقصهم بقوته وإمكاناته ولا يواجههم بالخشونة و
الغضب.
23 - وفي خبر سليمان بن خالد، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " اتقوا الحكومة، فإن
الحكومة إنما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبي (كنبي خ. ل) أو وصى
نبي. " (3)
فمن واجبات الإمام فصل الخصومات ورفع المنازعات الواقعة في الأمة بالحق و
العدالة مباشرة أو بالتسبيب.
24 - وفي كنز العمال: " على الوالي خمس خصال: جمع الفيء من حقه، ووضعه في
حقه، وأن يستعين على أمورهم بخير من يعلم، ولا يجمرهم فيهلكهم، ولا يؤخر أمرهم
لغد. " (ولا يؤخر أمر يوم لغد خ. ل) (عق عن وائلة) (4).
قال في النهاية:

1 - عيون أخبار الرضا 2 / 100 (من نسخة مخطوطة مصححة)، الباب 34، الحديث 1; وعلل
الشرائع 1 / 95 (= طبعة أخرى 1 / 253)، الباب 182، الحديث 9.
2 - الكافي 1 / 407، كتاب الحجة، باب ما يجب من حق الإمام على الرعية...، الحديث 8.
3 - الوسائل 18 / 7، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.
4 - كنز العمال 6 / 47، الباب 1 من كتاب الإمارة والقضاء، الفصل 3 في أحكام الإمارة، الحديث
14789.
18

" تجمير الجيش: جمعهم في الثغور وحبسهم عن العود إلى أهلهم. " (1)
وقد مر روايات مستفيضة دالة على أن الإمامة نظام الأمة، وفي بعضها:
25 - " ومكان القيم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه ويضمه، فإذا انقطع النظام
تفرق الخرز وذهب ثم لم يجتمع بحذافيره أبدا. " (2)
فعلى إمام المسلمين جمع أمرهم وتوحيد كلمتهم وقطع جذور الاختلاف والتفرق
عن مجتمعهم حتى يكونوا كيد واحدة على من سواهم ويكون ببركته " مثل المؤمنين في
توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه شيء تداعى له سائر الجسد
بالسهر والحمى. " (3)
وهاهنا آيات وروايات كثيرة أيضا يستفاد منها تكليف المسلمين وإمامهم في
السياسة الخارجية وفي علاقاتهم مع سائر الأمم والمذاهب نذكر هنا بعضا منها و
التفصيل يأتي في فصل مستقل، فانتظر.
26 - قال الله - تعالى -: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم، لا يألونكم
خبالا. ودوا ما عنتم. قد بدت البغضاء من أفواههم، وما تخفى صدورهم أكبر. قد بينا لكم
الآيات إن كنتم تعقلون. " (4)
27 - وقال: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء
بعض. ومن يتولهم منكم فإنه منهم، إن الله لا يهدي القوم الظالمين * فترى الذين في
قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة. فعسى الله أن يأتي بالفتح
أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين. " (5)

1 - النهاية لابن الأثير 1 / 292.
2 - نهج البلاغة، فيض / 442; عبده 2 / 39; لح / 203، الخطبة 146.
3 - مسند أحمد 4 / 270، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
4 - سورة آل عمران (3)، الآية 118.
5 - سورة المائدة (5)، الآية 51 و 52.
19

إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الناهية عن موالاة الكفار وموادتهم.
28 - وقال الله - تعالى -: " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا. " (1)
فالعلاقة الموجبة لسلطة الكفار على المسلمين كما نشاهدها في أعصارنا منهى عنها
جدا، وقد أمر الله - تعالى - بالقتال وجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم وإعداد
القوة في قبالهم، كما نطقت بذلك الآيات والروايات الكثيرة وقد مر بعضها في فصل
الجهاد من هذا الكتاب، فراجع. هذا.
وفي قبال جميع ذلك وردت أدلة تدل على المهادنة والمعاملة معهم بالبر والقسط إذا
لم يقاتلوا المسلمين في دينهم ولم يخرجوهم من ديارهم:
29 - قال الله - تعالى -: " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم
من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن
الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، و
من يتولهم فأولئك هم الظالمون. " (2)
30 - وقال بعدما أمر بإعداد القوة في قبال الكفار: " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها و
توكل على الله، إنه هو السميع العليم. " (3)
31 - وقد وادع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أهل أيلة وكتب لهم: " بسم الله الرحمن الرحيم هذه
أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله ليوحنة بن روبة وأهل أيلة ولسفنهم ولسيارتهم و
لبحرهم ولبرهم. ذمة الله وذمة محمد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولمن كان معهم من كل مار الناس من
أهل الشام واليمن وأهل البحر... " (4)

1 - سورة النساء (4)، الآية 141.
2 - سورة الممتحنة (60)، الآية 8 و 9.
3 - سورة الأنفال (8)، الآية 61.
4 - الأموال لأبي عبيد / 258.
20

32 - وفي كتاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأهل نجران وهم نصارى: " ولنجران وحاشيتها جوار
الله وذمة محمد النبي رسول الله على أنفسهم وملتهم وأرضهم وأموالهم وغائبهم و
شاهدهم وعيرهم وبعثهم وأمثلتهم، لا يغير ما كانوا عليه ولا يغير حق من حقوقهم و
أمثلتهم، لا يفتن أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته ولا واقه من وقاهيته على ما
تحت أيديهم من قليل أو كثير... " (1)
قال في الأموال:
" الواقه: ولى العهد بلغتهم. "
33 - وفي عهد طويل كتبه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لليهود حين ما قدم المدينة: " وإن يهود بنى
عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلا ظلم و
أثم... " (2) وسيأتي تفصيله.
إلى غير ذلك من المعاهدات الواقعة بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين أهل الكتاب أو بين
المشركين، وكذلك ما ورد من الروايات الكثيرة في حرمة أهل الذمة وحفظ حقوقهم.
فإنه يستفاد من جميع ذلك أن الواجب على إمام المسلمين أن تكون علاقته مع سائر
الأمم والمذاهب بالقسط والعدل ورعاية الحقوق من الطرفين; لا بأن يضيع حقوقهم
المدنية والاجتماعية، ولا بأن يتخذوا بطانة ويجعل لهم سبيل واستيلاء على المسلمين
في السياسة أو الاقتصاد أو الثقافة أو نحو ذلك. هذا.
فهذه آيات وروايات كثيرة جمعناها هنا، يستفاد من جميعها سنخ تكاليف الإمام و
واجباته في نطاق الإسلام وفي تجاه الأمة.
والمتحصل من جميعها مع التحفظ على التعبيرات الواقعة فيها خمسة عشر عنوانا، و
لعل بعضها متداخلة كما ترى ولكن نذكر الجميع حفظا للتعبيرات:
1 - جمع أمر المسلمين وحفظ نظامهم، ومنع الثغور والأطراف، والدفاع عنهم

1 - فتوح البلدان للبلاذري / 76 ونحوه في الأموال لأبي عبيد / 244.
2 - سيرة ابن هشام 2 / 149.
21

وقتال مقاتليهم والبغاة عليهم.
2 - الإصلاح في البلاد وإيجاد الأمن فيها وفي السبل.
3 - أن يضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم من الرسوم والقيود والعادات و
التقاليد الباطلة.
4 - أن يعلمهم الكتاب والسنة وحدود الإسلام والإيمان، ويبين لهم الحلال والحرام
وما ينفعهم ويضرهم.
ويعمم التعليم والتربية ببث المعلمين فيهم وتأليف الناس جميعا ليرغبوا في تعلم
الدين والتفقه فيه.
5 - إقامة فرائض الله وشعائره من الصلاة والحج وغيرهما، وتأديب الناس على
الأخلاق الفاضلة.
6 - إقامة السنة وإماتة البدع، والذب عن دين الله وحفظ الشرائع والسنن عن التغيير
والتأويل والزيادة والنقصان.
7 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمفهومهما الوسيع، أعني السعي في إشاعة
المعروف وبسطه، ومكافحة أنواع المنكر والظلم والفساد.
8 - منع الظلم وإحقاق حقوق الضعفاء من الأقوياء وإعمال الشدة في قبال الظالمين.
9 - القضاء بالعدل وإقامة حدود الله وأحكامه.
10 - رد ما غصب من بيت المال والأموال العامة، وإجراء المساواة في حكم الله و
ماله، ورفع التبعيضات الظالمة التي توجب كظة الظالمين وسغب المظلومين.
11 - جباية الفيء والصدقات على نحو ما أمر الله به وتوفيرها على مستحقيها من
الأشخاص والمصارف العامة.
12 - تتابع الوعظ والتذكير والإنذار والتبشير.
13 - التمييز بين الأخيار من الناس والأشرار منهم بإكرام الخير والإحسان اليه،
وتأنيب الشر ومجازاته.
14 - إعمال الرفق والعفو في غير ترك الحق، فيكون للرعية كالوالد الرحيم.
22

15 - حسن العلاقة مع سائر الأمم والمذاهب بالسلم والبر والقسط وحفظ الحقوق
المتقابلة في النفوس والملة والأراضي والأموال إذا لم يقاتلوا المسلمين ولم يخرجوهم
من ديارهم، لا بأن يتخذهم الوالي بطانة أو يجعل لهم سبيلا على المسلمين وشؤونهم.
فهذه خمسة عشر عنوانا لما يجب على الحاكم الإسلامي بالأصالة، اقتبسناها مما ذكر
من الآيات والروايات. ونرد الاستقصاء فيها، بل ذكر نماذج.
والجامع لجميع هذه العناوين هو الأمور المتعلقة بمجتمع المسلمين بما هو مجتمع، أي
بنحو العام المجموعي لا الاستغراقي، كحفظ نظامهم، وأمن بلادهم وسبلهم، ودفع
الأعداء عنهم وإعداد القوى في قبالهم، وتعليمهم وهدايتهم، وإقامة السنة وإماتة البدع
وإقامة فرائض الله وشعائره فيهم، وإجراء حدود الله وأحكامه، وفصل الخصومات
بينهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجباية الفيء والصدقات وحفظ الأنفال و
الأموال العامة وإيصالها إلى أهلها، وتنظيم علاقتهم مع سائر الأمم ونحو ذلك مما يتعلق
بالمجتمع بما هو مجتمع ولا يكون متعلقا بشخص خاص.
والخطابات الواردة في الكتاب والسنة في هذا السنخ من الأمور أيضا توجهت إلى
المجتمع كذلك لا بنحو العموم الاستغراقي.
وعلى هذا فيكون المتصدي لها من يتمثل فيه المجتمع، أعني الحاكم المنتخب من قبل
الله - تعالى - أو من قبلهم. ولعل قول أمير المؤمنين (عليه السلام) على ما في نهج البلاغة: " إلا أن
أقيم حقا أو أدفع باطلا " باختصاره وجامعيته يعم جميع ما ذكرنا، وإن شئت فعبر
" حراسة الدين وسياسة الدنيا "، فتأمل.
وأما تعيين السلطات الثلاث ورعاية المواصفات المعتبرة فيها ومراقبة أعمالها و
بعث العيون عليها ونحو ذلك فليست هذه الأمور من أهداف الحكومة وواجباتها
بالأصالة، بل هي من قبيل المقدمات الواقعة في طريق تحصيل الأهداف.
وإن شئت قلت: هي قوام الحكومة لامن أهدافها، والبحث فيها يأتي في الفصول
الآتية. هذا.
23

وإذا كانت هذه برامج الحكومة الإسلامية وأهدافها وكان المسؤول المنفذ لها هو
الإمام المعصوم أو الفقيه العادل البصير بالأمور والواجد لسائر ما ذكرناه من الشروط
الثمانية فأي شيء يوجب الوحشة والفرار منها؟ وهل لا يكون المخالف لإقامتها من
عملاء الاستعمار أو ممن يريد الإقدام على الظلم أو على الفساد والفحشاء والفرار من
حدود الله وأحكامه؟ هذا.
وبما ذكرناه من الآيات والروايات المبينة لتكاليف الحاكم الإسلامي وواجباته يظهر
لك أمران:
الأول:
ان الإمام والحاكم الإسلامي قائد ومرجع للشؤون الدينية والسياسية معا، وليس
الدين منفكا عن السياسة على ما ربما يسمع من بعض نواعق الاستعمار وأبواقه.
وعلى التفكيك بينهما أيضا يكون بناء الكنيسة وعملها لما نسبوه إلى السيد
المسيح (عليه السلام) من قوله: " أعطوا لقيصر ما لقيصر وما لله لله. " (1)
نعم، ساحة الدين الحق بريئة من السياسة الحديثة المبنية على المكر والشيطنة و
الهضم للحقوق والبراعة في الكذب والخداع.
وأما السياسة بمعنى حفظ نظام المسلمين وحقوقهم وسيادتهم وإصلاح شؤونهم
العامة بشعبها المختلفة والدفاع عنهم على أساس ما أنزل الله - تعالى - من الأحكام فهي
داخلة في نسج الإسلام ونظامه، كما مر بالتفصيل في الباب الثالث من الكتاب.

1 - إنجيل مرقس، الباب 12، الرقم 17; وإنجيل متى، الباب 22، الرقم 21; وإنجيل لوقا، الباب
20، الرقم 25.
24

ومن الأسف أنه قد يتفوه بالانفكاك المذكور بعض البسطاء والمقلدة من المسلمين
أيضا ممن لم يعرف الدين ولا السياسة.
وكيف كان فبالجمع بين الشؤون الدينية والسياسية في الروايات المذكورة يعرف أن
إمام المسلمين هو المرجع لهم في دينهم وثقافتهم وسياستهم والدفاع عنهم، كما كان
كذلك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
نعم، ليس معنى ذلك أن الإمام بنفسه يتصدى لجميع الشؤون بالمباشرة. بل كلما اتسع
نطاق الملك وزادت التكاليف تكثرت الدوائر والمؤسسات والأجهزة، وتوجد قهرا
سلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية على أساس الحاجة، ويحال كل أمر إلى مؤسسة
تناسبه. ولكن الإمام والحاكم بمنزلة رأس المخروط يحيط بجميعها ويشرف على
الجميع إشرافا تاما، فهو المسؤول والمكلف كما يأتي بيان ذلك في بعض الفصول الآتية.
الأمر الثاني:
إن الحاكم إنما يتصدى ويتدخل في الأمور العامة الاجتماعية التي لابد منها للمجتمع
بما هو مجتمع، ولا ترتبط بشخص خاص حتى يكون هو المتصدي لها.
وأما الأمور والأحوال غير العامة كالزراعة والصناعة والتجارة والأرزاق و
المسكن والمصنع واللباس والزواج والتعليم والتعلم والمسافرات والاحتفالات و
نحو ذلك من الأمور المتعلقة بالأشخاص والعائلات فالناس في انتخابها وانتخاب
أنواعها وكيفياتها أحرار، ولكل منهم أن يختار ما يريده ويهواه ما لم يكن فيه منع
شرعي.
فمصالح الأفراد والمجتمعات تقضي بترك الأفراد أحرارا في نشاطاتهم، ويكتفى
بمساعدتهم ومراقبتهم فحسب، إذ يساعد ذلك على الابتكار وكثرة الإنتاج والتقدم،
25

والتحديد يوجب أن يفقد الشخص اعتماده على النفس وأن لا يزدهر الاستعدادات
في مجالات الحياة.
اللهم إلا إذا فرض شيء منها في مورد خاص موجبا للإضرار بالمجتمع أو ببعض
الأفراد; فللحاكم حينئذ تحديده في ذلك المورد بمقدار يدفع به الضرر.
وبالجملة، يجب أن يكون البناء في هذه الأمور والأحوال الشخصية على الإطلاق و
الحرية إلا في موارد الضرورة، لاعلى المنع والتحديد إلا بإذن الحكومة.
نعم، يتوقع من الحكومة بل ربما يتعين عليها بالنسبة إلى هذه الأمور التخطيط الكلي و
التعليم والإرشاد والهداية إلى أنواعها وطرق تحصيلها وبيان أنفعها والأصلح منها و
الإعانة وإيجاد الإمكانات لها لدى الاحتياج، والمنع عما حرمه الله - تعالى - من الربا و
الاحتكار والتطفيف والغش والخيانة ونحو ذلك. وأما الإجبار على بعض الأنواع و
سلب الحريات فمخالف لطبع الأمة ولمذاق الشرع إلا مع الضرورة. هذا.
ولكنك تشاهد أن أكثر الحكومات الدارجة في أعصارنا ربما يتدخلون في هذه
الأمور ويحددون الاختيارات والحريات التي جعلها الله - تعالى - في طباع البشر.
ويوجب تدخلهم ذلك:
أولا: كراهة الأمة وبغضاء ها في قبال الحكومة.
وثانيا: كثرة العصيان والهتك لها.
وثالثا: احتياج الحكومة إلى استخدام موظفين كثيرين للتدخل والتحديد والمراقبة.
ورابعا: إلى وضع ضرائب كثيرة فوق طاقة الأشخاص لمصارف الموظفين و
أجهزتهم. فلا تنتج هذه التدخلات إلا البغضاء والتنافر والخصام المتتابع بين الحكومة و
بين الأمة بلا ضرورة.
هذا مضافا إلى أن سلب الحرية في الأمور الإنتاجية والصناعية والتحديد فيها كما
أشرنا إليه يوجب قلة الإنتاج جدا، فإن العلاقة النفسية والحرية الطبيعية أقوى باعث
يحفز الإنسان إلى الصناعة والإنتاج وتحمل المشاق في سبيلهما.
ومن الأسف أن أكثر هذه التحديدات والتدخلات إنما تقع في بعض البلاد
26

الإسلامية والحكومات الدارجة فيها. وربما تقع بإلقاء شياطين الاستعمار وإيحائهم
إلى عملائهم، أو بتقليد بعض البسطاء من الحكام لبعض آخر. مع أنك ترى أن رؤوس
الكفر والاستعمار قد أطلقوا أممهم وتابعوا أهواءهم، فهل لا يكون هذا إلا نحو مكر
مكروه لعدم راحة الأمة الإسلامية وعدم استقرار نظامهم وعدم ثبات دويلاتهم؟!
فاعتبروا يا أولي الأبصار! هذا.
وأسوأ من هذه التدخلات والتحديدات مباشرة الدولة بنفسها للزراعة والتجارة و
الصناعات; فقد عقد ابن خلدون في مقدمته فصلا بديعا بعنوان أن التجارة من السلطان
مضرة بالرعايا مفسدة للجباية.
ومحصل كلامه:
" أن تصدي السلطان للتجارة والفلاحة غلط عظيم، وإدخال الضرر على الرعايا من
وجوه متعددة، ومنها أن له القدرة والمال الكثير فيجعل السوق تحت قبضته واختياره،
فلا يحصل أحد من التجار على غرضه في شيء من حاجاته فيدخل على النفوس من
ذلك غم ونكد، ويدخل به على الرعايا من العنت والمضايقة وفساد الأرباح ما يقبض
آمالهم عن السعي ويؤدي إلى فساد الجباية، فإنه إذا انقبض الفلاحون عن الفلاحة وقعد
التجار عن التجارة ذهبت الجباية جملة أو دخلها النقص المتفاحش. وإذا قايس
السلطان بين ما يحصل له من الجباية وبين هذه الأرباح وجدها بالنسبة إلى الجباية أقل
من القليل. ثم فيه التعرض لأهل عمرانه واختلال الدولة بفسادهم ونقصه، فإن الرعايا
إذا قعدوا عن تثمير أموالهم بالفلاحة والتجارة نقصت وتلاشت بالنفقات، وكان فيها
إتلاف أحوالهم. " (1) هذا.
ولنذكر مثالين من تحديد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتدخله بما أنه كان واليا وحاكما في هذا السنخ
من الأمور مقتصرا على قدر الضرورة:

1 - مقدمة ابن خلدون / 197، الفصل 41 من الفصل 3 من الكتاب الأول (= طبعة أخرى / 281،
الفصل 40).
27

الأول:
ما رواه في الوسائل بسنده، عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنه رفع الحديث إلى
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) مر بالمحتكرين، فأمر بحكرتهم أن تخرج إلى بطون الأسواق و
حيث تنظر الأبصار إليها. فقيل لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لو قومت عليهم، فغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
حتى عرف الغضب في وجهه، فقال: أنا أقوم عليهم؟! إنما السعر إلى الله; يرفعه إذا شاء و
يخفضه إذا شاء. " (1)
وفي رواية حذيفة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " نفد الطعام على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)،
فأتاه المسلمون فقالوا: يا رسول الله، قد نفد الطعام ولم يبق منه شيء إلا عند فلان فمره
ببيعه. قال: فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا فلان، إن المسلمين ذكروا أن الطعام قد نفد
إلا شيء عندك فأخرجه وبعه كيف شئت ولا تحبسه. " (2)
فانظر انه (صلى الله عليه وآله وسلم) بمقتضى الضرورة ألزم البيع في مورد الاحتكار ولكنه لم يسعر، إذ
لم تكن فيه ضرورة في ذلك العصر، فأحال ذلك إلى ما تقتضيه طبيعة العرض والطلب. و
يأتي منا البحث في مسألة الاحتكار والتسعير في فصل مستقل، فانتظر.
الثاني:
ما رواه المشايخ الثلاثة بسند معتبر، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " إن سمرة بن
جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار، وكان منزل الأنصاري بباب البستان
فكان يمر به إلى نخلته ولا يستأذن. فكلمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء، فأبى سمرة،
فلما تأبى

1 - الوسائل 12 / 317، الباب 30 من أبواب آداب التجارة، الحديث 1.
2 - الوسائل 12 / 317، الباب 29 من أبواب آداب التجارة، الحديث 1.
28

جاء الأنصاري إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فشكا إليه وخبره الخبر، فأرسل اليه
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخبره بقول الأنصاري وما شكا وقال: إذا أردت الدخول فاستأذن،
فأبى، فلما أبى ساومه حتى بلغ به من الثمن ما شاء الله، فأبى أن يبيع، فقال: لك بها عذق
يمد لك (مذلل - يب) في الجنة، فأبى أن يقبل. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للأنصاري: اذهب
فاقلعها وارم بها إليه، فإنه لا ضرر ولا ضرار. " (1)
وفي رواية أخرى لزرارة عنه (عليه السلام) نحوه، وفيه: " فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خل عنه ولك
مكانه عذق في مكان كذا وكذا. فقال: لا. قال: فلك اثنان. قال: لا أريد. فلم يزل يزيده
حتى بلغ عشرة أعذاق. فقال: لا. قال: فلك عشرة أعذاق في مكان كذا وكذا. فأبى. فقال:
خل عنه ولك مكانه عذق في الجنة. قال: لا أريد. فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنك رجل
مضار، ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن. الحديث ". (2)
والظاهر أن المراد بالضرر هو النقص في المال أو في النفس، والضرار أعم منه،
فيشمل مطلق التضييق. أو إن الضرر فعل الواحد، والضرار فعل الاثنين كما في النهاية. (3)
وقيل غير ذلك. والعذق كفلس: النخلة وبالكسر: العرجون بما فيه من الشماريخ.
وكيف كان فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يأمر بقلع الشجرة في بادئ الأمر، بل أمر بالاستيذان، ثم
ساومه حتى بلغ به من الثمن عشرة أعذاق، فلما أبى ذلك وأبى العذق في الجنة أيضا و
رأى منه اللجاجة اضطر إلى الحكم بقلع الشجرة لقلع جذر الفساد وقطع رجاء المفسد.
فإن قلت: لم لم يحكم هو (صلى الله عليه وآله وسلم) بالبيع جبرا وقهرا عليه فإن الحاكم ولى الممتنع؟

1 - الوسائل 17 / 341، الباب 12 من أبواب إحياء الموات، الحديث 3.
2 - الكافي 5 / 294، كتاب المعيشة، باب الضرار، الحديث 8.
3 - النهاية لابن الأثير 3 / 81.
29

قلت: يظهر من معاملة سمرة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأنصاري أنه لم يكن يتعبد بالبيع و
رفع المزاحمة عن الأنصاري وإن حكم به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ودفع إليه الثمن، فتدبر هذا.
وفي مسند أحمد بن حنبل روى بسنده عن عبادة بن الصامت، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
حديثا طويلا يشتمل على قضايا كثيرة وفيه: " وقضى أن لا ضرر ولا ضرار. " (1)
وهل يراد بقوله: " لا ضرر " نفي الضرر ادعاء، يعني نفي الحكم الضرري، أو يكون نهيا
إلهيا نظير سائر النواهي الشرعية، أو يكون نهيا ولائيا من قبل النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) كما ربما
يشهد بذلك التعبير بالقضاء منه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فيكون نظير سائر النواهي الصادرة في مقام إعمال
الولاية؟ وجوه. وللبحث فيه محل آخر.
وكيف كان فالأحكام الولائية الصادرة عن اضطرار إنما تتقدر بقدر الاضطرار و
الضرورة.

1 - مسند أحمد 5 / 327.
30

الفصل الثاني
في الشورى
وفيها جهات من البحث:
1 - اهتمام الإسلام بالاستشارة:
لا يخفى أن بناء الحكم الإسلامي على إعمال التشاور وتبادل الآراء في الأمور، و
الاجتناب عن الاستبداد والديكتاتورية.
والإسلام - على ما يظن - أول نظام قانوني حث على الشورى في مجال الحكم و
تدبير الأمور، حينما كان العصر عصر الحكومات الاستعبادية الديكتاتورية.
فترى في القرآن الكريم سورة باسم الشورى عد فيها التشاور في الأمور في عداد
الفرائض والخلقيات المرغب فيها، فقال - تعالى -: " والذين يجتنبون كبائر الإثم و
الفواحش، وإذا ما غضبوا هم يغفرون * والذين استجابوا لربهم، وأقاموا الصلاة، و
أمرهم شورى بينهم، ومما رزقناهم ينفقون " (1)

1 - سورة الشورى (42)، الآية 37 و 38.
31

وقد بلغت الشورى من الأهمية بحيث أمر الله - تعالى - نبيه الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) مع عصمته و
اتصاله بمنبع الوحي أن يشاور أصحابه ويحصل آراءهم، واستمرت سيرته (صلى الله عليه وآله وسلم) على
ذلك وإن كان العزم والقرار النهائي له (صلى الله عليه وآله وسلم).
فقال - تبارك وتعالى -: " وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله، إن الله
يحب المتوكلين. " (1)
ولفظ الأمر وإن كان بحسب اللغة والمفهوم يعم جميع الشؤون الفردية والاجتماعية
من السياسة والاقتصاد والثقافة والدفاع، وتحسن المشاورة أيضا في جميع ذلك حتى
في الشؤون الفردية المهمة، ولكن المتبادر منه والمتيقن هو الحكومة والإمارة بشعبها
التي من أهمها مسألة الحرب والدفاع، كما يشهد بذلك ما عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لن يفلح
قوم ولوا أمرهم امرأة. " (2) وما عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة.
الحديث. " (3) وما عن الإمام المجتبى (عليه السلام) في كتابه إلى معاوية: " ولاني المسلمون الأمر
بعده. " (4) إلى غير ذلك من موارد استعمال كلمة الأمر.
ووقوع قوله - تعالى -: " وشاورهم في الأمر " في سياق الآيات الحاكية عن غزوة
أحد لا يدل على اختصاص الكلمة بالحرب والأمور الدفاعية، ولاعلى اختصاص
مشاورة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بها، وإن كانت الحرب بنفسها من أهم شؤون الحكومة ومن أحوجها
إلى التشاور. هذا.
وينبغي أن يزداد إعجابنا بهذا الدستور القرآني إذا مثلنا لعقولنا الوضع الحاكم في تلك
الأعصار في الحكومات الدارجة، حيث لم يكن لعامة الناس وعي سياسي يحفزهم إلى
التدخل في الأمور ومطالبته، وكان للحكام عند أكثرهم قداسة ذاتية تقربهم من الآلهة و
تفرض التسليم لهم بلا نقد واعتراض، والمسلمون كانوا خاضعين لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
لا يتوقعون منه (صلى الله عليه وآله وسلم) تشريكهم في الأمر والحكم; ففي هذا الظرف

1 - سورة آل عمران (3)، الآية 159.
2 - صحيح البخاري 3 / 91، كتاب المغازي، باب كتاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى كسرى وقيصر.
3 - نهج البلاغة، فيض / 51; عبده 1 / 31; لح / 49، الخطبة 3.
4 - مقاتل الطالبين / 36.
32

تشاهد القرآن الكريم يؤكد على مشاورة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المسلمين وعلى مشاورة بعضهم
بعضا لتصير الشورى أساسا خالدا في الشريعة الإسلامية.
والسر في ذلك أن الشورى توجب تبادل الأفكار وتلاحقها واتضاح الأمر و
اطمينان الخاطر بعدم الاشتباه والخطأ.
ففي الأمور المهمة نظير تدبير أمور الأمة ومسائل الحرب والدفاع ونحوها لا محيص
عنها ولعل تركها يكون ظلما على المجتمع والأمة.
نعم، تعيين شخص الإمام إن وقع من قبل الله - تعالى - أو من قبل الرسول الأكرم أو
الإمام المعصوم فلا يبقى معه مجال للشورى في أصله، فإن أمر الله حاكم على كل شيء
وقد مر بالتفصيل، فراجع. هذا.
وأما الأخبار الواردة في الحث على الشورى والاهتمام بها ففي غاية الكثرة من
طرق الفريقين، فلنذكر بعضها:
1 - ما رواه في العيون عن الرضا (عليه السلام) بإسناده عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: من جاءكم يريد أن
يفرق الجماعة ويغصب الأمة أمرها ويتولى من غير مشورة فاقتلوه، فإن الله قد أذن
ذلك. " (1)
يظهر من الحديث الاهتمام بالمشورة في التصدي لأصل الولاية أو في اعمالها، ولعل
الثاني أظهر.
هذا ولكن الظاهر أن جواز القتل يرتبط بتفريق الجماعة وغصب أمر الأمة، لا بترك
المشورة فقط، فتدبر.
2 - ما رواه الترمذي بسنده عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إذا كانت
أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحاءكم وأموركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم
من بطنها... " (2) ورواه في تحف العقول أيضا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (3).

1 - عيون أخبار الرضا 2 / 62، الباب 31، الحديث 254.
2 - سنن الترمذي 3 / 361، أبواب الفتن، الباب 64، الحديث 2368.
3 - تحف العقول / 36.
33

3 - ما رواه في البحار عن الخصال، عن الصادق (عليه السلام)، قال: " لا يطمعن القليل التجربة
المعجب برأيه في رياسة. " (1)
4 - ما رواه في الوسائل عن أبي هريرة، قال: سمعت أبا القاسم (عليه السلام) يقول: " استرشدوا
العاقل ولا تعصوه فتندموا. " (2)
5 - وفيه أيضا عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: فيما أوصى به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا (عليه السلام) قال:
" لا مظاهرة أوثق من المشاورة، ولا عقل كالتدبير. " (3)
أقول: التدبير: ملاحظة دبر الشيء وعاقبته.
6 - وفيه أيضا عن جعفر بن محمد، عن أبيه (عليه السلام)، قال: " قيل: يا رسول الله، ما الحزم؟
قال: مشاورة ذوي الرأي واتباعهم. " (4)
7 - وفيه أيضا عن معمر بن خلاد، قال: هلك مولى لأبي الحسن الرضا (عليه السلام) يقال له:
سعد، فقال له: أشر على برجل له فضل وأمانة، فقلت: أنا أشير عليك؟ فقال شبه المغضب:
" إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يستشير أصحابه ثم يعزم على ما يريد. " (5)
يظهر من الحديث أن الاستشارة كانت من سيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان يداوم عليها.
8 - وفي نهج البلاغة: " لا مظاهرة أوثق من المشاورة. " (6)
9 - وفيه أيضا: " من استبد برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها. " (7)

1 - بحار الأنوار 72 / 98 (= طبعة إيران 75 / 98)، كتاب العشرة، الباب 48، الحديث 2.
2 - الوسائل 8 / 409، الباب 9 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 1.
3 - الوسائل 8 / 424، الباب 21 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 2.
4 - الوسائل 8 / 424، الباب 21 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 1.
5 - الوسائل 8 / 428، الباب 24 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 1.
6 - نهج البلاغة، فيض / 1139; عبده 3 / 177; لح / 488، الحكمة 113.
7 - نهج البلاغة، فيض / 1165; عبده 3 / 192; لح / 500، الحكمة 161.
34

10 - وفيه أيضا: " والاستشارة عين الهداية، وقد خاطر من استغنى برأيه. " (1)
11 - وفيه أيضا: " من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ. " (2)
12 - وفيه أيضا: " فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به
عند أهل البادرة ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالا في حق قيل لي، و
لا التماس إعظام لنفسي، فإنه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان
العمل بهما أثقل عليه، فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل، فإني لست بفوق أن
أخطئ ولا آمن ذلك من فعلي إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني " (3)
فليتنبه شيعة أمير المؤمنين المدعون للاقتداء به، وليتدبروا في هذه الكلمات الصادرة
عن باب علم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخيه ووزيره، ولا يستنكفوا عن المشاورة ولا يستثقلوا عن
الحق الذي ربما يقال لهم، حتى ممن هو دونهم بحسب العناوين الرسمية الاعتبارية.
13 - فروى الحسن بن جهم، قال: " كنا عند أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فذكر أباه (عليه السلام) فقال:
كان عقله لا توازن به العقول وربما شاور الأسود من سودانه. فقيل له تشاور مثل هذا؟
فقال: إن الله - تبارك وتعالى - ربما فتح على لسانه. قال: فكانوا ربما أشاروا عليه
بالشيء فيعمل به من الضيعة والبستان. " (4)
14 - وفي آخر الفقيه في وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لابنه محمد بن الحنفية: " اضمم آراء
الرجال بعضها إلى بعض ثم اختر أقربها إلى الصواب وأبعدها من الارتياب. " (إلى أن
قال): " قد خاطر بنفسه من استغنى برأيه ومن استقبل وجوه الآراء عرف مواقع
الخطأ. " (5)

1 - نهج البلاغة، فيض / 1181; عبده 3 / 200; لح / 506، الحكمة 211.
2 - نهج البلاغة، فيض / 1169; عبده 3 / 193; لح / 501، الحكمة 173.
3 - نهج البلاغة، فيض / 686; عبده 2 / 226; لح / 335، الخطبة 216.
4 - الوسائل 8 / 428، الباب 24 من أبواب احكام العشرة، الحديث 3.
5 - الفقيه 4 / 385 و 388، باب النوادر، الحديث 5834.
35

15 - وفي الغرر والدرر للآمدي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " أفضل الناس رأيا من
لا يستغني عن رأي مشير. " (1)
16 - وفيه أيضا: " إنما حض على المشاورة لأن رأي المشير صرف ورأي المستشير
مشوب بالهوى. " (2)
17 - وفيه أيضا: " حق على العاقل أن يضيف إلى رأيه رأي العقلاء ويضم إلى علمه
علوم الحكماء. " (3)
18 - وفيه أيضا: " من لزم المشاورة لم يعدم عند الصواب مادحا وعند الخطأ
عاذرا. " (4)
إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة الواردة في هذا الباب.
وقال قائل في هذا الشأن:
اقرن برأيك رأي غيرك واستشر * فالحق لا يخفى على الاثنين
للمرأ مرآة تريه وجهه * ويرى قفاه بجمع مرآتين
وقال آخر:
شاور سواك إذا نابتك نائبة * يوما وإن كنت من أهل المشورات
فالعين تنظر منها مادنا ونأى * ولا ترى نفسها إلا بمرآة
هذا.
والظاهر أن عمدة مشاورة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت مع وجوه القبائل لجلب أنظارهم و
إعطاء الشخصية لهم وإظهار الاعتماد عليهم، ولا محالة كانت نفس هذا العمل من أقوى
العوامل المؤثرة في قوة عزمهم وتحركهم ومتابعتهم في جميع المراحل.
وأما غيره (صلى الله عليه وآله وسلم) من الحكام غير المعصومين فاللازم أن يكون لهم مشاورون

1 - الغرر والدرر 2 / 429، الحديث 3152.
2 - الغرر والدرر 3 / 92، الحديث 3908.
3 - الغرر والدرر 3 / 408، الحديث 4920.
4 - الغرر والدرر 5 / 406، الحديث 8956.
36

أخصائيون في الأمور العامة المهمة من السياسة والاقتصاد والثقافة والدفاع، فيطرح
لهم المسائل ويطلب منهم تبادل الآراء واستحصال الفكر الصحيح في كل مسألة وتنظيم
البرامج والخطوط الكلية لإدارة النفوس والبلاد.
وليحذر الحاكم من الإعجاب بالنفس وبأفكار نفسه، بل يستمع الآراء المختلفة و
يقلب وجوه الرأي، وبعد التأمل والتعمق فيها يختار ما هو الأصلح في مجالات الحكم،
ولا يتبادر إلى التصميم والقرار قبل المشاورة وتبادل الأفكار وتلاقحها، فإن الجواد قد
يكبو والصارم قد ينبو، وضرر الخطأ والاشتباه من العظيم عظيم.
نعم، لما كان المسؤول والمكلف هو الحاكم فالملاك بعد المشاورة واستماع الأنظار
المختلفة هو تشخيص نفسه، ولا يتعين عليه متابعة الأكثرية، ولا يلزم من ذلك كون
الشورى بلا فائدة، إذ يترتب عليها مضافا إلى جلب أنظار المشاورين وإعطاء الشخصية
لهم نضج الفكر والاطلاع على جوانب الأمر وعواقبه حتى يختار ما هو الأصلح بعد
التأمل في الأنظار المختلفة والمقايسة بينها.
وفي نهج البلاغة: " وقال - عليه السلام - لعبد الله بن العباس وقد أشار عليه في شيء
لم يوافق رأيه: لك أن تشير على وأرى، فإن عصيتك فأطعني. " (1)
وبالجملة فالإمام أو الأمير المسؤول هو الذي يختار ويعزم بعد إنضاج الفكر
بالمشاورة.
واعتبار الأكثرية إنما يكون فيما إذا كان المسؤول هو الأمة أو أهل الحل والعقد، كما
في انتخاب الإمام أو الممثلين، وكما في التقنين في مجلس الشورى; ففي هذه الموارد
يكون الملاك آراء الجميع أو الأكثرية، كما لا يخفى.
وأما جعل الإمامة والولاية للشورى لا للشخص - كما قد يتلقى بألسنة بعض
المتثقفين وكنت أنا أيضا في مجلس الخبراء مدافعا عن هذه الفكرة - فالظاهر أنه مخالف
لسيرة العقلاء والمتشرعة، وليس أمرا صالحا لإدراة البلاد والعباد ولا سيما في

1 - نهج البلاغة، فيض / 1239; عبده 3 / 230; لح / 531، الحكمة 321.
37

المواقع الحساسة الخطيرة، حيث يتوقف مضى الأمور فيها على وحدة مركز القرار و
التصميم.
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): " الشركة في الملك تؤدي إلى الاضطراب. " (1)
والله - تعالى - خاطب نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: " وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على
الله. " فجعل العزم والقرار في النهاية لشخص النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) فتأمل.

1 - الغرر والدرر 2 / 86، الحديث 1941.
38

7
2 - مواصفات من يستشار
1 - معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " استشر في أمرك الذين يخشون
ربهم. " (1)
2 - الحسين بن المختار، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال علي (عليه السلام): " شاور في حديثك
الذين يخافون الله. " (2)
3 - سليمان بن خالد، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " استشر العاقل من الرجال
الورع، فإنه لا يأمر إلا بخير، وإياك والخلاف، فإن مخالفة الورع العاقل مفسدة في الدين
والدنيا. " (3)
4 - منصور بن حازم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " مشاورة العاقل
الناصح رشد ويمن وتوفيق من الله، فإذا أشار عليك الناصح العاقل فإياك والخلاف،
فإن في ذلك العطب. " (4)
5 - المعلى بن خنيس، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): " ما يمنع أحدكم إذا ورد عليه ما
لاقبل له به أن يستشير رجلا عاقلا له دين وورع، ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): " أما إنه إذا فعل
ذلك لم يخذله الله بل يرفعه الله ورماه بخير الأمور وأقربها إلى الله. " (5)

1 - الوسائل 8 / 426، الباب 22 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 3.
2 - الوسائل 8 / 426، الباب 22 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 4.
3 - الوسائل 8 / 426، الباب 22 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 5.
4 - الوسائل 8 / 426، الباب 22 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 6.
5 - الوسائل 8 / 426، الباب 22 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 7.
39

6 - الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: إن المشورة لا تكون إلا بحدودها، فمن عرفها
بحدودها وإلا كانت مضرتها على المستشير أكثر من منفعتها له، فأولها أن يكون الذي
تشاوره عاقلا، والثانية أن يكون حرا متدينا، والثالثة أن يكون صديقا مؤاخيا، والرابعة
أن تطلعه على سرك فيكون علمه به كعلمك بنفسك، ثم يسر ذلك ويكتمه. فإنه إذا كان
عاقلا انتفعت بمشورته، وإذا كان حرا متدينا أجهد نفسه في النصيحة لك، وإذا كان
صديقا مؤاخيا كتم سرك إذا أطلعته عليه، وإذا أطلعته على سرك فكان علمه به كعلمك به
تمت المشورة وكملت النصيحة. " (1)
وقد نقلنا هذه الأخبار الستة من الوسائل.
7 - وفي الغرر والدرر: " أفضل من شاورت ذو التجارب، وشر من قارنت
ذو المعايب. " (2)
8 - وفيه أيضا: " جهل المشير هلاك المستشير. " (3)
9 - وفيه أيضا: " خير من شاورت ذووا النهى والعلم وأولوا التجارب والحزم. " (4)
10 - وفي نهج البلاغة في كتابه (عليه السلام) لمالك الأشتر: " ولا تدخلن في مشورتك بخيلا
يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر، ولا جبانا يضعفك عن الأمور، ولا حريصا يزين لك
الشره بالجور; فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله. " (5)
11 - الحسن بن راشد، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): " يا حسن، إذا نزلت بك نازلة فلا
تشكها إلى أحد من أهل الخلاف، ولكن اذكرها لبعض إخوانك، فإنك لن تعدم خصلة من
خصال أربع: إما كفاية بمال، وإما معونة بجاه، أو دعوة تستجاب، أو مشورة برأي. " (6)

1 - الوسائل 8 / 426، الباب 22 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 8.
2 - الغرر والدرر 2 / 456، الحديث 3279.
3 - الغرر والدرر 3 / 367، الحديث 4767.
4 - الغرر والدرر 3 / 428، الحديث 4990.
5 - نهج البلاغة، فيض / 998; عبده 3 / 97; لح / 430، الكتاب 53.
6 - الوسائل 2 / 631، الباب 6 من أبواب الاحتضار، الحديث 2.
40

12 - وفي البحار عن العلل بسنده عن عمار الساباطي، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): " يا
عمار، إن كنت تحب أن تستتب لك النعمة وتكمل لك المروة وتصلح لك المعيشة فلا
تستشر العبد والسفلة في أمرك; فإنك إن ائتمنتهم خانوك، وإن حدثوك كذبوك، وإن
نكبت خذلوك، وإن وعدوك موعدا لم يصدقوك. " (1)
13 - وقد مر في حديث وصايا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلى: " يا على ليس على النساء جمعة و
لا جماعة... ولا تستشار. " (2)
14 - ومر عن نهج البلاغة في كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى ابنه الحسن (عليه السلام): " إياك و
مشاورة النساء، فإن رأيهن إلى أفن وعزمهن إلى وهن. " (3)
إلى غير ذلك من الأخبار، فراجع.

1 - بحار الأنوار / 9972 (= طبعة إيران 75 / 99)، كتاب العشرة، الباب 48، الحديث 9.
2 - الفقيه 4 / 364، باب النوادر، الحديث 5762.
3 - نهج البلاغة، فيض / 938; عبده 3 / 63; لح / 405، الكتاب 31.
41

3 - حق المستشير على المشير وبالعكس
1 - تحف العقول في رسالة الحقوق المروية عن علي بن الحسين (عليه السلام): " وأما حق
المستشير فإن حضرك له وجه رأي جهدت له في النصيحة وأشرت عليه بما تعلم أنك لو
كنت مكانه عملت به. وذلك ليكن منك في رحمة ولين، فإن اللين يؤنس الوحشة، وإن
الغلظ يوحش موضع الأنس. وإن لم يحضرك له رأي وعرفت له من تثق برأيه وترضى
به لنفسك دللته عليه وأرشدته اليه، فكنت لم تأله خيرا ولم تدخره نصحا، ولا حول و
لا قوة إلا بالله.
وأما حق المشير عليك فلا تتهمه فيما لا يوافقك عليه من رأيه إذا أشار عليك. فإنما
هي الآراء وتصرف الناس فيها واختلافهم، فكن عليه في رأيه بالخيار إذا اتهمت رأيه،
فأما تهمته فلا تجوز لك إذا كان عندك ممن يستحق المشاورة. ولا تدع شكره على ما
بدلك من إشخاص رأيه وحسن وجه مشورته، فإذا وافقك حمدت الله وقبلت ذلك من
أخيك بالشكر والإرصاد بالمكافأة في مثلها إن فزع إليك، ولا قوة إلا بالله. " (1)
2 - وفي سنن أبي داود بسنده عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " المستشار
مؤتمن. " (2)
ومثله في سنن ابن ماجة عن أبى هريرة، وكذا عن أبي مسعود عنه (صلى الله عليه وآله وسلم). وفي سفينة
البحار عن أمير المؤمنين (عليه السلام). (3)
3 - وفي سفينة البحار للمحدث القمي عن أبي عبد الله (عليه السلام): " من استشار أخاه

1 - تحف العقول / 269.
2 - سنن أبي داود 2 / 626، كتاب الأدب، باب في المشورة.
3 - سنن ابن ماجة 2 / 1233، كتاب الأدب، الباب 37، الحديث 3745 و 3746; وسفينة البحار
1 / 718.
42

فلم يمحضه محض الرأي سلبه الله - عز وجل - رأيه. " ورواه في الوسائل إلا أنه قال:
" فلم ينصحه محض الرأي. " (1)
4 - وفي الغرر والدرر: " ظلم المستشير ظلم وخيانة. " (2)
5 - وفيه أيضا: " على المشير الاجتهاد في الرأي وليس عليه ضمان النجح. " (3)
6 - وفيه أيضا: " من غش مستشيره سلب تدبيره. " (4)

1 - سفينة البحار 1 / 718، باب الشين بعده الواو; والوسائل 8 / 427، الباب 23 من أبواب أحكام
العشرة، الحديث 2.
2 - الغرر والدرر 4 / 272، الحديث 6037.
3 - الغرر والدرر 4 / 316، الحديث 6194.
4 - الغرر والدرر 5 / 217، الحديث 8055.
43

4 - ذكر بعض موارد استشارة النبي " ص " تتميما للفائدة
الأول في غزوة البدر:
ففي كتاب المغازي للواقدي:
" قالوا: ومضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى إذا كان دوين بدر أتاه الخبر بمسير قريش،
فأخبرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمسيرهم واستشار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الناس، فقام أبو بكر فقال
فأحسن، ثم قام عمر فقال فأحسن، ثم قال: يا رسول الله، إنها والله قريش وعزها، والله
ما ذلت منذ عزت، والله ما آمنت منذ كفرت، والله لا تسلم عزها أبدا، ولتقاتلنك، فاتهب
لذلك أهبته وأعد لذلك عدته. ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امض لأمر الله;
فنحن معك. والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيها: " فاذهب أنت وربك فقاتلا، إنا
هيهنا قاعدون. " (1) ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا معكما مقاتلون. والذي بعثك
بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك - وبرك الغماد من وراء مكة بخمس ليال من
وراء الساحل مما يلي البحر وهو على ثمان ليال من مكة إلى اليمن - فقال له رسول الله
خيرا ودعا له بخير. ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أشيروا على أيها الناس! وإنما يريد
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الأنصار. وكان يظن أن الأنصار لا تنصره إلا في الدار، وذلك أنهم شرطوا
له أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأولادهم. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أشيروا على فقام
سعد بن معاذ فقال: أنا أجيب عن الأنصار،

1 - سورة المائدة (5)، الآية 24.
44

كأنك يا رسول الله تريدنا. قال: أجل. قال: إنك عسى أن تكون خرجت عن أمر قد
أوحي إليك في غيره، وإنا قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن كل ما جئت به حق و
أعطيناك مواثيقنا وعهودنا على السمع والطاعة، فامض يا نبي الله، فو الذي بعثك بالحق
لو استعرضت هذا البحر فخضته لخضناه معك ما بقي منا رجل، وصل من شئت، واقطع
من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وما أخذت من أموالنا أحب إلينا مما تركت. والذي
نفسي بيده ما سلكت هذا الطريق قط، وما لي بها من علم، وما نكره أن يلقانا عدونا غدا،
إنا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك... قالوا فلما فرغ
سعد من المشورة قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): سيروا على بركة الله، فإن الله قد وعدني إحدى
الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم. قال: وأرانا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مصارعهم
يومئذ. " (1)
وروى نحو علي بن إبراهيم في تفسيره في تفسير سورة الأنفال. (2)
وفي مسند أحمد:
" استشار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الناس في الأسارى يوم بدر. " (3)
الثاني في غزوة أحد:
ففي سيرة ابن هشام:
" قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للمسلمين: إني قد رأيت والله خيرا; رأيت بقرا، ورأيت في
ذباب سيفي ثلما، ورأيت إني أدخلت يدي في درع حصينة، فأولتها المدينة... فإن رأيتم

1 - المغازي 1 / 48.
2 - تفسير علي بن إبراهيم / 238.
3 - مسند أحمد 3 / 243.
45

أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن هم دخلوا
علينا قاتلناهم فيها. وكان رأي عبد الله بن أبي بن سلول مع رأي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم); يرى
رأيه في ذلك وألا يخرج إليهم، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يكره الخروج.
فقال رجال من المسلمين ممن أكرم الله بالشهادة يوم أحد وغيره ممن كان فاته بدر:
يا رسول الله، اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا.
فقال عبد الله بن أبى بن سلول: يا رسول الله، أقم بالمدينة لا تخرج إليهم; فوالله ما
خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه...
فلم يزل الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم حتى دخل
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بيته فلبس لأمته... ثم خرج عليهم وقد ندم الناس، وقالوا: استكرهنا
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يكن لنا ذلك. فلما خرج عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قالوا: يا رسول الله،
استكرهناك ولم يكن ذلك لنا، فإن شئت فاقعد، صلى الله عليك. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما
ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل. فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ألف من
أصحابه. " (1)
وفي المغازي بعد نقل رؤيا النبي:
" وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أشيروا على. ورأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ألا يخرج من المدينة لهذه
الرؤيا. " ثم ذكر القصة بالتفصيل، فراجع. (2)
فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) مع ما كان يرى من عدم الخروج من المدينة لما رأى إصرار أكثر أصحابه
على الخروج وحرصهم على الشهادة في سبيل الله ترك رأي نفسه وتابع رأيهم، حرصا
على حفظ حرمتهم وإبقاء لروح الإيثار والشجاعة المحياة في نفهوسهم.

1 - سيرة ابن هشام 3 / 66.
2 - المغازي للواقدي 1 / 209.
46

الثالث في غزوة الأحزاب (الخندق):
ففي المغازي:
" ندب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الناس وأخبرهم خبر عدوهم، وشاورهم في أمرهم بالجد و
الجهاد، ووعدهم النصر إن هم صبروا واتقوا، وأمرهم بطاعة الله وطاعة رسوله، و
شاورهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يكثر مشاورتهم في الحرب، فقال: أنبرز
لهم من المدينة، أم نكون فيها ونخندقها علينا، أم نكون قريبا ونجعل ظهورنا إلى هذا
الجبل؟ فاختلفوا; فقالت طائفة: نكون مما يلي بعاث إلى ثنية الوداع، إلى الجرف، فقال
قائل: ندع المدينة خلوفا، فقال سلمان يا رسول الله، إنا إذ كنا بأرض فارس وتخوفنا
الخيل خندقنا علينا، فهل لك يا رسول الله أن نخندق؟ فأعجب رأي سلمان المسلمين و
ذكروا حين دعاهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم أحد أن يقيموا ولا يخرجوا، فكره المسلمون الخروج
وأحبوا الثبات في المدينة. " (1)
الرابع في غزوة الأحزاب أيضا:
حينما اشتد الأمر على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه:
ففي المغازي أيضا ما ملخصه:
" حصر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه بضع عشرة حتى خلص إلى كل امرئ منهم
الكرب، فأرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى عيينة بن حصن وإلى الحارث بن عوف وقال لهما:
أرأيت إن جعلت لكم ثلث تمر المدينة ترجعان بمن معكم وتخذلان بين الأعراب؟

1 - المغازي للواقدي 1 / 444، (الجزء الثاني).
47

قالا: تعطينا نصف تمر المدينة، فأبى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يزيدهما على الثلث، فرضيا
بذلك.
وجاءا في عشرة من قومهما حين تقارب الأمر، فجاؤوا وقد أحضر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
أصحابه، وأحضر الصحيفة والدواة.
فأقبل أسيد بن حضير إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله، إن كان أمرا من السماء
فامض له، وإن كان غير ذلك فوالله لا نعطيهم إلا السيف، متى طمعوا بهذا منا؟
فأسكت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ودعا سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فاستشارهما في ذلك و
هو متكئ عليهما والقوم جلوس، فتكلم بكلام يخفيه، وأخبرهما بما قد أراد من الصلح.
فقالا: إن كان أمرا من السماء فامض له، وإن كان أمرا لم تؤمر فيه ولك فيه هوى
فامض لما كان لك فيه هوى، فسمعا وطاعة، وإن كان إنما هو الرأي فما لهم عندنا إلا
السيف، وأخذ سعد بن معاذ الكتاب.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إني رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة فقلت: أرضيهم و
لا أقاتلهم.
فقالا: يا رسول الله، إن كانوا ليأكلون العلهز في الجاهلية من الجهد، ما طمعوا بهذا منا
قط أن يأخذوا تمرة إلا بشرى أو قرى! فحين أتانا الله - تعالى - بك، وأكرمنا بك، وهدانا
بك نعطى الدنية! لا نعطيهم أبدا إلا السيف.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): شق الكتاب. فتفل سعد فيه ثم شقه، وقال: بيننا السيف. " (1)
وفي النهاية:
" العلهز: هو شيء يتخذونه في سني المجاعة، يخلطون الدم بأوبار الإبل ثم يشوونه
بالنار ويأكلونه، وقيل: كانوا يخلطون فيه القردان. " (2)

1 - المغازي للواقدي 1 / 477، (الجزء الثاني).
2 - النهاية لابن الأثير 3 / 293.
48

أقول: الظاهر أن ما كان منه (صلى الله عليه وآله وسلم) أولا مع عيينة والحارث لم يكن إلا مجرد المقاولة و
المفاوضة، ولم يكن غرضه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا حفظ كيان الأنصار وحقن دمائهم، فلما رأى قوتهم
وشدة بأسهم أحال الأمر إليهم. فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يخلف وعدا جازما ولا أقدم على ما لا يصح،
بل أخذ بعد المشاورة بما ظهر كونه أصلح.
وكيف كان فالظاهر كما مر أن عمدة مشاورة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت مع وجوه القبائل لجلب
أنظارهم وإظهار الاعتماد عليهم، تقوية لعزمهم وتحركهم، وإلا فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) كان متصلا
بمنبع الوحي وكان الحق واضحا له. فما كان استشارته (صلى الله عليه وآله وسلم) أمته إلا وزان استشارة الله
إياه: ففي مسند أحمد، عن حذيفة، عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " إن ربي - تبارك وتعالى -
استشارني في أمتي ماذا أفعل بهم؟ فقلت: ما شئت أي رب، هم خلقك وعبادك.
فاستشارني الثانية، فقلت له كذلك، فقال: لا أحزنك في أمتك. الحديث. " (1)
الخامس في قصة الحديبية:
ففي سنن البيهقي بسنده عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، قالا:
خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) زمن الحديبية في بضع عشرة مأة من أصحابه، حتى إذا كانوا
بذي الحليفة قلد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الهدي وأشعره وأحرم بالعمرة، وبعث بين يديه عينا له
من خزاعة يخبره عن قريش.
وسار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى إذا كان بوادي الأشطاط قريب من عسفان أتاه عينه
الخزاعي فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد جمعوا لك الأحابيش وجمعوا
لك جموعا وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت.

1 - مسند أحمد 5 / 393.
49

فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أشيروا على، أترون أن نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم
فنصيبهم، فإن قعدوا قعدوا موتورين محزونين وإن نجوا تكن عنقا قطعها الله، أو ترون
أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه؟
فقال أبو بكر: الله ورسوله أعلم يا نبي الله، إنما جئنا معتمرين ولم نجئ نقاتل أحدا،
ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه.
فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فروحوا إذا. قال الزهري: وكان أبو هريرة يقول: ما رأيت أحدا قط
كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله. " (1)
السادس في غزوة الطائف:
وبعد ما حاصر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الطائف " قيل إنه استشار نوفل بن معاوية الدئلي في
المقام عليهم، فقال: يا رسول الله ثعلب في جحر; إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته
لم يضرك، فأذن بالرحيل. " (2)
إلى غير ذلك من الموارد التي ربما يعثر عليها المتتبع.

1 - سنن البيهقي 9 / 218. كتاب الجزية، باب المهادنة على النظر للمسلمين.
2 - الكامل لابن الأثير 2 / 267، (في ذكر حصار الطائف).
50

الفصل الثالث
في أن المسؤول في الحكومة الإسلامية هو الإمام، والسلطات الثلاث أياديه و
أعضاده
اعلم أن المستفاد من الآيات والروايات التي مرت في بيان تكاليف الحاكم وكذلك
من سيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) هو أن الإمام والحاكم في الحكومة الإسلامية
يكون هو المكلف والمسؤول لحفظ كيان المسلمين وتدبير أمورهم وإصلاح شؤونهم
على أساس ضوابط الإسلام ومقرراته.
فهو المكلف بإصلاح الملك والمسؤول عن فساده.
ولكنه إذا اتسعت حيطة ملكه والاحتياجات والتكاليف المتوجهة إليه احتاج قهرا
إلى تكثير المشاورين والأيادي والعمال في شتى الدوائر المختلفة، ولا محالة يفوض
كل أمر إلى فرد متخصص أو دائرة تناسبه. ومن هنا تنشأ السلطات الثلاث.
فليس وزان الحاكم الإسلامي وزان الملك في الحكومة المشروطة الدارجة في
أعصارنا في بعض البلاد كإنكلترا مثلا، حيث ترى أنه لا يكون إلا وجودا تشريفيا يتمتع
من أعلى الإمكانيات وأغلاها من دون أن يتحمل أية مسؤولية علمية أو
51

نشاطية نافعة، وإنما تتوجه المسؤوليات والتكاليف من أول الأمر إلى السلطات
الثلاث.
وبالجملة، فالمسؤول والمكلف في الحكومة الإسلامية هو الإمام والحاكم، و
السلطات الثلاث أياديه وأعضاده، ويكون هو بمنزلة رأس المخروط مشرفا على
الجميع إشرافا تاما.
1 - ففي خبر عبد العزيز بن مسلم، عن الرضا (عليه السلام): " بالإمام تمام الصلاة والزكاة و
الصيام والحج والجهاد وتوفير الفيء والصدقات وامضاء الحدود والأحكام ومنع
الثغور والأطراف. الإمام يحل حلال الله ويحرم حرام الله ويقيم حدود الله ويذب عن
دين الله... " (1)
2 - ومر في خبر فضل بن شاذان، عن الرضا (عليه السلام) في حكمة جعل الإمام: " فجعل عليهم
قيما يمنعهم من الفساد ويقيم فيهم الحدود والأحكام... فيقاتلون به عدوهم ويقسمون
به فيئهم ويقيم لهم جمعتهم وجماعتهم ويمنع ظالمهم من مظلومهم. " (2)
3 - وفي خبر المحكم والمتشابه عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " لابد للأمة من إمام يقوم
بأمرهم، فيأمرهم وينهاهم ويقيم فيهم الحدود ويجاهد فيهم العدو ويقسم الغنائم و
يفرض الفرائض ويعرفهم أبواب ما فيه صلاحهم ويحذرهم ما فيه مضارهم... " (3)
4 - وفي خبر سليم عنه (عليه السلام): " يختاروا لأنفسهم إماما عفيفا عالما ورعا عارفا بالقضاء
والسنة يجمع أمرهم ويحكم بينهم، ويأخذ للمظلوم من الظالم حقه، ويحفظ أطرافهم و
يجبي فيئهم ويقيم حجتهم (حجهم وجمعتهم - البحار) ويجبي صدقاتهم. " (4)
إلى غير ذلك مما ورد في بيان واجبات الإمام وتكاليفه، حيث يظهر منها أن

1 - الكافي 1 / 200، كتاب الحجة، باب نادر جامع في فضل الإمام، الحديث 1.
2 - عيون أخبار الرضا 2 / 101، الباب 34، الحديث 1.
3 - المحكم والمتشابه / 50; وفي بحار الأنوار 90 / 41 (= طبعة إيران 93 / 41)، كتاب القرآن،
باب ما ورد في أصناف آيات القرآن. ولكن في البحار: " ويجاهد العدو "، بدل " ويجاهد فيهم
العدو ".
4 - كتاب سليم بن قيس / 182.
52

المسؤول هو الإمام والحاكم، وقد نسب جميع الأعمال والنشاطات إليه.
5 - ويشهد لذلك أيضا ما رواه الكليني بسنده عن المعلى بن خنيس، قال: قلت لأبي
عبد الله (عليه السلام) يوما: جعلت فداك، ذكرت آل فلان وما هم فيه من النعيم، فقلت: لو كان هذا
إليكم لعشنا معكم. فقال (عليه السلام): هيهات يا معلى، أما والله لو كان ذاك ما كان إلا سياسة الليل
وسياحة النهار ولبس الخشن وأكل الجشب، فزوي ذلك عنا. فهل رأيت ظلامة قط
صيرها الله - تعالى - نعمة إلا هذه؟ " (1)
فالمعلى تمنى أن تكون الحكومة للإمام الصادق (عليه السلام) ليعيش هو أيضا في ضوئها مرفها،
والامام (عليه السلام) نبهه على خطأه واشتباهه وأنه لو كان الأمر كذلك كان على الإمام صرف
الليل في التدبير والسياسة وترسيم الخطوط، وصرف النهار في التحرك والسياحة
للإشراف على المسؤولين والموظفين والاطلاع على أوضاع البلاد والعباد، ومع هذا
كله يكون في المعيشة في سطح ضعفة الناس بلبس الخشن وأكل الجشب.
6 - وفي وصية الإمام الكاظم (عليه السلام) لهشام بن الحكم: " ويجب على الوالي أن يكون
كالراعي لا يغفل عن رعيته ولا يتكبر عليهم. " (2)
7 - وفي كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك حين ولاه مصر بعد ذكر العمال وانتخابهم قال:
" ثم تفقد أعمالهم، وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم. فإن تعاهدك في السر
لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية، وتحفظ من الأعوان. فإن أحد
منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدا
فبسطت عليه العقوبة في بدنه وأخذته بما أصاب من عمله، ثم نصبته بمقام المذلة و
وسمته بالخيانة وقلدته عار التهمة. " (3)

1 - الكافي 1 / 410، كتاب الحجة، باب سيرة الإمام في نفسه...، الحديث 2.
2 - تحف العقول / 394.
3 - نهج البلاغة، فيض / 1011; عبده 3 / 106; لح / 435، الكتاب 53.
53

8 - وفيه أيضا: " واجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرغ لهم فيه شخصك وتجلس
لهم مجلسا عاما فتتواضع فيه لله الذي خلقك، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك
وشرطك، حتى يكلمك متكلمهم غير متتعتع، فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول في غير
موطن: " لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوى غير متتعتع. "
ثم احتمل الخرق منهم والعي، ونح عنهم الضيق والأنف يبسط الله عليك بذلك
أكناف رحمته ويوجب لك ثواب طاعته. وأعط ما أعطيت هنيئا، وامنع في اجمال و
إعذار.
ثم أمور من أمورك لابد لك من مباشرتها; منها: إجابة عمالك بمايعيا عنه كتابك. و
منها: إصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك بما تحرج به صدور أعوانك. " (1)
أقول: التعتعة في الكلام: التردد فيه من عجز. والخرق بالضم: العنف والشدة. والعي
بالكسر: العجز عن النطق. والأنف محركة: الاستنكاف والاستكبار. وأكناف الرحمة:
أطرافها. وتحرج: تضيق.
9 - وفيه أيضا: " ومهما كان في كتابك من عيب فتغابيت عنه ألزمته. " (2)
10 - وفي نهج البلاغة أيضا في كتاب له (عليه السلام) إلى عبد الله بن عباس عامله على البصرة:
" فأربع أبا العباس - رحمك الله - فيما جرى على لسانك ويدك من خير وشر; فإنا
شريكان في ذلك، وكن عند صالح ظني بك ولا يفيلن (3) رأيي فيك. والسلام. " (4)
إلى غير ذلك من الروايات الدالة على مسؤولية الإمام بشخصه، ومنها الحديث النبوي
المشهور المروى من طرق السنة الذي رواه البخاري ومسلم وأحمد وغيرهم:
11 - ففي البخاري بسنده عن عبد الله بن عمر، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول:
" كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته: الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع
في

1 - نهج البلاغة، فيض / 1021; عبده 3 / 112; لح / 439، الكتاب 53.
2 - نهج البلاغة، فيض / 1016; عبده 3 / 109; لح / 437، الكتاب 53.
3 - فال: أخطأ وضعف.
4 - نهج البلاغة، فيض / 868; عبده 3 / 21; لح / 376، الكتاب 18.
54

أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، و
الخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته. قال: وحسبت أن قد قال: والرجل راع
في مال أبيه ومسؤول عن رعيته، وكلكم راع ومسؤول عن رعيته. " (1)
وروى نحوه مسلم، وأحمد، فراجع. (2)
وبالجملة، يظهر من جميع هذه الروايات أن الإمام والحاكم الإسلامي هو المسؤول و
المكلف بإدارة الأمور العامة; فالوزراء والعمال والكتاب والجنود والقضاة أعوانه و
أياديه، ويجب عليه الإشراف عليهم وعلى أعمالهم، وليس له سلب المسؤولية عن
نفسه.
وقد صرح بما ذكرناه الماوردي وأبو يعلى، حيث ذكرا فيما يلزم الإمام من الأمور
العامة مباشرة نفسه بمشارفة الأمور:
قال الماوردي في عداد ما يلزم الإمام:
" العاشر: أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال، لينهض بسياسة الأمة و
حراسة الملة. ولا يعول على التفويض تشاغلا بلذة أو عبادة; فقد يخون الأمين ويغش
الناصح، وقد قال الله - تعالى -: " يا داود، إنا جعلناك خليفة في الأرض، فاحكم بين
الناس بالحق، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله. " فلم يقتصر الله - سبحانه - على
التفويض دون المباشرة ولا عذره في الاتباع حتى وصفه بالضلال.
وهذا وإن كان مستحقا عليه بحكم الدين ومنصب الخلافة فهو من حقوق السياسة
لكل مسترع. قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته. "... " (3)

1 - صحيح البخاري 1 / 160، كتاب الجمعة، باب الجمعة في القرى والمدن.
2 - صحيح مسلم 3 / 1459، كتاب الإمارة، الباب 5، الحديث 1829; ومسند أحمد 2 / 111.
3 - الأحكام السلطانية للماوردي / 16; وذكر أبو يعلى أيضا نحو ذلك في الأحكام السلطانية / 28.
55

الفصل الرابع
في بيان إجمالي لأنواع السلطات والدوائر في الحكومة الإسلامية
وهو مع بساطته فصل طويل.
قد عرفت في مطاوي بعض الفصول السابقة أنه ليس معنى ولاية الإمام أو الفقيه
تصديه بنفسه لجميع الأعمال والشؤون مباشرة، بل كلما اتسع نطاق الملك وتكثرت
الاحتياجات والتكاليف تكثرت السلطات والدوائر وفوض كل أمر إلى دائرة تناسبه. و
لكن الإمام أو الفقيه الواجد للشرائط بمنزلة رأس المخروط يشرف على جميعها إشرافا
تاما وهو المسؤول العالي وهو الذي تتوقع منه الأمة سياسة البلاد والعباد. وسائر
المسؤولين بمراتبهم أياديه وأعضاده.
وأصول السلطات في الحكومة ثلاثة: التشريعية والتنفيذية والقضائية.
إذ تدبير أمور الأمة يتوقف أولا: على ترسيم الخطوط الكلية وتعيين المقررات.
وثانيا: على اجراء المقررات والخطوط المعينة في شتى الأمور الواجبة على
الحكومة.
وثالثا: على فصل خصومات الأمة والقضاء بينهم في المنازعات. فإلى هذه
57

السلطات الثلاث يرجع جميع تكاليف الحاكم في نطاق حكومته حتى إن دائرة الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر والحسبة والإذاعة والتلفزيون أيضا تعد من شعب التنفيذ.
وإنما عد القضاء سلطة مستقلة لأن شأنه الحكم لا التنفيذ والإجراء، وللاهتمام بشأنه، و
لأن المقصود عموم سلطته حتى بالنسبة إلى أعضاء سلطة التنفيذ والتشريع أيضا، ولذا
يحال تعيين القضاة إلى نفس الإمام لا رئيس سلطة التنفيذ، فتدبر. وبالجملة، فهنا سلطات
ثلاث:
58

الأولى: السلطة التشريعية
وفيها جهات من البحث:
1 - في بيان الحاجة إليها وحدودها وتكاليفها:
فنقول: قد اصطلح على هذه السلطة في عصرنا مجلس الشورى والقوة المقننة، وتعد
من أهم الأركان في الحكومات الديموقراطية الدارجة.
والحاجة إليها مع فرض اتساع نطاق الملك وكثرة الحوادث الواقعة والحاجة إلى
ترسيم المخططات الكثيرة في غاية الوضوح لا نحتاج فيها إلى بيان.
لكن لا يخفى عليك وجود التفاوت الأساسي بين السلطة التشريعية في الحكومة
الإسلامية، وبين ما تعارف في الحكومات الدارجة العصرية: إذ النواب في الحكومات
الدارجة لا يلتزمون بشيء إلا بما يرونه مصلحة لناخبيهم فقط، ويبدعون القوانين على
حسب أهوائهم وإن باينت العقل والشرع.
وأما في الحكومة الإسلامية فالأساس هو ضوابط الإسلام وأحكام الله - تعالى -
النازلة على رسوله الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في شتى المسائل المرتبطة بالحياة بشؤونها المختلفة.
ولا يحق لأحد وان بلغ ما بلغ من العلم والثقافة والقدرة أن يشرع حكما أو يبدع
قانونا بارتجال. حتى إن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بعلو شأنه وقربه من الله - تعالى - أيضا يكون
تابعا لما أنزله الله - تعالى - حاكما على أساسه.
قال الله - تعالى -: " إن الحكم إلا لله. " وقال: " ألا له الحكم. " (1)

1 - سورة الأنعام (6)، الآية 57 و 62.
59

وقال: " وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم، واحذرهم أن يفتنوك عن
بعض ما أنزل الله إليك... أفحكم الجاهلية يبغون، ومن أحسن من الله حكما لقوم
يوقنون؟ " (1)
وما سمعت منا سابقا من تقسيم الأحكام إلى أحكام إلهية كان الرسول داعيا إليها و
واسطة لإبلاغها، وكانت الأوامر الصادرة عنه في بيان هذه الأحكام أوامر إرشادية
محضة، وإلى أحكام سلطانية مولوية صدرت عنه بما أنه كان ولى أمر المسلمين و
حاكمهم، فليس معنى ذلك أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يحكم في القسم الثاني بما يريده ويهواه، وأنه
كان له أن يحكم بأحكام مضادة لأحكام الله - تعالى - ناسخة لها. بل الظاهر أن القسم
الثاني كان أحكاما عادلة موسمية من قبيل الصغريات والمصاديق للأحكام الكلية
الشاملة النازلة من قبل الله - تعالى - على قلبه الشريف.
فالروح الحاكم على مجتمع المسلمين ليس إلا ما أنزله الله - تعالى - حتى فيما ربما
نسميها بالأحكام الثانوية، فإنها أيضا مستفادة من كبريات كلية أنزلها الله - تعالى - على
نبيه، فتدبر. هذا.
والمأخذ لأحكام الله - تعالى -، كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و
لامن خلفه، والسنة القويمة، والعقل الخالي عن شوائب الأوهام والتعصبات الكاشف
عن حكم الله - تعالى -. والمستخرج لها من هذه المآخذ هم الفقهاء الأمناء على حلاله و
حرامه.
وليس عمل مجلس الشورى في الحكومة الإسلامية إلا المشاورة في ترسيم
الخطوط والبرامج الصحيحة العادلة للبلاد والعباد ولا سيما القوة التنفيذية على أساس
ضوابط الإسلام المستخرجة باجتهاد الفقهاء.
فللحكم الشرعي ثلاث مراحل:
الأولى: مرحلة التشريع. وهو حق لله - تعالى - الذي يملك البلاد والعباد،

1 - سورة المائدة (5)، الآية 49 و 50.
60

ويطلع على مصالحهم ومفاسدهم ومضارهم ومنافعهم. ولا يشركه في ذلك أحد من
خلقه.
الثانية: مرحلة استنباط الأحكام واستخراجها من منابعها الصحيحة، والإفتاء بها. و
مرجعها الفقهاء العدول.
الثالثة: مرحلة ترسيم الخطوط الكلية والبرامج الصحيحة للبلاد والمسؤولين على
ضوء الفتاوى المستخرجة من قبل الفقهاء. لا بتطبيق قوانين الإسلام كيف ما كان على
المشاكل وأهواء الأمة، بل بتطبيق المشاكل والحوادث الواقعة على قوانين الإسلام
بواقعيتها وقداستها، وبين الطريقين بون بعيد، كما لا يخفى.
نعم، يعتبر فيها فهم الوقائع والحوادث وادراك حقيقتها أيضا، لاختلاف الأحكام
الشرعية بتفاوت الوقائع قهرا.
فقوانين الإسلام ومقرراته هي الأساس، والمسلمون جميعا لها تبع في شتى المسائل
من العبادة والثقافة والاقتصاد والسياسة ونحو ذلك، وليس لمجلس الشورى التخلف
عنها.
وبالجملة ليس لمجلس الشورى في الحكومة الإسلامية التقنين والتشريع بارتجال
أو على حسب أهواء الأمة، بل على أساس ضوابط الإسلام.
ولا يلزم من ذلك ضيق المجال أو انسداد الطرق في بعض الأحيان، إذ الاسلام
بجامعيته وخاتميته قد التفت إلى جميع جوانب الحياة وحاجاتها، وجميع الظروف و
الحالات حتى موارد الضرر والضرورة، والعسر والحرج، وتزاحم الموضوعات و
الملاكات ونحو ذلك.
وقد مر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال في خطبته في حجة الوداع: " يا أيها الناس والله ما من
شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أمرتكم به. وما من شيء يقربكم من
النار ويباعدكم من الجنة إلا وقد نهيتكم عنه. " (1)

1 - أصول الكافي 2 / 74، كتاب الإيمان والكفر، باب الطاعة والتقوى، الحديث 2.
61

وفي صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام): قال أمير المؤمنين (عليه السلام): " الحمد لله
الذي لم يخرجني من الدنيا حتى بينت للأمة جميع ما تحتاج إليه. " (1)
وفي خبر حماد، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: " ما من شيء إلا وفيه كتاب
أو سنة. " (2)
وفي خبر المعلى بن خنيس، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): " ما من أمر يختلف فيه اثنان إلا
وله أصل في كتاب الله - عز وجل -، ولكن لا تبلغه عقول الرجال. " (3)
إلى غير ذلك من الأخبار، فراجع.
2 - انتخاب النواب لمجلس الشورى:
قد عرفت في الفصل السابق أن المسؤول والمكلف في الحكومة الإسلامية هو الإمام
والحاكم وأن السلطات الثلاث بمراتبها أياديه وأعضاده.
وعلى هذا فطبع الموضوع يقتضي أن يكون انتخاب أعضاء مجلس الشورى بيده و
باختياره، لينتخب من يساعده في العمل بتكاليفه.
نعم، لما كان الغرض من مجلس الشورى التشاور واتخاذ القرار في الأمور العامة
المتعلقة بالأمة، فلو أمكن أن يفوض إليها انتخاب الأعضاء وتكون السلطة التشريعية
منبثقة عن إرادتها واختيارها كاختيار نفس الوالي عند عدم النص كان ذلك أولى وأوقع
في نفوس الأمة وأدعى لهم إلى الاحترام بالقرارات المتخذة والتسليم في قبالها، بل
يجري ذلك في انتخاب بعض الوزراء والأمراء أيضا كما هو المتعارف في بعض البلاد.

1 - تهذيب الأحكام 6 / 319، آخر كتاب القضايا والأحكام، باب الزيادات، الحديث 86.
2 - الكافي 1 / 59، كتاب فضل العلم، باب الرد إلى الكتاب والسنة، الحديث 4.
3 - الكافي 1 / 60، كتاب فضل العلم، باب الرد إلى الكتاب والسنة، الحديث 6.
62

ولعل آية الشورى وقاعدة السلطنة وتوجه الخطابات القرآنية المتضمنة للأمور
العامة كآيات القتال والجهاد وإعداد القوى وحد السرقة والزنا ونحو ذلك إلى المجتمع
أيضا تناسب ذلك.
إذ الأمر إذا كان أمر الأمة والتكليف تكليفها فالتصميم واتخاذ القرار فيه أيضا يناسب
أن يكون من قبل ممثلي الأمة.
ولكن الإمام العادل لو رأى عدم تهيؤ الأمة لانتخاب الأعضاء أو لم يكن لهم رشد و
وعي سياسي لانتخاب الرجال الصالحين أو كانوا في معرض التهديدات والتطميعات و
اشتراء آرائهم بذلك كان للإمام الذي فرض علمه وعدله وحسن ولايته انتخاب
الأعضاء بنفسه. اللهم إلا أن يشترط عليه حين انتخابه على القول بصحته كون انتخاب
فريق الشورى بيد الأمة لا بيده، فتدبر.
ثم إن اتفاق الآراء في مجلس الشورى مما لا يحصل غالبا، فلا محالة يكون الاعتبار
بآراء الأكثرية كما هو المتعارف في جميع الاجتماعات والأحزاب السياسية.
والإشكال في ذلك بلزوم سحق حقوق الأقلية وضياع حقوق الغيب يظهر الجواب
عنه بما مر مستقصى في مسألة انعقاد الإمامة بانتخاب الأمة، فراجع الفصل السادس من
الباب الخامس.
3 - مواصفات الناخبين والمنتخبين:
لا إشكال في أن الناخب يعتبر فيه البلوغ والعقل والرشد الفكري بحيث يقدر على
تشخيص من يكون أصلح لتحمل هذه المسؤولية الخطيرة المتعلقة بمصالح الأمة.
واللازم في المنتخب أن يكون بالغا عاقلا متدينا ورعا عالما بزمانه مطلعا على
حاجات الأمة شجاعا قادرا على أخذ التصميم والقرار.
وقد مر في الفصل الثاني أخبار مستفيضة تدل على مواصفات من يستشار.
63

وسيأتي في هذا الفصل شرائط الوزراء والعمال.
وكأن النائب في مجلس الشورى مشاور وعامل، فيعتبر فيه مواصفات كليهما.
ولكنك ترى أن المتعارف في أكثر الممالك والبلاد أنهم يراعون في المنتخب
الاعتبارات القومية والعنصرية والعشائرية، وكون الشخص ذا شهرة قومية وجبروت و
ثروة، من دون أن يراعوا علمه ودينه وتقواه وشجاعته وكفايته وقدرته على الدفاع
عن الإسلام وحقوق المسلمين.
وكثيرا ما يقع من هذه الناحية سقوط الملك وضياع حقوق الأمة وسلطة الطواغيت و
الجبابرة، بل ونفوذ الأجانب وتدخلهم في شؤون المسلمين وبلادهم.
وربما توسلوا لذلك باشتراء آراء الناخبين أو بالتمويه عليهم وإغوائهم. فيجب على
الناخبين الدقة والتشاور في انتخاب النواب للمجلس وعدم الوقوع تحت تأثير الأجواء
الكاذبة والدعايات الباطلة والتهديدات والتطميعات المادية. اللهم فأعذنا من شياطين
الجن والإنس.
4 - منابع الحكم الإسلامي ومصادره:
قد مر منا أن أساس الحكومة الإسلامية هو قوانين الإسلام ومقرراته في شتى مسائل
الحياة، وأن منابعها ومصادرها هي الكتاب العزيز، والسنة القويمة بأقسامها من قول
المعصوم وفعله وتقريره الثابتة بطريق صحيح معتبر، وحكم العقل القطعي الخالي عن
شوائب الأوهام والتعصبات، كالحسن والقبح العقليين وكالملازمات العقلية القطعية. و
هذه الثلاثة مما اتفق عليها الشيعة والسنة.
وما يرى في بعض الكلمات من التشكيك في حجية العقل مطلقا فهو بظاهره كلام واه
لا يعتنى به، إذ لو حصل بحكم العقل القطعي القطع بحكم الشارع فلا مجال لإنكار حجيته،
فإن القطع حجة ذاتا، والعقل أم الحجج وأساسها. وهل يثبت التوحيد والنبوة وحجية
كتاب الله وسنة رسول الله إلا من طريق العقل؟
64

وفي خبر عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: " العقل دليل المؤمن. " (1)
وفي خبر آخر عنه (عليه السلام) قلت له: ما العقل؟ قال: " ما عبد به الرحمان واكتسب به
الجنان. " (2)
وفي خبر هشام بن الحكم، عن موسى بن جعفر (عليه السلام): " يا هشام، إن لله على الناس
حجتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة -
عليهم السلام -، وأما الباطنة فالعقول. " (3)
وبالجملة، فأصل حجية العقل القطعي إجمالا مما لا مجال للإشكال فيه وإن وقع
الإشكال في بيان مصاديقه. وللبحث فيه محل آخر. وكذا لا إشكال في حجية الكتاب و
السنة إجمالا على من أذعن بالإسلام والنبوة.
نعم، هنا أمور اختلف في حجيتها الفريقان:
الأول - الإجماع بما هو إجماع واتفاق:
فعلماء السنة يعتبرون إجماع الفقهاء بما هو إجماع حجة مستقلة. ويستندون في ذلك
إلى آيات وروايات:
أهمها قوله - تعالى -: " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل
المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا. " (4)

1 - الكافي 1 / 25، كتاب العقل والجهل، الحديث 24.
2 - الكافي 1 / 11، كتاب العقل والجهل، الحديث 3.
3 - الكافي 1 / 16، كتاب العقل والجهل، الحديث 12.
4 - سورة النساء (4)، الآية 115.
65

وما رووه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من قوله: " لا تجتمع أمتي على ضلالة أو خطأ. "
فروى ابن ماجة في سننه، عن أنس بن مالك، عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " إن أمتي لا تجتمع
على ضلالة، فإذا رأيتم اختلافا فعليكم بالسواد الأعظم. " (1)
وروى الترمذي بسنده، عن ابن عمر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " إن الله لا يجمع أمتي -
أو قال: أمة محمد - على ضلالة، ويد الله على الجماعة، ومن شذ شذ إلى النار. " (2)
ولم أجد في كتب الحديث للسنة ما يشتمل على لفظ الخطأ، نعم هو مذكور في كتب
الاستدلال.
وأما علماء الشيعة الإمامية فيقولون: لا موضوعية للإجماع بما هو إجماع واتفاق
عندنا. نعم، لو اتفقت الأمة على قول بحيث لا يشذ منها أحد فلا محالة يكون الإمام
المعصوم من العترة الطاهرة داخلا فيها، فيكون حجة لذلك. كما أنه كذلك لو كانت كثرة
القائل في المسألة بحيث يحدس منها تلقي المسألة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو عن الإمام
المعصوم (عليه السلام) حدسا قطعيا، فيكون الإجماع كاشفا عن الحجة، أعني قول المعصوم، وذلك
إنما يكون في المسائل الأصلية المأثورة المتلقاة يدا بيد عن المعصومين - عليهم السلام -
المذكورة في كتب القدماء من أصحابنا المعدة لنقل هذه المسائل، لا في المسائل التفريعية
الاستنباطية التي أعمل فيها الرأي والنظر.
وبالجملة، فالحجة في الحقيقة هو قول المعصوم المكشوف به; إما بدخوله في
المجمعين أو بالحدس عن قوله لا الإجماع بما هو إجماع.
فوزان الإجماع حينئذ وزان الخبر الواحد الصحيح الكاشف عن السنة القويمة، فليس
في عرض السنة بل في طولها ويكون حجة عليها.
قال الفقيه الهمداني في مبحث صلاة الجمعة من مصباح الفقيه:
" المدار في حجية الإجماع على ما قررناه في محله واستقر عليه رأي المتأخرين
ليس على اتفاق الكل بل ولا اتفاقهم في عصر واحد، بل على استكشاف رأي المعصوم

1 - سنن ابن ماجة 2 / 1303، كتاب الفتن، باب السواد الأعظم، الحديث 3950.
2 - سنن الترمذي 3 / 315، أبواب الفتن، الباب 7، الحديث 2255.
66

بطريق الحدس من فتوى علماء الشيعة الحافظين للشريعة. وهذا مما يختلف
باختلاف الموارد; فرب مسألة لا يحصل فيها الجزم بموافقة الإمام (عليه السلام) وإن اتفقت فيها
آراء جميع الأعلام، كبعض المسائل المبتنية على مبادي عقلية أو النقلية القابلة للمناقشة.
ورب مسألة يحصل فيها الجزم بالموافقة ولو من الشهرة. " (1) هذا
وأما آية المشاقة فأجيب عنها بوجوه: منها: أنا لا نسلم أن سبيل المؤمنين هو
إجماعهم، بل لعل المراد به هو سبيلهم بما هم مؤمنون، أي سبيل الايمان بالرسول في
قبال مشاقته (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد حقق في محله أن ذكر الوصف يشعر بالعلية والدخالة، فمرجع
ذلك إلى سنة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وليس أمرا وراءها.
وفي المستصفى للغزالي: قال:
" والذي نراه أن الآية ليست نصا في الغرض، بل الظاهر أن المراد بها أن من يقاتل
الرسول ويشاقه ويتبع غير سبيل المؤمنين في مشايعته ونصرته ودفع الأعداء عنه نوله
ما تولى. فكأنه لم يكتف بترك المشاقة حتى تنضم إليه متابعة سبيل المؤمنين في نصرته و
الذب عنه والانقياد له فيما يأمر وينهى. وهذا هو الظاهر السابق إلى الفهم، فإن لم يكن
ظاهرا فهو محتمل. " (2) هذا.
وأما الرواية التي استندوا إليها فلم تثبت عندنا بسند يعتمد عليه.
وفي سنن ابن ماجة قد حكى في ذيل الحديث عن الزوائد:
" في إسناده أبو خلف الأعمى، واسمه حازم بن عطاء، وهو ضعيف، وقد جاء
الحديث بطرق في كلها نظر. قاله شيخنا العراقي في تخريج أحاديث البيضاوي. " (3)
نعم، في تحف العقول في رسالة الإمام الهادي (عليه السلام) إلى أهل الأهواز، قال:

1 - - مصباح الفقيه - كتاب الصلاة / 436.
2 - المستصفى للغزالي 1 / 175.
3 - سنن ابن ماجة 2 / 1303، كتاب الفتن، الباب 8، الحديث 3950.
67

" وقد اجتمعت الأمة قاطبة لا اختلاف بينهم أن القرآن حق لا ريب فيه عند جميع أهل
الفرق، وفي حال اجتماعهم مقرون بتصديق الكتاب وتحقيقه، مصيبون مهتدون، وذلك
بقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا تجتمع أمتي على ضلالة " فأخبر أن جميع ما اجتمعت عليه
الأمة كلها حق. " (1)
أقول: على فرض صحة الحديث فظاهره إطباق جميع الأمة; فلا يختص بالفقهاء و
المجتهدين، كما لا يختص بعلماء السنة فقط، بل يعم جميع طوائف المسلمين ومنهم
الشيعة الإمامية بأئمتهم الأثنى عشر، وقد مر منا أن اتفاق جمع يوجد فيه الإمام المعصوم
حجة عندنا بلا إشكال، فتدبر.
الثاني - القياس والاستحسانات الظنية:
فأكثر علماء السنة يعتمدون عليهما، حيث إنهم تركوا التمسك بأقوال العترة و
لم يتمكنوا من استنباط الفروع المبتلى بها من الكتاب والسنة النبوية الواصلة إليهم،
فلجؤوا إلى الآراء والاستحسانات، ولكن أخبار أهل البيت - عليهم السلام - والروايات
الحاكية لسيرتهم مليئة بالمعارف والأحكام والآداب، بحيث تشفي العليل وتروي
الغليل ومعها لا تصل النوبة إلى القياس والاستحسانات الظنية. والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جعل العترة
قرين الكتاب في وجوب التمسك بهما على ما دل عليه حديث الثقلين المتواتر بين
الفريقين.
وقد استفاضت بل تواترت أخبارنا على عدم حجية القياس والآراء الظنية،
فراجع. (2)

1 - تحف العقول / 458.
2 - راجع الوسائل 18 / 20، الباب 6 من أبواب صفات القاضي; ومستدرك الوسائل 3 / 175،
الباب 6 من أبواب صفات القاضي.
68

ومن جملة أخبار الباب ما رواه الكليني بسنده، عن عيسى بن عبد الله القرشي، قال:
دخل أبو حنيفة على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال له: يا أبا حنيفة، بلغني أنك تقيس؟ قال: نعم. قال:
لا تقس، فان أول من قاس إبليس حين قال: خلقتني من نار وخلقته من طين. فقاس ما
بين النار والطين. ولو قاس نورية آدم بنورية النار عرف فضل ما بين النورين وصفاء
أحدهما على الآخر. " (1)
ومنها: ما رواه بسند صحيح، عن أبان بن تغلب، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " إن السنة
لا تقاس. ألا ترى أن المرأة تقضي صومها ولا تقضي صلاتها، يا أبان، إن السنة إذا قيست
محق الدين. " (2)
ومنها: موثقة مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عليا (عليه السلام) قال: " من
نصب نفسه للقياس لم يزل دهره في التباس. ومن دان الله بالرأي لم يزل دهره في
ارتماس. " (3)
إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة.
وفي سنن الدارمي عن ابن سيرين، قال:
" أول من قاس إبليس. وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس. " (4)
وعن الحسن أنه تلا هذه الآية: " خلقتني من نار وخلقته من طين " قال:
" قاس إبليس، وهو أول من قاس. " (156)
وفي إعلام الموقعين بسنده عن عوف بن مالك الأشجعي، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، أعظمها فتنة قوم يقيسون الدين برأيهم; يحرمون
به ما أحل الله ويحلون ما حرم الله. " (5)

1 - الكافي 1 / 58، كتاب فضل العلم، باب البدع والرأي والمقاييس، الحديث 20.
2 - الوسائل 18 / 25، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10.
3 - الوسائل 18 / 25، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 11.
155 و 156 - سنن الدارمي 1 / 65، باب تغير الزمان وما يحدث فيه.
5 - إعلام الموقعين 1 / 53.
69

والظاهريون من فقهاء السنة وبعض المعتزلة أيضا ينكرون العمل بالقياس والرأي:
قال ابن حزم الأندلسي في المحلى:
" ولا يحل القول بالقياس في الدين ولا بالرأي، لأن أمر الله - تعالى - عند التنازع
بالرد إلى كتابه والى رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد صح، فمن رد إلى قياس وإلى تعليل يدعيه، أو إلى
رأي فقد خالف أمر الله - تعالى - المعلق بالإيمان ورد إلى غير من أمر الله - تعالى -
بالرد إليه، وفي هذا ما فيه، قال على: وقول الله - تعالى -: " ما فرطنا في الكتاب من
شيء "، وقوله - تعالى -: " تبيانا لكل شيء "، وقوله - تعالى -: " لتبين للناس ما نزل
إليهم "، وقوله - تعالى -: " اليوم أكملت لكم دينكم " إبطال للقياس وللرأي. " (1)
الثالث - أقوال العترة الطاهرة:
لا يخفى أن قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وفعله وتقريره من السنة قطعا وتكون حجة بلا إشكال. و
بعض علماء السنة يعدون أقوال الصحابة بل وأعمالهم أيضا حجة. وأما الشيعة الإمامية
فيعدون أقوال الأئمة الاثني عشر من العترة وكذا أفعالهم وتقريرهم حجة، لعصمتهم
عندنا، ولأنهم عترة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد عد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عترته عدلا للكتاب العزيز وقرينا له
في خبر الثقلين المتواتر بين الفريقين.
وقد تعرض له أكثر أرباب الصحاح والسنن والمسانيد، فراجع.
ومن ذلك ما رواه الترمذي بسنده، عن زيد بن أرقم، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إني
تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل
ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي. ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض،
فانظروا كيف تخلفوني فيهما. " (2)

1 - المحلى لابن حزم 1 / 56، المسألة 100.
2 - سنن الترمذي 5 / 328، أبواب المناقب، باب مناقب أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، الحديث 3876.
70

ودلالة الخبر على حجية أقوال العترة ظاهرة، لإيجاب التمسك بهم وبالكتاب العزيز.
ومسألة حجية أقوالهم غير مسألة الإمامة والخلافة، فإن الأولى مسألة أصولية و
الثانية مسألة كلامية.
وفي كنز العمال، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أيها الناس إني تارك فيكم
أمرين، إن أخذتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا، وأحدهما أفضل من الآخر: كتاب الله هو
حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض، وأهل بيتي عترتي. ألا وإنهما لن يتفرقا حتى
يردا على الحوض. " (ابن جرير) (1).
إلى غير ذلك من الأخبار من طرق الفريقين.
وعترة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أهل بيته، وأهل البيت أدرى بما في البيت. وهم لا يحدثون إلا بما
سمعوه من آبائهم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما دل على ذلك بعض الأخبار:
ففي خبر هشام بن سالم، وحماد بن عثمان وغيره، قالوا: سمعنا أبا عبد الله (عليه السلام) يقول:
" حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث الحسين، و
حديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين (عليه السلام)، وحديث
أمير المؤمنين حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قول الله - عز وجل. " (2)
ولا يخفى أن محل البحث في هذه المسائل هو علم الكلام وعلم أصول الفقه، و
غرضنا هنا ليس إلا إشارة إجمالية إليها، فراجع مظانها.
5 - الاستنباط والاجتهاد:
أما الاستنباط، ففي لسان العرب:

1 - كنز العمال 1 / 381، الباب 2 من كتاب الإيمان والإسلام من قسم الأفعال، الحديث 1657.
2 - الوسائل 18 / 58، الباب 8 من أبواب صفات القاضي، الحديث 26.
71

" نبط الماء ينبط وينبط نبوطا: نبع. وكل ما أظهر فقد أنبط. واستنبطه واستنبط منه
علما وخبرا ومالا: استخرجه. والاستنباط: الاستخراج. واستنبط الفقيه: إذا استخرج
الفقه الباطن باجتهاده وفهمه. قال الله - عز وجل -: لعلمه الذين يستنبطونه منهم. " (1)
أقول: فكأن حكم الله - تعالى - ماء حياة أو شيء نفيس دفين في خلال مصادره و
منابعه يستخرجه الفقيه منها.
وأما الاجتهاد، ففي لسان العرب:
" الاجتهاد والتجاهد: بذل الوسع والمجهود. وفي حديث معاذ: " أجتهد رأيي. "
الاجتهاد بذل الوسع في طلب الأمر، وهو افتعال من الجهد: الطاقة، والمراد به رد القضية
التي تعرض للحاكم من طريق القياس إلى الكتاب والسنة، ولم يرد الرأي الذي رآه من
قبل نفسه من غير حمل على كتاب أو سنة. " (2)
أقول: أما الحديث الذي أشار إليه فهو ما رواه أبو داود والترمذي وغيرهما: ففي سنن
أبي داود بسنده عن أناس من أصحاب معاذ بن جبل أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما أراد أن يبعث
معاذا إلى اليمن قال: " كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ " قال: " أقضي بكتاب الله. " قال:
" فإن لم تجد في كتاب الله؟ " قال: " فبسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " فإن لم تجد في سنة
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا في كتاب الله؟ " قال: " أجتهد رأيي ولا آلو. " فضرب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
صدره وقال: " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله. " (3)
وأما قوله: " من طريق القياس "، فلعله أراد به أعم من القياس والاستحسانات العقلية
الظنية.

1 - لسان العرب 7 / 410.
2 - لسان العرب 3 / 135.
3 - سنن أبي داود 2 / 272، كتاب الأقضية، باب اجتهاد الرأي في القضاء.
72

وقد صار لفظ الاجتهاد، وكذا الرأي في أعصار أئمتنا - عليهم السلام - ظاهرين في
هذا المعنى. وبهذا المعنى وقع النهي عنهما في رواياتنا (1).
وأما الاجتهاد بمعنى إفراغ الوسع والطاقة في استنباط الأحكام من أدلتها الشرعية
من الكتاب والسنة والعقل القطعي فهو أمر واجب ضروري لأمنع فيه وليس لأحد
إنكاره.
وعن أبي عبد الله (عليه السلام): " إنما علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن تفرعوا. " (2)
وعن الرضا (عليه السلام): " علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع. " (3)
والروايات الواردة في الإرجاع إلى الكتاب والسنة في غاية الكثرة. وعلى هذا
فالاجتهاد عندنا غير الاجتهاد باصطلاح السنة.
وأما ما ذكره أخيرا فكأنه أراد به نفي إرادة التصويب. والبحث فيه يأتي في العنوان
التالي.
6 - التخطئة والتصويب:
لا يخفى أن المسائل الدينية على قسمين: فقسم منها مسائل أصلية ضرورية أجمع
عليها جميع فرق المسلمين ودل عليها نص الكتاب العزيز أو السنة المتواترة القطعية أو
العقل السليم، والقسم الآخر فروع اجتهادية استنباطية تحتاج إلى إعمال الاجتهاد و
النظر واستنباطها من الأصول المبينة في الكتاب والسنة أو من حكم العقل القطعي.

1 - راجع الوسائل 18 / 20، الباب 6 من أبواب صفات القاضي.
2 - الوسائل 18 / 41، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 51.
3 - الوسائل 18 / 41، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 52.
73

أما القسم الأول، فلا خلاف فيها ولا إشكال ولا مجال فيها للاجتهاد والاستنباط.
وأما القسم الثاني المتوقف على إعمال الاجتهاد والنظر، فلا محالة قد يقع فيها
الخلاف لاختلاف في معاني بعض الألفاظ، أو للاختلاف في صحة الحديث وضعفه، أو
لاختلاف الروايات المنقولة، أو للاختلاف في أسباب الترجيح عند التعارض، أو
للاختلاف في حجية بعض الأمور وعدم حجيتها كالمفاهيم وخبر الواحد والإجماع و
لا سيما المنقول منه والشهرة بقسميها وكحجية أقوال الأئمة الطاهرين من العترة الثابتة
عندنا وحجية أقوال الصحابة عند بعض السنة، وحجية القياس والاستحسانات الظنية
عندهم ونحو ذلك. ويرجع الجميع إلى الاختلاف في الدرك أو المدرك.
وفي هذا القسم قد وقع البحث في أن الآراء المستنبطة المختلفة كلها حق وصواب، أو
أن الحق واحد منها والباقون مخطؤون وإن كانوا معذورين؟
فاتفق أصحابنا الإمامية على أن لله - تعالى - في كل واقعة خاصة حكما واحدا
يشترك فيه الجميع. وجميع المسلمين مأمورون أولا وبالذات بالعمل به. فالدين في
جميع المراحل واحد والشرع واحد والحق واحد، وإنما الاختلاف وقع في إحراز
الواقع واستنباطه من منابعه، فأصابه بعض وأخطأه بعض آخر.
فليست الاجتهادات المختلفة في مسألة واحدة يمثل كلها حكم الله المنزل على
رسوله وإن جاز العمل بها لأهلها في الظاهر، وإنما تكون آراء الفقهاء والمجتهدين طرقا
محضة قد تصيب الواقع وقد تخطئه، كما أن العلم الذي هو أم الحجج وتكون حجيته
ذاتية يكون كذلك، وكذلك سائر الطرق والأمارات العقلائية والشرعية.
فكأن حكم الله الواقعي دفين في خلال مبانيه ومصادره ويستخرجه الفقيه
باستنباطه; فقد يعثر عليه وقد يخطئ، ويكون لمصيب أجران وللمخطئ أجر واحد.
فليس الحكم الواقعي تابعا لمفاد الطريق، مجعولا على وفقه كيفما كان، كما لا يوجب
قيام الطريق على خلاف الواقع تبدل الواقع وانقلابه إلى مفاد الطريق.
هذا ما عليه أصحابنا الإمامية. فهم بأجمعهم ينكرون التصويب. ويسمون
74

بذلك مخطئة.
وأما علماء السنة ففيهم خلاف: بعضهم مخطئة، وبعض منهم مصوبة: قال الامام
فخر الدين الرازي في بحث الاجتهاد من كتاب المحصول:
" فإن لم يكن لله - تعالى - فيها حكم فهذا قول من قال: " كل مجتهد مصيب. " وهم
جمهور المتكلمين منا كالأشعري والقاضي أبي بكر، ومن المعتزلة كأبي الهذيل وأبي
علي وأبي هاشم واتباعهم. " (1)
وقال الإمام الغزالي في المستصفى:
" الذي ذهب إليه محققوا المصوبة أنه ليس في الواقعة التي لا نص فيها حكم معين
يطلب بالظن، بل الحكم يتبع الظن. وحكم الله على كل مجتهد ما غلب على ظنه، وهو
المختار، وإليه ذهب القاضي. " (2)
أقول: عمدة نظر المصوبة كان إلى تصويب آراء الصحابة وأفعالهم. فكانوا يظنون أن
مطلق من صاحب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو ممن لم يخطئ أبدا فضلا عن أن يصدر عنه فسق أو
جور.
ولكن الحق في المسألة هو ما عرفته من أصحابنا الإمامية من القول بالتخطئة. وقال
ابن حزم الأندلسي في المحلى:
" مسألة: والحق من الأقوال في واحد منها وسائرها خطأ... فصح أن الحق في
الأقوال ما حكم الله - تعالى - به فيه، وهو واحد لا يختلف، وإن الخطأ ما لم يكن من عند
الله - عز وجل -.
ومن ادعى أن الأقوال كلها حق وأن كل مجتهد مصيب فقد قال قولا لم يأت به قرآن
ولا سنة ولا إجماع ولا معقول، وما كان هكذا فهو باطل. " (3)

1 - المحصول / القسم الثالث من الجزء الثاني / 47.
2 - المستصفى 2 / 363.
3 - المحلى لابن حزم 1 / 70، المسألة 109.
75

وفي الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبة الزحيلي بعد ذكر المخطئة، قال:
" وهم جمهور المسلمين، منهم الشافعية والحنفية على التحقيق، الذين يقولون بأن
المصيب في اجتهاده واحد من المجتهدين، وغيره مخطئ، لأن الحق لا يتعدد. " (1)
ولكن في المستصفى للغزالي بعد ذكر الاجتهاد والتصويب والتخطئة، قال:
" وقد اختلف الناس فيها، واختلفت الرواية عن الشافعي وأبي حنيفة " (2). هذا.
ويدل على التخطئة - مضافا إلى وضوحها، فإن الاجتهاد في الحكم واستنباطه متفرع
على وجوده واقعا في الرتبة السابقة، فلا يعقل كونه تابعا له - روايات:
1 - ففي صحيح مسلم، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في
وصاياه لمن أمره أميرا على جيش أو سرية: " وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن
تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري
أتصيب حكم الله فيهم أم لا. " (3)
2 - وروى الترمذي، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إذا حكم الحاكم
فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فأخطأ فله أجر واحد. " (4)
3 - وفي نهج البلاغة: " ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها
برأيه، ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلافه، ثم يجتمع القضاة بذلك
عند الإمام الذي استقضاهم فيصوب آراءهم جميعا، وإلههم واحد، ونبيهم واحد، و
كتابهم واحد... " (5)
4 - وفي الدر المنثور بإسناده عن الشعبي، قال: سئل أبو بكر عن الكلالة فقال:

1 - الفقه الإسلامي وأدلته 1 / 72.
2 - المستصفى 2 / 363.
3 - صحيح مسلم 3 / 1358، كتاب الجهاد، الباب 2، ذيل الرقم 1731.
4 - سنن الترمذي 2 / 393، أبواب الأحكام، الباب 2، الحديث 1341.
5 - نهج البلاغة، فيض / 74; عبده 1 / 50; لح / 60، الخطبة 18.
76

" إني سأقول فيها برأيي، فإن كان صوابا فمن الله وحده لا شريك له، وإن كان خطأ
فمني ومن الشيطان، والله منه بريء، أراه ما خلا الوالد والوالد. " (1)
5 - وقال عمر لكاتبه:
" اكتب: هذا ما رأى عمر. فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمنه. " (2)
6 - وقال ابن مسعود في المفوضة:
" أقول فيها برأيي. فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان. والله
ورسوله عنه بريئان. " (3)
7 - وفي كنز العمال:
" اقض بينهما يا عمرو، فإذا قضيت بينهما القضاء فلك عشر حسنات، وإن اجتهدت
فأخطأت فلك حسنة. " (حم طب، عن عمرو). (4)
8 - وفيه أيضا:
" اجتهد، فإذا أصبت فلك عشر حسنات، وإن أخطأت فلك حسنة. " (عد، عن عقبة بن
عامر) (5)
9 - وفيه أيضا عن موسى بن إبراهيم، عن رجل من آل ربيعة أنه بلغه أن أبا بكر حين
استخلف قعد في بيته حزينا، فدخل عليه عمر فأقبل عليه يلومه وقال: أنت كلفتني هذا
الأمر، وشكا إليه الحكم بين الناس فقال له عمر: أو ما علمت إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " إن
الوالي إذا اجتهد فأصاب الحق فله أجران وإن اجتهد فأخطأ الحق فله أجر واحد. " فكأنه
سهل على أبي بكر. (ابن راهويه وخيثمة في فضائل الصحابة

1 - الدر المنثور 2 / 250.
2 - المحصول للإمام الرازي / القسم الثالث من الجزء الثاني / 70 (في الاجتهاد).
3 - المحصول / القسم الثالث من الجزء الثاني / 71 (في الاجتهاد).
4 - كنز العمال 6 / 99، الباب 2 من كتاب الإمارة والقضاء من قسم الأقوال، الحديث 15018.
5 - كنز العمال 6 / 99، الباب 2 من كتاب الإمارة والقضاء من قسم الأقوال، الحديث 15019.
77

هب). (1)
10 - وفي ديباجة الموطأ لمالك المطبوع بمصر: " قال معن بن موسى:
سمعت مالكا يقول: إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي فما وافق السنة
فخذوا به. " (2) هذا.
ولعل ما قد يتلقى بالألسن والأفواه حتى من بعض الشيعة أيضا من قولهم: " هذا ما
أفتى به المفتي، وكل ما أفتى به المفتي فهو حكم الله في حقي " يكون كلاما ورثوه من
أهل التصويب، وإلا فهو بظاهره ممنوع، فإن حكم الله لا يكون تابعا لإفتاء الفقيه كما مر.
نعم، الأنبياء كلهم والنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وكذا الأئمة الاثنا عشر من العترة عندنا
معصومون من الذنوب ومن الخطأ، ومحل البحث فيه الكتب الكلامية، فراجع.
7 - انفتاح باب الاجتهاد المطلق:
قد ظهر بما مر أن أساس الحكومة الحقة وأساس جميع أعمال المسلمين في جميع
شؤونهم هو أحكام الله - تعالى - التي نزلت على رسوله الكريم بالوحي ويشترك فيها
الجميع. وأن منابعها ومصادرها هي الكتاب العزيز، والسنة القويمة، والعقل القطعي
الخالي عن الأوهام.
فيجب أولا وبالذات الرجوع إلى هذه المنابع وأخذ الأحكام منها.
فمن كان قادرا على الرجوع إليها والاستنباط منها عمل على وفق ما استنبط و
استفاد. ومن لم يقدر على الاستنباط رجع إلى فتوى من استنبط، رجوع الجاهل في

1 - كنز العمال 5 / 630، الباب 1 من كتاب الخلافة مع الإمارة من قسم الأفعال، الحديث 14110.
2 - الموطأ لمالك 1 / ج. (أدبه مع آل رسول الله وكرم أخلاقه).
78

كل فن تخصصي إلى العالم الخبير به. وفي الحقيقة هو طريق علمه العادي بالأحكام و
لكن بنحو الإجمال.
وليس لفتوى الفقيه موضوعية وسببية، بل هو طريق محض كسائر الطرق العقلائية و
الشرعية قد يصيب وقد يخطئ.
والأحوط بل الأقوى في المسائل الخلافية هو الرجوع إلى الأعلم، كما هو طريقة
العقلاء في تقديم الأعلم على غيره في المسائل المهمة المختلف فيها.
وعلى هذا فليس لمجتهد خاص وفقيه مخصوص خصوصية. وقد كثر الفقهاء من
الشيعة وكذا من السنة في جميع الأعصار.
وربما اختلف الفقهاء في الفتاوى ومنابعها وفي طريق الاستنباط وكيفيتها كما مر.
والخلاف في علماء السنة أكثر، حيث إن الشيعة تقيدوا في فتاويهم بالكتاب، و
بالنصوص من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام).
وأما فقهاء السنة فحيث اعتمد أكثرهم على القياس والاستحسانات الظنية و
المناطات الحدسية تشتتت آراؤهم وجاؤوا كثيرا بفتاوى متناقضة متهافتة. وكم
تدخلت التعصبات أو أيادي السياسة والحكومات الدارجة في بعض البلاد والمناطق
في تفضيل بعض الآراء على بعض، بل وفي تحريم بعض المذاهب الفقهية وتعذيب
متابعيها والإلزام بأخذ مذهب آخر، كما شهد بذلك التاريخ، والناس كانوا غالبا على
دين ملوكهم.
وربما استعانوا في إعمال سياساتهم ببعض العلماء والعملاء أيضا، إلى أن استقرت
آراء علمائهم وحكامهم في النهاية على حصر المذاهب في المذاهب الأربعة الدارجة
لهم فعلا، أعني مذاهب أبى حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل.
وفي رياض العلماء للمتتبع الخبير الميرزا عبد الله الأفندي الإصفهاني نقلا من كتاب
" تهذيب الأنساب ونهاية الأعقاب " تأليف أحد من بني أعمام السيد المرتضى (قدس سره) ما
ملخصه أنه:
79

" اشتهر على ألسنة العلماء أن العامة في زمن الخلفاء لما رأوا تشتت المذاهب في
الفروع واختلاف الآراء، بحيث لم يمكن ضبطها فقد كان لكل واحد من الصحابة و
التابعين ومن تبعهم مذهب برأسه في المسائل الشرعية والأحكام الدينية، التجأوا إلى
تقليلها فأجمعوا على أن يجمعوا على بعض المذاهب...
فالعامة أيضا لما اضطربت اتفقت كلمات رؤسائهم وعقيدة عقلائهم على أن يأخذوا
من أصحاب كل مذهب خطيرا من المال ويلتمسوا آلاف ألف دراهم ودنانير من أرباب
الآراء في ذلك المقال.
فالحنفية، والشافعية، والمالكية، والحنبلية لوفور عدتهم وبهور عدتهم جاؤوا بما
طلبوه، فقرروهم على عقائدهم.
وكلفوا الشيعة، المعروفة في ذلك العصر بالجعفرية، لمجيء ذلك المال الذي أرادوا
منهم، ولما لم يكن لهم كثرة مال توانوا في الإعطاء ولم يمكنهم ذلك.
وكان ذلك في عصر السيد المرتضى (قدس سره) وهو قد كان رأسهم ورئيسهم، وقد بذل جهده
في تحصيل ذلك المال وجمعه من الشيعة فلم يتيسر له، حتى إنه كلفهم بأن يجيؤوا بنصف
ما طلبوه ويعطي النصف الآخر من خاصة ماله، فما أمكن للشيعة هذا العطاء. فلذلك
لم يدخلوا مذهب الشيعة في تلك المذاهب، وأجمعوا على صحة خصوص الأربعة و
بطلان غيرها. فآل أمر الشيعة إلى ما آل في العمل بقول الآل السادة الأنجاب.
والعامة قد جوزوا الاجتهاد في المذهب ولم يجوزوا الاجتهاد من المذهب، حتى
إنهم لم يجوزوا تلفيق أقوال هذه الأربعة والقول في بعض المسائل بقول بعض وفي
بعضها بقول الآخر. واستمروا على هذا الرأي إلى يومنا هذا، ولم يخالفهم أحد منهم في
تلك الأعصار المتمادية سوى محيي الدين العربي المعاصر لفخر الدين الرازي، حيث
خالفهم في الفروع; فتارة يقول بقول واحد من هؤلاء الأئمة الأربعة في مسألة ويقول في
مسألة أخرى بقول الآخر، وتارة يخترع في بعض المسائل وينفرد بقول
80

لم يدخل في تلك الأقاويل. " (1) انتهى كلام رياض العلماء.
وفي روضات الجنات بعد نقل ما في رياض العلماء، قال:
" ويؤيد هذا التفصيل ما ذكره صاحب " حدائق المقربين ": أن السيد المرتضى (قدس سره) واطأ
الخليفة - وكأنه القادر بالله المتقدم إليه الإشارة - على أن يأخذ من الشيعة مأة ألف دينار
ليجعل مذهبهم في عداد تلك المذاهب وترفع التقية والمؤاخذة على الانتساب إليهم،
فتقبل الخليفة، ثم إنه بذل لذلك من عين ماله ثمانين ألفا، وطلب من الشيعة بقية المال فلم
يفوا به. " (2)
وكيف كان فالمقصود من الاجتهاد هو استخراج أحكام الله - تعالى - وإحرازها. و
المنابع لها هي الأدلة الأربعة من الكتاب، والسنة، والعقل، والإجماع على القول به. و
هي - بحمد الله - باقية لنا، وقد شرحت وفسرت وتنقحت أكثر مما كانت في عصر الأئمة
الأربعة للسنة.
وقد تقدم الفقهاء الأربعة وتأخر عنهم فقهاء كثيرون ويوجدون في أعصارنا أيضا، و
لم يكن الفقهاء الأربعة معاصرين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا وراث علمه بلا واسطة، بل تأخروا
عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأكثر من قرن، ولم يجعل الله - تعالى - العلم والاجتهاد ملكا طلقا لبعض دون
بعض، ولم يرد اية ولا رواية على تعين الأربعة، ولا دل عليه دليل من العقل.
فبأي وجه ينسد باب الاجتهاد من الكتاب والسنة، ويتعين التقليد منهم، أو الاجتهاد
في نطاق مذاهبهم فقط؟! وهل كان يوحى إليهم ولا يوحى إلى غيرهم؟! أو كان لهم نبوغ
علمي وشرائط غير طبيعية لا توجد لغيرهم أبدا؟! وهل يكون إلزام الخليفة العباسي حجة
شرعية لا تجوز مخالفتها؟!
وبالجملة، نحن لا نرى وجها مبررا لحصر الاجتهاد المطلق والاستنباط من

1 - رياض العلماء 4 / 33.
2 - روضات الجنات 4 / 308.
81

الكتاب والسنة على فئة خاصة عاشوا بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأكثر من قرن، ولم يتميزوا قط
بخصائص غير عادية لا توجد لغيرهم إلى يوم القيامة، وقد سبقهم أساتذتهم، وتقدمهم و
عاصرهم أئمة أهل البيت - عليهم السلام -، ولحقهم فقهاء كثيرون ملكوا علوم القدماء و
تجاربهم وأضافوا إليها استنباطات جديدة ويكونون أعلم بشرائط الزمان وأعرف
بحاجاته وخصوصياته.
وفي كتاب نظم الحكم والإدارة في الشريعة الإسلامية تأليف علي علي منصور:
عن أبي حنيفة أنه كان يقول: " علمنا هذا رأي لنا وهو أحسن ما قدرنا عليه; فمن
جاءنا بأحسن منه فهو الصواب. ولا يحل لأحد أن يقول بقولنا حتى يعلم من أين قلنا. "
وكان مالك يقول: " إنما أنا بشر; أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فإن وافق
الكتاب والسنة فخذوا به، وما لم يوافقهما فاتركوه. "
وكان الشافعي يقول لأتباعه: " لا تقلدوني في كل ما أقول، وانظروا في ذلك، فإنه
دين. "
ويقول الإمام أحمد بن حنبل: " لا تقلدوني، ولا مالكا، ولا الشافعي، ولا الثوري. و
خذوا من حيث أخذوا. " (1)
وفي ديباجة المغني لابن قدامة نقلا عن أبي حنيفة أنه قال:
" لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم مأخذه من الكتاب والسنة وإجماع الأمة و
القياس الجلي في المسألة. " (2)
وفي كتاب " السنة " لعبد الله بن أحمد بن حنبل بسنده أن أبا حنيفة قال لأبي يوسف:
" يا يعقوب لا ترو عني شيئا، فوالله ما أدري أمخطئ أم مصيب. " (3)
وفي الفقه الإسلامي وأدلته عن الشافعي أنه قال:

1 - نظم الحكم والإدارة في الشريعة الإسلامية / 35.
2 - المغني 1 / 14.
3 - السنة 1 / 226.
82

" إذا صح الحديث فهو مذهبي. واضربوا بقولي عرض الحائط. " (1)
وفي ذيل مبادي نظم الحكم في الإسلام:
" كان الإمام أحمد يقول: لا تقلد في دينك الرجال، فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا. و
من ترك الحديث وأخذ بقول الرجال فقد ترك من لا يغلط إلى من يغلط. "... إن أبا حنيفة
كان يقول: " هذا رأيي; فمن جاء برأي خير منه قبلته. " وإن الإمام أحمد كان يقول:
" لا تقلدني، ولا تقلد مالكا، ولا الشافعي، ولا الثوري. وتعلم كما تعلمنا. " (2)
إلى غير ذلك مما حكي عن الأئمة الأربعة في شأن آرائهم وفتاواهم.
نعم، الأئمة الاثنا عشر من العترة الطاهرة (عليه السلام) لهم ميز بلا ريب، لأنهم أهل البيت، و
أهل البيت أدرى بما في البيت، وقد جعلهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عدلا للكتاب العزيز وقرينا
له في حديث الثقلين المتواتر بطرق الفريقين. وقد رواه في عبقات الأنوار من طرق
علماء السنة عن خمسة وثلاثين من الصحابة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم). وقد مر نقل بعض أسناده في
الباب الثاني من هذا الكتاب، وبيان دلالته على حجية أقوال العترة الطاهرة، وأنها غير
مسألة الإمامة المختلف فيها بين الفريقين، فراجع.
وفي نهج البلاغة: " هم موضع سره ولجأ أمره وعيبة علمه وموئل حكمه وكهوف كتبه
وجبال دينه. بهم أقام انحناء ظهره وأذهب ارتعاد فرائصه... لا يقاس بآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من
هذه الأمة أحد، ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا. هم أساس الدين وعماد
اليقين. إليهم يفيء الغالي، وبهم يلحق التالي ولهم خصائص حق الولاية وفيهم الوصية و
الوراثة. " (3)
وفيه أيضا: ومن خطبة له - عليه السلام - يذكر فيها آل محمد - صلى الله عليه وآله و
سلم -: " هم عيش العلم وموت الجهل يخبرهم حلمهم عن علمهم (وظاهرهم عن
باطنهم)

1 - الفقه الإسلامي وأدلته 1 / 37.
2 - مبادي نظم الحكم في الإسلام لعبد الحميد المتولي / 327.
3 - نهج البلاغة، فيض / 44; عبده 1 / 24; لح / 47، الخطبة 2.
83

وصمتهم عن حكم منطقهم، لا يخالفون الحق ولا يختلفون فيه. هم دعائم الإسلام و
ولائج الاعتصام. بهم عاد الحق في نصابه، وانزاح الباطل عن مقامه، وانقطع لسانه عن
منبته، عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية لاعقل سماع ورواية، فإن رواة العلم كثير و
رعاته قليل. " (1)
وفي مستدرك الحاكم النيسابوري بسنده، عن أبي ذر، قال: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول:
" ألا إن مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من قومه; من ركبها نجا ومن تخلف عنها
غرق. " (2)
وفيه أيضا بسنده، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " النجوم أمان لأهل
الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب
اختلفوا فصاروا حزب إبليس. " (3)
إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الواردة في حقهم - عليهم السلام -.
وقال العلامة شرف الدين الموسوي في كتاب المراجعات:
" والمراد بأهل بيته هنا مجموعهم من حيث المجموع باعتبار أئمتهم، وليس المراد
جميعهم على سبيل الاستغراق، لأن هذه المنزلة ليست إلا لحجج الله والقوامين بأمره
خاصة، بحكم العقل والنقل. وقد اعترف بهذا جماعة من أعلام الجمهور. ففي الصواعق
المحرقة لابن حجر: وقال بعضهم: يحتمل أن المراد بأهل البيت الذين هم أمان، علماؤهم
لأنهم الذين يهتدى بهم كالنجوم، والذين إذا فقدوا جاء أهل الأرض من الآيات ما
يوعدون... " (4)
أقول: ولا أظن أن أحدا من المسلمين المنصفين يجترئ على تفضيل الأئمة الأربعة
في فقه السنة على الأئمة الطاهرة من عترة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته في العلم والفضائل.

1 - نهج البلاغة، فيض / 825; عبده 2 / 259; لح / 357، الخطبة 239.
2 - مستدرك الحاكم 3 / 151، كتاب معرفة الصحابة.
3 - مستدرك الحاكم 3 / 149، كتاب معرفة الصحابة.
4 - المراجعات / 76 (المراجعة الثامنة).
84

نعم، سياسة الأمويين والعباسيين في عصرهم صنعت ما صنعت بالعترة والآل، وما
أدراك ما السياسة، وما الذي يتعقبها إذا كانت شيطانية!! فتدبر في المقام واحتط لدينك.
وقد ظهر لك بما ذكرناه أن حصر الاجتهاد في الأئمة الأربعة لأهل السنة لا أساس له
في الشريعة وأنه قبل أن يكون أمرا دينيا فقهيا كان أمرا سياسيا متطورا على حسب
تطور السياسة في الأزمنة والأمكنة. والأئمة الأربعة بأنفسهم أيضا بريئون منه، فراجع
الكتب المتعرضة لتاريخ المذاهب الأربعة والمتمذهبين بها.
85

8 - التقليد وأدلته
لا يخفى أن استنباط الأحكام الشرعية واستخراجها من أدلتها ومنابعها يكون
بتصدي المجتهد الفقيه العالم بالكتاب، والسنة، وأحكام العقل القطعية، وما يتوقف عليه
الاستنباط من العلوم المختلفة.
فمن يكون مجتهدا فعليه الاستنباط والعمل بما فهمه واستنبطه، أو الاحتياط في مقام
العمل.
ومن لم يبلغ مرتبة الاجتهاد فلا محالة يحتاط في العمل مع الإمكان أو يرجع إلى
فتوى من اجتهد واستنبط.
وعلى هذا فعلى النواب في مجلس الشورى أيضا الرجوع في تخطيطهم وبرامجهم
السياسية إلى فتاوى المجتهد الواجد للشرائط. والأحوط بل الأقوى في المسائل
الخلافية رعاية الأعلمية أيضا على ما يقتضيه ارتكاز العقلاء وسيرتهم، كما أنه المتعين
لأمر الولاية أيضا إذا وجد سائر الشرائط كما مر.
وقد استقرت سيرة العقلاء في جميع الأعصار والأمصار من جميع الأمم والمذاهب
على رجوع الجاهل في كل فن إلى العالم الخبير المتخصص فيه إذا كان ثقة، وقد يعبر عنه
بأهل الخبرة.
فالمريض يرجع إلى الطبيب الحاذق الثقة ويعمل برأيه. والمتعاملان يرجعان في
معاملاتهما إلى المتخصص في معرفة الأمتعة وقيمها. وهكذا في سائر الأمور
التخصصية.
بل لا يمكن أن يستقيم نظام بدون التقليد إجمالا، إذ لا يوجد مجتمع يستطيع جميع
أفراده تحصيل المعرفة التفصيلية بجميع ما يتصل بحياتهم من الهندسة والطب وأصول
86

الصناعات والحرف الضرورية.
واستمرت سيرة أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) أيضا على استفتاء بعضهم من بعض
والعمل بقوله وفتياه من دون ردع منهم (عليهم السلام).
والتقليد المذموم في الكتاب العزيز هو تقليد الأبناء للآباء أو الاتباع للرؤساء تعصبا،
أي تقليد الجاهل لجاهل مثله أو لفاسق غير مؤتمن، لا رجوع الجاهل في كل فن إلى
العالم الخبير فيه إذا كان ثقة; فإنه أمر فطري ضروري لا محيص عنه للمجتمعات وإن
كانت في أعلى مراتب الرقي. وفي الحقيقة ليس هذا تقليدا بل كسب علم بنحو الإجمال.
فالمجتهد يعرف حكم الواقعة بنحو التفصيل، والمقلد برجوعه إلى العالم الثقة يكسب
العلم أو الوثوق به إجمالا، ويعمل بما حصل له من العلم.
والإشكال في السيرة بأنها إنما تفيد إذا اتصلت بعصر الأئمة (عليهم السلام) ولم يردعوا عنها، و
الاجتهاد بنحو يوجد في أعصارنا من إعمال الدقة واستنباط الفروع من الأصول الكلية
لم يعهد وجوده في تلك الأعصار، مدفوع. إذ التفريع على الأصول، وكذا مقايسة الأخبار
المتعارضة وإعمال الترجيح فيها كان متعارفا بين أصحاب الأئمة (عليهم السلام) أيضا، كما يشهد
بذلك قوله (عليه السلام): " إنما علينا أن نلقى إليكم الأصول وعليكم أن تفرعوا " (1) هذا.
ما استدلوا به على حجية فتوى الفقيه:
واستدلوا على حجية فتوى الفقيه مضافا إلى السيرة المذكورة ببعض الآيات و
الروايات أيضا:

1 - الوسائل 18 / 41، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 51.
87

1 - فمن الآيات قوله - تعالى -: " وما أرسلناك من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم،
فاسألوا أهل الذكر إن كنتم تعلمون. " (1)
بتقريب أن وجوب السؤال يستلزم وجوب القبول وترتيب الأثر عليه وإلا وقع لغوا،
وإذا وجب قبول الجواب وجب قبول كل ما يصح أن يسأل عنه، إذ لا خصوصية لسبق
السؤال.
2 - ومنها قوله - تعالى -: " وما كان المؤمنون لينفروا كافة، فلولا نفر من كل فرقة منهم
طائفة ليتفقهوا في الدين، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون. " (2)
بتقريب أن الظاهر من الآية بمقتضى كلمة " لولا " وجوب النفر، فتجب الغاية وغاية
الغاية أيضا، أعني التفقه والإنذار وحذر القوم، ولأن طبع الحذر يناسب اللزوم. والمراد
بالإنذار بقرينة لفظ التفقه في الدين هو بيان الأحكام الشرعية، فذكر اللازم وأريد
الملزوم. فتدل الآية على وجوب ترتيب الأثر على قول الفقيه المبين للأحكام. وإن
شئت قلت إذا وجب بيان الأحكام وجب ترتيب الأثر وإلا وقع لغوا.
3 - ومنها قوله: " إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس
في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون. " (3)
فإن حرمة الكتمان تستلزم وجوب القبول بعد الإظهار وإلا لزم اللغو.
4 - ومنها قوله - تعالى - حكاية عن إبراهيم الخليل: " يا أبت إني قد جاءني من العلم
ما لم يأتك، فاتبعني أهدك صراطا سويا. " (4)

1 - سورة النحل (16)، الآية 43.
2 - سورة التوبة (9)، الآية 122.
3 - سورة البقرة (2)، الآية 159.
4 - سورة مريم (19)، الآية 43.
88

دلت الآية على وجوب إطاعة العالم في علمه والمتابعة له. إلى غير ذلك من الآيات.
وأما الروايات فهي في غاية الكثرة وتنقسم إلى طوائف سبع.
الطائفة الأولى:
ما ورد في مدح الرواة والترغيب في نشر الأحاديث وبيان الأحكام الشرعية، وهي
كثيرة:
5 - فمنها ما رواه الرضا (عليه السلام) عن آبائه (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " اللهم ارحم
خلفائي " - ثلاث مرات - فقيل له: يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال: " الذين يأتون من
بعدي ويروون عني أحاديثي وسنتي، فيعلمونها الناس من بعدي. " (1)
وقد مرت أسانيد الحديث وشرحه في الفصل الثالث من الباب الخامس في
الاستدلال به لإثبات ولاية الفقيه، وقلنا هناك أنه ليس المراد به الحفاظ لألفاظ الحديث
نظير المسجلات، بل المتفقهون في أقواله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسنته، فراجع ما حررناه هناك.
6 - ومنها خبر عبد السلام بن صالح الهروي، قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: " رحم الله
عبدا أحيا أمرنا. " قلت: وكيف يحيى أمركم؟ قال: " يتعلم علومنا ويعلمها الناس. " (2)
وتقريب الاستدلال بالحديثين يظهر مما مر وإن كان في الجميع إشكال يأتي بيانه.

1 - الوسائل 18 / 66، الباب 8 من أبواب صفات القاضي، الحديث 53.
2 - الوسائل 18 / 102، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 11.
89

الطائفة الثانية من الروايات:
ما ورد من الأئمة - عليهم السلام - من إرجاع شيعتهم إلى الفقهاء منهم بنحو العموم:
7 - منها ما في توقيع صاحب الزمان - عليه السلام - الذي رواه الصدوق في كتاب
كمال الدين، عن محمد بن محمد بن عصام الكليني، قال: حدثنا محمد بن يعقوب
الكليني، عن إسحاق بن يعقوب، قال: سألت محمد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتابا
قد سألت فيه عن مسائل أشكلت على، فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان (عليه السلام)، و
فيه: " وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم، وأنا
حجة الله عليهم. " ورواه الشيخ أيضا في الغيبة بسنده عن الكليني. ورواه الطبرسي في
آخر الاحتجاج أيضا عنه. (1)
وقد مر البحث في سند الحديث ومتنه في الفصل الثالث من الباب الخامس في إثبات
ولاية الفقيه، وقلنا هناك أن إسحاق بن يعقوب مجهول، وأن الرواية وإن دلت على
جلالته ولكن الراوي لها نفسه. ونقل الكليني عنه وإن أشعر باعتماده عليه ولكن الرواية
لم تذكر في الكافي ولا ندري ما هو الوجه في ذلك؟!
وكيف كان فالظاهر أن المراد بالرواة في الحديث هم الفقهاء المستند علمهم وفقههم
إلى روايات أهل البيت، في قبال أهل القياس والاجتهادات الظنية.
واحتمال العهد وعدم العموم في الحوادث لا يضر بالاستدلال بعد عموم التعليل،
أعني قوله (عليه السلام): " فإنهم حجتي عليكم. " فهم بجعله (عليه السلام) صاروا حجة علينا، كما هو حجة
الله المطلق. واطلاقه يقتضي جواز الرجوع إلى فقهاء الشيعة والأخذ

1 - كمال الدين / 483، باب ذكر التوقيعات...، الحديث 4، والوسائل 18 / 101، الباب 11 من
أبواب صفات القاضي، الحديث 9.
90

بقولهم، سواء حصل العلم أو الوثوق من قولهم أم لا، فيكون حجة مطلقا.
8 - ومنها ما في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري - عليه السلام -: " فأما من كان
من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا على هواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن
يقلدوه، وذلك لا يكون إلا بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم. " (1)
ورواه الطبرسي أيضا في أواخر الاحتجاج عنه (عليه السلام). (2)
والراوي لهذا التفسير هو الصدوق - عليه الرحمة - عن أبي الحسن محمد بن القاسم
المفسر الأسترآبادي الخطيب، قال: حدثني أبو يعقوب يوسف بن محمد بن زياد و
أبو الحسن علي بن محمد بن سيار. والثلاثة كلهم مجاهيل وإن تكلف في تنقيح المقال
لتوثيقهم. (3)
ومجرد رواية الصدوق عنهم لا يدل على توثيقهم، فإنه في غير الفقيه روى عن غير
الموثقين كثيرا، بل فيه أيضا.
وقد قطع جمع من الأعلام منهم ابن الغضائري بكون التفسير موضوعا، وقالوا إن فيه
مطالب لا يناسب صدورها عن الإمام - عليه السلام -.
وأما دلالة الرواية فواضحة. وإطلاقها يدل على حجية قول الفقيه الواجد للشرائط
مطلقا; حصل الوثوق من قوله أم لا. ولعل عدم إيجاب التقليد من جهة التخيير بينه وبين
الاحتياط.
9 - ومنها ما رواه الكشي بسنده، عن أحمد بن حاتم بن ماهويه، قال: كتبت إليه، يعني
أبا الحسن الثالث (عليه السلام) أسأله عمن آخذ معالم ديني، وكتب أخوه أيضا بذلك، فكتب (عليه السلام)
إليهما: " فهمت ما ذكرتما، فاصمدا في دينكما على كل مسن في حبنا، وكل كثير القدم في
أمرنا، فإنهما كافوكما إن شاء الله - تعالى -. " (4)

1 - الوسائل 18 / 95، الباب 10 من أبواب صفات القاضي، الحديث 20.
2 - الاحتجاج للطبرسي / 255 (= طبعة أخرى 2 / 263).
3 - راجع تنقيح المقال 3 / 175 و 336، و 2 / 305.
4 - الوسائل 18 / 110، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 45.
91

والمراد بأخيه على ما قيل فارس أو طاهر بن حاتم. وأحمد بن حاتم مجهول.
وهل المراد بأخذ معالم الدين تعلمها، أو أخذها تعبدا وإن لم يحصل العلم والوثوق؟
فعلى الثاني يكون وزان الخبر وزان الروايتين السابقتين. ولو أريد بمعالم الدين الأعم
من الأصول والفروع كما هو الظاهر يرد عليه أن التقليد التعبدي لا يجزي في الأصول إلا
أن تخصص الرواية بالنسبة إلى أصول الدين بدليل آخر، فتدبر.
فهذه ثلاث روايات ضعيفة من حيث السند، ولكن لها دلالة على حجية قول الفقيه
مطلقا وإن لم يحصل علم أو وثوق.
الطائفة الثالثة:
ما ورد من الأئمة - عليهم السلام - من إرجاع بعض الشيعة إلى بعض، وبيان وثاقتهم و
أمانتهم. وهي أيضا كثيرة:
10 - فمنها ما رواه الكليني، عن محمد بن عبد الله الحميري ومحمد بن يحيى جميعا،
عن عبد الله بن جعفر الحميري، عن أحمد بن إسحاق، عن أبي الحسن (عليه السلام)، قال سألته و
قلت: من أعامل أو عمن آخذ وقول من أقبل؟ فقال له: العمري ثقتي، فما أدى إليك عني
فعني يؤدي، وما قال لك عني فعني يقول، فاسمع له وأطع، فإنه الثقة المأمون. وأخبرني
أبو علي أنه سأل أبا محمد (عليه السلام) عن مثل ذلك، فقال له: العمري وابنه ثقتان. فما أديا إليك
عني فعني يؤديان، وما قالا لك فعني يقولان، فاسمع لهما وأطعهما، فإنهما الثقتان
المأمونان... " ورواه الشيخ أيضا في كتاب الغيبة (1).
والرواية صحيحة. وأحمد بن إسحاق شيخ القميين من خواص أبي محمد (عليه السلام).

1 - الكافي 1 / 329، كتاب الحجة، باب في تسمية من رآه، الحديث 1; والوسائل 18 / 99، الباب
11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 4.
92

والمراد بالعمري وابنه: عثمان بن سعيد العمري وابنه محمد بن عثمان، وكلاهما من
نواب الناحية المقدسة.
وهل الرواية في مقام جعل الحجية التعبدية لروايتهما أو لفتواهما، أو تكون إمضاء لما
استقرت عليه السيرة من العمل بقول الثقة المأمون رواية أو فتوى، وإنما تعرضت لكون
الرجلين من مصاديق ما استقرت عليه السيرة؟ وجهان.
ظاهر تعليل الإمام - عليه السلام - هو الثاني. إذ التعليل يقع عادة بذكر كبرى كلية
ارتكازية معلومة للمخاطب. وسبق العهد بكبرى كلية شرعية بهذا المضمون بعيد جدا.
ثم هل تكون الرواية دليلا لحجية رواية الثقة أو فتواه، أو كلتيهما؟ لعل الظاهر
هو الأخير. إذ الفتوى في تلك الأعصار كانت قليلة المؤونة; فإن ذكر الرواية بقصد
الحكاية عن الإمام كان رواية، وإن ذكرها بقصد الحكاية عما فهمه وأدركه من الحكم
الشرعي كان فتوى.
11 - ومنها ما رواه الكشي بسنده، عن شعيب العقرقوفي، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام)،
ربما احتجنا أن نسأل عن الشيء، فمن نسأل؟ قال: " عليك بالأسدي، يعني أبا بصير. " (1)
12 - ومنها ما رواه الكشي أيضا، عن عبد الله بن أبي يعفور، قال: قلت لأبي
عبد الله (عليه السلام): إنه ليس كل ساعة ألقاك ولا يمكن القدوم، ويجيء الرجل من أصحابنا
فيسألني وليس عندي كل ما يسألني عنه؟ فقال: " ما يمنعك من محمد بن مسلم الثقفي،
فإنه سمع من أبي وكان عنده وجيها. " (2)
والرواية بنفسها شاهدة على أن رجوع بعض الأصحاب إلى بعض والاستفتاء منه
كان أمرا متعارفا.

1 - الوسائل 18 / 103، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 15.
2 - الوسائل 18 / 105، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 23.
93

13 - ومنها ما رواه أيضا عن يونس بن يعقوب، قال: كنا عند أبي عبد الله (عليه السلام) فقال:
" أما لكم من مفزع؟ أما لكم من مستراح تستريحون إليه؟ ما يمنعكم من الحارث بن
المغيرة النضري؟ " (1)
14 - ومنها ما رواه عن على بن المسيب الهمداني، قال: قلت للرضا (عليه السلام): " شقتي بعيدة
ولست أصل إليك في كل وقت، فممن آخذ معالم ديني؟ قال: " من زكريا بن آدم القمي
المأمون على الدين والدنيا. " قال على بن المسيب: فلما انصرفت قدمنا على زكريا بن
آدم فسألته عما احتجت إليه. (2)
15 - ومنها ما رواه عن عبد العزيز بن المهتدي والحسن بن علي بن يقطين جميعا عن
الرضا (عليه السلام)، قال: قلت: لا أكاد أصل إليك أسألك عن كل ما احتاج إليه من معالم ديني،
أفيونس بن عبد الرحمان ثقة آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟ فقال: نعم. (3)
16 - ومنها ما رواه أيضا عن عبد العزيز بن المهتدي - وكان خير قمي رأيته، وكان
وكيل الرضا (عليه السلام) وخاصته - قال: سألت الرضا (عليه السلام) فقلت: إني لا ألقاك في كل وقت، فممن
آخذ معالم ديني؟ فقال: " خذ عن يونس بن عبد الرحمان. " (4)
17 - ومنها ما رواه أيضا عن عبد العزيز بن المهتدي، قال: قلت للرضا (عليه السلام): إن شقتي
بعيدة فلست أصل إليك في كل وقت، فآخذ معالم ديني عن يونس مولى آل يقطين؟ قال:
نعم. (5)
أقول: الشقة بالضم والتشديد: المسافة التي يشقها المسافر.

1 - الوسائل 18 / 105، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 24.
2 - الوسائل 18 / 106، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 27.
3 - الوسائل 18 / 107، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 33.
4 - الوسائل 18 / 107، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 34.
5 - الوسائل 18 / 107، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 35.
94

18 - ويشبه هذه الطائفة ما رواه الكشي بسنده عن جميل بن دراج، قال: سمعت أبا
عبد الله (عليه السلام) يقول: " بشر المخبتين بالجنة: بريد بن معاوية العجلي، وأبو بصير ليث بن
البختري المرادي، ومحمد بن مسلم، وزرارة. أربعة نجباء أمناء الله على حلاله و
حرامه. لولا هؤلاء انقطعت آثار النبوة واندرست. " (1)
19 - وما رواه بسنده عن سليمان بن خالد، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " ما أجد
أحدا أحيا ذكرنا وأحاديث أبي (عليه السلام) إلا زرارة، وأبو بصير ليث المرادي، ومحمد بن
مسلم، وبريد بن معاوية العجلي. ولولا هؤلاء ما كان أحد يستنبط هذا. هؤلاء حفاظ
الدين وأمناء أبي على حلال الله وحرامه... " (2) هذا.
والظاهر أن هذه الأحاديث بكثرتها ليست في مقام جعل الحجية التعبدية لخبر الثقة
أو فتواه، بل مفادها إمضاء السيرة المستمرة وبيان المصداق لموضوعها، فتدبر.
الطائفة الرابعة:
ما اشتمل على الأمر بالإفتاء والترغيب فيه:
20 - فمنها ما رواه الشيخ الطوسي، عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنه قال لأبان بن تغلب:
" اجلس في مسجد المدينة وأفت الناس، فإني أحب أن يرى في شيعتي مثلك. " (3)
21 - ومنها ما رواه الكشي بسنده، عن معاذ بن مسلم النحوي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)،
قال: " بلغني أنك تقعد في الجامع فتفتي الناس؟ " قلت: نعم وأردت أن أسألك عن ذلك
قبل أن أخرج. إني أقعد في المسجد فيجئ الرجل فيسألني عن الشيء، فإذا عرفته
بالخلاف لكم أخبرته بما يفعلون. ويجيء الرجل أعرفه بمودتكم

1 - الوسائل 18 / 103، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 14.
2 - الوسائل 18 / 104، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 21.
3 - الفهرست للطوسي / 17 (= طبعة أخرى / 41).
95

وحبكم، فأخبره بما جاء عنكم. ويجيء الرجل لا أعرفه ولا أدري من هو، فأقول:
جاء عن فلان كذا وجاء عن فلان كذا، فأدخل قولكم فيما بين ذلك. فقال لي: " اصنع كذا،
فإني كذا أصنع. " ورواه الصدوق في العلل أيضا. (1)
22 - ومنها ما في نهج البلاغة في كتابه إلى قثم بن عباس، وهو عامله على مكة: " أما
بعد، فأقم للناس الحج، وذكرهم بأيام الله واجلس لهم العصرين فأفت المستفتي وعلم
الجاهل وذاكر العالم. " (2)
ويشبه هذه الطائفة ما في قصة بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مصعب بن عمير وعمرو بن حزم:
23 - ففي سيرة ابن هشام في قصة بيعة العقبة: " قال ابن إسحاق: فلما انصرف عنه القوم
بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) معهم مصعب بن عمير... وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام و
يفقههم في الدين. " (3)
24 - وفي السيرة، والطبري: " وبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عمرو بن حزم واليا على بنى
الحارث ليفقههم في الدين ويعلمهم السنة ومعالم الاسلام. " (4)
إذ تفهيم فروع الدين والأحكام لم يكن إلا بالإفتاء فيها، كما لا يخفى.
وتقريب الاستدلال بهذه الروايات أن فائدة الإفتاء هي ترتيب الأثر عليه والعمل
على طبق الفتوى، وإلا وقع لغوا. فبدلالة الاقتضاء يفهم جواز العمل به.

1 - الوسائل 18 / 108، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 36.
2 - نهج البلاغة، فيض / 1062; عبده 3 / 140; لح / 457، الكتاب 67.
3 - سيرة ابن هشام 2 / 76.
4 - سيرة ابن هشام 4 / 241; ونحوه في تاريخ الطبري 4 / 1727.
96

الطائفة الخامسة من الروايات:
ما دل على حرمة الإفتاء بغير علم، حيث يستفاد منها جواز أصل الإفتاء وصحته:
25 - فمنها ما رواه الصدوق في معاني الأخبار بسنده، عن حمزة بن حمران، قال:
" سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " من استأكل بعلمه افتقر. " قلت: إن في شيعتك قوما
يتحملون علومكم ويبثونها في شيعتكم، فلا يعدمون منهم البر والصلة والإكرام؟
فقال: " ليس أولئك بمستأكلين، إنما ذاك الذي يفتي بغير علم ولا هدى من الله ليبطل
به الحقوق طمعا في حطام الدنيا. " (1)
26 - ومنها ما رواه الكليني بسند صحيح، عن أبي عبيدة، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): " من
أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ولحقه وزر
من عمل بفتياه. " (2)
إلى غير ذلك من الروايات، فراجع.
الطائفة السادسة:
ما دل على أن الإفتاء والأخذ به كان متعارفا ولم يردع عنه الأئمة بل قرروه:
27 - فمنها خبر علي بن أسباط، قال: قلت للرضا (عليه السلام): يحدث الأمر لا أجد بدا

1 - الوسائل 18 / 102، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 12.
2 - الوسائل 18 / 9، الباب 4 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.
97

من معرفته، وليس في البلد الذي أنا فيه أحد أستفتيه من مواليك، قال: فقال: " إيت
فقيه البلد فاستفته من أمرك، فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه، فإن الحق فيه. (1) "
ولعل الراوي كان بلغه حديثان متعارضان في المسألة، وفي مثله يحمل الموافق
لأهل الخلاف على صدوره تقية، أو أنه في عصر الرضا (عليه السلام) كان بناء فقهاء السلاطين على
الإفتاء بخلاف أهل البيت.
28 - ومنها ما رواه الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه رفعه، قال: سألت امرأة أبا
عبد الله (عليه السلام) فقالت: إني كنت أقعد في نفاسي عشرين يوما حتى أفتوني بثمانية عشر يوما؟
فقال أبو عبد الله (عليه السلام): ولم أفتوك بثمانية عشر يوما؟ فقال رجل للحديث الذي روي عن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)... " (2)
إلى غير ذلك من الروايات التي يظهر منها إمضاء الإمام وتقريره لأصل الإفتاء و
الأخذ به.
الطائفة السابعة:
ما دل على إرجاع أمر القضاء إلى الفقهاء من الشيعة وإيجاب القبول لحكمهم:
29 - فمنها ما مر من مقبولة عمر بن حنظلة في حكم المتنازعين، وفيها: " ينظران من
كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا; فليرضوا به
حكما، فإني قد جعلته عليكم حاكما. فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخف بحكم
الله وعلينا رد، والراد علينا الراد على الله وهو على حد الشرك بالله. " (3)

1 - الوسائل 18 / 83، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 33.
2 - الوسائل 2 / 613، الباب 3 من أبواب النفاس، الحديث 7.
3 - الوسائل 18 / 99، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.
98

30 - ومنها خبر أبي خديجة، وفيه: " اجعلوا بينكم رجلا ممن قد عرف حلالنا و
حرامنا، فإني قد جعلته قاضيا. " (1)
وتقريب الاستدلال بها أن القضاء يلازم الإفتاء; فإذا كان القضاء نافذا ولم يجز رده
لزم منه كون الإفتاء أيضا نافذا.
فهذه سبع طوائف من الروايات التي ربما استدل بها على حجية فتوى المجتهد لمن
رجع إليه وقلده.
المناقشة في أدلة التقليد:
أقول: التقليد المصطلح عليه في أعصارنا عبارة عن الأخذ بقول الفقيه العادل تعبدا، و
إن فرض أنه لم يحصل للمقلد الوثوق والاطمينان بمطابقته للواقع. فيكون قول الفقيه
العادل وفتياه حجة تأسيسية تعبدية، نظير حجية البينة الثابتة بخبر مسعدة بن صدقة.
ولا يخفى أن إثبات ذلك بالآيات المذكورة وأكثر الروايات التي مرت مشكل، لعدم
كونها في مقام جعل التكليف الظاهري للجاهل وأنه متعبد بالأخذ بأقوال العلماء و
فتاواهم وإن لم يحصل له وثوق بكونها مطابقة للواقع.
بل الظاهر من آية السؤال أن الجاهل يجب عليه السؤال حتى يحصل له العلم ولو
بنحو الإجمال. ويشهد لذلك أن الظاهر منها بقرينة المورد كون المقصود هو السؤال عن
مواصفات الأنبياء التي لا يجزي فيها الظن والتقليد قطعا.
والمراد بأهل الذكر على هذا أهل الكتاب من اليهود، كما عن ابن عباس

1 - الوسائل 18 / 100، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 6. ولفظة " عليكم " بعد قوله
" جعلته " ليست في التهذيب بطبعيه، وإن وجدت في الوسائل.
99

ومجاهد. وفي بعض الأخبار أن المراد بأهل الذكر هم الأئمة الاثنا عشر -
عليهم السلام -. (1)
وكيف كان فلا ترتبط بباب التقليد التعبدي.
هذا مضافا إلى أن الآية في مقام بيان وجوب السؤال، لا وجوب العمل بما أجيب حتى
يتمسك بإطلاقه لصورة عدم حصول الوثوق والعلم أيضا. ويكفي في عدم لغوية السؤال
ترتب فائدة ما عليه، وهو العمل بالجواب مع الوثوق.
وبذلك يظهر الجواب عن آية الكتمان أيضا.
وأما آية النفر، فمحط النظر فيها هو بيان وجوب تعلم العلوم الدينية والتفقه فيها بالنفر
إلى مظانها، ثم نشرها في البلاد ليعم العلم جميع العباد فيتعلم غير النافرين من النافرين
لعلهم يحذرون.
وليست في مقام جعل الحجية التعبدية لقول الفقيه وبيان وجوب الحذر من قوله
مطلقا حتى يتمسك بإطلاقه لصورة عدم حصول العلم والوثوق أيضا.
نعم، يحصل غالبا للجهال العلم العادي وسكون النفس بصحة ما أنذروا به إجمالا إذا
كان المنذر ثقة من أهل الخبرة. ويكفي هذا قطعا، إذا العلم حجة ذاتا ويكون عند العقلاء
أعم مما لا يحتمل فيه الخلاف أصلا، أو يكون احتمال الخلاف فيه ضعيفا جدا بحيث
لا يعتنى به ويكون وجوده كالعدم، ونعبر عنه بالوثوق والاطمينان وسكون النفس و
نحو ذلك.
ويشهد لعدم كون الآية في مقام بيان الحكم الظاهري التعبدي رواية عبد المؤمن
الأنصاري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) الواردة في تفسيرها، قال (عليه السلام): " فأمرهم أن ينفروا إلى
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيتعلموا ثم يرجعوا إلى قومهم فيعلموهم. " (2) فالغرض هو التعلم ثم
التعليم، لا التعبد المحض.

1 - راجع أصول الكافي 1 / 210، كتاب الحجة، باب أن أهل الذكر... هم الأئمة.
2 - الوسائل 18 / 101، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10.
100

ويشهد له أيضا الاستدلال بها في أخبارنا لوجوب نفر البعض لمعرفة الإمام ثم تعريفه
للباقين. (1)
مع وضوح أن الإمامة من المسائل الاعتقادية التي لا يجري ولا يجزي فيها التعبد و
التقليد.
وبذلك يظهر الأمر في قول الخليل (عليه السلام) لأبيه أيضا، إذ ليس مراده المتابعة التعبدية، فإن
التوحيد ونفي الشرك من أصول الدين ولا مجال للتعبد فيه.
وكذلك الكلام في الطائفة الأولى من الروايات، فإن المقصود فيها بث العلم ونشره، و
لذا قال: " فيعلمونها الناس من بعدي. " فلا ربط لها بالتقليد التعبدي.
وأما الطائفة الثالثة الواردة في إرجاع بعض الشيعة إلى بعض، فالظاهر أنها ليست
بصدد التأسيس وجعل الحجية لقول الفقيه أو الراوي تعبدا، بل تكون إمضاء لما استقرت
عليه السيرة من الأخذ بقول الخبير الثقة وبيانا لكون الأفراد المذكورة من مصاديق
موضوعها.
هذا مضافا إلى امكان منع كونها مرتبطة بباب الاجتهاد والإفتاء، بل لعلها مرتبطة
بباب الرواية. وبين البابين بون بعيد. فإن الراوي يحكي عن الإمام، والمفتي يحكي عن
فهم نفسه ورأيه. اللهم إلا أن يقال بعمومها لكلا البابين.
وأما ما دل على الترغيب في الإفتاء أو جوازه أو تقريره، فلا يدل على وجوب القبول
والتعبد به مطلقا، لعدم كونها في مقام البيان من هذه الجهة، بل لعل الواجب هو العمل
بالفتوى بعد حصول الوثوق بمطابقته للواقع، كما عليه السيرة. وليست فائدة الإفتاء
منحصرة في التعبد به بنحو الإطلاق حتى يحكم بذلك بدلالة الاقتضاء.

1 - أصول الكافي 1 / 378، كتاب الحجة، باب ما يجب على الناس عند مضي الإمام.
101

وأما ما دل على إرجاع أمر القضاء إلى الفقهاء فالتعدي منه إلى غير باب القضاء
متوقف على إلغاء الخصوصية والقطع بعدم دخالتها، وهو ممنوع. لارتباط القضاء
بالمتنازعين، فلا يمكن فيه الاحتياط، وفصل الخصومة مما لا محيص عنه. ففي مثله
يكون حكم الفقيه نافذا حتى مع العلم بالخلاف أيضا فضلا عن صورة الشك.
وبالجملة، إثبات التقليد التعبدي بهذه الآيات والروايات مشكل.
نعم، الطائفة الثانية من الروايات، أعني التوقيع الشريف وما في تفسير الإمام وخبر
أحمد بن حاتم بن ماهويه ظاهرة في جعل الحجية لقول الفقيه الثقة وجواز العمل بقوله
مطلقا وإن لم يحصل العلم والوثوق، فيكون حجة تأسيسية شرعية.
ولكن الإشكال في سندها، كما مر. فإثبات هذا الحكم الأساسي بمثل هذه الروايات
الضعيفة غير المذكورة في الكتب الأربعة التي عليها المدار مشكل.
فالعمدة في الباب هي بناء العقلاء وسيرتهم على رجوع الجاهل في كل فن إلى العالم
فيه. ولا مجال للإشكال فيها، لحصولها في جميع الأعصار والأمصار وجميع الأمم و
المذاهب.
وقد استقرت سيرة الأصحاب أيضا في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) على رجوع
الجاهل إلى العالم والاستفتاء منه والعمل بما سمعه من الخبير الثقة.
ولكن ليس بناء العقلاء مبنيا على التعبد من ناحية الآباء أو الرؤساء، ولاعلى إجراء
دليل الانسداد وأنهم مع الالتفات إلى انسداد باب العلم اضطروا إلى العمل بالتقليد و
الظن، ولاعلى اعتماد كل فرد في عمله على عمل سائر العقلاء وبنائهم. بل من جهة
اعتماد كل فرد في عمله هذا على علم نفسه والإدراك الحاصل في ضميره. فالمراد بناء
العقلاء بما هم عقلاء، حيث إن الجاهل برجوعه إلى الخبير الثقة يحصل له الوثوق و
الاطمينان، وهو علم عادي تسكن به النفس، والعلم حجة عند العقل.
فيرجع بناء العقلاء هنا إلى حكم العقل، حيث إنهم لا يتقيدون في نظامهم
102

بالعلم التفصيلي المستند إلى الدليل في جميع المسائل، بل يكتفون بالعلم الإجمالي
أيضا. كما لا يتقيدون بما لا يحتمل فيه الخلاف أصلا، بل يكتفون بالوثوق والعلم العادي
أيضا، أي ما يكون احتمال الخلاف فيه ضعيفا جدا. وليس في هذا تعبد أصلا، لعدم التعبد
في عمل العقلاء بما هم عقلاء.
فإذا فرض أنه في مورد خاص لم يحصل لهم الوثوق الشخصي بقول أهل الخبرة لجهة
من الجهات - كما ربما يتفق ذلك في المسائل التفريعية الدقيقة الخلافية - فإن لم يكن
الموضوع مهما وجاز فيه التسامح أمكن أيضا العمل رجاء. وأما إذا كان الموضوع من
الأمور المهمة التي لا يتسامح فيها كالمريض الدائر أمره بين الحياة والموت مثلا فلا
محالة يحتاطون حينئذ إن أمكن، أو يرجعون فيه إلى خبير آخر أو شورى طبية مثلا.
ولا يخفى أن مسائل الدين والشريعة كلها مهمة لا يجوز فيها التسامح والتساهل.
وبالجملة، فالملاك في بناء العقلاء وعملهم حصول الوثوق الشخصي. وليس هذا
تقليدا تعبديا، بل هو علم عادي بنحو الإجمال يكتفي به العقلاء.
وبعبارة أخرى، إن كان التقليد عبارة عن العمل بقول الغير من دون مطالبة الدليل فهذا
يكون تقليدا، وأما إذا كان عبارة عن الأخذ بقول الغير تعبدا فعمل العقلاء ليس تقليدا، إذ
ليس بينهم تعبد.
ويجري ما ذكرناه في جميع الأمارات العقلائية التي لا تأسيس فيها للشارع، فإن
العقلاء لا يعتمدون عليها إلا مع حصول الوثوق والعلم العادي.
فإن قلت: المعتبر في إحراز الواقعيات وإن كان هو الوثوق الشخصي والعلم العادي،
ولكن بناء العقلاء في مقام الاحتجاج الدائر بين الموالي والعبيد هو الاحتجاج بقول
الخبير الثقة مطلقا، فلا يسمع اعتذار العبد في مخالفته لقول الخبير الثقة بأنه لم يحصل له
الوثوق شخصا.
103

قلت: لا نسلم الفرق بين المقامين; فلو فرض أن المولى فوض أمر ابنه إلى عبده،
فمرض الابن وذهب به العبد إلى طبيب، فصادف أن العبد تردد في صحة طبابته لجهة من
الجهات، وكان يتمكن من الاحتياط أو الرجوع إلى طبيب آخر أو شورى طبية، فترك
ذلك وعمل بقول الطبيب الأول واتفق أن الابن مات لذلك، فإذا اطلع المولى على تفصيل
الواقعة فهل ليس له أن يعاتب العبد؟ وهل يسمع اعتذار العبد بأنه عمل بتكليفه من
الرجوع إلى الطبيب؟
والحاصل أن الرجوع إلى فقهاء أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكذا أصحاب الأئمة -
عليهم السلام - أمثال زرارة، ومحمد بن مسلم، وبريد العجلي، وليث بن البختري
المرادي، ويونس وغيرهم من بطانة الأئمة (عليهم السلام) كان أمرا متعارفا، كما تعارف إرجاع
الأئمة (عليهم السلام) أيضا إليهم، ولكن لم يكن الاجتهاد في تلك الأعصار بحسب الغالب مبتنيا
على المباني الصعبة الدقيقة، بل كان خفيف المؤنة جدا، فكان يحصل الوثوق غالبا
للمستفتي وكان يعمل بوثوقه واطمينانه الحاصل من فتوى الفقيه.
فكذلك في أعصارنا لو حصل الوثوق بصحة فتوى المفتي وكونه مطابقا للواقع، كما
لعله الغالب أيضا للأغلب، صح الأخذ به.
وفي الحقيقة العمل إنما يكون بالوثوق الذي هو علم عادى تسكن به النفس،
لا بالتقليد والتعبد.
وأما إذا لم يحصل الوثوق في مورد خاص لجهة من الجهات، فالعمل به تعبدا مشكل.
نعم، لو ثبت جعل الشارع قول الفقيه حجة تأسيسية تعبدية، نظير جعل البينة حجة في
الدعاوى، صح العمل به وإن لم يحصل الوثوق، بل وإن حصل ظن ما بالخلاف، ولكن
إثبات ذلك مشكل. إذ ما استدل به من الآيات والروايات لإثبات ذلك إما أن تكون
مرتبطة بباب التعليم والتعلم، أو تكون إرشادا إلى
104

ما عليه بناء العقلاء وسيرتهم، أو تكون في مقام بيان المصاديق لذلك، أو يكون
سندها مخدوشا، فتدبر. هذا.
ولكن لقائل أن يقول: إن مقتضى ما ذكرت وجوب الاحتياط فيما إذا لم يحصل
الوثوق الشخصي من قول الثقة أو فتواه أو غيرهما من الأمارات مطلقا، سواء كان الشك
في ثبوت التكليف أو في سقوطه بعد ثبوته، وسواء كان الموضوع من الأمور المهمة
كالدماء والفروج أو من غيرها، ولا نظن أحدا يلتزم بذلك.
فالحق في المسألة هو التفصيل; فإن كان الشك في سقوط التكليف بعد ثبوته ولو
بالعلم الإجمالي وجب الاحتياط أو العمل بأمارة شرعية أو عقلائية توجب العلم أو
الوثوق بالامتثال. وكذلك الكلام إذا كان الشك في أصل ثبوت التكليف ولكن الموضوع
كان من الأمور المهمة. وأما في غيرها فتجري البراءة العقلية والشرعية. نعم، مع وجود
الأمارة الشرعية أو العقلائية على التكليف يجب الأخذ بها وإن لم يحصل الوثوق
الشخصي، إذ مع وجودها يحكم العقلاء بجواز احتجاج المولى على العبد، ولا يسمع
اعتذاره بعدم حصول الوثوق له شخصا، فتدبر. هذا.
كلام ابن زهرة في التقليد:
وقد ناسب في المقام نقل كلام ابن زهرة في أوائل الغنية، قال:
" فصل: لا يجوز للمستفتي تقليد المفتي، لأن التقليد قبيح. ولأن الطائفة مجمعة على
أنه لا يجوز العمل إلا بعلم.
وليس لأحد أن يقول: قيام الدليل وهو إجماع الطائفة على وجوب رجوع العامي
إلى المفتي والعمل بقوله مع جواز الخطأ عليه يؤمنه من الإقدام على قبيح ويقتضي إسناد
عمله إلى علم.
105

لأنا لا نسلم إجماعها على العمل بقوله مع جواز الخطأ عليه، وهو موضع الخلاف.
بل إنما أمروا برجوع العامي إلى المفتي فقط، فأما ليعمل بقوله تقليدا فلا.
فإن قيل: فما الفائدة في رجوعه إليه إذا لم يجز له العمل بقوله؟
قلنا: الفائدة في ذلك أن يصير له بفتياه وفتيا غيره من علماء الإمامية سبيل إلى العلم
بإجماعهم فيعمل بالحكم على يقين. " (1) انتهى كلام الغنية.
ثم على فرض دلالة الآيات والروايات والسيرة على الحجية التعبدية لقول الفقيه
فالاطلاع عليها وتحقيق دلالتها خارج من وسع العامي لتوقف ذلك على الاجتهاد في
هذه المسألة. إذا التقليد فيها يوجب التسلسل، كما لا يخفى. كما أن جواز العمل
بالاحتياط وتشخيص موارده وكيفيته أيضا يتوقف على الاجتهاد في هذه المسألة أو
التقليد فيها.
فلا يبقى للعامي في بادي الأمر إلا الرجوع إلى أهل الخبرة والعمل بقوله بعد حصول
الوثوق والاطمينان الذي هو علم عادى، وحجيته تكون ذاتية، فتدبر.
وأما ما قد يرى من بعض العوام من التعبد المحض بفتوى المجتهد مطلقا من دون
التفات إلى أنه يطابق الواقع أم لا، بل وإن التفتوا إلى ذلك وشكوا في مطابقته له، فلعله من
جهة ما لقنوا كثيرا بأن تكليف العامي ليس إلا العمل بفتوى المجتهد، وأن ما أفتى به
المفتي فهو حكم الله في حقه مطلقا. والظاهر أن هذه الجملة تكون من بقايا إلقاءات
المصوبة، وإن ترددت على ألسنتنا أيضا. هذا.
طريق آخر إلى مسألة التقليد:
ولكن هنا طريق آخر إلى مسألة التقليد ربما ينقدح في بعض الأذهان، وإن كان
لا يخلوا من إشكال. وهو أن المناصب الثلاثة أعني بيان الشريعة، وأمر

1 - الجوامع الفقهية / 485.
106

القضاء، والولاية الكبرى كلها اجتمعت في عصر النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم). وفي
عصر الأئمة الاثني عشر أيضا كانت الثلاثة لهم عندنا. وفي الحقيقة كان بيان الأحكام و
القضاء أيضا من شؤون من له الولاية والإمامة الحقة.
فكذلك في عصر الغيبة أيضا يكون المرجع للقضاء وللإفتاء من له الولاية الكبرى،
أعني الفقيه الجامع للشرائط التي مرت بالتفصيل. حيث إن الدين والسياسة في الشريعة
الإسلامية متلازمان. فالمتصدي لإدارة شؤونهما يجب أن يكون شخصا واحدا جامعا
لصفات الإفتاء والقضاء والولاية، وإن توقفت إدارة كل منها على الاستعانة بالآخرين.
ويشهد لذلك مجموع الآيات والروايات التي مرت منا في الفصل الأول من هذا
الباب، حيث ذكر فيها جهات الدين والسياسة توأما.
ويدل عليه أيضا ما مر من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " اللهم ارحم خلفائي. " ثلاث مرات فقيل له:
" يا رسول الله، ومن خلفاؤك؟ " قال: " الذين يأتون من بعدي ويروون عني أحاديثي و
سنتي، فيعلمونها الناس من بعدي. " (1)
حيث إن المتبادر من خلفائه خلفاؤه في جميع شؤونه العامة، فتشمل الثلاثة.
وكذا قوله (عليه السلام) في التوقيع الذي مر: " وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة
حديثنا، فإنهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله عليهم. " (2)
إذ المراد بالحوادث، الأمور الحادثة للمسلمين في كل عصر وزمان إذا أشكل عليهم
تشخيص هويتها أو الأحكام المنطبقة عليها.
فيعلم بذلك أن المرجع للعلم بالكليات المأثورة وللعلم بالحوادث الواقعة شخص
واحد. فصاحب العصر - عجل الله فرجه - جعل الفقيه المبتني فقهه على روايات أهل
البيت مرجعا لكلا الأمرين من الإفتاء والولاية.

1 - الوسائل 18 / 66، الباب 8 من أبواب صفات القاضي، الحديث 53.
2 - الوسائل 18 / 101، الباب 11 أبواب صفات القاضي، الحديث 9. واعتمد في النقل على كمال
الدين / 484.
107

وكذلك ما مر في كلام سيد الشهداء (عليه السلام) من قوله: " ذلك بأن مجاري الأمور والأحكام
على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه. " (1)
فجعل منصب الولاية لمن له حق الإفتاء.
وهكذا مقبولة عمر بن حنظلة (2). إذ منصب القضاء أو الولاية المجعولة فيها يلازم
دائما الإفتاء أيضا.
وبالجملة، المناصب الثلاثة متلازمة، وكلها مجعولة لشخص واحد، فيكون منصب
الإفتاء أيضا مجعولا تعبديا. ولا محالة يشترط في المفتي شروط خاصة أيضا ذكروها
في محلها.
وبالجملة مرجعية الفتوى ليست إلا تداوم مقام الولاية والإمامة، ولأجل ذلك أجمع
فقهاؤنا على عدم جواز تقليد الميت. هذا.
ولكن قد مر منا الإشكال في انحصار طريق الإمامة في النصب، وفي دلالة الأدلة
عليه ثبوتا وإثباتا. ولعل الشارع المقدس أحال تعيين الوالي في عصر الغيبة إلى انتخاب
الأمة مع رعاية الشرائط المعتبرة، وأمر الإفتاء إلى ما استقرت عليه السيرة كما مر بيانها،
فتدبر.
وحيث إن الوالي المنتخب يراعى فيه الشروط الثمانية التي مرت ومنها الفقاهة بل
الأعلمية مع الإمكان فلا محالة مع كون الأعلم واجدا لسائر الشرائط يتعين انتخابه
للولاية، فتجتمع المناصب الثلاثة لواحد قهرا. وهو الأنسب لمصالح الإسلام و
المسلمين، حيث إن المقصود جمع أمر المسلمين وتوحيد كلمتهم، ولا يحصل ذلك إلا
بوحدة الإمام والقائد.
ولكن اللازم هو أن يستعين الإمام في كل شأن من الشؤون الثلاثة بأهل الخبرة فيه.

1 - تحف العقول / 238.
2 - الوسائل 18 / 99، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.
108

ففي الإفتاء أيضا يلزم أن يدعو جماعة من أهل الفتوى والنظر ويعقد شورى فتوى
يرجع إليها في المسائل المعضلة، فلا يفتي فيها إلا بعد تلاقح الأفكار واستماع الأنظار
المختلفة، إذ ربما هلك من استبد برأيه.
بل ربما يتوقف الإفتاء في بعض المسائل السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية
المستحدثة على معرفة خصوصيات الموضوعات المستحدثة والإحاطة بأطرافها و
نواحيها أيضا، فيجب الاستمداد من المتخصصين فيها; فلربما يؤثر ذلك في معرفة الحكم
الشرعي المنطبق عليها، فتدبر.
وقد طال البحث في هذه المسألة فأعتذر من القراء الكرام.
109

الثانية من السلطات الثلاث: السلطة التنفيذية
وفيها جهات من البحث:
1 - المراد منها والحاجة إليها ومراتبها:
المراد بهذه السلطة هم الوزراء والأمراء والمدراء والعمال والضباط والكتاب في
الشؤون المختلفة والدوائر المتفرقة في البلاد والنواحي. وأهمها وأعلى مراتبها في
أعصارنا هي الوزارة. وليس اسم الوزارة أمرا مستحدثا بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما توهم.
1 - فقد ترى أن موسى (عليه السلام) استدعى من ربه وزارة أخيه وقال على ما في القرآن
الكريم: " واجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي * اشدد به أزري * وأشركه في
أمري. " (1)
2 - وقال تعالى -: " ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا. " (2)
3 - وعن أمير المؤمنين أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال مخاطبا لعشيرته في قصة دعوته لهم:
" فأيكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟ " فقال
أمير المؤمنين (عليه السلام) قلت: " أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه. " قال: فأخذ برقبتي ثم قال:
" إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا. " (3)

1 - سورة طه (20)، الآيات 29 - 32.
2 - سورة الفرقان (25)، الآية 35.
3 - تاريخ الطبري 3 / 1172; والكامل لابن الأثير 2 / 63; وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد
13 / 211.
110

4 - وفي أواخر الخطبة القاصعة من نهج البلاغة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعلى (عليه السلام): " إنك
تسمع ما أسمع وترى ما أرى، إلا أنك لست بنبي ولكنك وزير. " (1)
5 - وفي مسند أحمد بسنده عن علي (عليه السلام)، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " ليس
من نبي كان قبلي إلا قد أعطي سبعة نقباء وزراء نجباء. وإني أعطيت أربعة عشر وزيرا
نقيبا نجيبا: سبعة من قريش وسبعة من المهاجرين. " (2)
6 - وفيه أيضا بسنده عن علي (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إنه لم يكن قبلي نبي إلا
قد أعطي سبعة رفقاء نجباء وزراء، وإني أعطيت أربعة عشر: حمزة وجعفر وعلى و
حسن وحسين وأبو بكر وعمر والمقداد وعبد الله بن مسعود وأبو ذر وحذيفة وسلمان
وعمار وبلال. " (3)
7 - وفيه أيضا عن عائشة قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من ولاه الله - عز وجل - من
أمر المسلمين شيئا فأراد به خيرا جعل له وزير صدق، فإن نسي ذكره، وإن ذكر
أعانه. " (4)
8 - وفي سنن أبي داود بسنده عن عائشة قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إذا أراد الله
بالأمير خيرا جعل له وزير صدق، إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه. وإذا أراد الله به غير
ذلك جعل له وزير سوء، إن نسي لم يذكره، وإن ذكر لم يعنه. " (5)
9 - وفي البحار عن اعلام الدين، قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما من أحد ولى شيئا من أمور
المسلمين فأراد الله به خيرا إلا جعل الله له وزيرا صالحا، إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه،
وإن هم بشر كفه وزجره. " (6)

1 - نهج البلاغة، فيض / 812; عبده 2 / 183; لح / 301، الخطبة 192.
2 - مسند أحمد 1 / 88.
3 - مسند أحمد 1 / 148.
4 - مسند أحمد 6 / 70.
5 - سنن أبي داود 2 / 118، كتاب الخراج، باب في اتخاذ الوزير.
6 - بحار الأنوار 72 / 359 (= طبعة إيران 75 / 359)، كتاب العشرة، الباب 81 (باب أحوال الملوك
والأمراء) الحديث 75.
111

10 - وفيه أيضا عن أمالي الصدوق بسنده، عن المفضل، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): " إذا
أراد الله - عز وجل - برعية خيرا جعل لها سلطانا رحيما، وقيض له وزيرا عادلا. " (1)
11 - وفى مسند أحمد بسنده، عن أبي هريرة، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: " ويل للوزراء!
ليتمنى أقوام يوم القيامة أن ذوائبهم كانت معلقة بالثريا يتذبذبون بين السماء والأرض و
إنهم لم يلوا عملا. " (2) إلى غير ذلك من الأخبار.
فما في مقدمة ابن خلدون:
" كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يشاور أصحابه ويفاوضهم في مهماته العامة والخاصة... و
لم يكن لفظ الوزير يعرف بين المسلمين، لذهاب رتبة الملك بسذاجة الإسلام. " (3) واضح
الفساد. هذا.
وروى الشيخ عبد الحي الكتاني عن القاضي أبي بكر بن العربي في أحكام القرآن أن:
" الوزارة عبارة عن رجل موثوق به في دينه وعقله يشاوره الخليفة فيما يعن له من
الأمور. " (4)
وذكر الماوردي في الأحكام السلطانية في اشتقاق اسم الوزارة ثلاثة أوجه:
" أحدها: أنه مأخوذ من الوزر وهو الثقل، لأنه يحمل عن الملك أثقاله.
الثاني: أنه مأخوذ من الوزر وهو الملجأ، ومنه قوله - تعالى -: " كلا لا وزر. " (5) أي
لا ملجأ. فسمي بذلك لأن الملك يلجأ إلى رأيه ومعونته.
والثالث: أنه مأخوذ من الأزر وهو الظهر، لأن الملك يقوى بوزيره، كقوة البدن
بالظهر. " (6)

1 - بحار الأنوار 72 / 340 (= طبعة إيران 75 / 340)، كتاب العشرة، الباب 81، الحديث 19.
2 - مسند أحمد 2 / 521.
3 - المقدمة لابن خلدون / 166، الفصل 35 (= طبعة أخرى / 237، الفصل 34) من الفصل 3 من
الكتاب الأول.
4 - التراتيب الإدارية 1 / 17.
5 - سورة القيامة (75)، الآية 11.
6 - الأحكام السلطانية للماوردي / 24.
112

وكيف كان فمهمة السلطة التنفيذية بمراتبها من الوزارة وغيرها تنفيذ القوانين و
التصميمات المتخذة من قبل السلطة التشريعية في شتى مسائل الحياة.
والاحتياج إليها واضح، فإن القانون مهما كان صالحا راقيا فهو بنفسه لا يكفي في
إصلاح شؤون المجتمع ورفع حاجاته العامة ما لم يكن هنا مسؤول يلتزم بإجرائه و
تنفيذه. ولا يمكن أن يفوض تنفيذ التكاليف العامة المتعلقة بالمجتمع، مثل نظم البلاد و
إيجاد الأمن فيها والدفاع عنها وإجراء الحدود والتعزيرات ونحو ذلك، إلى عامة
المجتمع. فإنه يوجب إهمال كثير من الأمور والفوضى والاختلاف، فلا بد من أن يفوض
كل قسمة منها إلى مسؤول خاص يكون متخصصا فيها ويصير ملتزما بإجرائها.
ولا تتحدد السلطة التنفيذية بشكل خاص أو عدد خاص أو مرتبة خاصة. بل كلما
اتسع نطاق الملك وحيطته وتشعبت مسائل الحياة واحتياجاتها تشعبت الدوائر وكثر
العمال قهرا.
نعم، تجب رعاية القصد فيها والاحتراز عن الإفراط والتفريط. فإن كثرة العمال و
الموظفين توجب كثرة الدوائر وتفرقها وتضييع أوقات المراجعين ووضع ضرائب كثيرة
على عاتق المجتمع. وكل ذلك خسارة.
وقد كانت الحكومة في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في غاية السذاجة والبساطة، فكان هو (صلى الله عليه وآله وسلم)
بنفسه يتولى قسما كبيرا من الشؤون السياسية والقضائية والاقتصادية والعسكرية. نعم،
كان يفوض بعض التكاليف والمسؤوليات أيضا إلى الأفراد الصالحين للقيام بها حسب
الضرورة والحاجة، فكان يعين الولاة على البلاد، والجباة على الصدقات، والأمراء
للسرايا وفي بعض الغزوات ويرسم لهم تكاليفهم ومنهجهم كما ضبطها التواريخ.
وكذلك نشاهد السذاجة فيما بعده وفي خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) أيضا مع سعة نطاق
الملك وكثرة البلاد. فالمهم هو إنجاح الطلبات ورفع الحاجات والعمل بالتكاليف بأسهل
الطرق وفي أسرع الأوقات والأزمان بأقل المؤونات.
113

وبذلك يستقر الملك ويكتسب رضا الأمة الذي يكون ضمانة لبقاء الدولة والأمن.
قال أمير المؤمنين على ما في نهج البلاغة في كتابه للأشتر النخعي: " وليكن أحب
الأمور إليك أوسطها في الحق وأعمها في العدل وأجمعها لرضا الرعية، فإن سخط العامة
يجحف برضا الخاصة، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضا العامة. " (1)
2 - مصدر السلطة التنفيذية:
لا يخفى أن الوزراء والعمال بأصنافهم ومراتبهم إما أن ينتخبوا من قبل الامام و
الوالي الأعظم، أو من قبل مجلس الشورى، أو من قبل الأمة مباشرة، أو بالتبعيض
فينتخب بعض المراتب من قبل الأمة بالمباشرة وبعضها من قبل الوالي أو المجلس، كما
هو المتعارف في بعض البلاد. ولا محالة ينتهي جميع ذلك إلى انتخاب الأمة قهرا إذا
فرض كون انتخاب الوالي وكذا المجلس من قبلها.
وقد عرفت في الفصل الثالث أن المكلف والمسؤول في الحكومة الإسلامية أولا و
بالذات هو الإمام والوالي، وأن السلطات الثلاث أياديه وأعضاده.
وعلى هذا فطبع الموضوع يقتضي أن يكون انتخاب هذه السلطة أيضا بيده لينتخب
من يراه مساعدا له في تكاليفه مسانخا له في فكره وسليقته، اللهم إلا أن يشترط عليه
أمر آخر.
والمتعارف في بلادنا ترشيح الوزراء من قبل الوالي أو رئيس الجمهورية المنتخب و
عرضهم على المجلس للتعيين ويكون للمجلس الرد والقبول. ويكون انتخاب سائر
العمال من شؤون الوزراء على حسب أعمالهم ومسؤولياتهم. ولا ضير في ذلك بعد
تشريعه في مجلس الخبراء ورعاية الشرائط المعتبرة عقلا وشرعا.

1 - نهج البلاغة، فيض / 996; عبده 3 / 95; لح / 429، الكتاب 53.
114

3 - مواصفات الوزراء والعمال والأمراء بمراتبهم:
لا يخفى أن أكثر المشاكل التي تعانيها أنظمة الحكم في العالم ترجع إلى سوء انتخاب
الوزراء والأمراء والعمال قصورا أو تقصيرا، وإلى فساد المسؤولين أو عدم كفايتهم،
فيوجب ذلك تشتت الأمور وعدم انسجام الملك وبغضاء الأمة المنتهية إلى ثورتها
أحيانا.
والعقل والشرع يحكمان باعتبار شروط ومواصفات في الولاة والوزراء والعمال
تجب رعايتها وإعمال الدقة في تحقيقها، ويكون إهمالها خيانة بالإسلام والأمة.
وعمدتها العقل الوافي والإيمان والتخصص والتجربة والقدرة على التصميم والعمل
والوثاقة والأمانة وأن لا يكون من أهل الحرص والطمع.
وقسم الماوردي الوزارة على قسمين:
" وزارة تفويض، ووزارة تنفيذ. فأما وزارة التفويض فهو أن يستوزر الإمام من
يفوض إليه تدبير الأمور برأيه وإمضائها على اجتهاده. "
قال:
" ويعتبر في تقليد هذه الوزارة شروط الإمامة إلا النسب وحده، لأنه ممضى الآراء و
منفذ الاجتهاد، فاقتضى أن يكون على صفات المجتهدين. "
وقال في وزارة التنفيذ إنه
" يراعى فيه سبعة أوصاف:
أحدها: الأمانة، حتى لا يخون فيما قد اؤتمن عليه ولا يغش فيما قد استنصح فيه.
والثاني: صدق اللهجة، حتى يوثق بخبره فيما يؤديه ويعمل على قوله فيما ينهيه.
والثالث: قلة الطمع، حتى لا يرتشي فيما يل ولا ينخدع فيتساهل.
والرابع: أن يسلم فيما بينه وبين الناس من عداوة وشحناء، فإن العداوة تصد عن
التناصف وتمنع من التعاطف.
115

والخامس: أن يكون ذكورا لما يؤديه إلى الخليفة وعنه، لأنه شاهد له وعليه.
والسادس: الذكاء والفطنة، حتى لا تدلس عليه الأمور فتشتبه ولا تموه عليه فتلتبس،
فلا يصح مع اشتباهها عزم ولا يصلح مع التباسها حزم...
والسابع: أن لا يكون من أهل الأهواء فيخرجه الهوى من الحق إلى الباطل ويتدلس
عليه المحق من المبطل، فإن الهوى خادع الألباب وصارف له عن الصواب، ولذلك قال
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " حبك الشيء يعمي ويصم. "...
فإن كان هذا الوزير مشاركا في الرأي احتاج إلى وصف ثامن، وهو الحنكة والتجربة
التي تؤديه إلى صحة الرأي وصواب التدبير، فإن في التجارب خبرة بعواقب الأمور. " (1)
وذكر نحو ذلك أبو يعلى الفراء أيضا (2). هذا.
وقد مر ذكر الشروط الثمانية المعتبرة في الولاة، وبيان حكم العقل، والآيات و
الروايات الدالة على اعتبارها في الباب الرابع. ولعله يستفاد من كثير منها أدلة المقام
أيضا، فلنذكر بعضها هنا مضافا إلى ما ورد في خصوص الوزراء والأمراء:
1 - قال الله - تعالى -: " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا. " (3)
2 - وقال: " ولا تطيعوا أمر المسرفين * الذين يفسدون في الأرض و
لا يصلحون. " (4)
والوزراء والأمراء والعمال يراد إطاعتهم في نطاق عملهم، فلا يجوز أن ينتخبوا من
المسرفين المفسدين.
3 - وقال: " أفنجعل المسلمين كالمجرمين * ما لكم، كيف تحكمون؟ " (5)

1 - الأحكام السلطانية للماوردي / 22 و 26 و 27.
2 - الأحكام السلطانية لأبي يعلى / 29، 31.
3 - سورة النساء (4)، الآية 141.
4 - سورة الشعراء (26)، الآية 151 - 152.
5 - سورة القلم (68)، الآية 35 - 36.
116

4 - وقال: " أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا، لا يستوون. " (1)
5 - وقال " قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟ إنما يتذكر أولوا
الألباب. " (2)
6 - وقال: " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما. " (3)
7 - وقال حكاية عن يوسف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " اجعلني على خزائن الأرض، إني حفيظ
عليم. " (4)
8 - وقال حكاية عن بنت شعيب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " قالت إحديهما يا أبت استأجره، إن
خير من استأجرت القوى الأمين. " (5)
9 - وقد مر في صحيحة العيص بن القاسم، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " انظروا لأنفسكم،
فوالله إن الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي، فإذا وجد رجلا هو أعلم بغنمه من الذي هو
فيها يخرجه ويجيء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها. " (6)
10 - وفي أصول الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من عمل
على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح. " (7)
11 - وفيه أيضا عن طلحة بن زيد، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " العامل على
غير بصيرة كالسائر على غير الطريق; لا يزيده سرعة السير إلا بعدا. " (8)

1 - سورة السجدة (32)، الآية 18.
2 - سورة الزمر (39)، الآية 9.
3 - سورة النساء (4)، الآية 5.
4 - سورة يوسف (12)، الآية 55.
5 - سورة القصص (28)، الآية 26.
6 - الوسائل 11 / 35، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
7 - أصول الكافي 1 / 44، كتاب فضل العلم، باب من عمل بغير علم، الحديث 3.
8 - الكافي 1 / 43، كتاب فضل العلم، باب من عمل بغير علم، حديث 1.
117

12 - وفيه أيضا عن مفضل بن عمر، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " العالم بزمانه لا تهجم
عليه اللوابس. " (1)
13 - وفي نهج البلاغة في كتابه (عليه السلام) لمالك الأشتر: " إن شر وزرائك من كان للأشرار
قبلك وزيرا، ومن شركهم في الآثام، فلا يكونن لك بطانة فإنهم أعوان الأثمة وإخوان
الظلمة. وأنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثل
آصارهم وأوزارهم ممن لم يعاون ظالما على ظلمه ولا آثما على إثمه. أولئك أخف
عليك مؤونة وأحسن لك معونة...
ولا يكونن المحسن والمسئ عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان
في الإحسان وتدريبا لأهل الإساءة على الإساءة وألزم كلا منهم ما ألزم نفسه...
فول من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك، وأنقاهم جيبا، وأفضلهم
حلما، ممن يبطئ عن الغضب ويستريح إلى العذر، ويرأف بالضعفاء وينبو على
الأقوياء، وممن لا يثيره العنف ولا يقعد به الضعف. ثم الصق بذوي (المروءات)
الأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة، ثم أهل النجدة والشجاعة و
السخاء والسماحة، فإنهم جماع من الكرم وشعب من العرف...
ثم انظر في أمور عمالك، فاستعملهم اختبارا ولا تولهم محاباة وأثرة، فإنهم (فإنهما
خ. ل) جماع من شعب الجور والخيانة. وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل
البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام المتقدمة، فإنهم أكرم أخلاقا وأصح أعراضا وأقل
في المطامع إشرافا وأبلغ في عواقب الأمور نظرا. ثم أسبغ عليهم الأرزاق، فإن ذلك قوة
لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم وحجة عليهم إن خالفوا
أمرك أو ثلموا أمانتك...
ثم انظر في حال كتابك، فول على أمورك خيرهم، واخصص رسائلك التي تدخل
فيها مكائدك وأسرارك بأجمعهم لوجوه صالح الأخلاق، ممن لا تبطره الكرامة فيجترئ
بها عليك في خلاف لك بحضرة ملأ ولا تقصر به الغفلة عن إيراد مكاتبات عمالك عليك و
إصدار جواباتها على

1 - الكافي 1 / 26، كتاب العقل والجهل، الحديث 29.
118

الصواب عنك...
ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك واستنامتك وحسن الظن منك، فإن الرجال
يتعرفون لفراسات الولاة بتصنعهم وحسن خدمتهم، وليس وراء ذلك من النصيحة و
الأمانة شيء، ولكن اختبرهم بما ولوا للصالحين قبلك، فاعمد لأحسنهم كان في العامة
أثرا وأعرفهم بالأمانة وجها، فإن ذلك دليل على نصيحتك لله ولمن وليت أمره. " (1)
14 - وفي نهج البلاغة أيضا: " لا يقيم أمر الله سبحانه إلا من لا يصانع ولا يضارع و
لا يتبع المطامع. " (2)
15 - وفيه أيضا: " آلة الرياسة سعة الصدر. " (3)
وفي الغرر والدرر للآمدي الجامع لكلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) كلمات كثيرة يستفاد
منها مواصفات الحكام والوزراء والأمراء والعمال، وما ينبغي أن يكونوا عليها نذكر
بعضا من ذلك:
16 - كقوله: " العدل نظام الإمرة. " (4)
17 - وقوله: " الإنصاف زين الإمرة. " (5)
18 - وقوله: " آفة الوزراء خبث السريرة. " (6)
19 - وقوله: " آفة الزعماء ضعف السياسة. " (7)
20 - وقوله: " آفة العمران جور السلطان. " (8)

1 - نهج البلاغة، فيض / 999; عبده 3 / 97; لح / 430، الكتاب 53.
2 - نهج البلاغة، فيض / 1137; عبده 3 / 176; لح / 488، الحكمة 110.
3 - نهج البلاغة، فيض / 1169; عبده 3 / 194; لح / 501، الحكمة 176.
4 - الغرر والدرر 1 / 198، الحديث 773.
5 - الغرر والدرر 1 / 230، الحديث 923.
6 - الغرر والدرر 3 / 102، الحديث 3929.
7 - الغرر والدرر 3 / 103، الحديث 3931.
8 - الغرر والدرر 3 / 109، الحديث 3954.
119

21 - وقوله: " إذا ملك الأراذل هلك الأفاضل. " (1)
22 - وقوله: " إذ استولى اللئام اضطهد الكرام. " (2)
23 - وقوله: " تولى الأراذل والأحداث الدول دليل انحلالها وإدبارها. " (3)
24 - وقوله: " حسن السياسة قوام الرعية. " (4)
25 - وقوله: " حسن السياسة يستديم الرياسة. " (5)
26 - وقوله: " حسن التدبير وتجنب التبذير من حسن السياسة. " (6)
27 - وقوله: " حسن العدل نظام البرية. " (7)
28 - وقوله: " خير السياسات العدل. " (8)
29 - وقوله: " دولة العادل من الواجبات. " (9)
30 - وقوله: " خور (10) السلطان أشد على الرعية من جور السلطان. " (11)

1 - الغرر والدرر 3 / 129، الحديث 4033.
2 - الغرر والدرر 3 / 129، الحديث 4035.
3 - الغرر والدرر 3 / 259، الحديث 4523.
4 - الغرر والدرر 3 / 384، الحديث 4818.
5 - الغرر والدرر 3 / 385، الحديث 4820.
6 - الغرر والدرر 3 / 385، الحديث 4821.
7 - الغرر والدرر 3 / 385، الحديث 4819.
8 - الغرر والدرر 3 / 420، الحديث 4948.
9 - الغرر والدرر 4 / 10، الحديث 5110.
10 - " الخور " بفتحتين: الضعف.
11 - الغرر والدرر 3 / 442، الحديث 5047.
120

31 - وقوله: " دولة اللئام مذلة الكرام. " (1)
32 - وقوله: " دول الفجار مذلة الأبرار. " (2)
33 - وقوله: " دول اللئام من نوائب الأيام. " (3)
34 - وقوله: " دولة الأوغاد مبنية على الجور والفساد. " (4)
35 - وقوله: " زوال الدول باصطناع السفل. " (5)
36 - وقوله: " شر الناس من يظلم الناس. " (6)
37 - وقوله: " شر الملوك من خالف العدل. " (7)
38 - وقوله: " شر الولاة من يخافه البريء. " (8)
39 - وقوله: " شر الوزراء من كان للأشرار وزيرا. " (9)
40 - وقوله: " شر الأمراء من كان الهوى عليه أميرا. " (10)
41 - وقوله: " شر الأمراء من ظلم رعيته. " (11)

1 - الغرر والدرر 4 / 10، الحديث 5113.
2 - الغرر والدرر 4 / 11، الحديث 5115.
3 - الغرر والدرر 4 / 11، الحديث 5116.
4 - الغرر والدرر 4 / 11، الحديث 5118.
5 - الغرر والدرر 4 / 112، الحديث 5486.
6 - الغرر والدرر 4 / 164، الحديث 5676.
7 - الغرر والدرر 4 / 165، الحديث 5681.
8 - الغرر والدرر 4 / 166، الحديث 5687.
9 - الغرر والدرر 4 / 167، الحديث 5692.
10 - الغرر والدرر 4 / 167، الحديث 5693.
11 - الغرر والدرر 4 / 172، الحديث 5717.
121

42 - وقوله: " فقدان الرؤساء أهون من رياسة السفل. " (1)
43 - وقوله: " كيف يعدل في غيره من يظلم نفسه. " (2)
44 - وقوله: " من حسنت سياسته وجبت طاعته. " (3)
45 - وقوله: " من أحسن الكفاية استحق الولاية. " (4)
46 - وقوله: " من لم يصلح نفسه لم يصلح غيره. " (5)
47 - وقوله: " وزراء السوء أعوان الظلمة وإخوان الأئمة. " (6)
48 - وقوله: " ولاة الجور شرار الأمة وأضداد الأئمة. " (7)
49 - وقوله: " لا يكون عمران حيث يجور السلطان. " (8)
50 - وقوله: " ليكن أحب الناس إليك وأحظاهم لديك أكثرهم سعيا في منافع
الناس. " (9)
51 - وقوله: " ليكن أحظى الناس منك أحوطهم على الضعفاء وأعملهم بالحق. " (10)

1 - الغرر والدرر 4 / 424، الحديث 6569.
2 - الغرر والدرر 4 / 564، الحديث 6996.
3 - الغرر والدرر 5 / 211، الحديث 8025.
4 - الغرر والدرر 5 / 349، الحديث 8692.
5 - الغرر والدرر 5 / 415، الحديث 8990.
6 - الغرر والدرر 6 / 239، الحديث 10121.
7 - الغرر والدرر 6 / 239، الحديث 10122.
8 - الغرر والدرر 6 / 404، الحديث 10791.
9 - الغرر والدرر 5 / 49، الحديث 7377.
10 - الغرر والدرر 5 / 50، الحديث 7383.
122

52 - وقوله: " ليكن أحظى الناس عندك أعملهم بالرفق. " (1)
53 - وقوله: " ليكن أبغض الناس إليك وأبعدهم منك أطلبهم لمعايب الناس. " (2)
54 - وفيما رواه ابن أبي الحديد في آخر شرحه من الحكم المنسوبة إلى
أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: " لا تقبلن في استعمال عمالك وأمرائك شفاعة إلا شفاعة الكفاية و
الأمانة " (3)
55 - وقوله: " من علامات المأمون على دين الله بعد الإقرار والعمل، الحزم في أمره
والصدق في قوله، والعدل في حكمه، والشفقة على رعيته، لا تخرجه القدرة إلى خرق، و
لا اللين إلى ضعف، ولا تمنعه العزة من كرم عفو، ولا يدعوه العفو إلى إضاعة حق، و
لا يدخله الإعطاء في سرف، ولا يتخطى به القصد إلى بخل، ولا تأخذه نعم الله ببطر. " (4)
أقول: الخرق بالضم: ضد الرفق. والقصد: الاعتدال بين الافراط والتفريط.
56 - وفي دعائم الاسلام عن على (عليه السلام): أنه كتب إلى رفاعة قاضية على الأهواز:
" اعلم يا رفاعة، إن هذه الإمارة أمانة، فمن جعلها خيانة فعليه لعنة الله إلى يوم القيامة، و
من استعمل خائنا فإن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) برئ منه في الدنيا والآخرة. ". (5)
57 - وفي البحار عن الغوالي، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " أصلح وزيرك، فإنه الذي يقودك إلى
الجنة والنار. " (6)
58 - وفيه أيضا عن رسالة الغيبة للشهيد الثاني بسنده إلى الإمام الصادق (عليه السلام)

1 - الغرر والدرر 5 / 49، الحديث 7375.
2 - الغرر والدرر 5 / 50، الحديث 7378.
3 - شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد 20 / 276 (الحديث 184).
4 - شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد 20 / 255 (الحديث 6).
5 - دعائم الإسلام 2 / 531، كتاب آداب القضاة، الحديث 1890.
6 - بحار الأنوار 74 / 165 (= طبعة إيران 77 / 165)، كتاب الروضة، الباب 7 (باب ما جمع من
مفردات كلماته (صلى الله عليه وآله وسلم)).
123

في رسالته إلى النجاشي والي الأهواز: " فأما من تأنس به وتستريح إليه وتلجئ
أمورك إليه فذلك الرجل الممتحن المستبصر الأمين الموافق لك على دينك، وميز عوامك
وجرب الفريقين، فإن رأيت هنالك رشدا فشأنك وإياه. " (1)
59 - وفيه أيضا عن الخصال بسنده عن أبي عبد الله (عليه السلام): " لا يطمعن ذو الكبر في الثناء
الحسن... ولا المعاقب على الذنب الصغير في السؤدد، ولا القليل التجربة المعجب برأيه
في رياسة. " (2)
60 - وفي تحف العقول عن الإمام الصادق (عليه السلام): " وليس يحب للملوك أن يفرطوا في
ثلاث: في حفظ الثغور، وتفقد المظالم، واختيار الصالحين لأعمالهم. " (3)
61 - وفي البحار عن أمالي الطوسي بسنده، عن أبي ذر أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): قال: " يا أبا ذر،
إني أحب لك ما أحب لنفسي، إني أراك ضعيفا، فلا تأمرن على اثنين ولا تولين مال
يتيم. " (4)
62 - وفي صحيح مسلم بسنده، عن أبي ذر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " يا أبا ذر، إني
أراك ضعيفا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال
يتيم. " (5)
63 - وفيه أيضا بسنده، عن أبي ذر، قال قلت: يا رسول الله، ألا تستعملني؟ قال:
فضرب بيده على منكبي، ثم قال: " يا أبا ذر، إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة
خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها. " (6)

1 - بحار الأنوار 72 / 361 (= طبعة إيران 75 / 361)، كتاب العشرة، الباب 81 (باب أحوال الملوك
والأمراء)، الحديث 77.
2 - بحار الأنوار 72 / 67 (= طبعة إيران 75 / 67)، كتاب العشرة، الباب 44 (باب الأدب ومن
عرف قدره)، الحديث 4.
3 - تحف العقول / 319.
4 - بحار الأنوار 22 / 406، تاريخ نبينا، الباب 12، (باب كيفية إسلام أبي ذر)، الحديث 20، و ج
72 / 342 (= طبعة إيران 75 / 342)، كتاب العشرة، الباب 81 (باب أحوال الملوك والأمراء)،
الحديث 27.
5 - صحيح مسلم 3 / 1458، كتاب الإمارة باب كراهة الإمارة بغير ضرورة، الحديث 1826.
6 - صحيح مسلم 3 / 1457، كتاب الإمارة باب كراهة الإمارة بغير ضرورة، الحديث 1825.
124

64 - وفيه أيضا بسنده عن أبي موسى، قال: دخلت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنا ورجلان من
بني عمي فقال أحد الرجلين: يا رسول الله، أمرنا على بعض ما ولاك الله - عز وجل -. و
قال الآخر مثل ذلك، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " إنا والله لا نولي على هذا العمل أحدا سأله ولا أحدا
حرص عليه. " (1)
65 - وفي سنن البيهقي بسنده عن ابن عباس، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من استعمل عاملا
من المسلمين وهو يعلم أن فيهم أولى بذلك منه وأعلم بكتاب الله وسنة نبيه فقد خان
الله ورسوله وجميع المسلمين. " (2)
66 - وفي كنز العمال، عن حذيفة: " أيما رجل استعمل رجلا على عشرة أنفس علم أن
في العشرة أفضل ممن استعمل فقد غش الله وغش رسوله وغش جماعة المسلمين. " (3)
67 - وفيه أيضا، عن ابن عباس: " من استعمل رجلا من عصابة وفيهم من هو أرضى
لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين. " (4)
68 - وفيه أيضا، عن واثلة: " على الوالي خمس خصال: جمع الفيء من حقه، ووضعه
في حقه، وأن يستعين على أمورهم بخير من يعلم، ولا يجمرهم فيهلكهم، ولا يؤخر
أمرهم لغد. " (5)
69 - وفيه أيضا عن أبي هريرة: " يكون في آخر الزمان أمراء ظلمة، ووزراء فسقة، و
قضاة خونة، وفقهاء كذبة. فمن أدركهم فلا يكونن لهم عريفا ولا جابيا ولا خازنا
ولا شرطيا. " (6)
إلى غير ذلك من الآيات والروايات الكثيرة التي يستفاد منها ولو بالالتزام
مواصفات الحكام والوزراء والأمراء والعمال وأنه يجب على المسؤولين رعايتها في

1 - صحيح مسلم 3 / 1456، كتاب الإمارة باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها.
2 - سنن البيهقي 10 / 118، كتاب آداب القاضي، باب لا يولي الوالي امرأة ولا فاسقا ولا جاهلا أمر
القضاء.
3 - كنز العمال 6 / 19، باب 1 من كتاب الإمارة والقضاء من قسم الأقوال، الحديث 14653.
4 - كنز العمال 6 / 25، الباب 1 من كتاب الإمارة والقضاء من قسم الأقوال، الحديث 14687.
5 - كنز العمال 6 / 47، الباب 1 من كتاب الإمارة والقضاء من قسم الأقوال، الحديث 14789.
6 - كنز العمال 6 / 77، الباب 1 من كتاب الإمارة والقضاء من قسم الأقوال، الحديث 14909.
125

انتخابهم. ومع ذلك كله فقد غفل الأكثر في البلاد الإسلامية عن ذلك، وكم قد وردت و
ترد من قبل ذلك خسارات على الأمة، فتدبر. هذا.
وفي منهاج البراعة:
" قد قيل لحكيم: ما بال انقراض دولة آل ساسان؟ قال: لأنهم استعملوا أصاغر العمال
على أعاظم الأعمال فلم يخرجوا من عهدتها، واستعملوا أعاظم العمال على أصاغر
الأعمال فلم يعتنوا عليها، فعاد وفاقهم إلى الشتات ونظامهم إلى البتات. " (1)
ونذكر في الخاتمة أمرين مناسبين للبحث:
الأول: في شرح ابن أبي الحديد لنهج البلاغة قال:
" استكتب أبو موسى الأشعري نصرانيا. فكتب إليه عمر: اعزله واستعمل بدله حنيفيا.
فكتب له أبو موسى إن من غنائه وخيره وخبرته كيت وكيت. فكتب له عمر: ليس لنا أن
نأتمنهم وقد خونهم الله، ولا أن نرفعهم وقد وضعهم الله، ولا أن نستنصحهم في الدين و
قد وترهم الإسلام، ولا أن نعزهم وقد أمرنا بأن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
فكتب أبو موسى: إن البلد لا يصلح إلا به. فكتب اليه عمر: مات النصراني. والسلام. " (2)
أقول: فعلى شيعة الخليفة الثاني في البلاد الإسلامية أن يعتبروا بذلك ويقللوا من
تسليطهم اليهود والنصارى على أراضي المسلمين وبلادهم وسياستهم واقتصادهم و
ثقافتهم، وان يستحيوا من الله - تعالى - ومن أولياء الله ومن أممهم ويرجعوا إلى
قداستهم الإسلامية. ولا يقبل الله قط اعتذارهم بالخشية من أن تصيبهم دائرة من قبل
ذلك، فتدبر.

1 - منهاج البراعة 11 / 144.
2 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 12 / 7.
126

الثاني: قال الماوردي في الأحكام السلطانية:
" حكي أن المأمون كتب في اختيار وزير: إني التمست لأموري رجلا جامعا لخصال
الخير ذاعفة في خلائقه واستقامة في طرائقه قد هذبته الآداب وأحكمته التجارب، إن
اؤتمن على الأسرار قام بها. وإن قلد مهمات الأمور نهض فيها، يسكته الحلم وينطقه
العلم وتكفيه اللحظة وتغنيه اللمحة. له صولة الأمراء وأناة الحكماء وتواضع العلماء و
فهم الفقهاء، إن أحسن إليه شكر، وإن ابتلي بالإساءة صبر، لا يبيع نصيب يومه بحرمان
غده، يسترق قلوب الرجال بخلابة لسانه وحسن بيانه. " (1)
أقول: لو فرض كون وزراء الحاكم بهذه الصفات التي ذكرها المأمون فمرحبا بهذا
الحاكم وطوبى لمن يعيش في ظل حكمه.
4 - إشارة إلى دوائر من السلطة التنفيذية:
لا يخفى أن المقصود بالسلطة التنفيذية هي الدوائر والمؤسسات التي تباشر إجراء
الأهداف والتكاليف العامة التي تكون على عهدة الحاكم سوى أمر القضاء وتوابعه الذي
لأهميته يعد سلطة مستقلة، كما سيأتي. وقد مر بيان تكاليف الحاكم وواجباته.
وعلى هذا فوزارة الدفاع والمؤسسات المرتبطة بتعليم الجنود وتمرينهم وإعداد
القوى وتقوية الصنائع العسكرية وحفظ الثغور والأطراف، ودوائر إيجاد الأمن في
السبل وفي البلاد، ودائرة التعليم والتربية، وإدارة الكليات والجوامع والحوزات
العلمية الدينية، ودائرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودائرة الحسبة بشعبها، و
الوزارة الخارجية وتنظيم العلاقات مع سائر الأمم والبلاد، والوزارة المالية المتصدية
لجمع الفيء والخراج والصدقات وصرفها في مصارفها المقررة ونحو ذلك من الأمور
العامة كلها تكون من شعب سلطة التنفيذ. ونحن لا نبحث في هذا الكتاب إلا في

1 - الأحكام السلطانية / 22.
127

بعض من ذلك، نذكره بعد ذلك في فصول مستقلة. إذ ذكره هنا في هذا الفصل يوجب
طول الفصل وملال القارئ.
5 - ذكر بعض من ولاه النبي " ص " على النواحي:
أخذنا ذلك من كتاب التراتيب الإدارية للشيخ عبد الحي الكتاني (1) بنحو التلخيص:
" قال الزرقاني في شرح المواهب: أمراؤه - عليه السلام -: ولاته الذين ولاهم على
البلاد والقضاء والصدقات. الأمراء الذين وجههم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على الجهات كثيرون،
منهم أمير مكة عتاب بن أسيد.
1 - قال ابن جماعة: أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عتاب بن أسيد على مكة وإقامة الموسم و
الحج بالمسلمين سنة ثمان. قلت: " قال ابن القيم في الهدى: وهو دون العشرين سنة. "
2 - وفي صبح الأعشى لما أسلم بادان نائب كسرى ولاه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على جميع
مخاليف اليمن. وكان منزله بصنعاء مملكة التبابعة. وبقي حتى مات بعد حجة الوداع.
3 - فولى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ابنه شهر بن بادان على صنعاء. وولى على كل جهة واحدا من
أصحابه.
4 - وفي ترجمة عبد الله بن جحش من الإصابة عن البغوي أنه أول أمير في الإسلام.
5 - وترجم في الإصابة لعامر بن شهر الهمذاني أنه أحد عمال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على اليمن.
6 - وترجم فيها أيضا لعبد الله بن عمرو بن سبيع الثعلبي، فذكر عن الشعبي: أن

1 - التراتيب الإدارية 1 / 240.
128

المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) استعمله على بني تغلبة وعبس وبني عبد الله بن غطفان.
7 - وفي ترجمة أبي موسى الأشعري أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) استعمله على بعض اليمن، كزبيد وعدن
وأعمالهما.
8 - وترجم في الإصابة للحارث بن بلال المارني (المزني) أنه كان عامل
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على نصف جديلة بني طئ.
9 - وترجم للحرث بن نوفل الهاشمي أنه ولاه المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) بعض أعمال مكة.
وعن ابن سعد: صحب الحارث المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) فاستعمله على بعض عمله بمكة، و
أقره أبو بكر وعمر وعثمان.
10 - وترجم لحصين بن نيار فقال: كان أحد عمال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
11 - وترجم للحارث بن عبد المطلب أنه صحب المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) واستعمله على بعض
أعمال مكة وولاه أبو بكر وعثمان. ثم حرر أن الترجمة لحفيده الحارث بن نوفل السابق.
12 - وترجم لرافع بن عمرو الطائي، فذكر أن الحاكم خرج أنه لما كانت غزوة
السلاسل استعمل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عمرو بن العاص على جيش فيه أبو بكر وعمر.
13 - وترجم فيها لزياد الباهلي، والد الهرماس، فذكر عن الدار قطني عن الهرماس،
قال: أتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أبي، فولاه على عشيرته من باهلة.
14 - وترجم للسائب بن عثمان عن ابن إسحاق أنه استعمله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على المدينة
في غزوة بواط.
15 - وترجم لسعد الدوسي، قال: أتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأسلمت، فاستعملني على
قومي وجعل لهم ما أسلموا عليه من أموالهم. الحديث.
16 - وترجم أيضا لسعيد بن خفاف التميمي أنه كان عاملا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على بطون
تميم، وأقره أبو بكر.
17 - وترجم لسعد بن عبد الله بن ربيعة أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) استعمله على الطائف.
18 - وترجم لسلمة بن يزيد الجعفي أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) استعمله على مروان وكتب له كتابا.
19 - وترجم لصيفي بن عامر من بني ثعلبة فقال: أمره النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على قومه.
129

20 - وترجم للضحاك بن قيس فقال فيه: عامل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
21 - وترجم لامرئ القيس بن الأصبغ الكلبي فقال: كان زعيم قومه، وبعثه
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عاملا على كلب في حين إرساله إلى قضاعة.
22 - وترجم للحارث بن بلال المزني فقال: عامل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
23 - وترجم لعبد الرحمان بن إيزي الخزاعي فنقل عن ابن السكن فقال: استعمله
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على خراسان.
24 - وترجم عثمان بن أبي العاص فقال: استعمله (صلى الله عليه وآله وسلم) على الطائف وأقره أبو بكر و
عمر.
25 - وفي عكاشة بن ثور أنه كان عامل المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) على السكاسك والسكون.
26 - وفي العلاء بن الحضرمي أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) استعمله على البحرين.
27 - وفي عمرو بن حزم الأنصاري: استعمله (صلى الله عليه وآله وسلم) على نجران، وروى عنه كتابا كتبه
له في الفرائض والزكاة والديات وغير ذلك. وفي أسد الغابة: استعمله (صلى الله عليه وآله وسلم) على أهل
نجران، وهو ابن سبع عشرة سنة، بعد أن بعث إليهم خالد بن الوليد فأسلموا.
28 - وفي عمرو بن الحكم القضاعي: أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعثه عاملا على بني القيس.
29 - وفي عمرو بن سعيد بن العاص: كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) استعمله على وادي القرى و
غيرها وقبض وهو عليها.
30 - وفي عمرو بن محجوب العامري أنه كان من عمال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
31 - وفي عوف الوركاني: أنه كان من عمال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
32 - وفي عبد الله بن زيد الكندي: أنه كان عامل المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) على اليمن.
33 - وفي عبد الله بن سوار: أنه من عمال المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) على البحرين.
34 - وفي فروة بن مسيك: استعمله المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) على مراد ومذحج وزبيد كلها.
35 - وفي مردة بن نفاتة السلولي: أنه قدم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في جماعة من بني
130

سلول فأسلموا وأمره عليهم.
36 - وترجم السيوطي في در السحابة لأبي جديع المرادي فقال: إنه كان عاملا
للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنه كان من أهل مصر.
37 - وفي ترجمة قضاعة بن عامر الدوسي: أنه كان عامل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على بني أسد.
38 - وفي الترجمة بعدها أنه ولى عليهم أيضا سنان بن أبي سنان.
39 - وفي ترجمة قيس بن مالك الأرحبي: أنه لما أسلم وأسلم قومه كتب له عهدا
على قومه همذان: عربها ومواليها وخلائطها أن يسمعوا له ويطيعوا، وأن لهم ذمة الله ما
أقاموا الصلاة.
40 - وفي مالك بن عوف النصري: استعمله (صلى الله عليه وآله وسلم) على من أسلم من قومه ومن تلك
القبائل من أعماله، فكان يقاتل بهم ثقيف.
41 - وفي المنذر بن ساوي الدارمي: كان عامل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على هجر.
42 - وفي ترجمة أبي هيضم المزني: دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: اللهم إني مستعمله
على هذا الوادي.
43 - وفي ترجمة سواد بن عزية البلوي الأنصاري: كان عامل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على
خيبر.
44 - وفي ترجمة عمر بن أبي ربيعة الشاعر: أن المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) ولى والده عبد الله بن
أبي ربيعة المخزومي الجند (بفتح الجيم والنون: بلد باليمن ومخالفيها).
45 - وفي السيرة الشامية تراجم تضمنت تأمير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خالد بن الوليد على صنعاء
وأعمالها.
46 - وتأميره للمغافر بن أبي أمية المخزومي على كندة.
47 - وتأميره زياد بن لبيب على حضرموت.
48 - وتأميره لأبي موسى الأشعري على زبيد وعدن وريع الساحل.
49 - ومعاذ بن جبل على الجند.
50 - وأبا سفيان على نجران.
131

51 - وأبا زيد بن سفيان على غيرها. " (1)
6 - ذكر بعض من بعثه رسول الله " ص " على الصدقات:
في سيرة ابن هشام:
" قال ابن إسحاق: وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد بعث أمراءه وعماله على الصدقات، إلى
كل ما أوطأ الإسلام من البلدان:
1 - فبعث المهاجر بن أبي أمية بن المغيرة إلى صنعاء فخرج عليه العنسي وهو بها.
2 - وبعث زياد بن لبيد أخا بني بياضة الأنصاري إلى حضرموت وعلى صدقاتها.
3 - وبعث عدى بن حاتم على طئ وصدقاتها وعلى بني أسد.
4 - وبعث مالك بن نويرة - قال ابن هشام: اليربوعي - على صدقات بني حنظلة.
5 - وفرق صدقة بني سعد على رجلين منهم، فبعث الزبرقان بن بدر على ناحية منها.
6 - وقيس بن عاصم على ناحية.
7 - وكان قد بعث العلاء بن الحضرمي على البحرين.
8 - وبعث على بن أبي طالب (عليه السلام) إلى أهل نجران ليجمع صدقتهم ويقدم عليه
بجزيتهم. " (2)
9 - أقول: وفي التراتيب الإدارية عن الاستبصار:
" أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) استعمل عمرو بن حزم بن زيد الأنصاري على نجران وهو
ابن سبع عشرة سنة ليفقههم في الدين ويعلمهم القرآن ويأخذ صدقاتهم وذلك سنة
عشر. " (3)

1 - التراتيب الإدارية 1 / 240 - 245.
2 - سيرة ابن هشام 4 / 246.
3 - التراتيب الإدارية للكتاني 1 / 44.
132

10 - وفيه أيضا عن الاستيعاب:
" أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث معاذ بن جبل قاضيا على الجند من اليمن يعلم الناس القرآن
وشرائع الإسلام ويقضي بينهم وجعل إليه قبض الصدقات من العمال الذين باليمن عام
فتح مكة. " (1)
7 - في عدد غزوات النبي " ص " وسراياه:
في أول كتاب المغازي للواقدي بعد ما عد مغازي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسراياه وذكرها
بأساميها ومواضعها وتواريخها قال:
" فكانت مغازي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) التي غزا بنفسه سبعا وعشرين غزوة. وكان ما قاتل فيها
تسعا: بدر القتال، وأحد، والمريسيع، والخندق، وقريظة، وخيبر، والفتح، وحنين، و
الطائف. وكانت السرايا سبعا وأربعين سرية. " (2)
وذكر نحو ذلك ابن سعد في الطبقات. (3)
وفي التراتيب الإدارية قال:
" فصل في مخرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بنفسه وكم غزوة غزاها: قال في الاستيعاب: أكثر ما قيل
في ذلك أن غزواته بنفسه كانت ستة وعشرين غزوة. وكانت أشرف غزواته وأعظمها
حرمة عند الله وعند رسوله وعند المؤمنين غزوة بدر الكبرى، حيث قتل صناديد قريش
وظهر دينه من يومئذ... قال أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب: كانت بعوثه (صلى الله عليه وآله وسلم) و
سراياه خمسة وثلاثين، من بين بعث وسرية. وقال غيره: بلغت ستا وخمسين، كما ذكر
الحافظ الدمياطي. وقيل: ثمانيا وأربعين. وقيل:

1 - التراتيب الإدارية للكتاني 1 / 43.
2 - المغازي 1 / 7.
3 - الطبقات 2 / 1 (القسم الأول من الجزء الثاني).
133

سبعا وأربعين. وقيل: ستا وثلاثين. " (1)
أقول: وفي تحف العقول فيما روي عن أبي الحسن الثالث (عليه السلام)، قال: " وكان المتوكل
نذر أن يتصدق بمال كثير إن عافاه الله من علته. فلما عوفي سأل العلماء عن حد المال
الكثير، فاختلفوا ولم يصيبوا المعنى. فسأل أبا الحسن (عليه السلام) عن ذلك، فقال (عليه السلام): " يتصدق
بثمانين درهما. " فسأل عن علة ذلك؟ فقال: إن الله قال لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): لقد نصركم الله في
مواطن كثيرة. فعددنا مواطن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فبلغت ثمانين موطنا وسماها الله كثيرة.
فسر المتوكل بذلك. " (2)
8 - ذكر من استخلفه رسول الله " ص " على المدينة أو على أهله حينما خرج من
المدينة:
قال الواقدي في المغازي:
" قالوا: واستخلف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مغازيه على المدينة: في غزوة ودان، سعد بن
عبادة، واستخلف في غزوة بواط سعد بن معاذ، وفي طلب كرز بن جابر الفهري زيد بن
حارثة، وفي غزوة ذي العشيرة أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وفي غزوة بدر القتال
أبا لبابة بن عبد المنذر العمرى، وفي غزوة السويق أبا لبابة بن عبد المنذر العمرى، وفي
غزوة الكدر ابن أم مكتوم المعيصي، وفي غزوة ذي أمر عثمان بن عفان، وفي غزوة
بحران ابن أم مكتوم، وفي غزوة أحد ابن أم مكتوم، وفي غزوة حمراء الأسد ابن
أم مكتوم، وفي غزوة بني النضير ابن أم مكتوم، وفي غزوة بدر الموعد عبد الله بن رواحة،
وفي غزوة ذات الرقاع عثمان بن عفان، وفي غزوة دومة

1 - التراتيب الإدارية 1 / 313.
2 - تحف العقول / 481.
134

الجندل سباع بن عرفطة، وفي غزوة المريسيع زيد بن حارثة، وفي غزوة الخندق ابن
أم مكتوم، وفي غزوة بنى قريظة ابن أم مكتوم، وفي غزوة بني لحيان ابن أم مكتوم، وفي
غزوة الغابة ابن أم مكتوم، وفي غزوة الحديبية ابن أم مكتوم، وفي غزوة خيبر سباع بن
عرفطة الغفاري، وفي عمرة القضية أبارهم الغفاري، وفي غزوة الفتح وحنين والطائف
ابن أم مكتوم، وفي غزوة تبوك ابن أم مكتوم، ويقال: محمد بن مسلمة الأشهلي، وفي
حجة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ابن أم مكتوم. " (1)
وفي التراتيب الإدارية:
" كان يستخلف المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) في كل غزواته. وآخرها غزوة تبوك استخلف محمد
بن مسلمة الأنصاري.
وفي الإصابة نقلا عن ابن عبد البر وجماعة من أهل العلم بالنسب والسير: أن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) استخلف ابن أم مكتوم ثلاث عشرة مرة حتى في تبوك وخروجه لحجة الوداع
وفي خروجه إلى بدر، ثم استخلف أبا لبابة لما رده من الطريق.
وفيها أيضا في ترجمة جعال بن سراقة الضمري نقلا عن ابن إسحاق: لما غزا
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بني المصطلق في شعبان سنة ست استعمل على المدينة جعالا الضمري.
وفيها لما ترجم لسباع بن عرفطة الغفاري ذكر أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) استخلفه على المدينة لما
ذهب لغزوة خيبر.
وفيها في ترجمة أبي رهم الغفاري: استخلفه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على المدينة في غزوة الفتح.
وفي المواهب وشرحها: واستخلف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على المدينة في غزوة تبوك على ما قال
ابن هشام محمد بن مسلمة الأنصاري. قال الدمياطي تبعا للواقدي وهو عنده أثبت ممن
قال: استخلف عليا أو سالما أو ابن أم مكتوم. ولكن قال الحافظ زين الدين العراقي في
ترجمة على (عليه السلام) من شرح التقريب: لم يتخلف على (عليه السلام) عن المشاهد إلا تبوك، فإن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خلفه على المدينة كما رواه عبد الرزاق في

1 - المغازي 1 / 7.
135

مصنفه بسند صحيح عن سعد بن أبي وقاص. ولفظه: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما خرج إلى
تبوك استخلف على المدينة علي بن أبي طالب.
وفي الاستيعاب: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما قدم المدينة يستخلف عليا في أكثر غزواته.
وفي محاضرات الأبرار للشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي: نوابه (صلى الله عليه وآله وسلم) الذين
استعملهم على المدينة في وقت خروجه لغزوة أو عمرة: أبو لبابة، وبشير بن المنذر، و
عثمان بن عفان، وعبد الله بن أم مكتوم، وأبو ذر، وعبد الله بن عبد الله بن أبي سلول، و
سباع بن عرفطة، ونميلة بن عبد الله الليثي، وعريف بن أضبط الديلمي، وأبو رهم، و
محمد بن مسلمة الأنصاري وزيد بن حارثة، والسائب بن عثمان بن مظعون، وأبو سلمة
بن عبد الأسد، وسعد بن عبادة، وأبو دجانة الساعدي. ثم فصل ولاية كل واحد من
هؤلاء.
باب في الرجل يستخلفه الإمام على أهله إذا سافر:
خلف المصطفى في غزوة تبوك علي بن أبي طالب على أهله، وأمره بالقيامة فيهم.
قلت: في الواهب نقلا عن شرح التقريب: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) استخلف عليا (عليه السلام) على المدينة و
خلفه على عياله.
قال الزرقاني: خلفه على عياله فقال: يا على، اخلفني في أهلي، واضرب وخذ و
أعط. ثم دعا نساءه فقال: أسمعن لعلى وأطعن...
وأخرج ابن إسحاق عن سعد بن أبي وقاص: خلف (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا على أمر أهله، وأمره
بالإقامة فيهم. " (1)
أقول: لسنا نحن فيما نقلناه من ذكر عمال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمرائه وخلائفه وغزواته و
سراياه بصدد سرد المسائل التاريخية وتمييز الصحيح منها من السقيم. بل الغرض أن
يتضح للقارئين الكرام إجمالا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أتى بدين وسلطة

1 - التراتيب الإدارية 1 / 314 - 316.
136

دينية معا، وأنه كان صاحب شريعة ومؤسس حكومة ودولة.
فما قد يتوهم من أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن إلا نذيرا وبشيرا للبشر، وأنه لم يكن من برامجه
الحكومة ولوازمها ناش من الغفلة أو الجهل بموازين الإسلام وقوانينه الشاملة لجميع
مجالات الحياة، ومن الجهل بسيرته (صلى الله عليه وآله وسلم) وسنته، فتدبر.
9 - ذكر بعض من بعثه النبي " ص " إلى الملوك للدعوة إلى الإسلام:
قال ابن هشام في السيرة:
" بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رسلا من أصحابه، وكتب معهم كتبا إلى الملوك يدعوهم فيها
إلى الإسلام:
1 - فبعث دحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر، ملك الروم.
2 - وبعث عبد الله حذافة السهمي إلى كسرى، ملك فارس.
3 - وبعث عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي، ملك الحبشة.
4 - وبعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس، ملك الإسكندرية.
5 - وبعث عمرو بن العاص السهمي إلى جيفر وعياذ ابني الجلندي الأزديين، ملكي
عمان.
6 - وبعث سليط بن عمرو، أحد بني عامر بن لؤي إلى ثمامة بن أثال، وهوذة بن علي
الحنفيين، ملكي اليمامة.
7 - وبعث العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوي العبدي، ملك البحرين.
8 - وبعث شجاع بن وهب الأسدي إلى الحارث بن أبي شمر الغساني، ملك تخوم
الشام. " (1)
وفي التراتيب الإدارية للكتاني:

1 - سيرة ابن هشام 4 / 254.
137

9 - " وبعث المهاجر بن أبي أمية المخزومي إلى الحارث، ملك اليمن. قال ابن جماعة:
بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ستة نفر في يوم واحد في المحرم سنة سبع. وفي شرح الزرقاني
على المواهب وشرح الألفية لابن كيران: وبعث ستة نفر في يوم واحد إلى الملوك و
أصبح كل منهم يتكلم بلسان القوم الذين بعث إليهم، كذا لابن سعد وغيره، وهذه معجزة
أخرى. " (1)
10 - ذكر من بعثه النبي " ص " إلى الجهات يعلم الناس القرآن ويفقههم في
الدين:
نذكر ذلك أيضا بالتلخيص من كتاب التراتيب الإدارية:
1 - فمنهم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف. في سيرة ابن إسحاق: لما انصرف
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من القوم الذين بايعوه في العقبة الأولى - قال: وهم اثنا عشر - بعث معهم
مصعبا وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين، وكان يسمى
المقرئ بالمدينة.
قلت: في الاستبصار لابن قدامة المقدسي: لما قدم مصعب بن عمير المدينة نزل على
أسعد بن زرارة، فكان يطوف به على دور الأنصار يقرئهم القرآن ويدعوهم إلى الله -
عز وجل -، فأسلم على يديهما جماعة منهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وغيرهما.
2 - ومنهم معاذ بن جبل. في الاكتفاء: استخلف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عتاب بن أسيد على
مكة، وخلف معه معاذ بن جبل يفقه الناس في الدين ويعلمهم القرآن. وفي الاستيعاب:
بعثه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قاضيا على الجند من اليمن يعلم الناس القرآن وشرائع الإسلام ويقضي
بينهم، وجعل إليه قبض الصدقات من العمال الذين

1 - التراتيب الإدارية 1 / 194.
138

باليمن عام فتح مكة.
3 - ومنهم عمرو بن حزم الخزرجي. في الاستيعاب: استعمله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على نجران
ليفقههم في الدين ويعلمهم القرآن ويأخذ صدقاتهم، وذلك سنة عشر بعد أن بعث إليهم
خالد بن الوليد فأسلموا، وكتب له كتابا في الفرائض والسنن والصدقات والديات.
4 - ومنهم أبو عبيدة بن الجراح. أخرج أحمد في مسنده، عن أنس، قال: لما وفد أهل
اليمن على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قالوا: ابعث معنا رجلا يعلمنا السنة والإسلام. فأخذ بيد أبي
عبيدة بن الجراح فقال: هذا أمين هذه الأمة. وسيره إلى الشام أميرا، فكان فتح أكثر الشام
على يده.
5 - ومنهم رافع بن مالك الأنصاري ترجمه في الإصابة فذكر عن ابن إسحاق: أنه أول
من قدم المدينة بسورة يوسف وأن الزبير بن بكار روى في أخبار المدينة أن رافعا لما
لقي المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) بالعقبة أعطاه ما أنزل إليه في العشر سنين التي خلت، فقدم به رافع إلى
المدينة ثم جمع قومه فقرأ عليه في موضعه.
6 - ومنهم أسيد بن حضير. ترجم في الإصابة لإبراهيم بن جابر فقال: كان من جملة
العبيد الذين نزلوا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أيام حصاره الطائف، فأعتقه وبعثه إلى أسيد بن حضير
وأمره أن يمونه ويعلمه. ذكره الواقدي.
7 - وترجم في الإصابة أيضا للأزرق بن عقبة الثقفي، فذكر أنه ممن نزل على
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حصار الطائف وأنه أسلم وأعتقه وسلمه لخالد بن سعيد بن العاص ليمونه
ويعلمه. (1)

1 - التراتيب الإدارية 1 / 42 - 44.
139

الثالثة من السلطات الثلاث: السلطة القضائية
وفيها جهات من البحث:
1 - الحاجة إليها:
لا يخفى على من راجع تواريخ الأمم والأجيال في العالم أن لأمر القضاء وفصل
الخصومات مكانة خاصة حساسة في جميع الأمم والمجتمعات البشرية. إذ عليه وعلى
سلامة نظامه تبنى سلامة المجتمع وأمنه واستقرار العدل فيه وحفظ الحقوق والحرمات.
ولو لم ينسجم انسجاما سالما، أو فوض أمره إلى غير أهله فشا الجور والفساد و
ضاعت الحقوق وضعفت الدولة. بل ربما أعقب ذلك سقوطها وزوالها.
والسر في ذلك أن عالم الطبيعة عالم التزاحم والتصادم، والإنسان في طبعه مجبول
على الولع والطمع، وقد زين له حب الشهوات من النساء والضياع والأموال، و " يشيب
ابن آدم وتشب فيه خصلتان: الحرص وطول الأمل. " (1)
فربما يستفيد الشخص من قوته وقدرته أو من غفلة غيره استفادة سوء فينزو على
أموال الناس وحقوقهم. هذا.
مضافا إلى أنه قد يشتبه الأمر عليه فيتسلط على مال غيره عن جهل وشبهة، و
يستعقب ذلك التنازع والبغضاء، بل ربما يؤول الأمر إلى القتال وإتلاف النفوس و
الأموال.
فلا محيص عن وجود سلطة عالمة عادلة نافذ الأمر تصلح بينهم أو تقضي بينهم

1 - جامع السعادات 3 / 37; عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
140

بالحق والعدل فيرتفع النزاع ويجد كل ذي حق حقه.
ولأجل ذلك ترى الشريعة الإسلامية قد حث على الصلاح والإصلاح ونفي الإيمان
عمن لم يحكم هذه السلطة ولم يسلم لها تسليما، وأكد في سلامة سلطة القضاء وتفويضها
إلى أهلها.
1 - قال الله - تعالى -: " إنما المؤمنون إخوة، فأصلحوا بين أخويكم. " (1)
2 - وقال: " فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم. " (2)
3 - وفي نهج البلاغة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة و
الصيام. " (3)
4 - وقال تعالى -: " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا
في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما. " (4)
2 - القضاء لله ولرسوله وللأنبياء والأوصياء، وكان الأنبياء والأئمة
يتصدون له:
لما كان الأصل الأولي كما مر يقتضى عدم ثبوت الولاية لأحد على أحد إلا لله -
تعالى - أو لمن ولاه الله أو أجاز له ونفذه، والقضاء أيضا شعبة من شعب الولاية بل من
أهمها ويكون ملازما للتصرف في سلطة الغير، فلا محالة لا يصح القضاء ولا ينفذ إلا من
قبل الله - تعالى - مالك الجميع أو من ولاه الله أو أجاز له ذلك ولو بالواسطة باسمه و
شخصه أو بعنوان عام:

1 - سورة الحجرات (49)، الآية 10.
2 - سورة الأنفال (8)، الآية 1.
3 - نهج البلاغة، فيض / 977; عبده 3 / 85; لح / 421، الكتاب 47.
4 - سورة النساء (4)، الآية 65.
141

1 - قال الله - تعالى -: " إن الحكم إلا لله، يقص الحق وهو خير الفاصلين. " (1)
2 - وقال: " والله يقضي بالحق، والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء، إن الله هو
السميع البصير. " (2)
3 - وقال: " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة
من أمرهم. " (3)
4 - وفي خبر سليمان بن خالد، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " اتقوا الحكومة، فإن الحكومة
إنما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين، لنبي (كنبي) أو وصي نبي. " (4)
5 - وفي خبر إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام)
لشريح: " يا شريح، قد جلست مجلسا لا يجلسه (ما جلسه) إلا نبي أو وصى نبي، أو
شقى. " (5)
6 - وفي مصباح الشريعة عن الصادق (عليه السلام): " والحكم لا يصح إلا بإذن من الله و
برهانه. " (6)
وكان من شؤون الأنبياء وتكاليفهم أيضا فصل الخصومات والقضاء بين الناس
بالعدل. والنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا كان يمارس بنفسه أمر القضاء على أساس ما أنزله الله
عليه:
7 - قال الله - تعالى -: " يا داود، إنا جعلناك خليفة في الأرض، فاحكم بين الناس
بالحق. " (7)

1 - سورة الأنعام (6)، الآية 57.
2 - سورة غافر (40)، الآية 20.
3 - سورة الأحزاب (33)، الآية 36.
4 - الوسائل 18 / 7، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.
5 - الوسائل 18 / 7، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2.
6 - مصباح الشريعة / 41، الباب 63 في الفتيا (= طبع بيروت / 16، الباب 6 في الفتيا.).
7 - سورة ص (38)، الآية 26.
142

فالله - تعالى - فرع جواز حكم داود على جعله خليفة له - تعالى - فيظهر من ذلك
عدم نفوذ حكمه لولا ذلك.
8 - وقال: " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم، وكنا
لحكمهم شاهدين. " (1)
9 - وقال مخاطبا لنبينا: " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم
لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت، ويسلموا تسليما. " (2)
10 - وفي صحيحة سليمان بن خالد، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " في كتاب علي (عليه السلام) أن
نبيا من الأنبياء شكا إلى ربه فقال: يا رب، كيف أقضي فيما لم أر ولم أشهد؟ قال: فأوحى
الله إليه: احكم بينهم بكتابي وأضفهم إلى اسمي، فحلفهم (تحلفهم خ. ل) به، وقال: هذا
لمن لم تقم له بينة. " (3)
11 - وفي حديث آخر عنه (عليه السلام)، قال: " في كتاب على (عليه السلام) أن نبيا من الأنبياء شكا إلى
ربه القضاء فقال: كيف أقضي بما لم ترعيني ولم تسمع أذني؟ فقال: اقض عليهم بالبينات و
أضفهم إلى إسمي يحلفون به. الحديث. " (4)
12 - وفي خبر هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إنما
أقضي بينكم بالبينات والأيمان وبعضكم ألحن بحجته من بعض، فأيما رجل قطعت له
من مال أخيه شيئا فإنما قطعت له به قطعة من النار. " (5)

1 - سورة الأنبياء (21)، الآية 78.
2 - سورة النساء (4)، الآية 65.
3 - الوسائل 18 / 167، الباب 1 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.
4 - الوسائل 18 / 167، الباب 1 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2.
5 - الوسائل 18 / 169، الباب 2 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.
143

أقول: " لحن الرجل " من باب علم: فطن بحجته وانتبه.
13 - وفي سنن أبي داود بسنده عن أم سلمة، قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إنما أنا
بشر، وإنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على
نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذ منه شيئا فإنما أقطع له
قطعة من النار. " (1)
ورواه أيضا مالك في أول الأقضية من الموطأ عن أم سلمة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم). (2)
وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يبعث القضاة إلى النواحي أيضا، فيتولون هذه المهمة بنصبه و
أمره:
14 - ففي سنن أبي داود أيضا بسنده عن على (عليه السلام)، قال: " بعثني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى
اليمن قاضيا فقلت: يا رسول الله، ترسلني وأنا حديث السن ولا علم لي بالقضاء؟ فقال:
إن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك، فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين حتى
تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء، قال: فما زلت
قاضيا أو ما شككت في قضاء بعد. " (3)
أقول: وقال عمر بن الخطاب في حقه: " على أقضانا. " (4)
15 - وفيه أيضا بسنده عن أناس من أصحاب معاذ بن جبل أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما
أراد أن يبعث معاذا إلى اليمن قال: " كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ " قال: أقضي
بكتاب الله. قال: " فإن لم تجد في كتاب الله؟ " قال: فبسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). قال: فإن
لم تجد في سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا في كتاب الله؟ " قال: أجتهد رأيي ولا آلو. فضرب
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صدره وقال: " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضى
رسول الله. " (5)

1 - سنن أبي داود 2 / 270، كتاب الأقضية، باب في قضاء القاضي إذا أخطأ.
2 - الموطأ للمالك 2 / 106، كتاب الأقضية، باب الترغيب في القضاء بالحق.
3 - سنن أبي داود 2 / 270، كتاب الأقضية، باب كيف القضاء.
4 - مسند أحمد 5 / 113.
5 - سنن أبي داود 2 / 272، كتاب الأقضية، باب اجتهاد الرأي في القضاء.
144

16 - وفي سنن ابن ماجة بسنده عن معاذ بن جبل، قال: لما بعثني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى
اليمن قال: " لا تقضين ولا تفصلن إلا بما تعلم. وإن أشكل عليك أمر فقف حتى تبينه أو
تكتب إلى فيه. " (1)
17 - وفي كنز العمال عن على (عليه السلام)، قال: قلت: " يا رسول الله، إن عرض لي أمر لم ينزل
فيه قضاء في أمره ولا سنة كيف تأمرني؟ قال: تجعلونه شورى بين أهل الفقه والعابدين
من المؤمنين ولا تقضي فيه برأي خاصة. " (طس وأبو سعيد في القضاة) (2)
أقول: والخبران يوهنان ما في خبر معاذ من قوله: " أجتهد رأيي ولا آلو. "
فيظهر منهما عدم الاعتبار بالرأي.
وكيف كان فأمر القضاء عظيم، وهو من أعظم شعب الولاية ويكون تصرفا في سلطة
الغير. فالأصل يقتضي عدم صحته ونفوذه إلا أن يكون من قبل الله - تعالى - مالك الملك
والملكوت أو من ولاه الله - تعالى - أو أجاز له ذلك من نبي أو وصى نبي.
والظاهر أن المقصود بالوصي الوارد في الرواية هو الأعم من الوصاية بلا واسطة أو
معها، جعلت لشخص خاص أو لعنوان عام معرف بالمواصفات، فيشمل الفقهاء الواجدين
للشرائط المجاز لهم القضاء في عصر الغيبة أيضا، فإن حاجة الناس إلى القضاء في كل
عصر واضحة كما مر، ولا يمكن تعطيله وإهماله في عصر من الأعصار، كما لا يجوز
تعطيل الولاية الكبرى، فيتعين له الفقيه الجامع للشرائط فإنه القدر المتيقن. ويستفاد
أيضا من مقبولة عمر بن حنظلة ومشهورة أبي خديجة المتقدمتين، حيث منع الإمام فيهما
من الرجوع إلى قضاة الجور وأرجع شيعته إلى من يعرف أحكامهم (عليه السلام). وظاهرهما
اعتبار الاجتهاد والفقاهة في القاضي،

1 - سنن ابن ماجة 1 / 21، المقدمة، باب اجتناب الرأي والقياس، الحديث 55.
2 - كنز العمال 5 / 812، الباب 2 من كتاب الخلافة مع الإمارة من قسم الأفعال، الحديث 14456.
145

كما يأتي بيانه عن قريب.
وظاهر الخبرين جعل المنصب من قبله (عليه السلام) وتفريع جواز التحاكم إلى الفقيه على
جعله - عليه السلام -، فيظهر من ذلك أنه لولا نصبه وجعله إياه قاضيا لم يجز الرجوع إليه
ولم يكن قضاؤه شرعيا نافذا.
3 - شرائط القاضي ومواصفاته:
قد ظهر بما مر أولا: أن الأصل يقتضي عدم نفوذ القضاء إلا فيما قام الدليل عليه.
وثانيا: أن المستفاد من الآيات والروايات كون القضاء لله ولرسوله ولأوصيائه.
وثالثا: أنه لا يمكن القول بتعطيله في عصر الغيبة، فيجوز للفقيه الواجد للشرائط
التصدي له لأنه القدر المتيقن ولدلالة المقبولة والمشهورة وغيرهما عليه كما يأتي بيانه.
فلا محالة يراد بالوصي في الرواية ما يشمل الوصاية بعنوان عام أيضا، أو يكون مستثنى
مما دل على الحصر.
بل يمكن القول بأن الحاكم المنتخب من قبل الأمة أيضا - بعد فرض صحة انتخابه و
كونه واجدا للشرائط التي منها الفقاهة وإمضاء الشرع لذلك - يصير بحكم الوصي، فتدبر.
إذا عرفت هذا فقد حان الوقت لبيان المواصفات المعتبرة فيمن يقلد أمر القضاء و
يتولى له، فنقول:
1 - قال المحقق في القضاء من الشرائع:
" ويشترط فيه البلوغ وكمال العقل والإيمان والعدالة وطهارة المولد والعلم
146

والذكورة. " (1)
وفي المسالك في شرح العبارة:
" هذه الشرائط عندنا موضع وفاق. " (2)
2 - وقال العلامة في القواعد:
" ويشترط فيه البلوغ والعقل والذكورة والإيمان والعدالة وطهارة المولد والعلم. " (3)
3 - وفي مختصر أبي القاسم الخرقي في فقه الحنابلة:
" ولا يولي قاض حتى يكون بالغا عاقلا مسلما حرا عدلا عالما فقيها ورعا. " (4)
4 - وفي المنهاج للنوي في فقه الشافعية:
" وشرط القاضي: مسلم مكلف حر ذكر عدل سميع بصير ناطق كاف مجتهد. " (5)
5 - وفي بداية المجتهد لابن رشد:
" فأما الصفات المشترطة في الجواز فأن يكون حرا مسلما بالغا ذكرا عاقلا عدلا... و
اختلفوا في كونه من أهل الاجتهاد، فقال الشافعي: يجب أن يكون من أهل الاجتهاد و
مثله حكى عبد الوهاب عن المذهب. وقال أبو حنيفة: يجوز حكم العامي... وكذلك
اختلفوا في اشتراط الذكورة، فقال الجمهور: هي شرط في صحة الحكم. وقال أبو حنيفة:
يجوز أن تكون المرأة قاضيا في الأموال. قال الطبري: يجوز أن تكون المرأة حاكما على
الإطلاق في كل شيء. " (6)
6 - وقال أبو الحسن الماوردي في الأحكام السلطانية ما ملخصه:
" ولا يجوز أن يقلد القضاء إلا من تكاملت فيه شروطه، وهي سبعة:
فالشرط الأول: أن يكون رجلا. وهذا الشرط يجمع البلوغ والذكورية.
والشرط الثاني: العقل. وهو مجمع على اعتباره. ولا يكتفى فيه بالعقل الذي يتعلق

1 - الشرائع 4 / 67.
2 - المسالك 2 / 351.
3 - القواعد 2 / 201.
4 - راجع المغني لابن قدامة 11 / 380.
5 - المنهاج / 588، (كتاب القضاء).
6 - بداية المجتهد 2 / 449، كتاب الأقضية.
147

به التكليف من علمه بالمدركات الضرورية، حتى يكون صحيح التمييز جيد الفطنة
بعيدا من السهو والغفلة يتوصل بذكائه إلى إيضاح ما أشكل وفصل ما أعضل.
والشرط الثالث: الحرية.
والشرط الرابع: الإسلام... ولا يجوز أن يقلد الكافر القضاء على المسلمين ولاعلى
الكفار. وقال أبو حنيفة: يجوز تقليده القضاء بين أهل دينه.
والشرط الخامس: العدالة. وهي معتبرة في كل ولاية. والعدالة أن يكون صادق
اللهجة ظاهر الأمانة عفيفا عن المحارم متوقيا المآثم، بعيدا من الريب، مأمونا في الرضا
والغضب، مستعملا لمروءة مثله في دينه ودنياه.
والشرط السادس: السلامة في السمع والبصر، ليصح بهما إثبات الحقوق ويفرق بين
الطالب والمطلوب، ويعرف المحق من المبطل. فإن كان ضريرا كانت ولايته باطلة. و
جوزها مالك، كما جوز شهادته.
والشرط السابع: أن يكون عالما بالأحكام الشرعية. وعلمه بها يشتمل على علم
أصولها والارتياض بفروعها. " (1)
7 - وقال أبو يعلى الفراء في الأحكام السلطانية:
" لا يجوز تقليد القضاء إلا لمن كملت فيه سبع شرائط: الذكورية والبلوغ، والعقل، و
الحرية، والإسلام، والعدالة، والسلامة في السمع والبصر، والعلم. " (2)
ولا يخفى أن ما ذكره ثمانية لا سبعة، اللهم إلا ان يعد الأولان واحدا، كما في
الماوردي.
ثم أقول: أما اعتبار البلوغ والعقل فلقصور الصغير والمجنون وكونهما مولى عليهما
مسلوبي العبارة والأفعال شرعا، وإذا لم تنفذ عبارتهما في حق أنفسهما فكيف تنفذ في
حق الغير.

1 - الأحكام السلطانية / 65.
2 - الأحكام السلطانية / 60.
148

وأما الإيمان فإن أريد به ما في قبال الكفر فيدل على اعتباره كل ما دل على حرمة
تولى الكفار، وقوله - تعالى -: " لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا. " (1) وما
عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " الإسلام يعلو ولا يعلى عليه. " (2) والقضاء على المؤمن سبيل عليه و
علو، نعم، لا يجري هذا في القضاء على الكافر. هذا مضافا إلى وضوح الحكم وأن الكافر
ليس نبيا ولا وصيا.
وإن أريد بالإيمان كونه إماميا فيدل على اعتباره - مضافا إلى أصالة عدم الانعقاد مع
الشك - قوله (عليه السلام): " منكم " في خبر أبي خديجة، وكذا المقبولة كما يأتي بيانه. (3)
هذا مضافا إلى أن القضاء يجب أن يكون على أساس مذهب المترافعين، فطبع
الموضوع يقتضي أن يكون القاضي لهم منهم. ولعل القاضي في كل مذهب يناسب أن
يكون من أنفسهم، فتدبر.
وأما العدالة فيدل على اعتبارها - مضافا إلى الأصل المشار إليه، وإلى وضوحه، و
إلى كثير مما دل على اعتبارها في الولاية من الآيات والروايات، فراجع الفصل
السادس من الباب الرابع - خصوص خبر سليمان بن خالد، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:
" اتقوا الحكومة، فإن الحكومة إنما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبي
(كنبي خ. ل) أو وصى نبي. " (4)
ويدل عليه خبر أبي خديجة وكذا المقبولة أيضا.
وأما طهارة المولد، وكذا الذكورة فيدل على اعتبارهما ما دل على اعتبارهما في

1 - سورة النساء (4)، الآية 141.
2 - الفقيه 4 / 334، كتاب الفرائض، باب ميراث أهل الملل، الحديث 5719.
3 - الوسائل 18 / 4، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث 5، و 18 / 99، الباب 11 منها،
الحديث 1.
4 - الوسائل 18 / 7، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.
149

الوالي، فراجع الفصل العاشر والحادي عشر من ذلك الباب.
وفي اعتبار الحرية كلام، وقد مر البحث فيه في الفصل الثاني عشر من ذلك الباب، و
مر أن موضوع البحث منتف في أعصارنا.
وأما السمع والبصر فإن توقف عليهما معرفة المحق والمبطل والقضاء بالحق والعدل
لزم رعايتهما وإلا فلا دليل على اعتبارهما بالخصوص، فتدبر.
4 - اعتبار العلم في القاضي:
وأما العلم فيدل على اعتباره إجمالا - مضافا إلى الأصل، وإلى وضوح ذلك لتوقف
القضاء بالحق عليه، وإلى كثير من أدلة اعتباره في الوالي من الآيات والروايات التي
مرت - خصوص خبري أبي خديجة وكذا مقبولة عمر بن حنظلة كما يأتي، وخبر
سليمان بن خالد، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " اتقوا الحكومة فإن الحكومة إنما هي للإمام
العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبي (كنبي) أو وصى نبي. " (1)
وما رواه الكليني مرفوعا، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " القضاة أربعة: ثلاثة في النار و
واحد في الجنة: رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النار، ورجل قضى بجور وهو
لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحق و
هو يعلم فهو في الجنة. " (2)
وروى أبو داود في السنن بسنده عن ابن بريدة، عن أبيه، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال:
" القضاة ثلاثة: واحد في الجنة واثنان في النار: فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق
فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على
جهل فهو في

1 - الوسائل 18 / 7، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.
2 - الوسائل 18 / 11، الباب 4 من أبواب صفات القاضي، الحديث 6.
150

النار. " (1)
وفي نهج البلاغة في صفة من يتصدى للقضاء وليس أهلا له: " ورجل قمش جهلا
موضع في جهال الأمة، عاد في أغباش الفتنة، عم بما في عقد الهدنة. قد سماه أشباه
الناس عالما وليس به. بكر فاستكثر من جمع ما قل منه خير مما كثر، حتى إذا ارتوى من
آجن واكتنز من غير طائل جلس بين الناس قاضيا ضامنا لتخليص ضامنا ما التبس على
غيره.
فإن نزلت به إحدى المبهمات هيأ لها حشوا رثا من رأيه ثم قطع به، فهو من لبس
الشبهات في مثل نسج العنكبوت لا يدري أصاب أم أخطأ: فإن أصاب خاف أن يكون قد
أخطأ، وإن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب.
جاهل خباط جهالات عاش ركاب عشوات. لم يعض على العلم بضرس قاطع.
يذري الروايات إذراء الريح الهشيم. لا ملئ - والله - بإصدار ما ورد عليه ولا هو أهل
لما فوض إليه. لا يحسب العلم في شيء مما أنكره، ولا يرى أن من وراء ما بلغ مذهبا
لغيره. وإن أظلم أمر اكتتم به لما يعلم من جهل نفسه. تصرخ من جور قضائه الدماء، و
تعج منه المواريث. " (2)
وروى نحوه الكليني في الكافي، فراجع. (3)
أقول: قمش جهلا: جمعه. موضع فيهم: أي مسرع. والأغباش جمع الغبش بالتحريك:
الظلمات. عاد فيها: أي مسرع فيها. وروى غار بالتشديد، أي غافل. عم بما في عقد
الهدنة: جاهل بمصالح السكون والدعة. ويحتمل أن يراد أنه غافل عما في التسامح و
التساهل من المفاسد والمضار، ولعله أظهر. الآجن: الماء المتغير. الحشو: فضل الكلام. و
الرث: الخلق البالي. والخباط، مبالغة الخابط: السائر على غير هدى. والعاشي: الأعمى
أو ضعيف البصر. والعشوة: ركوب الأمر على غير هدى. والهشيم: ما يبس من النبت و
تفتت. والعج: رفع الصوت.

1 - سنن أبي داود 2 / 268، كتاب الأقضية باب في القاضي يخطئ.
2 - نهج البلاغة، فيض / 71; عبده 1 / 47; لح / 59، الخطبة 17.
3 - راجع أصول الكافي 1 / 55، كتاب فضل العلم، باب البدع والرأي والمقاييس، الحديث 6.
151

فليتأمل شيعة أمير المؤمنين - عليه السلام - المتصدون لأمر القضاء في هذه الخطبة
الشريفة، وليلتفتوا إلى موقع عملهم وسلطتهم على دماء الناس والأعراض والأموال و
أن أمرها لشديد عند الله - تعالى - فعليهم الدقة والاحتياط، وليس بناكب عن الصراط
من سلك سبيل الاحتياط.
وعن المفيد في المقنعة، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: " من جعل قاضيا فقد ذبح بغير
سكين. " (1)
وفي رواية أنس بن مالك، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " لسان القاضي بين جمرتين من نار حتى
يقضي بين الناس، فإما إلى الجنة وإما إلى النار. " (2)
وروى الترمذي بسنده عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما
استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن
يخطئ في العقوبة. " (3) هذا.
ولكن لما كان أمر القضاء عظيما لا ينسجم نظام بلاد المسلمين وحفظ حقوقهم إلا به
فالمتصدي له إذا كان أهلا له وراعى جانب الدقة والاحتياط في عمله فلا محالة كان
أجره عند الله أيضا عظيما. ولا يجوز لمن يقدر عليه ويوجد فيه الشرائط أن يتركه إلا مع
وجود الكفاية.
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ساعة إمام عادل أفضل من عبادة سبعين سنة. " (4) هذا.
وذكر أمير المؤمنين - عليه السلام - في كتاب كتبه لمالك الأشتر مواصفات من يريد
أن يختاره للقضاء، فقال: " ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن

1 - الوسائل 18 / 8، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 8.
2 - الوسائل 18 / 167، الباب 12 من أبواب آداب القاضي، الحديث 2.
3 - سنن الترمذي 2 / 438، أبواب الحدود، الباب 2، الحديث 1447.
4 - الوسائل 18 / 308، الباب 1 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 5.
152

لا تضيق به الأمور ولا تمحكه الخصوم ولا يتمادى في الزلة، ولا يحصر من الفيء إلى
الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه. وأوقفهم
في الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلهم تبرما بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشف
الأمور، وأصرمهم عند اتضاح الحكم، ممن لا يزدهيه إطراء ولا يستميله إغراء، وأولئك
قليل.
ثم أكثر تعاهد قضائه وافسح له في البذل ما يزيل علته، وتقل معه حاجته إلى الناس.
وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له
عندك، فانظر في ذلك نظرا بليغا. فإن هذا الدين قد كان أسيرا في أيدي الأشرار يعمل فيه
بالهوى وتطلب به الدنيا. " (1)
أقول: أمحكه: جعله محكان، أي عسر الخلق. حصر كفرح: ضاق صدره والتبرم:
الملل والتضجر. لا يزدهيه إطراء: لا يستخفه كثرة الثناء عليه.
فعلى حكام المسلمين وولاتهم أن يهتموا بأمر القضاء والقضاة، كما اهتم به
أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأمر مالكا بالاهتمام بهم وبما يزيل علتهم وحاجاتهم.
وفي كنز العمال: " إذا أراد الله بقوم خيرا ولى عليهم حلماءهم وقضى عليهم
علماؤهم وجعل المال في سمحائهم. وإذا أراد الله بقوم شرا ولى عليهم سفهاءهم و
قضى بينهم جهالهم وجعل المال في بخلائهم. " (فر، عن مهران) (2)
5 - هل يعتبر في علم القاضي كونه عن اجتهاد؟
هل يعتبر في القاضي أن يكون علمه عن اجتهاد، أو يكفي التقليد أيضا؟ وعلى الأول
فهل يعتبر كونه مجتهدا مطلقا، أو يكفي التجزي؟

1 - نهج البلاغة، فيض / 1009; عبده 3 / 104; لح / 434، الكتاب 53.
2 - كنز العمال 6 / 7 الباب 1 من كتاب الإمارة والقضاء من قسم الأقوال، الحديث 14595.
153

1 - قال الشيخ في الخلاف:
" ولا يجوز أن يتولى القضاء إلا من كان عارفا (عالما خ. ل) بجميع ما ولي، ولا يجوز
أن يشذ عنه شيء من ذلك، ولا يجوز أن يقلد غيره ثم يقضي به. وقال الشافعي: ينبغي أن
يكون من أهل الاجتهاد ولا يكون عاميا، ولا يجب أن يكون عالما بجميع ما وليه. وقال
في القديم مثل ما قلناه. وقال أبو حنيفة: يجوز أن يكون جاهلا بجميع ما وليه إذا كان ثقة
ويستفتي الفقهاء ويحكم به، ووافقنا في العامي أنه لا يجوز أن يفتي. دليلنا إجماع الفرقة
وأخبارهم. " (1)
2 - وقال في القضاء من النهاية:
" وينبغي أن لا يتعرض للقضاء أحد حتى يثق من نفسه بالقيام به. وليس يثق أحد
بذلك من نفسه حتى يكون عاقلا كاملا، عالما بالكتاب وناسخه ومنسوخه، وعامه و
خاصه، وندبه وإيجابه، ومحكمه ومتشابهه، عارفا بالسنة وناسخها ومنسوخها، عالما
باللغة، مضطلعا بمعاني كلام العرب، بصيرا بوجوه الإعراب، ورعا من محارم الله - تعالى
-، زاهدا في الدنيا، متوفرا على الأعمال الصالحات، مجتنبا للكبائر والسيئات، شديد
الحذر من الهوى، حريصا على التقوى. فإذا كان بالصفات التي ذكرناها جاز له أن يتولى
القضاء والفصل بين الناس. " (2)
وقد ذكر نحو ذلك أستاذه الشيخ المفيد " قده " في المقنعة، فراجع (3). ويأتي كلام
الشيخ في المبسوط أيضا.
3 - وقال ابن زهرة في الغنية:
" يجب في المتولي للقضاء أن يكون عالما بالحق في الحكم المردد إليه، بدليل إجماع
الطائفة. وأيضا فتولية المرء ما لم يعرفه قبيحة عقلا ولا يجوز فعلها. وأيضا فالحاكم مخير
في الحكم عن الله - تعالى - ونائب عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا شك في قبح ذلك من دون
العلم. وأيضا قوله - تعالى -: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم

1 - الخلاف 3 / 309، كتاب القضاء، المسألة 1.
2 - النهاية / 337.
3 - المقنعة / 111.
154

الكافرون. " ومن حكم بالتقليد لم يقطع على الحكم بما أنزل الله - تعالى -. " (1)
4 - وقال المحقق في قضاء الشرائع:
" وكذا لا ينعقد لغير العالم المستقل بأهلية الفتوى، ولا يكفيه فتوى العلماء. ولا بد أن
يكون عالما بجميع ما وليه ويدخل فيه أن يكون ضابطا، فلو غلب عليه النسيان لم يجز
نصبه. " (2)
5 - وقال في المسالك:
" المراد بالعالم هنا المجتهد في الأحكام الشرعية، وعلى اشتراط ذلك في القاضي
إجماع علمائنا. ولافرق بين حالة الاختيار والاضطرار. " (3)
6 - وفي الجواهر:
" بلا خلاف أجده فيه، بل في المسالك وغيرها الإجماع عليه من غير فرق بين حالتي
الاختيار والاضطرار. " (4)
7 - وقال الماوردي في الأحكام السلطانية:
" وجوز أبو حنيفة تقليد القضاء ممن ليس من أهل الاجتهاد ليستفتي في أحكامه و
قضاياه. والذي عليه جمهور الفقهاء أن ولايته باطلة وأحكامه مردودة. " (5)
8 - وفي كتاب الأقضية من بداية المجتهد:
" واختلفوا في كونه من أهل الاجتهاد، فقال الشافعي: يجب أن يكون من أهل
الاجتهاد، ومثله حكى عبد الوهاب عن المذهب. وقال أبو حنيفة: يجوز حكم
العامي. " (6)

1 - الجوامع الفقهية / 562.
2 - الشرائع 4 / 67.
3 - المسالك 2 / 351.
4 - الجواهر 40 / 15.
5 - الأحكام السلطانية / 66.
6 - بداية المجتهد 2 / 449.
155

ما يستدل به على اعتبار الاجتهاد في القاضي:
أقول: قد يستدل على اعتبار الاجتهاد في القاضي - مضافا إلى الأصل الحاكم بعدم
صحة القضاء ونفوذه إلا فيما ثبت بالدليل، وإلى الاجماع المدعى في الخلاف والغنية و
المسالك وغيرها وإن أمكن المناقشة في تحققه بنحو يفيد - بمقبولة عمر بن حنظلة، و
خبري أبي خديجة، وتوقيع صاحب الأمر - عجل الله تعالى فرجه -:
أما المقبولة فهي ما رواه الكليني بسند لا بأس به، عن عمر بن حنظلة، قال: " سألت أبا
عبد الله (عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى
السلطان وإلى القضاة، أيحل ذلك؟ قال: من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم
إلى الطاغوت. وما يحكم له فإنما يأخذ سحتا وإن كان حقا ثابتا له، لأنه أخذه بحكم
الطاغوت وقد أمر الله أن يكفر به، قال الله - تعالى -: " يريدون أن يتحاكموا إلى
الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به. " (1)
قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران (إلى) من كان منكم ممن قد روى حديثنا، ونظر
في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكما فإني قد جعلته عليكم حاكما
فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا رد، والراد علينا الراد
على الله، وهو على حد الشرك بالله.
قلت: فإن كان كل رجل اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في
حقهما واختلفا فيما حكما، وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ قال: الحكم ما حكم به
أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به
الآخر... " (2)

1 - سورة النساء (4)، الآية 60.
2 - أصول الكافي 1 / 67، كتاب فضل العلم، باب اختلاف الحديث، الحديث 10; والوسائل
18 / 99، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.
156

وقد مر البحث في سند الحديث في الفصل الثالث من الباب الخامس، فراجع.
ومر أنه وإن استدلوا بالحديث لإثبات منصبي الولاية والقضاء للفقيه ولكن القدر
المتيقن منه هو القضاء فقط على فرض دلالته على النصب، كما لعله الظاهر من قوله:
" فإني قد جعلته. "
وتقريب الاستدلال به للمقام هو أن الظاهر من قوله: " روى حديثنا " كون حديث
العترة الطاهرة أساس حكمه وقضائه، في قبال من كان يعتمد على القياس و
الاستحسانات الظنية. ومقتضى ذلك كونه مجتهدا، إذ منبع علم المقلد هو فتوى المجتهد
لا الأحاديث الصادرة عنهم - عليهم السلام -.
والظاهر من قوله (عليه السلام): " نظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا " أيضا كونه من أهل
النظر والمعرفة بالنسبة إلى أحكام الأئمة (عليهم السلام) وفتاواهم الصادرة عنهم في الحلال و
الحرام، وأن يعلم أن ما يحكم به هو حكمهم (عليه السلام). وظاهر ذلك أيضا اعتبار الاجتهاد، إذ
لا يصدق على المقلد لغيره أنه نظر وعرف، فإن المعرفة إنما تصدق مع الإحاطة بجميع
خصوصيات الشيء ومميزاته. ففرق بين العلم الإجمالي بوجود الشيء، وبين معرفته
بخصوصياته.
وتشخيص أحكام الأئمة (عليهم السلام) وفتاواهم في الحلال والحرام من خلال أحاديثهم
المروية، ولا سيما إذا كانت متعارضة بحسب الظاهر أو محتاجة إلى الشرح والتفسير
لا يتيسر إلا لمن كان له ملكة الاجتهاد والفقاهة.
وكذلك قوله (عليه السلام) في جواب سؤال السائل عن صورة اختلاف الرجلين: " الحكم ما
حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث ".
وقول السائل في ذيل الحديث: " أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب و
السنة " كل ذلك مما يظهر منه اعتبار الفقاهة في من نصبه الإمام الصادق (عليه السلام) للقضاء
بالنصب العام.
واحتمال أن الاجتهاد أخذ طريقا لا موضوعا، فالملاك هو الاطلاع على الأحكام و
وقوع القضاء على وفق الحق ولو كان عن تقليد، مخالف لظاهر الحديث جدا.
157

والعلم الاجتهادي بالأحكام علم تفصيلي وإحاطة تفصيلية بها، ومن المحتمل جدا
موضوعية ذلك لهذا المنصب الشريف.
وأما خبر أبي خديجة فالأولى منهما ما رواه عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " إياكم
أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من
قضايانا، فاجعلوه بينكم فإني قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه. " (1)
والثانية ما رواه فقال: " بعثني أبو عبد الله (عليه السلام) إلى أصحابنا فقال: " قل لهم: إياكم إذا
وقعت بينكم خصومة أو تداري في شيء من الأخذ والعطاء أن تحاكموا إلى أحد من
هؤلاء الفساق. اجعلوا بينكم رجلا ممن قد عرف حلالنا وحرامنا، فإني قد جعلته قاضيا.
وإياكم أن يخاصم بعضكم بعضا إلى السلطان الجائر. " (2)
وتقريب الاستدلال بهما أيضا واضح ولا سيما الثاني، لظهور المعرفة في الإحاطة
بالشيء بجميع خصوصياته. ومن المحتمل جدا اتحاد الخبرين، فيشكل الاعتماد على
ظهور الأول منهما في كفاية التجزي كما يأتي بيانه.
وأما التوقيع فهو ما رواه إسحاق بن يعقوب، عن صاحب الزمان (عليه السلام) من قوله (عليه السلام): " و
أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله
عليهم. " (3)
بناء على شموله للإفتاء والولاية والقضاء، كما مر بيانه في فصل اثبات الولاية به.
وتقريب الاستدلال أن الإرجاع وقع إلى رواة الحديث، والمقلد ليس مبنى علمه
الأحاديث كما مر.

1 - الوسائل 18 / 4، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث 5.
2 - الوسائل 18 / 100، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 6. ولفظة " عليكم " بعد قوله
" جعلته " ليست في التهذيب بطبعيه، وان وجدت في الوسائل.
3 - الوسائل 18 / 101، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 9، واعتمد في النقل على
كمال الدين / 484.
158

فهذه روايات يمكن أن يستدل بها لاعتبار الاجتهاد في القاضي.
بل يمكن أن يقال: إن العالم في خبر سليمان بن خالد: " فإن الحكومة إنما هي للإمام
العالم بالقضاء، " (1) وفي غيره من الأخبار أيضا منصرف إلى العلم عن اجتهاد، إذ المقلد
لا يطلق عليه أنه عالم إلا بنحو من العناية. هذا.
كلام صاحب الجواهر:
ولكن في الجواهر ما حاصله وملخصه:
" إن المستفاد من الكتاب والسنة صحة الحكم بالحق والعدل والقسط من كل مؤمن.
قال الله - تعالى -: " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين
الناس أن تحكموا بالعدل. " (2)
" يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن
لا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى " (3)
" يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين و
الأقربين. إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما، فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا. " (4)
ومفهوم قوله: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون *... ومن لم يحكم
بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون *... ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم
الفاسقون. " (5)

1 - الوسائل 18 / 7، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.
2 - سورة النساء (4)، الآية 58.
3 - سورة المائدة (5)، الآية 8.
4 - سورة النساء (4)، الآية 135.
5 - سورة المائدة (5)، الآية 44، 45 و 47.
159

وقال علي (عليه السلام): " الحكم حكمان: حكم الله، وحكم الجاهلية. فمن أخطأ حكم الله
حكم بحكم الجاهلية. " (1)
وقال أبو جعفر (عليه السلام): " الحكم حكمان: حكم الله - عز وجل -، وحكم أهل الجاهلية.
وقد قال الله - عز وجل -: " ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون " وأشهد على
زيد بن ثابت لقد حكم في الفرائض بحكم الجاهلية. " (2)
إلى غير ذلك من النصوص الدالة على أن المدار هو الحكم بالحق الذي هو عند محمد
وأهل بيته. ولا ريب أنه يندرج في ذلك من سمع منهم - عليهم السلام - أحكاما خاصة
مثلا، وحكم بها بين الناس وإن لم يكن له مرتبة الاجتهاد.
وفي خبر أبي خديجة: " انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا، فاجعلوه بينكم
فإني قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه. " (3)
بناء على إرادة الأعم من المجتهد منه، بل لعل ذلك أولى من الأحكام الاجتهادية
الظنية.
بل قد يقال باندراج من كان عنده أحكامهم بالاجتهاد الصحيح أو التقليد الصحيح و
حكم بها بين الناس كان حكما بالحق والقسط والعدل.
نعم، قد يقال بتوقف صحة ذلك على الإذن منهم - عليهم السلام، لخبر سليمان بن
خالد (4) وغيره مما يقتضي توقف الحكم وترتب الأثر عليه على الإذن والنصب.
اللهم إلا أن يقال بأن النصوص دالة على الإذن منهم - عليهم السلام - لشيعتهم
الحافظين لأحكامهم في الحكم بين الناس بأحكامهم الواصلة إليهم بقطع أو اجتهاد
صحيح أو تقليد كذلك.
وفي خبر عبد الله بن طلحة (5) الوارد في اللص الداخل على المرأة وقتل ولدها وأخذ

1 - الوسائل 18 / 11، الباب 4 من أبواب صفات القاضي، الحديث 7.
2 - الوسائل 18 / 11، الباب 4 من أبواب صفات القاضي، الحديث 8.
3 - الوسائل 18 / 4، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث 5.
4 - الوسائل 18 / 7، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.
5 - الوسائل 19 / 45، الباب 23 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2.
160

ثيابها عن الصادق (عليه السلام) أمر السائل بالقضاء بينهم بما ذكره الإمام - عليه السلام -. وإنما
شدة الإنكار في النصوص على المعرضين عنهم المستغنين عنهم بآرائهم وقياساتهم.
قال الحلبي: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): " ربما كان بين الرجلين من أصحابنا المنازعة في
الشيء فيتراضيان برجل منا؟ فقال: ليس هو ذاك. إنما هو الذي يجبر الناس على حكمه
بالسيف والسوط. " (1)
ولو سلم عدم ما يدل على الإذن فليس في شيء من النصوص ما يدل على عدم
جواز الإذن لهم في ذلك.
بل قد يدعى أن الموجودين في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ممن أمر بالترافع إليهم قاصرون عن
مرتبة الاجتهاد، وإنما يقضون بين الناس بما سمعوه من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
ونصب خصوص المجتهد في زمان الغيبة بناء على ظهور النصوص فيه لا يقتضي عدم
جواز نصب الغير. ويمكن بناء ذلك - بل لعله الظاهر - على إرادة النصب العام في كل
شيء على وجه يكون له ما للإمام - عليه السلام -. وحينئذ فتظهر ثمرة ذلك بناء على
عموم هذه الرياسة أن للمجتهد نصب مقلده للقضاء بين الناس بفتاواه التي هي حلالهم و
حرامهم.
وأما دعوى الإجماع التي قد سمعتها فلم أتحققها، بل لعل المحقق عندنا خلافها
خصوصا بعد أن حكى في التنقيح عن المبسوط أقوالا ثلاثة: أولها جواز كونه عاميا و
يستفتي الفقهاء ويقضي بفتواهم، بناء على كون فتاوى المجتهد أحكامهم - عليهم السلام -
فالقضاء حينئذ بها.
خصوصا إذا قلنا أن القضاء في زمن الغيبة من باب الأحكام الشرعية لا النصب
القضائي، وأن ذلك هو المراد من قوله (عليه السلام): " جعلته قاضيا وحاكما. " فإن الفصل بها حينئذ
من المقلد كالفصل بها من المجتهد. إذ الجميع مرجعه إلى القضاء بين الناس بحكم
أهل البيت، والله العالم. " (2)

1 - الوسائل 18 / 5، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث 8.
2 - الجواهر 40 / 15 - 20.
161

انتهى ما في الجواهر بتلخيص منا. وقد ذكرناه بطوله لاشتماله على عمدة ما يمكن أن
يستدل به لعدم اعتبار الاجتهاد في القاضي.
الجواب عما في الجواهر:
أقول: محصل ما استدل به في الجواهر لعدم اعتبار الاجتهاد في القاضي أمور:
الأول: إطلاق ما دل على الحكم بالحق والعدل والقسط.
الثاني: مفهوم الآيات الثلاث.
الثالث: ما دل على أن المدار هو الحكم بالحق.
الرابع: خبر أبي خديجة.
الخامس: خبر عبد الله بن طلحة.
السادس: خبر الحلبي.
السابع: أن الموجودين في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ممن أمر بالترافع إليهم كمعاذ بن جبل و
غيره من الصحابة كانوا قاصرين عن مرتبة الاجتهاد.
الثامن: أن نصب خصوص المجتهدين في عصر الغيبة لا يقتضي عدم جواز نصب
الغير.
التاسع: أن مقتضى عموم ولاية الفقيه أن له نصب مقلده للقضاء.
العاشر: عدم ثبوت الإجماع المدعى على اعتبار الاجتهاد.
الحادي عشر: أن القضاء في عصر الغيبة من باب بيان الأحكام الشرعية لا النصب
القضائي.
ويرد على الأول أولا: أنها في مقام بيان أن الحكم يجب أن يكون بالحق والعدل و
القسط، لا في مقام بيان من له الحكم وشرائطه، فلا إطلاق لها من هذه الجهة.
162

وثانيا: قد مر منا سابقا أن الأحكام العامة المتعلقة بالمجتمع بما هو مجتمع تتوجه إلى
ممثل المجتمع ومن يتبلور فيه المجتمع، وهو الحاكم. فلا يجوز للآحاد التصدي لها،
للزوم الهرج والمرج.
ويؤيد ذلك أن الخطاب في الآية الأولى يتوجه إلى من عنده الأمانات، وقد فسرت
في أخبار الفريقين بالامارة والولاية، كما مر شرح ذلك في الفصل الثالث من الباب
الخامس، فراجع.
فالمخاطب في الآية هم الحكام والولاة لا جميع الناس، فتأمل.
وفي رواية معلى بن خنيس، عن الصادق (عليه السلام) قال: قلت له: قول الله - عز وجل -: " إن
الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل. "
فقال: " عدل الإمام أن يدفع ما عنده إلى الإمام الذي بعده وأمرت الأئمة أن يحكموا
بالعدل، وأمر الناس أن يتبعوهم. " (1)
يظهر من الحديث أن المخاطب في الآية والمكلف بالتكليفين هو الإمام، فتدبر.
ويرد على الثاني أن الآيات الثلاث في مقام بيان حرمة الحكم بغير ما أنزل الله لا في
مقام بيان من له الحكم وشرائطه، فلا يستفاد منها جوازه لكل أحد، لعدم الإطلاق من
هذه الجهة.
ويرد على الثالث ما مر على الأول، فراجع.
ويرد على الرابع أن العلم بشيء من قضاياهم بما هي قضاياهم (عليه السلام) يختص بالفقيه، أو
منصرف إليه لما مر من انصراف لفظ العلم والعالم عن المقلد التابع لغيره.
نعم، يستفاد من هذه الرواية على فرض صحتها كفاية التجزي، فلا يعتبر كونه مجتهدا
مطلقا.

1 - الوسائل 18 / 4، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث 6.
163

ويرد على الخامس أنها قضية في واقعة خاصة، فلعل المخاطب كان مجتهدا. و
الاجتهاد في تلك الأعصار كان خفيف المؤونة ولم يكن يتوقف على علوم ومقدمات
كثيرة كما في أعصارنا. فمن كان يقدر على استنباط أحكام الله - تعالى - من الروايات
الصادرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) وكان يتصف بكونه ممن روى حديثهم ونظر في
حلالهم وحرامهم وعرف أحكامهم كان يصدق عليه أنه فقيه مجتهد. وكثير من أصحاب
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) كانوا كذلك. هذا.
مضافا إلى أنه يمكن أن يكون القضاء في قوله (عليه السلام): " اقض على هذا كما وصفت لك "
بمعنى بيان الحكم الشرعي لا القضاء الاصطلاحي بمعنى إعمال الولاية وإنشاء الحكم،
فتأمل.
وأما السادس، أعني خبر الحلبي فتقريب الاستدلال به أن الإمام - عليه السلام - ترك
الاستفصال. وترك الاستفصال يقتضي العموم، فيشمل غير المجتهد أيضا. كما أن حصر
عدم الجواز في من يجبر على حكمه بالسيف يدل على جواز غيره مطلقا.
والسند صحيح رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن
حماد، عن الحلبي. هذا.
ولكن يرد عليه أولا: أن الخبر ليس نصا في القضاء، فلعل الرجل الذي كانا يتراضيان
به كان يصلح بينهما بما يرتضيان به، كما هو المتعارف كثيرا في من ينتخب حكما من قبل
المتنازعين في أعصارنا.
وثانيا: أن قوله (عليه السلام): " ليس هو ذاك " قرينة على كون الكلام مسبوقا بكلام لم ينقل لنا، و
لعله كان فيه قرينة على المراد. ومعه يشكل الاعتماد على ترك الاستفصال.
وثالثا: أنه يمكن أن يقال إن الخبر ليس في مقام بيان عقد الإثبات حتى يتمسك
بالإطلاق فيه، بل عقد النفي أعني عدم صلاحية من يجبر الناس على حكمه
164

في تلك الأعصار لأمر القضاء.
والحصر فيه إضافي قطعا، ضرورة عدم جواز الرجوع إلى قضاة أهل الخلاف وسائر
من لا يوجد فيه شرائط القاضي وإن لم يكن من أهل السيف والسوط أيضا، فلا يدل
الحصر على جواز غيره مطلقا.
ورابعا: أن العموم على فرض ثبوته يخصص بالمقبولة وغيرها مما دل على اعتبار
الاجتهاد.
ويرد على السابع ما مر من كون الإجتهاد في تلك الأعصار خفيف المؤونة. ألا ترى
أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما قال لمعاذ: " بما تقضي " قال: " بكتاب الله وسنة رسول الله. " و
الاجتهاد في تلك الأعصار لم يكن إلا فهم الكتاب والسنة والاستنباط منهما، فتدبر.
ويرد على الثامن أن ظاهر المقبولة والمشهورة حصر القضاء شرعا في من وجد
الصفات المذكورة، حيث إن الظاهر منهما كونهما في مقام التحديد وبيان شرائط القاضي
ومن يجوز التحاكم إليه شرعا، لا مجرد ما اعتبره الإمام (عليه السلام) بنفسه في موضوع نصبه،
فتأمل.
وبذلك يظهر الجواب عن التاسع أيضا وسيأتي تفصيل لذلك، فانتظر.
وأما ما ذكره عاشرا من نفي الإجماع فلعله صحيح لا لوجود القائل بالخلاف فينا كما
يتوهم من نقله لكلام المبسوط، بل لأن الملاك في حجية الإجماع كما مر أن يحدس منه
عن قول المعصوم (عليه السلام) حدسا قطعيا. وثبوته هنا مشكل، لعدم تعرض كثير من القدماء
للمسألة وإن تعرض لها بعض. هذا. ولكن لا يضرنا ذلك بعد ما مر من اقتضاء الأصل و
كذا المقبولة اعتبار الاجتهاد.
وليعلم أن ظاهر كلام المبسوط أيضا اتفاق أصحابنا على اعتبار الاجتهاد.
165

والقائل بعدم اعتباره إنما هو من أهل الخلاف كأبي حنيفة وأصحابه.
قال في المبسوط:
" القضاء لا ينعقد لأحد إلا بثلاث شرائط: أن يكون من أهل العلم، والعدالة، والكمال.
وعند قوم بدل كونه عالما أن يكون من أهل الاجتهاد. ولا يكون عالما حتى يكون
عارفا بالكتاب والسنة والإجماع والاختلاف ولسان العرب، وعندهم والقياس.
فأما الكتاب فيحتاج أن يعرف من علومه خمسة أصناف: العام والخاص، والمحكم
والمتشابه، والمجمل والمفسر، والمطلق والمقيد، والناسخ والمنسوخ...
وأما السنة فيحتاج أيضا أن يعرف فيها خمسة أصناف: المتواتر، والآحاد، والمرسل
والمتصل، والمسند والمنقطع، والعام والخاص، والناسخ والمنسوخ...
وفي الناس من أجاز أن يكون القاضي عاميا ويستفتي العلماء ويقضي به. والأول
هو الصحيح عندنا. " (1)
أقول: العالم على ما ذكره " قده " في بيان مفهومه مساوق للمجتهد المطلق، فلم يذكر
في المسألة أقوالا ثلاثة على ما حكاه في الجواهر عن التنقيح بل قولين: اعتبار
الاجتهاد، وعدمه. وظاهره اتفاق الشيعة على الأول. فقوله: " وعند قوم بدل كونه عالما
أن يكون من أهل الاجتهاد " ليس قولا آخر، بل تعبير آخر عن القول الأول. وقوله: " و
في الناس من أجاز أن يكون القاضي عاميا " لايراد به علماء الشيعة بل علماء أهل
الخلاف كأبي حنيفة وأصحابه كما مر.
وكيف كان فلم نجد من قدماء الأصحاب من يصرح بعدم اعتبار الاجتهاد في
القاضي. وقد مر عن النهاية وكذا المقنعة ما يستفاد منه اعتبار الاجتهاد وقدرة
الاستنباط من الكتاب والسنة، من دون أن يعبر بلفظ الاجتهاد، فراجع.

1 - المبسوط 8 / 99 - 101.
166

ويرد على الحادي عشر أنه خلاف ظاهر المقبولة والمشهورة، فإن الظاهر منهما هو
نصبه قاضيا وحاكما. ولا يصح القول باختصاصهما بزمان الحضور، إذ لا يمكن القول
بتعطيل أمر القضاء بآثاره في عصر الغيبة وكون المسلمين محرومين من هذا الأمر
الضروري المتوقف عليه حفظ الحقوق والنظام طول غيبة الإمام الثاني عشر (عليه السلام) وإن
طالت ما طالت. هذا.
كلام بعض الأساتذة في كتابه جامع المدارك:
ولكن قال بعض الأساتذة - طاب ثراه - في كتابه جامع المدارك في شرح المختصر
النافع ما محصله بتوضيح منا:
" المعروف أن القضاء منصب من المناصب الشرعية، إذ هو ولاية وسلطة على الغير
في نفسه أو ماله أو أمر من أموره، كولاية الأب والجد، وليس هو مثل الأمر بالمعروف و
النهي عن المنكر.
والظاهر من المقبولة بقرينة الذيل، أعني قوله: " فإن كان كل رجل اختار رجلا من
أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما واختلفا فيما حكما، وكلاهما اختلفا في
حديثكم؟ قال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث " كون المورد
من الشبهات الحكمية والاختلاف في الحكم. والقضاء فيها بإنشاء الحكم والإلزام من
قبل الحاكم لا يتصور، إذ الإلزام فيها ثابت من ناحية الشارع فلا يعقل إلزام مولوي فوق
إلزامه، ولا يكون أمر الحاكم فيها إلا إرشادا إلى حكم الشارع. نظير الأمر بالمعروف، و
أوامر الفقيه في مقام بيان الأحكام، بل أوامر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) في مقام بيان أحكام
الله - تعالى - أيضا.
فلو تنازع الوارث والأجنبي الموهوب له في مرض الموت في كون منجزات
المريض من الثلث أو من الأصل، أو اختلف الوراث في حرمان الزوجة من أراضي غير
167

الرباع فحكم الحاكم بالخروج من الثلث أو الأصل أو حرمان الزوجة وعدم حرمانها
ليس أزيد من بيان الحكم الإلهي الثابت له من طرف الشرع. وعلى هذا فالمقبولة ترتبط
بباب الاستفتاء والإفتاء لا القضاء المشتمل على إعمال الولاية.
نعم، في الاختلاف الموضوعي يتصور إعمال الولاية، كما لو اختلف المتنازعان في
مال وكان أحدهما مدعيا والآخر منكرا فتفصل الخصومة بقضاء الحاكم بعد إقامة البينة
أو اليمين وينفذ القضاء فيها حتى في حق من يقطع بالخلاف، إذ الواقع غير مشخص
للقاضي والمقصود فيها رفع النزاع والتخاصم بالموازين المشروعة.
هذا مضافا إلى أنه إذا فرضنا كون الاختلاف في الحكم الشرعي الكلي فكيف يمكن
المراجعة فيه إلى الحاكم مع اختلاف الحاكم والمحكوم عليه بحسب الاختلاف في
الحجة الشرعية اجتهادا أو تقليدا؟ وكيف ينفذ حكم الحاكم في حق من يراه باطلا
بحسب اجتهاده أو تقليده؟ والمذكور في المقبولة أنه إذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما
استخف بحكم الله، والمحكوم عليه في الشبهة الحكمية ربما لا يرى الحكم حكمهم (عليهم السلام)
بل على خلاف حكمهم.
ويمكن أن يقرر الإشكال بوجه ثالث، وهو أن الظاهر من الرواية كون الموضوع
لوجوب القبول والتسليم تشخيص كون الحكم حكمهم - عليهم السلام -. والظاهر من
ذلك تشخيص المتنازعين واعتقادهما لا تشخيص الحاكم واعتقاده، وإذا فرض
تشخيصهما لذلك كان الإلزام من هذه الناحية لامن ناحية حكم الحاكم، فلا يكون حكمه
إلا من قبيل الأمر بالمعروف لامن باب إعمال الولاية. ولا يفرق فيه بين أن يكون الحاكم
مجتهدا مطلقا أو متجزيا أو مقلدا، إذ المتخاصمان لا يأخذان إلا بما ثبت كونه حكم الله
بنظرهما واعتقادهما. وكيف كان فالمقبولة ترتبط بباب الإفتاء لا بباب القضاء.
فإن قلت: قوله: " فإني قد جعلته عليكم حاكما " ظاهر في جعل المنصب، فلا يناسب
باب الإفتاء.
قلت: لعل الجعل هنا بمعنى القول والتعريف، كما مر عن لسان العرب عن الزجاج في
قوله - تعالى -: " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا "،
168

فراجع. " (1) انتهى كلامه قدس سره بتوضيح منا.
أقول: يمكن أن يجاب عن إشكاله - طاب ثراه - أولا: بأن الظاهر من قول السائل:
" بينهما منازعة في دين أو ميراث " كون النزاع في الموضوع لا في الحكم، إذ الاختلاف و
التنازع في الدين يقع بحسب الموضوع غالبا. والظاهر من قول الإمام - عليه السلام -:
" فإني قد جعلته عليكم حاكما " أيضا هو جعل المنصب. واحتمال كون الجعل بمعنى
القول والتعريف بعيد جدا.
فالمقبولة تشتمل على ثلاث قطعات: صدرها مرتبط بباب القضاء في الموضوعات،
أو الأعم منها ومن الأحكام. والوسط، أعني قوله: " فإن كان كل رجل اختار رجلا... "
يرتبط باختلاف المجتهدين في الحكم وترجيح أحدهما على الآخر بالأفقهية وغيرها.
والذيل يرتبط بباب اختلاف الحديثين وبيان المرجحات للحديث من الشهرة وموافقة
الكتاب ونحوها، فراجع. وكون رواية واحدة مشتملة على أحكام ومسائل متعددة
مختلفة غير عزيز، كما يظهر بالتتبع.
وثانيا: بمنع ما ذكره أخيرا، إذ ليس المراد تشخيص المتنازعين بكون حكم الحاكم
حكمهم - عليهم السلام - في كل واقعة واقعة، بل المراد أن يكون حكم الحاكم مستندا إلى
حديثهم - عليهم السلام - في قبال الأحكام المستندة إلى الأقيسة والاستحسانات الظنية،
كما يشهد بذلك ردعه (عليه السلام) عن الرجوع إلى قضاة الجور، وإرجاعه إلى من روى حديثهم
ونظر في حلالهم وحرامهم. فإذا كان الحاكم من شيعتهم - عليهم السلام - فلا محالة يكون
حكمه كذلك.
وثالثا: أن كون الأمر أو النهي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إرشاديا أيضا
قابل للمنع، بل لعله يكون مولويا مؤكدا لأمر الشارع ونهيه، كما لعله يشهد

1 - جامع المدارك 6 / 3 وما بعدها.
169

بذلك قوله - تعالى -: " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف
وينهون عن المنكر. " حيث إنه - تعالى - ذكر الأمر والنهي بعد إثبات مرتبة من الولاية
لكل أحد على أحد حتى يحق له الأمر والنهي.
ولعل القضاء في الشبهات الحكمية والاختلاف الحكمي أيضا كذلك ويكون نافذا
واجب الإطاعة. فإذا فرض اختلاف الزوجة وسائر الورثة في أراضي غير الرباع
بحسب الحكم الشرعي اجتهادا أو تقليدا فهل يوجد طريق لفصل الخصومة إلا المراجعة
إلى قاض عادل مجتهد يحكم بينهم ويقطع نزاعهم وإن كان فتواه مخالفا لفتوى أحد
المتخاصمين أو مرجعه؟
وبالجملة فصدر المقبولة يرتبط بباب القضاء قطعا على ما هو الظاهر منها، فتدبر.
وقد ظهر بما ذكرناه بالتفصيل إمكان الخدشة في جميع ما ذكره في الجواهر لجواز
تصدي المقلد لأمر القضاء.
كلام للفاضل النراقي في المستند:
وفي المستند - بعد ما نسب إلى المشهور اعتبار الاجتهاد واستدل له بالإجماع
المنقول وبالأصل وباشتراط الإذن ولم يثبت لغير المجتهد - قال ما حاصله:
" إن كان مرادهم نفي قضاء غير المجتهد الذي لم يقلد حيا أو ميتا بتقليد حي بل رجع
إلى ظواهر الأخبار وكتب الفقهاء من غير قوة الاجتهاد فهو كذلك ولا ينبغي الريب فيه.
وإن كان مرادهم نفي قضاء غير المجتهد مطلقا فبعد ما علمت من عدم حجية الإجماع
المنقول يعلم ضعف الأدلة، لأن المقلد إذا علم فتوى مجتهد في جميع تفاصيل واقعة
حادثة بين متنازعين من مقلديه يعلم حكم الله في حقهما، فذلك المقلد عارف عالم
بحكم الشارع في حقهما فيكون مأذونا بالأخبار المتقدمة عالما بالحكم خارجا من
170

تحت الأصل، إلا أن يتحقق إجماع على خلافه وهو غير محقق. كيف؟! وكلمات أكثر
القدماء خالية عن ذكر المجتهد أو ما يرادفه.
إلا أنه يمكن أن يقال: إن أكثر تلك الأخبار وإن كان مطلقا شاملا للمقلد المذكور
أيضا إلا أن قوله (عليه السلام) في المقبولة: " ممن قد روى حديثنا " وفي التوقيع: " فارجعوا إلى
رواة أحاديثنا " مقيد بالمجتهد، إذ المتبادر منه الراوي للحديث المستنبط المستخرج منه
الأحكام على الطريق الذي ارتضاه الشارع.
ويدل على التخصيص أيضا المروي في مصباح الشريعة (1) المنجبر ضعفه بما ذكر أنه
قال أمير المؤمنين على (عليه السلام) لقاض: هل تعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا، قال: فهل
أشرفت على مراد الله - عز وجل - في أمثال القرآن؟ قال: لا، قال: إذا هلكت وأهلكت.
والمفتي يحتاج إلى معرفة معاني القرآن وحقائق السنن ومواطن (بواطن خ. ل)
الإشارات والآداب والإجماع والاختلاف، والاطلاع على أصول ما اجتمعوا (أجمعوا
خ. ل) عليه وما اختلفوا فيه، ثم إلى حسن الاختيار، ثم إلى العمل الصالح، ثم الحكمة، ثم
التقوى. وقال الصادق (عليه السلام): " لا يحل الفتيا لمن لا يستفتى (لا يصطفي خ. ل) من الله - عز و
جل - بصفاء سره وإخلاص عمله وعلانيته وبرهان من ربه في كل حال، لأن من أفتى
فقد حكم والحكم لا يصح إلا بإذن من الله وبرهانه. (2)
أقول: تسليمه - قدس سره - صدق عنوان العارف العالم على المقلد بعيد من مثله و
لا سيما لفظ العارف، حيث عرفت أن المعرفة لا تطلق إلا مع الإحاطة بجميع خصوصيات
الشيء ومميزاته، والمقلد ليس كذلك.
وأبعد من ذلك احتمال شمول الروايات الواردة في فضل العلماء والإرجاع إليهم
المستدل بها للولاية والإذن في القضاء لمن علم الحكم عن تقليد. هذا.
وأما ما رواه الكشي في عروة القتات بسنده عن أحمد بن الفضل الكناسي، قال: قال

1 - مصباح الشريعة / 41 - 42، الباب 63 في الفتيا. (= ط بيروت / 16 - 17، الباب 6 في الفتيا).
2 - المستند 2 / 517.
171

لي أبو عبد الله (عليه السلام): " أي شيء بلغني عنكم؟ " قلت: ما هو؟ قال: " بلغني أنكم أقعدتم
قاضيا بالكناسة. " قال: قلت: نعم جعلت فداك، ذاك رجل يقال له: عروة القتات وهو
رجل له حظ من عقل نجتمع عنده فنتكلم ونتسائل ثم نرد ذلك إليكم. قال: " لا بأس. " (1)
فليس دالا على جواز تصدى العامي للقضاء، بل دلالته على عدم الجواز أظهر. يظهر لك
ذلك من اعتراض الإمام (عليه السلام) ومن جواب الراوي، حيث يستفاد منه عدم تحقق قضاء
جازم، فتدبر.
6 - هل للفقيه أن ينصب المقلد للقضاء؟
قد يقال إن الأدلة الدالة على الإذن كما مر وإن كانت تختص بالفقهاء والمجتهدين، و
لكن يجوز للمجتهد المأذون فيه نصب مقلده العالم بمسائل القضاء عن تقليد لأمر القضاء،
بتقريب أن للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والوصي بمقتضى الولاية المطلقة نصب كل أحد لذلك وإن لم يكن
مجتهدا. وكل ما كان لهما كان للفقيه الجامع للشرائط أيضا، لعموم أدلة الولاية والنيابة.
فإن قلت: لا نسلم جواز نصب العامي من قبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الوصي، لدلالة المقبولة
على اعتبار الاجتهاد في المنصوب له.
قلت: إن المقبولة لا تدل إلا على نصب الفقيه، وأما كون ذلك بإلزام شرعي وكون
الفقاهة معتبرا بحكم الشرع فممنوع. فلعل الإمام الصادق (عليه السلام) حيث أراد النصب بنحو عام
راعى في نصبه جانب الاحتياط، فلم ينصب غير الفقيه حذرا من أن يتمتع بهذا النصب
بعض من لا يكون أهلا للقضاء، وعلى هذا فلا مانع من

1 - اختيار معرفة الرجال / 371.
172

نصب غير الفقيه أيضا بحسب الشرع ولا سيما إذا كان لفرد خاص يكون تحت إشراف
الوالي، كما كان شريح تحت إشراف أمير المؤمنين (عليه السلام). هذا.
ولكن يمكن أن يقال - مضافا إلى ما مر من ظهور المقبولة في كون الإمام (عليه السلام) بصدد
بيان شرائط القاضي ومن يجوز التحاكم إليه شرعا لا شرائط المنصوب من قبله فقط - إن
المستفاد من خبري سليمان بن خالد وإسحاق بن عمار المتقدمين اختصاص القضاء
شرعا بالنبي والوصي، فلا أهلية لغيرهما له، غاية الأمر استثناء الفقيه الجامع للشرائط
بالدليل فلا دليل على استثناء غيره. بل لعل الفقيه أيضا كما مر يكون من مصاديق الوصي،
فإنه وصى الوصي بمقتضى أدلة الولاية ولا سيما قوله: " اللهم ارحم خلفائي "، فلا استثناء
أصلا، فتأمل.
وكيف كان فلا دليل على صحة قضاء المقلد واستثنائه. ولا يكفي في ذلك عموم دليل
الولاية، إذ الولاية لا تتحقق واقعا فيما لا شرعية له ومقتضى مفهوم الحصر في الخبرين
عدم شرعية قضاء غير النبي والوصي. فبين الدليلين عموم من وجه فيتعارضان في نصب
المقلد للقضاء، إذ مقتضى عموم الولاية شرعيته، ومقتضى عموم مفهوم الحصر عدم
شرعيته، وبعد تساقط الدليلين يرجع إلى الأصل في المسألة، ومقتضاه عدم الصحة و
الشرعية، فتأمل.
7 - هل يجوز للمجتهد أن يوكل العامي المقلد للقضاء؟
قد يقال سلمنا أن القضاء منصب لا يصح جعله لغير الفقيه على ما مر، ولكن يجوز
للفقيه أن يوكل المقلد العالم بمسائل القضاء عن تقليد لذلك بإطلاق أدلة الوكالة. فهو
يقضي في الوقائع نيابة عن الفقيه الذي وكله. ولعل قوله (عليه السلام) في قصة
173

اللص الوارد على المرأة وقتل ولدها: " اقض على هذا كما وصفت لك " (1) كان من
هذا القبيل.
وأجيب عن ذلك بمنع الإطلاق فيما توهم إطلاقه من أدلة الوكالة كصحيحة معاوية بن
وهب وجابر بن يزيد جميعا عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: " من وكل رجلا على إمضاء أمر
من الأمور فالوكالة ثابتة أبدا حتى يعلمه بالخروج منها كما أعلمه بالدخول فيها " (2)
وصحيحة هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " في رجل وكل آخر على وكالة في
أمر من الأمور... قال: نعم، إن الوكيل إذا وكل ثم قام عن المجلس فأمره ماض أبدا، و
الوكالة ثابتة حتى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة يبلغه أو يشافه بالعزل عن الوكالة. " (3)
إذ التمسك بالإطلاق يتوقف على كون الخبرين في مقام البيان من هذه الجهة، و
ليست الروايتان في مقام بيان ما فيه الوكالة، بل بيان أن الوكالة بعد ثبوتها تبقى ما لم يبلغه
العزل، فتدبر.
وتوهم كون التوكيل من الأمور العقلائية غير المحتاجة إلى دليل شرعي، بل يكفي
فيها عدم الردع، مدفوع أولا بأن التمسك ببناء العقلاء إنما يصح فيما ثبت بناؤهم و
استقرت سيرتهم عليه حتى في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام)، كما في العقود والإيقاعات
المتعارفة والوكالة في أمثالها.
وأما الوكالة في القضاء فلم يثبت كونها أمرا متعارفا في تلك الأعصار. وثبوت
السيرة في بعض مصاديق الوكالة لا يكفي لإثبات السيرة والإمضاء في غيره.
وثانيا على فرض ثبوت السيرة فما دل على حصر القضاء في النبي والوصي،

1 - الوسائل 19 / 45، الباب 23 من أبواب قصاص النفس، الحديث 2.
2 - الوسائل 13 / 285، الباب 1 من أحكام الوكالة، الحديث 1.
3 - الوسائل 13 / 286، الباب 2 من أحكام الوكالة، الحديث 1.
174

وكذا المقبولة ونحوها يكفي في الردع عنها.
وبالجملة قد تحصل لك مما مر بطوله أن القضاء أولا وبالذات لله - تعالى - ولرسله و
للأوصياء. وثبوته لغيرهم يحتاج إلى دليل. والأصل عدم نفوذه إلا من أهله. والقدر
المتيقن ممن ثبت له في عصر الغيبة هم الفقهاء. ويشهد لذلك المقبولة والمشهورة و
غيرهما من الأدلة.
والاحتياط الذي يحكم به العقل والشرع في باب الدماء والأموال والأعراض أيضا
يقتضي رعاية هذا الشرط.
وقد ترى أن شريحا مع سابقته في أمر القضاء اشترط عليه أمير المؤمنين (عليه السلام) أن لا ينفذ
القضاء حتى يعرضه عليه:
ففي صحيحة هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " لما ولى أمير المؤمنين (عليه السلام)
شريحا القضاء اشترط عليه أن لا ينفذ القضاء حتى يعرضه عليه. " (1)
فهو - عليه السلام - كان يلتفت إلى أهمية أمر القضاء، وأن له ارتباطا عميقا بالنفوس
المحترمة والأعراض والأموال فتجب الدقة والاحتياط فيها.
وعلى هذا فإذا لم يوجد قضاة مجتهدون واجدون للشرائط بقدر المحاكم الدارجة كما
لعله كذلك في عصرنا فالأحوط إن لم يكن أقوى تصدي بعض من يقدر ويطلع على
موازين القضاء إجمالا ولو عن تقليد لأمر التحقيق وتهية المقدمات، ثم يحال القضاء و
الحكم الجازم إلى القاضي المجتهد الواجد للشرائط. ويجب على المجتهدين التصدي
لذلك وقبوله بقدر الكفاية، كما هو واضح. هذا.
ولكن لو لم يتيسر ذلك بأي علة كان فلا يبعد أن يقال إنه حيث لا يتصور حكومة
إسلامية بدون سلطة القضاء وربما كان ضرر تعطيل القضاء وإهماله كثيرا جدا بحيث
يخاف منه على بيضة الإسلام وكيان المسلمين ففي هذه الصورة يجوز بل يجب على
الفقيه المتصدي للحكومة الإسلامية نصب بعض الملتزمين المحتاطين ممن

1 - الوسائل 18 / 6، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.
175

يطلع على الموازين ولو عن تقليد أو توكيله بمقدار الضرورة، ولكن يراقب أعمالهم و
على فرض الخطأ يجبر أخطأهم. ووجه ذلك واضح بعد فرض الضرورة والأهمية. و
باب التزاحم باب واسع في الفقه يحل به كثير من الحوادث الواقعة.
وفي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): " ليس شيء مما حرم الله إلا وقد أحله لمن
اضطر إليه. " (1)
وليس أمر القضاء بأهم من الإمامة الكبرى، ولو فرض عدم وجود الفقيه الواجد
للشرائط لأن يتصدى لها فلا شك في وجوب تصدي المؤمنين العدول الواقفين على
مصالح الإسلام والمسلمين لها، ولا يجوز تعطيلها أو إحالة أمور المسلمين إلى الطغاة
الظالمين، فتدبر.
8 - هل يجزي التجزي في الاجتهاد؟
على فرض اعتبار الاجتهاد في القاضي فهل يجزي التجزي فيه، أو يعتبر كونه مجتهدا
مطلقا، أو يفصل بين وجود المطلق وعدمه؟ وجوه. واختار التفصيل في كفاية
الأحكام. (2)
أقول: قد يقع الإشكال في أصل فرض التجزي في الاجتهاد بتقريب أن الاجتهاد إن
كان عبارة عن الاستنباط الفعلي للأحكام بأن يستخرجها من أدلتها التفصيلية بالفعل
أمكن فيه التجزي والتبعض، وأما إذا أريد به ملكة الاستنباط والقدرة عليه فهي أمر
بسيط، وأمرها دائر بين الوجود والعدم، فلا يتصور فيه تبعيض.

1 - الوسائل 16 / 137، الباب 12 من كتاب الايمان، الحديث 18.
2 - كفاية الأحكام / 261.
176

اللهم إلا أن يقال إن مباني مسائل الفقه بحسب السهولة والغموض مختلفة، ولعل
استنباط بعض المسائل يتوقف على إدراك بعض المباني الصعبة الدقيقة والإحاطة بها، و
بعضها يبتني على المباني السهلة الساذجة، والأفراد بحسب مراتب الإدراك مختلفون
فيمكن التجزي والتبعيض. وتحقيق البحث موكول إلى محل آخر.
وكيف كان فاستدل في الكفاية لكفاية التجزي بخبر أبي خديجة عن الصادق (عليه السلام):
" انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا، فاجعلوه بينكم فإني قد جعلته قاضيا
فتحاكموا إليه. " (1)
ولا يعارضه المقبولة الظاهرة في اعتبار الاجتهاد المطلق بمنطوقها بل بمفهومها، فيقدم
منطوق خبر أبي خديجة على مفهوم المقبولة لكونه أظهر. وإن شئت قلت: إنه يخصص
إطلاق مفهوم المقبولة بمنطوق الخبر.
ولكن يرد على ذلك أولا أن إطلاق الخبر يقتضي كفاية التجزي وإن تمكنا من
المجتهد المطلق.
وثانيا أن خبر أبي خديجة ورد بنقل آخر وفيه: " اجعلوا بينكم رجلا ممن قد عرف
حلالنا وحرامنا، فإني قد جعلته قاضيا. " (2)
وظاهره اعتبار الاجتهاد المطلق كالمقبولة.
وكون النقلين روايتين مستقلتين صادرتين حتى يؤخذ بكل منهما مشكل، إذ من
المحتمل قريبا كونهما رواية واحدة وقع الاختلاف فيها من ناحية الرواة. فلا مجال
للاستدلال بها للمقام، فيرجع إلى الأصل في المسألة، ومقتضاه عدم الكفاية.

1 - الوسائل 18 / 4، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث 5.
2 - الوسائل 18 / 100، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 6. ولفظة " عليكم " بعد قوله
" جعلته " ليست في التهذيب بطبعيه وإن وجدت في الوسائل. واعتمد في النقل على التهذيب.
177

وربما يقال: إن الظاهر من قوله: " عرف أحكامنا " و " عرف حلالنا وحرامنا "، هو
المعرفة الفعلية التفصيلية، ومن الواضح ندرة تحقق ذلك بالنسبة إلى جميع الأحكام
فيجزي التجزي بحسب الفعلية قطعا.
ولا بأس بهذا القول، فتدبر.
9 - هل يتعين الأعلم مع الإمكان أو لا؟
قال المحقق في قضاء الشرائع:
" إذا وجد اثنان متفاوتان في الفضيلة مع استكمال الشرائط المعتبرة فيهما فإن قلد
الأفضل جاز. وهل يجوز العدول إلى المفضول؟ فيه تردد. والوجه الجواز، لأن خلله
ينجبر بنظر الإمام. " (1)
وقال في المسالك ما ملخصه:
" لا إشكال في رجحان تقديم الأعلم لكن هل يتعين ذلك؟ فيه قولان مرتبان على أن
المقلد هل يجب عليه تقليد الأعلم أم يتخير؟ فيه قولان للأصوليين والفقهاء:
أحدهما: الجواز، لاشتراك الجميع في الأهلية، ولما اشتهر من أن الصحابة كانوا يفتون
مع اشتهارهم بالاختلاف في الأفضلية ولم ينكر عليهم أحد من الصحابة، فيكون إجماعا
منهم.
والثاني: وهو الأشهر بين الأصحاب المنع، لأن الظن بقول الأعلم أقوى، واتباع
الأقوى أولى. ولأن أقوال المفتين بالنسبة إلى المقلد كالأدلة، فكما يجب العمل بالدليل
الراجح يجب تقليد الأفضل. ورواية عمر بن حنظلة عن الصادق (عليه السلام) صريحة في هذا.
وفي كل واحد من أدلة الجانبين نظر... " (2)

1 - الشرائع 4 / 69.
2 - المسالك 2 / 353.
178

أقول: إن كان اختلاف المتخاصمين يرجع إلى الاختلاف في الحكم الشرعي الكلي
فترتب اعتبار الأعلمية في القاضي بينهما على اعتبارها في أمر التقليد واضح. وأما إذا
كان اختلافهما في الموضوعات وكانت الشبهة موضوعية كما هو الغالب في الدعاوى
فالترتب على تلك المسألة غير واضح. هذا.
ولكن الأصل في المسألة يقتضي اعتبار الأعلمية، فإنه القدر المتيقن.
وللقائل بعدم الاعتبار أن يستدل بوجهين:
الأول: إطلاق المقبولة والمشهورة والتوقيع الشريف ونحوها مما استفيد منه ولاية
الفقيه والإذن له في القضاء. بل المشهورة بأحد النقلين تدل على كفاية التجزي أيضا كما
مر، فيكفي المطلق غير الأعلم بطريق أولى.
ودعوى عدم كون المقبولة والمشهورة في مقام البيان من هذه الجهة بل في مقام
الردع عن الرجوع إلى قضاة الجور، مدفوعة. إذ الظاهر كونهما في مقام بيان عقد النفي و
عقد الإثبات معا، ولا سيما المقبولة فإنها تشتمل على سؤالين وجوابين مستقلين: الأول:
للردع عن الرجوع إليهم، والثاني: للإرجاع إلى الفقهاء من شيعتهم، فراجع.
الثاني: استقرار السيرة في زمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) على الرجوع
والإرجاع إلى
آحاد الصحابة من غير لحاظ الأعلمية مع وضوح اختلافهم في الفضيلة، بل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
أرجع بنفسه إلى بعض الصحابة مع وجود نفسه ووجود أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي قال:
هو (صلى الله عليه وآله وسلم) في حقه: " أقضاهم علي بن أبي طالب. " (1) هذا.

1 - سنن ابن ماجة 1 / 55، المقدمة، الباب 11، الحديث 154.
179

ما يستدل به على اعتبار الأعلمية:
ويستدل على اعتبار الأعلمية بأمور:
الأول: الأصل.
ويرد عليه أن الأصل لا يقاوم ما مر من الدليلين.
الثاني: ما في الجواهر من:
" الإجماع المحكى عن المرتضى في ظاهر الذريعة والمحقق الثاني في صريح
حواشي الجهاد من الشرائع على وجوب الترافع ابتداء إلى الأفضل وتقليده، بل ربما ظهر
من بعضهم أن المفضول لا ولاية له أصلا مع وجود الأفضل. " (1)
ويرد عليه عدم ثبوت الإجماع المفيد، بل المحقق عدمه لعدم كون المسألة معنونة في
كتب القدماء من أصحابنا. وقد مر أن المقبولة وغيرها تشمل الأعلم وغيره، وعليه
استقرت السيرة أيضا.
وفي الدروس:
" لو حضر الإمام في بقعة وتحوكم إليه فله رد الحكم إلى غيره إجماعا، فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
كان يرد الحكم إلى على (عليه السلام) في مواضع. " (2)
وفي الجواهر:
" لم نتحقق الإجماع عن المحقق الثاني، وإجماع المرتضى مبنى على مسألة تقليد

1 - الجواهر 40 / 45.
2 - الدروس / 171.
180

المفضول الإمامة العظمى مع وجود الأفضل، وهو غير ما نحن فيه. " (1)
الثالث: أن الظن بقول الأعلم أقوى، وترجيح المرجوح قبيح.
ويرد عليه مضافا إلى منع القوة دائما إذ لعل المفضول يوافق كثيرا من أفاضل
الأموات، أنه لا دليل على تعين الأخذ بهذا الرجحان هنا بعد احتمال وجود الرجحان في
تسهيل الأمر على الناس بالتخيير بين الأفضل وغيره. وإطلاق المقبولة وغيرها شاهد
بذلك.
الرابع: ما في كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك: " ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك
في نفسك ممن لا تضيق به الأمور ولا تمحكه الخصوم ولا يتمادى في الزلة... " (2)
ويرد عليه أنه لا دلالة فيه على اعتبار الأعلمية، إذ المراد بالأفضل في كلامه (عليه السلام) من
اشتمل على صفات كمالية عديدة ذكرها (عليه السلام)، كما يظهر بالمراجعة. ولو سلم شمول إطلاقه
للأعلمية أيضا فهو في مقام بيان وظيفة الوالي، فلا يدل على تكليف المتخاصمين، فتأمل.
الخامس: بعض الروايات الدالة على تقديم الأفقه على غيره:
ففي مقبولة عمر بن حنظلة السابقة: " قلت: فإن كان كل رجل اختار رجلا من أصحابنا
فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما، واختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم؟
قال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما،

1 - الجواهر 40 / 45.
2 - نهج البلاغة، فيض / 1009; عبده 3 / 104; لح / 434، الكتاب 53.
181

ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر. " (1)
وروى الصدوق بإسناده عن داود بن الحصين، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في رجلين اتفقا
على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف، فرضيا بالعدلين فاختلف
العدلان بينهما، عن قول أيهما يمضى الحكم؟ قال: " ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا
وأورعهما فينفذ حكمه، ولا يلتفت إلى الآخر. " ورواه الشيخ أيضا. (2)
وروى الشيخ بإسناده عن موسى بن أكيل، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سئل عن رجل
يكون بينه وبين أخ له منازعة في حق فيتفقان على رجلين يكونان بينهما فحكما فاختلفا
فيما حكما. قال: وكيف يختلفان؟ قال: حكم كل واحد منهما للذي اختاره الخصمان.
فقال: " ينظر إلى أعدلهما وأفقههما في دين الله فيمضى حكمه. " (3)
ومن المحتمل رجوع الروايات الثلاث إلى قصة واحدة، فإن الراوي عن عمر بن
حنظلة كما مر هو داود بن الحصين، فلعل رواية الصدوق نقل بالمعنى لقطعة من الرواية
الأولى وسقط عمر بن حنظلة من سندها، وموسى بن أكيل لم يكن سائلا بل كان حاضرا
في المجلس حين ما سأل ابن حنظلة، فتدبر.
نقل كلام صاحب العروة ونقده:
قال صاحب العروة في كتاب القضاء من ملحقاتها بعد اختيار تقديم الأعلم في البلد
أو ما يقرب منه:
" لكون الإطلاقات مقيدة بالأخبار الدالة على الرجوع إلى المرجحات عند اختلاف

1 - الوسائل 18 / 75، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1. ويعتمد في النقل على الكافي
1 / 47، كتاب فضل العلم، باب اختلاف الحديث، الحديث 10.
2 - الوسائل 18 / 80، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 20.
3 - الوسائل 18 / 88، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 45.
182

الحاكمين من الأفقهية والأصدقية والأعدلية...
ودعوى أن مورد أخبار المرجحات التي هي العمدة في المقام خصوص صورة
اختيار كل من المترافعين حاكما، أو صورة رضاهما بحكمين فاختلفا فلا دلالة فيها على
وجوب الرجوع إلى الأعلم مطلقا، مدفوعة بأن الظاهر منها أن المدار على الأرجح عند
التعارض مطلقا، كما هو الحال في الخبرين المتعارضين بل في صورة عدم العلم
بالاختلاف أيضا، لوجوب الفحص عن المعارض.
لكن هذا إذا كان مدرك الحكم هو الفتوى وكان الاختلاف فيها، بأن كانا مختلفين في
الحكم من جهة اختلاف الفتوى. وأما إذا كان أصل الحكم معلوما وكان المرجع إثبات
الحق بالبينة واليمين والجرح والتعديل ونحو ذلك فلا دلالة في الأخبار على تعين
الأعلم. " (1)
أقول: ما ذكره " قده " من عدم دلالة الروايات بالنسبة إلى الشبهة الموضوعية التي هي
أكثر موارد الترافع واضح.
وأما ما ذكره من الدلالة في الشبهة الحكمية مطلقا فيمكن المناقشة فيه، إذ مورد
الروايات كما ذكر هو صورة اختيار كل منهما حاكما، أو رضاهما معا بحاكمين واختلف
الحاكمان في حكمهما. وحيث لا يرتفع التخاصم حينئذ إلا بتعين أحدهما فلا محالة حكم
الإمام (عليه السلام) بإعمال الترجيح وتقدم الأفقه الأعدل فلا دلالة لها على تعين اختياره في
بادي الأمر وعدم جواز رضاهما بغير الأفقه.
بل المفروض في المقبولة اختيار أحدهما لغير الأفقه، ولو لم يجز ذلك لكان على
الإمام (عليه السلام) الردع عنه لا الاقتناع ببيان حكم اختلافهما فقط بإعمال الترجيح.
هذا مضافا إلى أن المستفاد من هذه الروايات هو الترجيح بالأعدلية والأصدقية و
نحوهما أيضا، ولم نجد أحدا يفتي بتعينها في الابتداء.
نعم، لو قلنا في مسألة التقليد بتعين تقليد الأعلم، كما هو الأقوى في صورة

1 - ملحقات العروة الوثقى لآية الله المرحوم السيد محمد كاظم اليزدي 3 / 8 و 9، كتاب القضاء،
الفصل 1، المسألة 1.
183

العلم باختلافهما تفصيلا أو إجمالا في المسائل المبتلى بها، فالمترافعان لو جهلا حكم
المسألة وكان غرضهما تحصيل العلم بها فلا محالة يجب عليهما من أول الأمر الرجوع
إلى الأعلم. وأما إذا علما بها عن اجتهاد أو تقليد صحيح واختلفا في النظر، كما إذا كان
نظر الورثة كون منجزات المريض من الثلث ونظر الموهوب له في مرض الموت كونها
من الأصل فاحتاجا إلى الترافع والقضاء، فلا دليل حينئذ على تعين الرجوع إلى الأعلم،
بل إطلاق المقبولة وغيرها يقتضي العدم، فتأمل.
وكيف كان فمقتضى إطلاق المقبولة والمشهورة والتوقيع الشريف مما دل على الإذن
في القضاء هو كفاية الاجتهاد وعدم اعتبار الأعلمية ولم نجد ما يوجب رفع اليد عن هذا
الإطلاق، فالظاهر عدم اعتبارها. ولو سلم فالظاهر أن المراد به هو الأعلم في البلد وما
يقرب منه لا مطلقا كما هو واضح. هذا كله في مسألة القضاء.
وأما مسألة التقليد فللتفصيل فيها محل آخر. وملخص الكلام فيها أنه إن كان المستند
للتقليد هي الروايات كالتوقيع الشريف ورواية تفسير الإمام ونحوهما فالإطلاق فيها
يقتضي العموم وعدم تعين الأعلم.
وأما إذا قلنا بكون المستند فيه هو بناء العقلاء في رجوع الجاهل في كل فن إلى أهل
الخبرة فيه وأنه ليس للشرع فيه تأسيس فالظاهر أن العقلاء مع العلم باختلاف أهل
الخبرة كالأطباء مثلا تفصيلا أو إجمالا في المسائل المبتلى بها لهذا المقلد يقدمون الأعلم
على غيره، بل لعلهم كذلك مطلقا في المسائل المهمة كالمريض الذي يخاف عليه التلف
اللهم إلا إذا كان فتوى غير الأعلم مطابقا للاحتياط أو حصل منه وثوق واطمينان أقوى.
نعم، في المسائل الساذجة غير المهمة ربما يرجعون فيها إلى غير الأعلم أيضا، لكونه
أسهل أو أقرب أو أخف مؤونة ونحو ذلك.
ولا يخفى أن المسائل الدينية كلها مهمة عند الشارع والمتشرعة. والاشتغال اليقيني
بها يقتضي تحصيل البراءة اليقينية، وأصالة عدم الحجية أيضا تقتضي تعين الأعلم، فتدبر.
184

10 - اهتمام الإسلام بالقسط والعدل والحكم بالحق:
1 - قال الله - تعالى -: " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان
ليقوم الناس بالقسط، وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس. " (1)
يظهر من الآية الشريفة أن من الأهداف الأساسية لبعث الرسل وإنزال الكتب ووضع
الموازين المقررة هو القسط، وقد جعل الله الحديد والسلاح ضمانة لتنفيذها وإجرائها.
2 - وقال: مخاطبا للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): " وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط، إن الله
يحب المقسطين. " (2)
3 - وقال: " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن
قوم على أن لا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون. " (3)
4 - وقال: " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو
الوالدين والأقربين، إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما، فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا، و
إن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا. " (4)
5 - وقال: " قل أمر ربي بالقسط. " (5)
6 - وقال: " فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا، إن الله يحب المقسطين. " (6)

1 - سورة الحديد (57)، الآية 25.
2 - سورة المائدة (5)، الآية 42.
3 - سورة المائدة (5)، الآية 8.
4 - سورة النساء (4)، الآية 135.
5 - سورة الأعراف (7)، الآية 29.
6 - سورة الحجرات (49)، الآية 9.
185

7 - وقال: " وأوفوا الكيل والميزان بالقسط، لا نكلف نفسا إلا وسعها، وإذا قلتم
فاعدلوا ولو كان ذا قربى. " (1)
8 - وقال: " ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا، وإن كان مثقال
حبه من خردل آتينا بها وكفى بنا حاسبين. " (2)
9 - وقال: " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم
أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين. " (3)
10 - وقال: " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن
تحكموا بالعدل، إن الله نعما يعظكم به، إن الله كان سميعا بصيرا. " (4)
11 - وقال: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء
والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون. " (5)
12 - وقال: " فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم، وقل آمنت بما أنزل
الله من كتاب، وأمرت لا عدل بينكم، الله ربنا وربكم، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم. " (6)
13 - وقال: " وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا
عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق. " (7)
14 - وقال: " يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع

1 - سورة الأنعام (6)، الآية 152.
2 - سورة الأنبياء (21)، الآية 47.
3 - سورة الممتحنة (60)، الآية 8.
4 - سورة النساء (4)، الآية 58.
5 - سورة النحل (16)، الآية 90.
6 - سورة الشورى (42)، الآية 15.
7 - سورة المائدة (5)، الآية 48.
186

الهوى فيضلك عن سبيل الله، إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما
نسوا يوم الحساب. " (1)
إلى غير ذلك من الآيات الآمرة بالعدل والقسط والحكم بالحق.
15 - وفي نهج البلاغة فيما رده أمير المؤمنين (عليه السلام) من قطائع عثمان: " والله لو وجدته
قد تزوج به النساء وملك به الإماء لرددته، فإن في العدل سعة. ومن ضاق عليه العدل
فالجور عليه أضيق. " (2)
أقول: ووجهه أنه إذا كان الحاكم على النظام هو العدل ففي ظله تحفظ وتصان حقوق
جميع الأفراد والطبقات، وأما إذا فشا الجور والظلم صار مثله مثل النار إذا أصابت
الديار يحرق بها الرطب واليابس.
16 - وفي نهج البلاغة أيضا مخاطبا لزياد عامله على فارس وأعمالها: " استعمل
العدل واحذر العسف والحيف، فإن العسف يعود بالجلاء، والحيف يدعو إلى
السيف. " (3)
أقول: العسف: الشدة في غير حق. والجلاء: التفرق وترك الأوطان. والحيف: الميل
إلى الظلم. وظلم الحاكم وعماله هو العامل الأساسي لثورة الأمة وقيامهم بالسيف في
قبال الحكومة.
17 - وفي أصول الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " العدل أحلى من الشهد وألين من
الزبد وأطيب ريحا من المسك. " (4)
18 - وفي الوسائل عن أبي إبراهيم (عليه السلام) في قول الله - عز وجل -: " يحيي الأرض

1 - سورة ص (38)، الآية 26.
2 - نهج البلاغة، فيض / 66; عبده 1 / 42; لح / 57، الخطبة 15.
3 - نهج البلاغة، فيض / 1304; عبده 3 / 266; لح / 559، الحكمة 476.
4 - أصول الكافي 2 / 147، كتاب الإيمان والكفر، باب الإنصاف والعدل، الحديث 15.
187

بعد موتها. " قال: " ليس يحييها بالقطر، ولكن يبعث الله رجالا فيحيون العدل فتحيى
الأرض لإحياء العدل. " (1)
19 - وفيه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ساعة إمام عادل أفضل من عبادة سبعين سنة. وحد
يقام لله في الأرض أفضل من مطر أربعين صباحا. " (2)
20 - وفي نهج البلاغة خطابا لعثمان: " فاعلم أن أفضل عباد الله عند الله، إمام عادل
هدي وهدى، فأقام سنة معلومة وأمات بدعة مجهولة. " (3)
21 - وفي سنن الترمذي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة و
أدناهم منه مجلسا إمام عادل. وأبغض الناس إلى الله - تعالى - وأبعدهم منه مجلسا إمام
جائر. " (4)
22 - وفيه أيضا عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): " الله مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار تخلى عنه ولزمه
الشيطان. " (5)
23 - وفي الوسائل عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): " لسان القاضي بين جمرتين من نار حتى يقضي بين
الناس فإما إلى الجنة وإما إلى النار. " (6)
24 - وفي تفسير مجمع البيان في تفسير قوله - تعالى -: " إن الله يأمركم أن تؤدوا
الأمانات إلى أهلها "، قال:
" ورد في الآثار أن صبيين ارتفعا إلى الحسن بن علي (عليه السلام) في خط كتباه وحكماه في
ذلك ليحكم أي الخطين أجود، فبصر به على (عليه السلام) فقال: يا بنى انظر كيف تحكم، فإن هذا
حكم والله سائلك عنه يوم القيامة. " (7)

1 - الوسائل 18 / 308، الباب 1 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 3.
2 - الوسائل 18 / 308، الباب 1 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 5.
3 - نهج البلاغة، فيض / 526; عبده 2 / 85; لح / 234، الخطبة 164.
4 - سنن الترمذي 2 / 394، أبواب الأحكام، الباب 4، الحديث 1344.
5 - سنن الترمذي 2 / 395، أبواب الأحكام، الباب 4، الحديث 1345.
6 - الوسائل 18 / 167، الباب 12 من أبواب آداب القاضي، الحديث 2.
7 - مجمع البيان 2 / 64. (الجزء 3).
188

25 - وفي الوسائل عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " من حكم في
درهمين بغير ما أنزل الله - عز وجل - فهو كافر بالله العظيم. " (1)
26 - وفي نهج البلاغة: " وأيم الله لأنصفن المظلوم من ظالمه، ولأقودن الظالم
بخزامته حتى أورده منهل الحق وإن كان كارها. " (2)
إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة الواردة في وجوب العدل وبركات العدل والعادل،
وذم الجور والجائر، فراجع مظانها. هذا.
وليس معنى العدالة تساوي الأفراد في المواهب والأعمال والمناصب، بل المراد بها
إعطاء كل ذي حق حقه، وتقديم الضوابط والموازين التي شرعها الله - تعالى - على
أساس الطبائع والقابليات على الأهواء والعلاقات الشخصية، وإلا فالمناصب و
الأعمال إنما تفوض على أساس القابليات. وعدم رعاية الاستعدادات والقابليات و
الاختصاصات المكتسبة فيها ظلم على الشخص وعلى الأمة.
وقد مر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من استعمل رجلا من عصابة وفيهم من هو أرضى لله
منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين. " (3) ونحوه غيره.
وفي نهج البلاغة في كتابه (عليه السلام) لمالك: " ولا يكونن المحسن والمسئ عندك بمنزلة
سواء، فإن في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريبا لأهل الإساءة على
الإساءة وألزم كلا منهم ما ألزم نفسه. " (4)
يعني أن المسئ بإساءته ألزم نفسه استحقاق اللوم والعقاب، والمحسن بإحسانه
ألزمها استحقاق الكرامة والثواب. هذا.
وفي ظل العدل الاجتماعي وإعطاء المناصب والأعمال على أساس القابليات

1 - الوسائل 18 / 18، الباب 5 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2.
2 - نهج البلاغة، فيض / 417; عبده 2 / 26; لح / 194، الخطبة 136.
3 - كنز العمال 6 / 25، الباب 1 من كتاب الإمارة والقضاء من قسم الأقوال، الحديث 14687.
4 - نهج البلاغة، فيض / 1000; عبده 3 / 98; لح / 430، الكتاب 53.
189

والتخصصات تنمو القابلية وتبرز الاستعدادات الكامنة قهرا.
نعم، جميع آحاد المجتمع وطبقاته متشاركون ومتساوون أمام القانون، كما يأتي
بيانه في البند الآتي.
11 - المساواة أمام القانون:
يتميز الحكم الإسلامي عن غيره بأنه لا يفرق فيه بين أفراد المجتمع وطبقاته في
تطبيق القوانين الحقوقية والجزائية عليهم وإخضاعهم لها. فلا فرق فيه بين القوى و
الضعيف، والرئيس والمرؤوس، والراعي والرعية، والعربي والأعجمي، والأسود و
الأحمر، والغنى والفقير، بل والبر والفاجر. فالقانون للجميع واحد والحاكم واحد و
المحكمة واحدة.
نعم، للتقوى كرامتها وقداستها المعنوية كما قال الله - تعالى -: " يا أيها الناس، إنا
خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله
أتقيكم. " (1)
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أيها الناس، ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد. ألا لافضل
لعربي على عجمي ولا عجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود
إلا بالتقوى. " (2)
كما أن الأعمال والمناصب لا تنال إلا بالقابليات والمؤهلات وليست جزافية كما مر
آنفا، ولكن القوانين الحقوقية والجزائية شاملة للجميع على وزان واحد، ولا يوجب
الاختلاف في النسب أو اللون أو الوطن أو اللغة أو المنصب تفاوتا فيها:
1 - فنرى الكتاب الكريم يقول في باب القصاص حاكيا عن التوراة: " وكتبنا عليهم
فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسن بالسن،

1 - سورة الحجرات (49)، الآية 13.
2 - تفسير القرطبي 16 / 342. (في تفسير سورة الحجرات).
190

والجروح قصاص. فمن تصدق به فهو كفارة له، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم
الظالمون. " (1)
فلم يفرق فيه بين نفس ونفس.
2 - وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " الناس كأسنان المشط سواء. " (2)
3 - وعنه أيضا: " لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوى غير متتعتع. " (3)
4 - وقد جسد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه المساواة على نفسه في قصته مع سوادة: ففي
سفينة البحار: " سوادة بن قيس هو الذي قال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في أيام مرضه (صلى الله عليه وآله وسلم): يا
رسول الله، إنك لما أقبلت من طائف استقبلتك وأنت على ناقتك العضباء وبيدك القضيب
الممشوق فرفعت القضيب وأنت تريد الراحلة فأصاب بطني، فأمره النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقتص
منه فقال: اكشف لي عن بطنك يا رسول الله، فكشف عن بطنه، فقال سوادة: أتأذن لي أن
أضع فمي على بطنك، فأذن له، فقال: أعوذ بموضع القصاص من رسول الله من النار يوم
النار، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): يا سوادة بن قيس، أتعفو أم تقتص؟ فقال: بل أعفو يا رسول الله. فقال:
اللهم اعف عن سوادة بن قيس كما عفا عن نبيك محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). " (4)
5 - وفي صحيح مسلم: " إن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا
من يكلم فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقالوا: ومن يجتري عليه إلا أسامة حب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)،
فكلمه أسامة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام فاختطب فقال:
أيها الناس، إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق
فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت

1 - سورة المائدة (5)، الآية 45.
2 - الفقيه 4 / 379، باب النوادر، الحديث 5798.
3 - نهج البلاغة، فيض / 1021; عبده 3 / 113; لح / 439، الكتاب 53.
4 - سفينة البحار 1 / 671. (باب السين سوادة بن قيس.).
191

لقطعت يدها. " (1)
6 - وفي صحيحة محمد بن قيس، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " كان لأم سلمة زوج
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمة فسرقت من قوم، فأتى بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فكلمته أم سلمة فيها، فقال
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): يا أم سلمة، هذا حد من حدود الله لا يضيع، فقطعها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). " (2)
7 - وروى الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لعمر بن الخطاب:
ثلاث إن حفظتهن وعملت بهن كفتك ما سواهن، وإن تركتهن لم ينفعك شيء سواهن. قال:
وما هن يا أبا الحسن؟ قال: " إقامة الحدود على القريب والبعيد، والحكم بكتاب الله في
الرضا والسخط، والقسم بالعدل بين الأحمر والأسود. " قال عمر: لعمري لقد أوجزت و
أبلغت. " (3)
8 - وفي حديث أن إحدى بنات أمير المؤمنين (عليه السلام) استعارت من أمين بيت المال علي
بن أبي رافع عقد لؤلؤ كان فيه، عارية مضمونة، فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): " أتخون
المسلمين؟ " فقال: معاذ الله أن أخون المسلمين، فقال: كيف أعرت بنت أمير المؤمنين
العقد الذي في بيت مال المسلمين بغير إذني ورضاهم؟
فقال: يا أمير المؤمنين، إنها ابنتك وسألتني أن أعيرها إياه تتزين به، فأعرتها إياه
عارية مضمونة مردودة، فضمنته في مالي وعلى أن أرده سليما إلى موضعه.
قال: فرده من يومك، وإياك أن تعود لمثل هذا فتنالك عقوبتي ثم أولى لابنتي لو كانت
أخذت العقد على غير عارية مضمونة مردودة لكانت إذا أول هاشمية قطعت يدها في
سرقة.
قال: فبلغ مقالته ابنته فقالت له: يا أمير المؤمنين: أنا ابنتك وبضعة منك، فمن أحق
بلبسه مني؟
فقال لها أمير المؤمنين (عليه السلام): يا بنت علي بن أبي طالب، لا تذهبن بنفسك عن الحق، أكل
نساء المهاجرين تتزين في هذا العيد بمثل هذا؟!

1 - صحيح مسلم 3 / 1315، كتاب الحدود، باب قطع السارق الشريف وغيره، الحديث 1688.
2 - الوسائل 18 / 332، الباب 20 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1.
3 - الوسائل 18 / 156، الباب 1 من أبواب آداب القاضي، الحديث 2.
192

قال: فقبضته منها ورددته إلى موضعه. (1)
9 - وفي كتاب لأمير المؤمنين (عليه السلام) إلى بعض عماله حين اختطف بعض ما كان عنده من
أموال المسلمين: " والله لو أن الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلت ما كانت لهما عندي
هوادة ولا ظفرا مني بإرادة حتى آخذ الحق منهما وأزيل الباطل عن مظلمتهما. " (2)
10 - وفي البحار عن المناقب:
" بلغ معاوية أن النجاشي هجاه فدس قوما شهدوا عليه عند على (عليه السلام) أنه شرب الخمر،
فأخذه على (عليه السلام) فحده، فغضب جماعة على على (عليه السلام) في ذلك، منهم طارق بن عبد الله
النهدي، فقال: يا أمير المؤمنين ما كنا نرى أن أهل المعصية والطاعة وأهل الفرقة و
الجماعة عند ولاة العقل ومعادن الفضل سيان في الجزاء حتى ما كان من صنيعك بأخي
الحارث - يعني النجاشي - فأوغرت صدورنا وشتتت أمورنا، وحملتنا على الجادة التي
كنا نرى أن سبيل من ركبها النار. فقال على (عليه السلام): " إنها لكبيرة إلا على الخاشعين. " يا أخا
بني نهد، هل هو إلا رجل من المسلمين انتهك حرمة من حرمة الله فأقمنا عليه حدها زكاة
له وتطهيرا؟ يا أخا بني نهد، إنه من أتى حدا فأليم (فأقيم) كان كفارته. يا أخا بني نهد، إن
الله - عز وجل - يقول في كتابه العظيم: " ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا،
اعدلوا هو أقرب للتقوى. " فخرج طارق والنجاشي معه إلى معاوية ويقال: إنه رجع. " (3)
فالنجاشي مع كونه من أشراف شيعة على (عليه السلام) وممن هجا معاوية لأجله (عليه السلام) لما قام
عليه الشهود بشرب الخمر أقام (عليه السلام) عليه الحد، وبذلك جسد (عليه السلام) العدالة والمساواة أمام
القانون.
11 - ومن أظهر مظاهر العدل والمساواة أن أمير المؤمنين - عليه السلام - في عصر

1 - تهذيب الأحكام 10 / 151، كتاب الحدود، باب من الزيادات، الحديث 37; والوسائل
18 / 521، الباب 26 من أبواب حد السرقة، الحديث 1.
2 - نهج البلاغة، فيض / 957; عبده 3 / 74; لح / 414، الكتاب 41.
3 - بحار الأنوار 41 / 9، تاريخ أمير المؤمنين (عليه السلام)، الباب 100، الحديث 2.
193

خلافته وحكومته حضر مجلس القضاء عند شريح القاضي وجلس في جنب يهودي
مخاصم; ففي البحار أيضا، عن المناقب، عن حلية الأولياء ونزهة الأبصار:
" أنه مضى على (عليه السلام) في حكومة إلى شريح مع يهودي فقال: يا يهودي، الدرع درعي و
لم أبع ولم أهب. فقال اليهودي: الدرع لي وفي يدي، فسأله شريح البينة، فقال (عليه السلام): هذا
قنبر والحسين يشهدان لي بذلك. فقال شريح: شهادة الابن لا تجوز لأبيه. وشهادة العبد
لا تجوز لسيده وإنهما يجران إليك. فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): ويلك يا شريح، أخطأت من
وجوه: أما واحدة فأنا إمامك تدين الله بطاعتي وتعلم أني لا أقول باطلا، فرددت قولي و
أبطلت دعواي، ثم سألتني البينة فشهد عبد، وأحد سيدي شباب أهل الجنة فرددت
شهادتهما، ثم ادعيت عليهما أنهما يجران إلى أنفسهما. أما إني لا أرى عقوبتك إلا أن
تقضي بين اليهود ثلاثة أيام، أخرجوه. فأخرجه إلى قبا، فقضى بين اليهود ثلاثا ثم
انصرف. فلما سمع اليهودي ذلك قال: هذا أمير المؤمنين جاء إلى الحاكم والحاكم حكم
عليه، فأسلم ثم قال: الدرع درعك سقطت يوم صفين من جمل أورق فأخذتها. " (1) هذا.
12 - وفي نهج البلاغة ومن كلام له - عليه السلام - لما عوتب على التسوية في العطاء:
" أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه؟ والله ما أطور به ما سمر سمير، وما
أم نجم في السماء نجما. لو كان المال لي لسويت بينهم، فكيف وإنما المال مال الله! ألا و
إن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف، وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في
الآخرة ويكرمه في الناس ويهينه عند الله. ولم يضع امرؤ ماله في غير حقه ولا عند غير
أهله إلا حرمه الله شكرهم وكان لغيره ودهم، فإن زلت به النعل يوما فاحتاج إلى
معونتهم فشر خدين وألأم خليل. " (2)
أقول: قوله " ما أطور به ما سمر سمير "، أي لا أفعله ولا أقاربه مدى الدهر. والخدين:
الصديق.

1 - بحار الأنوار 41 / 56، تاريخ أمير المؤمنين (عليه السلام)، الباب 105، الحديث 6.
2 - نهج البلاغة، فيض / 389; عبده 2 / 10; لح / 183، الخطبة 126.
194

13 - وفي كنز العمال: " إياكم والإقراد، يكون أحدكم أميرا أو عاملا فتأتي الأرملة و
اليتيم والمسكين فيقال: اقعد حتى ننظر في حاجتك فيتركون مقر دين لا تقضى لهم
حاجة ولا يؤمروا فينفضوا، ويأتي الرجل الغنى الشريف فيقعده إلى جانبه ثم يقول: ما
حاجتك؟ فيقول: حاجتي كذا وكذا فيقول: اقضوا حاجته وعجلوا. " (حل عن
أبي هريرة) (1)
أقول: أقرد الرجل: إذا سكت ذلا، كما في النهاية. (2)
14 - وفي خاتمة هذا البحث نذكر تفسيرا ذكره أمير المؤمنين (عليه السلام) للحق، وهو من أبلغ
الكلمات وألطفها في بيان أن جميع آحاد الناس في عرض واحد أمام الحق والقانون،
قال (عليه السلام):
" أما بعد فقد جعل الله - سبحانه - لي عليكم حقا بولاية أمركم، ولكم على من الحق
مثل الذي لي عليكم. فالحق أوسع الأشياء في التواصف، وأضيقها في التناصف، لا يجري
لأحد إلا جرى عليه، ولا يجري عليه إلا جرى له. ولو كان لأحد أن يجري له ولا يجرى
عليه لكان ذلك خالصا لله - سبحانه - دون خلقه، لقدرته على عباده ولعدله في كل ما
جرت عليه صروف قضائه. " (3)
وخلاصة الكلام أن الإسلام جاء والبشر أجناس متفرقون يتعادون ويتفاضلون في
الأنساب والألوان واللغات والأوطان، والأديان والمذاهب والمشارب، والشعوب و
القبائل، والحكومات والسياسات، يقاتل كل فريق منهم من خالفه في شيء من هذه
العلاقات البشرية، فدعاهم إلى الوحدة والتآخي والمساواة أمام القوانين العادلة
الصالحة لحفظ الحقوق وإعطاء كل ذي حق حقه.
فمن الأسف عدم معرفة المسلمين لبرامج الإسلام وعدم التفاتهم إلى مزاياها، و
اغترارهم بما ورد من الغرب والشرق.

1 - كنز العمال 6 / 29 الباب 1 من كتاب الإمارة والقضاء من قسم الأقوال، الحديث 14705.
2 - النهاية لابن الأثير 4 / 36.
3 - نهج البلاغة، فيض / 681; عبده 2 / 223; لح 2 / 332، الخطبة 216.
195

12 - استقلال القاضي:
لا يخفى أن انسجام النظام وسلامة الملك والمجتمع يتوقف على سلامة أمر القضاء و
قوته، كما مر.
ولا يحصل ذلك إلا باستقلال القاضي وقوته في السياسة والاقتصاد حتى لا يطمع
أحد في إجباره وإخضاعه أو استمالته وإطماعه.
وقد ألفت أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى هذه النكتة المهمة في عهده إلى مالك، فقال عقيب
الإشارة إلى مواصفات من ينتخب للقضاء: " ثم أكثر تعاهد قضائه وافسح له في البذل ما
يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس. وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من
خاصتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك، فانظر في ذلك نظرا بليغا. " (1)
وبالجملة، فيجب أن يكون القاضي مستقلا في الفكر والإرادة، قويا في التصميم و
القرار، غير متأثر بشيء من السلطات السياسية والاقتصادية.
وإنما عدت سلطة القضاء مستقلة عن سلطة التنفيذ لئلا تتأثر عنها ولتعم سلطته
مراتب سلطة التنفيذ فيهاب، منها جميع الوزراء والعمال والأمراء، بل قد رأيت أن
أمير المؤمنين (عليه السلام) أيضا في عصر خلافته حضر مجلس قضاء شريح مع خصمه اليهودي.
فيعلم بذلك أهمية موقعية القاضي. ولولا ذلك لأثرت السلطات السياسية أو الاقتصادية
في أمر القضاء والقضاة، فتدبر.

1 - نهج البلاغة، فيض / 1010; عبده 3 / 105; لح / 435، الكتاب 53.
196

13 - بعض آداب القضاء:
ونكتفي في هذا المجال بذكر بعض الأخبار وكلام الشيخ في النهاية، والتفصيل
يطلب من محله:
1 - روى محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إذا تقاضى
إليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع من الآخر، فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك
القضاء. " (1)
2 - وروى الصدوق بسنده، عن الرضا (عليه السلام)، عن آبائه، عن علي (عليه السلام)، قال: قال
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما وجهني إلى اليمن: " إذا تحوكم إليك فلا تحكم لأحد الخصمين دون أن
تسأل من الآخر. قال: فما شككت في قضاء بعد ذلك. " (2)
3 - وروى العياشي، عن الحسن، عن على (عليه السلام): أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعثه... فقال: " إن الناس
سيتقاضون إليك، فإذا أتاك الخصمان فلا تقض لواحد حتى تسمع الآخر، فإنه أجدر أن
تعلم الحق. " (3)
4 - صحيحة هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " كان أمير المؤمنين (عليه السلام) لا يأخذ
بأول الكلام دون آخره. " (4)
5 - وروى السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): " من ابتلى

1 - الوسائل 18 / 158، الباب 4 من أبواب آداب القاضي، الحديث 2.
2 - الوسائل 18 / 159، الباب 4 من أبواب آداب القاضي، الحديث 6.
3 - الوسائل 18 / 159، الباب 4 من أبواب آداب القاضي، الحديث 7.
4 - الوسائل 18 / 158، الباب 4 من أبواب آداب القاضي، الحديث 3.
197

بالقضاء فليواس بينهم في الإشارة وفي النظر وفي المجلس. " (1)
6 - وبهذا الإسناد أن رجلا نزل بأمير المؤمنين (عليه السلام) فمكث عنده أياما ثم تقدم إليه في
خصومة (حكومة خ. ل) لم يذكرها لأمير المؤمنين (عليه السلام) فقال له: " أخصم أنت؟ " قال: نعم.
قال: " تحول عنا، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى أن يضاف الخصم إلا ومعه خصمه. " (2)
7 - وروى السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من ابتلى
بالقضاء فلا يقضي وهو غضبان. " (3)
8 - وروى الكليني: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لشريح: " لا تشاور (لا تسار) أحدا في
مجلسك. وإن غضبت فقم، ولا تقضين وأنت غضبان. " قال: وقال أبو عبد الله (عليه السلام): لسان
القاضي وراء قلبه، فإن كان له قال، وإن كان عليه أمسك. " (4)
9 - وروى الكليني بسنده، عن سلمة بن كهيل، قال: سمعت عليا (عليه السلام) يقول لشريح:
" انظر إلى أهل المعك والمطل ودفع حقوق الناس من أهل المقدرة واليسار ممن يدلي
بأموال الناس إلى الحكام، فخذ للناس بحقوقهم منهم وبع فيها العقار والديار. فإني
سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " مطل المسلم الموسر ظلم للمسلم " ومن لم يكن له عقار
ودار ولامال فلا سبيل عليه. واعلم أنه لا يحمل الناس على الحق إلا من ورعهم عن
الباطل.
ثم واس بين المسلمين بوجهك ومنطقك ومجلسك حتى لا يطمع قريبك في حيفك و
لا ييأس عدوك من عدلك.
ورد اليمن على المدعي مع بينته، فإن ذلك أجلى للعمى وأثبت في القضاء.
واعلم أن المسلمين عدول بعضهم على بعض إلا مجلود في حد لم يتب منه أو معروف
بشهادة زور، أو ضنين.

1 - الوسائل 18 / 157، الباب 3 من أبواب آداب القاضي، الحديث 1.
2 - الوسائل 18 / 157، الباب 3 من أبواب آداب القاضي، الحديث 2.
3 - الوسائل 18 / 156، الباب 2 من أبواب آداب القاضي، الحديث 1.
4 - الوسائل 18 / 156، الباب 2 من أبواب آداب القاضي، الحديث 2.
198

وإياك والتضجر والتأذي في مجلس القضاء، الذي أوجب الله فيه الأجر ويحسن
فيه الذخر لمن قضى بالحق.
واعلم أن الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما، واجعل
لمن ادعى شهودا غيبا أمدا بينهما (بينهم)، فإن أحضرهم أخذت له بحقه، وإن
لم يحضرهم أوجبت عليه القضية.
وإياك أن تنفذ قضية في قصاص أو حد من حدود الله أو حق من حقوق المسلمين
حتى تعرض ذلك على ان شاء الله. ولا تقعد في مجلس القضاء حتى تطعم. " وراه الشيخ
والصدوق أيضا (1).
10 - وفي سنن أبي داود بسنده، عن عبد الله بن الزبير، قال: " قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
أن الخصمين يقعدان بين يدي الحكم. " (2)
11 - وفيه أيضا:
" دخل رجلان من أبواب كندة، وأبو مسعود الأنصاري جالس في حلقة، فقالا: ألا
رجل ينفذ بيننا؟ فقال رجل من الحلقة: أنا. فأخذ أبو مسعود كفا من حصى فرماه به وقال:
مه، إنه كان يكره التسرع إلى الحكم. " (3)
12 - وفي سنن الترمذي بسنده، عن أبي هريرة، قال: " لعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الراشي و
المرتشي في الحكم. " (4)
13 - وفي الوسائل، عن سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " وأما الرشا في الحكم فهو
الكفر بالله. " (5)

1 - الوسائل 18 / 155، الباب 1 من أبواب آداب القاضي، الحديث 1.
2 - سنن أبي داود 2 / 271، كتاب الأقضية، باب كيف يجلس الخصمان بين يدي القاضي.
3 - سنن أبي داود 2 / 269، كتاب الأقضية، باب في طلب القضاء والتسرع إليه.
4 - سنن الترمذي 2 / 397، أبواب الأحكام، الباب 9، الحديث 1351.
5 - الوسائل 18 / 163، الباب 8 من أبواب آداب القاضي، الحديث 8.
199

14 - وفي كنز العمال، عن أم سلمة: " من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في
لحظة وإشارته ومقعده ومجلسه. " (1)
15 - وفيه أيضا عن أم سلمة: " من ابتلى بالقضاء بين المسلمين فلا يرفع صوته على
أحد الخصمين ما لم يرفع على الآخر. " (2)
16 - وفيه أيضا عن ابن عمر: " لا يضيفن ذو سلطان خصما ولا يدنيه منه ولا يسمع منه
إلا وخصمه معه. " (3)
17 - وفيه أيضا عن أبي سعيد: " لا يقضي القاضي بين اثنين إلا وهو شبعان ريان. " (4)
هذا.
18 - وفي نهاية الشيخ الطوسي " قده ":
" وإذا أراد أن يجلس للقضاء ينبغي أن ينجز حوائجه التي تتعلق نفسه بها ليفرغ
للحكم ولا يشتغل قلبه بغيره، ثم يتوضأ وضوء الصلاة ويلبس أحسن ثيابه وأطهرها، و
يخرج إلى المسجد الأعظم في البلد الذي يحكم فيه، فإذا دخله صلى ركعتين، ويجلس
مستدبر القبلة لتكون وجوه الخصم إذا وقفوا بين يديه مستقبلة القبلة. ولا يجلس وهو
غضبان ولا جائع ولا عطشان ولا مشغول القلب بتجارة ولا خوف ولا حزن ولا فكر في
شيء من الأشياء، وليجلس وعليه هدي وسكينة ووقار...
وإذا دخل عليه الخصمان فلا يبدأ أحدهما بالكلام. فإن سلما أو سلم أحدهما رد
السلام دون ما سواه، وليكن نظره إليهما واحدا ومجلسهما بين يديه على السواء.
ولا ينبغي للحاكم أن يسأل الخصمين بل يتركهما حتى يبدءا بالكلام. " (5)

1 - كنز العمال 6 / 102، الباب 2 من كتاب الإمارة والقضاء من قسم الأقوال، الحديث 15032.
2 - كنز العمال 6 / 102، الباب 2 من كتاب الإمارة والقضاء من قسم الأقوال، الحديث 15033.
3 - كنز العمال 6 / 103، الباب 2 من كتاب الإمارة والقضاء من قسم الأقوال، الحديث 15037.
4 - كنز العمال 6 / 103، الباب 2 من كتاب الإمارة والقضاء من قسم الأقوال، الحديث 15040.
5 - النهاية / 337.
200

14 - في تكاليف القاضي واختياراته:
قال الماوردي في الاحكام السلطانية ما ملخصه:
" فصل: ولا تخلو ولاية القاضي من عموم أو خصوص، فإن كانت ولايته عامة مطلقة
فنظره مشتمل على عشرة أحكام:
أحدها: فصل في المنازعات وقطع التشاجر والخصومات، إما صلحا عن تراض أو
إجبارا بحكم بات.
والثاني: استيفاء الحقوق ممن مطل بها وإيصالها إلى مستحقيها بعد ثبوت استحقاقها
من أحد وجهين: اقرار، أو بينة.
واختلف في جواز حكمه فيها بعلمه فجوزه مالك والشافعي في أحد قوليه. وقال
أبو حنيفة: يجوز أن يحكم بعلمه فيما علمه في ولايته ولا يحكم بما علمه قبلها.
والثالث: ثبوت الولاية على من كان ممنوع التصرف بجنون أو صغر، والحجر على
من يرى الحجر عليه لسفه أو فلس حفظا للأموال على مستحقيها.
والرابع: النظر في الأوقاف بحفظ أصولها وتنمية فروعها والقبض عليها وصرفها في
سبلها. فإن كان عليها مستحق للنظر فيها راعاه، وإن لم يكن تولاه.
والخامس: تنفيذ الوصايا على شروط الموصي فيما أباحه الشرع ولم يحظره. فإن
كان فيها وصى راعاه، وإن لم يكن تولاه.
والسادس: تزويج الأيامى بالأكفاء إذا عد من الأولياء ودعين إلى النكاح. ولا يجعله
أبو حنيفة من حقوق ولايته لتجويزه تفرد الأيم بعقد النكاح.
والسابع: إقامة الحدود على مستحقيها، فإن كانت من حقوق الله - تعالى - تفرد
باستيفائه من غير طالب إذا ثبت بإقرار أو بينة، وإن كان من حقوق الآدميين كان موقوفا
على طلب مستحقه. وقال أبو حنيفة لا يستوفيها معا إلا بخصم مطالب.
والثامن: النظر في مصالح عمله من الكف عن التعدي في الطرقات والأفنية
201

وإخراج ما لا يستحق من الأجنحة والأبنية، وله أن ينفرد بالنظر فيها وإن لم يحضره
خصم. وقال أبو حنيفة: لا يجوز النظر فيها إلا بحضور خصم مستعد.
والتاسع: تصفح شهوده وأمنائه واختبار النائبين عنه من خلفائه في إقرارهم و
التعويل عليهم مع ظهور السلامة والاستقامة وصرفهم والاستبدال بهم مع ظهور الجرح
والخيانة.
والعاشر: التسوية في الحكم بين القوى والضعيف والعدل في القضاء بين المشروف و
الشريف، ولا يتبع هواه في تقصير المحق أو ممايلة المبطل، قال الله - تعالى -: " يا داود،
إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل
الله. إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب. " (1)
الخ. " (2)
وذكر نحو ذلك أيضا أبو يعلى الفراء في الأحكام السلطانية، فراجع (3)
أقول: فيظهر من ذلك أن عمل القاضي في تلك الأعصار لم يكن منحصرا في القضاء و
فصل الخصومات فقط، بل كان هو المرجع أيضا في الأمور العامة الحسبية التي لا مناص
عن إجرائها ولا يجوز إهمالها وليس لها مسؤول خاص. وربما يصير تصدي آحاد
الناس لها ومباشرتهم لتنفيذها موجبا للتنازع والتشاجر. وكذلك المتعارف في أعصارنا
أيضا كما تراه. ونحو ذلك إقامة الحدود والتعزيرات، بل والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر.
ولعل المراد بلفظ الحاكم المعول إليه الأمور الحسبية العامة في كلمات فقهائنا في
الأبواب المختلفة من الفقه أيضا هو الفقيه بما أنه منصوب للقضاء.
وهو المحتمل بل المظنون أيضا في قول الإمام الصادق (عليه السلام) في المقبولة: " فإني قد
جعلته عليكم حاكما " بقرينة مورد السؤال، وقوله في مشهورة أبي خديجة: " فإني

1 - سورة ص (38)، الآية 26.
2 - الأحكام السلطانية / 70.
3 - الأحكام السلطانية / 65.
202

قد جعلته قاضيا. "
1 - وفي خبر إسماعيل بن سعد، قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن رجل مات بغير وصية و
ترك أولادا ذكرانا وإناثا وغلمانا صغارا، وترك جواري ومماليك، هل يستقيم أن تباع
الجواري؟ قال: نعم.
وعن الرجل يصحب الرجل في سفره فيحدث به حدث الموت، ولا يدرك الوصية،
كيف يصنع بمتاعه وله أولاد صغار وكبار، أيجوز أن يدفع متاعه ودوابه إلى ولده الكبار
أو إلى القاضي؟ فان كان في بلدة ليس فيها قاض كيف يصنع؟ وإن كان دفع المال إلى
ولده الأكابر ولم يعلم به فذهب فلم يقدر على رده كيف يصنع؟ قال: إذا أدرك الصغار و
طلبوا فلم يجد بدا من إخراجه، إلا أن يكون بأمر السلطان.
وعن الرجل يموت بغير وصية وله ورثة صغار وكبار، أيحل شراء خدمه ومتاعه من
غير أن يتولى القاضي بيع ذلك؟ فإن تولاه قاض قد تراضوا به ولم يستأمروا الخليفة
أيطيب الشراء منه أم لا؟ فقال: إذا كان الأكابر من ولده معه في البيع فلا بأس به إذا رضي
الورثة وقام عدل في ذلك (1).
يظهر من هذا الخبر أيضا أن التصدي لأمور الصغار في تلك الأعصار كان من شؤون
القضاة.
ولعل المراد بالسلطان في الخبر أيضا هو القاضي المتسلط لا الخليفة، وبقوله في آخر
الخبر: " قام عدل " هو العدل من القضاة لا أي عدل كان، فتأمل.
2 - وفي خبر محمد بن إسماعيل بن بزيع، قال: مات رجل من أصحابنا ولم يوص.
فرفع أمره إلى قاضي الكوفة، فصير عبد الحميد القيم بماله... قال: فذكرت ذلك لأبي
جعفر (عليه السلام) وقلت له: يموت الرجل من أصحابنا ولا يوصي إلى أحد ويخلف جواري
فيقيم القاضي رجلا منا فيبيعهن؟ أو قال: يقوم بذلك رجل

1 - فروع الكافي 7 / 66 (ط. القديم 2 / 253)، كتاب الوصايا، باب من مات على غير وصية...،
الحديث 1; والوسائل 13 / 475، الباب 88 من كتاب الوصايا، الحديث 3; والوسائل 12 / 270،
الباب 16 من أبواب عقد البيع، الحديث 1.
203

منا فيضعف قلبه لأنهن فروج فما ترى في ذلك؟ قال: فقال: إذا كان القيم به مثلك و
مثل عبد الحميد فلا بأس (1)
يظهر من الحديث أن التصدي لأمور من لم يوص أيضا كان من شؤون القضاة في تلك
الأعصار.
3 - وفي رواية حفص بن غياث، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام): من يقيم الحدود؟
السلطان أو القاضي؟ فقال: " إقامة الحدود إلى من إليه الحكم. " (2)
والمراد بمن إليه الحكم هو القاضي الذي حكم في الواقعة، كما لا يخفى. هذا.
ولكن قال الكتاني:
" قال ابن العربي في الأحكام: الحدود على قسمين: الأول إيجابها وذلك للقضاة، و
تناول استيفائها وقد جعله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لقوم منهم علي بن أبي طالب ومحمد بن
مسلمة. " (3)
يظهر من ذلك أن للوالي والإمام تفويض إقامة الحدود إلى غير من قضى بها، وهو
الموافق للقاعدة أيضا فإن الجميع من شؤون الوالي يفوض ما شاء منها إلى من شاء ممن
يراه صالحا له. هذا.
ويتفرع على ما ذكرنا من شؤون القضاة أنه إذا منع أئمتنا المعصومون - عليهم السلام -
من الرجوع إلى قضاة عصرهم من قضاة الجور وأرجعوا شيعتهم إلى فقهاء الشيعة كما في
المقبولة والمشهورة فيمكن أن يستفاد من ذلك إرجاعهم إليهم في كل ما كان يرجع فيها
إلى هؤلاء القضاة من فصل الخصومات والتصدي للأمور الحسبية وإقامة الحدود
الشرعية والتعزيرات والإشراف على الوصايا والأوقاف ونحو ذلك.
اللهم إلا أن يجعل كون مورد السؤال هي المنازعات قرينة على إرادة خصوص فصل
الخصومات، فتأمل.

1 - الوسائل 12 / 270، الباب 16 من أبواب عقد البيع، الحديث 2.
2 - الوسائل 18 / 338، الباب 28 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1.
3 - التراتيب الإدارية 1 / 313.
204

ويظهر بما ذكر أيضا أن ما ذكره الأستاذ الإمام - مد ظله - في بيان مفاد المقبولة و
تقريب دلالتها على نصب الفقيه للقضاء والولاية الكبرى معا، بتقسيم المنازعات و
إرجاع بعضها إلى القضاة وبعضها إلى الولاة، محل إشكال، فإن المنازعات ولو كانت
للمطل والظلم على الضعيف كانت إلى القضاة.
وقد مر تفصيل الكلام في الفصل الثالث من الباب الخامس في تقريب دلالة المقبولة
على الولاية، فراجع.
15 - في ولاية المظالم:
قد عقد الماوردي في الأحكام السلطانية بعد باب القضاء بابا باسم ولاية المظالم، و
مثله أبو يعلى الفراء في كتابه. وهي - كما يظهر لك مما نذكر - تكون من متممات القضاء و
تكون المرجع الأعلى للشكايات والمظالم التي لا يقدر القضاة على حلها، أو لمظالم
نفس القضاة.
ونظيرها في عصرنا وبلادنا - بوجه ما - مجموع الديوان العالي والمحكمة العليا، و
ديوان العدالة، وإدارة التفتيش عن مظالم الموظفين. ولعلها بوحدتها تتضمن جميع ذلك.
قال الماوردي ما ملخصه:
" ونظر المظالم هو قود المتظالمين إلى التناصف بالرهبة، وزجر المتنازعين عن
التجاحد بالهيبة، فكان من شروط الناظر فيها أن يكون جليل القدر، نافذ الأمر، عظيم
الهيبة، ظاهر العفة، قليل الطمع، كثير الورع، لأنه يحتاج في نظره إلى سطوة الحماة وثبت
القضاة، فيحتاج إلى الجمع بين صفات الفريقين، وأن يكون بجلالة القدر نافذ الأمر في
الجهتين.
فإن كان ممن يملك الأمور العامة كالوزراء والأمراء لم يحتج النظر فيها إلى تقليد، و
كان له بعموم ولايته النظر فيها.
205

وإن كان ممن لم يفوض إليه عموم النظر احتاج إلى تقليد وتولية إذا اجتمعت فيه
الشروط المتقدمة...
فقد نظر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المظالم في الشرب الذي تنازعه الزبير بن العوام ورجل من
الأنصار، فحضره بنفسه فقال للزبير: " اسق أنت يا زبير ثم الأنصاري. " فقال الأنصاري:
إنه لابن عمتك يا رسول الله. فغضب من قوله وقال: " يا زبير أجره على بطنه حتى يبلغ
الماء إلى الكعبين. "
وإنما قال: أجره على بطنه أدبا له لجرأته عليه. واختلف لم أمره بإجراه الماء إلى
الكعبين هل كان حقا بينه لهما حكما أ وكان مباحا فأمر به زجرا؟ على جوابين. و
لم ينتدب للمظالم من الخلفاء الأربعة أحد، لأنهم في الصدر الأول مع ظهور الدين عليهم
بين من يقوده التناصف إلى الحق أو يزجره الوعظ عن الظلم، وانما كانت المنازعات
تجري بينهم في أمور مشتبهة يوضحها حكم القضاء...
ثم زاد من جور الولاة وظلم العتاة ما لم يكفهم عنه إلا أقوى الأيدي وأنفذ الأوامر.
فكان عمر بن عبد العزيز أول من ندب نفسه للنظر في المظالم، فردها وراعى السنن
العادلة وأعادها. ورد مظالم بني أمية على أهلها حتى قيل له - وقد شدد عليهم فيها و
أغلظ - إنا نخاف عليك من ردها العواقب، فقال: كل يوم أتقيه وأخافه دون يوم القيامة
لا وقيته!
ثم جلس لها من خلفاء بني العباس جماعة فكان أول من جلس لها المهدي، ثم
الهادي، ثم الرشيد، ثم المأمون، فآخر من جلس لها المهتدي حتى عادت الأملاك إلى
مستحقيها.
وقد كان ملوك الفرس يرون ذلك من قواعد الملك وقوانين العدل الذي لا يعم
الصلاح إلا بمراعاته، ولا يتم التناصف إلا بمباشرته.
وكانت قريش في الجاهلية حين كثر فيهم الزعماء وانتشرت فيهم الرياسة وشاهدوا
من التغالب والتجاذب ما لم يكفهم عنه سلطان قاهر عقدوا حلفا على رد المظالم و
إنصاف المظلوم من الظالم...
واجتمعت بطون قريش فتحالفوا في دار عبد الله بن جدعان على رد المظالم بمكة و
أن
206

لا يظلم أحد إلا منعوه وأخذوا للمظلوم حقه.
وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يومئذ معهم قبل النبوة وهو ابن خمس وعشرين سنة فعقدوا
حلف الفضول في دار عبد الله بن جدعان، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذاكرا للحال: لقد شهدت
في دار عبد الله بن جدعان حلف الفضول ما لو دعيت إليه لأجبت وما أحب أن لي به
حمر النعم. " (1) وأتى بقصته وما يزيده الإسلام إلا شدة...
وهذا وإن كان فعلا جاهليا دعتهم إليه السياسة فقد صار بحضور رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) له و
ما قاله في تأكيد أمره حكما شرعيا وفعلا نبويا.
فصل: فإذا نظر في المظالم من انتدب لها جعل لنظره يوما معروفا يقصده فيه
المتظلمون ويراجعه فيه المتنازعون، ليكون ما سواه من الأيام لما هو موكول إليه من
السياسة والتدبير إلا أن يكون من عمال المظالم المنفردين لها فيكون مندوبا للنظر في
جميع الأيام. وليكن سهل الحجاب، نزه الأصحاب.
ويستكمل مجلس نظره بحضور خمسة أصناف لا يستغني عنهم ولا ينتظم نظره إلا
بهم:
أحدهم: الحماة والأعوان، لجذب القوى وتقويم الجرئ.
والصنف الثاني: القضاة والحكام، لاستعلام ما يثبت عندهم من الحقوق ومعرفة ما
يجري في مجالسهم بين الخصوم.
والصنف الثالث: الفقهاء، ليرجع إليهم فيما أشكل.
والصنف الرابع: الكتاب، ليثبتوا ما جرى بين الخصوم.
والصنف الخامس: الشهود، ليشهدهم على ما أوجبه من حق وأمضاه من حكم.
والذي يختص بنظر المظالم يشتمل على عشرة أقسام:
فالقسم الأول: النظر في تعدي الولاة على الرعية وأخذهم بالعسف في السيرة. فهذا
من لوازم النظر في المظالم الذي لا يقف على ظلامة متظلم، فيكون لسيرة

1 - في نهاية ابن الأثير 3 / 456 في لغة فضل: " وفيه " شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا لو
دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت. " يعني حلف الفضول، سمي به تشبيها بحلف كان قديما بمكة
أيام جرهم على التناصف والأخذ للضعيف من القوي، وللغريب من القاطن، قام به رجال من جرهم
كلهم يسمى الفضل، منهم الفضل بن الحارث، والفضل بن وداعة، والفضل بن فضالة. "
207

الولاة متصفحا وعن أحوالهم مستكشفا ليقويهم إن أنصفوا ويكفهم إن عسفوا، و
يستبدل بهم إن لم ينصفوا...
والقسم الثاني: جور العمال فيما يجبونه من الأموال، فيرجع فيه إلى القوانين العادلة
في دواوين الأئمة فيحمل الناس عليها ويأخذ العمال بها وينظر فيما استزادوه، فإن
رفعوه إلى بيت المال أمر برده وإن أخذوه لأنفسهم استرجعه لأربابه...
والقسم الثالث: كتاب الدواوين، لأنهم أمناء المسلمين على ثبوت أموالهم فيما
يستوفونه له ويوفونه منه، فيتصفح أحوال ما وكل إليهم فإن عدلوا بحق من دخل أو خرج
إلى زيادة أو نقصان أعاده إلى قوانينه وقابل على تجاوزه...
وهذه الأقسام الثلاثة لا يحتاج والي المظالم في تصفحها إلى متظلم.
والقسم الرابع: تظلم المسترزقة من نقص أرزاقهم أو تأخرها عنهم وإجحاف النظر
بهم، فيرجع إلى ديوانه في فرض العطاء العادل فيجريهم عليه وينظر فيما نقصوه أو منعوه
من قبل فإن أخذه ولاة أمورهم استرجعه منهم، وإن لم يأخذوه قضاه من بيت المال.
كتب بعض ولاة الأجناد إلى المأمون أن الجند شعبوا ونهبوا. فكتب إليه: لو عدلت
لم يشعبوا ولو وفيت لم ينهبوا، وعزله عنهم، وأدر عليهم أرزاقهم.
والقسم الخامس: رد الغصوب، وهي ضربان:
أحدهما: غصوب سلطانية قد تغلب عليها ولاة الجور كالأملاك المقبوضة عن أربابها
إما لرغبة فيها وإما لتعد على أهلها. فهذا إن علم به والي المظالم عند تصفح الأمور أمر
برده قبل التظلم إليه، وإن لم يعلم به فهو موقوف على تظلم أربابه...
والضرب الثاني من الغصوب ما تغلب عليها ذوو الأيدي القوية وتصرفوا فيه تصرف
الملاك بالقهر والغلبة. فهذا موقوف على تظلم أربابه ولا ينتزع من يد غاصبه إلا بأحد
أربعة أمور: إما باعتراف الغاصب، وإما بعلم والي المظالم، وإما ببينة تشهد على الغاصب
وإما بتظاهر الأخبار الذي ينفي عنها التواطئ.
والقسم السادس: مشارفة الوقوف، وهي ضربان: عامة وخاصة، فأما العامة فيبدأ
بتصفحها وإن لم يكن فيها متظلم ليجريها على سبيلها ويمضيها على شروط
208

واقفها... وأما الوقوف الخاصة فإن نظره فيها موقوف على تظلم أهلها عند التنازع
فيها لوقفها على خصوم متعينين...
والقسم السابع: تنفيذ ما وقف القضاة من أحكامها، لضعفهم عن إنفاذها وعجزهم عن
المحكوم عليه لتعززه وقوة يده أو لعلو قدره وعظم خطره...
والقسم الثامن: النظر فيما عجز عنه الناظرون من الحسبة في المصالح العامة،
كالمجاهرة بمنكر ضعف عن دفعه والتعدي في طريق عجز عن منعه والتحيف في حق
لم يقدر على رده...
والقسم التاسع: مراعاة العبادات الظاهرة، كالجمع والأعياد والحج والجهاد من
تقصير فيها وإخلال بشروطها، فإن حقوق الله أولى أن تستوفى وفروضه أحق أن
تؤدى.
والقسم العاشر: النظر بين المتشاجرين والحكم بين المتنازعين، فلا يخرج في النظر
بينهم عن موجب الحق ومقتضاه. ولا يسوغ أن يحكم بينهم إلا بما يحكم به الحكام و
القضاة، وربما اشتبه حكم المظالم على الناظرين فيها فيجورون في أحكامها ويخرجون
إلى الحد الذي لا يسوغ فيها.
والفرق بين نظر المظالم ونظر القضاة من عشرة أوجه:
أحدها: أن لناظر المظالم من فضل الهيبة وقوة اليد ما ليس للقضاة.
والثاني: أن نظر المظالم يخرج من ضيق الوجوب إلى سعة الجواز، فيكون الناظر فيه
أفسح مجالا وأوسع مقالا.
والثالث: أنه يستعمل من فضل الإرهاب وكشف الأسباب بالأمارات الدالة وشواهد
الأحوال ما يضيق على الحكام، فيصل به إلى ظهور الحق ومعرفة المبطل من المحق.
والرابع: أن يقابل من ظهر ظلمه بالتأديب.
والخامس: أن له من التأني في ترداد الخصوم عند اشتباه أمورهم ما ليس للحكام إذا
سألهم أحد الخصمين فصل الحكم.
والسادس: أن له رد الخصوم إذا أعضلوا إلى وساطة الأمناء ليفصلوا التنازع بينهم
209

صلحا عن تراض، وليس للقاضي ذلك إلا عن رضى الخصمين بالرد.
والسابع: أن يفسح في ملازمة الخصمين إذا وضحت أمارات التجاحد ويأذن في
إلزام الكفالة فيما يسوغ فيه التكفل لينقاد الخصوم إلى التناصف.
والثامن: أنه يسمع من شهادات المستورين ما يخرج عن عرف القضاة في شهادة
المعدلين.
والتاسع: أنه يجوز له إحلاف الشهود عند ارتيابه بهم إذا بذلوا أيمانهم طوعا و
يستكثر من عددهم ليزول عنه الشك، وليس ذلك للحاكم.
والعاشر: أنه يجوز أن يبتدئ باستدعاء الشهود ويسألهم عما عندهم في تنازع
الخصوم، وعادة القضاة تكليف المدعى إحضار البينة.
فهذه عشرة أوجه يقع بها الفرق بين نظر المظالم ونظر القضاء في التشاجر والتنازع،
وهما فيما عداهما متساويان. " (1)
انتهى ما أردنا نقله من كلام الماوردي ونحو ذلك في كلام أبي يعلى، فراجع. (2)
أقول: يظهر لك بالتأمل في التكاليف العشر التي ذكرها الماوردي وأبو يعلي في
البحث السابق لولاية القضاء والتكاليف العشر التي ذكراها هنا لولاية المظالم، و
بالمقايسة بين التكاليف في البابين أن ولاية المظالم عندهم كأنها كانت مرتبة عالية
لولاية القضاء امتزج فيها كما قال الماوردي قوة السلطنة بنصف القضاء، وكانت تفترق
عن القضاء العادي بالقوة والشوكة الكثيرة، وكلتاهما كانتا من شؤون الولاية الكبرى.
وربما كان الوالي الأعظم بنفسه يتصدى لهما، كما نراه من تصدى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و
أمير المؤمنين (عليه السلام) كثيرا لكليهما. وأنت إذا تتبعت كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبه وفي
كتبه إلى عماله تجد عنايته واهتمامه كثيرا إلى رد المظالم وإحقاق الحقوق من قبل نفس
الوالي، حيث إنه بقدرته وقوته يكون أقدر على

1 - الأحكام السلطانية / 77 - 84.
2 - الأحكام السلطانية لأبي يعلى / 73 - 79.
210

ذلك من كل أحد:
1 - فهو (عليه السلام) بعد تصديه للخلافة رد على المسلمين ما أقطعه عثمان من أموالهم، وقال:
" والله لو وجدته قد تزوج به النساء وملك به الإماء لرددته، فإن في العدل سعة. " (1)
2 - وقال (عليه السلام) في كتابه لمالك: " واجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرغ لهم فيه
شخصك وتجلس لهم مجلس عاما، فتتواضع فيه لله الذي خلقك، وتقعد عنهم جندك و
أعوانك من أحراسك وشرطك حتى يكلمك متكلمهم غير متتعتع، فإني سمعت
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول في غير موطن: " لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من
القوي غير متتعتع. " (2)
3 - وقال أيضا: " ثم إن للوالي خاصة وبطانة فيهم استئثار وتطاول، وقلة إنصاف في
معاملة، فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال، ولا تقطعن لأحد من حاشيتك و
حامتك قطيعة، ولا يطمعن منك في اعتقاد عقدة تضر بمن يليها من الناس في شرب أو
عمل مشترك يحملون مؤونته على غيرهم، فيكون مهنأ ذلك لهم دونك وعيبه عليك في
الدنيا والآخرة.
وألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد. وكن في ذلك صابرا محتسبا واقعا ذلك من
قرابتك وخاصتك حيث وقع. " (3)
وأنت تعلم أن أكثر المظالم الكبيرة تقع من خاصة السلاطين وعمالهم بالاستناد إليه و
القرب منه.
4 - وقال في ضمن كتاب كتبه إلى بعض عماله حين اختطف بعض ما كان في يده من
أموال المسلمين: " والله لو أن الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلت ما كانت لهما عندي
هوادة ولا ظفرا مني بإرادة حتى آخذ الحق منهما وأزيل الباطل عن مظلمتهما. " (4)
إلى غير ذلك من الكلمات، وراجع في ذلك الفصل الثالث أيضا.

1 - نهج البلاغة، فيض / 66; عبده 1 / 42; لح / 57، الخطبة 15.
2 - نهج البلاغة، فيض / 1021; عبده 3 / 112; لح / 439، الكتاب 53.
3 - نهج البلاغة، فيض / 1025; عبده 3 / 115; لح / 441، الكتاب 53.
4 - نهج البلاغة، فيض / 957; عبده 3 / 74; لح / 414، الكتاب 41.
211

الفصل الخامس
في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإدارة الحسبة
والمقصود هنا التعرض لهما ولشروطهما إجمالا، وبيان أن لهما مراتب: بعضها من
الوظائف العامة الواجبة على كل مسلم بنحو الوجوب العيني على ما قيل أو الكفائي على
الأصح، وبعض مراتبها مما لا يتمكن منه كل أحد بل يجوز له التصدي له، ويكون من
شؤون الحكومة الإسلامية والسلطة التنفيذية ولا يجوز للأشخاص التصدي لها إلا بإذن
الحاكم.
وقد اصطلحوا على تسمية المؤسسة المفوض إليها هذه الوظيفة بإدارة الحسبة، و
الشخص المسؤول عنها بالمحتسب.
فنقول: في المسألة جهات من البحث:
الجهة الأولى:
في إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم الفرائض الشرعية، بل يحكم
بوجوبها العقل أيضا:
213

اعلم أنهما من أهم الفرائض التي حث عليهما الكتاب والسنة، وعليها يبتنى بقاء
أساس الدين واستمرار الرسالة الإلهية وحفظ نظام المسلمين وكيانهم.
ولعل الاهتمام بهما من خصائص الشريعة الإسلامية التي شرعت لكافة الناس و
تكون باقية طوال القرون والأعصار إلى يوم القيامة، فجعلت كل واحد ممن آمن بها
مسؤولا إجمالا عن بسطها ونشرها وحفظها.
والسر في ذلك أن الفرد من أفراد المجتمع ليس منعزلا عن غيره منفردا في المسير و
المصير، بل الإنسان مدني بالطبع ويتأثر بعضه ببعض في العقائد والأخلاق والأعمال بلا
إشكال، كما هو المشاهد في جميع الأجيال والأمم. وانحراف الفرد كما يضر بشخصه
يضر بالمجتمع أيضا، فيحكم العقل بلزوم الرقابة العامة وحفظ المجتمع عن الفساد مهما
أمكن، والشرع أيضا أوجب ذلك وجعلها من أهم الفرائض.
فكما أنه لو أصيب أحد من أفراد المجتمع بمرض جسماني معد كالوباء والطاعون و
نحوهما يعالج فورا بإعدام الجراثيم حذرا من السراية والشيوع في الأفراد والعائلات و
يحكم العقل بحسن ذلك بل بلزومه أيضا، فكذلك الأمراض الروحية والتخلفات
الأخلاقية لو لم يقف المجتمع في وجهها ولم يجاهد في قبالها لشاعت وأوجبت في
النهاية سقوط المجتمع وفساده.
فعلى الأمة الإسلامية ولا سيما على إمامها وممثلها أن تراقب بجميع طاقاتها ما يقع
خلال المجتمع وأن تساعد على بسط المعروف ونمو الخير وازدهاره وعلى قلع جذور
الشر وإنكاره.
وقد بلغت هذه الفريضة من الأهمية حدا جعلها أمير المؤمنين (عليه السلام) فوق الجهاد وسائر
أعمال البر بمراتب: ففي نهج البلاغة قال: " وما أعمال البر كلها والجهاد في سبيل الله
عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا كنفثة في بحر لجي. " (1)
والسر في ذلك أن قوام جميع الفرائض وبقاءها بحدودها وشروطها رهين بإقامة

1 - نهج البلاغة، فيض / 1263; عبده 3 / 244; لح / 542، الحكمة 374.
214

هذه الفريضة. مضافا إلى أن الجهاد كفاح خارجي، ولا أثر له ولا أهمية ما لم يصلح
الداخل، فالواجب أولا تطهير الداخل وإصلاحه ثم الإقدام على إصلاح الخارج، فتأمل.
الجهة الثانية:
في ان للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر درجات ومراتب:
لا يخفى أن الفريضتين ببعض مراتبهما مما يتمكن منه كل مسلم عارف بأحكام
الإسلام وضرورياته، فيستوي فيه الحاكم وغيره والمحتسب وغيره. وذلك كالإنكار
بالقلب وباللسان، فيجب على جميع الناس ومنهم الولاة فعل ذلك وإعانة من يفعله، و
يبدأ في الإنكار بالأسهل، فإن زال المنكر فهو، وإلا أغلظ. فإن توقف على الضرب و
الجراح فهل يجوز لكل أحد التصدي له ويجب عليه، أو يكون من شؤون الإمام أو من
نصبه لذلك ولا يجوز التصدي له إلا بإذن الحاكم؟ في المسألة قولان:
قال الشيخ في النهاية:
" الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضان من فرائض الإسلام، وهما فرضان على
الأعيان، لا يسع أحدا تركهما والإخلال بهما.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجبان بالقلب واللسان واليد إذا تمكن المكلف
من ذلك وعلم أنه لا يؤدي إلى ضرر عليه ولاعلى أحد من المؤمنين لا في الحال ولا في
مستقبل الأوقات أو ظن ذلك... وقد يكون الأمر بالمعروف باليد بأن يحمل الناس على
ذلك بالتأديب والردع وقتل النفوس وضرب من الجراحات إلا أن هذا الضرب لا يجب
فعله إلا بإذن سلطان الوقت المنصوب للرياسة. فإن فقد الإذن من جهته اقتصر على
الأنواع التي ذكرناها.
وإنكار المنكر يكون بالأنواع الثلاثة التي ذكرناها، فأما باليد فهو أن يؤدب فاعله
بضرب من التأديب: إما الجراح أو الألم أو الضرب، غير أن ذلك مشروط
215

بالإذن من جهة السلطان حسب ما قدمناه. فمتى فقد الإذن من جهته اقتصر على
الإنكار باللسان والقلب...
فأما إقامة الحدود فليس يجوز لأحد إقامتها إلا لسلطان الزمان المنصوب من قبل الله
- تعالى - أو من نصبه الإمام لإقامتها، ولا يجوز لأحد سواهما إقامتها على حال. " (1)
وقال المحقق في الشرائع:
" والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان إجماعا، ووجوبهما على الكفاية
يسقط بقيام من فيه كفاية. وقيل: بل على الأعيان، وهو أشبه... ولو لم يرتفع إلا باليد مثل
الضرب وما شابهه جاز.
ولو افتقر إلى الجراح أو القتل هل يجب؟ قيل: نعم. وقيل: لا إلا بإذن الإمام، وهو
الأظهر. " (2)
فالشيخ والمحقق أفتيا باشتراط الجراح بإذن الإمام. نعم، اختلفا فيما اشتمل على
الضرب فقط كما لا يخفى. ولعل الحق مع المحقق في الضرب القليل غير المبرح إذا مست
الحاجة إليه، لاستقرار السيرة وإطلاق الأدلة.
وقال العلامة في المختلف ما ملخصه:
" لو افتقر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى ضرب من التأديب والإيلام و
الإضرار به والجراح وإتلاف نفسه قال الشيخ في الاقتصاد: الظاهر من مذهب شيوخنا
الإمامية أن هذا الجنس من الإنكار لا يكون إلا للأئمة أو لمن يأذن له الإمام. "
ثم قال:
" وكان المرتضى يخالف في ذلك ويقول: يجوز ذلك بغير إذنه. والشيخ وافق
المرتضى في كتاب التبيان، وفي النهاية قال بقوله في الاقتصاد. وقال سلار: وأما القتل
والجراح في الإنكار فإلى السلطان ومن يأمره. وأبو الصلاح لم يشترط السلطان في

1 - النهاية / 299.
2 - الشرائع 1 / 341 و 343.
216

ذلك وبه قال ابن إدريس. وابن البراج اشترط إذن الإمام. والأقرب ما قاله
السيد. " (1)
أقول: ويستدل للقول بعدم الاشتراط بأنهما واجبان لمصلحة العالم، فلا يتوقفان على
شرط كغيرهما من المصالح، وبأنهما واجبان على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام (عليه السلام) فيجبان علينا
أيضا لوجوب التأسي.
وبإطلاق الآيات والروايات الواردة في الباب ولا سيما ما اشتمل منها على الوجوب
ولو ببسط اليد وصك الجباه:
ففي خبر جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام): " فأنكروا بقلوبكم والفظوا بألسنتكم وصكوا بها
جباههم. " (2)
وفي خبر يحيى الطويل، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " ما جعل الله بسط اللسان وكف
اليد ولكن جعلهما يبسطان معا ويكفان معا. " (3)
وفي نهج البلاغة: " ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله العليا وكلمة الظالمين السفلى
فذلك الذي أصاب سبيل الهدى. " (4)
وفيه أيضا: " فمنهم المنكر للمنكر بقلبه ولسانه ويده، فذلك المستكمل لخصال
الخير. " (5)
وفي تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): " من رأى منكم منكرا فلينكر بيده إن استطاع. " (6)
ويرد على الوجه الأول أن وجوبهما لمصلحة العالم لا ينافي اشتراطهما بإذن الإمام

1 - المختلف 1 / 339.
2 - الوسائل 11 / 403، الباب 3 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 1.
3 - الوسائل 11 / 404، الباب 3 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 2.
4 - الوسائل 11 / 405، الباب 3 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 8.
5 - الوسائل 11 / 406، الباب 3 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 9.
6 - الوسائل 11 / 407، الباب 3 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 12.
217

حذرا من الهرج والمرج واختلال النظام، فلعل المفسدة المترتبة عليهما حينئذ أقوى.
ويرد على الثاني أن التأسي إنما يجب في الأحكام العامة لا في الوظائف الخاصة، و
الحكومة وشؤونها من الوظائف الخاصة، اللهم إلا أن يقال إنه يجب لأخذ بإطلاق قوله:
" لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة " (1) ما لم يقم دليل على الاختصاص.
وأما الروايات المذكورة: فخبر جابر ضعيف بوجوه، ويحيى الطويل مجهول اللهم إلا
أن يجبر ذلك بكون الراوي عنه ابن أبي عمير، وعبارتا نهج البلاغة لا تنفيان الاشتراط، إذ
ليستا في مقام البيان من هذه الجهة، نظير ما ورد في فضل الحج والصلاة، حيث لا يستفاد
منهما عدم اشتراط الوجوب أو الواجب بشيء. هذا مضافا إلى أن إلقاء الخطبة الأولى
كان في صفين لتحريض شيعته على القتال، وواضح أن قتالهم كان تحت لوائه (عليه السلام) و
بأمره، فتأمل إذ الإنصاف أن إطلاق الروايات وآية التأسي مما يمكن التمسك بهما لعدم
الاشتراط.
ويمكن أن يستدل للاشتراط، بوجوب عصمة النفوس وحرمة إراقة الدماء والتصرف
في سلطة الغير إلا بالمقدار المتيقن جوازه.
وبأن الضرب والجرح يتوقفان على القدرة والسلطة.
وبأنه لا يتيسر لكل فرد فرد تشخيص الموارد والشروط والظروف المناسبة وإنما
يتيسر ذلك لمن له إحاطة بالمجتمع وعلاقاته وإمكاناته.
وبأن تصدي كل فرد فرد لذلك يوجب اختلال النظام غالبا، حيث إن الضرب و
الإيلام إذا لم يكونا على أساس القدرة والسلطة الخارجية يستعقبان غالبا رد الفعل و
المقاومة من الطرف فيقع النزاع والكفاح والهرج والمرج وفي النهاية يختل النظام قهرا.
ولأجل ذلك كله أيضا جعلت إقامة الحدود الشرعية والتعزيرات المعينة من

1 - سورة الأحزاب (33)، الآية 21.
218

شؤون الحاكم، وليس لكل أحد التصدي لها وإن كان عالما بالمسائل والأحكام:
ففي خبر حفص بن غياث، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام): من يقيم الحدود: السلطان أو
القاضي؟ فقال: " إقامة الحدود إلى من إليه الحكم. " (1) هذا.
ولا يخفى أن الاحتياط في باب الدماء وقاعدة السلطنة يقتضيان العمل بالاشتراط.
اللهم إلا إذا لم نتمكن من الوصول إلى الإمام وتوقف حفظ بيضة الإسلام وكيان
المسلمين على الإقدام، فإن الدفاع عنهما لا يشترط فيه إذن الإمام بلا إشكال، فتدبر.
نعم، هنا شيء يجب التنبيه عليه، وهو أن ظاهر الشيخ والمحقق وغيرهما كون إذن
الإمام شرطا للوجوب، نظير اشتراط وجوب الحج بالاستطاعة، فلا يجب تحصيل
الشرط، إذ الشرط للوجوب بمنزلة الموضوع له والحكم متأخر رتبة عن موضوعه، فلا
يعقل تأثيره في إيجابه.
ولكن سبق منا في الباب الثالث عند التعرض الإجمالي لمسألة الأمر بالمعروف و
النهي عن المنكر استظهار كون الوجود مشروطا بالإذن لا الوجوب، نظير اشتراط وجود
الصلاة بالطهارة. فالوجوب مطلق والواجب مشروط بإذن الإمام وكونه تحت إشرافه و
نظره حذرا من الهرج واختلال النظام.
وعلى هذا فيجب على كل مسلم السعي في بسط المعروف وإشاعته وقطع جذور
المنكر والفساد والسعي في إقامة الحدود الإلهية بقدر المكنة والقدرة.
غاية الأمر أن وجود العمل فيما إذا استلزم الجراح مشروط بإذن الحاكم فيجب
الاستيذان منه وإيقاع العمل تحت إشراف حكمه لئلا يلزم الهرج والمرج والاختلال.
ولو فرض ضعف الحكومة وقلة أعوانها وجب إعانتها ومساعدتها في بسط
المعروف ودفع المنكر. ولو فرض عدم وجود الحكومة الحقة العادلة وجب على الجميع

1 - الوسائل 18 / 338، الباب 28 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1.
219

السعي لتحقيقها لذلك ولو بتشكيل دويلة صغيرة في منطقة معينة، كما يشهد بذلك
صحيحة زرارة التي جعل فيها الولاية أفضل الخمسة التي بني عليها الإسلام لكونها
مفتاحهن والوالي هو الدليل عليهن. (1)
فلا يجوز للمسلمين أن يقعدوا في بيوتهم ولا يبالوا بما يقع في مجتمعهم من الفحشاء
والفساد وإراقة الدماء وغصب الأموال وهتك النواميس وهضم الكفار والصهاينة
لحقوق المسلمين والمستضعفين بعذر أن رفع هذه المفاسد كلها من وظائف الحاكم. ولذا
قلنا في محله بأن أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بإطلاقها وبمفهومهما الوسيع
من أقوى الأدلة على وجوب تأسيس الحكومة العادلة والدولة الحقة، فراجع ما حررناه
هناك.
الجهة الثالثة:
في أنه هل يكون وجوبهما على الأعيان أو على الكفاية؟
قد مر من نهاية الشيخ أنهما فرضان على الأعيان.
وقال في الاقتصاد:
" واختلفوا في كيفية وجوبه: فقال الأكثر إنهما من فروض الكفايات إذا قام به البعض
سقط من الباقين. وقال قوم: هما من فروض الأعيان، وهو الأقوى عندي لعموم آي
القرآن والأخبار. " (2)
وفي الشرائع أفتى أولا بوجوبهما على الكفاية، ثم جعل وجوبهما على الأعيان أشبه،
أي أشبه بالقواعد والإطلاقات (3).
وحكى في الجواهر عن السيد والحلبي والقاضي والحلي والفاضل والشهيدين

1 - الوسائل 1 / 7، الباب 1 من أبواب مقدمة العبادات، الحديث 2.
2 - الاقتصاد / 147. فصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
3 - الشرائع 1 / 341.
220

وجمع آخر وجوبهما على الكفاية، وعن الشيخ وابن حمزة وفخر الإسلام وبعض
آخر وجوبهما على الأعيان (1). هذا.
وحكى في المختلف عن السيد المرتضى أنه احتج للكفاية:
" بأن المطلوب في نظر الشرع تحصيل المعروف وارتفاع المنكر، ولم يتعلق غرضه
من مباشر بعينه فيكون واجبا على الكفاية ".
قال العلامة:
" والأقرب قول السيد، وهو اختيار أبي الصلاح وابن إدريس. " (2)
أقول: والظاهر أن الحق مع هؤلاء لما ذكره السيد من الدليل.
فإن قلت: إن لكل كلام تأثيرا خاصا في النفوس، فلعل الفاعل للمنكر لا يرتدع بنهي
هذا ويرتدع بنهي ذاك، أو لعله لا يرتدع بنهي واحد ويرتدع بنهي جماعة، فما دام المنكر
باقيا يجب على كل من اطلع عليه النهي عنه. وظاهر الآيات والروايات أيضا هو العينية،
بل هي الأصل في الوجوب على ما قيل.
قلت: نحن نفرص قيام أشخاص بالنهي بمقدار نقطع بكفايته في ارتداع الطرف لو كان
ممن يرتدع، بحيث لا يكون أثر لما زاد قطعا، فهل يجب مع ذلك شركة البقية في عرض
هؤلاء مع العلم بأن الغرض يحصل بدونهم؟ لا أظن أن أحدا يلتزم بذلك، فالوجوب كفائي
بلا إشكال، وظاهر الآيات والروايات إنما يؤخذ به ما لم يظهر الخلاف. هذا.

1 - الجواهر 21 / 359.
2 - المختلف 1 / 338.
221

تصوير الوجوب الكفائي:
وقد ناسب هنا أن نتعرض إجمالا لماهية الوجوب الكفائي، والفرق بينه وبين العيني
وما يقتضيه الإطلاق منهما ليتضح حكم المقام أيضا، فنقول: قال في الكفاية:
" والتحقيق أنه سنخ من الوجوب وله تعلق بكل واحد بحيث لو أخل بامتثاله الكل
لعوقبوا على مخالفته جميعا، وإن سقط عنهم لو أتى به بعضهم. " (1)
أقول: لا يخفى أن ما ذكره - قدس سره - تعريف له بلحاظ الخاصة والأثر لا بلحاظ
الماهية.
وقال في موضع آخر:
" قضية إطلاق الصيغة كون الوجوب نفسيا تعيينيا عينيا، لكون كل واحد مما يقابلها
يكون فيه تقيد الوجوب وتضيق دائرته، فإذا كان في مقام البيان ولم ينصب قرينة عليه
فالحكمة تقتضي كونه مطلقا، وجب هناك شيء آخر أولا، أتى بشيء آخر أولا، أتى به
آخر أولا. " (2)
وظاهر هذا الكلام أن العيني والكفائي بعد اشتراكهما في توجه الخطاب إلى الجميع
يفترقان بأن الوجوب في العيني مطلق وفي الكفائي مشروط بعدم إتيان الغير، فإن أتى به
البعض لم يجب على الآخرين، وإن لم يأت به أحد وجب على الجميع لوجود شرطه في
الجميع.
وقال السيد الأستاذ آية الله العظمى البروجردي - طاب ثراه - ما محصله بتوضيح
منا:

1 - كفاية الأصول 1 / 228.
2 - كفاية الأصول 1 / 116.
222

" إن الفرق بينهما عند القوم يكون في ناحية المكلف، بتقريب أن المكلف في العيني هو
جميع الأفراد بنحو العموم الاستغراقي، فيكون كل فرد مكلفا بالاستقلال. وأما في
الكفائي فعند البعض هو المجموع من حيث المجموع، وعند آخرين أحد الأفراد.
ويرد على الأول أن المجموع من حيث المجموع أمر اعتباري لا حقيقة له، فلا يتصور
تكليفه. وعلى الثاني أن أحد الأفراد إن أريد مفهومه ففيه أنه غير قابل للتكليف، وإن
أريد به مصداقه أعني الفرد المردد خارجا ففيه أنه لا خارجية له حتى يتوجه إليه البعث.
فالتحقيق أن الوجوب له ثلاث إضافات: إضافة إلى الطالب، وإضافة إلى المطلوب، و
إضافة إلى المطلوب منه. والفرق بين العيني والكفائي ليس في المكلف والمطلوب منه
كما يظهر من القوم، ولا في إطلاق الوجوب واشتراطه كما في الكفاية. بل الفرق بينهما
بعد اشتراكهما في كون كل فرد مكلفا مستقلا إنما يكون في المطلوب والمكلف به.
فالمطلوب في الوجوب الكفائي هو نفس طبيعة الفعل بإطلاقها الذاتي، وفي العيني طبيعة
الفعل بقيد صدورها من هذا الفاعل الخاص.
والسر في ذلك أن الأوامر تابعة للمصالح والأغراض، فإن كانت المصلحة في صدور
الفعل عن كل واحد من المكلفين بحيث تترتب المصلحة على الفعل بقيد صدوره عن
الفاعل الخاص كما في الأمر الصلاتي حيث إن تكامل الشخص وارتداعه عن الفحشاء
والمنكر يترتبان على صلاة نفسه فحينئذ يكون الوجوب عينيا.
وإن كانت المصلحة في مجرد تحقق طبيعة الفعل في الخارج من غير دخالة لصدورها
عن فاعل خاص كما في دفن الميت وتجهيزه فحينئذ يتعلق التكليف بنفس الطبيعة
بإطلاقها الذاتي ويكون الواجب كفائيا، إذ تقييدها بقيد صدورها من الشخص يكون
جزافا.
وحيث إن كل واحد من المكلفين قادر على تحصيل هذه الطبيعة المطلقة أمر المولى
كل واحد منهم بذلك، فإذا حصلت في الخارج سقط جميع الأوامر قهرا بحصول متعلقها،
وإن عصى الجميع عوقبوا جميعا.
223

والحاصل أن الفرق بين العيني والكفائي لا يرجع إلى المكلف، بل إلى المكلف به. و
المكلف به في الكفائي مطلق الطبيعة، وفي العيني الطبيعة بقيد صدورها من الفاعل
الخاص. وعلى هذا فإطلاق المتعلق يقتضي الكفائية. نعم، ننكر أن توجه الخطاب و
التكليف يوجب الانصراف إلى العينية، فتدبر. " (1)
انتهى ما أردنا نقله من كلام السيد الأستاذ - قدس سره - وإن شئت التفصيل فراجع ما
قررناه من أبحاثه في كتاب نهاية الأصول المطبوع سابقا.
والظاهر أن ما ذكره حق لامرية فيه.
نعم، ما ذكره من عدم إمكان توجه التكليف إلى المجموع من حيث المجموع قابل
للخدشة، إذ الظاهر أن الواجبات الاجتماعية والحدود الإلهية كلها وضعت على عاتق
المجتمع بنحو العام المجموعي، غاية الأمر أن المتصدي لامتثالها هو قيم المجتمع و
ممثله، أعني الإمام والحاكم كما فصلنا في بعض المباحث السابقة.
ولكن الظاهر أن الواجبات الكفائية ليست من هذا القبيل، فتأمل. إذ من الممكن
إرجاع الواجبات الاجتماعية أيضا إلى الكفائية، وإن كان الواجب مباشرة الإمام و
عماله لتنفيذها. فالواجب على الأمة كفاية هو تحصيل الحكومة وتأييدها ومساعدتها، و
الواجب على الحاكم تنفيذ الواجبات الاجتماعية كإجراء الحدود ونحوها، فتدبر.
الجهة الرابعة:
في ذكر بعض الآيات والروايات الواردة في المسألة:
لا يخفى أن الآيات والروايات الواردة في المسألة أيضا على طائفتين، يستفاد من
بعضها كون الفريضة فريضة عامة كلف بها كل مسلم ومن بعضها كونها فريضة خاصة
أعني كونها من شؤون الحكومة.

1 - نهاية الأصول 1 / 210 و 211.
224

ومحصل الجمع بينهما أن العمل بهذه الفريضة كغيرها من الفرائض يتوقف على العلم و
القدرة. فمثل الإنكار بالقلب والإرشاد باللسان في الأحكام الواضحة الضرورية مما
يقدر عليه كل مسلم، وأما الضرب والجرح بل وبعض مراتب الإرشاد باللسان في بعض
الأحيان فهي مما لا يقدر عليه كل فرد أو لا يخلو صدوره عنه من ضرر كما مر، فيكون
على عاتق الحاكم المتسلط وأياديه قهرا. نعم، يجب على الأمة تأييده ومساعدته، بل و
السعي لتحقيق الحكومة الحقة أيضا كما مرت الإشارة إليه. فلنذكر بعض آيات المسألة و
رواياتها:
1 - فمن الطائفة الأولى قوله - تعالى -: " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض،
يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله و
رسوله. أولئك سيرحمهم الله، إن الله عزيز حكيم. " (1)
فالحكم في الآية عام لكل مؤمن ومؤمنة. وقد صرح بخصوص المؤمنات أيضا
ليكون نصا في التعميم. والظاهر من الولاية هو سلطة الشخص وأولويته. فالله - تعالى -
بولايته العامة على عباده جعل لكل مؤمن ومؤمنة حق الولاية والسلطة على غيره
ليكون له حق الأمر والنهي، غاية الأمر أن الولاية لها مراتب والولاية هنا محدودة
بمقدار جواز الأمر والنهي.
لا يقال: الأمر والنهي في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إرشاديان لكونهما
إرشادا إلى إطاعة أمر الله ونهيه، نظير أوامر الفقيه في مقام بيان الأحكام، فلا يتوقفان
على ثبوت الولاية والسلطة الشرعية.
فإنه يقال: لا نسلم ذلك وإن زعمه بعض، بل الظاهر من الأدلة وجوب الأمر والنهي
المولويين تأكيدا لأمر الله ونهيه، نظير أمر الوالدين مولويا بشيء أمر الله به قبلهما
فيكون التخلف معصية لله وللوالدين معا. وبالجملة، سبق أمر الله ونهيه

1 - سورة التوبة (9)، الآية 71.
225

بالشيء لا يدل على كونهما إرشاديين، وظاهر الأمر والنهي والأصل فيهما هو
المولوية، فتأمل.
2 - وقال: " التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون
بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله، وبشر المؤمنين. " (1)
فالموضوع في الآية جميع المؤمنين كما يظهر من الآية التي قبلها، أعني قوله: " إن الله
اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة. "
3 - وقال: " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر و
تؤمنون بالله. ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم، منهم المؤمنون وأكثرهم
الفاسقون. " (2)
والظاهر أن الخطاب للمسلمين، والمراد بالناس جميع الناس من المسلمين و
غيرهم. والإخراج: الخلق والإظهار، كقوله - تعالى -: " أخرج المرعى. " فيكون المراد -
والله اعلم - أن المسلمين بما هم مسلمون خير أمة خلقت وأخرجت لنفع المجتمعات
البشرية، وملاك خيريتهم بسطهم للمعروف وردعهم عن المنكرات وإصلاح
المجتمعات. وفي المجمع عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " أنتم وفيتم سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها
على الله. " (3)
وأما ما في الدرر المنثور: " أخرج ابن أبي حاتم، عن أبي جعفر (عليه السلام):

1 - سورة التوبة (9)، الآية 112.
2 - سورة آل عمران (3)، الآية 110.
3 - مجمع البيان 1 / 486 (الجزء 2); وروى نحوه في الدر المنثور 2 / 64، حيث قال: قال
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " إنكم تتمون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله. " ولكن في المجمع طبعة صيدا
- سنة 1333 -: " أنتم زينتم ستين أمة " بدل " أنتم وفيتم سبعين أمة ".
226

كنتم خير أمة أخرجت للناس، قال: أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) " (1) فلا محالة يكون من
الجري والتطبيق، حيث إنهم (عليهم السلام) المصاديق الكاملة من هذه الأمة.
والفعل في قوله: " كنتم " قيل بكونه زائدا جيء به للتأكيد. وقيل إن المراد: كنتم خير
أمة عند الله في اللوح المحفوظ أو مبشر بها في الكتب الماضية.
فهذه ثلاث آيات ظاهرة في كون الفريضة فريضة عامة على حد سائر الفرائض.
4 - ومن الطائفة الثانية قوله - تعالى -: " ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون
بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون. " (2)
قيل: إن سياق الآية يدل على كون الوجوب كفائيا.
أقول: الظهر أن الخطاب في الآية لما كان موجها إلى جميع المسلمين كان المستفاد
منه أنه يجب على الجميع السعي في تمحيض جماعة خاصة لهذا الشأن، وهذا يؤيد ما
قدمناه من أن تأسيس الدولة الحقة وظيفة عامة خوطب بها الجميع وإن كانت إدارة
شؤون الحكومة ومنها بعض مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة خاصة،
فتدبر. هذا.
ويحتمل في قوله: " كنتم خير أمة أخرجت للناس " الواقع بحسب الترتيب بعد هذه
الآية أيضا إرادة أمة خاصة شأنها الأمر والنهى لا جميع المؤمنين. ويؤيد ذلك وحدة
السياق وبعض الروايات الواردة في تفسير الآية وتطبيقها على الأئمة (عليهم السلام).
5 - ومن الآيات الظاهرة في الوظيفة الخاصة أيضا قوله - تعالى -: " الذين إن مكناهم
في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة
الأمور. " (3)
فيكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المذكوران في الآية من النوع الذي يتوقف
على السلطة والتمكن في الأرض. ويشهد لذلك وقوع الآية في سياق آيات القتال ودفع
الناس بعضهم ببعض.
ولا يراد بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة أيضا الإتيان بهما شخصيا، بل إشاعتهما

1 - الدر المنثور 2 / 64.
2 - سورة آل عمران (3)، الآية 104.
3 - سورة الحج (22)، الآية 41.
227

وترويجهما وتثبيتهما في المجتمع، أعني ما يكون من شؤون الحكومة الحقة، نظير ما
ورد في زيارة السبط الشهيد (عليه السلام): " أشهد أنك قد أقمت الصلاة وآتيت الزكاة وأمرت
بالمعروف ونهيت عن المنكر. "
6 - ومن هذا القبيل أيضا قوله - تعالى -: " الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي
يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر و
يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت
عليهم. الآية. " (1)
7 - وفي موثقة مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول - وسئل عن
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أواجب هو على الأمة جميعا؟ - فقال: لا، فقيل له:
ولم؟. قال: إنما هو على القوى المطاع العالم بالمعروف من المنكر، لاعلى الضعيف الذي
لا يهتدي سبيلا إلى أي من أي، يقول: من الحق إلى الباطل. والدليل على ذلك كتاب الله -
عز وجل - قوله: " ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن
المنكر. " فهذا خاص غير عام، كما قال الله - عز وجل -: " ومن قوم موسى أمة يهدون
بالحق وبه يعدلون. " ولم يقل على أمة موسى ولاعلى كل قومه، وهم يومئذ أمم مختلفة.
والأمة واحد فصاعدا، كما قال الله - عز وجل -: " إن إبراهيم كان أمة قانتا لله. " يقول:
مطيعا لله - عز وجل -. وليس على من يعلم ذلك في هذه الهدنة من حرج إذا كان لا قوة له
ولا عدد ولا طاعة.
قال مسعدة: وسمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول - وسئل عن الحديث الذي جاء عن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إن أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر، ما معناه؟ - قال: هذا على أن يأمره
بعد معرفته وهو مع ذلك يقبل منه، وإلا فلا. " (2)
فالنظر في هذه الموثقة أيضا إلى نوع خاص من الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، أعني ما يتوقف على القوة والسلطة خارجا، فيراد منه ما يوجب الكفاح مما
يشتمل على الضرب والجرح وكذا بعض مراتب اللسان وموارده، وإلا فالأمر

1 - سورة الأعراف (7)، الآية 157.
2 - الوسائل 11 / 400، الباب 2 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 1. والكافي 5 / 59 باب الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، الحديث 16.
228

والنهي الجزئيان في الموارد الجزئية العادية لا يختصان بفرد دون فرد، بل هما من
الفرائض العامة بلا إشكال. هذا.
ولعل الإمام الصادق (عليه السلام) كان مواجها لبعض الأفراد المعترضين على سكوت
الأئمة (عليهم السلام) وشيعتهم في قبال المنكرات بلا ملاحظة للإمكانات والظروف، نظير ما مر من
سدير الصيرفي وأمثاله كما مر، فالموثقة وردت في قبال هؤلاء، فتدبر.
وبعض أخبار الباب خبر جامع يشتمل على جميع المراتب مما هي وظيفة خاصة و
مما تكون من الفرائض العامة.
8 - مثل ما في نهج البلاغة عن محمد بن جرير الطبري، عن عبد الرحمان بن أبي ليلى
أنه قال: سمعت عليا (عليه السلام) يقول يوم لقينا أهل الشام: " أيها المؤمنون، إنه من رأى عدوانا
يعمل به ومنكرا يدعى إليه فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ، ومن أنكره بلسانه فقد أجر و
هو أفضل من صاحبه، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الظالمين هي
السفلى فذلك الذي أصاب سبيل الهدى وقام على الطريق ونور في قلبه اليقين. " (1)
وإلقاء هذه الخطبة يوم لقائه (عليه السلام) أهل الشام دليل على أن غرضه (عليه السلام) كان تحريض
جنوده على القتال في صفين، وواضح أن قتالهم كان تحت لوائه وأمره، فلا يستفاد من
هذا الحديث جواز الإنكار بالسيف ولو بدون إذن الإمام.
وقد مر منا أن في الموارد التي تكون الفريضة وظيفة خاصة وتحتاج إلى إذن الحاكم
ليس الوجوب فيها مشروطا، بل الواجب مشروط وتقدم بيان ذلك والفرق بينهما.
9 - وقال الرضي (قدس سره): وفي كلام آخر له يجري هذا المجري: " فمنهم المنكر للمنكر
بيده ولسانه وقلبه، فذلك المستكمل لخصال الخير. ومنهم المنكر بلسانه وقلبه والتارك
بيده، فذلك متمسك بخصلتين من خصال الخير ومضيع خصلة. ومنهم المنكر بقلبه
والتارك بيده ولسانه، فذلك الذي ضيع أشرف الخصلتين من الثلاث وتمسك بواحدة. و
منهم تارك لانكار المنكر بلسانه وقلبه

1 - نهج البلاغة، فيض / 1262; عبده 3 / 243; لح / 541، الحكمة 373.
229

ويده، فذلك ميت الأحياء.
وما أعمال البر كلها والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا
كنفثة في بحر لجي، وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقربان من أجل و
لا ينقصان من رزق، وأفضل من ذلك كله كلمة عدل عند إمام جائر. " (1)
10 - ومن الروايات الجامعة في هذا الباب أيضا خبر جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال:
" يكون في آخر الزمان قوم يتبع فيهم قوم مراؤون يتقرؤون ويتنسكون، حدثاء سفهاء
لا يوجبون أمرا بمعروف ولا نهيا عن منكر إلا إذا أمنوا الضرر، يطلبون لأنفسهم الرخص
والمعاذير، يتبعون زلات العلماء وفساد علمهم، يقبلون على الصلاة والصيام وما
لا يكلمهم في نفس ولامال، ولو أضرت الصلاة بسائر ما يعملون بأموالهم وأبدانهم
لرفضوها كما رفضوا أتم الفرائض وأشرفها.
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة عظيمة بها تقام الفرائض. هنالك يتم
غضب الله عليهم فيعمهم بعقابه فيهلك الأبرار في دار الفجار، والصغار في دار الكبار.
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصالحين، فريضة عظيمة
بها تقام الفرائض وتأمن المذاهب وتحل المكاسب وترد المظالم، وتعمر الأرض و
ينتصف من الأعداء ويستقيم الأمر. فأنكروا بقلوبكم والفظوا بألسنتكم وصكوا بها
جباههم ولا تخافوا في الله لومة لائم، فإن اتعظوا وإلى الحق رجعوا فلا سبيل عليهم، إنما
السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير حق، أولئك لهم عذاب أليم،
هنالك فجاهدوهم بأبدانكم وأبغضوهم بقلوبكم غير طالبين سلطانا ولا باغين مالا و
لا مريدين بالظلم ظفرا حتى يفيؤوا إلى أمر الله ويمضوا على طاعته.
قال أبو جعفر (عليه السلام): " أوحى الله إلى شعيب النبي - عليه السلام -: إني لمعذب من قومك
مأة ألف: أربعين ألفا من شرارهم، وستين ألفا من خيارهم. فقال: يا رب هؤلاء الأشرار
فما بال الأخيار؟ فأوحى الله - عز وجل - اليه: أنهم داهنوا أهل المعاصي ولم يغضبوا
لغضبي. " (2)

1 - نهج البلاغة، فيض / 1263; عبده 3 / 243; لح / 542، الحكمة 374.
2 - تهذيب الأحكام 6 / 180، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الحديث 21; وروى نحوه
في فروع الكافي 5 / 55، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الحديث 1. ورواه في الوسائل
11 / 394، 402 و 403، الباب 1 و 2 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 6، والباب 3 منها، الحديث
1.
230

والرواية من الروايات العالية المضامين ولكن سندها ضعيف، إذ مضافا إلى إرساله
يشتمل على رجلين مجهولين وهما بشر بن عبد الله، وأبو عصمة قاضي مرو، فراجع.
ولا يخفى أن الرواية مع جامعيتها لجميع مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
فإن عمدة النظر فيها إلى الأمر والنهي الموجبين لإقامة الفرائض في المجتمع ورد
المظالم وأمن السبل وعمارة الأرض والانتصاف من الظالمين ولو بصك الجباه. ومن
الواضح أن هذه الأمور بسعتها لا تحصل إلا بالقدرة الواسعة والسلطة الحاكمة، فيجب
تحصيلها قهرا بإعداد مقدماتها وشرائطها.
ومن النكت المهمة التي صرحت بها الرواية أن الهدف من الأمر والنهي يجب أن
يكون إقامة فرائض الله - تعالى - وبسط العدل وعمارة الأرض وفئ الأعداء إلى الله -
تعالى -، لا تحكيم السلطة عليهم وبغي المال وتحصيل الظفر ولو بالظلم. وهذه نكتة
دقيقة يجب أن يلتفت إليها كل من يتصدى للجهاد والكفاح. وقد سمى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
في الخبر المعروف جهاد النفس الجهاد الأكبر (1)، فنعوذ بالله من وساوس النفس و
نزغاتها.
11 - ومن الأخبار الجامعة أيضا ما رواه في الوسائل عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " لا تزال
أمتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وتعاونوا على البر، فإذا لم يفعلوا ذلك
نزعت منهم البركات وسلط بعضهم على بعض ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في
السماء. " (2)
12 - وفي وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) قبيل وفاته: " لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر فيولى عليكم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم. " (3)
13 - وفي رواية محمد بن عرفة، قال: سمعت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) يقول:

1 - الوسائل 11 / 122، الباب 1 من أبواب جهاد النفس، الحديث 1.
2 - الوسائل 11 / 398، الباب 1 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 18.
3 - نهج البلاغة، فيض / 978; عبده 3 / 86; لح / 422، الكتاب 47.
231

" لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليستعملن عليكم شراركم فيدعو خياركم
فلا يستجاب لهم. " (1)
14 - وبالإسناد عنه (عليه السلام) قال: " كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إذا أمتي تواكلت الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر فليأذنوا بوقاع من الله - تعالى -. " (2)
أقول: الوقاع: المحاربة والإيقاع في الشر.
فإذا راعت الأمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واهتمت بصلاح المجتمع
صارت أمة صالحة والعلاقات بينها مبرمة، وكانت كالبنيان المرصوص يدعم بعضه بعضا
فلا محالة يرأسها فئة صالحة عادلة منها.
وإذا لم تهتم بهذه الفريضة واتبع كل واحد منها ما يشتهيه ويهواه صارت أمة متشتتة
متفرقة متباغضة يلعن بعضها بعضا فيغتنم الأشرار والكفار هذه الفرصة ويترأسون عليها
ويغتصبون حقوقها وذخائرها وإمكاناتها، كما هو المشاهد في أعصارنا في أكثر البلاد
الإسلامية، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
15 - ومن الروايات الجامعة في هذا الباب أيضا الرواية الطويلة المروية في
تحف العقول عن السبط الشهيد - سلام الله عليه -. قال: ويروى عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، و
قد مرت الرواية في فصل اعتبار العلم في الحاكم، فراجع (3).
وفيها قوله (عليه السلام): " فبدأ الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة منه، لعلمه بأنها
إذا أديت وأقيمت استقامت الفرائض كلها، هينها وصعبها، وذلك إن الأمر بالمعروف و
النهي عن المنكر دعاء إلى الإسلام مع رد المظالم ومخالفة الظالم وقسمة الفيء والغنائم،
وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقها. الحديث بطوله. " (4)

1 - الوسائل 11 / 394، الباب 1 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 4.
2 - الوسائل 11 / 394، الباب 1 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 5.
3 - راجع الفصل السابع من الباب الرابع.
4 - تحف العقول / 237.
232

16 - وفي موثقة مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): كيف
بكم إذا فسدت نساؤكم وفسق شبانكم ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر؟ فقيل
له: ويكون ذلك يا رسول الله؟ فقال: نعم، وشر من ذلك، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر و
نهيتم عن المعروف؟ فقيل له: يا رسول الله، ويكون ذلك؟ قال: نعم، وشر من ذلك، كيف
بكم إذا رأيتم المعروف منكرا والمنكر معروفا؟ (1)
17 - وفي خبر أبي سعيد الزهري، عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " ويل لقوم
لا يدينون الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. " (2) هذا.
18 - وفي كتاب الجمعة من صحيح البخاري بإسناده عن عبد الله بن عمر، يقول:
سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته: الإمام راع و
مسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في
بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته -
قال: وحسبت أن قد قال -: والرجل راع في مال أبيه ومسؤول عن رعيته، وكلكم راع
ومسؤول عن رعيته. " (3)
والأخبار في باب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر كثيرة متواترة إجمالا من طرق
الفريقين، فراجع.
ولم يشك ولم يتردد في وجوبهما إجمالا أحد من المسلمين، بل هو من ضروريات
الدين.
الجهة الخامسة:
في وجوب إنكار العامة على الخاصة وتغيير المنكر عليهم إذا علموا به:

1 - الوسائل 11 / 396، الباب 1 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 12.
2 - الوسائل 11 / 393، الباب 1 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 1.
3 - صحيح البخاري 1 / 160، كتاب الجمعة، باب الجمعة في القرى والمدن.
233

1 - روى الصدوق بإسناده عن مسعدة بن صدقة، عن جعفر بن محمد - عليهما السلام
- قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): " إن الله لا يعذب العامة بذنب الخاصة إذا عملت الخاصة
بالمنكر سرا من غير أن تعلم العامة، فإذا عملت الخاصة بالمنكر جهارا فلم تغير ذلك
العامة استوجب الفريقان العقوبة من الله - عز وجل -. "
قال: وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن المعصية إذا عمل بها العبد سرا لم يضر إلا عاملها، فإذا
عمل بها علانية ولم يغير عليه أضرت بالعامة. " قال جعفر بن محمد (عليه السلام): " وذلك أنه يذل
بعمله دين الله ويقتدي به أهل عداوة الله. " (1)
2 - وبهذا الإسناد قال: قال على (عليه السلام): " إن الله لا يعذب العامة بذنب الخاصة، وذكر
الحديث الأول ثم قال: وقال: لا يحضرن أحدكم رجلا يضر به سلطان جائر ظلما و
عداونا، ولا مقتولا ولا مظلوما إذا لم ينصره، لأن نصرته على المؤمن فريضة واجبة إذا هو
حضره، والعافية أوسع ما لم تلزمك الحجة الظاهرة. قال: ولما جعل التفضل في بني
إسرائيل جعل الرجل منهم يرى أخاه على الذنب، فينهاه فلا ينتهي، فلا يمنعه ذلك أن
يكون أكيله وجليسه وشريبه، حتى ضرب الله - عز وجل - قلوب بعضهم ببعض ونزل
فيهم القرآن حيث يقول - عز وجل -: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود و
عيسى بن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه.
الآية. " (2)
3 - وفي مرفوعة محمد بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " ما أقر قوم بالمنكر بين
أظهرهم لا يغيرونه إلا أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده. " (3)
4 - وفي مسند أحمد بسنده عن عدي، يقول: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " إن الله -
عز وجل - لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون
على

1 - الوسائل 11 / 407، الباب 4 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 1.
2 - الوسائل 11 / 408، الباب 4 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 2.
3 - الوسائل 11 / 408، الباب 4 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 3.
234

أن ينكروه فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة. " (1)
إلى غير ذلك من الأخبار الواردة بهذا المضمون. ويظهر بها أن تكليف العامة في قبال
الفسق المتجاهر به أشد، وأنه يجب عليهم القيام في قبال الخاصة وإن كانت لهم السلطة و
القدرة وأوجب ذلك الكفاح. وإطلاقها يشمل الكفاح المسلح أيضا.
وقد مر حكم الثورة والكفاح المسلح ضد أهل الجور والسلطات الطاغية الباغية في
المسألة السادسة عشرة من الفصل السادس من الباب الخامس، فراجع.
الجهة السادسة:
في وجوب إنكار المنكر بالقلب وتحريم الرضا به ووجوب الرضا بالمعروف:
1 - قد مر في أخبار كثيرة الترغيب في الإنكار بالقلب ومنها خبر جابر، وفيه:
" فأنكروا بقلوبكم، وألفظوا بألسنتكم وصكوا بها جباههم. " (2)
2 - وفي خبر السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن على (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" من شهد أمرا فكرهه كان كمن غاب عنه. ومن غاب عن أمر فرضيه كان كمن
شهده. " (3)
3 - وفي مرفوعة محمد بن مسلم، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): " إنما يجمع الناس
الرضا والسخط، فمن رضي أمرا فقد دخل فيه، ومن سخطه فقد خرج منه. " (4)
4 - وفي نهج البلاغة قال (عليه السلام): " الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم، وعلى كل

1 - مسند أحمد 4 / 192.
2 - الوسائل 11 / 403، الباب 3 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 1.
3 - الوسائل 11 / 409، الباب 5 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 2.
4 - الوسائل 11 / 411، الباب 5 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 9.
235

داخل في باطن إثمان: إثم العمل به، وإثم الرضا به. " (1)
5 - وفيه أيضا: " أيها الناس، إنما يجمع الناس الرضا والسخط، وإنما عقر ناقة ثمود
رجل واحد فعمهم الله بالعذاب لما عموه بالرضا فقال - سبحانه -: فعقروها فأصبحوا
نادمين. " (2)
6 - وفيه أيضا في خطبة يذكر فيها أصحاب الجمل: " فوالله لو لم يصيبوا من المسلمين
إلا رجلا واحدا معتمدين لقتله، بلا جرم جره، لحل لي قتل ذلك الجيش كله إذ حضروه
فلم ينكروا ولم يدفعوا عنه بلسان ولا بيد، دع ما أنهم قد قتلوا من المسلمين مثل العدة
التي دخلوا بها عليهم. " (3)
7 - وفي خبر طلحة بن زيد، عن جعفر بن محمد، عن آبائه، عن على (عليه السلام)، قال:
" العامل بالظلم، والراضي به، والمعين عليه شركاء ثلاثة. " (4)
8 - وفي رواية ابن أبي عمير، رفعه، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " الساعي قاتل ثلاثة:
قاتل نفسه، وقاتل من سعى به، وقاتل من سعى إليه. " (5)
9 - وفي خبر عبد السلام بن صالح الهروي، قال: " قلت لأبي الحسن علي بن موسى
الرضا (عليه السلام): يا بن رسول الله، ما تقول في حديث روي عن الصادق (عليه السلام)، قال: إذا خرج
القائم (عليه السلام) قتل ذراري قتلة الحسين (عليه السلام) بفعال آبائها؟ فقال (عليه السلام): هو كذلك. فقلت: قول الله -
عز وجل -: " ولا تزر وازرة وزر أخرى "، ما معناه؟ قال: صدق الله في جميع أقواله، و
لكن ذراري قتلة الحسين (عليه السلام) يرضون بفعال آبائهم ويفتخرون بها، ومن رضي شيئا كان
كمن أتاه. ولو أن رجلا قتل بالمشرق فرضي بقتله رجل بالمغرب لكان الراضي عند الله -
عز وجل -

1 - نهج البلاغة، فيض / 1163; عبده 3 / 191; لح / 499، الحكمة 154.
2 - نهج البلاغة، فيض / 650; عبده 2 / 207; لح / 319، الخطبة 201.
3 - نهج البلاغة، فيض / 556; عبده 2 / 104; لح / 247، الخطبة 172.
4 - الوسائل 11 / 410، الباب 5 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 6.
5 - الوسائل 11 / 410، الباب 5 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 7.
236

شريك القاتل، وإنما يقتلهم القائم (عليه السلام) إذا خرج لرضاهم بفعل آبائهم... " (1)
10 - وبهذا الإسناد عن الرضا (عليه السلام)، قال قلت له: لأي علة أغرق الله - عز وجل - الدنيا
كلها في زمن نوح (عليه السلام) وفيهم الأطفال ومن لا ذنب له؟ فقال: ما كان فيهم الأطفال، لأن
الله - عز وجل - أعقم أصلاب قوم نوح وأرحام نسائهم أربعين عاما فانقطع نسلهم
فغرقوا ولا طفل فيهم، ما كان الله ليهلك بعذابه من لا ذنب له، وأما الباقون من قوم نوح
فأغرقوا بتكذيبهم لنبي الله نوح (عليه السلام)، وسائرهم أغرقوا برضاهم بتكذيب المكذبين، ومن
غاب عن أمر فرضي به كان كمن شاهد وأتاه. " (2)
11 - وعنه (عليه السلام)، عن آبائه (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " يأتي على الناس زمان
يذوب فيه قلب المؤمن في جوفه كما يذوب الآنك في النار، يعني الرصاص. وما ذاك إلا
لما يرى من البلاء والإحداث في دينهم ولا يستطيعون له غيرا. " (3)
12 - وفي حديث سليمان بن خالد، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " لو أن أهل السماوات
والأرض لم يحبوا أن يكونوا شهدوا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لكانوا من أهل النار. " (4)
إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في هذا المجال، فتتبع. هذا.
ولا يخفى أن إنكار المنكر بالقلب بعد العلم به وإن كان من لوازم الإيمان قهرا، ولكن
المؤاخذة على مجرد الرضا القلبي بالمنكر ربما تنافي ما دل على أن العبد إذا هم بالسيئة
لم تكتب عليه (5). وإذا لم يؤاخذ بنية فعل نفسه فكيف يؤاخذ بالرضا بفعل غيره!؟ فتأمل.
فلعل المقصود في هذه الروايات هو الرضا الظاهر في مقام العمل. فإن من سمع
ارتكاب غيره للمنكر وجب عليه السعي في نهيه ورفع المنكر أو إظهار البراءة

1 - الوسائل 11 / 409، الباب 5 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 4.
2 - الوسائل 11 / 410، الباب 5 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 5.
3 - الوسائل 11 / 411، الباب 5 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 8.
4 - الوسائل 11 / 411، الباب 5 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 10.
5 - الوسائل 1 / 36 وما بعدها، الباب 6 من أبواب مقدمة العبادات، الحديث 6 - 7 - 8 - 10 و...
237

ممن ارتكبه، فإن ترك ذلك بل ظهر منه أمارات الرضا به بل والافتخار به أحيانا
صار بهذا شريكا في ذلك المنكر، وهكذا كان قوم صالح، وأصحاب الجمل، وأولاد قتلة
الحسين (عليه السلام).
وفي الجواهر:
" إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يعقل كونهما بالقلب وحده، ضرورة عدم
كون ذلك أمرا ونهيا. كضرورة عدم كون المعرف والمنكر بالقلب آمرا وناهيا، وإنما هو
من توابع الإيمان بما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلا بد من اعتبار أمر آخر في المرتبة الأولى به
تعد في الأمر والنهي، وهو إظهار عدم الرضا بضرب من الإعراض وإظهار الكراهة و
نحو ذلك. " (1)
الجهة السابعة:
في وجوب الإعراض عن فاعل المنكر وهجره إذا لم يرتدع:
1 - في خبر السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): " أمرنا
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرة. " (2)
2 - وفي رواية أخرى قال أمير المؤمنين (عليه السلام): " أدنى الإنكار أن تلقى أهل المعاصي
بوجوه مكفهرة. " (3)
3 - وفي رواية الحارث بن المغيرة، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): " لآخذن البريء منكم
بذنب السقيم، ولم لا أفعل ويبلغكم عن الرجل ما يشينكم ويشينني فتجالسونهم و
تحدثونهم فيمر بكم المار فيقول: هؤلاء شر من هذا؟ فلو أنكم إذا بلغكم عنه ما تكرهونه
زبرتموهم ونهيتموهم كان

1 - الجواهر 21 / 368.
2 - الوسائل 11 / 413، الباب 6 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 1.
3 - الوسائل 11 / 413، الباب 6 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 1 أيضا.
238

أبر بكم وبي. " (1)
4 - وفي رواية أخرى له أن أبا عبد الله (عليه السلام) قال له: " لأحملن ذنوب سفهائكم إلى
(على خ. ل) علمائكم (إلى أن قال): ما يمنعكم إذا بلغكم عن الرجل منكم ما تكرهون و
ما يدخل علينا به الأذى أن تأتوه فتؤنبوه وتعذلوه وتقولوا له قولا بليغا؟ قلت: جعلت
فداك إذا لا يقبلون منا. قال: " اهجروهم واجتنبوا مجالسهم. " (2)
5 - وفي رواية الشيخ - قدس سره -، قال: قال الصادق (عليه السلام) لقوم من أصحابه: " إنه قد
حق لي أن آخذ البريء منكم بالسقيم، وكيف لا يحق لي ذلك وأنتم يبلغكم عن الرجل
منكم القبيح فلا تنكرون عليه ولا تهجرونه ولا تؤذونه حتى يترك. " (3)
6 - وفي رواية هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " لو أنكم إذا بلغكم عن
الرجل شيء تمشيتم إليه فقلتم: يا هذا، إما أن تعتزلنا وتجتنبنا وإما أن تكف عن هذا،
فإن فعل، وإلا فاجتنبوه. " (4)
إلى غير ذلك من الأخبار في هذا المجال.
وبالجملة، يجب إنكار المنكر بالقلب وباللسان بقول لين بليغ أولا، ثم يغلظ عليه في
ذلك إلى أن تصل النوبة إلى اليد بمراتبها، والأحوط كونها بإذن الحاكم فإن لم يتيسر ذلك
أو لم يؤثر فبالإعراض والهجر وترك المجالسة معه. كل ذلك ليتأثر الفاعل ويرتدع،
لا للانتقام ونحوه.
ورعاية المراتب لازمة وبها صرح الفقهاء وهو المستفاد من الأخبار أيضا، فراجع.
وقد مرت عبارة صاحب الجواهر في معنى الإنكار بالقلب وأن المراد به هجر

1 - الوسائل 11 / 414، الباب 7 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 2.
2 - الوسائل 11 / 415، الباب 7 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 3.
3 - الوسائل 11 / 415، الباب 7 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 4.
4 - الوسائل 11 / 415، الباب 7 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 5.
239

الفاعل والإعراض عنه. وقصده لا محالة أن يكون ذلك في آخر الأمر أو أول الأمر
بعد العلم بعدم تأثير اللسان واليد أو عدم إمكانهما، فتدبر.
الجهة الثامنة:
في رفع توهم وشبهة:
قد يتوهم أن قوله - تعالى -: " يا أيها الذين آمنوا، عليكم أنفسكم. لا يضركم من ضل
إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون " (1)
يدل على أن الإنسان إذا لزم بيته وأصلح نفسه فلا يبال بما يقع في المجتمع من الفساد
والضلال، فيعارض ظاهر الآية ما مر من الدليل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر.
وفيه أنه لا يمكن رفع اليد عن الآيات الكثيرة، والأخبار المتواترة، وإجماع
المسلمين بهذا الظهور المتوهم. بل الظاهر أن المقصود بالآية بيان أنه يجب على الإنسان
أن يكون مستقلا في فكره وإرادته، وأنه إذا فرض ضلال أفراد المجتمع أو بعضهم فليس
له أن يجعل نفسه تابعا لهم ومهضوما فيهم كما هو المتعارف في أكثر المجتمعات، بل
يجب على كل فرد أن يهتدي بهدى الله ويعمل بوظائفه المقررة من قبله التي من أهمها
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمقدار القدرة، وإذا فعل ذلك نفعه هداه قهرا و
لم يضره ضلال من ضل، فإن الحق حق يثاب عليه وإن أعرض عنه الأكثر، والباطل
باطل يعاقب عليه وإن أقبل إليه الأكثر.
وفي نهج البلاغة: " أيها الناس، لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله، فإن الناس
قد اجتمعوا على مائدة شبعها قصير وجوعها طويل. " (2) هذا.

1 - سورة المائدة (5)، الآية 105.
2 - نهج البلاغة، فيض / 649; عبده 2 / 207; لح / 319، الخطبة 201.
240

وفي مجمع البيان في ذيل الآية ما محصله:
" إن في جواب الإشكال وجوها: أحدها: أن الآية لا تدل على جواز ترك الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر بل توجب أن المطيع لربه لا يؤاخذ بذنوب العاصي.
وثانيها: أن ذلك في حال التقية أو حال لا يجوز الإنسان تأثير إنكاره أو يتعلق
بإنكاره مفسدة.
وروى أن أبا ثعلبة سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن هذه الآية فقال: " ايتمروا بالمعروف و
تناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت دنيا مؤثرة وشحا مطاعا وهوى متبعا وإعجاب كل
ذي رأي برأيه فعليك بخويصة نفسك وذر الناس وعوامهم. " وثالثها: إن هذه أوكد آية
في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن الله - تعالى - خاطب بها المؤمنين
فقال: عليكم أنفسكم، يعني عليكم أهل دينكم، كما قال: " ولا تقتلوا أنفسكم " لا يضركم
من ضل من الكفار. وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء عنه، قال: " يريد يعظ بعضكم
بعضا وينهى بعضكم بعضا ويعلم بعضكم بعضا ما يقربه إلى الله ويبعده من الشيطان، و
لا يضركم من ضل من المشركين والمنافقين وأهل الكتاب. " (1)
الجهة التاسعة:
في بيان ما ذكروه شرطا لوجوبهما:
الشرط الأول: قال المحقق في الشرائع:
" ولا يجب النهي عن المنكر ما لم يكمل شروط أربعة: الأول: أن يعلمه منكرا ليأمن
الغلط في الإنكار. الثاني: أن يجوز تأثير إنكاره فلو غلب على ظنه أو علم أنه لا يؤثر
لم يجب. الثالث: أن يكون الفاعل له مصرا على الاستمرار فلو لاح منه أمارة

1 - مجمع البيان 2 / 254 (الجزء 3).
241

الامتناع أو أقلع عنه سقط الإنكار. الرابع: أن لا يكون في الإنكار مفسدة فلو ظن
توجه الضرر إليه أو إلى ماله أو إلى أحد من المسلمين سقط الوجوب. " (1)
والظاهر أن ذكر النهي عن المنكر من باب المثال، فالشروط شروط لكلتا الفريضتين.
وقال العلامة في الإرشاد:
" وإنما يجبان بشرط علمهما، وتجويز التأثير، وإصرار الفاعل على المنهي أو خلاف
المأمور، وانتفاء الضرر عنه وعن ماله وعن إخوانه. " (2)
وهكذا ذكر الشروط الأربعة في المنتهى والتذكرة وغيرهما.
أقول: كون الشرط الأول شرطا للوجوب بحيث لا يجب تحصيل العلم وكون الجاهل
بالحكم ولو عن تقصير معذورا في هذا الباب لا يخلو من إشكال. إذ الموضوع هو واقع
المعروف والمنكر، لا المعلوم منهما. نعم، لما كان العلم طريقا إلى الواقع فبدونه لا يمكن
الأمر والنهي فهو شرط للوجود قهرا، والجاهل القاصر معذور لا محالة.
وقد تعرض لهذا الإشكال المحقق الكركي في حاشيته، والشهيد الثاني في المسالك.
قال في المسالك:
" وقد يناقش في اعتبار الشرط الأول نظرا إلى ان عدم العلم بالمعروف والمنكر
لا ينافي تعلق الوجوب بمن لم يعلم، وإنما ينافيه نفس الأمر والنهى حذرا من الوقوع في
الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، وحينئذ فيجب على كل من علم بوقوع المنكر أو
ترك المعروف من شخص معين في الجملة بنحو شهادة عدلين أن يتعلم ما يصح معه الأمر
والنهي ثم يأمر أو ينهى، كما يتعلق بالمحدث وجوب الصلاة ويجب عليه تحصيل
شروطها.
وحينئذ فلا منافاة بين عدم جواز أمر الجاهل ونهيه حالة جهله، وبين وجوبهما عليه

1 - الشرائع 1 / 342.
2 - الإرشاد للعلامة، المقصد الخامس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر; والمنتهى 2 / 993;
والتذكرة 1 / 458.
242

كما يجب الصلاة على المحدث والكافر ولا يصح منهما على تلك الحالة. " (1)
وحكى في الجواهر قريبا من ذلك عن المحقق الكركي في حاشيته. (2)
وأجاب عنهما في الجواهر بقوله:
" وفيه - مع أنه مناف لما سمعته من الأصحاب من دون خلاف فيه بينهم كما اعترف به
في المنتهى - أنه مناف أيضا لما مر في خبر مسعدة السابق الذي حصر الوجوب فيه على
القوى المطاع العالم بالمعروف من المنكر، بل يمكن دعوى أن المنساق من إطلاق الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر هو ما علمه المكلف من الأحكام من حيث كونه مكلفا بها،
لا أنه يجب أن يتعلم المعروف من المنكر زائدا على ذلك مقدمة لأمر الغير ونهيه الذين
يمكن عدم وقوعهما ممن يعلمه من الأشخاص.
وأما ما ذكراه من المثال فهو خارج عما نحن فيه، ضرورة العلم حينئذ بتحقق موضوع
الخطاب، بخلاف من فعل أمرا أو ترك شيئا ولم نعلم حرمة ما فعله ولا وجوب ما تركه،
فإنه لا يجب تعرف ذلك مقدمة للأمر والنهي لو فرضنا كونهما منه، بل أصل البراءة محكم،
وهو مراد الأصحاب بكونه شرطا للوجوب، والله العالم. " (3)
ومحصل ما ذكره - قدس سره - بعد رد الصدر من كلامه إلى الذيل، أولا: أن الموضوع
هو المعروف والمنكر بوجودهما الواقعي كما هو الظاهر منهما، لا معلوم المعروفية و
المنكرية ولكن الطريق إليهما هو العلم، فإن لم يحصل العلم كان موردا للبراءة لكون
الشبهة موضوعية وجوبية، وإن حصل العلم بهما ولو إجمالا كما في المثال وجب الأمر و
النهي حينئذ للعلم بتحقق الموضوع، وهو مراد الأصحاب بكون العلم شرطا للوجوب، و
في خبر مسعدة أيضا حصر الوجوب على القوي المطاع العالم

1 - المسالك 1 / 161.
2 - الجواهر 21 / 366.
3 - الجواهر 21 / 367.
243

بالمعروف من المنكر.
وثانيا: أنه يمكن دعوى أن المنساق من إطلاق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
هو ما علمه المكلف من الأحكام لتكليف نفسه لا أنه يجب أن يتعلمهما زائدا على ذلك
مقدمة لأمر الغير ونهيه.
أقول: المفروض في المثال هو العلم إجمالا بوقوع المنكر أو ترك المعروف من
شخص معين خارجا من دون أن يعلم بما هو معروف أو منكر شرعا، فلا يشمله خبر
مسعدة إذ مفاده اعتبار كونه عالما بما هو المعروف شرعا، فالإشكال باق بحاله.
وأما ما ذكره من البراءة في الشبهة الموضوعية الوجوبية فهو صحيح، ولكن إجراؤها
بدون الفحص مشكل. ألا ترى أن الأصحاب احتاطوا على من احتمل استطاعته للحج أو
بلوغ ماله إلى حد النصاب للخمس والزكاة أن يحسب ماله ويتفحص، ولو قال المولى:
أكرم علماء قم مثلا وجب الفحص عن علمائها.
وأما ما ذكره من الدعوى فيشكل الالتزام بها، إذ لو فرض أنه كان هنا رجل عالم بكل
ما يبتلى به الرجال من المسائل ولم يعلم المسائل المختصة بالنساء وكان حوله نسوة
يعلم بابتلائهن بها إجمالا ولا يوجد من يعرفها منهن فهل لا يجب عليه تعلمها لإرشادهن
وأمرهن بالمعروف؟ هذا.
ولقائل أن يقول: أولا: إن مفاد خبر مسعدة ليس إلا ما هو حكم العقل من توقف العمل
وتنجز التكليف به على القدرة والعلم بالموضوع، إذا العاجز وكذا الجاهل في حال
العجز والجهل لا يمكن أن يصدر عنهما الفعل، وهذا لا ينافي وجوب تحصيل القدرة و
العلم عليه لما بعد ذلك. وثانيا: لعل محط النظر في الخبر بقرينة ذكر القوى المطاع ونفي
الوجوب عن الأمة جميعا هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الواقعين من المحتسب
بولاية الحسبة، ولا ننكر أن المنصوب لأمر الحسبة من قبل الولاة يجب أن يكون قويا
مطاعا عالما بالمعروف من المنكر. فهذه شرائط لتصدي هذا المنصب الشريف الذي هو
من شعب الولاية، وأما ما يجب على العامة من
244

الأمر والنهي في الموارد الجزئية فالعلم شرط لوجودهما لا لوجوبهما. هذا.
ولكن الإنصاف أن دلالة خبر مسعدة على شرطية العلم لنفس الوجوب غير قابلة
للإنكار، فتأمل والله العالم.
هذا كله فيما يرتبط بالشرط الأول.
الشرط الثاني: أن يجوز تأثير انكاره. ويدل على اعتبار هذا الشرط أخبار مستفيضة:
1 - منها ما في ذيل موثقة مسعدة، قال مسعدة: وسمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول - وسئل
عن الحديث الذي جاء عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إن أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر ما
معناه؟ - قال: " هذا على أن يأمره بعد معرفته وهو مع ذلك يقبل منه، وإلا فلا. " (1)
2 - ومنها خبر ابن أبي عمير عن يحيى الطويل، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): " إنما يؤمر
بالمعروف وينهى عن المنكر مؤمن فيتعظ، أو جاهل فيتعلم، فأما صاحب سوط أو سيف
فلا. " (2)
3 - ومنها خبر أبان بن تغلب، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: كان المسيح (عليه السلام): يقول: " إن
التارك شفاء المجروح من جرحه شريك جارحه لا محالة (إلى أن قال): فكذلك
لا تحدثوا بالحكمة غير أهلها فتجهلوا، ولا تمنعوها أهلها فتأثموا، وليكن أحدكم بمنزلة
الطبيب المداوي إن رأي موضعا لدوائه، وإلا أمسك. " (3)
4 - ومنها خبر الريان بن الصلت، قال: جاء قوم بخراسان إلى الرضا (عليه السلام) فقالوا: إن
قوما من أهل بيتك يتعاطون أمورا قبيحة، فلو نهيتهم عنها. فقال (عليه السلام):

1 - الوسائل 11 / 400، الباب 2 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 1.
2 - الوسائل 11 / 400، الباب 2 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 2.
3 - الوسائل 11 / 401، الباب 2 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 5.
245

لا أفعل. قيل: ولم؟ قال: لأني سمعت أبي (عليه السلام) يقول: " النصيحة خشنة. " (1)
5 - ومنها خبر الحارث بن المغيرة أن أبا عبد الله (عليه السلام) قال له: " ما يمنعكم إذا بلغكم عن
الرجل منكم ما تكرهون وما يدخل علينا به الأذى أن تأتوه فتؤنبوه وتعذلوه وتقولوا له
قولا بليغا؟ قلت: جعلت فداك إذا لا يقبلون منا. قال: اهجروهم واجتنبوا مجالسهم. " (2)
6 - ومنها خبر داود الرقي، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " لا ينبغي للمؤمن أن يذل
نفسه. قيل له: وكيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض لما لا يطيق. " (3)
إلى غير ذلك من الأخبار الدالة على المقصود.
فروع
وهنا فروع ينبغي الالتفات إليها:
الأول: أنه لولا هذه الأخبار أمكن القول بالوجوب مطلقا حتى مع العلم بعدم التأثير
لإطلاق الأدلة، وفائدته إتمام الحجة على الفاعل.
الثاني: يظهر بذلك أن الساقط مع العلم بعدم التأثير هو الوجوب لا الجواز، اللهم إلا مع
الضرر الذي لا يجوز تحمله.
الثالث: مقتضى إطلاق الأدلة عدم كفاية غلبة الظن في السقوط وإن حكم به المحقق
بل الأكثر على ما قيل، اللهم إلا أن يريدوا بذلك خصوص الاطمينان الملحق بالعلم عادة،
بل مقتضى التشبيه بالطبيب أيضا هو الوجوب حتى مع الظن

1 - الوسائل 11 / 402، الباب 2 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 7.
2 - الوسائل 11 / 415، الباب 7 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 3.
3 - الوسائل 11 / 425، الباب 13 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 1.
246

بعدم التأثير، إذ الطبيب يعطي الدواء مع احتمال الشفاء أيضا. ولا يراد بقوله: " يقبله "
في خبر مسعدة خصوص العلم بالقبول، بل مجرد الاحتمال والمعرضية، إذ لم يقل أحد
باشتراط العلم بالقبول، فتدبر.
الرابع: قال في المنتهى:
" قد جعل أصحابنا هذا شرطا على الإطلاق، والأولى أن يجعل شرطا للأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر باليد واللسان دون القلب. " (1)
أقول: وقد مر كلام صاحب الجواهر وأنه لا يعد مجرد ما في القلب أمرا ونهيا ما
لم يضم إليه إظهار عدم الرضا ولو بضرب من الإعراض والهجر.
الخامس: الظاهر أنه لا يتعين أن يكون التأثير في الحال، فلو جوز التأثير فيه ولو في
المآل وجب الأمر والنهي، بل يمكن أن يقال: إنه لو علم أن النهي لا يؤثر في شخص
الفاعل ولكنه يؤثر في غيره ممن رأى أو سمع فيوجب إعراضه عن الفاعل وعمله ولولا
نهيه كان مظنة لمتابعة الغير له واقتدائه به فلا يبعد وجوب النهي حينئذ، بل لو كان الناهي
عالما دينيا شاخصا مثلا وكان سكوته موجبا لضعف عقائد المسلمين ووهن علماء
الدين، ونهيه واعتراضه على الفاعل سببا لقوة إيمانهم أمكن القول بالوجوب أيضا وإن
لم يؤثر في شخص الفاعل.
ويمكن أن يقال: إن تجويز التأثير يصدق في جميع هذه الموارد. فالمقصود بهذا
الشرط إخراج صورة لغوية الإنكار بحيث لا يترتب عليه أثر لا في الفاعل ولا في غيره،
فتدبر.
الشرط الثالث: أن يكون الفاعل له مصرا على الاستمرار. فلو لاح منه أمارة الامتناع
أو أقلع عنه سقط الإنكار. هكذا في الشرائع. (2)

1 - المنتهى 2 / 993.
2 - الشرائع 1 / 342.
247

وفي الجواهر في شرح العبارة قال:
" بلا خلاف مع فرض استفادة القطع من الأمارة، بل ولا إشكال، ضرورة عدم موضوع
لهما، بل هما محرمان حينئذ كما صرح به غير واحد. كما أنه لا إشكال في عدم السقوط
بعد العلم بإصراره. إنما الإشكال في السقوط بالأمارة الظنية بامتناعه كما هو مقتضى
المتن وغيره باعتبار إطلاق الأدلة واستصحاب الوجوب الثابت، اللهم إلا أن يريد الظن
الغالب الذي يكون معه الاحتمال وهما لا يعتد به عند العقلاء. " (1)
أقول: وملخص الكلام هو أن التعرض للغير هتك لحرمته ومخالف لسلطته على نفسه،
فلا يجوز إلا مع كونه فاعلا للمنكر فيجب ردعه. فمع الشك الابتدائي والاحتمال
لا يجوز التعرض له قطعا ولا التفتيش والتجسس، قال الله - تعالى -: " ولا تجسسوا. " (2)
وأما مع سبق العصيان واحتمال الإصرار والاستمرار باستدامة العمل خارجا أو
بمجرد قصد التكرار فهل يحكم بجواز النهي عن المنكر بل بوجوبه لإطلاق الأدلة كما
قيل - وإن كان الإشكال فيه واضحا، حيث إن موضوع الأدلة هو المنكر والمفروض
الشك فيه - أو لاستصحاب الوجوب ما لم يحرز الامتناع أو الندم والتوبة. أو بعدم الجواز
إلا مع إحراز الإصرار كما عن جماعة أو ظهور أمارة الاستمرار كما عن آخرين. أو
يفصل بين كون المحتمل استدامة العمل خارجا وبين كونه مجرد القصد إذ لا حرمة لقصد
المعصية حتى ينهى عنه؟
في المسألة وجوه بل أقوال. والاحتياط حسن على كل حال.
ثم هل يكفي مجرد الامتناع عن الاستمرار أو لابد من التوبة؟ ربما استظهر من

1 - الجواهر 21 / 370.
2 - سورة الحجرات (49)، الآية 12.
248

الأكثر سقوط النهي عن المنكر بمجرد الامتناع.
نعم، لما وجبت التوبة وجب الأمر بالمعروف إن ظهر منه إصراره على تركها بل بمجرد
الاحتمال أيضا للاستصحاب. هذه بعض كلمات الأصحاب في المقام.
قال المحقق الأردبيلي - قدس سره - في مجمع الفائدة:
" والذي يظهر أنهم كانوا يكتفون بترك المنكر مثلا، وما نقل تكليفهم أحدا بالتوبة بل
بمجرد الترك كانوا يخلون سبيله، وكذا في الأمر بالمعروف فإنهم كانوا يتركون بارتكابه
فقط. " (1)
أقول: والحق صحة ما ذكره، بل الظاهر استقرار السيرة في جميع الأعصار على
مراقبة ظواهر الشرع المبين والمنع عن التجاهر بالمعصية، ولم يكن بناء الأفراد و
لا المحتسبين على التفتيش والتدخل في دخائل الناس أو الأمر والنهي بمجرد
الاستصحاب ونحوه. وفي رواية محمد بن مسلم أو الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:
" قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا تطلبوا عثرات المؤمنين، فإن من تتبع عثرات أخيه تتبع الله
عثراته، ومن تتبع الله عثراته يفضحه ولو في جوف بيته. " وبهذا المضمون روايات
مستفيضة، فراجع (2)
وروى مالك في حدود الموطأ عن زيد بن أسلم، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " أيها
الناس، قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله، من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر
بستر الله، فإنه من يبدلنا صفحته نقم عليه كتاب الله. " (3)
وروى نحوه الشيخ أيضا في كتاب الإقرار من المبسوط وفي كتاب السرقة منه. (4)
وفي الموطأ أيضا بسنده عن سعيد بن المسيب أنه قال: بلغني أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)

1 - مجمع الفائدة، المقصد الخامس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
2 - راجع الكافي 2 / 355، كتاب الإيمان والكفر، باب من طلب عثرات المؤمنين; والوسائل
8 / 594، الباب 150 من أبواب أحكام العشرة.
3 - الموطأ 2 / 169، كتاب الحدود، باب ما جاء فيمن اعترف على نفسه بالزنا.
4 - المبسوط 3 / 2، و 8 / 40.
249

قال لرجل من أسلم يقال له هزال: " يا هزال، لو سترته بردائك لكان خيرا لك. " (1)
الشرط الرابع: أن لا يكون في الإنكار مفسدة. فلو ظن توجه الضرر إليه أو إلى ماله أو
إلى أحد من المسلمين سقط الوجوب. هكذا في الشرائع. (2)
وأرادوا بالضرر الأعم مما في النفس أو العرض أو المال في الحال أو في المآل، و
الاكتفاء بالظن هنا من جهة أن الملاك في باب الضرر خوفه وهو يحصل مع الظن بل و
بعض مراتب الاحتمال أيضا.
وقال في الجواهر:
" بلا خلاف أجده فيه، كما اعترف به بعضهم، لنفي الضرر والضرار، والحرج في
الدين، وسهولة الملة وسماحتها، وإرادة الله اليسر دون العسر. " (3)
ثم تعرض لأخبار خاصة في المسألة:
1 - مثل ما رواه الصدوق في الخصال بإسناده، عن الأعمش، عن جعفر بن محمد (عليه السلام)،
قال: " والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان على من أمكنه ذلك، ولم يخف على
نفسه ولاعلى أصحابه. "
ورواه في العيون بإسناده، عن الفضل بن شاذان، عن الرضا (عليه السلام) في كتابه إلى المأمون
نحوه وأسقط قوله: " ولاعلى أصحابه. " (4)
2 - ومثل قوله الصادق (عليه السلام) في موثقة مسعدة السابقة: " وليس على من يعلم ذلك في
هذه الهدنة من حرج إذا كان لا قوة له ولا عدد ولا طاعة. " (5)
3 - وخبر يحيى الطويل، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): " إنما يؤمر بالمعروف وينهى عن

1 - الموطأ 2 / 166، كتاب الحدود، باب ما جاء في الرجم.
2 - الشرائع 1 / 342.
3 - الجواهر 21 / 371.
4 - الوسائل 11 / 398، الباب 1 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 22.
5 - الوسائل 11 / 400، الباب 2 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 1.
250

المنكر مؤمن فيتعظ، أو جاهل فيتعلم. فأما صاحب سوط أو سيف فلا. " (1)
4 - وخبر مفضل بن يزيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال لي: " يا مفضل، من تعرض
لسلطان جائر فأصابته بلية لم يؤجر عليها، ولم يرزق الصبر عليها. " (2)
5 - وخبر داود الرقي، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " لا ينبغي للمؤمن أن يذل
نفسه، قيل له: وكيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض لما لا يطيق. " (3) إلى غير ذلك من الأخبار.
واستدل في مجمع الفائدة لذلك بقوله:
" لأنه قبيح والضرر أيضا قبيح، ورفع القبيح بالقبيح قبيح. ووجوب إدخال الضرر
على نفسه أو المسلمين لدفع حرام غير ظاهر وإن فرض كونه أقل من الأول. والظاهر
عدم الخلاف فيه أيضا. " (4)
وقال الشيخ في كتاب الاقتصاد:
" سواء كان ما يقع عنده من القبيح صغيرا أو كبيرا من قتل نفس أو قطع عضو أو أخذ
مال كثير أو يسير، فإن الكل مفسدة " (5)
أقول: يمكن أن يقال أولا: إنه ليس الغرض من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
تحصيل المثوبة مثلا، بل هما شرعا مفهوم وسيع لإصلاح المجتمع وقطع جذور المنكر و
الفساد. ومقتضى رعاية ملاكات الأحكام ومصالحها، واختلاف مراتب الضرر، و
مراتب المنكر أن يعامل مع الدليلين معاملة التزاحم فيقدم الأهم منهما ملاكا، فلربما يريد
أحد قتل واحد أو جماعة أو التجاوز على امرأة مسلمة محترمة

1 - الوسائل 11 / 400، الباب 2 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 2.
2 - الوسائل 11 / 401، الباب 2 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 3.
3 - الوسائل 11 / 425، الباب 13 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 1.
4 - مجمع الفائدة، المقصد الخامس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
5 - الاقتصاد / 149، فصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
251

مثلا ويكون نهيه وردعه موجبا لخسارة ما على الناهي، فهل يمكن القول بعدم
وجوب النهي عن المنكر حينئذ؟! وربما يكون المنكر منكرا فظيعا يتجاهر به ويكون في
معرض السراية إلى المجتمع وربما يفسد المجتمع بسببه، أو يكون المرتكب له ذا
شخصية اجتماعية أو دينية يقتدي به الناس طبعا، أو يكون عمله موجبا لهدم أساس
الدين، أو يريد بعمله تغيير قانون من قوانين الإسلام أو تحريفه، أو يريد إقامة السلطة
الظالمة الغاصبة على شؤون المسلمين وسياستهم واقتصادهم وثقافتهم، ونحو ذلك من
الأمور المهمة التي لا يجوز السكوت في قبالها، وكان الناهي ممن يقبل قوله، أو يوجب
إقدامه ونهيه لا محالة وحشة المرتكب أو خفته أو التزلزل في وضعه الاجتماعي، فهل
لا يجب النهي والردع بظن ضرر مالي أو حبس أو تضييق أو نحو ذلك؟! يشكل جدا
الالتزام بذلك، هذا.
مضافا إلى دلالة روايات كثيرة على وجوب الإقدام والقيام في قبال المنكر والفساد
ولو ترتب عليه ضرر أو شدة:
1 - ففي خبر جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " يكون في آخر الزمان قوم يتبع فيهم قوم
مراؤون يتقرؤون ويتنسكون، حدثاء سفهاء لا يوجبون أمرا بمعروف ولا نهيا عن منكر
إلا إذا أمنوا الضرر، يطلبون لأنفسهم الرخص والمعاذير، يتبعون زلات العلماء وفساد
علمهم، يقبلون على الصلاة والصيام وما لا يكلمهم في نفس ولامال، ولو أضرت الصلاة
بسائر ما يعملون بأموالهم وأبدانهم لرفضوها كما رفضوا أتم الفرائض وأشرفها...
فأنكروا بقلوبكم وألفظوا بألسنتكم وصكوا بها جباههم ولا تخافوا في الله لومة
لائم. " (1)
2 - وفي خبر آخر لجابر، عن أبي جعفر (عليه السلام): " من مشى إلى سلطان جائر فأمره بتقوى
الله ووعظه وخوفه كان له مثل أجر الثقلين: الجن والإنس ومثل أعمالهم. " (2)
وواضح أن تخويف السلطان الجائر يلازم غالبا رد الفعل والتضييق.

1 - الوسائل 11 / 394، و 402 و 403 الباب 1 و 2 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 6، والباب 3
منها، الحديث 1.
2 - الوسائل 11 / 406، الباب 3 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 11.
252

3 - وفي رواية تحف العقول عن السبط الشهيد (عليه السلام): " وإنما عاب الله ذلك عليهم لأنهم
كانوا يرون من الظلمة المنكر والفساد فلا ينهونهم عن ذلك رغبة فيما كانوا ينالون منهم و
رهبة مما يحذرون، والله يقول: فلا تخشوا الناس واخشوني " (1)
4 - وفي رواية نهج البلاغة: " وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقربان من
أجل ولا ينقصان من رزق. وأفضل من ذلك كله كلمة عدل عند إمام جائر. " (2)
5 - وفي نهج البلاغة أيضا: " ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله العليا وكلمة
الظالمين السفلى فذلك الذي أصاب سبيل الهدى وقام على الطريق ونور في قلبه
اليقين. " (3)
6 - وفي رواية مسعدة، عن جعفر بن محمد (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): " إن الله
لا يعذب العامة بذنب الخاصة إذا عملت الخاصة بالمنكر سرا من غير أن تعلم العامة، فإذا
عملت الخاصة بالمنكر جهارا فلم تغير ذلك العامة استوجب الفريقان العقوبة من الله -
عز وجل -. " (4)
7 - وخطب السبط الشهيد أصحابه وأصحاب الحر فقال: " أيها الناس، إن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من رأي سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله ناكثا لعهد الله مخالفا
لسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغير عليه بفعل ولاقول كان
حقا على الله أن يدخله مدخله. ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان. الحديث. " (5)
8 - وخطب (عليه السلام) أيضا بذي حسم فقال: " ألا ترون أن الحق لا يعمل به وأن الباطل
لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقا فإني لا أرى الموت إلا شهادة ولا الحياة
مع الظالمين إلا برما. " (6)

1 - الوسائل 11 / 403، الباب 2 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 9.
2 - الوسائل 11 / 406، الباب 3 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 9.
3 - الوسائل 11 / 405، الباب 3 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 8.
4 - الوسائل 11 / 407، الباب 4 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 1.
5 - تاريخ الطبري 7 / 300، (طبعة ليدن).
6 - تاريخ الطبري 7 / 301; وتحف العقول / 245 إلا أن فيه: " لا أرى الموت إلا سعادة ".
253

وهو (عليه السلام) إمام المسلمين وقدوتهم، وقد برر قيامه وثورته بما ألفت إليه في خطبتيه و
قد استشهد هو وأولاده وأصحابه في هذا الطريق، وفي زيارته الشريفة: " أشهد أنك قد
أقمت الصلاة وآتيت الزكاة وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر. " فعلى المسلمين و
لا سيما شيعته جميعا أن يقتدوا به ويهتدوا بهداه.
9 - وفي الدر المنثور عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن رحى الإسلام ستدور، فحيث ما دار
القرآن فدوروا به، يوشك السلطان والقرآن أن يقتتلا ويتفرقا. إنه سيكون عليكم ملوك
يحكمون لكم بحكم ولهم بغيره، فإن أطعتموهم أضلوكم وأن عصيتموهم قتلوكم ". قالوا:
يا رسول الله فكيف بنا إن أدركنا ذلك؟ قال: تكونوا كأصحاب عيسى (عليه السلام): نشروا
بالمناشير ورفعوا على الخشب. موت في طاعة خير من حياة في معصية. " (1)
10 - وفي نهج السعادة: قال أبو عطاء: خرج علينا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)
محزونا يتنفس فقال: كيف أنتم وزمان قد أظلكم، تعطل فيه الحدود ويتخذ المال فيه
دولا ويعادي فيه أولياء الله ويوالي فيه أعداء الله؟ قلنا يا أمير المؤمنين، فإن أدركنا
ذلك الزمان فكيف نصنع؟ قال: كونوا كأصحاب عيسى (عليه السلام): نشروا بالمناشير وصلبوا على
الخشب، موت في طاعة الله - عز وجل - خير من حياة في معصية الله. " (2)
11 - وفي كنز العمال: " سيكون عليكم أئمة يملكون أرزاقكم، يحدثونكم فيكذبونكم،
ويعملون فيسيؤون العمل، لا يرضون منكم حتى تحسنوا قبيحهم وتصدقوا كذبهم،
فأعطوهم الحق ما رضوا به فإذا تجاوزوا فمن قتل على ذلك فهو شهيد. " (3)
إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة، وقد مر بعضها في ذيل الرواية السادسة من الفصل
الرابع من الباب الثالث، وبعضها في المسألة السادسة عشرة من الفصل السادس من
الباب الخامس، فراجع.

1 - الدر المنثور 2 / 301.
2 - نهج السعادة 2 / 639.
3 - كنز العمال 6 / 67، الباب 1 من كتاب الإمارة والقضاء، الحديث 14876.
254

اللهم إلا أن يقال: إن محط النظر في بعض هذه الروايات هو عدم إطاعة الجائر في
جوره لا أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، فيجوز تحمل الضرر في الأول دون الثاني،
فتدبر.
12 - وفي أصول الكافي بسنده، عن ابن مسكان، عن اليمان بن عبيد الله، قال: " رأيت
يحيى بن أم الطويل وقف بالكناسة ثم نادى بأعلى صوته: معشر أولياء الله، إنا برآء مما
تسمعون. من سب عليا (عليه السلام) فعليه لعنة الله، ونحن برآء من آل مروان وما يعبدون من دون
الله. ثم يخفض صوته فيقول: من سب أولياء الله فلا تقاعدوه، ومن شك فيما نحن فيه فلا
تفاتحوه، الحديث. " (1)
والعلامة المجلسي - قدس سره - في مرآة العقول بعد ذكر جمع من أصحاب علي بن
الحسين منهم يحيى بن أم الطويل قال:
" وروى عن أبي جعفر (عليه السلام) أن الحجاج طلبه وقال: تلعن أبا تراب وأمر بقطع يديه و
رجليه وقتله.
وأقول: كأن هؤلاء الأجلاء من خواص أصحاب الأئمة (عليهم السلام) كانوا مأذونين من قبل
الأئمة (عليهم السلام) بترك التقية لمصلحة خاصة خفية، أو إنهم كانوا يعلمون أنه لا ينفعهم التقية و
أنهم يقتلون على كل حال بإخبار المعصوم أو غيره، والتقية إنما تجب إذا نفعت. مع أنه
يظهر من بعض الأخبار أن التقية إنما تجب إبقاء للدين وأهله، فإذا بلغت الضلالة حدا
توجب اضمحلال الدين بالكلية فلا تقية حينئذ وإن أوجب القتل، كما أن الحسين (عليه السلام) لما
رأى انطماس آثار الحق رأسا ترك التقية والمسالمة. " (2)
أقول: وهذا يؤيد ما ذكرناه من تحكيم التزاحم بين الدليلين واختيار الأهم منهما.
هذا.

1 - أصول الكافي 2 / 379، كتاب الإيمان والكفر، باب مجالسة أهل المعاصي، الحديث 16.
2 - مرآة العقول 11 / 98. (ط. القديم 2 / 370).
255

وأما الأخبار التي مرت فمضافا إلى ضعف أكثرها تحمل على صورة عدم القوة و
القدرة وهي شرط عقلي، أو تحمل على صورة عدم إعداد المقدمات بحيث يقع عمله
لغوا لا يترتب عليه أثر إلا هلاك نفسه أو على كون المورد جزئيا لا يجوز بسببه إيقاع
النفس في المهالك أو نحو ذلك من المحامل.
وبالجملة، فالواجب في المقام إجراء باب التزاحم، وتقديم ما هو الأهم ملاكا، و
هكذا كانت سيرة أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) الملتزمين بالموازين الشرعية أمثال
أبي ذر، وميثم التمار، وحجر بن عدى، ورشيد، ومسلم، وهاني، وقيس بن مسهر، و
زيد بن علي، وحسين بن علي شهيد فخ، وقد استشهدوا في طريق الدفاع عن الحق، فما
في الجواهر هنا من قوله:
" وما وقع من خصوص مؤمن آل فرعون وأبي ذر وغيرهما في بعض المقامات
فلأمور خاصة لا يقاس عليها غيرها، " (1) كلام بلا وجه، فتدبر.
هذا كله ما يقال أولا.
وثانيا: إن الظاهر أن محل بحث المحقق وأمثاله هو الأمر والنهي الصادران عن
الأشخاص العاديين في الموارد الجزئية. وأما صاحب المقام المسؤول من قبل الحاكم
لذلك فعليه تفويض الأمر إلى العالم بالمعروف والمنكر القادر على الأمر والنهي ولو
بالقدرة الحاصلة من قبل الحكومة. ولعله المراد أيضا بقوله (عليه السلام) في خبر مسعدة: " إنما هو
على القوى المطاع العالم. " ولو لم يوجد هنا حكومة عادلة ملتزمة فعلى المسلمين
التعاضد والتعاون والتجمع والتشكل وتهية الأسباب مقدمة لتحصيل القدرة على ذلك و
القيام في قبال الطغاة، كما مر بيانه بالتفصيل، فلاحظ.
وفي الجواهر بعد بيان الشرائط الأربعة للوجوب قال:
" وعن البهائي - رحمه الله - في أربعينه عن بعض العلماء زيادة أنه لا يجب الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بعد كون الآمر والناهي متجنبا عن المحرمات

1 - الجواهر 21 / 373.
256

وعدلا، لقوله - تعالى -: " أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم " (1) وقوله - تعالى -:
" لم تقولون ما لا تفعلون " وقوله: " كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون " (2) وقول
الصادق (عليه السلام) في خبر محمد بن أبي عمير المروي، عن الخصال وعن روضة الواعظين:
" إنما يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من كانت فيه ثلاث خصال: عامل بما يأمر به،
تارك لما ينهى عنه الحديث " (3) وقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة: " وأمروا
بالمعروف وائتمروا به، وانهوا عن المنكر وانتهوا (تناهوا - الوسائل) عنه. وإنما أمرنا
بالنهي بعد التناهي " (4) وفي الخبر: " ولا يأمر بالمعروف من قد أمر أن يؤمر به، ولا ينهى
عن المنكر من قد أمر أن ينهى عنه. " على أن هداية الغير فرع الاهتداء، والإقامة بعد
الاستقامة.
وفيه أن الأول إنما يدل على ذم غير العامل بما يأمر به لاعلى عدم الوجوب عليه. و
احتمال الثاني اللوم على قول " فعلنا " أو ما يدل على ذلك ولافعل. والثالث الإشارة إلى
الإمام القائم بجميع أفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعريض بأئمة الجور
المتلبسين بلباس أئمة العدل. كل ذلك لإطلاق ما دل على الأمر بهما كتابا وسنة و
إجماعا من غير اشتراط للعدالة، بل ظاهر حصرهم الشرائط في الأربعة عدم اشتراط
غيرها. " انتهى كلام الجواهر. (5)
أقول: وعن إرشاد الديلمي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: قيل له: لا نأمر بالمعروف حتى
نعمل به كله ولا ننهى عن المنكر حتى ننتهي عنه كله؟ فقال: " لا، بل مروا بالمعروف وإن
لم تعملوا به كله وانهوا عن المنكر وإن لم تنتهوا عنه كله. " (6)

1 - سورة البقرة (2)، الآية 44.
2 - سورة الصف (61)، الآية 2 - 3.
3 - الوسائل 11 / 419 و 403، الباب 10 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 3. والباب 2 منها،
الحديث 10.
4 - الوسائل 11 / 420، الباب 10 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 8. لكن لم أجده في
نهج البلاغة، نعم في ذيل الخطبة 105: " وانهوا عن المنكر وتناهوا عنه، فإنما أمرتم بالنهي بعد
التناهي ".
5 - الجواهر 21 / 373.
6 - الوسائل 11 / 420، الباب 10 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 10.
257

وفي معالم القربة عن ابن عباس، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: " مروا بالمعروف وإن لم تعملوا
به كله وانهوا عن المنكر وإن لم تنتهوا عنه كله. " (1)
وفي كشف الغطاء في بيان شروطهما قال:
" ويجب الأمر بالواجب والنهي عن المحرم وجوبا كفائيا بشروط أربعة عشر:
أحدها: التكليف بجمع وصفي البلوغ والعقل حين الأمر والنهي.
ثانيها: العلم بجهة الفعل من وجوب وحرمة. ومع الاحتمال يدخل في السنة
للاحتياط.
ثالثها: امكان التأثير. ومع عدمه يحلق بالسنة.
رابعها: عدم التقية ولو بمجرد الاطلاع.
خامسها: عدم ترتب الفساد الدنيوي على المأمور أو غيره بسببه.
سادسها: عدم مظنة قيام الغير به.
سابعها: مظنة الوقوع ممن تعلق به الخطاب.
ثامنها: ألا يتقدم منه أو من غيره خطاب يظن تأثيره.
تاسعها: عدم البعث على ارتكاب معصية أو ترك واجب للمأمور أو غيره بسببه.
عاشرها: عدم ترتب نقص مخل بالاعتبار على الآمر.
حادي عشرها: فهم المأمور مراد الآمر.
ثاني عشرها: ضيق الوقت في الواجب الفوري.
ثالث عشرها: عدم معارضة واجب مضيق من صلاة ونحوها.
رابع عشرها: كون المأمور ممن يجوز له النظر إليه أو اللمس له إذا توقف عليهما. " (2)

1 - معالم القربة / 17 (ط. مصر / 64).
2 - كشف الغطاء / 420.
258

الجهة العاشرة:
في بيان مفهوم الحسبة، وشروط المحتسب، والفرق بينه وبين المتطوع:
من الدوائر التي كانت رائجة في أعصار الخلافة الإسلامية هي دائرة الحسبة، وربما
كان يعبر عنها بولاية الحسبة، ويرجع تاريخها إلى عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما سيظهر.
وكانت وظيفتها إجمالا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمراتبها ومفهومهما
الوسيع، ولعلها توجد الآن أيضا في بعض البلاد الإسلامية بهذا الاسم أو ما يقرب منه. و
قد وزعت وظائفها في أعصارنا في أكثر البلاد على الوزارات والمؤسسات المختلفة
المنشعبة من سلطة التنفيذ، كما فوض بعض وظائفها أيضا إلى سلطة القضاء.
وكانت في عصر بساطة الخلافة وسذاجتها تحت إشراف نفس الخليفة والإمام
الأعظم، بل ربما كان الإمام بنفسه يتصدى لأكثر وظائفها. فلنتعرض لها هنا إجمالا
فنقول:
1 - قال ابن الأثير في النهاية:
" والحسبة اسم من الاحتساب، كالعدة من الاعتداد. والاحتساب في الأعمال
الصالحة وعند المكروهات: هو البدار إلى طلب الأجر وتحصيله بالتسليم والصبر، أو
باستعمال أنواع البر والقيام بها على الوجه المرسوم فيها طلبا للثواب المرجوا منها. " (1)
2 - وفي الصحاح:
" احتسب عليه كذا: إذا أنكرته عليه. قال ابن دريد: واحتسبت بكذا (طلبت) أجرا عند
الله، والاسم الحسبة بالكسر وهي الأجر. " (2)

1 - النهاية لابن الأثير 1 / 382.
2 - الصحاح للجوهري 1 / 110.
259

3 - وفي مجمع البحرين:
" يقال: احتسب فلان: عمله طلبا لوجه الله وثوابه، ومنه الحسبة بالكسر وهي
الأجر... والحسبة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واختلف في وجوبهما عينا أو
كفاية. " (1)
أقول: ويحتمل أن تكون الحسبة من المحاسبة بمعنى مراقبة أحد الرجلين للآخر و
حسابه عليه، ولعل منه أيضا الحسيب بمعنى المحاسب، قال الله - تعالى -: " وكفى بالله
حسيبا " (2) هذا.
4 - وفي أول معالم القربة لابن الأخوة:
" الحسبة من قواعد الأمور الدينية. وقد كان أئمة الصدر الأول يباشرونها بأنفسهم،
لعموم صلاحها وجزيل ثوابها. وهي أمر بالمعروف إذا ظهر تركه ونهى عن المنكر إذا
ظهر فعله، وإصلاح بين الناس، قال الله - تعالى -: " لا خير في كثير من نجويهم إلا من
أمر بصدقه أو معروف أو إصلاح بين الناس. " والمحتسب: من نصبه الإمام أو نائبه للنظر
في أحوال الرعية والكشف عن أمورهم ومصالحهم (وبياعاتهم ومأكولاتهم وملبوسهم
ومشروبهم ومساكنهم وطرقاتهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر خ. ل).
ومن شرط المحتسب أن يكون مسلما حرا بالغا عاقلا عدلا قادرا حتى يخرج منه
الصبي والمجنون والكافر، ويدخل فيه آحاد الرعايا وإن لم يكونوا مأذونين، ويدخل
فيه الفاسق والرقيق والمرأة... وأن يكون ذا رأي وصرامة وخشونة في الدين، عارفا
بأحكام الشريعة ليعلم ما يأمر به وينهى عنه، فإن الحسن ما حسنه الشرع، والقبيح ما
قبحه الشرع، لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما استحسنه المسلمون فهو حسن. " (3)

1 - مجمع البحرين / 106
2 - سورة النساء (4)، الآية 6; وسورة الأحزاب (33)، الآية 39.
3 - معالم القربة / 7 - 8. (ط. مصر / 51).
260

أقول: ما ذكره من قوله: " ويدخل فيه آحاد الرعايا... " يريد به لا محالة من يتصدى
للحسبة تطوعا، فلا يناقص ما قبله. وأما ما ذكره من مباشرة أئمة الصدر الأول لأمر
الحسبة فأمر يظهر لكل من راجع الأخبار والتواريخ، وسيأتي ذكر بعض مواردها.
5 - وفي التراتيب الإدارية للكتاني عن التيسير لابن سعيد:
" اعلم أن الحسبة من أعظم الخطط الدينية، فلعموم مصلحتها وعظيم منفعتها تولى
أمرها الخلفاء الراشدون، لم يكلوا أمرها إلى غيرهم مع ما كانوا فيه من شغل الجهاد و
تجهيز الجيوش للمكافحة والجلاد. " (1)
6 - وفيه أيضا عن كشف الظنون:
" علم الاحتساب علم باحث عن الأمور الجارية بين أهل البلد من معاملاتهم اللاتي
لا يتم التمدن بدونها من حيث إجرائها على القانون المعدل بحيث يتم التراضي بين
المتعاملين، وعن سياسة العباد بنهي المنكر وأمر بالمعروف بحيث لا يؤدي إلى
مشاجرات وتفاخر بين العباد بحيث ما رآه الخليفة من الزجر والمنع. ومباديه بعضها
فقهي وبعضها أمور استحسانية ناشئة من رأي الخليفة. والغرض منه تحصيل الملكة في
تلك الأمور. وفائدته إجراء أمور المدن في المجاري على الوجه الأتم.
وهذا أدق العلوم ولا يدركه إلا من له فهم ثاقب وحدس صائب، إذ الأشخاص و
الأزمان والأحوال ليست على وتيرة واحدة، بل لابد لكل واحد من الأزمان والأحوال
سياسة خاصة، وذلك من أصعب الأمور، فلذلك لا يليق بمنصبها إلا من له قوة قدسية
مجردة عن الهوى. " (2)
7 - وقال القاضي أبو يعلى الفراء في الأحكام السلطانية في أحكام الحسبة:
" والحسبة هي أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله. وهذا

1 - التراتيب الإدارية 1 / 286.
2 - التراتيب الإدارية 1 / 287.
261

وإن صح من كل مسلم، فالفرق بين المحتسب والمتطوع من تسعة أوجه:
أحدها: أن فرضه متعين على المحتسب بحكم الولاية، وفرضه على غيره داخل في
فرض الكفاية.
الثاني: أن قيام المحتسب به من حقوق تصرفه الذي لا يجوز أن يتشاغل عنه بغيره، و
قيام المتطوع به من النوافل الذي يجوز التشاغل عنه بغيره.
الثالث: أنه منصوب للاستعداء إليه فيما يجب، وليس المتطوع منصوبا للاستعداء.
الرابع: أن على المحتسب إجابة من استعدى به، وليس على المتطوع إجابته.
الخامس: أن عليه أن يبحث عن المنكرات الظاهرة، ليصل إلى انكارها. ويفحص عما
ترك من المعروف الظاهر ليأمر بإقامته، وليس على غيره من المتطوعة بحث ولا فحص.
السادس: أن له أن يتخذ على الإنكار أعوانا، لأنه عمل هو له منصوب وإليه مندوب
ليكون له أقهر وعليه أقدر، وليس لمتطوع أن يندب لذلك أعوانا.
السابع: له أن يعزر على المنكرات الظاهرة ولا يتجاوزها إلى الحدود، وليس
للمتطوع أن يعزر على منكر.
الثامن: أن له أن يرتزق من بيت المال على حسبته، ولا يجوز لمتطوع أن يرتزق على
إنكاره.
التاسع: أن له اجتهاد رأيه فيما تعلق بالعرف دون الشرع، كالمقاعد في الأسواق، و
إخراج الأجنحة، فيقر وينكر من ذلك ما أداه اجتهاده إليه، وليس هذا للمتطوع.
فيكون الفرق بين والي الحسبة وإن كانت أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر، وبين
غيره من المتطوعة، وإن جاز أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من هذه الوجوه
التسعة.
ومن شروط والي الحسبة أن يكون خبيرا عدلا ذا رأي وصرامة وخشونة في الدين،
وعلم بالمنكرات الظاهرة. وهل يفتقر إلى أن يكون عالما من أهل الاجتهاد في أحكام
الدين ليجتهد رأيه؟ يحتمل أن يكون من أهله، ويحتمل أن لا يكون ذلك
262

شرطا إذا كان عارفا بالمنكرات المتفق عليها. " (1) وذكر نحو ذلك أيضا
الماوردي. (2)
أقول: وفي بعض ما ذكراه من الفروق التسعة نظر بل منع ولا سيما في الثاني و
السادس، كما لا يخفى وجهه.
الجهة الحادية عشرة:
في ذكر بعض الموارد التي تصدى فيها رسول الله " ص " أو أمير المؤمنين (عليه السلام) لأمر
الحسبة أو أمرا بها:
1 - سيأتي في فصل الاحتكار: " أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مر بالمحتكرين فأمر بحكرتهم أن
تخرج إلى بطون الأسواق وحيث تنظر الأبصار إليها. " (3)
2 - وسيأتي أيضا في رواية حذيفة بن منصور: " أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: يا فلان، إن
المسلمين ذكروا أن الطعام قد نفد إلا شئ عندك فأخرجه وبعه كيف شئت. " (4)
3 - وفي خبر ابن أبي يعفور، عن أبي عبد الله (عليه السلام): قال: " جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
فقال: يا رسول الله، إني سألت رجلا بوجه الله فضربني خمسة أسواط؟ فضربه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
خمسة أسواط أخرى وقال: سل بوجهك اللئيم. " (5)
4 - وفي خبر سعد الإسكاف، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " مر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في سوق

1 - الأحكام السلطانية / 284.
2 - الأحكام السلطانية للماوردي / 240.
3 - الوسائل 12 / 317، الباب 30 من أبواب التجارة، الحديث 1.
4 - الوسائل 12 / 317، الباب 29 من أبواب آداب التجارة، الحديث 1.
5 - الوسائل 18 / 577، الباب 2 من أبواب بقية الحدود والتعزيرات، الحديث 1.
263

المدينة بطعام فقال لصاحبه: ما رأى طعامك إلا طيبا، وسأله عن سعره، فأوحى الله -
عز وجل - إليه أن يدس (يدير - يب) يده في الطعام ففعل فأخرج طعاما رديا، فقال
لصاحبه: " ما أراك إلا وقد جمعت خيانة وغشا للمسلمين. " (1)
5 - وفي سنن الترمذي بسنده عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مر على صبرة من
طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللا فقال: " يا صاحب الطعام، ما هذا؟ قال: أصابته
السماء يا رسول الله، قال: " أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس؟ " ثم قال: " من غش
فليس منا. " (2)
6 - وفي سنن أبي داود بسنده عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مر برجل يبيع طعاما
فسأله: " كيف تبيع؟ " فأخبره، فأوحى اليه أن أدخل يدك فيه، فأدخل يده فيه فإذا هو
مبلول، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ليس منا من غش. " (3)
7 - وفي كنز العمال عن محمد بن راشد، قال: سمعت مكحولا يقول: مر
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) برجل يبيع طعاما قد خلط جيدا بقبيح، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ما حملك على
ما صنعت؟ فقال: أردت أن ينفق، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " ميز كل واحد منهما على حدة،
ليس في ديننا غش. " (عب). (4)
8 - وفي صحيح البخاري بسنده عن ابن عمر: " إنهم كانوا يشترون الطعام من الركبان
على عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيبعث عليهم من يمنعهم أن يبيعوه حيث اشتروه حتى ينقلوه حيث
يباع الطعام. " (5)
9 - وفيه أيضا بسنده عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، قال: " رأيت الذين

1 - الوسائل 12 / 209 - 210، الباب 86 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 8.
2 - سنن الترمذي 2 / 389، أبواب البيوع، الباب 72، الحديث 1329.
3 - سنن أبي داود 2 / 244، كتاب الإجارة، باب في النهي عن الغش.
4 - كنز العمال 4 / 159، الباب 2 من كتاب البيوع من قسم الأفعال، الحديث 9974.
5 - صحيح البخاري 2 / 14، كتاب البيوع، الباب 49 (باب ما ذكر في الأسواق).
264

يشترون الطعام مجازفة يضربون على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبيعوه حتى يؤوه إلى
رحالهم. " (1)
وروى نحوه عن سالم عن ابن عمر أيضا. (2)
10 - وفي التراتيب الإدارية للكتاني عن ابن عبد البر في الاستيعاب: " استعمل
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سعيد بن سعيد بن العاص بعد الفتح على سوق مكة. " (3)
11 - وفيه أيضا عن الاستيعاب:
" سمراء بنت نهيك الأسدية أدركت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعمرت وكانت تمر في الأسواق تأمر
بالمعروف وتنهى عن المنكر وتنهى الناس عن ذلك بسوط معها. " (4)
أقول: قد يقال: إن حسبتها لم تكن على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بل في عهد عمر، وعن
القاضي ابن سعيد: إن ولايتها كانت في أمر خاص يتعلق بأمر النساء.
12 - وفي كنز العمال عن أبي سعيد، قال: مر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بسلاخ وهو يسلخ شاة وهو
ينفخ فيها فقال: " ليس منا من غشنا ودحس بين جلدها ولحمها ولم يمس ماء. " (كر) (5)
أقول: دحس القصاب: أدخل يده بين الجلد والصفاق للسلخ.
13 - وفيه أيضا عن كليب بن وائل الأزدي، قال: رأيت علي بن أبي طالب مر
بالقصابين فقال: " يا معشر القصابين، لا تنفخوا، فمن نفخ اللحم فليس منا. " (عب) (6)
14 - وأمر أمير المؤمنين (عليه السلام) مالكا بمنع التجار من الاحتكار ومعاقبة من قارف
الحكرة بعد نهيه. (7)

1 - صحيح البخاري 2 / 15، كتاب البيوع، الباب 54 (باب ما يذكر في بيع الطعام والحكرة).
2 - صحيح البخاري 2 / 16، كتاب البيوع، الباب 56 (باب من رأى إذا اشترى طعاما جزافا...).
3 - التراتيب الإدارية 1 / 285.
4 - التراتيب الإدارية 1 / 285.
5 - كنز العمال 4 / 158، الباب 2 من كتاب البيوع من قسم الأفعال، الحديث 9972.
6 - كنز العمال 4 / 158، الباب 2 من كتاب البيوع من قسم الأفعال، الحديث 9969.
7 - نهج البلاغة، فيض / 1017; عبده 3 / 110; لح / 438، الكتاب 53.
265

15 - وأمر (عليه السلام) رفاعة قاضية على الأهواز بالنهي عن الاحتكار وأنه من ركبه فأوجعه
وعاقبه بإظهار من احتكر. (1)
16 - وفي المحلى لابن حزم عن جيش قال: " أحرق لي علي بن أبي طالب (عليه السلام) بيادر
بالسواد كنت احتكرتها لو تركها لربحت فيها مثل عطاء الكوفة. " (2)
17 - وفيه أيضا بسنده عن أبي الحكم: " أن علي بن أبي طالب (عليه السلام) أحرق طعاما احتكر
بمأة ألف. " (3)
18 - وفي خبر حبابة الوالبية، قالت: " رأيت أمير المؤمنين (عليه السلام) في شرطة الخميس و
معه درة لها سبابتان يضرب بها بياعي الجري والمارماهي والزمار. " (4)
19 - وفي خبر رزين، قال: " كنت أتوضأ في ميضأة الكوفة فإذا رجل قد جاء فوضع
نعليه ووضع درته فوقها، ثم دنا فتوضأ معي، فزحمته حتى وقع على يديه، فقام فتوضأ
فلما فرغ ضرب رأسي بالدرة - ثلاثا - ثم قال: إياك أن تدفع فتكسر فتغرم. فقلت: من
هذا؟ فقالوا: أمير المؤمنين، فذهبت أعتذر إليه فمضى ولم يلتفت إلى. " (5)
20 - وفي خبر طلحة بن زيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " أن أمير المؤمنين (عليه السلام) أتى برجل
عبث بذكره فضرب يده حتى احمرت ثم زوجه من بيت المال. " (6)
21 - وفي خبر زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " إن عليا (عليه السلام) أتى برجل عبث

1 - دعائم الإسلام 2 / 36، كتاب البيوع، الفصل 6 (ذكر ما نهي عنه في البيوع)، الحديث 80.
2 - المحلى 6 / 65، (الجزء 9)، المسألة 1567.
3 - المحلى 6 / 65، (الجزء 9)، المسألة 1567.
4 - الوسائل 16 / 332، الباب 9 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 3.
5 - الوسائل 18 / 583، الباب 9 من أبواب بقية الحدود والتعزيرات، الحديث 1.
6 - الوسائل 18 / 574، الباب 3 من أبواب نكاح البهائم و...، الحديث 1.
266

بذكره حتى أنزل فضرب يده حتى احمرت. قال: ولا أعلمه إلا قال: " وزوجه من بيت
مال المسلمين. " (1)
22 - وفي صحيحة هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " أن أمير المؤمنين (عليه السلام) رأى
قاصا في المسجد فضربه بالدرة وطرده. " (2)
23 - وفي خبر السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " أتي أمير المؤمنين (عليه السلام) برجل
نصراني كان أسلم ومعه خنزير قد شواه وأدرجه بريحان. قال: ما حملك على هذا؟ قال
الرجل: مرضت فقرمت إلى اللحم. فقال: أين أنت عن لحم الماعز فكان خلفا منه، ثم
قال: لو أنك أكلته لا قمت عليك الحد ولكني سأضربك ضربا فلا تعد، فضربه حتى شغر
ببوله. " (3)
أقول: قرم إلى اللحم: اشتدت شهوته له حتى لا يصبر عنه. وشغر الكلب: رفع إحدى
رجليه ليبول.
24 - وفي خبر السكوني أيضا، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " أن أمير المؤمنين (عليه السلام) ألقى صبيان
الكتاب ألواحهم بين يديه ليخير بينهم، فقال: أما إنها حكومة، والجور فيها كالجور في
الحكم، أبلغوا معلمكم إن ضربكم فوق ثلاث ضربات في الأدب اقتص منه. " (4)
25 - وعن الكليني والشيخ بسندهما عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " كان
أمير المؤمنين (عليه السلام) عندكم بالكوفة يغتدي كل يوم بكرة من القصر فيطوف في أسواق
الكوفة سوقا سوقا، ومعه الدرة على عاتقه، وكان لها طرفان، وكانت تسمى السبيبة
فيقف على أهل كل سوق فينادي: يا معشر التجار، اتقوا الله، فإذا سمعوا صوته ألقوا ما
بأيديهم وأرعوا إليه بقلوبهم وسمعوا بآذانهم فيقول: قدموا الاستخارة، وتبركوا
بالسهولة، واقتربوا من المبتاعين، وتزينوا بالحلم، وتناهوا عن اليمين، وجانبوا الكذب،
وتجافوا عن الظلم، وأنصفوا المظلومين، ولا تقربوا الربا، وأوفوا الكيل

1 - الوسائل 18 / 575، الباب 3 من أبواب نكاح البهائم و...، الحديث 2.
2 - الوسائل 18 / 578، الباب 4 من أبواب بقية الحدود والتعزيرات، الحديث 1.
3 - الوسائل 18 / 580، الباب 7 من أبواب بقية الحدود والتعزيرات، الحديث 1.
4 - الوسائل 18 / 582، الباب 8 من أبواب بقية الحدود والتعزيرات، الحديث 2.
267

والميزان، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين. فيطوف في
جميع أسواق الكوفة ثم يرجع فيقعد للناس. "
وعن الصدوق بسنده عن محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) نحوه. (1)
أقول: في حاشية فروع الكافي أن السبيبة بمعنى الشق، إذ كانت لدرنه (عليه السلام) سبابتان (2).
وقوله: " وأرعوا إليه بقلوبهم. " من قولهم: " أرعيته سمعي "، أي أصغيت إليه.
26 - وفي الغارات بسنده عن أبي سعيد، قال: كان على (عليه السلام) يأتي السوق فيقول: يا أهل
السوق، اتقوا الله وإياكم والحلف، فإنه ينفق السلعة ويمحق البركة فإن التاجر فاجر إلا
من أخذ الحق وأعطاه، السلام عليكم. ثم يمكث الأيام ثم يأتي فيقول مثل مقالته فكان
إذا جاء قالوا: قد جاء المردشكنبه فكان يرجع إلى سرته فيقول: " إذا جئت قالوا: قد جاء
المردشكنبه فما يعنون بذلك؟ " قال: يقولون: قد جاء عظيم البطن، فيقول (عليه السلام): " أسفله
طعام وأعلاه علم. " ورواه عنه في المستدرك. (3)
27 - وفي دعائم الإسلام عن علي (عليه السلام) أنه كان يمشي في الأسواق وبيده درة يضرب
بها من وجد من مطفف أو غاش في تجارة المسلمين. قال الأصبغ: قلت له يوما: أنا
أكفيك هذا يا أمير المؤمنين واجلس في بيتك. قال: ما نصحتني يا أصبغ.
وكان يركب بغلة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الشهباء ويطوف في الأسواق سوقا سوقا فأتى يوما
طاق اللحامين فقال: يا معشر القصابين، لا تعجلوا الأنفس قبل أن تزهق، وإياكم والنفخ
في اللحم. ثم أتى إلى التمارين فقال: أظهروا من ردى بيعكم ما تظهرون من جيده. ثم
أتى السماكين، فقال: لا تبيعوا إلا طيبا وإياكم وما طفا. ثم أتى الكناسة وفيها من أنواع
التجارة من نخاس وقماط وبائع إبل وصيرفي وبزاز وخياط فنادى بأعلى صوت: يا
معشر التجار، إن أسواقكم هذه تحضرها الإيمان فشوبوا إيمانكم بالصدقة، وكفوا عن
الحلف فإن الله

1 - الوسائل 12 / 284، الباب 2 من أبواب آداب التجارة، الحديث 1.
2 - الكافي 5 / 151، كتاب المعيشة، باب آداب التجارة.
3 - الغارات 1 / 110; ورواه في المستدرك 2 / 463، الباب 3 من أبواب آداب التجارة، الحديث 4.
268

- تبارك وتعالى - لا يقدس من حلف باسمه كاذبا. (1)
28 - وعن الصدوق بإسناده إلى قضايا أمير المؤمنين (عليه السلام) أن رجلا قال له: إن هذا زعم
أنه احتلم بأمي. فقال (عليه السلام): إن الحلم بمنزلة الظل، فإن شئت جلدت لك ظله. ثم قال: لكني
أؤدبه لئلا يعود يؤذي المسلمين. (2)
وفي صحيحة الحسين بن أبي العلاء، عن أبي عبد الله (عليه السلام) نحوه، وقال: " فضربه ضربا
وجيعا. " (3)
29 - وفي التراتيب الإدارية للكتاني عن عبد بن حميد في مسنده، عن مطرف، قال:
" خرجت من المسجد فإذا رجل ينادي من خلفي: ارفع إزارك، فإنه أنقى لثوبك وأبقى
له. فمشيت خلفه وهو بين يدي مؤتزر بإزار، مرتد برداء ومعه الدرة كأنه أعرابي بدوي،
فقلت: من هذا؟ فقال لي رجل: هذا علي بن أبي طالب أمير المؤمنين (عليه السلام).
حتى انتهى إلى الإبل فقال: بيعوا ولا تحلفوا، فإن اليمين تنفق السلعة وتمحق البركة.
ثم أتى إلى أصحاب التمر فإذا خادم يبكى فقال: ما يبكيك؟ قال: باعني هذا الرجل تمرا
بدرهم فرده على مولاي. فقال له على (عليه السلام): خذ تمرك وأعطه درهمه، فإنه ليس له من
الأمر شيء، فدفعه. " (4)
وروى نحوه ابن عساكر في تاريخه عن أبي المطر. وفي كنز العمال أيضا عن مسند
علي (عليه السلام)، عن أبي مطر نحوه، فراجع. (5)
إلى غير ذلك من الروايات الواردة في هذا المجال مما يعثر عليها المتتبع.
أقول: وليس مقتضى نقلنا لهذه الروايات الكثيرة الالتزام بصحة الجميع وجواز

1 - دعائم الإسلام 2 / 538، كتاب آداب القضاة، الحديث 1613.
2 - الوسائل 18 / 458، الباب 24 من أبواب حد القذف، الحديث 2.
3 - الوسائل 18 / 458، الباب 24 من أبواب حد القذف، الحديث 1.
4 - التراتيب الإدارية 1 / 289.
5 - تاريخ ابن عساكر، ترجمة الإمام علي بن أبي طالب 3 / 194; وكنز العمال 13 / 183، باب
فضائل الصحابة من كتاب الفضائل من قسم الأفعال، الحديث 36547.
269

الاعتماد على كل واحدة منها بانفرادها، بل الغرض هو إثبات اهتمام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و
أمير المؤمنين (عليه السلام) بأمر الحسبة إجمالا، بحيث كانا بأنفسهما يتصديان لها. والظاهر تحقق
الوثوق بصدور بعض هذه الروايات إجمالا، وهذا يكفينا في مقام الاستدلال، فتدبر.
الجهة الثانية عشرة:
في وظيفة المحتسب:
وظيفة المحتسب إجمالا هي نشر المعروف وبسطه في المجتمع، ودفع المنكر و
المكروه عنه.
والظاهر أن المراد بالمعروف في هذا الباب مطلق ما يستحسنه العقل أو الشرع من
الواجب والمندوب بل وبعض المباحات الراجحة لجهة من الجهات الراجعة إلى مصالح
المجتمع. والمراد بالمنكر مطلق ما يستنكره العقل أو الشرع، محرما كان أو مكروها أو
مباحا له حزازة عرفية لجهة من الجهات، إذ رب أمر لا يكون بالذات محرما ولكن
مصالح المجتمع والبلاد تقتضي تحديد حريات الأفراد بالنسبة إليه، كما لا يخفى على
أهله.
قال المحقق في الشرائع:
" والمعروف ينقسم إلى الواجب والندب. فالأمر بالواجب واجب، وبالمندوب
مندوب. والمنكر لا ينقسم. فالنهي عنه كله واجب. " (1)
قال في الجواهر:
" وكأنه اصطلاح، وإلا فيمكن قسمته إليهما أيضا على معنى وجوب النهي عن الحرام
واستحباب النهي عن المكروه. " (2)

1 - الشرائع 1 / 341.
2 - الجواهر 21 / 365.
270

أقول: وما ذكره صحيح، ولذا قال ابن حمزة في الوسيلة:
" والأمر بالمعروف يتبع المعروف في الوجوب والندب، والنهي عن المنكر يتبع
المنكر فإن كان المنكر محظورا كان النهي عنه واجبا وإن كان مكروها كان النهي عنه
مندوبا. " (1)
وكيف كان: فلنتعرض في المقام لبعض الكلمات المتعرضة لوظائف المحتسب: ففي
مقدمة ابن خلدون في فصل الخطط الدينية الخلافية:
" أما الحسبة فهي وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو
فرض على القائم بأمور المسلمين، يعين لذلك من يراه أهلا له فيتعين فرضه عليه، ويتخذ
الأعوان على ذلك، ويبحث عن المنكرات، ويعزر ويؤدب على قدرها، ويحمل الناس
على المصالح العامة في المدينة مثل المنع من المضايقة في الطرقات ومنع الحمالين و
أهل السفن من الإكثار في الحمل، والحكم على أهل المباني المتداعية للسقوط بهدمها،
وإزالة ما يتوقع من ضررها على السابلة، والضرب على أيدي المعلمين في المكاتب و
غيرها في الإبلاغ في ضربهم للصبيان المتعلمين. ولا يتوقف حكمه على تنازع أو
استعداء، بل له النظر والحكم فيما يصل إلى علمه من ذلك ويرفع إليه، وليس له إمضاء
الحكم في الدعاوى مطلقا بل فيما يتعلق بالغش والتدليس في المعايش وغيرها وفي
المكاييل والموازين. وله أيضا حمل المماطلين على الإنصاف وأمثال ذلك مما ليس
فيه سماع بينة ولا إنفاذ حكم.
وكأنها أحكام ينزه القاضي عنها لعمومها وسهولة أغراضها فتدفع إلى صاحب هذه
الوظيفة ليقوم بها، فوضعها على ذلك أن تكون خادمة لمنصب القضاء. " (2) هذا.

1 - الجوامع الفقهية / 733.
2 - المقدمة / 158، الفصل 32 من الفصل 3 من الكتاب الأول (= طبعة أخرى / 225، الفصل 31).
271

أقول: وابن الأخوة محمد بن محمد بن أحمد القرشي - المتوفى 729 ه‍ - قد ألف كتابا
جامعا في الحسبة سماه " معالم القربة في أحكام الحسبة " وعقد فيه أبوابا وفصولا كثيرة
عدد أبوابه سبعون بابا، فصل فيها وظائف المحتسب في المجالات المختلفة. فلنذكر
بعض ما ذكره إجمالا تلخيصا من كتابه، لاشتماله على ما يعم نفعه ويكثر الابتلاء به، وان
كان للبحث والإشكال في بعض ما ذكره مجال واسع كما لا يخفى على أهله. وأوصي
الفضلاء بمطالعة هذا الكتاب، فإنه كتاب وزين في موضوعه. (1)
1 - قال في الباب الثاني منه ما ملخصه:
" أما بعد فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو
المهم الذي ابتعث الله به النبيين أجمعين. ولو طوى بساطه وأهمل عمله وعلمه لتعطلت
النبوة واضمحلت الديانة وعمت الفترة وفشت الضلالة وشاعت الجهالة وانتشر الفساد
واتسع الخرق وخربت البلاد وهلك العباد... فمن سعى في تلافي هذه الفترة وسد هذه
الثلمة إما متكلفا بعلمها أو متقلدا لتنفيذها مجردا عزيمته لهذه السنة الداثرة ناهضا
باعتنائها ومشمرا في إحيائها، كان مستأثرا من بين الناس باحتسابه ومستندا بقربة ينال
بها درجات القرب.
وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد وردت فيه فضائل كثيرة: قال الله -
تعالى -: " ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، و
أولئك هم المفلحون. " وقال الله - تعالى -: " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض
يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة. "...
وأما الأخبار فيها فما رواه الحسن عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " من أمر بالمعروف ونهى عن
المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه. " وعن درة بنت أبي لهب،
قالت: جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو على المنبر فقال: من خير الناس

1 - وحيث يوجد اختلاف بين النسختين الموجودتين عندنا من الكتاب، نشير ذيل الصفحات إلى
طبعتيه - طبعة دار الفنون بكيمبرج (ليدن)، وطبعة مصر -.
272

يا رسول الله؟ قال: " آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله و
أوصلهم. "...
وروى عن أبى ثعلبة أنه سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن تفسير قوله - تعالى -: " لا يضركم
من ضل إذا اهتديتم، فقال: يا أبا ثعلبة، مر بالمعروف وانه عن المنكر، فإذا رأيت شحا
مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك ودع العوام
الحديث. " (1)
وعن ابن عباس قال: قلنا: يا رسول الله، إنك لتأمرنا بالمعروف حتى لا يبقى من
المعروف شيء إلا عملنا به، وتنهانا عن المنكر حتى لا يبقى من المنكر شيء إلا انتهينا
عنه، لم نأمر بالمعروف؟ ولم ننهى عن المنكر؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " مروا بالمعروف وإن لم تعملوا
به كله وانهوا عن المنكر وإن لم تنتهوا عنه كله. " وقال علي بن أبي طالب (عليه السلام): " أفضل
الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فمن أمر بالمعروف شد ظهر المؤمنين، ومن
نهى عن المنكر أرغم أنف المنافقين. "...
وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا رفيق فيما يأمر به، رفيق
فيما ينهى عنه، حكيم فيما يأمر به، حكيم فيما ينهى عنه، فقيه فيما يأمر به، فقيه فيما ينهى
عنه. "
وهذا يدل عالي أنه لا يشترط أن يكون فقيها مطلقا بل فيما يأمر به.
وأوصى بعض السلف بنيه وقال: إذا أراد أحدكم أن يأمر بالمعروف فليوطن نفسه
على الصبر وليثق بالثواب من الله، فمن وثق بالثواب لم يجد مس الأذى.
فأدب من آداب الحسبة توطين النفس على الصبر، ولذلك قرن الله به الصبر حاكيا
عن لقمان: " يا بني، أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر، واصبر على ما أصابك،
إن ذلك من عزم الأمور. "
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما من عين رأت منكرا ومعصية لله فلم تغيره إلا أبكاها الله
يوم القيامة وان كان وليا لله. "
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من رأى منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن
لم يستطع فبقلبه وهو أضعف الإيمان. "

1 - إحياء العلوم 2 / 308; وروى نحوه في الدر المنثور 2 / 339.
273

وقال الحسن البصري: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أفضل شهداء أمتي رجل قام إلى إمام
جائر فأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر فقتله على ذلك، فذلك الشهيد منزلته في الجنة
بين حمزة وجعفر. " (1)
2 - وكانت سيرة العلماء وعاداتهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقلة المبالاة
بسطوة الملوك، لكنهم اتكلوا على فضل الله أن يحرسهم ورضوا بحكم الله أن يرزقهم
الشهادة، فلما أخلصوا لله النية أثر كلامهم في القلوب القاسية، وأما الآن فقد استولى
عليهم حب الدنيا، ومن استولى عليه حب الدنيا لم يقدر على الحسبة على الأراذل فكيف
على الملوك والأكابر، وكانت من عادات السلف الحسبة على الولاة...
وعن سفيان الثوري قال: " حج المهدي فرأيته يرمي جمرة العقبة والناس محيطون به
يمينا وشمالا يضربون الناس بالسياط فوقفت فقلت يا حسن الوجه، حدثنا أيمن بن
نابل عن قدامة، قال: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يرمي جمرة يوم النحر على جمل لا ضرب و
لاطرد ولا جلد ولا إليك إليك. وها أنت يخبط الناس بين يديك يمينا وشمالا. "...
وقال أبوا الدرداء: " إذا كان الرجل محببا في جيرانه، محمودا عند إخوانه فاعلم أنه
مداهن. " (2)
3 - وقال بعض العلماء: المعروف كل فعل أو قول أو قصد حسن شرعا، والمنكر كل
فعل أو قول أو قصد قبح شرعا. والإنكار في ترك الواجب وفعل الحرام واجب، وفي
ترك المندوب وفعل المكروه مندوب. والإنكار باليد إن أمكن وإلا باللسان وإلا
بالقلب. وعلى الناس والولاة فعل ذلك وإعانة من يفعله وتقويته فإنه حفظ الدين، و
يجب الإنكار على من ترك الإنكار الواجب. ويبدأ في الإنكار بالأسهل، فإن زال وإلا
أغلظ، فإن زال وإلا رفعه إلى الإمام. ولا ينكر على غير مكلف إلا

1 - معالم القربة / 15 (= ط. مصر / 61).
2 - معالم القربة / 20 (= ط. مصر / 70).
274

تأديبا وزجرا ولاعلى ذمي لا يجهر بالمنكر. (1)
4 - وأما الأمر بالمعروف فينقسم إلى ثلاثة أقسام:
أحدها: ما تعلق بحقوق الله. والثاني: ما تعلق بحقوق الآدميين. والثالث: ما كان
مشتركا بينهما.
وأما المتعلق بحقوق الله - تعالى - فضربان: أحدهما ما يلزم الأمر به في الجماعة
دون الانفراد كترك الجمعة في وطن مسكون، فإن كانوا عددا قد اتفق على انعقاد الجمعة
بهم كالأربعين فما زاد فواجب أن يأخذهم بإقامتها ويأمرهم بفعلها، ويؤدب على
الإخلال بها...
فأما صلاة الجماعة في المساجد وإقامة الأذان فيها للصلوات فمن شعائر الإسلام و
علامات متعبداته التي فرق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (بها خ. ل) بين دار الإسلام ودار الشرك، فإذا
اجتمع أهل محلة أو بلد على تعطيل الجماعات في مساجدهم وترك الأذان في أوقات
الصلوات كان المحتسب مندوبا إلى أمرهم بالأذان والجماعة في الصلوات... فأما من
ترك صلاة الجماعة من آحاد الناس أو ترك الأذان والإقامة لصلاته فلا اعتراض
للمحتسب عليه إذا لم يجعله عادة لأنها من الندب الذي يسقط بالأعذار إلا أن يقترن بها
استرابة أو يجعله إلفا وعادة ويخاف تعدي ذلك إلى غيره في الاقتداء، فمراعاة حكم
المصلحة في زجره عما استهان به من سنن عبادته ويكون وعيده على ترك الجماعة
معتبرا بشواهد حاله، كالذي روى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " لقد هممت أن آمر أصحابي
أن يجمعوا حطبا وآمر بالصلاة فيؤذن لها وتقام ثم أخالف إلى منازل قوم لا يحضرون
الصلاة فأحرقها عليهم. " (2)
5 - وأما ما يؤمر به آحاد الناس وأفرادهم فكتأخير الصلاة حتى يخرج وقتها فيذكر
بها ويؤمر بفعلها ويراعى جوابه عنها فإن قال: تركتها للنسيان حثه على فعلها بعد ذكره و
لم يؤدبه، وإن تركها لتوان واهوان أدبه زجرا وأخذه بفعلها جبرا، ولا اعتراض على

1 - معالم القربة / 22 (= ط. مصر / 72).
2 - معالم القربة / 22 (= ط. مصر / 73).
275

من أخرها والوقت باق... (1)
6 - وأما الأمر بالمعروف في حقوق الآدميين فضربان: عام وخاص. فأما العام
فكالبلد إذا تعطل سربه واستهدم سوره، وكذلك لو استهدم مساجدهم وجوامعهم، فأما
إذا أعوز بيت المال كان الأمر ببناء سورهم وإصلاح سربهم وعمارة مساجدهم و
جوامعهم متوجها إلى كافة ذوي المكنة منهم ولا يتعين أحدهم في الأمر به، فإن شرع
ذووا المكنة في عمله وباشروا القيام به سقط عن المحتسب حق الأمر به.
وأما الخاص كالحقوق إذا بطلت (مطلت خ. ل) والديون إذا أخرت فللمحتسب أن
يأمر بالخروج منها مع المكنة إذا استعداه أصحاب الحقوق... (2)
7 - وأما الأمر بالمعروف فيما كان مشتركا بين حقوق الله - تعالى - وحقوق
الآدميين فكأخذ الأولياء بنكاح الأيامى من أكفائهن إذا طلبن، وإلزام النساء أحكام
العدد إذا فورقن، وله تأديب من خالف في العدة من النساء، وليس له تأديب من امتنع
من الأولياء، ومن نفى ولدا قد ثبت فراش أمه ولحوق نسبه أخذه بأحكام الآباء جبرا و
عزره على النفي أدبا. ويأخذ السادة بحقوق العبيد والإماء: نفقتهم وكسوتهم لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف. وأن لا يكلفوا من العمل ما لا يطيقون...
ومن ملك بهيمة وجب عليه القيام بعلفها ولا يحمل عليها ما يضرها كما في العبد و
لا يحلب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها لأنه خلق غذاء للولد فلا يجوز منعه منه.
وإن امتنع من الإنفاق عليها أجبر على ذلك... (3)
8 - وأما النهي عن المنكرات فينقسم أيضا على ثلاثة أقسام:
أحدها: ما كان من حقوق الله تعالى -: والثاني: ما كان من حقوق الآدميين. والثالث:
ما كان مشتركا بين الحقين.
فأما النهي عنها في حقوق الله - تعالى - فعلى ثلاثة أقسام:

1 - معالم القربة / 24 (= ط. مصر / 75).
2 - معالم القربة / 26 (= ط. مصر / 76).
3 - معالم القربة / 26 (= ط. مصر / 77).
276

أحدها: ما تعلق بالعبادات. والثاني ما تعلق بالمحظورات. والثالث: ما تعلق
بالمعاملات.
فأما المتعلق بالعبادات فكالقاصد مخالفة هيئات الصلاة... فللمحتسب إنكارها و
تأديب العامل فيها وكذلك إذا أخل بتطهير جسده أو ثوبه أو موضع صلاته أنكر عليه إذا
تحقق ذلك منه، ولا يؤاخذه بالتهم والظنون... لكن يجوز له بالتهم أن يعظ ويحذر من
عذاب الله - تعالى - على إسقاط حقوقه والإخلال بمفروضاته. فإن رآه يأكل في شهر
رمضان لم يقدم على تأديبه إلا بعد سؤاله عن سبب أكله إذا التبست عليه أحواله فربما
كان مريضا أو مسافرا، ويلزمه السؤال إذا ظهرت أمارات الريب، فإن ذكر في الأعذار ما
يحمل حاله صدقه وكف عن زجره وأمره بإخفاء أكله لئلا يعرض نفسه لتهمة، ولا يلزمه
إحلافه عند الاسترابة بقوله لأنه موكول إلى أمانته، وإن لم يكن له عذر جاهر بالإنكار
عليه وردعه وأدبه عليه تأديب زجر... (1)
9 - فإن رأى المحتسب رجلا يتعرض لمسألة الناس وطلب الصدقة وعلم أنه غني
إما بمال أو عمل أنكره عليه وأدبه فيه وكان المحتسب أخص بالإنكار من غيره فقد فعل
عمر مثل ذلك في قوم من أله الصدقة... (2)
10 - وهكذا لو ابتدع بعض المنتسبين إلى العلم قولا خرق الإجماع وخالف فيه النص
ورد قوله علماء عصره أنكر عليه وزجره عنه، فإن أقلع وتاب وإلا فالسلطان بتهذيب
الدين أحق.
وإذا تعرض بعض المفسرين لكتاب الله - تعالى - بتأويل عدل فيه عن ظاهر التنزيل
إلى باطن بدعة يتكلف له إغماض (أغمض خ. ل) معانيه أو انفرد بعض الرواة بأحاديث
مناكير تنفر منها النفوس أو يفسد بها التأويل كان على المحتسب إنكار ذلك والمنع منه، و
هذا إنما يصح منه إنكاره إذا تميز عنده الصحيح من الفاسد والحق من الباطل...

1 - معالم القربة / 27 (= ط. مصر / 78).
2 - معالم القربة / 29 (= ط. مصر / 79).
277

والمحتسب الجاهل إن خاض فيما لا يعلمه كان ما يفسده أكثر مما يصلحه، ولهذا
قالوا: العامي لا يحتسب إلا في الجليات... (1)
11 - وأما ما تعلق بالمحظورات فهو أن يمنع الناس من مواقف الريب ومظان التهم،
فقد قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك. " فيقدم الإنذار، ولا يعجل بالتأديب قبل
الإنذار.
حكى إبراهيم النخعي أن عمر بن الخطاب نهى الرجال أن يطوفوا مع النساء، فرأى
رجلا يصلى مع النساء فضربه بالدرة، فقال له الرجل: والله لئن كنت أحسنت لقد ظلمتني،
ولئن كنت أسأت فما أعلمتني. فقال عمر: أما شهدت عزيمتي؟ قال: ما شهدت لك عزمة،
فألقى إليه الدرة وقال: اقتص. قال: لا أقتص اليوم، قال: فاعف. قال: لا أعفو، فافترقا على
ذلك ثم لقيه من الغد فتغير لون عمر...
وإذا رأى وقفة رجل مع امرأة في طريق سابل لم تظهر منهما أمارات الريب لم يتعرض
عليهما بزجر ولا إنكار، فما يجد الناس بدا من هذا. وإن كانت الوقفة في طريق خال
فخلوا بمكان ريبة فينكر على هؤلاء، ولا يعجل في التأديب عليهما حذرا من أن تكون
ذات محرم، وليقل إن كانت ذات محرم فصنها عن مواقف الريب وإن كانت أجنبية فخف
الله - تعالى - من خلوة تؤديك إلى معصية الله - تعالى -...
ويلزم المحتسب أن يتفقد المواضع التي يجتمع فيها النسوان مثل سوق الغزل والكتان
وشطوط الأنهار وأبواب حمامات النساء وغير ذلك، فإن رأى شابا متعرضا بامرأة و
يكلمها في غير معاملة في البيع والشراء أو ينظر إليها عزره ومنعه من الوقوف هناك،
فكثير من الشباب المفسدين يقفون في هذه المواضع وليس لهم حاجة غير التلاعب على
النسوان، فمن وقف من الشباب في طريقهن بغير حاجة عزره على ذلك. (2)

1 - معالم القربة / 29 (= ط. مصر / 79).
2 - معالم القربة / 30 (= ط. مصر / 80).
278

12 - وقال في الباب الثالث من الكتاب ما ملخصه:
" وإذا جاهر رجل بإظهار الخمر فإن كان مسلما أراقها وأدبه، وإن كان ذميا أدب
على إظهارها، واختلف الفقهاء في إراقتها عليه... وروى عن عمر أنه قال على منبر
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أيها الناس، إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمس: العنب والتمر والبر و
الشعير والزبيب. والخمر ما خامر العقل، أي غطاه. وقد لعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الخمر
عشرة، قال العلماء: أدخل فيه بيع العصير ممن يتخذ الخمر. قال الشافعي: أكره ذلك. و
لا شك أنه إعانة على المعصية يضاهيه بيع السلاح من قطاع الطريق وبيع السلاح من أهل
الحرب...
ومن شرب المسكر وهو بالغ عاقل مسلم مختار وجب عليه الحد... ولا حد على
الحربي والمجنون والصبي، ولا يجب على الذمي، لأنه لا يعتقد تحريمه، ولا يجب على
المكره...
فأما المجاهرة بإظهار الملاهي المحرمة مثل الزمر والطنبور والعود والصنج وما
أشبه ذلك من آلات الملاهي فعلى المحتسب أن يفصلها حتى تصير خشبا يصلح لغير
الملاهي ويؤدب على المجاهرة عليها ولا يكسرها إن كان خشبها يصلح لغير الملاهي،
فإن لم يصلح لغير الملاهي كسرها...
وإن كان الرضاض يعد مالا ففي جواز بيعها قبل الرض وجهان... ويجيء الوجهان
في الأصنام والصور المتخذة من الذهب والخشب وغيرهما...
وأما آلة اللعب التي ليس يقصد بها المعاصي وإنما يقصد بها إلف القينات لتربية
الأولاد ففيها وجه من وجوه التدبير... وقد دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على عائشة وهي
تلعب بالبنات فأقرها ولم ينكر عليها...
وليس يمتنع إنكار المجاهرة ببعض المباحات كما تنكر المجاهرة بالمباح من مباشرة
الأزواج.
فأما ما لم يظهر من المحظورات فليس للمحتسب أن يبحث عنها ولا أن يهتك الأستار
حذرا من الاستتار بها. قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): من أتى من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر
الله، فإنه من يبدلنا صفحته يقم حد الله عليه.
279

ومن شرط المنكر الذي ينكره المحتسب أن يكون ظاهرا. فكل من ستر معصية في
داره وأغلق بابه لا يجوز له أن يتجسس عليه إلا أن يكون ذلك في انتهاك حرمة يفوت
استداركها، مثل أن يخبره من يثق بصدقة أن رجلا خلا برجل ليقتله أو بامرأة ليزني بها...
حكى أن عمر بن الخطاب دخل على قوم يتعاقرون على شراب ويوقدون في
الأخصاص فقال: نهيتكم عن المعاقرة فعاقرتم، ونهيتكم عن الإيقاد في الأخصاص
فأوقدتم. فقالوا: نهاك الله عن التجسس فتجسست، وعن الدخول بغير إذن فدخلت.
فقال: هاتين بهاتين، وانصرف ولم يتعرض لهم.
فإن سمع المحتسب أصوات ملاه منكرة من دار تظاهر أهلها بأصواتها أنكرها خارج
الدار ولم يهجم عليها بالدخول، لأن المنكر ظاهر وليس له أن يكشف عما سواه. " (1)
أقول: عاقر الشيء: لازمه وأدمن عليه. والخص بالضم: حانوت الخمار.
13 - وذكر في الباب الرابع، الحسبة على أهل الذمة فقال ما ملخصه:
" اعلم أن التساهل مع أهل الذمة في أمور الدين خطر عظيم، وقد قال الله - سبحانه و
تعالى - في كتابه العزيز: " يا أيها الذين آمنوا، لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون
إليهم بالمودة، وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم، ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل. "
وقد ورد في الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " لأخرجن اليهود والنصارى من
جزيرة العرب حتى لا أدع بها إلا مسلما. "...
وهذا أصل يعتمد عليه في ترك الاستعانة بالكافر، فكيف استعمالهم على رقاب
المسلمين؟ فحينئذ يجب على المحتسب النظر في أهل الذمة وأن يلزمهم بما هو مشروط
عليهم وبما التزموه على أنفسهم ولا يرخص لهم في ترك شيء منه قولا ولا فعلا...
ويمنعون من احداث بيع وكنائس في دار الإسلام وقد أمر عمر بهدم كل كنيسة

1 - معالم القربة / 32 (= ط. مصر / 84).
280

استجدت بعد الهجرة ولم يبق إلا ما كان قبل الإسلام. وأرسل عروة من نجد فهدم
الكنائس بصنعاء، وصانع القبط على كنائسهم بمصر وهدم بعضها ولم يبق من الكنائس
إلا ما كان قبل مبعثه (صلى الله عليه وآله وسلم). أما إذا استهدم منها شيء فلا يمنعون من إعادته...
وعلى الإمام حفظ من كان منهم في دار الإسلام ودفع من قصدهم بالأذية، أي من
المسلمين، وإن تحاكموا إلينا مع المسلمين وجب الحكم بينهم...
ويأخذ منهم الجزية على قدر طاقتهم. على الفقير المعيل دينار، وعلى المتوسط
ديناران، وعلى الغني أربعة دنانير عند رأس الحول... ويشترط مع الجزية التزام أحكام
الإسلام، فإن امتنع من لزوم الأحكام أو قاتل المسلمين أو زنى بمسلمة أو أصابها باسم
نكاح أو فتن مسلما عن دينه أو قطع الطريق على مسلم أو آوى المشركين أو دلهم على
عورات المسلمين أو قتل مسلما أو ذكر الله - تعالى - أو رسوله أو دينه بما لا يجوز فقد
انتقضت ذمته في ذلك جميعه، فقتل في الحال وغنم ماله في أصح القولين... (1)
14 - وذكر في الباب الخامس، الحسبة على أهل الجنائز ومراقبة شؤونها من التجهيز
والغسل والتكفين والصلاة والتدفين بمباشرة أولياء الميت:
ولا يمكن المحتسب من يتصدى لغسل الموتى من الرجال والنساء إلا ثقة أمينا
صالحا خبيرا قد قرأ كتاب الجنائز في الفقه وعرف واجباته وسننه ومستحباته ويسأله
المحتسب عن ذلك... ويستر الميت في الغسل عن العيون بأن يكون في موضع ليس فيه
إلا الغاسل ومن لابد منه في معونته، ولا ينظر الغاسل إلا إلى ما لابد له منه لأنه قد يكون
فيه عيب فلا يهتكه، وأولى أن يغسله في قميص، لأنه أستر...
وتكفين الميت فرض على الكفاية ويجب ذلك في ماله مقدما على الدين والوصية و
إن كانت امرأة لها زوج فعلى زوجها...
والقبر محترم فيكره الجلوس والمشي والاتكاء عليه وليخرج الزائر منه إلى حد
كان

1 - معالم القربة / 38 (= ط. مصر / 92).
281

يقرب منه لو كان حيا، ولا يحل نبش القبور إلا إذا انمحق أثر الميت بطول الزمان أو
دفن في أرض مغصوبة وطلب المالك إخراجه...
ثم يتفقد المحتسب الجنائز والمقابر، فإذا سمع نائحة أو نادية منعها وعزرها لأن
النوح حرام، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): النائحة ومن حولها في النار...
أما البكاء فجائز من غير ندب ولا نياحة ولا شق جيب ولا ضرب خد...
فإذا خرجت جنازة أمر النساء أن يتأخرن عن الرجال ولا يختلطن بهم ويمنعهن من
كشف وجوهن ورؤوسهن خلف الميت ويأمر مناديا ينادي في البلد بالمنع من ذلك، و
الأولى أن يمنعن من تشييع الجنازة، ومتى سمع بامرأة نائحة أو مغنية أو عاهر استتابها
عن معصيتها، فإن عادت عزرها ونفاها من البلد... (1)
أقول: في إطلاق حرمة النياحة نظر.
15 - وذكر في الباب السادس المعاملات المنكرة كالبيوع الفاسدة والربا والسلم
الفاسد والإجارة الفاسدة والشركة الفاسدة، والشروط المعتبرة في العقد والعاقد و
المعقود عليه ذكرها بالتفصيل، فراجع (2)
وقال: " ولا يجوز للمحتسب تسعير البضائع على أربابها، فإن المسعر هو الله - تعالى
- فلا يتصرفن فيه الإمام والوالي، فإن فعل ذلك إلا في سنين القحط كان ذلك محرما، إذا
غلا السعر على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: يا رسول الله، سعر لنا. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" إن الله - تعالى - هو القابض والباسط والرازق والمسعر، وإني لأرجو أن ألقى الله و
ليس أحد يطالبني بمظلمة في نفس ولامال. "...
فإذا قلنا: التسعير جائز، فإذا سعر الإمام وباع الناس بذلك السعر فحسن، وإن خالفوه
في ذلك فهل ينعقد البيع أم لا؟ الصحيح أنه ينعقد، ويعزرهم لمخالفة ذلك. وإذا رأى
المحتسب أحدا قد احتكر من سائر الأقوات - وهو أن يشتري ذلك

1 - معالم القربة / 46 (= ط. مصر / 101).
2 - معالم القربة / 52 (= ط. مصر / 108).
282

في وقت الغلاء ويتربص ليزداد في ثمنه - ألزمه بيعه إجبارا، لأن الاحتكار حرام و
المحتكر ملعون. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من احتكر طعاما أربعين يوما ثم تصدق بثمنه
لم تكن صدقته كفارة لاحتكاره "...
ترويج الصيارف الدراهم المزيفة على الناس ظلم يستضر به المعاملون، فعلى
المحتسب أن يأمرهم بقصها وتغييرها عن هيئتها وأن لا يغشوا الناس بها... ويحرم على
التاجر أن يثني على السلعة ويصفها بما ليس فيها، فإن فعل ذلك فهو تلبيس وظلم مع
كونه كذبا... ولا ينبغي أن يحلف عليه البتة، فإنه إن كان كاذبا فقد جاء باليمين الغموس و
هي من الكبائر، وإن كان صادقا فقد جعل الله عرضة لأيمانه... " (1)
16 - وتعرض في الباب السابع لحرمة لبس الحرير والذهب على الرجال، وحرمة
اتخاذ الأواني من الذهب والفضة مطلقا، والمنع من تحلية الكعبة والمساجد بقناديل
الذهب والفضة (2).
17 - وذكر في الباب الثامن، الحسبة على منكرات الأسواق والطرق فقال ما ملخصه:
" أما الطرقات الضيقة فلا يجوز لأحد من السوقة الجلوس فيها ولا إخراج مصطبة
دكانه عن سمت أركان السقائف إلى الممر، لأنه عدوان ويضيق على المارة فيجب على
المحتسب إزالته والمنع من فعله، وكذا إخراج الفواصل والأجنحة وغرس الأشجار و
نصب الدكة في الطرق الضيقة... وقال الجويني لا يجوز الغراس في الشارع، والدكة
المرتفعة في معناها. ولانظر إلى اتساع الطريق وتضايقها، فإن الزقاق قد تصطدم ليلا و
يزدحم أسراب البهائم، وينضم إليه أنه قد يلتبس على طول الزمان محل البناء والغراس
وينقطع أثر استحقاق الطرق.
وكذا كل ما فيه أذية وإضرار على السالكين. وكذلك ربط الدواب على الطرق

1 - معالم القربة / 64 (= ط. مصر / 120).
2 - معالم القربة / 76 (= ط. مصر / 133).
283

منكر يجب المنع منه إلا بقدر حاجة النزول والركوب، لأن الشوارع مشتركة المنفعة.
وكذا طرح الكناسة على جوانب الطرق وتبديد قشور البطيخ أو رش الماء بحيث يخشى
منه التزلق والسقوط.
وكذا إرسال الماء من الميازيب المخرجة من الحائط إلى الطرق الضيقة، فإن ذلك
ينجس الثياب ويضيق الطرق. وكذا ترك مياه المطر والأحوال في الطرق من غير كسح،
فذلك كله منكر يجب على المحتسب أن يكلف الناس بالقيام بها. " (1)
18 - وينبغي للمحتسب أن يمنع أحمال الحطب وأعدال التبن وروايا الماء وشرائج
السرجين والرماد وأحمال الحلفاء والشوك بحيث تمزق ثياب الناس، فإن أمكن
العدول بها إلى موضع واسع وإلا فلا منع لحاجة أهل البلد إليه. ويأمر حاملي الحطب و
التبن والبلاط والكبريت واللفت والبطيخ إذا وقفوا في العراص أن يضعوها عن ظهور
الدواب، لأنها إذا وقفت والأحمال عليها أضرتها وكان ذلك تعذيبا لها، وقد نهى
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن تعذيب الحيوان لغير مأكله.
ويأمر أهل الأسواق بكنسها وتنظيفها من الأوساخ المجتمعة وغير ذلك مما يضر
الناس، لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لا ضرر ولا ضرار. (2)
أقول: الشرائج جمع الشريجة: جوالق ينسج من سعف النخل. والحلفاء: نبت محددة
الأطراف يشبه سعف النخل. والبلاط: صفائح الحجارة التي يفرش بها. واللفت بالكسر:
السلجم.
19 - ولا يجوز لأحد التطلع على الجيران من السطوحات والنوافذ، ولا أن يجلس
الرجال في طرقات النساء من غير حاجة، فمن فعل شيئا من ذلك عزره المحتسب. (3)
20 - وتعرض في الباب التاسع والباب العاشر لمعرفة القناطير والأرطال والمثاقيل
والدراهم والموازين والمكاييل والأذرع:

1 - معالم القربة / 78 (= ط. مصر / 135).
2 - معالم القربة / 79 (= ط. مصر / 136).
3 - معالم القربة / 79 (= ط. مصر / 136).
284

حيث إنها أصول المعاملات وبها اعتبار المبيعات، فعلى المحتسب معرفتها وتحقيقها
ومراقبتها لتقع المعاملة بها على الوجه الشرعي... ويأمر أصحاب الموازين بمسحها و
تنظيفها من الأدهان والأوساخ في كل ساعة فإنه ربما تحمل شيئا فيضر... فيلزم
المحتسب مراعاة ذلك في كل وقت.
واعلم أنك وليت من الكيل والميزان أمر من هلكت فيها الأمم السالفة، فباشرهما
بيدك مباشرة الاختيار والاختبار ولا تقل لأهلهما عثرة، فإن الإقالة لا تنهى عن العثار، و
كل هؤلاء من سواد الناس فمن لم يفقه نفسه وليس همته إلا فرجه أو ضرسه فحدثهم
التعزير.
والقبان القبطي فينبغي للمحتسب أن يختبره بعد كل حين، فإنه ينفسد بكثرة استعماله
في وزن الحطب والبضائع الثقيلة...
وينبغي أن يتخذ الأرطال من حديد ويعيرها المحتسب ويختم عليها بختم من عنده
ولا يتخذوها من الحجارة، لأنها إذا قرع بعضها ببعض فتنقص...
وينبغي للمحتسب أن يتفقد عيار المثاقيل والصنج والأرطال والحبات على حين
غفلة من أصحابها (1).
21 - وتعرض في الباب الحادي عشر للحسبة على العلافين والطحانين فقال ما
ملخصه:
" يحرم عليهم احتكار الغلة ولا يخلطوا ردى الحنطة بجيدها ولا عتيقها بجديدها،
فإنه تدليس على الناس. ويلزم الطحانين بغربلة الغلة من التراب وتنقيتها من الطين و
تنظيفها من الغبار قبل طحنها، ولهم أن يرشوا على الحنطة ماء يسيرا عند طحنها، فإن
ذلك يزيد الدقيق بياضا، ويغير عليهم مناخل الدقيق في كل ثلاثة أشهر أو أقل. ويختبر
المحتسب الدقيق، فإنهم ربما خلطوا فيه دقيق الحمص أو الفول حتى يزيده زهرة، وهذا
غش فمن وجده فعل شيئا من ذلك أنكر عليه وأدبه، ويمنعهم أن لا يطحنوا على إثر نقر
الحجر فإنه يضر بالناس إذا نزل مع الدقيق، ويلزمهم

1 - معالم القربة / 80 (= ط. مصر / 137).
285

بنقاء الغلة وكثرة دوسها.
وينبغي لأرباب الدواب أن يتقوا الله - سبحانه - في استعمالها وأن يريحوها في كل
يوم وليلة لحاجتها إلى الراحة. ويتفقد موازينهم المرصدة لوزن الدقيق وأرطالهم... " (1)
22 - وتعرض في الباب الثاني عشر للحسبة على الفرانين والخبازين فقال ما
ملخصه:
" ينبغي أن يأمرهم المحتسب برفع سقائف أفرانهم، ويجعل في سقوفها منافس واسعة
للدخان، ويأمرهم بكنس بيت النار في كل تعميرة وغسل البسليت وتنظيف مائه وغسل
المعاجن وتنظيفها... ولا يعجن العجان بقدميه ولا بركبتيه ولا بمرفقيه، لأن في ذلك مهانة
للطعام، وربما قطر في العجين شيء من عرق إبطيه أو بدنه، ولا يعجن إلا وعليه ملعبة
ضيقة الكمين، ويكون ملثما أيضا لأنه ربما عطس أو تكلم فقطر شيء من بصاقه أو
مخاطه في العجين، ويشد على جبينه عصابة بيضاء لئلا يعرق فيقطر منه شيء، ويحلق
شعر ذراعيه لئلا يسقط منه شيء في العجين.
وإذا عجن في النهار فليكن عنده إنسان على يده مذبة يطرد عنه الذباب. ويعتبر
عليهم المحتسب ما يغشون به الخبز من الكركم والزعفران... ويلزمهم أن لا يخبزوه
حتى يختمر، فإن الفطير يثقل في الميزان والمعدة... ولا يخرجون الخبز من بيت النار
حتى ينضج نضجا جيدا من غير احتراق. والمصلحة أن يجعل على كل حانوت وظيفة
رسما يخبزونه في كل يوم لئلا يختل البلد عند قلة الخبز، ويتفقد الأفران في آخر
النهار... " (2)
أقول: الفرن بالضم: بيت غير التنور معد لأن يخبز فيه. الملعبة: الثوب بلا كم أو قصير
الكم. والكركم كقنفذ: الزعفران أو نبات يشبهه في اللون. ولم يظهر لي

1 - معالم القربة / 89 (= ط. مصر / 152).
2 - معالم القربة / 91 (= ط. مصر / 154).
286

معنى البسليت، ولعله كان اسما لإناء ماء يستعمله الخباز لترطيب يده وغيره.
23 - وتعرض في الباب الثالث عشر وعدة أبواب أخر للحسبة على صناع الأغذية و
الحلويات: الشوائين والنقانقيين والكبوديين والبوارديين والرواسين والطباخين و
الشرائحيين والهرايسيين وقلائي السمك وقلائي الزلابية والحلوانيين بأنواعها و
أصنافها المختلفة، وذكر المواد المستعملة فيها وكيفية صنعها وأن المحتسب يراقبهم في
أعمالهم ليحسنوا صنعا ويحترزوا عن الغش والخيانة ويراعوا موازين السلامة والصحة
والنظافة (1)
أقول: النقانق: اللحوم تدق وتخلط بغيرها وتحشى بها المصارين ثم تقلى. و
الشريحة: اللحم تقطع للكباب. والبوارد جمع باردة، ويعني بها الحشائش والبقول
المبردة، وكأنها كانت تجعل في أوراق الكرنب وتطبخ.
24 - وتعرض في الباب السادس عشر للحسبة على الجزارين والقصابين وكيفية
الذبح والنحر وشرائطهما وآدابهما، قال:
ولا يجر شاة برجلها جرا عنيفا ولا يذبح بسكين كالة، لأن في ذلك تعذيب الحيوان و
قد نهى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن تعذيب الحيوان، ولا يشرع في السلخ بعد الذبح حتى تبرد الشاة...
ويمنعهم المحتسب من الذبح على أبواب دكاكينهم، فإنهم يلوثون الطريق بالدم والروث
فإن في ذلك تضييقا للطريق وإضرارا بالناس، ويمنعهم من إخراج توالي اللحم من حد
مصاطب حوانيتهم ويأمرهم أن يفردوا لحوم المعز عن لحوم الضأن ولا يخلطوا بعضها
ببعض ويجعلوا لها علامة ولا يخلطوا شحوم المعز بشحوم الضأن ولا اللحم السمين
بالهزيل ولا الذكر بالأنثى...
ثم تعرض لأنواع الحيوان وما يؤكل منه وما لا يؤكل، فراجع.
ثم قال:
ولا يجوز أكل ما فيه ضرر كالسم والزجاج والتراب والحجر، لقوله - تبارك وتعالى
-:

1 - معالم القربة / 92 (= ط. مصر / 156) من الباب 13 إلى الباب 23 إلا الباب 16.
287

ولا تقتلوا أنفسكم، ولا يحل كل شيء نجس لأنه من الخبائث. (1)
25 - وتعرض في الباب الرابع والعشرين للحسبة على الشرابيين، وأراد بذلك صناع
أنواع الأشربة المتخذة من العقاقير المختلفة للتداوي بها، وقال:
" تدليس هذا الباب كثير لا يمكن حصر معرفته على التمام، لأن العقاقير والأشربة
مختلفة الطبائع والأمزجة، والتداوي على قدر أمزجتها... فالواجب عليهم أن يراقبوا
الله - تعالى - في ذلك، فينبغي للمحتسب أن يخوفهم ويعظهم وينذرهم العقوبة و
يحذرهم بالتعزير، ويعتبر عليهم أشربتهم وعقاقيرهم في كل وقت على حين غفلة...
أما الأشربة فأسماؤها كثيرة وتزيد على سبعين اسما ونذكر ما اشتهر من أسمائها...
أما المعاجين فكثير أسماؤها وكذلك الأقراص والربوبات واللعوقات و
الجوارشيات والحبوب والايارجات والفتائل وما يعمل من المطبوخات ولو ذكرت كل
باب من ذلك واستقصيته لطال. " (2)
أقول: ففي الحقيقة يراد بالحسبة في هذا الباب والباب التالي الحسبة على أنواع
الأدوية المستعملة للتداوي وكيفية صنعها وتركيباتها، وهي أمور سرية خفية غالبا و
يكثر فيها التدليس كما ذكر فيحتاج إلى مراقبة كثيرة ودقيقة جدا.
26 - وتعرض في الباب الخامس والعشرين للحسبة على العطارين والشماعين و
قال:
" إن هذا الباب من أهم الأشياء التي ينبغي للمحتسب الاعتناء بها والكشف عنها و
يجب على المحتسب أن لا يمكن أحدا من بيع العقاقير وأصناف العطر إلا من له معرفة و
خبرة وتجربة، ومع ذلك يكون ثقة أمينا في دينه عنده خوف من الله

1 - معالم القربة / 98 (= ط. مصر / 162).
2 - معالم القربة / 115 (= ط. مصر / 185).
288

- تعالى -، فإن العقاقير إنما تشترى من العطارين مفردة ثم تركب غالبا، وقد يشتري
الجاهل عقارا من العقاقير معتمدا على أنه هو المطلوب ثم يبتاعه منه جاهل آخر
فيستعمله في الدواء متيقنا منفعته فيحصل له باستعماله عكس مطلوبه ويتضرر به. "
ثم تعرض لأنواع الغش وطرقه في الأدوية والعقاقير المختلفة، وكذا الغش في
الشموع وقال:
" هذا كله غش وتدليس، فيراعي المحتسب ذلك جميعه عليهم من غير إهمال. " (1)
أقول: وهذا ما أشرنا إليه من أهمية أمر الأدوية ولزوم مراقبة الصيادلة في صنعهم و
معاملاتهم، وتحتاج إدارة الحسبة لا محالة إلى المتخصصين في الفنون المختلفة.
27 - وتعرض في الباب السادس والعشرين وما بعده للحسبة على البياعين و
اللبانين والبزازين وأنه يعتبر عليهم الموازين والمكاييل والصنج والأذرع والنظافة و
سلامة الجنس ومعرفة احكام البيع وعقود المعاملات وما يحل لهم وما يحرم عليهم و
صدق القول في أخبار الشراء ومقدار رأس المال. وأن يظهروا جميع عيوب السلعة
خفيها، وجليها، فإن الغش حرام. (2)
28 - وتعرض في الباب التاسع والعشرين للحسبة على الدلالين:
فينبغي أن لا يتصرف أحد من الدلالين حتى يثبت في مجلس المحتسب ممن يقبل
شهادته من الثقات العدول من أهل الخبرة، أنه خير ثقة من أهل الدين والأمانة والصدق
في النداء، فإنهم يتسلمون بضائع الناس ويقلدونهم الأمانة في بيعها، ولا ينبغي لأحد
منهم أن يزيد في السلعة من نفسه إلا أن يزيد فيها التاجر ولا يكون شريكا للبزاز و
لا يشتري السلعة لنفسه ويوهم صاحبها أن بعض الناس اشتراها

1 - معالم القربة / 121 (= ط. مصر / 199).
2 - معالم القربة / 128 (= ط. مصر / 207).
289

ويواطئ غيره على شرائها منه... ومتى علم المنادي في السلعة عيبا وجب عليه أن
يعلم المشتري بذلك ويوقفه عليه، وعلى المحتسب أن يعتبر عليهم جميع ذلك... (1)
29 - وتعرض في الباب الثلاثين والأبواب بعده للحسبة على الحاكة والخياطين و
الرفائين والقصارين وصناع القلانس، والحريريين والصباغين والقطانين والكتانيين و
الصاغة والنحاسين والحدادين والأساكفة وغيرهم من أرباب المهن والحرف،
فيؤمرون بحسن العمل وجودته والإنصاف وترك الغش والخيانة والسرقة وحفظ
الأمانة وترك المماطلة. (2)
30 - وتعرض في الباب السادس والثلاثين للحسبة على الصيارفة وقال:
إن التعيش بالصرف خطر عظيم على دين متعاطيه وعلى المحتسب أن يتفقد سوقهم
ويتجسس عليهم، وإن عثر بمن رابي أو فعل في الصرف ما لا يجوز عزره وأقامه من
السوق إذا تكرر ذلك منه... (3)
31 - وتعرض في الباب الأربعين للحسبة على البياطرة وقال:
" البيطرة علم جليل سطرته الفلاسفة في كتبهم، ووضعوا فيها تصانيف، وهي أصعب
علاجا من أمراض الآدميين، لأن الدواب ليس لها نطق تعبر به عما تجد من المرض و
الألم، وإنما يستدل على عللها بالحس والنظر، فيحتاج البيطار إلى حسن بصيرة بعلل
الدواب وعلاجها، فلا يتعاطى البيطرة إلا من له معرفة وخبرة بالتهجم على الدواب بفصد
أو قطع أو كي وما أشبهه، فمن قدم على ذلك بغير مخبرة فيؤدي إلى هلاك الدابة أو عطبها
فيلزمه أرش ما نقص من قيمتها من طريق الشرع ويعزره المحتسب من طريق
السياسة... وينبغي للبيطار أن يكون خبيرا بعلل الدواب ومعرفة ما يحدث فيها من
العيوب، ويرجع الناس إليه إذا اختلفوا في الدابة، وقد ذكر بعض الحكماء في كتاب
البيطرة أن علل الدواب ثلاثمأة وعشرون

1 - معالم القربة / 135 (= ط. مصر / 216).
2 - معالم القربة / 136 (= ط. مصر / 218)، من الباب 30 إلى الباب 39 إلا الباب 36.
3 - معالم القربة / 143 (= ط. مصر / 277).
290

علة، ونذكر ما اشتهر من ذلك... (1)
32 - وتعرض في الباب الحادي والأربعين للحسبة على سماسرة العبيد والجواري و
الدواب والدور وقال:
" ينبغي أن لا يتصرف في سمسرة العبيد والجواري إلا من ثبتت عند الناس أمانته و
عفته وصيانته وأن يكون مشهور العدالة، لأنه يتسلم جواري الناس وغلمانهم وربما
اختلى بهم في منزله...
ومتى علم بالمبيع عيبا وجب عليه بيانه للمشتري كما ذكرنا، وينبغي أن يكون بصيرا
بالعيوب خبيرا بابتداء العلل والأمراض ويؤخذ على دلالين العقارات ويستحلفوا
ألا يبيعوا ما يظن به أنه خرج من يد صاحبه بكتابة تحبيس أو كتاب إقرار أو رهن، و
لا شبهة ولا لصبي ولا ليتيم إلا باذن وصيه... " (2)
33 - وتعرض في الباب الثاني والأربعين للحسبة على الحمامات وقوامها وقال:
" يأمرهم المحتسب بإصلاحها ونضاجة مائها. وقد ذكر عن بعض الحكماء أنه قال:
خير الحمامات ما قدم بناؤه واتسع هواؤه وعذب ماؤه، والحمام يشتمل على منافع و
مضار... وقال ابن عمر: الحمام من النعيم الذي أحدثوه، وقد دخل أصحاب
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الحمامات بالشام. وينبغي أن لا يكثر صب الماء بل يقتصر على قدر
الحاجة...
وينبغي أن يأمرهم المحتسب بغسل الحمام وكنسه وتنظيفه بالماء الطاهر غير ماء
الغسالة، يفعلون ذلك مرارا في اليوم، وأن يدلكوا البلاط بالأشياء الخشنة لئلا يتعلق بها
السدر والخطمي فيزلق الناس عليه...
ويلزم المحتسب أن يتفقد الحمام في كل وقت ويعتبر ما ذكرناه، وإن رأى أحدا قد
كشف عورته عزره على كشفها، لأن كشف العورة حرام، وقد لعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الناظر
والمنظور إليه، والنساء في هذا المقام أشد تهالكا من

1 - معالم القربة / 150 (= ط. مصر / 234).
2 - معالم القربة / 152 (= ط. مصر / 238).
291

الرجال. " (1)
34 - وتعرض في الباب الرابع والأربعين والخامس والأربعين للحسبة على الأطباء
والكحالين والجرائحيين والمجبرين والفصادين والحجامين والختانين، وقال في
الفصد:
" ينبغي أن لا يتصدى له إلا من اشتهرت معرفته وأمانته وجودة علمه بتشريح
الأعضاء والعروق والعضل والشرايين وأحاط بمعرفتها وكيفيتها... "
وقال في الطب ما ملخصه:
" الطب علم نظري وعملي أباحت الشريعة تعلمه لما فيه من حفظ الصحة ودفع العلل
والأمراض عن هذه البنية الشريفة.
وقد ورد في ذلك أحاديث، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: ما أنزل الله داء إلا وأنزل له
دواء.
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): يا أيها الناس، تداووا فإن الله لم ينزل داء إلا وأنزل له شفاء... وهو من
فروض الكفاية ولا قائم به من المسلمين، وكم من بلد ليس فيه طبيب إلا من أهل
الذمة!... والطبيب هو العارف بتركيب البدن ومزاج الأعضاء والأمراض الحادثة فيها و
أسبابها وأعراضها وعلاماتها والأدوية النافعة فيها والاعتياض عما لم يوجد منها...
فمن يكن كذلك فلا يجعل له مداواة المرضى ولا يتعرض لما لاعلم له فيه...
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من تطبب ولم يعلم منه طب قبل ذلك فهو ضامن.
وينبغي أن يكون لهم مقدم من أهل صناعتهم، فقد حكى أن ملوك يونان كانوا يجعلون
في كل مدينة حكيما مشهورا بالحكمة ثم يعرضون عليه بقية أطباء البلد فيمتحنهم فمن
وجده مقصرا في علمه أمره بالاشتغال وقراءة العلم ونهاه عن المداواة...
وينبغي للمحتسب أن يأخذ عليهم عهد أبقراط الذي أخذه على سائر الأطباء

1 - معالم القربة / 154 (= ط. مصر / 240).
292

ويحلفهم أن لا يعطوا أحدا دواء مضرا ولا يركبوا له سما ولا يضعوا السمام عند أحد
من العامة، ولا يذكروا للنساء الدواء الذي يسقط الأجنة ولا للرجال الذي يقطع النسل، و
ليغضوا أبصارهم عن المحارم عند دخولهم على المرضى، ولا يفشوا الأسرار ولا يهتكوا
الأستار ولا يتعرضوا لما ينكر عليهم فيه... " (1)
أقول: ومن الأمور المهمة في هذا المجال في عصرنا هو أجرة الطبيب والجراح،
فعليهما رعاية الإنصاف ولا سيما في معالجة الضعفاء وأن يكتفيا بالكفاف ولا يبيعا
علمهما الشريف وخدمتهما الشريفة بالمتاع الفاني، وعلى المحتسب مراقبتهما في ذلك
ومنعهما من الإجحاف بالوعظ والتوبيخ والتخويف.
35 - وتعرض في الباب السادس والأربعين للحسبة على مؤدبي الصبيان وقال: " و
اعلم أنها من أجل المعايش، لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): خيركم من تعلم القرآن وعلمه.
وفي حديث آخر: خير من مشى على الأرض المعلمون الذين كلما خلق الدين
جددوه.
فحينئذ يشترط في المعلم أن يكون من أهل الصلاح والعفة والأمانة حافظا للكتاب
العزيز حسن الخط ويدري الحساب، والأولى أن يكون مزوجا، ولا يفسح لعازب أن
يفتح مكتبا لتعليم الصبيان إلا أن يكون شيخا كبيرا وقد اشتهر بالدين والخير، ومع ذلك
فلا يؤذن له بالتعليم إلا بتزكية مرضية وثبوت أهليته لذلك، وينبغي للمؤدب أن يترفق
بالصغير وأن يعلمه السور القصار من القرآن بعد حذافته بمعرفة الحروف... " (2)
36 - وتعرض في الباب السابع والأربعين للحسبة على القومة والمؤذنين، فقال: " و
ينبغي أن يشرف المحتسب على الجوامع والمساجد ويأمر قومتها بكنسها وتنظيفها في
كل يوم من الأوساخ ونفض حصرها من الغبار ومسح حيطانها وغسل قناديلها... و
يلزم بغلق أبوابها عقيب الصلوات وصيانتها من الصبيان والمجانين،

1 - معالم القربة / 159 (= ط. مصر / 247).
2 - معالم القربة / 170 (= ط. مصر / 260).
293

وممن يأكل فيها الطعام وينام أو يعمل صناعة أو يبيع فيها سلعة أو ينشد فيها ضالة أو
يجلس فيها لحديث الدنيا فجميع ذلك قد ورد الشرع بتنزيه المساجد عنه وكراهية فعله،
ويتقدم إلى جيران كل مسجد بالمواظبة على صلاة الجماعة عند سماع الأذان لإظهار
معالم الدين وإشهار شعائر الإسلام، لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد...
ويشترط في الإمام أن يكون رجلا عاقلا قارئا فقيها سليم اللفظ من رث أو لثغ... و
يمنع المحتسب أيضا من يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة بعد النداء لما فيه من الإيذاء. و
إذا كان في أئمة المساجد والجوامع من يطيل الصلاة حتى يعجز عنها الضعيف وينقطع
بها ذووا الحاجات عن حاجاتهم أنكر المحتسب ذلك عليه كما أنكر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على
معاذ حين أطال الصلاة بقومه فقال: أفتان أنت يا معاذ؟...
ولا يؤذن في المنارة إلا عدل ثقة أمين عارف بأوقات الصلوات، لان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
" المؤذنون أمناء والأئمة ضمناء، فأرشد الله الأئمة وغفر للمؤذنين. "
وينبغي للمحتسب أن يمتحنهم بمعرفة الأوقات فمن لم يعرف ذلك منعه من الأذان
حتى يعرفها... فيجب عليه معرفة الوقت ويقرأ باب الأذان والإقامة في الفقه. ويستحب
أن يكون المؤذن حسن الصوت وينهاه المحتسب على التغني في الأذان وهو التمطيط
الفاحش والتطريب، ويأمره إذا صعد المنارة أن يغص بصره عن النظر إلى حريم الناس و
دورهم ويأخذ عليه العهد في ذلك، ولا يصعد إلى المنارة غير المؤذن في أوقات
الصلوات...
ويأمر المحتسب القومة أن يقفوا على أبواب الجامع يوم الجمعة ويمنعوا الصعاليك
من الدخول للكدية جملة واحدة ففي دخولهم ضرر على الناس، ويمنعونهم من
الاشتغال بالذكر والعبادة فإنهم يشوشون عليهم في الصلاة لا سيما من يقف ويحكي
أخبارا وقصصا ما أنزل الله بها من سلطان... " (1)

1 - معالم القربة / 172 (= ط. مصر / 263).
294

37 - وتعرض في الباب الثامن والأربعين للحسبة على الوعاظ فقال:
" يجب على المحتسب أن ينظر في أمر الوعاظ ولا يمكن أحدا يتصدى لهذا الفن إلا
من اشتهر بين الناس بالدين والخير والفضيلة، وأن يكون عالما بالعلوم الشرعية وعلم
الأدب، حافظا للكتاب العزير والأحاديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخبار الصالحين وحكايات
المتقدمين، ويمتحن بمسائل يسأل عنها من هذه الفنون فإن أجاب وإلا منع كما اختبر
الإمام على بن أبي طالب (عليه السلام) الحسن البصري وهو يتكلم على الناس فقال له: ما عماد
الدين؟ قال: الورع. قال: فما آفته؟ قال: الطمع. قال: تكلم الآن إن شئت... ومن لا يدري
ذلك وكان جاهلا بذلك منع من الكلام، فإن لم يمتنع ودام على كلامه عزر.
ومن عرف شيئا يسيرا من كلام الوعاظ وحفظ من الأحاديث وأخبار الصالحين
قبل ذلك وقصد الكلام يسترزق به ويستعين على قوته فيبيح له بشرط أن لا يصعد المنبر
بل يقف على قدميه، فإن رتبة صعود المنبر رتبة شريفة لا يليق أن يصعد عليه إلا من
اشتهر بما وصفناه، وكفى به علوا وسموا أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صعد عليه والخلفاء الراشدون من
بعده والأئمة... فلا يمكن من ذلك إلا رجلا مشهورا بالدين والخير والفضيلة، كما تقدم.
ومن شرطه أن يكون عاملا لله، مجتهدا، قوالا، فعالا... ومهما كان الواعظ شابا متزينا
للنساء في ثيابه وهيئته كثير الأشعار والإشارات الحركات وقد حضر مجلسه النساء
فهذا منكر يجب المنع منه، فإن الفساد أكثر من الصلاح. ويبين ذلك منه بقرائن أحواله، بل
لا ينبغي أن يسلم الوعظ إلا لمن ظاهره الورع وهيئته السكون والوقار وزيه زي
الصالحين وإلا فلا يزداد الناس إلا تماديا في الضلال. ويجب أن يضرب بين النساء و
الرجال حائل يمنع النظر إليهن، فإن ذلك مظنة الفساد... " (1)
38 - وتعرض في الباب التاسع والأربعين للحسبة على المنجمين وكتاب الرسائل
فقال:

1 - معالم القربة / 179 (= ط. مصر / 271).
295

" أما المنجمون فقد ورد في ذلك أحاديث دالة على النهي بالاشتغال بهذا العلم،
لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): من أتى حزارا فصدقه في مقاله فقد كفر بما أنزل الله على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)...
وحينئذ يؤخذ عليهم وعلى كتاب الرسائل أن لا يجلسوا في درب ولا زقاق وفي
حانوت بل على قارعة الطريق، فإن معظم من يجلس عندهم النسوان... ويلزمهم
القسامة أنهم لا يكتبون لأحد من الناس شيئا من الروحانيات مثل محبة وتهييج ونزيف
ورمد وعقد لسان وغير ذلك، فإن السحر حرام فعله، ومتى وجد أحدا يفعل ذلك عزره
ليرتدع به غيره... " (1)
39 - وتعرض في الباب الخمسين من الكتاب (2) للحدود والتعزيرات الشرعية،
فذكر فيه ما فيه الحد وما فيه التعزير أو التأديب وكيفية إجراء الحدود والتعزيرات وآلة
إجرائهما وحكم التعزير بالمال وبالحبس ونحو ذلك من الفروع. وحيث إنا سوف
نحكي عنه بعض ذلك في فصل التعزيرات الآتي فلا نتعرض لها هنا.
وقال في هذا الباب:
" ويمنع المحتسب من خصي الآدمي والبهائم ويؤدب عليه وإن استحق فيه قودا أو
دية استوفاه لمستحقه ما لم يكن فيه تخاصم وتنازع...
ويمنع المحتسب من التكسب بآلة اللهو ويؤدب عليه الآخذ والمعطي وينهى
الاضرار وأهل الكدية المقيمين عن قراءة القرآن في الأسواق والكدية به وقد نهت
الشريعة عن ذلك. " (3)
40 - وتعرض في الباب الحادي والخمسين (4) للقضاة والشهود وذكر فيه معنى
القضاء وبعض الآيات والروايات الواردة فيه وتصدي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والخلفاء له، وشرائط
القاضي والشهود وآداب القضاء وذكر بعض المحرمات الشرعية. وحيث مر منا بحث
إجمالي عن القضاء في الفصل الرابع من هذا الباب فلا نعيد هنا.

1 - معالم القربة / 182 (= ط. مصر / 275).
2 - معالم القربة / 184 (= ط. مصر / 277).
3 - معالم القربة / 197 (= ط. مصر / 291).
4 - معالم القربة / 200 (= ط. مصر / 295).
296

وقال في هذا الباب:
" ومتى رأى المحتسب رجلا يسفه في مجلس الحكم أو يطعن على الحاكم في حكمه
أو لا ينقاد إلى حكمه عزره على ذلك. وأما إذا رأى القاضي قد استشاط على رجل غيظا
ويشتمه أو يحقد عليه في كلامه ردعه عن ذلك ووعظه وخوفه بالله - عز وجل - فإن
القاضي لا يحكم وهو غضبان ولا يقول هجرا ولا يكون فظا غليظا.
وغلمانه الذين بين يديه وأعوانه إن كان فيهم شاب حسن الصورة لا يبعثه القاضي
لإحضار النسوان. " (1)
41 - وتعرض في الباب الثاني والخمسين للأمراء والولاة فقال:
" ينبغي للمحتسب أن يقصد مجالس الأمراء والولاة ويأمرهم بالشفقة على الرعية و
الإحسان إليهم ويذكر لهم ما ورد في ذلك من الأحاديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " ما من
أمير يلي أمر المسلمين ولا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل الجنة. " وفي رواية: " لم يجد
ريح الجنة. " وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما من أمير يؤمر على عشرة إلا وهو يأتي يوم
القيامة مغلولة يده إلى عنقه حتى يكون عمله هو الذي يطلقه أو يوثقه. "... وكان عمر بن
الخطاب يخرج كل ليلة يطوف مع العسس حتى يرى خللا يتداركه، وكان يقول: لو
ضاعت شاة بالفرات لخشيت أن أسأل عنها يوم القيامة...
وقال مكحول الدمشقي: ينادي مناد يوم القيامة: أين الظلمة وأعوانهم، فلا يبقى أحد
مد لهم دواة أو برى لهم قلما فما فوق ذلك إلا حضروا فيجمعون في تابوت من نار فيلقون
في جهنم.
وفي الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " لا يقف أحدكم موقفا يضرب فيه رجل مظلوم،
فإن اللعنة تنزل على من حضر حيث لم يدفع عنه. "...
وخطر الولاية عظيم وخطبها جسيم، ولا يسلم الوالي إلا بمخالطة العلماء والصلحاء
وفضلاء الدين، ليعلموه طريق العدل ويسهلوا عليه خطر هذا الأمر. ومن أعظم

1 - معالم القربة / 208 (= ط. مصر / 305).
297

خصال الوالي وأحدهما توقعا في نفوس الخاصة والعامة إنصافه من خاصته و
حاشيته وأعوانه وتفقدهم في كل ساعة، ويمنعهم أن يأخذوا من الغرماء فوق ما
يستحقونه...
وليكن في وعظه وقوله في ردعهم عن الظلم لطيفا ظريفا لين القول بشوشا غير جبار
ولا عبوس، قال الله - سبحانه -: " ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك. "... (1)
42 - وتعرض في الباب الثالث والخمسين لما يجب على المحتسب فعله، ونحن
نذكر خلاصة ذلك مع ملخص ما ذكره في الباب الأول من آداب الاحتساب وما يجب
على المحتسب وينبغي له في خاتمة هذا الفصل، فانتظر.
43 - وتعرض في الباب الرابع والخمسين للحسبة على أصحاب السفن والمراكب،
قال:
" ويؤخذ على أصحاب السفن والمراكب ألا يحملوها فوق العادة خوف الغرق، و
كذلك يمنعهم من السير وقت هبوب الرياح واشتدادها، وإذ حملوا فيها النسوان مع
الرجال حجبوا بينهما بحائل. " (2)
أقول: وما ذكره في هذا الباب أمر خطير مهم يلزم رعايته والاهتمام به في السيارات
والطيارات أيضا، كما لا يخفى.
44 - وتعرض في الباب الثالث والأربعين بعد باب الحمامات للحسبة على
السدارين. (3)
وتعرض في الباب الخامس والخمسين إلى السبعين للحسبة على أمور - ففي الباب
55 على باعة قدور الخزف والكيزان. - وفي الباب 56 على الفاخرانيين والغضارين. -
57 على الابارين والمسلاتيين. - 58 على المرادنيين. - 59 على

1 - معالم القربة / 216 (= ط. مصر / 316).
2 - معالم القربة / 222 (= ط. مصر / 324).
3 - معالم القربة / 158 (= ط. مصر / 245).
298

الحناويين. - 60 على الامشاطيين. - 61 على معاصر الشيرج والزيت. - 62 على
الغرابليين. - 63 على الدباغين والبططيين. - 64 على اللبوديين. - 65 على الفرائين. -
66 على الحصريين العبداني والكركر. - 67 على التبانين. - 68 على الخشابين و
القشاشين. - 69 على النجارين والنشارين والبنائين والدهانين والمبيضين والضببيين
والجباسين والجبارين. - 70 على الرزازين والمراوحيين وباعة الكبريت والمكانس
والزفاتين وسقائي الكيزان وأرباب الروايا والقرب والدلاء والغسالين لأقمشة الناس،
والإنكار على نطاح الكباش ونقار الديوك وصياح السمان وأمثالها. (1)
ومن أراد المقصود من هذه العناوين ووظيفة المحتسب في قبالها يرجع إلى الكتاب
المذكور.
والحكم في الجميع واحد، وهو أنه يجب على المحتسب مراقبة الأعمال وآلات
العمل والمواد المستعملة ومحال العمل ومقدار الأجرة وكون العامل متخصصا في عمله
ونحو ذلك، والمتخلف يعزر.
فهذا ما اقتبسناه من كتاب معالم القربة في بيان وظيفة المحتسب.
وقد وزعت في أعصارنا هذه الوظائف على الدوائر والوزارات المختلفة، ولكن
المباشر لأكثرها الضباط والحراس والمستخبرون.
وجل ما ذكره مما يمكن أن يستدل عليه بعمومات الكتاب والسنة وإن كان للإشكال
في بعضها مجال، كما مر.
ومما يؤسفني أنه لا مجال لي للتتبع في هذا المجال لكثرة الأشغال المتفرقة، فأوصي
الإخوان من الفضلاء الشبان أن يهتموا بها، لكثرة الابتلاء بها في بلادنا بعد نجاح الثورة
الإسلامية فيها، ويطبقوا العناوين المذكورة على المصاديق والموضوعات الرائجة في
عصرنا.

1 - معالم القربة / 222 (= ط. مصر / 325).
299

وأنت ترى أن المتعرض لهذه المسائل ولجل مسائل الدولة والحكومة هم علماء
السنة ومؤلفهم. والسر في ذلك أن الشيعة وعلماءهم كانوا بمعزل عن الحكم والسلطة
في شتى الأعصار إلا في آونة قليلة، ولكن الروايات الدالة على هذه المسائل من ناحية
العترة الطاهرة كثيرة جدا يعثر عليها المتتبع في خلال الأخبار المروية عنهم -
عليهم السلام - فتتبع.
خاتمة:
قد تعرض ابن الأخوة في الباب الأول من معالم القربة وفي الباب الثالث والخمسين
منه لآداب المحتسب وما يجب عليه أو ينبغي له في احتسابه، فنحن نذكرها تلخيصا من
كتابه تتميما للفائدة.
1 - فقال في الباب الأول منه:
" أول ما يجب على المحتسب أن يعمل بما يعلم، ولا يكون قوله مخالفا لفعله فقد قال
- تبارك وتعالى - في ذم بني إسرائيل: " أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم؟. " وروى
عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: رأيت ليلة أسري بي رجالا تقرض شفاههم بالمقاريض فقلت: من
هؤلاء يا جبريل؟ قال: خطباء أمتك الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم. وقد
قال الله - تعالى - مخبرا عن شعيب (عليه السلام) لما نهى قومه عن بخس الموازين ونقص
المكاييل: " وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت. " و
لا يكون كما قيل:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله * عار عليك إذا فعلت عظيم. " (1)
أقول: وفي الوسائل بسند صحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " إن من أعظم الناس

1 - معالم القربة / 12 (= ط. مصر / 56).
300

حسرة يوم القيامة من وصف عدلا ثم خالفه إلى غيره. " (1)
وفي خبر قتيبة الأعشى، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " إن من أشد الناس عذابا يوم
القيامة من وصف عدلا وعمل بغيره. " (2)
وفي خبر أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال في قول الله - عز وجل -: فكبكبوا فيها
هم والغاوون، فقال: يا أبا بصير، هم قوم وصفوا عدلا بألسنتهم ثم خالفوه إلى غيره (3)
هذا.
2 - ثم قال ابن الأخوة:
" ويجب على المحتسب أن يقصد بقوله وفعله وجه الله - تعالى - وطلب مرضاته
خالص النية لا يشوبه في طويته رياء ولأمراء، ويتجنب في رياسته منافسة الخلق و
مفاخرة أبناء الجنس، لينشر الله عليه رداء القبول وعلم التوفيق ويقذف له في القلوب
مهابة وجلالة ومبادرة إلى قبول قوله بالسمع والطاعة، فقد قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " من أرضى الله
بسخط الناس كفاه شرهم، ومن أرضى الناس بسخط الله وكله إليهم، ومن أحسن فيما
بينه وبين الله أحسن الله فيما بينه وبين الناس، ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته،
ومن عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه. " (4)
3 - " وينبغي للمحتسب ان يكون مواظبا على سنن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من قص الشارب
ونتف الإبط وحلق العانة وتقليم الأظافر ونظافة الثياب وتقصيرها والتعطر بالمسك و
نحوه وجميع سنن الشرع ومستحباته، هذا مع القيام على الفرائض والسنن الراتبة... " (5)
4 - " ومن الشروط اللازمة للمحتسب أن يكون عفيفا عن أموال الناس متورعا عن
قبول الهدية من المتعيشين وأرباب الصناعات، فإن ذلك رشوة وقد قال (صلى الله عليه وآله وسلم): لعن الله

1 - الوسائل 11 / 234، الباب 38 من أبواب جهاد النفس، الحديث 1.
2 - الوسائل 11 / 234، الباب 38 من أبواب جهاد النفس، الحديث 3.
3 - الوسائل 11 / 235، الباب 38 من أبواب جهاد النفس، الحديث 4.
4 - معالم القربة / 12 (= ط. مصر / 57).
5 - معالم القربة / 13 (= ط. مصر / 58).
301

الراشي والمرتشي. ولأن التعفف عن ذلك أصون لعرضه وأقوم لهيبته. " (1)
5 - " ومن الآداب تقليل العلائق. روي عن بعض المشايخ أنه كان له سنور وكان
يأخذ له كل يوم من قصاب شيئا لغذائه، فرأى على القصاب منكرا فدخل الدار وأخرج
السنور ثم جاء واحتسب على القصاب. فقال القصاب: لا أعطيك بعد اليوم للسنور شيئا.
فقال الشيخ: ما احتسبت عليك إلا بعد إخراج السنور وقطع الطمع منك. ويلزم غلمانه و
أعوانه بما التزمه من هذه الشروط، فإن أكثر ما تتطرق التهم إلى المحتسب من غلمانه و
أعوانه... " (2)
6 - " وليكن سمته الرفق ولين القول، وطلاقة الوجه وسهولة الأخلاق عند أمره
الناس ونهيه، فإن ذلك أبلغ في استمالة القلوب وحصول المقصود. قال الله - تبارك و
تعالى - لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): " فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من
حولك. " ولأن الإغلاظ في الزجر ربما أغرى بالمعصية، والتعنيف في الموعظة ينفر
القلوب. حكى أن رجلا دخل على المأمون فأمره بمعروف ونهاه عن منكر وأغلظ له في
القول. فقال له المأمون: يا هذا، إن الله أرسل من هو خير منك لمن هو شر مني فقال
لموسى وهارون: " فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى. " ثم أعرض عنه ولم يلتفت
إليه.
ولأن الرجل قد ينال بالرفق ما لا ينال بالتعنيف، كما قال (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله رفيق يحب كل
رفيق يعطي على الرفق ما لا يعطي على التعنيف. " (3)
أقول: وعن أبي عبد الله (عليه السلام): " إنما يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من كانت فيه
ثلاث خصال: عامل بما يأمر به، تارك لما ينهى عنه، عادل فيما يأمر، عادل فيما ينهى،
رفيق فيما يأمر، رفيق فيما ينهى. " (4)

1 - معالم القربة / 13 (= ط. مصر / 59).
2 - معالم القربة / 14 (= ط. مصر / 59).
3 - معالم القربة / 14 (= ط. مصر / 60).
4 - الوسائل 11 / 419، الباب 10 من أبواب الأمر والنهي...، الحديث 3.
302

7 - وقال في الباب الثالث والخمسين:
" ينبغي أن يكون ملازما للأسواق، يركب في كل وقت، ويدور على السوقة والباعة،
ويكشف الدكاكين والطرقات، ويتفقد الموازين والأرطال، ويتفقد معايشهم و
أطعمتهم، وما يغشونه. ويفعل ذلك في النهار والليل في أوقات مختلفة، وذلك على غفلة
منهم، ويختم في الليل حوانيت من لا يتمكن من الكشف عليه بالنهار...، وليكن معه أمين
عارف ثقة يعتمد على قوله، ومع ذلك فلا يعتمد في الكشف إلا على ما يظهر له ويباشره
بنفسه. ولا يهمل كشف الأسواق، فقد ذكر أن علي بن عيسى الوزير وقع إلى محتسب كان
في وقت وزارته يكثر الجلوس في داره ببغداد: الحسبة لا تحتمل الحجبة، فطف الأسواق
تحل لك الأرزاق، والله إن لزمت دارك نهارا لأضرمنها عليك نارا. " (1)
8 - " وينبغي للمحتسب أن يتخذ رسلا وغلمانا وأعوانا بين يديه بقدر الحاجة دائما
إن كان جالسا أو راكبا، فإن ذلك أعظم لحرمته وأوفر لهيبته، وإعانة للناس على طلب
غرمائهم وخلاص الحق منهم. ويشترط فيهم العفة والصيانة والنهضة والشهامة، و
يؤدبهم ويهذبهم ويعرفهم كيف يتصرفون بين يديه وكيف يخرجون في طلب الغرماء، و
أنهم لا يعرفون الخصم الذي طلب، لماذا طلب؟ لئلا يتفكر في حجة يتخلص بها فإذا طلب
شخصا بعدته وآلته فليحضروه على هيئته التي وجدوه عليها... ولا يخرج أحد من
الرسل في طلب أحد من الناس إلا بعد مشاورة المحتسب، وإذا خرج فليخرج بعزم و
قوة نفس حادة ويطلب الخصم بسرعة، فإن ذلك مما يرعبه ويخوفه ويردعه... " (2)

1 - معالم القربة / 219 (= ط. مصر / 320).
2 - معالم القربة / 220 (= ط. مصر / 322).
303

الفصل السادس
في البحث حول التعزيرات الشرعية
قال الشيخ في أواخر كتاب الأشربة من المبسوط:
" كل من أتى معصية لا يجب بها الحد فإنه يعزر. مثل أن سرق نصابا من غير حرز، أو
أقل من نصاب من حرز، أو وطئ أجنبية فيما دون الفرج أو قبلها، أو شتم إنسانا أو
ضربه، فإن الإمام يعزره. " (1)
وقال المحقق في حدود الشرائع:
" كل من فعل محرما أو ترك واجبا فللإمام تعزيره بما لا يبلغ الحد. وتقديره إلى
الإمام، ولا يبلغ به حد الحر في الحر ولا حد العبد في العبد. " (2)
وفي الجواهر:
" لا خلاف ولا إشكال نصا وفتوى. " (3)
وقال العلامة في القواعد:

1 - المبسوط 8 / 69.
2 - الشرائع 4 / 168.
3 - الجواهر 41 / 448.
305

" وكل من فعل محرما أو ترك واجبا كان للإمام تعزيره بما لا يبلغ الحد لكن بما يراه
الإمام، ولا يبلغ حد الحر في الحر ولاحد العبد في العبد. " (1)
أقول: لا يخفى أن مراد المحقق والعلامة أيضا المحرمات التي لم يرد فيها حدود
معينة.
ويدل على الحكم مضافا إلى وضوحه وعدم الخلاف فيه كما مر من الجواهر أولا:
استقرار سيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) على ذلك على ما مر منا من حسبتهما في
موارد كثيرة بعد إلغاء الخصوصية، فراجع.
وثانيا: ما دل من الأخبار على وجوب الإنكار ولو باليد كما في خبر جابر المتقدم،
عن أبي جعفر (عليه السلام): " فأنكروا بقلوبكم والفظوا بألسنتكم وصكوا بها جباههم. " (2)
وفي خبر يحيى الطويل، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " ما جعل الله بسط اللسان وكف اليد و
لكن جعلهما يبسطان معا ويكفان معا. " (3)
وفي خبر ابن أبي ليلى، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله
العليا وكلمة الظالمين السفلى فذلك الذي أصاب سبيل الهدى. " (4)
وفي خبر العسكري (عليه السلام): " من رآي منكم منكرا فلينكر بيده إن استطاع. " (5)
إلى غير ذلك من الروايات الواردة بطرق الفريقين، فراجع.
وقد مر البحث في أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا وصلت النوبة فيهما إلى
الضرب والجراح فهل يجوز أن يتصدى له كل أحد أو يكون مخصوصا بالإمام أو

1 - القواعد 2 / 262.
2 - الوسائل 11 / 403، الباب 3 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 1.
3 - الوسائل 11 / 404، الباب 3 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 2.
4 - الوسائل 11 / 405، الباب 3 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 8.
5 - الوسائل 11 / 407، الباب 3 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 12.
306

من نصبه؟ وعرفت أن الأحوط هو الثاني هذا.
ولكن يمكن أن يقال إن هذا الاستدلال خلط بين باب الأمر والنهي وباب
التعزيرات، إذ المقصود في هذه الروايات هو الردع والمنع عن وقوع المنكر، فلا تدل
على جواز التعزير بعد وقوعه، فتأمل.
وثالثا: الروايات الدالة على أن الله - تعالى - جعل لكل شيء حدا، وجعل على من
تعدى حدا من حدود الله حدا; وهي مستفيضة:
منها صحيحة داود بن فرقد، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن الله قد
جعل لكل شيء حدا وجعل لمن تعدى ذلك الحد حدا. " (1)
وفي خبر ابن رباط، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن الله -
عز وجل - جعل لكل شيء حدا، وجعل على من تعدى حدا من حدود الله - عز وجل -
حدا. " (2)
إلى غير ذلك من الأخبار، فراجع الباب الثاني من مقدمات الحدود من الوسائل (3). و
واضح أن الحد في هذه الأخبار أعم من الحد المصطلح، إذ هو لا يثبت إلا في موارد
خاصة، فتدبر.
وفي الباب الخمسين من معالم القربة:
" التعزير اسم يختص بفعله الإمام أو نائبه في غير الحدود والتأديب. والدليل على
جواز التعزير ما روي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " لاقطع في ثمر ولا كثر حتى يؤويه الجرين،
فإذا آواه الجرين وبلغ ثمنه ثمن المجن ففيه القطع، وإن كان دون ذلك ففيه غرم مثله و
جلدات نكالا ".
... وكل من أتى معصية لا حد فيها ولا كفارة كالمباشرة المحرمة فيما دون الفرج، و
السرقة فيما دون النصاب، والقذف بغير الزنا، والخيانة بما لا يوجب القصاص، والشهادة
بالزور

1 - الوسائل 18 / 310، الباب 2 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1.
2 - الوسائل 18 / 310، الباب 2 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 2.
3 - الوسائل 18 / 309 - 311.
307

وما أشبه ذلك من المعاصي عزر. روي ذلك عن الخلفاء الراشدين، ولأن الله - تعالى
- أباح الضرب للزوج عند نشوز الزوجة، وقسنا عليه سائر المعاصي على حسب ما يراه
الإمام أو نائبه. " (1)
أقول: ما رواه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ورد في مورد خاص، فلا يقاس عليه ولاعلى الضرب
في نشوز الزوجة، لمنع حجية القياس عندنا. نعم، لو كان ذكر الموردين من باب المثال
فأريد مجموع الروايات الكثيرة الواردة في موارد مختلفة ومنها ما ورد من التغرير في
من سب رجلا أو هجاه أو نسبه إلى ما ليس فيه (2) بإلغاء الخصوصية وتنقيح المناط
القطعي صح الاستدلال بها، وصار هذا دليلا رابعا في المقام. هذا.
وفي نهاية ابن الأثير:
" وفي حديث الحدود: لاقطع في ثمر حتى يؤويه الجرين، هو موضع تجفيف التمر...
ويجمع على جرن. " (3)
وفيه أيضا: " الكثر بفتحتين: جمار النخل وهو شحمه الذي وسط النخلة. " (4)
والحديث مروى بطرقنا أيضا، ففي الوسائل عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:
" قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لاقطع في ثمر ولا كثر. والكثر: شحم النخل. " (5)

1 - معالم القربة / 190 - 191، (= ط. مصر / 284)، فصل في التعاذير.
2 - راجع الوسائل 18 / 452 - 454، الباب 19 من أبواب حد القذف.
3 - النهاية 1 / 263.
4 - النهاية 4 / 152.
5 - الوسائل 18 / 517، الباب 23 من أبواب حد السرقة، الحديث 3.
308

جهات البحث في المسألة
إذا عرفت ما ذكرناه فاعلم أن هنا جهات في المسألة يجب الالتفات إليها والبحث
فيها:
الجهة الأولى:
في اهتمام الإسلام بإقامة الحدود والتعزيرات:
لا يخفى أن إدارة المجتمع وحفظ النظام وأمن السبل وإقامة القسط والعدل تتوقف
على تحديد الحريات ووضع المقررات، وعلى تأديب المتخلفين ومجازاة المجرمين.
إذ لولا خوف أهل الفساد من العقوبة والخذلان لما بقي للنفوس والأعراض والأموال
حرمة، ولاختل أمر الحياة وشاعت الفوضى والهرج.
وقد استقرت سيرة عقلاء البشر في كل عصر وزمان على وضع المقررات وتحديد
الحريات وعلى سياسة المتخلفين. فهذا أمر لا محيص عنه في كل نظام ومجتمع. و
الإسلام بجامعيته لجميع ما يحتاج إليه ا لإنسان في معاشه ومعاده وما به صلاحه في
الدارين اهتم بهذا الأمر أشد الاهتمام:
قال الله - تعالى -: " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم
الناس بالقسط، وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره و
رسله بالغيب، إن الله قوي عزيز. " (1)

1 - سورة الحديد (57)، الآية 25.
309

فالرسالات السماوية كلها قد تكفلت لما به صلاح الناس، وفي خاتمتها شرع نبينا -
صلى الله عليه وآله -. وقد جعل الله الحديد والسلاح ضمانة لتنفيذ كتبه وموازينه و
إقامة القسط والعدل ونصر رسله وبسط أحكامه.
وفي خبر عبد الرحمان بن الحجاج، عن أبي إبراهيم (عليه السلام) في قول الله - عز وجل -:
" يحيي الأرض بعد موتها "، قال: " ليس يحييها بالقطر، ولكن يبعث الله رجالا فيحيون
العدل فتحيى الأرض لإحياء العدل. ولإقامة الحد لله أنفع في الأرض من القطر أربعين
صباحا. " وبهذا المضمون روايات مستفيضة، فراجع الوسائل. (1)
وقد مر الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن الله قد جعل لكل شي حدا، وجعل لمن
تعدى ذلك الحد حدا. " (2)
والظاهر من الروايات ومن فتاوى الأصحاب أن إقامة الحدود بحسب الطبع واجبة
لا يجوز تعطيلها:
ففي خبر ميثم، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): ".. يا محمد، من عطل حدا من حدودي فقد
عاندني وطلب بذلك مضادتي. " (3)
ولما شفعت أم سلمة عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأمتها التي سرقت، قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " يا أم سلمة،
هذا حد من حدود الله لا يضيع، فقطعها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). " (4)
وفي صحيحة الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " إن في كتاب علي (عليه السلام) إنه كان يضرب
بالسوط، وبنصف السوط، وببعضه في الحدود. وكان إذا أتى بغلام وجارية لم يدركا
لا يبطل حدا من حدود الله - عز

1 - الوسائل 18 / 308، الباب 1 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 3 و...
2 - الوسائل 18 / 310، الباب 2 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1.
3 - الوسائل 18 / 309، الباب 1 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 6.
4 - الوسائل 18 / 332، الباب 20 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1.
310

وجل -. قيل له: وكيف كان يضرب؟ قال: كان يأخذ السوط بيده من وسطه أو من ثلثه
ثم يضرب به على قدر أسنانهم، ولا يبطل حدا من حدود الله - عز وجل -. " (1)
وفي سنن أبي داود بسنده، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
" تعافوا الحدود فيما بينكم. فما بلغني من حد فقد وجب. " (2)
إلى غير ذلك من الروايات، فراجع.
نعم، لو تاب المجرم قبل قيام البينة عليه سقط الحد، كما أنه لو كان الثبوت بالإقرار
لا بالبينة كان للإمام عفوه، بل مطلقا على قول (3). وسيأتي البحث فيه إجمالا والتحقيق
موكول إلى كتاب الحدود. هذا كله في الحدود المصطلحة.
وأما التعزيرات فهل يكون تنفيذها واجبا، أو تكون باختيار الإمام، أو فيه تفصيل؟
في المسألة وجوه.
قال الشيخ في أشربة الخلاف (المسألة 13):
" التعزير إلى الإمام بلا خلاف، إلا أنه إذا علم أن لا يردعه إلا التعزير لم يجز له تركه. و
إن علم أن غيره يقوم مقامه من الكلام والتعنيف كان له أن يعدل إليه، ويجوز له تعزيره، و
به قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: هو بالخيار في جميع الأحوال دليلنا ظواهر الأخبار و
تناولها الأمر بالتعزير، وذلك يقتضي الإيجاب. " (4)
وقال في أواخر الأشربة من المبسوط:
" والتعزير موكول إلى الإمام لا يجب عليه ذلك; فإن رأى التعزير فعل، وإن رأى تركه
فعل، سواء كان عنده أنه لا يردعه غير التعزير، أو كان يرتدع بغير تعزير. وقال بعضهم:
متى كان عنده أنه يرتدع بغيره فهو بالخيار بين إقامته وتركه، وإن كان عنده أنه لا يردعه
إلا التعزير فعليه التعزير، وهو الأحوط. " (5)
وظاهر كلام الشيخ أن التعزير عنده يختص بالضرب، وأن التعنيف ليس من

1 - الوسائل 18 / 307، الباب 1 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1.
2 - سنن أبي داود 2 / 446، كتاب الحدود، باب العفو عن الحدود ما لم تبلغ السلطان.
3 - راجع الوسائل 18 / 330 - 331، الباب 18 من أبواب مقدمات الحدود.
4 - الخلاف 3 / 223.
5 - المبسوط 8 / 69.
311

مصاديقه، هذا.
وما مر من الشرائع والقواعد في صدر المسألة أيضا لا ظهور لهما في الوجوب و
التعين، كما لا يخفى.
وفي المغني لابن قدامة:
" والتعزير فيما شرع فيه التعزير واجب إذا رآه الإمام، وبه قال مالك وأبو حنيفة. و
قال الشافعي: ليس بواجب، لأن رجلا جاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: إني لقيت امرأة فأصبت
منها ما دون أن أطأها، فقال: " أصليت معنا؟ " قال: نعم. فتلا عليه: إن الحسنات يذهبن
السيئات. وقال في الأنصار: " اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم. " (1)
ولكن المستفاد من أكثر الأخبار الواردة في التعزيرات، وكذا من أكثر كلمات
الأصحاب وجوب التعزير في موارده بدوا وبالطبع، وإن قلنا بسقوطه إن تاب قبل قيام
البينة، وبجواز عفو الحاكم عنه إن كان الثبوت بالإقرار لا بالبينة كما هو الظاهر، نظير ما
مر في الحد.
فأنت ترى روايات الباب وكلمات الأصحاب مشحونة بقولهم: عزر، أو يعزر، أو
أدب، أو يؤدب، أو ضرب، أو يضرب تعزيرا، أو عليه تعزير، أو جلد، أو يجلد ونحو ذلك
من الألفاظ التي تكون بصورة الاخبار ويراد بها الأمر قطعا. وقد حقق في محله أن
ظهور هذا النحو من التعبير في الوجوب أقوى وأوكد من ظهور الأمر فيه، لبنائه على
فرض تحقق الأمر وتأثيره في المأمور ووقوع الفعل منه خارجا بامتثاله فيخبر هو عن
ذلك. اللهم إلا أن يقال إن تعزير الغير لما كان تصرفا في سلطته وهي محرمة بالطبع كان
مفاد الأمر وما في معناه في مثل المقام رفع الحظر فقط فلا يدل على الوجوب، فتأمل. و
بعض فقهائنا أيضا عبروا بلفظ الوجوب. وظاهره الوجوب الاصطلاحي. وحمله على
معناه اللغوي، أعني الثبوت خلاف الظاهر:
ففي الغنية:

1 - المغني 10 / 348.
312

" فصل: واعلم أن التعزير يجب بفعل القبيح والإخلال بالواجب الذي لم يرد من
الشارع بتوظيف حد عليه، أو ورد بذلك فيه ولم يتكامل شروط إقامته; فيعزر على
مقدمات الزنا واللواط من النوم في إزار واحد والضم والتقبيل... " (1)
وفي آخر كتاب الحدود من التحرير:
" التعزير يجب في كل جناية لا حد فيها، كالوطي في الحيض للزوجة، والأجنبية فيما
دون الفرج... وهو يكون بالضرب والحبس والتوبيخ من غير قطع ولا جرح ولا أخذ
مال. والتعزير واجب فيما يشرع فيه التعزير ولا ضمان لمن مات به. " (2)
فظاهر كلام هذين العلمين وجوب التعزير مثل الحد.
نعم عند العلامة (قدس سره) لا ينحصر التعزير بالضرب، بل يعم الحبس والتوبيخ أيضا. وسيأتي
البحث في ذلك أيضا. هذا.
ويدل على وجوب التعزير أيضا - مضافا إلى ما مر - صحيحة الحلبي التي مضت آنفا،
إذ المراد بالحد فيها ما يشمل التعزير أيضا بقرينة ذكر الغلام والجارية الذين لم يدركا، إذ
الثابت فيهما هو التعزير لا الحد المصطلح، بل يحتمل أن يراد بالحد في خبر ميثم الماضي
أيضا هو الأعم لكثرة استعماله فيه، فتأمل:
نعم، روت عائشة، قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا
الحدود. " (3)
وفي الدعائم: روينا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " ادرؤوا الحدود بالشبهات، وأقيلوا
الكرام عثراتهم إلا في حد من حدود الله. " (4)
فلعله يستفاد من هذا الحديث التفاوت بين الحدود والتعزيرات في وجوب التنفيذ و
عدمه.

1 - الجوامع الفقهية / 562.
2 - تحرير الأحكام 2 / 239.
3 - سنن أبي داود 2 / 446، كتاب الحدود باب في الحد يشفع فيه.
4 - دعائم الإسلام 2 / 465، كتاب الحدود، الفصل 5 (ذكر القضايا في الحدود)، الحديث 1649.
313

ولكن من المحتمل على فرض صحة الحديث كون المراد بالحدود فيه هو الأعم;
فتشمل التعزيرات أيضا. فيكون المقصود أن الناس وإن تساووا في وجوب إجراء
الحدود والتعزيرات عليهم ولكن بعد إجرائها ينبغي التفاوت بين ذوي الهيئات وغيرهم
في كيفية العشرة معهم وهجرهم أو اجتذابهم وإظهار المودة لهم. هذا.
وفي نهج البلاغة: " أقيلوا ذوي المروءات عثراتهم، فما يعثر منهم عاثر إلا ويد الله
بيده يرفعه. " (1)
ونحوه في الغرر والدرر (2). وليس فيه استثناء الحدود.
وفي تحف العقول عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ورد الحديث هكذا: " أقيلوا ذوي الهناة
عثراتهم. " (3) والهناة هي الداهية والمصيبة. هذا.
والظاهر جواز عفو الإمام عما كان من حقوق الله ولم يرد فيه حد خاص إذا رأى
ذلك صلاحا ولم يوجب تجرأ المجرم.
ويمكن أن يستفاد هذا من إطلاق الآيات والروايات الكثيرة الواردة في العفو وإقالة
العثرات. وسيأتي التعرض لها في الجهة العاشرة، فانتظر.
الجهة الثانية:
في عموم الحكم للصغائر أيضا:
ظاهر ما مر من المبسوط والشرائع والقواعد عموم الحكم لكل محرم، صغيرا كان أو
كبيرا. ولكن في الجواهر:
" قد يقال باختصاص التعزير بالكبائر دون الصغائر ممن كان يجتنب الكبائر، فإنها

1 - نهج البلاغة، فيض / 1095; عبده 3 / 155; لح / 471، الحكمة 20.
2 - الغرر والدرر 2 / 260، الحديث 2550.
3 - تحف العقول / 58.
314

حينئذ مكفرة لا شئ عليها، أما إذا لم يكن مجتنبا لها فلا يبعد التعزير لها أيضا. " (1)
أقول: نظره (قدس سره) إلى قوله - تعالى -: " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم
سيئاتكم، وندخلكم مدخلا كريما. " (2)
فإن قلت: إذا لم يثبت التعزير في الصغائر مع اجتناب الكبائر أمكن القول بعدمه فيها
مطلقا، لعدم القول بالفصل.
قلت: لا دليل على حجية ذلك ما لم يرجع إلى القول بعدم الفصل، والمسألة لم تكن
معنونة في كلمات القدماء من أصحابنا حتى يحرز هذا القول. هذا.
ويمكن الإشكال في أصل الاختصاص بالكبائر، لأن المفروض كون الصغيرة أيضا
محرمة مبغوضة شرعا، والآية إنما تدل على التكفير والعفو عنها في العقبى فلا ينافي
جواز التعزير عليها فعلا ردعا للفاعل عن تكرارها ولغيره عن الإتيان بمثلها. وعموم
قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن الله قد جعل لكل شيء حدا، وجعل لمن تعدى ذلك الحد حدا " (3)،
يشملها أيضا، فتدبر.
الجهة الثالثة:
في بيان مفهوم التعزير بحسب اللغة:
1 - قال في الصحاح:
" التعزير: التعظيم والتوقير، والتعزير أيضا: التأديب، ومنه سمي الضرب دون الحد

1 - الجواهر 41 / 448.
2 - سورة النساء (4)، الآية 31.
3 - الوسائل 18 / 310، الباب 2 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1.
315

تعزيرا. " (1)
2 - وفي القاموس:
" العزر: اللوم. عزره يعزره وعزروه، التعزير: ضرب دون الحد أو هو أشد الضرب. و
التفخيم والتعظيم. ضد " (2)
3 - وفي لسان العرب:
" العزر: اللوم. وعزره يعزره عزرا وعزره: رده. والعزر والتعزير: ضرب دون الحد
لمنعه الجاني من المعاودة وردعه عن المعصية... وقيل: هو أشد الضرب. وعزره: ضربه
ذلك الضرب. والعزر: المنع. والعزر: التوقيف على باب الدين... والتعزير: التوقيف على
الفرائض والأحكام. وأصل التعزير: التأديب، ولهذا يسمى الضرب دون الحد تعزيرا،
إنما هو أدب، يقال: عزرته وعزرته. فهو من الأضداد. وعزره: فخمه وعظمه. " (3)
4 - وقال الراغب في المفردات:
" التعزير: النصرة مع التعظيم، قال: وتعزروه، وعزرتموهم. والتعزير: ضرب دون الحد
وذلك يرجع إلى الأول، فإن ذلك تأديب، والتأديب نصرة ما لكن الأول نصرة بقمع ما
يضره عنه، والثاني نصرة بقمعه عما يضره، فمن قمعته عما يضره فقد نصرته. وعلى هذا
الوجه قال (صلى الله عليه وآله وسلم): انصر أخاك ظالما أو مظلوما. قال: أنصره مظلوما فكيف أنصره ظالما؟
فقال: كفه عن الظلم. " (4)
5 - وفي نهاية ابن الأثير:
" التعزير: الإعانة والتوقير والنصر مرة بعد مرة. وأصل التعزير: المنع والرد; فكأن
من نصرته فقد رددت عنه أعداءه ومنعتهم من أذاه، ولذا قيل للتأديب الذي هو دون
الحد تعزير لأنه يمنع الجاني أن يعاود الذنب. " (5) هذا.

1 - صحاح اللغة 2 / 744.
2 - القاموس / 278.
3 - لسان العرب 4 / 561 - 562.
4 - مفردات الراغب / 345.
5 - النهاية 3 / 228.
316

6 - وقال المحقق في الشرائع:
" كل ماله عقوبة مقدرة يسمى حدا، وما ليس كذلك يسمى تعزيرا. " (1)
ولا يخفى وجود مسامحة ما في عبارته; فإن الحد والتعزير اسمان لنفس العقوبة لا
لما فيه العقوبة.
7 - وفي المسالك:
" التعزير لغة: التأديب، وشرعا عقوبة أو إهانة لا تقدير لها بأصل الشرع غالبا. " (2)
أقول: وقيد بالغالب ليشمل مثل تعزير من أتى زوجته الصائمة أو أتى البهيمة، حيث
قدر بخمسة وعشرين سوطا، فراجع.
8 - وفي الأحكام السلطانية للماوردي:
" والتعزير: تأديب على ذنوب لم تشرع فيها الحدود. ويختلف حكمه باختلاف حاله
وحال فاعله. " (3) ونحو ذلك في الأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء، فراجع. (4)
- وفي معالم القربة:
" التعزير: اسم يختص بفعله الإمام أو نائبه في غير الحدود والتأديب... فأما ضرب
الزوج زوجته والمعلم الصبي فذاك يسمى تأديبا. واصله العزر وهو المنع والزجر،
يقال: عزره إذا رفعه. وهو من الأسماء الأضداد، ومنه سمي النصر تعزيرا لأنه يدفع العدو
ويمنعه، وإليه الإشارة بقوله: " وتعزروه وتوقروه. " (5)
10 - وفي المغني لابن قدامة الحنبلي:
" التعزير هو العقوبة المشروعة على جناية لا حد فيها... والأصل في التعزير: المنع، و
منه التعزير بمعنى النصرة لأنه منع لعدوه من أذاه. " (6)

1 - الشرائع 4 / 147.
2 - المسالك 2 / 423.
3 - الأحكام السلطانية / 236.
4 - الأحكام السلطانية / 279.
5 - معالم القربة / 190 - 191 (= ط. مصر / 284)، الباب 50، فصل في التعازير.
6 - المغني 10 / 347.
317

أقول: لا يخفى أن ظاهر أكثر كلمات أهل اللغة وفقهاء الفريقين اختصاص التعزير
بالضرب والعقوبة البدنية، وربما يظهر من بعضها شموله لمثل الإهانة والتهديد والتوبيخ
ونحوها أيضا. وسيأتي تفصيل ذلك، فانتظر.
الجهة الرابعة:
في أن التعزير يراد به الضرب والإيلام، أو مطلق التأديب؟
قد عرفت في الجهة الثالثة أن العزر والتعزير في كلمات أهل اللغة فسرا بالتوقير، و
بالمنع، والرد، واللوم، والتأديب، والتوقيف.
وفي الصحاح:
" التعزير أيضا: التأديب، ومنه سمي الضرب دون الحد تعزيرا. "
وفي لسان العرب:
" والعزر والتعزير: ضرب دون الحد، لمنعه الجاني من المعاودة... وأصل التعزير:
التأديب، ولهذا يسمى الضرب دون الحد تعزيرا، إنما هو أدب. "
فيظهر من تتبع أكثر كلمات أهل اللغة أن اللفظ بحسب الوضع لم يوضع للضرب، بل
للمنع والتأديب ونحوهما، وإنما استعمل في الضرب بعناية كونه من مصاديق المفهوم
الذي وضع له اللفظ.
نعم، يظهر من أكثر كلمات الفقهاء كونه بمعنى الضرب الذي دون الحد، كما أنه الظاهر
من بعض كلمات أهل اللغة كالقاموس أيضا، ولعله المفهوم منه في الاستعمالات العرفية
في أعصارنا.
ولكن يظهر من بعض الفقهاء ولا سيما فقهاء السنة كونه بحسب الاصطلاح أيضا
بمعنى مطلق ما يتحقق به المنع والتأديب; فيشمل التوبيخ والتهديد والحبس والمجازاة
المالية. فليس في المقام نقل ولا حقيقة شرعية، بل الملحوظ نفس المفهوم
318

اللغوي بعمومه، والضرب ليس إلا مصداقا شائعا من مصاديقه، ولعل اختياره من بين
المصاديق غالبا كان من جهة كونه أشد تأثيرا وأعم نفعا فيما يترقب منه وأسهل تناولا.
كما أنه يظهر من بعض آخر أن المراد باللفظ خصوص الضرب ولكنه لا يتعين
اختياره، بل يكون بحسب الرتبة متأخرا عن مثل التوبيخ والهجر ونحوهما، فلا تصل
النوبة إليه إلا بعد عدم تأثير غيره.
وكيف كان، فهل يتعين الضرب والعقوبة البدنية في من تخلف مطلقا، أو يكون
مشروطا بما إذا لم ينته بالنهي والتوبيخ والتهديد والهجر ونحو ذلك، أو يكون الإمام
مخيرا بين الضرب وبين غيره؟ وجوه بل أقوال:
ظاهر أكثر الكلمات ومنها ما مر من الشرائع والقواعد هو الأول.
ولكن: 1 - قال الشيخ في أشربة المبسوط:
" إذا فعل إنسان ما يستحق به التعزير مثل أن قبل امرأة حراما، أو أتاها فيما دون
الفرج، أو أتى غلاما بين فخذيه - عندهم لأن عندنا ذلك لواط - أو ضرب إنسانا، أو شتمه
بغير حق فللإمام تأديبه; فإن رأى أن يوبخه على ذلك ويبكته أو يحبسه فعل، وإن رأى
أن يعزره فيضربه ضربا لا يبلغ به أدنى الحدود - وأدناها أربعون جلدة - فعل، فإذا فعل
فإن سلم منه فلا كلام، وإن تلف منه كان مضمونا عند قوم.
وقال قوم: إن علم الإمام أنه لا يردعه إلا التعزير وجب عليه أن يعزره، وإن رأى أنه
يرتدع بغيره كان التعزير إليه: إن شاء عزره وإن شاء تركه، فإن فعل ذلك فلا ضمان على
الإمام، سواء عزره تعزيرا واجبا أو مباحا. وهو الذي يقتضيه مذهبنا. " (1)
وظاهره كون التأديب أعم من التعزير، والتعزير ينحصر في الضرب، ولكن

1 - المبسوط 8 / 66.
319

الإمام مخير بين الضرب وغيره. وقد مر في الجهة الأولى كلام آخر من الشيخ من
أواخر أشربة المبسوط، وكلام منه من أشربة الخلاف (المسألة 13) يناسبان المقام،
فراجع.
2 - وفي آخر كتاب الحدود من التحرير:
" التعزير يجب في كل جناية لا حد فيها... وهو يكون بالضرب والحبس والتوبيخ، من
غير قطع ولا جرح ولا أخذ مال. " (1)
وظاهره كون التعزير أعم، وكون الإمام مخيرا بين أفراده.
3 - وفي كشف اللثام في شرح ما قدمناه من القواعد قال:
" ثم وجوب التعزير في كل محرم من فعل أو ترك إن لم ينته بالنهي والتوبيخ ونحوهما
فهو ظاهر لوجوب إنكار المنكر، وأما إن انتهى بما دون الضرب فلا دليل إلا في مواضع
مخصوصة ورد النص فيها بالتأديب أو التعزير. ويمكن تعميم التعزير في كلامه وكلام
غيره لما دون الضرب من مراتب الإنكار. " (2)
أقول: ظاهر كلامه الخلط بين باب التعزير وباب النهي عن المنكر، وكأنه توهم أن
التعزير إنما يقع للردع عما وجد من المنكر، فإذا حصل الارتداع بدون ذلك فلا يبقى
مجال له.
ولكن يمكن أن يقال: إن الحكمة في تشريعه ارتداع الفاعل في المستقبل، وكذا
ارتداع غيره ممن قد رأى أو سمع، كما هو الحكمة في جعل الحدود أيضا، فتدبر.
وأما ما احتمله من تعميم التعزير لمثل النهي والتوبيخ فكأنه أخذه من تحرير العلامة
ونحوه.
ويمكن أن يورد عليه أولا بكونه خلاف ظاهر كلمات أصحابنا وإن اختاره كثير من
مصنفي السنة، كما سيجيء. وثانيا بأن المذكور في كثير من أخبار الباب

1 - تحرير الأحكام 2 / 239.
2 - كشف اللثام 2 / 235.
320

ليس لفظ التعزير حتى يحمل على الأعم، بل الضرب مطلقا أو بمقدار خاص، أو فسر
في النهاية بالضرب كما في خبر إسحاق بن عمار وصحيحة حماد بن عثمان، الواقع فيهما
السؤال عن مقدار التعزير (1). واما ما وقع فيه لفظ التعزير بنحو الإطلاق فاللفظ وإن كان
بحسب اللغة يعم الضرب وغيره ولكن تعارف الضرب خارجا في مقام العمل في عصر
صدور الأخبار لعله كان يوجب انصراف المطلقات إلى خصوص الضرب. هذا.
ولكن الأقوى كما سيأتي هو التعميم، فتدبر.
4 - وفي الأحكام السلطانية للماوردي:
" ويختلف حكمه باختلاف حاله وحال فاعله; فيوافق الحدود من وجه وهو أنه
تأديب استصلاح وزجر يختلف بحسب اختلاف الذنب، ويخالف الحدود من ثلاثة
أوجه: أحدها أن تأديب ذوي الهيأة من أهل الصيانة أخف من تأديب أهل البذاء و
السفاهة، لقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم. "
فتدرج في الناس على منازلهم وان تساووا في الحدود المقدرة; فيكون تعزير من
جل قدره بالإعراض عنه، وتعزير من دونه بالتعنيف له، وتعزير من دونه بزواجر الكلام،
وغايته الاستخفاف الذي لاقذف فيه ولا سب، ثم يعدل بمن دون ذلك إلى الحبس الذي
يحبسون فيه على حسب ذنبهم وبحسب هفواتهم; فمنهم من يحبس يوما، ومنهم من
يحبس أكثر منه إلى غاية مقدرة. " (2) وذكر أبو يعلى الفراء أيضا قريبا من ذلك. (3)
5 - وفي معالم القربة:
" ويختلف حكمه باختلاف حاله وحال فاعله; فيوافق الحدود من وجه: وهو أنه
تأديب استصلاح وزجر يختلف بحسب اختلاف الذنب، ويخالف الحدود من وجه: و
هو أن تأديب ذوي الهيأة من أهل الصيانة أخف من تأديب أهل البذاءة والسفاهة.

1 - الوسائل 18 / 583 - 584، الباب 10 من أبواب بقية الحدود والتعزيرات، الحديث 1 و 3.
2 - الأحكام السلطانية / 236.
3 - الأحكام السلطانية لأبي يعلى / 279.
321

فيتدرج في الناس على منازلهم وإن تساووا في الحدود المقدرة; فيكون تعزير من
جل قدره بالإعراض عنه، وتعزير من دونه بزواجر الكلام، وغايته الاستخفاف الذي
لاقذف فيه ولا سب، ثم يعدل بمن دون ذلك إلى الحبس الذي ينزلون فيه على حسب
رتبهم بحسب هفواتهم، فمنهم من يحبس يوما، ومنهم من يحبس أكثر إلى غاية مقدورة،
وقال أبو عبد الله الزبيري من أصحاب الشافعي تقدر غايته شهرا لاستبراء والكشف، و
ستة أشهر للتأديب والتقويم، وإن رأى الإمام أو نائبه أن يجلده جلده، ولا يبلغ أدنى
الحد لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من بلغ ما ليس بحد فهو من التعزير. " ولأن هذه المعاصي دونها،
فلا يجب فيها ما يجب في ذلك... " (1)
6 - وفي المناهج للنووي في فقه الشافعية:
" فصل: يعزر في كل معصية لا حد لها ولا كفارة بحبس، أو ضرب، أو صفع، أو توبيخ.
ويجتهد الامام في جنسه وقدره. وقيل: إن تعلق بآدمي لم يكف توبيخ. " (2)
7 - وفي المغني لابن قدامة الحنبلي:
" فصل: والتعزير يكون بالضرب والحبس والتوبيخ. " (3)
8 - وفي إحياء العلوم للغزالي:
" الركن الرابع: نفس الاحتساب. وله درجات وآداب: أما الدرجات فأولها التعرف،
ثم التعريف، ثم الوعظ والنصح، ثم السب والتعنيف، ثم التغيير باليد، ثم التهديد بالضرب،
ثم إيقاع الضرب وتحقيقه، ثم شهر السلاح، ثم الاستظهار فيه بالأعوان وجمع الجنود. "
ثم شرع في شرح هذه العناوين وبيان خصوصياتها بالتفصيل، فراجع. (4)
9 - وفي بدائع الصنائع للكاشاني في فقه الحنفية:
" ومن مشايخنا من رتب التعزير على مراتب الناس فقال: التعازير على أربعة

1 - معالم القربة / 191 (= ط. مصر / 285)، الباب 50، فصل في التعازير.
2 - المنهاج / 535.
3 - المغني 10 / 348.
4 - إحياء العلوم 2 / 329.
322

مراتب: تعزير الأشراف وهم الدهاقون والقواد، وتعزير أشراف الأشراف وهم
العلوية والفقهاء، وتعزير الأوساط وهم السوقة، وتعزير الأخساء وهم السفلة; فتعزير
أشراف الأشراف بالإعلام المجرد، وهو أن يبعث القاضي أمينه إليه فيقول له: بلغني أنك
تفعل كذا وكذا، وتعزير الأشراف بالإعلام والجر إلى باب القاضي والخطاب
بالمواجهة، وتعزير الأوساط الإعلام والجر والحبس، وتعزير السفلة الإعلام والجر و
الضرب والحبس، لأن المقصود من التعزير هو الزجر وأحوال الناس في الانزجار على
هذه المراتب. " (1)
10 - وفي الفقه على المذاهب الأربعة:
" وبالجملة، فإن التعزير باب واسع يمكن الحاكم أن يقتضي به على كل الجرائم التي
لم يضع الشارع لها حدا أو كفارة، على أن يضع العقوبة المناسبة لكل بيئة ولكن جريمة
من سجن، أو ضرب، أو نفي، أو توبيخ أو غير ذلك. " (2)
11 - وفي الفقه الإسلامي وأدلته:
" والتعزير يكون إما بالضرب، أو بالحبس، أو الجلد، أو النفي، أو التوبيخ، أو التغريم
المالي ونحو ذلك مما يراه الحاكم رادعا للشخص بحسب اختلاف حالات الناس حتى
القتل سياسة، كما قرر فقهاء الحنفية والمالكية.
والتعزير مفوض للدولة في كل زمان ومكان; تضع للقضاة أنظمة يطبقونها بحسب
المصلحة. " (3)
أقول: فيظهر من هؤلاء المصنفين من علماء السنة أن مفهوم التعزير عندهم بحسب
الاصطلاح أيضا يكون أعم من الضرب والإيلام، كما يكون كذلك بحسب اللغة; فيشمل
التوبيخ والهجر ونحوهما فضلا عن مثل النفي والحبس. ولا يبعد ما ذكروه، وإنما شاع
ذكر الضرب وإجراؤه خارجا لكونه أظهر أفراد التعزير وأشدها

1 - بدائع الصنائع 7 / 64.
2 - الفقه على المذاهب الأربعة 5 / 400.
3 - الفقه الإسلامي وأدلته 4 / 287.
323

تأثيرا في الغالب وأعمها نفعا وأسهلها تناولا، كما لا يخفى.
ما ورد في التأديب بغير الضرب والإيلام أو معه:
1 - وقد نفى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الحكم بن أبى العاص إلى الطائف، لكونه حاكاه في
مشيته وفي بعض حركاته، فسبه وطرده وقال له: " كذلك فلتكن. " فكان الحكم متخلجا
يرتعش. (1)
2 - وهجر هو (صلى الله عليه وآله وسلم) هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، وكعب بن مالك ونهى عن
مكالمتهم، وأمر نساءهم باعتزالهم حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، حينما تخلفوا
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في سفره إلى تبوك، إلى أن تاب الله عليهم وورد في حقهم آية من
سورة التوبة، فراجع. (2)
3 - وفي سنن أبي داود بسنده عن أبي هريرة " أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أتى بمخنث قد خضب
يديه ورجليه بالحناء، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما بال هذا؟ " فقيل: يا رسول الله، يتشبه
بالنساء، فأمر به فنفي إلى النقيع، فقالوا، يا رسول الله، ألا نقتله؟ فقال: " إني نهيت عن قتل
المصلين. " قال أبو أسامة: والنقيع ناحية عن المدينة وليس بالبقيع. " (3)
4 - وفيه أيضا بسنده عن ابن عباس أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعن المخنثين من الرجال، و
المترجلات من النساء وقال: " أخرجوهم من بيوتكم وأخرجوا فلانا وفلانا "، يعني
المخنثين (4).
5 - وفي الوسائل عن مكارم الأخلاق: " ولعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المخنثين وقال:
أخرجوهم من بيوتكم. " (5)

1 - التراتيب الإدارية 1 / 301.
2 - راجع مجمع البيان 3 / 79 - 80 (الجزء 5) وغيره من التفاسير، ذيل الآية 118 من سورة التوبة.
3 - سنن أبي داود 2 / 580، كتاب الأدب، باب الحكم في المخنثين.
4 - سنن أبي داود 2 / 580، كتاب الأدب، باب الحكم في المخنثين.
5 - الوسائل 14 / 259، الباب 22 من أبواب النكاح المحرم، الحديث 6.
324

6 - وفي التاج الجامع للأصول عن ابن عمر، قال:
" إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ضرب وغرب، وان أبا بكر ضرب وغرب، وان عمر ضرب وغرب.
رواه الترمذي والحاكم وابن خزيمة وصححه (1).
7 - وفي الغرر والدرر عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " رب ذنب مقدار العقوبة عليه إعلام
المذنب به. " (2)
8 - وروى الصدوق بإسناده عن البرقي، عن أبيه، عن على (عليه السلام): قال " يجب على
الإمام أن يحبس الفساق من العلماء، والجهال من الأطباء، والمفاليس من الأكرياء. "
قال: وقال (عليه السلام): " حبس الإمام بعد الحد ظلم. " (3)
9 - وفي خبر طلحة بن زيد، عن جعفر، عن أبيه (عليه السلام): أنه رفع إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)
رجل وجد تحت فراش امرأة في بيتها، فقال: هل رأيتم غير ذلك؟ قالوا: لا، قال:
" فانطلقوا به إلى مخرؤة فمرغوه عليها ظهرا لبطن ثم خلوا سبيله. " (4)
10 - وفي خبر حفص بن البختري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " أتي أمير المؤمنين (عليه السلام
)
برجل وجد تحت فراش رجل آخر، فأمر أمير المؤمنين (عليه السلام)، فلوث في مخرؤة. " (5)
والمخرؤة: مكان الخرء، أي الغائط. ولا يخفى التناسب بين اللواط وبين هذه
المجازاة، وكونها أوفى بالردع عن مثل الضرب ونحوه.

1 - التاج 3 / 32، كتاب الحدود، التعزير بالضرب والحبس والنفي.
2 - الغرر والدرر 4 / 73، الحديث 5342.
3 - الوسائل 18 / 221، الباب 32 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 3.
4 - التهذيب 10 / 48، باب حدود الزنا، الحديث 175.
5 - الوسائل 18 / 424، الباب 6 من أبواب حد اللواط، الحديث 1.
325

11 - وفي خبر غياث بن إبراهيم، عن جعفر، عن أبيه " أن عليا (عليه السلام) كان إذا أخذ شاهد
زور فإن كان غريبا بعث به إلى حيه، وإن كان سوقيا بعث به إلى سوقه فطيف به ثم يحبسه
أياما ثم يخلى سبيله. " (1)
12 - وفي خبر السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن أمير المؤمنين (عليه السلام) أتى برجل اختلس
درة من أذن جارية، فقال: " هذه الدغارة المعلنة، فضربه وحبسه. " (2)
13 - وفي خبر عباد بن صهيب، قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن نصراني قذف مسلما
فقال له: يا زان؟ فقال: " يجلد ثمانين جلدة لحق المسلم، وثمانين سوطا إلا سوطا لحرمة
الإسلام، ويحلق رأسه، ويطاف به في أهل دينه لكي ينكل غيره ". (3)
14 - وفي نهج السعادة، مستدرك نهج البلاغة بعد ما فر العدو من يد المسيب إلى
معاوية:
" وقدم المسيب على على (عليه السلام) وقد بلغه الخبر فحجبه أياما ثم دعا به فوبخه وقال له:
نابيت قومك وداهنت وضيعت؟ فاعتذر إليه وكلمه وجوه أهل الكوفة بالرضا عنه
فلم يجبهم وربطه إلى سارية من سواري المسجد ويقال: إنه حبسه، ثم دعا به... " (4)
ولعل المتتبع يقف على موارد كثيرة من هذا القبيل. وهذه كلها من باب التعزير قطعا،
إذ لا ثالث للحد والتعزير، فيكون مفهومه أعم من الضرب وهو المطلوب فتأمل. هذا.

1 - الوسائل 18 / 244، الباب 15 من أبواب الشهادات، الحديث 3.
2 - الوسائل 18 / 503، الباب 12 من أبواب حد السرقة، الحديث 4.
3 - الوسائل 18 / 450، الباب 17 من أبواب حد القذف، الحديث 3.
4 - نهج السعادة 2 / 578، الخطبة 320.
326

ما يستدل به لتعين الضرب والإيلام:
ويمكن أن يستدل لتعين الضرب بوجوه:
الأول: إطلاق ما دل على الضرب في موارد خاصة، كوطي الحائض والصائمة و
نحوهما.
الثاني: عموم ما دل على أن الله جعل لكل شيء حدا، وجعل على من تعدى حدا من
حدود الله حدا.
وهذه الروايات كانت عمدة دليلنا على ثبوت التعزير في كل معصية كما مر، وحيث
إن الحد المصطلح يكون من سنخ الضرب فلا محالة يكون التعزير أيضا من سنخه، وقد
أطلق عليهما لفظ الحد بعناية واحدة.
الثالث: أن الأصل وقاعدة السلطنة يقتضيان عدم التصرف في سلطة الغير إلا فيما
أجازه الشرع، والضرب مجاز من قبله بالدليل وغيره مشكوك فيه فلا يجوز. وبعبارة
أخرى: الأمر يدور بين التعيين والتخيير في مقام الامتثال، والعقل في مثله يحكم
بالتعين.
ويمكن أن يجاب عن الأول: أولا: بأنا نسلم تعين الضرب في الموارد التي ورد فيها
الضرب بخصوصه، كوطي الصائمة أو الحائض; حيث ورد فيهما خمس وعشرون جلدة،
وككون الرجلين أو المرأتين أو الرجل والمرأة الأجنبية تحت لحاف واحد مجردين;
حيث ورد فيها من ثلاثين إلى تسع وتسعين جلدة. وإنما الكلام في غيرها من التخلفات
التي لم يذكر لها بخصوصها شيء في الأخبار.
327

وثانيا: أنه في مسألة الرجلين والرجل والمرأة أيضا ورد ما مر من أمير المؤمنين (عليه السلام)
من الأمر بالتوليث في المخرؤة.
وعن الثاني بأن الحد في هذه الروايات لايراد به الحد المصطلح قطعا كما هو مبنى
الاستدلال، فلا محالة يراد به معناه اللغوي، وبعنايته استعمل اللفظ، وهو في اللغة بمعنى
المنع والكف والصرف; فيراد به في هذه الروايات كل ما يوجب تحديد فاعل المنكر و
منعه في قبال كون الشخص مطلق العنان لا يعترض عليه أحد، فيشمل الحدود المصطلحة
وكذا التعزيرات بأنواعها، كما أنه في الجملة الأولى، أعني قوله: " إن الله جعل لكل شيء
حدا "، لايراد به إلا محدودية الأفعال والتروك ومنع الإطلاق فيها. وبهذه العناية أيضا
استعمل اللفظ في قوله - تعالى - بعد بيان سهام المواريث: " تلك حدود الله، ومن يطع
الله ورسوله... * ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده " (1) وفي قول
أمير المؤمنين (عليه السلام): " إن الله حد حدودا فلا تعتدوها. " (2)
وبالجملة، فلفظ الحد في هذه الروايات التي هي محط الاستدلال لايراد به معناه
المصطلح، بل استعمل في كلتا الجملتين بلحاظ معناه اللغوي، أعني المنع والصرف،
فيشمل مثل التوبيخ والتهديد ونفي البلد والحبس أيضا لحصول المنع بسببها وإن فرض
عدم إطلاق التعزير عليها، ويكون التعيين بحسب الجنس والمقدار لا محالة مفوضا إلى
الحاكم على حسب ما يراه صلاحا.
ثم لو سلم ظهور الأخبار وعبارات الأصحاب في اعتبار المسانخة بين الحد
المصطلح وبين التعزيرات فنقول: إن الحد المصطلح أيضا لا ينحصر في العقوبة والإيلام،
لثبوت النفي في بعض موارد الزنا مع الجلد، وكذا في القيادة. وفي حد المحارب يكون
النفي أحد أفراد التخيير.
وفي الوسائل عن تفسير العياشي، عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام) في حديث طويل:

1 - سورة النساء (4)، الآية 13 و 14.
2 - الوسائل 18 / 312، الباب 3 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 5.
328

" فإن كانوا أخافوا السبيل فقط ولم يقتلوا أحدا ولم يأخذوا مالا أمر بإبداعهم الحبس،
فإن ذلك معنى نفيهم من الأرض بإخافتهم السبيل. " (1)
فيظهر بذلك أن النفي والحبس أيضا من مصاديق الحد المصطلح.
ويجاب عن الثالث أولا: بمنع كون الدوران بين التعيين والتخيير في المقام، في مقام
الامتثال والسقوط بل يكون في مقام ثبوت التكليف، حيث لا يعلم أن الوجوب تعلق
بخصوص الضرب أو بالأعم منه ومن غيره، والحق في مثله هو البراءة لا الاشتغال،
فتأمل.
وثانيا: بمنع كون المورد من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير، إذ لا نسلم
جواز الضرب مطلقا بل من المحتمل وجوب رعاية المراتب من التوبيخ والتعنيف و
الهجر والتهديد إلى أن تصل النوبة إلى الضرب; فالمعاصي مختلفة، والناس متفاوتون، و
البيئات متفاوتة، وقد ورد من طرق الفريقين أن الحدود تدرأ بالشبهات، والظاهر إرادة
الأعم بها فلا يجوز الضرب إذا كان الذنب حقيرا وفرض حصول الارتداع والمنع
بالأخف منه. والمسألة مشكلة جدا.
وبما ذكرناه يظهر حكم المجازاة المالية ولكن لأهميتها نبحث فيها بحثا مستقلا في
الجهة التالية.
الجهة الخامسة:
في التعزير المالي:
هل يجوز التعزير بالمال أيضا بإتلافه أو أخذه منه أم لا؟ فيه وجهان: من أن الغرض
ردع فاعل المنكر وربما يكون التعزير المالي أوفى بالمقصود وأردع وأصلح له

1 - الوسائل 18 / 536، الباب 1 من أبواب حد المحارب، الحديث 8.
329

وللمجتمع، فيدل على جوازه إطلاق أدلة الحكومة وربما يستأنس له أيضا ببعض
الأخبار الواردة في موارد خاصة.
ومن أن أحكام الشرع توقيفية، فلا يجوز التعدي عما ورد في باب الحدود و
التعزيرات. والمسألة من المسائل المهمة التي كثر الابتلاء بها في عصرنا.
قال ابن الأخوة في الباب الخمسين من معالم القربة:
" فصل: وأما التعزير بالأموال فجائز عند مالك، وهو قول قديم عند الشافعي بدليل
أنه أوجب على من وطئ زوجته الحائض في إقبال الدم دينارا، وفي إدباره نصف
دينار، رواه ابن عباس.
وفي من غل الزكاة تؤخذ منه ويؤخذ شطر ماله عقوبة له، واستدل بحديث بهز بن
حكيم، عن أبيه، عن جده أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " وفي كل أربعين من الإبل السائمة بنت
لبون، من أعطاها مرتجزا فله أجرها، ومن منعها فأنا آخذها، وشطر ماله، عزمة من
عزمات ربنا، ليس لآل محمد فيها شيء. " وقد روي أن سعيد بن المسيب (سعد بن أبي
وقاص خ. ل) أخذ سلب رجل قتل صيدا بالمدينة وقال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول:
" من رأى رجلا يصطاد بالمدينة فله سلبه. " والمراد ههنا بالسلب الثياب فحسب. وهذا
ما أورده الإمام. وقد روي أنهم كلموا سعدا في هذا السلب فقال: ما كنت أرد طعمة
أطعمنيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وروى أن عمر أراق لبنا مغشوشا.
وعن على (عليه السلام): أنه أحرق طعاما محتكرا بالنار.
قال الغزالي: للوالي أن يفعل ذلك إذا رأى المصلحة فيه. وأقول: وله أن يكسر
الظروف التي فيها الخمور زجرا، وقد فعل ذلك في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تأكيدا للزجر
و
لم يثبت نسخه، ولكن كانت الحاجة إلى الزجر والفطام شديدة، وإذا رأى الوالي
باجتهاده مثل تلك الحاجة جاز مثل ذلك، فإن كان هذا منوطا بنوع اجتهاد دقيق لم يكن
ذلك لآحاد الرعية. " انتهى ما أردنا نقله من معالم القربة. (1)

1 - معالم القربة / 194 - 195، (= ط. مصر / 287 - 288).
330

أقول: أما حديث الكفارة في وطي الحائض فقد استفاضت الروايات على ذلك من
طرقنا أيضا، وحملها بعضهم على الاستحباب وهو الأقوى، فراجع الوسائل. (1)
ففي خبر محمد بن مسلم، قال: " سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الرجل يأتي المرأة وهي
حائض. قال: يجب عليه في استقبال الحيض دينار، وفي استدباره نصف دينار. قال:
قلت جعلت فداك يجب عليه شيء من الحد؟ قال: نعم، خمس وعشرون سوطا، ربع حد
الزاني... " (2)
وأما حديث بهز بن حكيم فرواه أبو داود في السنن، وفيه: " من أعطاها مؤتجرا
بها " (3) وهو الصحيح ظاهرا.
وروى أيضا في السنن بسنده عن سليمان بن أبي عبد الله، قال: رأيت سعد بن أبي
وقاص أخذ رجلا يصيد في حرم المدينة الذي حرم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسلبه ثيابه، فجاء
مواليه فكلموه فيه، فقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حرم هذا الحرم وقال: " من وجد أحدا يصيد
فيه فليسلبه (ثيابه). " ولا أرد عليكم طعمة أطعمنيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكن إن شئتم
دفعت إليكم ثمنه. (4)
ورواه أحمد في مسنده أيضا إلا أنه قال: " من رأيتموه يصيد فيه شيئا فله سلبه. " (5)
وفي السنن أيضا بسنده عن مولى لسعد أن سعدا وجد عبيدا من عبيد المدينة يقطعون
من شجر المدينة، فأخذ متاعهم وقال - يعني لمواليهم -: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ينهى أن
يقطع من شجر المدينة شيء وقال: " من قطع منه شيئا فلمن

1 - راجع الوسائل 2 / 574، الباب 28 من أبواب الحيض; و 18 / 586، الباب 13 من أبواب بقية
الحدود.
2 - الوسائل 18 / 586، الباب 13 من أبواب بقية الحدود، الحديث 1.
3 - سنن أبي داود 1 / 363، كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة.
4 - سنن أبي داود 1 / 470، كتاب المناسك (الحج)، باب في تحريم المدينة.
5 - مسند أحمد 1 / 170.
331

أخذه سلبه. " (1)
أقول: قال ابن الأثير في النهاية:
" وفيه: من قتل قتيلا فله سلبه. وقد تكرر ذكر السلب في الحديث، وهو ما يأخذه
أحد القرنين في الحرب من قرنه مما يكون عليه ومعه من سلاح وثياب ودابة وغيرها.
وهو فعل بمعنى مفعول، أي مسلوب. " (2)
وعلى هذا فهو أعم من الثياب، كما لا يخفى. وما هو المناسب في الصيد الممنوع أخذ
آلة الصيد، وفي قطع الشجر الممنوع أخذ آلة القطع. هذا.
ورواية إحراق على (عليه السلام) للطعام، رواها ابن حزم في المحلى بسنده عن أبي الحكم:
" أن علي بن أبي طالب أحرق طعاما احتكر بمأة ألف. " وعن حبيش، قال: " أحرق لي
على بن أبي طالب (عليه السلام) بيادر بالسواد كنت احتكرتها لو تركها لربحت فيها مثل عطاء
الكوفة. " (3)
وفي الفقه على المذاهب الأربعة:
" وأجاز بعض الحنفية التعزير بالمال على أنه إذا تاب يرد له. فإذا استثنينا من
العقوبات حد السرقة وحد القذف، واستثنينا القصاص وبعض الأشياء التي جعل الشارع
لها كفارة كالحلف بأقسامه وإتيان الزوجة وهي حائض، فإن عقوبات الجرائم الخلقية و
المالية وسائر المعاصي منوطة بتقدير الحاكم واجتهاده، فعليه أن يضع جميع العقوبات
التي تقضى على الرذائل وتزجر المجرمين. " (4) هذا.
ولكن في المغني لابن قدامة الحنبلي:
" فصل: والتعزير يكون بالضرب والحبس والتوبيخ، ولا يجوز قطع شيء منه و
لا جرحه ولا أخذ ماله، لأن الشرع لم يرد بشيء من ذلك عن أحد يقتدى به،

1 - سنن أبي داود 1 / 470 كتاب المناسك (الحج) باب في تحريم المدينة.
2 - النهاية 2 / 387.
3 - المحلى 9 / 65 (المجلد 6)، المسألة 1567.
4 - الفقه على المذاهب الأربعة 5 / 401.
332

ولأن الواجب أدب، والتأديب لا يكون بالإتلاف. " (1)
وبالجملة، فالتعزير بالمال كان معنونا في كلمات الفقهاء من السنة، وقد رأيت حكاية
جوازه عن مالك والشافعي في القديم وبعض الحنفية، واستدلوا على جوازه بما مر من
الروايات الواردة في أخذ سلب الصائد في حرم المدينة أو القاطع لشجرها، أو أخذ شطر
المال، مضافا إلى الزكاة ممن منعها، أو إحراق أمير المؤمنين (عليه السلام) طعام المحتكر، أو أخذ
الكفارة ممن وطئ الحائض.
ما يمكن أن يستدل به للتعزير بالمال بإتلافه أو بأخذه:
أقول: ويمكن أن يستدل لذلك مضافا إلى ما مر بأمور أخر وإن كان بعضها قابلا
للمناقشة:
الأول: تحريق موسى (عليه السلام) للعجل المتخذ إلها:
ففي سورة طه: " وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا; لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم
نسفا. " (2)
وأحكام الشرائع السابقة يجوز استصحابها ما لم يثبت نسخها، والعجل كان قيما جدا;
صنعه السامري من مجموع حلي بني إسرائيل.
وبذلك يظهر أن إفناء مظاهر الفساد التي ربما ينجذب إليها أهواء البسطاء وأهل الزيغ
أولى من إبقائها في المتاحف.
الثاني: هدم مسجد الضرار وتحريقه مع ماليته:

1 - المغني 10 / 348.
2 - سورة طه (20)، الآية 97.
333

ففي مجمع البيان:
" فوجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) - عند قدومه من تبوك - عاصم بن عوف العجلاني، ومالك
بن الدخشم... فقال لهما: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه. وروي:
أنه بعث عمار بن ياسر، ووحشيا فحرقاه، وأمر بأن يتخذ كناسة يلقى فيها الجيف. " (1) و
راجع الدر المنثور (2).
الثالث: تهديد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بتحريق بيوت التاركين للجماعات:
ففي صحيحة ابن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: إن أناسا كانوا على
عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبطأوا عن الصلاة في المسجد فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ليوشك قوم
يدعون الصلاة في المسجد أن نأمر بحطب فيوضع على أبوابهم فيوقد عليهم نار فتحرق
عليهم بيوتهم. " (3)
وفي حديث آخر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): " لينتهين أقوام لا يشهدون الصلاة أو لآمرن مؤذنا يؤذن
ثم يقيم ثم آمر رجلا من أهل بيتي، وهو على، فليحرقن على أقوام بيوتهم بحزم الحطب،
لأنهم لا يأتون الصلاة. " (4)
الرابع: ما ورد من تهديد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بإحلال سلب من كان يسترزق بالدف واستأذنه
في الغناء:
فقال له: " قم عني، وتب إلى الله. أما إنك إن فعلت بعد التقدمة إليك ضربتك ضربا
وجيعا، وحلقت رأسك مثلة، ونفيتك من أهلك، وأحللت سلبك نهبة لفتيان أهل
المدينة. " (5)

1 - مجمع البيان 3 / 73 (الجزء 5).
2 - الدر المنثور 3 / 277.
3 - الوسائل 5 / 377، الباب 2 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 10.
4 - الوسائل 5 / 376، الباب 2 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 6.
5 - سنن ابن ماجة 2 / 872، كتاب الحدود، باب المخنثين، الحديث 2613.
334

الخامس: ما ورد من أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بكسر دنان الخمر وشق ظروفها:
1 - ففي سنن الترمذي بسنده عن أبي طلحة أنه قال: يا نبي الله، إني اشتريت خمرا
لأيتام في حجري. قال: " أهرق الخمر واكسر الدنان. " (1)
2 - وفي مسند أحمد بسنده عن عبد الله بن عمر، قال: " أمرني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن آتيه
بمدية، وهي الشفرة، فأتيته بها، فأرسل بها فأرهفت (2) ثم أعطانيها وقال: اغد على بها،
ففعلت، فخرج بأصحابه إلى أسواق المدينة، وفيها زقاق خمر قد جلبت من الشام، فأخذ
المدية مني فشق ما كان من تلك الزقاق بحضرته ثم أعطانيها وأمر أصحابه الذين كانوا
معه أن يمضوا معي وأن يعاونوني، وأمرني أن آتي الأسواق كلها فلا أجد فيها زق خمر
إلا شققته، ففعلت فلم أترك في أسواقها زقا إلا شققته. " (3)
وروى نحو ذلك في موضع آخر من مسنده، فراجع. (4)
3 - وفي رواية أخرى: " كان عبد الله يحلف بالله أن التي أمر بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين
حرمت الخمر أن تكسر دنانه وأن تكفأ لمن التمر والزبيب. " (5) هذا.
ولكن الذي وجدته في رواياتنا أنه بعد ما نزل تحريم الخمر خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
فقعد في المسجد ثم دعا بآنيتهم التي كانوا ينبذون فيها فأكفأها كلها، وليس فيها اسم
الكسر والشق للظروف. وورد نحو ذلك أيضا في روايات السنة، فراجع ما ورد في
تفسير قوله - تعالى -: " يا أيها الذين آمنوا، إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام
رجس من عمل

1 - سنن الترمذي 2 / 379، أبواب البيوع، الباب 58، الحديث 1311.
2 - أرهف المدية: رقق حده.
3 - مسند أحمد 2 / 132.
4 - مسند أحمد 2 / 71.
5 - نيل الأوطار 5 / 330، كتاب الغصب والضمانات، باب ما جاء في كسر أواني الخمر، عن الدار
قطني، الحديث 3.
335

الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون. " (1) وراجع الأشربة من صحيح مسلم. (2)
السادس: ما قيل من أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بكسر قدور لحوم الحمر يوم خيبر:
ففي البخاري في حديث: فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما هذه النيران؟ على أي شيء توقدون؟ "
قالوا: على لحم. قال: " على أي لحم؟ " قالوا: لحم الحمر الإنسية. قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
" أهريقوها واكسروها. " فقال رجل: يا رسول الله أو نهريقها ونغسلها؟ قال: " أو
ذاك. " (3) هذا.
ولكن حرمة لحم الحمر عندنا غير واضحة، نعم هي مكروهة. وأضعف من ذلك
نجاسته كما تستفاد من تقريره لغسل الأوعية، ومن الحكم بكونه رجسا في رواية أنس
من هذا الباب فراجع (4). نعم، يحتمل الحكم بالحرمة الموقتة لمصلحة موقتة، فتدبر.
السابع: ما ورد من أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بتحريق الثوبين المعصفرين:
ففي سنن النسائي عن عبد الله بن عمرو أنه أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعليه ثوبان معصفران،
فغضب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: " اذهب فاطرحهما عنك. " قال: أين يا رسول الله؟ قال: " في
النار. " (5)
الثامن: ما ورد في إحراق متاع الغال:
ففي كتاب الجهاد من سنن أبي داود عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " إذا وجدتم الرجل قد غل

1 - سورة المائدة (5)، الآية 90. راجع تفسير البرهان 1 / 497; والدر المنثور 2 / 316، وغيرهما.
2 - صحيح مسلم 3 / 1570، الباب 1 (باب تحريم الخمر و...).
3 - صحيح البخاري 3 / 49، كتاب المغازي باب غزوة خيبر.
4 - صحيح البخاري 3 / 49، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر.
5 - سنن النسائي 8 / 203، كتاب الزينة، ذكر النهي عن لبس المعصفر.
336

فأحرقوا متاعه واضربوه. " (1)
وفي رواية أخرى: " أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبا بكر وعمر حرقوا متاع الغال و
ضربوه. " (2)
التاسع: ما ورد في هدم أمير المؤمنين (عليه السلام) وتحريقه دور من فارقه ولحق بمعاوية، أو
ببعض البلاد:
1 - ففي كتاب وقعة صفين بعد ما ذكر اعتراض مالك الأشتر على جرير بعد رجوعه
من الشام، قال: " فلما سمع جرير ذلك لحق بقرقيسيا، ولحق به أناس من قسر (قيس
خ. ل) من قومه... وخرج على (عليه السلام) إلى دار جرير فشعث منها وحرق مجلسه وخرج
أبو زرعة بن عمر بن جرير فقال: أصلحك الله إن فيها أرضا لغير جرير، فخرج منها إلى
دار ثوير بن عامر فحرقها وهدم منها. وكان ثوير رجلا شريفا، وكان قد لحق
بجرير. " (3)
2 - وفيه أيضا في قصة لحوق ابن المعتم وحنظلة بن الربيع الصحابي الكاتب و
قومهما بمعاوية، قال: " وأما حنظلة فخرج بثلاثة وعشرين رجلا من قومه ولكنهما
لم يقتلا مع معاوية واعتزلا الفريقين جميعا... فلما هرب حنظلة أمر على (عليه السلام) بداره
فهدمت، هدمها عريفهم بكر بن تميم وشبث بن ربعي. " (4) ورواه عنه ابن أبي الحديد (5).
3 - وفي شرح ابن أبي الحديد: " ويذكر أهل السير أن عليا (عليه السلام) هدم دار جرير ودور
قوم ممن خرج معه، حيث فارق عليا (عليه السلام) منهم أبو أراكة بن مالك بن عامر القسري، كان
ختنه على ابنته. وموضع داره بالكوفة كان يعرف بدار أبي أراكة قديما. " (6)

1 - سنن أبي داود 2 / 63، كتاب الجهاد، باب عقوبة الغال.
2 - سنن أبي داود 2 / 63، كتاب الجهاد، باب عقوبة الغال.
3 - وقعة صفين / 60.
4 - وقعة صفين / 97.
5 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3 / 176 - 177.
6 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3 / 118.
337

4 - وفي المستدرك عن كتاب الغارات في قصة مصقلة بن هبيرة الشيباني بعد ما فر و
لحق بمعاوية وقال فيه أمير المؤمنين ما قال: " ثم سارع (عليه السلام) إلى داره فهدمها. " (1)
العاشر: ما عن أمير المؤمنين (عليه السلام) من تحريق المكان الذي كان يباع فيه الخمر. (2)
الحادي عشر: جميع موارد الكفارات الواردة من عتق الرقبة أو التصدق بمال أو
إطعام مسكين بمد أو إطعام ستين مسكينا أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، حيث إنها
بأجمعها تتضمن صرف المال وتكون نوعا من التأديب والتعزير وإن كانت أمورا
عبادية يشترط فيها القربة، فيستأنس منها إمكان التعزير بالمال، فتأمل.
الثاني عشر: ما ورد في ذبح البهيمة الموطوءة وإحراقها بالنار، (3) فتأمل.
الثالث عشر: ما حكم به أمير المؤمنين (عليه السلام) بالنسبة إلى منذر بن الجارود، عامله على
إصطخر، حيث كتب إليه: " أما بعد فإن صلاح أبيك غرني منك، فإذا أنت لا تدع انقيادا
لهواك... فاقبل إلى حين تنظر في كتابي والسلام. " فأقبل فعزله وأغرمه ثلاثين ألفا. " (4)
وقد ذكر الكتاب في نهج البلاغة بتفاوت، فراجع (5).
الرابع عشر: الروايات الواردة في تغريم المتاع مرتين:

1 - مستدرك الوسائل 3 / 207، الباب 24 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 6.
2 - كتاب الحسبة لابن تيمية / 59.
3 - راجع الوسائل 18 / 570، الباب 1 من أبواب نكاح البهائم و...
4 - تاريخ اليعقوبي 2 / 179.
5 - نهج البلاغة، فيض / 1073; عبده 3 / 145; لح / 461، الكتاب 71.
338

فروى السكوني بسند لا بأس به عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " قضى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيمن
سرق الثمار في كمه (1): فما أكل منه فلا شيء عليه، وما حمل فيعزر ويغرم قيمته
مرتين. " (2)
والاستدلال به مبنى على كون تغريم القيمة مرتين بيانا للتعزير، فيكون العطف
تفسيريا أو كونه متمما له. وظاهر قوله: قضى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن الحكم كان حكما ولائيا
منه (صلى الله عليه وآله وسلم)، لا حكما فقهيا. هذا.
ولكن من المحتمل أن يكون ذلك من جهة أن الثمر الموجود في الغلاف قابل للنمو و
النضج بحيث تضاعف قيمته قهرا، ويشهد لذلك أن الظاهر من التغريم في الرواية هو
التغريم لصاحب الثمر، ولو كان من باب التعزير كان الأنسب جعله في بيت المال. هذا.
ولكن الإفتاء بهذا المضمون مما لم ينقل من أحد ويشكل الالتزام به، إذ الملاك في
تقويم التالف أو المتلف وتضمينه هو لحاظ فعليته لا إمكانه ومآله; فلو أتلف الزرع أو
الأشجار الصغار أو الأسماك الصغار في حياضها أو سائر الحيوانات في حال صغرها
فهل يلتزم أحد بتقويمها بلحاظ استعدادها والمآل المترقب منها في الأشهر أو السنوات
الآتية؟ لا أظن ذلك، اللهم إلا أن يفرق بين القوة القريبة من الفعلية كما في المقام، وبين
غيرها كما في الأمثلة المذكورة، فتدبر.
وقال العلامة المجلسي (قدس سره) في مرآة العقول في شرح هذه الرواية:
" ولم يعمل بظاهره أحد من الأصحاب فيما رأينا، قال الوالد العلامة (قدس سره): يمكن أن
يكون المرتان لما أكل ولما حمل، لأن جواز الأكل مشروط بعدم الحمل. " (3)
أقول: ما ذكره والده خلاف ظاهر الرواية، إذ الظاهر منها أنه لا شئ عليه لما أكل وإن
اجتمع مع الحمل. هذا.

1 - كم الثمر: غلافه.
2 - الوسائل 18 / 516، الباب 23 من أبواب حد السرقة، الحديث 2.
3 - مرآة العقول 4 / 178، (ط، القديم).
339

ونظير رواية السكوني ما رواه أحمد في المسند بسنده عن عبد الله بن عمرو بن
العاص أنه سأل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الثمار وما كان في أكمامه، فقال: " من أكل بفمه ولم يتخذ
خبنة فليس عليه شيء، ومن وجد قد احتمل ففيه ثمنه مرتين وضرب نكال. " (1)
أقول: والخبنة بالضم على ما في النهاية: " معطف الإزار وطرف الثوب. " (2)
ولكن في سننن أبي داود بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
أنه سئل عن التمر المعلق فقال: " من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء
عليه، ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة. ومن سرق منه شيئا بعد أن
يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع، ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثليه و
العقوبة. " (3)
ورواه النسائي أيضا في السنن ثم روى رواية أخرى عن عبد الله بن عمرو: " أن
رجلا من مزينة أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله، كيف ترى في حريسة الجليل؟
فقال: هي ومثلها والنكال، وليس في شيء من الماشية قطع إلا فيما آواه المراح فبلغ
ثمن المجن ففيه قطع اليد، وما لم يبلغ ثمن المجن ففيه غرامة مثليه وجلدات نكال. قال:
يا رسول الله، كيف ترى في الثمر المعلق؟ قال: هو ومثله معه والنكال، وليس في شيء
من الثمر المعلق قطع إلا فيما آواه الجرين; فما أخذ من الجرين فبلغ ثمن المجن ففيه
القطع، وما لم يبلغ ثمن المجن ففيه غرامة مثليه وجلدات نكال. " (4)
أقول: الجرين على ما في النهاية: موضع تجفيف التمر. والمراد بحريسة الجبل:
المحروسة في الجبال في قبال المحروسة في مراحها. والمراح بالضم: الموضع الذي

1 - مسند أحمد 2 / 207.
2 - النهاية لابن الأثير 2 / 9.
3 - سنن أبي داود 2 / 449، كتاب الحدود، باب ما لاقطع فيه.
4 - سنن النسائي 8 / 85 - 86، كتاب قطع السارق، الثمر يسرق بعد أن يؤويه الجرين.
340

تروح إليه الماشية وتأوي إليه ليلا. والمراد بالثمر المعلق: ما يكون معلقا بالأشجار.
ولا يخفى عدم تطرق الاحتمال الذي ذكرناه في خبر السكوني في هاتين الروايتين
فيكون التغريم من باب التعزير وإن أدى إلى صاحب المال.
والمتحصل من مجموع هذه الروايات وأشباهها هو أن التعزير المالي بإتلاف المال
أو أخذه مما قد ثبت في الشرع إجمالا، فلاوجه لاستيحاش البعض منه، والنفس تطمئن
بصدور بعض هذه الروايات إجمالا، وإنما لم يتعرض فقهاؤنا الإمامية لهذه المسألة
لكونها من شؤون الحكومة وهم كانوا بمعزل منها، كما لا يخفى.
الخامس عشر: ما ورد في تغريم من عذب عبده قيمة العبد:
ففي خبر مسمع بن عبد الملك، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " أن أمير المؤمنين (عليه السلام) رفع إليه
رجل عذب عبده حتى مات فضربه مأة نكالا وحبسه سنة وأغرمه قيمة العبد فتصدق بها
عنه. " (1)
وفي رواية أخرى عن أبي عبد الله (عليه السلام): " في رجل قتل مملوكه أنه يضرب ضربا
وجيعا وتؤخذ منه قيمته لبيت المال. " (2)
وفي رواية يونس عنهم (عليهم السلام) قال: سئل عن رجل قتل مملوكه؟ قال: " إن كان غير
معروف بالقتل ضرب ضربا شديدا وأخذ منه قيمة العبد ويدفع إلى بيت مال
المسلمين. " (3)
السادس عشر: الاعتبار العقلي الموجب للوثوق بالحكم.
بتقريب أن التعزير ليس أمرا عباديا تعبديا محضا شرع لمصالح غيبية لا نعرفها، بل
الغرض منه هو تأديب الفاعل وردعه وكذا كل من رأى وسمع فيصلح بذلك الفرد و
المجتمع، ولأجل ذلك فوض تعيين حدوده ومقداره إلى الحاكم المشرف على

1 - الوسائل 19 / 68، الباب 37 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 5.
2 - الوسائل 19 / 69، الباب 37 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 10.
3 - الوسائل 19 / 69، الباب 38 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 2.
341

المجتمع، وربما يكون التعزير المالي أشد تأثيرا في النفوس وأصلح بحال الفاعل و
بحال المجتمع أيضا، وبالعكس يكون الضرب والإيلام مضرا ومنفرا، فتأمل.
السابع عشر: الأولوية القطعية.
فإن الإنسان كما يكون مسلطا على ماله بحكم العقل والشرع فلا يجوز التصرف في
ماله بدون أذنه، فكذلك يكون مسلطا على نفسه وبدنه، بل هي ثابتة بالأولوية القطعية،
حيث إن السلطة على المال من شؤون السلطة على النفس ومن لواحقها; فإذا جاز نقض
سلطته على بدنه وهتك حريمه بضربه وإيلامه بداعي الردع والتأديب فليجز نقض
السلطة المالية بطريق أولى ولكن بهذا الداعي وبمقدار لابد منه لذلك، ويكون الأمر في
التعيين مفوضا إلى الحاكم العالم بمصالح المجتمع.
ولقد كان في شرع يوسف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن من وجد متاع السرقة في رحله فهو جزاؤه
يسترق لذلك، فهل يصح عند العقل استرقاق الشخص وتملك ذاته ونفسه لذلك ولا يصح
مصادرة بعض أمواله لذلك؟
وإنما شاع التعزير البدني خارجا وفي الأخبار والروايات لكونه أسهل تناولا وأعم
موردا وأشد تأثيرا في الغالب. نعم الحدود الشرعية المقدرة يتساوى فيها جميع الأفراد،
ولا شفاعة فيها ولا تعطيل ولا تعويض ولا تبعيض، كما هو واضح. هذا.
ويؤيد ما ذكرناه استقرار سيرة العقلاء في الأعصار المختلفة على التغريم المالي في
كثير من الخلافات ولا سيما إذا كان المورد خلافا ماليا. وقد شاع هذا في عصرنا في
تخلفات السيارات والكمارك والضرائب والاحتكارات والإجحافات، فتدبر.
الثامن عشر: إطلاقات أدلة الحكومة وولاية الفقيه الجامع للشرائط.
فإن الغرض من تأسيس الدولة والحكومة الحقة ليس إلا تنظيم المجتمع وإصلاحه و
جبر نقائصه وانحرافاته وإشاعة المعروف فيه وقطع جذور المنكر والفساد، فيجوز
للحاكم المشرف على المجتمع بل يجب عليه الحكم بكل ما رآه صلاحا لهم ولنظامهم. و
من هذا القبيل أنواع التعزيرات لتأديب المجرمين وإصلاحهم. ويسمى
342

هذا الصنف من الأحكام أحكاما ولائية وسلطانية، وقد قال الله - تعالى -: " النبي
أولى بالمؤمنين من أنفسهم. " (1) فإذا كان للإنسان أن يتصرف في نفسه وماله بعض
التصرفات كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بولايته عليه أولى به في هذه التصرفات وقد عرفت أن
مقتضى ولاية الفقيه في عصر الغيبة أن له كل ما كان للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بحق الولاية الشرعية،
فراجع.
هذا مضافا إلى أن إدارة المجتمع تتوقف على صرف الأموال كثيرا، ومن منابعها
المهمة الموافقة لحكم العقل والعرف التغريمات المالية، فيجب أخذها لوجوب المقدمة
بوجوب ذيها.
ومضافا إلى أن الولاية إذا كانت بانتخاب المجتمع للوالي فالمجازاة المالية وغيرها
من المقررات يجوز اعتبارها واشتراطها في ضمن عقد الولاية للحاكم المنتخب، بل
يكون انتخاب الحاكم على أساس تنفيذها وبداعي إجرائها، فتأمل.
ولكن يمكن أن يناقش بأن وظيفة الحاكم الإسلامي ليس إلا تنظيم المجتمع و
إصلاحه على أساس ما أنزله الله وبينه، لاعلى أساس ما اقترحه وابتدعه. وليس الفقيه
بأولى في هذا الأمر من نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد خاطبه الله - تعالى - بقوله: " إنا أنزلنا إليك
الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله. " (2) وبقوله: " وأنزلنا إليك الكتاب بالحق
مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه، فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع
أهواءهم عما جاءك من الحق. " (3)
وكما أن الحدود الشرعية أمور مقدرة معينة لا يجوز التخلف عنها ولا تعويضها بشيء
آخر، فكذلك التعزيرات. فإن عمدة الدليل على تعميم التعزير في كل معصية كما مر هي
الروايات الحاكمة بأن الله - تعالى - جعل لكل شيء حدا، وجعل على من تعدى حدا من
حدود الله حدا، ولعل الظاهر منها كون التعزيرات أيضا من سنخ الحدود المقررة المعينة،
أعني الجلد والضرب فيشكل التعدي عنه.

1 - سورة الأحزاب (33)، الآية 6.
2 - سورة النساء (4)، الآية 105.
3 - سورة المائدة (5)، الآية 48.
343

وبالجملة، فالأمر يدور بين الأخذ بإطلاق لفظي الحد والتعزير بلحاظ مفهومهما
اللغوي الوسيع أعني المنع والتأديب فيشملان كل ما يوجب منع الفاعل وتأديبه ولو كان
بالمال، أو الأخذ بما ينصرف إليه إطلاقهما العرفي فعلا من الضرب والجلد، وقد مر
تفصيل ذلك في الجهة الرابعة، فراجع.
وفي الخاتمة من هذه الجهة نذكر ما ذكره بعض في تقسيم العقوبات المالية تتميما
للبحث:
ففي كتاب " الفقه الإسلامي وأدلته " نقلا عن بعض:
" تقسم العقوبات المالية إلى ثلاثة أقسام: الإتلاف، والتغيير، والتمليك:
1 - الإتلاف: هو إتلاف محل المنكرات من الأعيان والصفات تبعا لها. مثل إتلاف
مادة الأصنام، بتكسيرها وتحريقها، وتحطيم آلات الملاهي عند أكثر الفقهاء، وتكسير
وتخريق أوعية الخمر، وتحريق الحانوت الذي يباع فيه الخمر، على المشهور في
مذهب أحمد ومالك وغيرهما، عملا بما فعله عمر من تحريق حانوت خمار، وبما فعله
على (عليه السلام) من تحريق قرية كان يباع فيها الخمر، لأن مكان البيع مثل الأوعية. ومثل إراقة
عمر اللبن المخلوط بالماء للبيع، وبه أفتى طائفة من الفقهاء. ومثله إتلاف المغشوشات
في الصناعات كالثياب الرديئة النسج.
2 - التغيير: قد تقتصر العقوبة المالية على تغيير الشيء. مثل نهي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن كسر
العملة الجائزة بين المسلمين، كالدراهم والدنانير إلا إذا كان بها بأس، فإذا كان فيها بأس
كسرت. ومثل فعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في التمثال الذي كان في بيته، والستر الذي به تماثيل، إذ
أمر بقطع رأس التمثال فصار كهيئة الشجرة، وبقطع الستر فصار وسادتين توطآن.
وهكذا اتفق العلماء على إزالة وتغيير كل ما كان من العين أو التأليف المحرم، مثل
تفكيك آلات الملاهي وتغيير الصور المصورة.
لكن العلماء اختلفوا في جواز إتلاف محل هذه الأشياء تبعا للشئ الحال فيها، قال: و
الصواب جوازه كما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف، وهو ظاهر مذهب
344

مالك وأحمد وغيرهما.
3 - التمليك: مثل ما روى أبو داود وغيره من أهل السنن عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيمن سرق
من الثمر المعلق، قبل أن يؤويه إلى الجرين، أن عليه جلدات نكال، وغرمه مرتين. وفي
من سرق من الماشية قبل أن تؤوي إلى المراح أن عليه جلدات نكال، وغرمه مرتين. و
كذلك قضاء عمر بن الخطاب في الضالة المكتومة أن يضعف غرمها على كاتمها، وقال
بهذا طائفة من العلماء مثل أحمد وغيره. وأضعف عمر وغيره الغرم في ناقة أعرابي
أخذها مماليك جياع; أضعف الغرم على سيدهم ودرأ عنه القطع. وأضعف عثمان بن
عفان في المسلم إذا قتل الذمي عمدا; أضعف عليه الدية، فتجب عليه الدية الكاملة. إذ أن
دية الذمي نصف دية المسلم، وأخذ به أحمد بن حنبل. " (1)
أقول: وبعض ما ذكره لا يوافق ما ذهب إليه أصحابنا، وإنما ذكرناه من أجل استيفاء
الآراء.
الجهة السادسة:
في حد التعزير البدني ومقداره قلة وكثرة:
1 - قال الشيخ (قدس سره) في أشربة الخلاف (المسألة 14):
" لا يبلغ بالتعزير حد كامل، بل يكون دونه. وأدنى الحدود في جنب الأحرار ثمانون;
فالتعزير فيهم تسعة وسبعون جلدة. وأدنى الحدود في المماليك أربعون; والتعزير فيهم
تسعة وثلاثون. وقال الشافعي: أدنى الحدود في الأحرار أربعون: حد الخمر، ولا يبلغ
بتعزير حر أكثر من تسعة وثلاثين جلدة. وأدنى الحدود في العبيد

1 - الفقه الإسلامي وأدلته 6 / 202 - 204.
345

عشرون في الخمر، ولا يبلغ تعزيرهم أكثر من تسعة عشر. وقال أبو حنيفة: لا يبلغ
بالتعزير أدنى الحدود، وأدناها عنده أربعون في حد العبد في القذف وفي شرب الخمر،
فلا يبلغ بالتعزير أبدا أربعين. وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف: أدنى الحدود ثمانون،
فلا يبلغ به التعزير، وأكثر ما يبلغ تسعة وسبعون. وهذا مثل ما قلناه. وقال مالك و
الأوزاعي هو إلى اجتهاد الإمام; فإن رأى أن يضربه ثلاثمأة وأكثر فعل، كما فعل عمر
بمن زور عليه الكتاب فضربه ثلاثمأة. " (1)
أقول: لا يخفى أن ما ذكره الشيخ في الخلاف لا يوافق الحق، ولا ما اختاره في بعض
كتبه، إذ على فرض اعتبار كون التعزير دون أدنى الحدود فأدناها خمس وسبعون: حد
القيادة، كما في خبر عبد الله بن سنان (2)، بل اثنا عشر ونصف: حد من تزوج أمة على
حرة أو ذمية على مسلمة، كما في خبر منصور بن حازم (3)، بناء على عد هذا القبيل أيضا
من الحدود لتقديره شرعا.
2 - وقال الشيخ في نهايته:
" ومتى وجد رجلان في إزار واحد مجردين أو رجل وغلام وقامت عليهما بذلك
بينة أو اقرا بفعله ضرب كل واحد منهما تعزيرا من ثلاثين سوطا إلى تسعة وتسعين
سوطا بحسب ما يراه الإمام. " (4)
فعلى م تحمل عبارة الشيخ في أشربة الخلاف، حيث جعل الملاك ثمانين؟
3 - قال ابن إدريس في السرائر:
" والوجه في ذلك أنه إن كان الفعال مما يناسب الزنا واللواط والسحق فإن الحد في
هذه الفواحش مأة جلدة فيكون التعزير دونها ولا يبلغها; فللحاكم أن يعزر من

1 - الخلاف 3 / 224.
2 - الوسائل 18 / 429، الباب 5 من أبواب حد السحق والقيادة، الحديث 1.
3 - الوسائل 18 / 415، الباب 49 من أبواب حد الزنا، الحديث 1.
4 - النهاية / 705.
346

ثلاثين إلى تسعة وتسعين فينقص عن المأة سوطا، فأما إذا كان التعزير على ما
يناسب فيماثل الحد الذي هو الثمانون، وهو حد شارب الخمر عندنا وحد القاذف،
فيكون التعزير لا يبلغه بل من الثلاثين إلى تسعة وسبعين. فهذا معنى ما يوجد في بعض
المواضع من الكتب تارة تسعة وتسعون، وتارة تسعة وسبعون. "
ثم قال:
" والذي يقتضيه أصول مذهبنا وأخبارنا أن التعزير لا يبلغ الحد الكامل الذي هو المأة
أي تعزير كان، سواء كان ما يناسب الزنا أو القذف. وإنما هذا الذي لوح به شيخنا من
أقوال المخالفين، وفرع من فروع بعضهم ومن اجتهاداتهم وقياساتهم الباطلة. " (1)
أقول: لازم كلامه الأخير أن القاذف يضرب ثمانين، ومن يشبهه ويكون عمله أخف
منه يجوز أن يضرب إلى تسعة وتسعين، ولا أظن أن يلتزم بذلك أحد. هذا.
4 - وقال المحقق في الشرائع:
" ولا يبلغ به حد الحر في الحر، ولا حد العبد في العبد. "
ونحوه في القواعد وقد مرا. (2)
5 - وفي الجواهر فسر حد الحر بالمأة، وحد العبد بالأربعين - ولم يظهر لنا وجه
تفسيره حد الحر بالأكثر، وحد العبد بالأقل - ثم قال:
" بل قد يقال بعدم بلوغه أدنى الحد في العبد مطلقا. كما أنه قيل: يجب أن لا يبلغ به أقل
الحد; ففي الحر خمسة وسبعون، وفي العبد أربعون. وقيل: إنه فيما ناسب الزنا يجب أن
لا يبلغ حده، وفيما ناسب القذف أو الشرب يجب أن لا يبلغ حده، وفيما لا مناسب له أن
لا يبلغ أقل الحدود وهو خمسة وسبعون حد القواد. وحكاه في المسالك عن الشيخ و
الفاضل في المختلف. " (3)

1 - السرائر / 450.
2 - الشرائع 4 / 168; والقواعد 2 / 262.
3 - الجواهر 41 / 448.
347

6 - وفي المنهاج للنووي في فقه الشافعية:
" فإن جلد وجب أن ينقص في عبد عن عشرين جلدة، وحر عن أربعين. وقيل:
عشرين. ويستوي في هذا جميع المعاصي في الأصح. " (1)
7 - وفي المغني لابن قدامة الحنبلي:
" واختلف عن أحمد في قدره: فروي عنه أنه لا يزاد على عشر جلدات. نص أحمد
على هذا في مواضع، وبه قال إسحاق، لما روى أبو بردة، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
يقول: " لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله - تعالى -. " متفق عليه.
والرواية الثانية: لا يبلغ به الحد، وهو الذي ذكره الخرقي... ويحتمل كلام أحمد و
الخرقي أنه لا يبلغ بكل جناية حدا مشروعا في جنسها، ويجوز أن يزيد على حد غير
جنسها. وروى عن أحمد ما يدل على هذا. فعلى هذا ما كان سببه الوطي جاز أن يجلد
مأة إلا سوطا لينقص عن حد الزنا، وما كان سببه غير الوطي لم يبلغ به أدنى الحدود...
وقال مالك: يجوز أن يزاد التعزير على الحد إذا رأى الإمام، لما روي أن معن بن
زائدة عمل خاتما على نقش خاتم بيت المال ثم جاء به صاحب بيت المال فأخذ منه
مالا، فبلغ عمر فضربه مأة وحبسه، فكلم فيه، فضربه مأة أخرى، فكلم فيه من بعد، فضربه
مأة ونفاه. " (2)
8 - وفي بدائع الصنائع للكاشاني في فقه الحنفية:
" فالتعزير فيه (قذف الصبي أو المجنون) بالضرب، ويبلغ أقصى غاياته وذلك تسعة و
ثلاثون في قول أبي حنيفة. وعند أبي يوسف: خمسة وسبعون، وفي رواية النوادر عنه
تسعة وسبعون. " (3)
9 - وفي المحلى لابن حزم:

1 - المنهاج / 535.
2 - المغني 10 / 347.
3 - بدائع الصنائع 7 / 64.
348

" اختلف الناس في مقدار التعزير:] 1 [- فقالت طائفة: ليس له مقدار محدود وجائز
أن يبلغ به الإمام ما رآه وأن يجاوز به الحدود بالغا ما بلغ، وهو قول مالك وأحد أقوال
أبي يوسف، وهو قول أبي ثور والطحاوي من أصحاب أبي حنيفة.] 2 [- وقال طائفة:
التعزير مأة جلدة فأقل.] 3 [- وقالت طائفة: أكثر التعزير مأة جلدة إلا جلدة.] 4 [- و
قالت طائفة: أكثر التعزير تسعة وسبعون سوطا فأقل، وهو أحد أقوال أبي يوسف.] 5 [- و
قالت طائفة: أكثر التعزير خمسة وسبعون سوطا فأقل، وهو قول ابن أبي ليلى وأحد
أقوال أبي يوسف.] 6 [- وقال طائفة: أكثر التعزير ثلاثون سوطا.] 7 [- وقالت طائفة: أكثر
التعزير عشرون سوطا.] 8 [- وقالت طائفة: لا يتجاوز بالتعزير تسعة، وهو قول بعض
أصحاب الشافعي.] 9 [- وقالت طائفة: أكثر التعزير عشرة أسواط فأقل لا يجوز أن
يتجاوز به أكثر من ذلك، وهو قول الليث بن سعد وقول أصحابنا. " (1)
10 - وفي معالم القربة:
" ولا يبلغ به أدنى الحد، لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من بلغ ما ليس بحد فهو من التعزير " ولأن هذه
المعاصي دونها فلا يجب فيها ما يجب في ذلك، فإن كان حرا لم يبلغ به أربعين جلدة، وإن
كان عبدا لم يبلغ به عشرين جلدة.
وقال أبو حنيفة: أكثر تسعة وثلاثون في الحر والعبد. وقال أبو يوسف: خمسة و
سبعون. وقال مالك والأوزاعي: الضرب إلى الإمام يضربه ما يرى.
ودليلنا ما روي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " لا تجلدوا أحدا فوق عشرة (عشرين) جلدة إلا
في حد من حدود الله - تعالى -. " وظاهره أنه لا يجوز الزيادة على العشرة (العشرين)
بحال إلا ما دل عليه الدليل. ولأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جعل الحدود عقوبة لمعاص مقدرة،
فلا يجوز أن يعاقب على ما دون المعاصي عقوبتها بل لابد أن ينقص منها. " (2)

1 - المحلى 8 / 401 (الجزء 11)، المسألة 2305.
2 - معالم القربة / 192 (= ط. مصر / 285) الباب 50، فصل في التعازير.
349

فهذه بعض كلمات علمائنا وعلماء السنة في بيان الأقوال في المسألة.
والمتحصل مما ذكرنا أن الأقوال في المسألة كثيرة:
الأول: أن لا يبلغ حد الحر في الحر وحد العبد في العبد، كما في الشرائع والقواعد.
ولا يخفى أن في عباراتهما نحو إجمال، لاحتمال أكثر الحد وأقله. وقد مر تفسير
الجواهر حد الحر بالمأة أعني الأكثر، وحد العبد بالأربعين أعني الأقل. ولعل غرضه كان
شمول هذا المقياس للمأة إلا سوطا التي أفتى بها الأصحاب ودلت عليها الأخبار في
الرجلين أو المرأتين أو الرجل والمرأة الأجنبية إذا وجدا مجردين تحت لحاف واحد،
فراجع الباب العاشر من أبواب حد الزنا من الوسائل. (1)
الثاني: أن لا يبلغ أدنى حد الحر في الحر، وأدنى حد العبد في العبد، وفسر أدنى الحد
فيهما تارة بالثمانين وبالأربعين كما في الخلاف وإن ناقشناه، وأخرى بالخمسة و
السبعين وبالأربعين كما حكاه في الجواهر، وثالثة بالأربعين وبالعشرين كما عن
الشافعي وغيره.
الثالث: أن لا يبلغ أدنى حد العبد مطلقا، وفسر تارة بالأربعين كما هو الظاهر مما
حكاه في الجواهر وكذا مما عن أبي حنيفة، وأخرى بالعشرين كما هو الظاهر مما في
المنهاج ومعالم القربة.
الرابع: أن لا يبلغ أكثر الحد والحد الكامل أعني المأة مطلقا، كما هو الظاهر من
السرائر.

1 - راجع الوسائل 18 / 363.
350

الخامس: أن يفصل بين المعاصي; فيلاحظ في كل منها ما يناسبها، كما وجهه في
السرائر، ونسبه في المسالك إلى الشيخ والفاضل في المختلف، وحكاه في المغني عن
أحمد أيضا.
السادس: أن الأكثر خمسة وسبعون، كما عن ابن أبي ليلى وأبي يوسف.
السابع: أن التعزير مأة فأقل، على ما حكاه المحلى ويشهد له بعض الأخبار الواردة
في المجردين تحت لحاف واحد، فراجع الباب العاشر من أبواب حد الزنا من الوسائل.
الثامن: أن أكثره ثلاثون سوطا.
التاسع: أن أكثره تسعة، حكاهما في المحلى.
العاشر: أن لا يزاد على عشر جلدات، كما عن أحمد في إحدى الروايتين عنه.
الحادي عشر: أنه إلى اجتهاد الإمام، فلا حد له كما عن مالك والأوزاعي.
فهذه ما عثرنا عليه من الأقوال في المسألة.
ثم لا يخفى أن ما ذكر من الأقوال إنما هو فيما إذا لم يرد من قبل الشرع تقدير
مخصوص، وإلا وجبت رعاية ما قدره، اللهم إلا أن يقال إنه بالتقدير يخرج عن كونه
تعزيرا، ويصير من مصاديق الحدود.
قال في المسالك:
" وأما التعزير فالأصل فيه عدم التقدير، والأغلب في أفراده كذلك، ولكن
351

قد وردت الروايات بتقدير بعض أفراده، وذلك في خمسة مواضع.
الأول: تعزير المجامع زوجته في نهار رمضان; مقدر بخمسة وعشرين سوطا.
الثاني: من تزوج أمة على حرة ودخل بها قبل الإذن; ضرب اثنى عشر سوطا ونصفا،
ثمن حد الزاني.
الثالث: المجتمعان تحت إزار واحد مجردين; مقدر بثلاثين إلى تسعة وتسعين على
قول.
الرابع: من افتض بكرا بإصبعه; قال الشيخ: يجلد من ثلاثين إلى سبعة وسبعين; وقال
المفيد: من ثلاثين إلى ثمانين، وقال ابن إدريس: من ثلاثين إلى تسعة وتسعين.
الخامس: الرجل والمرأة يوجدان في لحاف واحد وإزار مجردين; يعزران من
عشرة إلى تسعة وتسعين. قاله المفيد، وأطلق الشيخ التعزير، وقال في الخلاف: روى
أصحابنا فيه الحد. " (1)
أقول: وكان عليه إضافة وطي الحائض والبهيمة، حيث ورد فيهما خمسة وعشرون
جلدة اللهم إلا أن يدرجا في الحدود المصطلحة. ولم أعثر على ما حكاه عن الشيخ فيمن
افتض بكرا، بل في النهاية: " جلد من ثلاثين سوطا إلى تسعة وتسعين سوطا. " (2)
إذا عرفت هذا فلنذكر اخبار المسألة، وهي على قسمين: القسم الأول ما ورد لجرائم
خاصة بتقدير خاص، وقد مر موارده من المسالك. القسم الثاني ما ورد لتحديد
التعزير بنحو الإطلاق وهو محل الكلام هنا:
الأخبار الواردة في مقدار التعزير:
1 - فمنها صحيحة حماد بن عثمان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " قلت له: كم

1 - المسالك 2 / 423.
2 - النهاية / 699.
352

التعزير؟ فقال: دون الحد. قال: قلت: دون ثمانين؟ قال: لا، ولكن دون أربعين، فإنها
حد المملوك. قلت: وكم ذاك؟ قال: على قدر ما يراه الوالي من ذنب الرجل وقوة
بدنه. " (1)
وظاهر الحديث انحصار التعزير في الضرب، اللهم إلا أن يقال إنه تحديد للفرد الغالب
الرائج، لا لمطلق التعزير. والحديث دليل على القول الثالث، أعني اعتبار أن لا يبلغ أدنى
حد العبد مطلقا: في الحر والعبد وفي جميع المعاصي. وفي ناحية القلة لا حد له، بل هي
إلى الوالي. وعموم مفاده يخصص بسبب الموارد الخاصة التي مرت من المسالك.
وكان في ذهن حماد كون الثمانين أدنى حد الأحرار، ولعل ظاهر الحديث تقرير
الإمام لذلك مع ما مر من كون الخمسة والسبعين، أعني حد القيادة أدناه. فهذا مما يشكل
في الحديث.
2 - ومنها موثقة إسحاق بن عمار، قال: سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن التعزير كم هو؟ قال:
" بضعة عشر سوطا; ما بين العشرة إلى العشرين. " (2)
وروى نحوها في المستدرك عن نوادر أحمد بن محمد بن عيسى، عن إسحاق بن
عمار. (3)
ومفاد هذه الموثقة يخالف لمفاد الصحيحة في ناحية الكثرة والقلة معا، كما لا يخفى.
وأفتى بمضمونها ابن حمزة في الوسيلة في تعزير القذف إذا لم يتحقق فيه شرائط الحد (4).
3 - ومنها مرسلة الصدوق (قدس سره)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا يحل لوال يؤمن بالله و
اليوم الآخر أن يجلد أكثر من عشرة أسواط إلا في حد. وأذن في أدب المملوك من ثلاثة
إلى خمسة. " (5)

1 - الوسائل 18 / 584، الباب 10 من أبواب بقية الحدود، الحديث 3.
2 - الوسائل 18 / 583، الباب 10 من أبواب بقية الحدود، الحديث 1.
3 - مستدرك الوسائل 3 / 248، الباب 6 من أبواب بقية الحدود، الحديث 2.
4 - راجع الجوامع الفقهية / 783.
5 - الوسائل 18 / 584، الباب 10 من أبواب بقية الحدود، الحديث 2.
353

وإسناد الصدوق الحديث إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بنحو البت يدل على ثبوت مضمون
الحديث عنده والعلم بصدوره عنه (صلى الله عليه وآله وسلم). ومفاده موافق للقول العاشر الذي مر عن أحمد
في إحدى الروايتين عنه.
4 - وفي المستدرك عن الجعفريات بسنده، عن على (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يزيد على عشرة أسواط إلا في حد. " (1)
5 - وفي صحيح البخاري بسنده، عن أبي بردة، قال: كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " لا يجلد
فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله. "
وفي رواية أخرى فيه عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا عقوبة فوق عشر ضربات إلا في حد من حدود
الله. "
وفي رواية ثالثة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا تجلدوا فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود
الله. " (2)
أقول: أبو بردة بضم الباء هو ابن نيار الأنصاري; شهد العقبة الثانية مع السبعين وبدرا
وأحدا والمشاهد كلها مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومع أمير المؤمنين (عليه السلام) في جميع حروبه.
وتوافق مضامين هذه الروايات لمضمون مرسلة الصدوق، كما ترى.
6 - وفي المستدرك عن فقه الرضا، قال:
" التعزير ما بين بضعة عشر سوطا إلى تسعة وثلاثين، والتأديب ما بين ثلاثة إلى
عشرة. " (3)

1 - مستدرك الوسائل 3 / 248، الباب 6 من أبواب بقية الحدود، الحديث 3.
2 - صحيح البخاري 4 / 183، كتاب المحاربين...، باب كم التعزير والأدب.
3 - مستدرك الوسائل 3 / 248، الباب 6 من أبواب بقية الحدود، الحديث 1، عن فقه الرضا / 309.
354

أقول: وكأنه جمع بين أخبار الباب، فحمل اخبار العشر على تأديب من تصدى أمرا
فيه حزازة ولم يصل إلى حد الحرمة، فتكون الأخبار في مقام بيان أكثر التأديب. ويشهد
لذلك ذيل المرسلة، ويحمل الحد المذكور فيها على الأعم من الحد المصطلح ومن
التعزير. وحمل الموثقة على تحديد التعزير في جانب القلة، وصحيحة حماد على
تحديده في جانب الكثرة، والمقصود بالبضعة عشر أحد عشر فما فوق.
هذا، ولكن ذكر الوالي في المرسلة ربما يبعد حملها على التأديب، إذ التأديب
لا يختص بالوالي فقط فتأمل، ولكن لا يجري هذا الإشكال في سائر أخبار العشر.
7 - وفي رواية عبيد بن زرارة، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " لو أتيت برجل
قذف عبدا مسلما بالزنا لا نعلم منه إلا خيرا لضربته الحد حد الحر إلا سوطا. " (1)
والمراد بالحد فيه هو التعزير، إذ يشترط في حد القذف المصطلح أن يكون المقذوف
حرا، كما يشهد بذلك موثقة أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " من افترى على مملوك
عزر لحرمة الإسلام. " (2)
وتشعر رواية عبيد بل تدل - ولا سيما بضميمة ما ورد في مقدمات الزنا من جلد مأة
إلا سوطا - على القول الخامس، أعني التفصيل بين المعاصي، فيلاحظ في كل منها ما
يناسبها، فالتعزير في مقدمات الزنا مثلا يكون دون حد الزنا، والتعزير فيما يناسب
القذف يكون دون حد القذف. وقد مر عن المسالك نسبة هذا القول إلى الشيخ والفاضل.
وقوله: " لضربته الحد حد الحر إلا سوطا " لا يدل على تعين ذلك، بل هو في مقام بيان
الحد الأكثر وأنه - عليه السلام - يختار ذلك بالنسبة إلى المورد الذي ذكره.
هذا ما وجدناه من الأخبار في هذا المجال. وإنما الإشكال في الجمع بينها ورفع
التعارض الموجود فيها.

1 - الوسائل 18 / 434، الباب 4 من أبواب حد القذف، الحديث 2.
2 - الوسائل 18 / 436، الباب 4 من أبواب حد القذف، الحديث 12.
355

ولأحد أن يقول: إن خبر عبيد بن زرارة يقتصر فيه على مورده، أعني قذف العبد
المسلم بالزنا. فوزانه وزان سائر الأخبار الواردة في الموارد الخاصة التي تعرض لها في
المسالك كما مر، فنفتي بكل منها في مورده.
وعلى هذا فالأمر في التعزيرات العامة يدور بين كونها دون الأربعين بلا حد في
ناحية القلة كما في صحيحة حماد، أو بين بضعة عشر إلى تسعة وثلاثين كما في فقه
الرضا، أو بين بضعة عشر إلى عشرين كما في الموثقة، أو لا تزيد على عشرة كما في
مرسلة الصدوق وما بمضمونها.
فإن قلت: قد أشرنا إلى أن خبر عبيد بضميمة الأخبار الواردة في مقدمات الزنا ربما
يدل على أن التعزير فيما يناسب الزنا يكون دون حد الزنا، وفيما يناسب القذف يكون
دون حد القذف، فلتحمل الأخبار العامة على المعاصي التي تناسب الزنا واللواط و
السحق والقذف.
قلت: مورد خبر عبيد هو خصوص قذف العبد المسلم الخير بالزنا، فلا يعم جميع
موارد القذف ولا الشتم والسب والهجاء والإيذاء، واختيار الإمام الصادق (عليه السلام) في مقام
العمل أيضا لمرتبة خاصة لا يدل على تعين هذه المرتبة للجميع.
والأخبار المشار إليها وردت في خصوص تجردهما تحت لحاف واحد، فلا تدل
على حكم التقبيل واللمس ونحوهما، وإن استدل بها بعضهم لذلك أيضا.
فالأولى هو ما أشرنا إليه من حمل الأخبار الخاصة على مواردها الخاصة، والحكم
بكون غيرها مشمولا للأخبار العامة. وعلى هذا فالمهم هو رفع التعارض بين هذه
الأخبار، وهو في غاية الإشكال.
ويمكن أن يقال: إن مرسلة الصدوق وما بمضمونها، أعني ما يدل على عدم جواز
الزيادة على العشرة، لم نجد من يفتي بها من أصحابنا الإمامية، وإنما أفتى بمضمونها
بعض فقهاء السنة كما مر عن أحمد في إحدى الروايتين عنه. وقد مر احتمال حملها
356

على التأديب بقرينة ذيل المرسلة وحمل الحد فيها على الأعم من الحد المصطلح و
من التعزير.
ويرد على الموثقة أيضا أولا أنا لم نجد من يفتي بها إلا ابن حمزة في الوسيلة في
خصوص ما يناسب القذف. نعم، أفتى الشافعي في إحدى الروايتين عنه بعدم جواز
الزيادة على العشرين، كما مر عن المنهاج.
وثانيا بأنها ظاهرة في كون الأكثر عشرين أو تسعة عشر، ولعل ظهور الصحيحة في
جواز الأكثر إلى تسعة وثلاثين أقوى منه، مضافا إلى صحة السند، فتقدم الصحيحة عليها.
ويمكن حمل مفاد الموثقة على كونه من باب المثال وتعيين بعض المصاديق. ويؤيد
ذلك إطلاقات التعزير الواردة في أخبار كثيرة في الأبواب المختلفة في مقام البيان من
غير ذكر المقدار.
فبذلك يجمع بين الصحيحة وبين الموثقة، وتصير عبارة فقه الرضا شاهدة لهذا الجمع.
والظاهر عندي على ما تتبعت أن فقه الرضا هو رسالة علي بن بابويه القمي التي كانت
مرجعا لأصحابنا الإمامية عند اعواز النصوص في المسألة. وكان هو (قدس سره) فقيها بصيرا بفقه
أهل البيت - عليهم السلام -.
فتلخص مما ذكرناه أن الأخبار المتضمنة لتعزيرات خاصة تحمل على مواردها
الخاصة، والجمع بين الأخبار العامة يقتضي الأخذ بما في فقه الرضا، أعني ما بين بضعة
عشر سوطا إلى تسعة وثلاثين. هذا.
وربما يحمل اختلاف الأخبار في المقام على تفاوت الجرائم وكذا المجرمين بحسب
الموقعية والسوابق الحسنة أو السيئة، واختلاف مراتب التعزير والشرائط الزمانية و
المكانية ونحو ذلك. وليس التعزير أمرا تعبديا محضا يقتصر فيه على مقدار خاص نظير
الحد، بل الغرض منه تأديب الشخص وتنبيه المجتمع فيختلف باختلاف الجهات
المذكورة، وعلى ذلك تحمل الاخبار المختلفة. وكان الأمر في كل منها إرشاد
357

إلى مرتبة خاصة منها. وقد يشعر بذلك قوله (عليه السلام) في صحيحة حماد: " على قدر ما يراه
الوالي من ذنب الرجل وقوة بدنه. " (1)
نعم، لا يجوز تجاوزه عن الحد بل بلوغه إلى حده أيضا كما يدل عليه معتبر السكوني،
عن أبي عبد الله (عليه السلام)، عن آبائه، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من بلغ حدا في غير حد فهو
من المعتدين. " (2) ورواه البيهقي أيضا بسنده، عن الضحاك، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). (
3)
الجهة السابعة:
في مقدار الضرب التأديبي:
لا يخفى أن تأديب الصبي أو المملوك المتخلف غير تعزير المجرم، فإن التعزير يكون
في قبال العمل المحرم ذاتا بخلاف التأديب، فإنه يقع في قبال ما لا ينبغي صدوره عادة و
لم يصل إلى حد الحرمة الشرعية ذاتا. ومقدار الضرب فيه أيضا لا يبلغ مقدار الضرب في
التعزير.
قال الشيخ في آخر الحدود من كتاب النهاية:
" والصبي والمملوك إذا أخطأ أدبا بخمس ضربات إلى ست، ولا يزاد على ذلك. " (4)
وقال المحقق في الشرائع:
" يكره أن يزاد في تأديب الصبي على عشرة أسواط، وكذا المملوك. " (5)

1 - الوسائل 18 / 584، الباب 10 من أبواب بقية الحدود، الحديث 3.
2 - الوسائل 18 / 312، الباب 3 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 6.
3 - سنن البيهقي 8 / 327 كتاب الأشربة والحد فيها، باب ما جاء في التعزير وأنه لا يبلغ به أربعين.
4 - النهاية / 732.
5 - الشرائع 4 / 167.
358

أقول: والأصل في المسألة أخبار مستفيضة:
1 - ففي خبر حماد بن عثمان، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) في أدب الصبي والمملوك،
فقال: " خمسة أو ستة، وارفق. " (1)
2 - وفي خبر زرارة، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) ما ترى في ضرب المملوك؟ قال: " ما
أتى فيه على يديه فلا شيء عليه، وأما ما عصاك فيه فلا بأس. " قلت: كم أضربه؟ قال:
" ثلاثة أو أربعة أو خمسة. " (2)
3 - وفي خبر السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن أمير المؤمنين (عليه السلام) ألقى صبيان الكتاب
ألواحهم بين يديه ليخير بينهم، فقال: " أما إنها حكومة، والجور فيها كالجور في الحكم.
أبلغوا معلمكم إن ضربكم فوق ثلاث ضربات في الأدب اقتص منه. " (3)
4 - وفي موثق إسحاق بن عمار، قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ربما ضربت الغلام في
بعض ما يجرم؟ قال: وكم تضربه؟ قلت: ربما ضربته مأة، فقال: مأة؟! مأة؟! فأعاد ذلك
مرتين ثم قال: حد الزنا؟! اتق الله. فقلت: جعلت فداك فكم ينبغي لي أن أضربه؟ فقال:
واحدا. فقلت: والله لو علم أني لا أضربه إلا واحدا ما ترك لي شيئا إلا أفسده. قال:
فاثنين. فقلت: هذا هو هلاكي. قال: فلم أزل أماكسه حتى بلغ خمسة، ثم غضب، فقال: يا
إسحاق، إن كنت تدري حد ما أجرم فأقم الحد فيه ولا تعد حدود الله. " (4)
5 - وفي خبر علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام)، قال: " سألته عن رجل هل
يصلح له أن يضرب مملوكه في الذنب يذنبه؟ قال: يضربه على قدر ذنبه; إن

1 - الوسائل 18 / 581، الباب 8 من أبواب بقية الحدود، الحديث 1.
2 - الوسائل 18 / 582، الباب 8 من أبواب بقية الحدود، الحديث 3.
3 - الوسائل 18 / 582، الباب 8 من أبواب بقية الحدود، الحديث 2.
4 - الوسائل 18 / 339، الباب 30 من أبواب بقية الحدود، الحديث 2.
359

زنى جلده، وإن كان غير ذلك فعلى قدر ذنبه: السوط والسوطين وشبهه، ولا يفرط
في العقوبة. " (1)
6 - وفي المستدرك عن فقه الرضا: " والتأديب ما بين ثلاثة إلى عشرة. " (2)
إلى غير ذلك من الأخبار في هذا الباب وقد مر في الجهة السادسة حمل أخبار العشر
جلدات كلها على التأديب أيضا، فراجع.
ولا يخفى كما أشرنا إليه انصراف الأخبار المذكورة عن صورة ارتكاب المملوك
المكلف لواحدة من المعاصي الشرعية التي شرع فيها الحد أو التعزير، بل انصرافها أيضا
عن صورة ارتكاب الصبي المميز لواحدة منها كاللواط والسرقة ونحوهما، إذ الظاهر أن
الثابت حينئذ هو التعزير لا التأديب.
فمورد التأديب هو التخلفات العادية لا الشرعية ولا سيما الفظيعة منها، فتدبر.
وهل يجب التأديب في موارده أم لا؟ فنقول: إن حصرنا مورده في التخلفات العادية
كما هو الظاهر فلا وجه للوجوب، وإن قلنا بكونه أعم منها ومن بعض المحرمات
الشرعية ذاتا ففيه تفصيل: فإن ترتب الفساد على تركه وجب وإلا فلا. ولو كان تأديب
المملوك لتضييعه حق سيده كان العفو أرجح، كما يشهد بذلك سيرة الأئمة (عليهم السلام) في
تخلفات عبيدهم.
وفي الجواهر:
" ينبغي أن يعلم أن مفروض الكلام في التأديب الراجع إلى مصلحة الصبي مثلا لا ما
يثيره الغضب النفساني، فإن المؤدب حينئذ قد يؤدب. " (3) هذا.
ولم نجد لما في الشرائع دليلا واضحا، إذ لا دلالة لما مر عن فقه الرضا من قوله: " و
التأديب ما بين ثلاثة إلى عشرة " على ما أفتى به من الكراهة، مضافا إلى عدم حجيته. و
ما مر من مرسلة الصدوق يشكل حملها على الكراهة، لظهورها قويا في الحرمة. ولعل
موردها أيضا بقرينة ذكر الوالي هو التعزير لا التأديب. نعم، مفاد خبر

1 - الوسائل 18 / 340، الباب 30 من أبواب بقية الحدود، الحديث 8.
2 - مستدرك الوسائل 3 / 248، الباب 6 من أبواب بقية الحدود، الحديث 1، عن فقه الرضا / 310.
3 - الجواهر 41 / 446.
360

أبي بردة ونحوه هو الأعم، فيمكن حمله على التأديب جمعا، كما مر.
وكيف كان، فالأحوط في المسألة هو الأخذ بما في النهاية وإن أمكن القول بجواز
التعدي عن الست مع الاحتياج إذا لم يفرط، إذ الغرض هو حصول الأدب، وليس أمثال
التعزيرات والتأديبات كما مر أمورا تعبدية صرفة ولذا أمر بها في مواردها بنحو
الإطلاق الظاهر في إحالة مقاديرها إلى المعزر أو المؤدب بحسب ما يراه من المقتضيات
والشرائط.
وحيث إن بحثنا في وظائف الحكام، وليس التأديبات من هذا القبيل أدرجنا البحث
فيها.
الجهة الثامنة:
في حكم من قتله الحد أو التعزير أو التأديب:
1 - قال الشيخ (قدس سره) في أشربة الخلاف (المسألة 9):
" إذا ضرب الإمام شارب الخمر ثمانين فمات لم يكن عليه شيء. وقال الشافعي:
يلزمه نصف الدية. دليلنا أنا قد بينا أن الحد ثمانون، والشافعي بنى هذا على أن الحد له
أربعون، فلأجل هذا ضمنه ديته على بيت المال. "
و (المسألة 10):
" إذا عزر الإمام من يجب تعزيره أو من يجوز تعزيره وإن لم يجب فمات منه لم يكن
عليه شيء، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: يلزمه ديته. وأين تجب؟ فيه قولان:
أحدهما - وهو الصحيح عندهم - على عاقلته. والثاني في بيت المال. دليلنا أن الأصل
براءة الذمة وشغلها يحتاج إلى دليل... " (1)

1 - الخلاف 3 / 222.
361

2 - وقال في أشربة المبسوط:
" إذا عزر الإمام رجلا فمات من الضرب ففيه كمال الدية لأنه ضرب تأديب. وأين
تجب الدية؟ قال قوم: في بيت المال وهو الذي يقتضيه مذهبنا. وقال قوم: على عاقلته، و
هو أصحهما عندهم. وإن قلنا نحن: لا ضمان عليه أصلا كان قويا، لما روي عن
أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: " من أقمنا عليه حدا من حدود الله فمات فلا ضمان. " وهذا
حد وإن كان غير معين. " (1)
3 - وفي أشربة المبسوط أيضا:
" فإن فعل ذلك فلا ضمان على الإمام، سواء عزره تعزيرا واجبا أو مباحا، وهو الذي
يقتضيه مذهبنا. فمن قال: مضمون أين ضمنه (يضمنه خ. ل) على ما مضى، عند قوم: في
بيت المال، وعند آخرين: على عاقلته، وفيه الكفارة على ما مضى القول فيه.
فأما إن ضرب الأب أو الجد الصبي تأديبا فهلك، أو ضربه الإمام أو الحاكم أو أمين
الحاكم أو الوصي، أو ضربه المعلم تأديبا فهلك منه فهو مضمون، لأنه إنما أبيح بشرط
السلامة. ويلزم عندنا في ماله، وعندهم على عاقلته. " (2)
4 - وقال المحقق في حدود الشرائع:
" من قتله الحد أو التعزير فلا دية له، وقيل: تجب على بيت المال، والأول مروي. " (3)
5 - وفي أواخر الحدود منه أيضا:
" الثامنة: إذا أدب زوجته تأديبا مشروعا فماتت، قال الشيخ: عليه ديتها لأنه مشروط
بالسلامة. وفيه تردد. لأنه من جملة التعزيرات السائغة. ولو ضرب الصبي أبوه أو جده
لأبيه (تأديبا خ. ل) فمات فعليه ديته في ماله. " (4)
6 - وفي المغني لابن قدامة الحنبلي:

1 - المبسوط 8 / 63.
2 - المبسوط 8 / 66.
3 - الشرائع 4 / 171.
4 - الشرائع 4 / 192.
362

" فصل: وإذا مات من التعزير لم يجب ضمانه، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة. وقال
الشافعي: يضمنه، لقول على (عليه السلام): ليس أحد أقيم عليه الحد فيموت فأجد في نفسي شيئا،
إن الحق قتله إلا حد الخمر، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يسنه لنا. وأشار (عليه السلام) على عمر بضمان
التي أجهضت جنينها حين أرسل إليها.
ولنا أنها عقوبة مشروعة للردع والزجر، فلم يضمن من تلف بها كالحد. " (1)
أقول: ما حكاه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) من عدم سن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حد الخمر معارض
بما في الخصال عنه (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ضرب في الخمر ثمانين. (2
)
وفي المصنف لعبد الرزاق بسنده عن الحسن أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ضرب في الخمر ثمانين.
وفيه أيضا بسنده عن الحسن، قال: " هم عمر بن الخطاب أن يكتب في المصحف أن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ضرب في الخمر ثمانين، ووقت لأهل العراق ذات عرق. " (3)
وأما ضمان الجنين فلا يدل على الضمان في المقام، إذ الجنين لم تصدر منه جناية، و
لا تعزير عليه، فتدبر.
7 - وفي المغني أيضا:
" فصل: وليس على الزوج ضمان الزوجة إذا تلفت من التأديب المشروع في النشوز،
ولاعلى المعلم إذا أدب صبيه الأدب المشروع، وبه قال مالك. وقال الشافعي و
أبو حنيفة: يضمن. ووجه المذهبين ما تقدم في التي قبلها.
قال الخلال: إذا ضرب المعلم ثلاثا كما قال التابعون وفقهاء الأمصار وكان ذلك ثلاثا
فليس بضامن. وإن ضربه ضربا شديدا مثله لا يكون أدبا للصبي ضمن، لأنه قد تعدى في
الضرب.
قال القاضي: وكذلك يجيء على قياس قول أصحابنا إذا ضرب الأب أو الجد

1 - المغني 10 / 349.
2 - الوسائل 18 / 468، الباب 3 من أبواب حد المسكر، الحديث 8.
3 - المصنف 7 / 379، باب حد الخمر، الحديث 13547 و 13548.
363

الصبي تأديبا فهلك أو الحاكم أو أمينه أو الوصي عليه تأديبا فلا ضمان عليهم
كالمعلم. (1)
8 - وقال الماوردي في الوجوه الفارقة بين الحد والتعزير:
" والوجه الثالث أن الحد وإن كان ما حدث عنه من التلف هدرا فإن التعزير يوجب
ضمان ما حدث عنه من التلف، قد أرهب عمر بن الخطاب امرأة فأخمصت بطنها فألقت
جنينا ميتا، فشاور عليا (عليه السلام) وحمل دية جنينها. " (2)
9 - وفي معالم القربة:
" وإذا عزر الإمام رجلا فمات وجب الضمان عليه. وقيل: لا يجب. والمذهب الأول،
لأنه روي ذلك عن عمر وعلى (عليه السلام) ولا مخالف لهما، ولأنه ضرب غير محدود فكان
مضمونا كضرب الزوج زوجته والمعلم الصبي. وإنما ضمنا التعزير لأنه تأديب مشروط
فيه السلامة، فإذا أفضى فيه إلى التلف تبينا أنه لم يكن مأذونا فيه فوجب ضمانه.
وقال أبو حنيفة: إذا رأى الإمام أنه لا يصلحه إلا الضرب لزمه أن يضربه، وإن رأى أنه
يصلحه غير الضرب فهو بالخيار في ذلك، وأي الأمرين فعل فمات فلا ضمان عليه. " (3)
هذا.
10 - ولكن في الأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء:
" والتعزير لا يوجب ضمان ما حدث عنه من التلف، وكذلك المعلم إذا ضرب صبيا
أدبا معهودا في العرف فأفضى إلى تلفه، وكذلك الزوج إذا ضرب عند النشوز وتلفت
فلا ضمان عليه.
وقد نص على ذلك في رواية أبي طالب وقد سئل هل بين المرأة وزوجها قصاص؟
فقال: " إذا كان في أدب بضربها فلا. " وكذلك نقل بكر بن محمد: في الرجل يضرب
امرأته، فيكسر يدها أو رجلها أو يعقرها على وجه الأدب فلا قصاص

1 - المغني 10 / 349.
2 - الأحكام السلطانية / 238.
3 - معالم القربة / 193 (= ط. مصر / 286) الباب 50، فصل في التعازير.
364

عليه. " وذكر أبو بكر الخلال في كتاب الأدب فقال: " إذا ضرب المعلم الصبيان ضربا
غير مبرح وكان ذلك ثلاثا فليس بضامن. " وعلى قياس هذا، الأب إذا أدب ابنه. " (1)
فهذه بعض كلمات العلماء والمصنفين من الفريقين في هذه المسألة، ويظهر منهم
التسالم على عدم الضمان في الحدود المقدرة إلا مع التعدي، وإنما وقع النزاع في
التعازير والتأديبات.
والفارق بينهما كما يظهر من بعض الكلمات أيضا هو أن الحد المصطلح له مقدار معين
مشروع من قبل الله - تعالى -، فإذا أجراه الحاكم المأمور بإجرائه بلا تعد وتفريط
فلا يتصور وجه لضمانه، لأن الحكم من قبل الله - تعالى -، وهو ممتثل لأمره - تعالى -.
وأما التعزير والتأديب فحيث لم يقدر لهما مقدار خاص بل الحاكم أو الوالي هو الذي
يعين حدهما ومقدارهما والغرض هو الأدب مع حفظ موضوعه وسلامته فيمكن أن
يقال فيهما إن الموت مستند إلى خطأه واشتباهه في تعيين المقدار، فيثبت الضمان وإن
كان استقرار ضمان الحاكم على بيت مال المسلمين لاعلى نفسه كما يشهد بذلك خبر
الأصبغ بن نباتة: قال: قضى أمير المؤمنين (عليه السلام): " أن ما أخطأت القضاة في دم أو قطع فهو
على بيت مال المسلمين. " (2)
ونحوه ما رواه في الكافي بسند موثوق به عن أبي مريم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " قضى
أمير المؤمنين... " (3) هذا.
وأما أخبار المسألة فهي طائفتان:

1 - الأحكام السلطانية / 282.
2 - الوسائل 18 / 165، الباب 10 من أبواب آداب القاضي، الحديث 1.
3 - الوسائل 19 / 111، الباب 7 من أبواب دعوى القتل، الحديث 1.
365

الأولى: ما دلت على عدم الدية فيما قتله الحد أو القصاص مطلقا:
1 - فمنها صحيحة الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " أيما رجل قتله الحد أو
القصاص فلا دية له. " (1)
2 - ومنها خبر الكناني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن رجل قتله القصاص له
دية؟ فقال: " لو كان ذلك لم يقتص من أحد. " وقال: " من قتله الحد فلا دية له. " ونحو ذلك
خبر الشحام، عن أبي عبد الله (عليه السلام). (2)
3 - ومنها خبر معلى بن عثمان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " من قتله القصاص أو الحد
لم يكن له دية. " (3)
4 - وفي المستدرك عن دعائم الإسلام، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: " من أقيم عليه
حد فمات فلا دية ولا قود. " (4)
5 - وفيه أيضا، عن الدعائم، عنه (عليه السلام) أنه قال: " من مات في حد أو قصاص فهو قتيل
القرآن، فلا شيء عليه. (5)
ولعل الحد في هذه الأخبار وأمثالها هو الأعم من الحد المصطلح ومن التعزير
بتقريب أن اللفظين إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، فتأمل.
فإن قلت: الظاهر من الحد في هذه الروايات بقرينة المرادفة مع القصاص هو
خصوص حد القتل، فلا يعم الضرب الذي ربما يصادف الموت فضلا عن مثل التعزيرات.

1 - الوسائل 19 / 47، الباب 24 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 9.
2 - الوسائل 19 / 46، الباب 24 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 1.
3 - الوسائل 19 / 47، الباب 24 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 6.
4 - مستدرك الوسائل 3 / 255، الباب 22 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 2، عن الدعائم
2 / 466.
5 - مستدرك الوسائل 3 / 255، الباب 22 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 3، عن الدعائم
2 / 427.
366

قلت: لا نسلم ذلك، بل المراد بالقصاص أيضا هو الأعم من قصاص النفس وقصاص
الأعضاء، فتدبر.
الطائفة الثانية من الأخبار: ما دل على التفصيل بين حدود الله وحدود الناس:
6 - كخبر الحسن بن محبوب، عن الحسن بن صالح بن حي الثوري، عن أبي
عبد الله (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: " من ضربناه حدا من حدود الله فمات فلا دية له علينا، و
من ضربناه حدا من حدود الناس فمات فإن ديته علينا. " (1)
7 - وقال الصدوق (قدس سره): قال الصادق (عليه السلام): " من ضربناه حدا من حدود الله فمات فلا دية
له علينا، ومن ضربناه حدا من حدود الناس فمات فإن ديته علينا. " (2)
والظاهر اتحاد الخبرين. وإسناد الصدوق المتن إلى الإمام (عليه السلام) بنحو البت يدل على
ثبوته عنده، وإلا لم يجز هذا التعبير لحرمة القول والنسبة بغير علم ولا سيما إلى
الإمام (عليه السلام).
هذا مضافا إلى أن السند إلى الثوري صحيح، وابن محبوب من أصحاب الإجماع، و
لعل هذا كله يكفي في الاعتماد على الخبر، وإن كان الثوري بنفسه من الزيدية البترية و
لم تثبت وثاقته.
وظاهر الشيخ في الاستبصار (3) أيضا أنه اعتمد على الخبر وحمل الأخبار الأول
عليه، ونتيجته الأخذ بالتفصيل.
وكيف كان، فالأحوط في باب الحدود هو الأخذ بهذا التفصيل جمعا بين الأخبار
فتأمل. ومثال حدود الناس حد القذف. والظاهر أن المراد بكون ديته علينا كون ديته
عليهم بما هم حكام المسلمين، فتكون على بيت مال المسلمين كما دل عليه خبر الأصبغ
الذي مر.

1 - الوسائل 19 / 46، الباب 24 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 3.
2 - الوسائل 18 / 312، الباب 3 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 4.
3 - الاستبصار 4 / 279، باب من قتله الحد، الحديث 3.
367

وأما التعازير والتأديبات فالقاعدة الأولية تقتضي الضمان فيها، لقوله (عليه السلام): " لا يبطل
دم امرئ مسلم. " (1)
ويمكن أن يستدل لعدم الضمان فيها بأصالة البراءة، وبقاعدة الإحسان، وبالأخبار
التي مرت بناء على عموم الحد لهما بتقريب أن لفظ الحد كلما ذكر منفردا فلا يراد به إلا
كل ما شرع لتحديد الجاني ومنعه. هذا مضافا إلى ظهور اتحاد الحكم في الجميع بنظر
العرف أيضا.
ولكن الأحوط هو الحكم بالضمان ولا سيما في التأديبات، فإن الأصل لا يقاوم
الدليل. والضمان في التعازير على بيت المال لاعلى الحاكم المحسن. وكون المراد بالحد
في الأخبار المذكورة هو الأعم قابل للمنع. وقد مر الفرق بين الحدود وبين التعازير و
التأديبات بأن الموت في الحد مستند إلى حكم الله وأما فيهما فيحتمل استناده إلى خطأ
الحاكم أو الولي في تعيين المقدار. نعم، لا يجري هذا في الإمام المعصوم.
ثم إن هذا كله فيما إذا لم يتعد المنفذ للحكم عن وظيفته، وإلا فهو ضامن قطعا واستقر
الضمان على نفسه:
1 - ففي خبر سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " إن لكل شيء حدا، ومن تعدى ذلك
الحد كان له حد. "
2 - وقال الصدوق: خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: " إن الله حد حدودا فلا تعتدوها. "
3 - وفي خبر السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن آبائه (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين. "
4 - وفي صحيحة حمران بن أعين، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " من الحدود ثلث جلد،

1 - الوسائل 19 / 112، الباب 8 من أبواب دعوى القتل، الحديث 3.
368

ومن تعدى ذلك كان عليه حد. "
5 - وفي خبر الحسن بن صالح الثوري، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: إن أمير المؤمنين (عليه السلام)
أمر قنبرا أن يضرب رجلا حدا فغلط قنبر فزاده ثلاثة أسواط، فأقاده على (عليه السلام) من قنبر
بثلاثة أسواط. "
إلى غير ذلك من الأخبار، فراجع الوسائل (1).
وإذا ثبت كون الشخص معتديا صار مصداقا لقوله - تعالى -: " فمن اعتدى عليكم
فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم. " (2)
وهل تنصف الدية على الحد وعلى الزيادة مطلقا لكون الموت مستندا إلى كليهما
عرفا والقود والدية يقسطان على عدد الجانين لاعلى مقدار الجنايات، أو تقسط بينهما
بحسب الأسواط كما في الجواهر، أو يستقر الجميع على الحداد لكونه معتديا، والزيادة
هي الجزء الأخير من العلة، والمعلول يستند عرفا بل عقلا إلى الجزء الأخير من العلة لأنه
الذي يستعقب المعلول كما لو ضرب المشرف على الموت بعلل أخرى فمات بضربه أو
ألقى حجرا في سفينة مثقلة فغرقت؟ في المسألة وجوه. ونحيل التحقيق فيه إلى محل
آخر، والأظهر عندي هو الأخير.
قال المحقق في الشرائع في آخر حد الخمر:
" الثالثة: لو أقام الحاكم الحد بالقتل فبان فسوق الشاهدين كانت الدية في بيت المال و
لا يضمنها الحاكم ولا عاقلته. ولو أنفذ إلى حامل لإقامة الحد فأجهضت خوفا قال الشيخ:
دية الجنين في بيت المال. وهو قوى لأنه خطأ، وخطأ الحاكم في بيت المال. وقيل:
يكون على عاقلة الإمام، وهي قضية عمر مع على (عليه السلام).
ولو أمر الحاكم بضرب المحدود زيادة عن الحد فمات فعليه نصف الدية في ماله إن لم
يعلم الحداد لأنه شبيه العمد، ولو كان سهوا فالنصف على بيت المال. ولو أمر بالاقتصار
على الحد فزاد الحداد عمدا فالنصف على الحداد في ماله، ولو زاد سهوا

1 - الوسائل 18 / 311 - 313، الباب 3 من أبواب مقدمات الحدود.
2 - سورة البقرة (2)، الآية 194.
369

فالدية على عاقلته، وفيه احتمال آخر. " (1)
أقول: قضية عمر مع علي (عليه السلام) قد مرت في كلمات علماء السنة ورواها في
الوسائل. (2)
وقوله: " فيه احتمال آخر "، قال في الجواهر:
" وهو تقسيط الدية على الأسواط التي حصل بها الموت وهي جميع ما ضرب بها من
أسواط الحد والزيادة. " (3)
ونحن احتملنا كون الجميع على الحداد لكون الزيادة هي الجزء الأخير من العلة،
فتدبر.
الجهة التاسعة:
في إشارة إجمالية إلى ما تثبت به موجبات الحدود والتعزيرات:
نذكرها من كتاب الشرائع للمحق الحلي. ومحل البحث التفصيلي فيه كتاب الحدود،
فراجع:
قال في الشرائع:
" يثبت الزنا بالإقرار أو البينة: أما الإقرار فيشترط فيه بلوغ المقر وكماله والاختيار و
الحرية وتكرار الإقرار أربعا في أربعة مجالس. ولو أقر دون الأربع لم يجب الحد و
وجب التعزير. ولو أقر أربعا في مجلس واحد قال في الخلاف والمبسوط: لا يثبت وفيه
تردد...
وأما البينة فلا تكفي أقل من أربعة رجال، أو ثلاثة وامرأتين. ولا تقبل شهادة

1 - الشرائع 4 / 171.
2 - الوسائل 19 / 200، الباب 30 من أبواب موجبات الضمان، الحديث 1.
3 - الجواهر 41 / 475.
370

النساء منفردات، ولا شهادة رجل وست نساء. وتقبل شهادة رجلين وأربع نساء، و
يثبت به الجلد لا الرجم. ولو شهد ما دون الأربع لم يجب، وحد كل منهم للفرية. " (1)
وفيه أيضا: " في اللواط والسحق والقيادة: أما اللواط فهو وطي الذكران بإيقاب و
غيره. وكلاهما لا يثبتان إلا بالإقرار أربع مرات، أو شهادة أربعة رجال بالمعاينة. و
يشترط في المقر البلوغ وكمال العقل والحرية والاختيار فاعلا كان أو مفعولا. ولو أقر
دون أربع لم يحد وعزر. ولو شهد بذلك دون الأربعة لم يثبت، وكان عليهم الحد للفرية. و
يحكم الحاكم فيه بعلمه إماما كان أو غيره على الأصح. " (2)
أقول: ولم يذكر هنا ما يثبت به السحق، وفي كتاب الشهادات جعله مثل اللواط. وفيه
أيضا في القيادة:
" وتثبت بالإقرار مرتين مع بلوغ المقر وكمال عقله (كماله خ. ل) وحريته واختياره،
أو شهادة شاهدين. " (3)
وفيه أيضا في القذف:
" ويثبت القذف بشهادة عدلين أو الإقرار مرتين. ويشترط في المقر التكليف و
الحرية والاختيار. " (4)
وفيه أيضا في المسكر:
" ويثبت بشهادة عدلين مسلمين، ولا تقبل فيه شهادة النساء منفردات ولا منضمات،
وبالإقرار دفعتين، ولا يكفي المرة (الواحدة خ. ل) ويشترط في المقر البلوغ وكمال
العقل والحرية والاختيار. " (5)

1 - الشرائع 4 / 151 - 152.
2 - الشرائع 4 / 159.
3 - الشرائع 4 / 161.
4 - الشرائع 4 / 167.
5 - الشرائع 4 / 169.
371

وفيه أيضا في السرقة:
" وتثبت بشهادة عدلين أو بالإقرار مرتين، ولا يكفي المرة. ويشترط في المقر البلوغ
وكمال العقل والحرية والاختيار. " (1)
وفيه أيضا في المحارب:
" وتثبت هذه الجناية بالإقرار ولو مرة وبشهادة رجلين عدلين. ولا تقبل شهادة
النساء فيه منفردات ولامع الرجال. " (2)
وفيه في وطي البهائم:
" ويثبت هذا بشهادة رجلين عدلين، ولا يثبت بشهادة النساء انفردن أو انضممن، و
بالإقرار ولو مرة إن كانت الدابة له وإلا يثبت التعزير حسب وإن تكرر الإقرار. وقيل:
لا يثبت إلا بالإقرار مرتين، وهو غلط. " (3)
وفيه في الاستمناء:
" ويثبت بشهادة عدلين أو الإقرار ولو مرة. وقيل: لا يثبت بالمرة، وهو وهم. " (4)
وفيه أيضا في ذيل القذف:
" الخامسة: كل ما فيه التعزير من حقوق الله - سبحانه - يثبت بشاهدين أو الإقرار
مرتين على قول. " (5)
هذا ما أردنا نقله من الشرائع.
ولا يخفى أن مقتضى العمومات الأولية كفاية شهادة العدلين أو الإقرار مرة واحدة إلا
فيما دل الدليل على خلافه. نعم، لا يعتبر الإقرار فيما إذا كان على غيره بوجه كإقرار
العبد، فإنه يرجع إلى ضرر مولاه، فتدبر. ولعل القول باعتبار التعدد في الإقرار في التعزير
وأمثاله وقع بقياسها على باب الزنا وأمثاله، حيث اعتبر في

1 - الشرائع 4 / 176.
2 - الشرائع 4 / 180.
3 - الشرائع 4 / 188.
4 - الشرائع 4 / 189.
5 - الشرائع 4 / 167.
372

الإقرار فيها عدد الشهود فيها، فتدبر.
بقي الكلام فيما إذا وجد الاتهام ولم يثبت بعد بالدليل; فهل يجوز بمجرد ذلك مزاحمة
المتهم وحبسه أو تعزيره للكشف؟ في المسألة تفصيل يطول البحث بالتعرض له، فلنكتف
بنقل ما ذكره الماوردي في المقام ملخصا ثم نتعرض لنكت من البحث بنحو الإجمال و
نحيل التفصيل إلى الفضلاء المتتبعين.
قال الماوردي في الأحكام السلطانية ما ملخصه:
" الجرائم محظورات شرعية زجر الله - تعالى - عنها بحد أو تعزير. ولها عند التهمة
حال استبراء تقتضيه السياسة الدينية، ولها عند ثبوتها وصحتها حال استيفاء توجبه
الأحكام الشرعية.
فأما حالها بعد التهمة وقبل الثبوت فمعتبر بحال الناظر فيها: فإن كان حاكما رفع إليه
رجل قداتهم بسرقة أو زنا، لم يكن للتهمة تأثير عنده ولم يجز له أن يحبسه لكشف و
لا استبراء، ولا أن يأخذه بأسباب الإقرار إجبارا، ولم يسمع الدعوى في السرقة إلا من
خصم مستحق، وراعى ما يبدو من إقرار المتهوم أو إنكاره، وإن اتهم بالزنا لم يسمع
الدعوى عليه إلا بعد أن يذكر المرأة التي زنى بها ويصف ما فعله بها بما يوجب الحد، فإن
أقر حده، وإن أنكر وكانت بينة سمعها عليه، وإلا أحلفه في حقوق الآدميين إذا طلب
الخصم دون حقوق الله.
وإن كان الناظر الذي دفع إليه المتهوم أميرا أو من ولاة الأحداث كان له من أسباب
الكشف والاستبراء ما ليس للقضاة والحكام، وذلك من تسعة أوجه يختلف بها حكم
النظرين:
الأول: أنه يجوز للأمير أن يسمع قرف المتهوم من أعوان الإمارة من غير تحقيق
للدعوى المقررة، ويرجع إلى قولهم في الإخبار عن حال المتهوم وهل هو من أهل
الريب؟ وهل هو معروف بمثل ما قرف أم لا؟ فإن برؤوه من مثل ذلك خفت التهمة
ووضعت وعجل إطلاقه، وإن قرفوه بأمثاله غلظت التهمة وقويت واستعمل فيها من
حال الكشف. وليس هذا للقضاة.
والثاني: أن للأمير أن يراعي شواهد الحال وأوصاف المتهوم في قوة التهمة
373

وضعفها، فإن كانت التهمة زنا وكان المتهوم مطيعا للنساء ذا فكاهة وخلابة قويت
التهمة، وإن كان بضده ضعفت. وليس هذا للقضاة.
والثالث: أن للأمير أن يعجل حبس المتهوم للكشف والاستبراء. واختلف في مدة
حبسه لذلك، فذكر عبد الله الزبيري من أصحاب الشافعي أن حبسه لذلك مقدر بشهر
واحد. وقال غيره: ليس هو بمقدر بل هو موقوف على رأي الإمام واجتهاده. وليس
للقضاة أن يحبسوا أحدا إلا بحق وجب.
والرابع: أنه يجوز للأمير مع قوة التهمة أن يضرب المتهوم ضرب التعزير لا ضرب الحد
ليأخذه بالصدق عن حاله فيما قرف به واتهم. فإن أقر وهو مضروب اعتبرت حاله فيما
ضرب عليه، فإن ضرب ليقر لم يكن لإقراره تحت الضرب حكم، وإن ضرب ليصدق عن
حاله وأقر تحت الضرب قطع ضربه واستعيد إقراره، فإذا أعاده كان مأخوذا بالإقرار
الثاني دون الأول، فإن اقتصر على الإقرار الأول ولم يستعده لم يضيق عليه ان يعمل
بالإقرار الأول وإن كرهناه.
والخامس: أنه يجوز للأمير فيمن تكررت منه الجرائم ولم ينزجر منها بالحدود أن
يستديم حبسه إذا استضر الناس بجرائمه حتى يموت بعد أن يقوم بقوته وكسوته من
بيت المال، وإن لم يكن ذلك للقضاة.
والسادس: أنه يجوز للأمير إحلاف المتهوم استبراء لحاله وتغليظا عليه في الكشف
عن أمره في التهمة بحقوق الله - تعالى - وحقوق الآدميين، ولا يضيق عليه أن يجعله
بالطلاق والعتاق والصدقة. وليس للقضاة إحلاف أحد على غير حق ولا أن يجاوزوا
الإيمان بالله إلى الطلاق أو العتق.
والسابع: أن للأمير أن يأخذ أهل الجرائم بالتوبة إجبارا ويظهر من الوعيد ما يقودهم
إليها طوعا، ولا يضيق عليه الوعيد بالقتل فيما لا يجب فيه القتل لأنه وعيد إرهاب و
تعزير.
والثامن: أنه يجوز للأمير أن يسمعه شهادات أهل الملل ومن لا يجوز أن يسمع منه
القضاة، إذا كثر عددهم.
والتاسع: أن للأمير النظر في المواثبات وإن لم توجب غرما ولا حدا، فإن لم يكن
374

بواحد منهما أثر سمع قول من سبق بالدعوى، وإن كان بأحدهما أثر فقد ذهب بعضهم
إلى أنه يبدأ بسماع دعوى من به الأثر ولا يراعي السبق. والذي عليه أكثر الفقهاء أنه
يسمع قول أسبقهما بالدعوى. ويكون المبتدي بالمواثبة أعظمهما جرما وأغلظهما
تأديبا...
فهذه أوجه يقع بها الفرق في الجرائم بين نظر الأمراء والقضاة في حال الاستبراء و
قبل ثبوت الحد، لاختصاص الأمير بالسياسة، واختصاص القضاة بالأحكام. " (1) وذكر
قريبا من ذلك أبو يعلى.
أقول: ربما يخطر بالبال أن الماوردي وأبا يعلى كانا فيما ذكراه من الاعتماد على
أعوان الإمارة من غير تحقيق وجواز ضرب المتهمين لذلك، بصدد تبرير ما استقرت
عليه سيرة الخلفاء والأمراء في الأعصار المختلفة من تعزير المتهمين وتعذيبهم بمجرد
الاتهام، ولنا في ذلك بحث نتعرض له إجمالا بعقد مسائل:
المسألة الأولى:
الظاهر أن ضرب المتهم وتعزيره بمجرد الاتهام لكشف ما يحتمل أن يطلع عليه من
فعل نفسه أو فعل غيره أو الحوادث والوقائع الخارجية ظلم في حقه واعتداء عليه، و
يخالف هذا حكم الوجدان وسلطة الناس على أنفسهم، وأصالة البراءة عن التهم إلا أن
تثبت بالدليل، وما دل من الأخبار على حرمة ضرب الناس وتعذيبهم:
1 - ففي صحيحة الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن أعتى
الناس على الله - عز وجل - من قتل غير قاتله، ومن ضرب من لم يضربه. " (2)

948 و 949 - الأحكام السلطانية للماوردي / 219 - 221; والأحكام السلطانية لأبي يعلى / 257 -
260.
2 - الوسائل 19 / 11، الباب 4 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 1.
375

2 - وفي رواية الوشاء، قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لعن الله
من قتل غير قاتله، أو ضرب غير ضاربه... " (1) ونحوهما أخبار أخر، فراجع.
3 - وفي خبر جابر، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " لو أن رجلا ضرب رجلا سوطا لضربه
الله سوطا من نار. " (2)
4 - وفي خبر السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن أبغض
الناس إلى الله - عز وجل - رجل جرد ظهر مسلم بغير حق. " (3) وبمجرد الشك والاتهام
لم يثبت حق، فتأمل.
5 - وفي صحيح مسلم بسنده، عن عروة أن هشام بن حكيم وجد رجلا وهو على
حمص يشمس ناسا من النبط في أداء الجزية، فقال: ما هذا؟ إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
يقول: " إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا. " (4)
وفي خبر آخر عن هشام بن حكيم بن حزام، قال: مر بالشام على أناس، وقد أقيموا
في الشمس وصب على رؤوسهم الزيت، فقال: ما هذا؟ قيل: يعذبون في الخراج، فقال:
أما إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " إن الله يعذب الذين يعذبون في الدنيا. " (5) و
نحوها أخبار أخر.
وروى نحو ذلك أحمد في مسنده، فراجع (6). هذا.
وفي الكامل لابن الأثير:
" وقال أبو فراس: خطب عمر الناس فقال: أيها الناس إني ما أرسل إليكم عمالا

1 - الوسائل 19 / 11، الباب 4 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 3.
2 - الوسائل 19 / 12، الباب 4 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 7.
3 - الوسائل 18 / 336، الباب 26 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1.
4 - صحيح مسلم 4 / 2018، كتاب البر والصلة والآداب، الباب 33 (باب الوعيد الشديد لمن
عذب الناس بغير حق)، ذيل الحديث 2613.
5 - صحيح مسلم 4 / 2017، كتاب البر والصلة والآداب، الباب 33، الحديث 2613.
6 - مسند أحمد 3 / 404.
376

ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم وإنما أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنتكم،
فمن فعل به شيء سوى ذلك فليرفعه إلى، فوالذي نفس عمر بيده لأقصنه منه. فوثب
عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين أرأيتك إن كان رجل من أمراء المسلمين على
رعية فأدب بعض رعيته إنك لتقصه منه؟ قال: أي والذي نفس عمر بيده إذن لأقصنه منه،
وكيف لا أقصه منه وقد رأيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقص من نفسه! ألا لا تضربوا المسلمين
فتذلوهم ولا تحمدوهم فتفتنوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم، ولا تنزلوهم الغياض
فتضيعوهم ". (1)
أقول: والتعرض للناس وضربهم وتعذيبهم بمجرد الاتهام يوجب تزلزل الناس و
عدم إحساسهم بالأمن الاجتماعي حتى الناس البرءاء الأعفاء. وقد نهى الكتاب والسنة
عن التجسس ليكون الناس في حياتهم آمنين مطمئنين. وهذا من أعظم المصالح التي
اهتم به الشرع المبين:
قال الله - تعالى -: " ولا تجسسوا. " (2)
وفي سنن البيهقي بسنده، عن جمع من الصحابة، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: " إن الأمير إذا
ابتغى الريبة في الناس أفسدهم. " (3)
وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): " إنك إن اتبعت عورات الناس أو عثرات الناس أفسدتهم أو كدت أن
تفسدهم. " (4)
والاخبار في هذا المجال كثيرة يأتي بعضها في فصل الاستخبارات.
اللهم إلا أن يقال: إن الموضوع إذا كان في غاية الأهمية كحفظ النظام مثلا، بحيث
يتنجز مع الاحتمال أيضا وإن كان ضعيفا، وفرض توقفه على تعزير المتهم

1 - الكامل 3 / 56.
2 - سورة الحجرات (49)، الآية 12.
3 - سنن البيهقي 8 / 333، كتاب الأشربة والحد فيها، باب ما جاء في النهي عن التجسس.
4 - سنن البيهقي 8 / 333، كتاب الأشربة والحد فيها، باب ما جاء في النهي عن التجسس.
377

للكشف، أمكن القول بجوازه على أساس باب التزاحم; حيث يتزاحم الواجب الأهم
والحرام الذي ليس في حده، فتدبر.
المسألة الثانية:
لا إشكال في أن الاعتراف مع التعذيب والتشديد لا اعتبار به شرعا في المحاكم
الشرعية. ويدل على ذلك - مضافا إلى ما ورد من رفع ما استكرهوا عليه - أخبار
مستفيضة:
1 - ففي خبر أبي البختري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: " من أقر عند
تجريد، أو تخويف، أو حبس، أو تهديد فلا حد عليه. " (1)
2 - وفي خبر إسحاق بن عمار، عن جعفر، عن أبيه أن عليا (عليه السلام) كان يقول: " لا قطع
على أحد يخوف من ضرب ولا قيد ولا سجن ولا تعنيف. وإن لم يعترف سقط عنه لمكان
التخويف. " (2)
أقول: قوله: " وإن لم يعترف "، أي بإرادته واختياره كما هو واضح.
3 - وفي صحيحة سليمان بن خالد، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل سرق سرقة
فكابر عنها فضرب، فجاء بها بعينها هل يجب عليه القطع؟ قال: " نعم. ولكن لو اعترف و
لم يجئ بالسرقة لم تقطع يده، لأنه اعترف على العذاب. " (3)
4 - وفي دعائم الإسلام، عن على (عليه السلام): " من أقر بحد على تخويف أو حبس أو ضرب
لم يجز ذلك عليه ولا يحد. " (4)

1 - الوسائل 18 / 497، الباب 7 من أبواب حد السرقة، الحديث 2.
2 - الوسائل 18 / 498، الباب 7 من أبواب حد السرقة، الحديث 3.
3 - الوسائل 18 / 497، الباب 7 من أبواب حد السرقة، الحديث 1.
4 - دعائم الإسلام 2 / 466، كتاب الحدود، الفصل 5 (ذكر القضايا في الحدود)، الحديث 1655.
378

5 - وفيه أيضا، عن على (عليه السلام): " أنه أتي برجل اتهم بسرقة - أظنه خاف عليه أن يكون
إذا سأله تهيب بسؤاله فأقر بما لم يفعل - فقال له على (عليه السلام): أسرقت؟ قل: لا، إن شئت، فقال:
لا. ولم تكن عليه بينة، فخلى سبيله. " (1) ورواهما عنه في المستدرك. (2)
6 - وفي مسند زيد بن علي: " حدثني زيد بن على، عن أبيه، عن جده، عن على (عليه السلام)،
قال: " لما كان في ولاية عمر أتى بامرأة حامل فسألها عمر، فاعترفت بالفجور، فأمر بها
عمر أن ترجم، فلقيها على بن أبي طالب، فقال: ما بال هذه؟ قالوا: أمر بها عمر أن ترجم،
فردها على (عليه السلام) فقال: أمرت بها أن ترجم؟ فقال: نعم، اعترفت عندي بالفجور، فقال
على (عليه السلام): هذا سلطانك عليها فما سلطانك على ما في بطنها؟ قال: ما علمت أنها حبلى.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إن لم تعلم فاستبرئ رحمها. ثم قال (عليه السلام): فلعلك انتهرتها أو
أخفتها؟ قال: قد كان ذلك، فقال: أوما سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " لأحد على معترف
بعد بلاء، إنه من قيدت أو حبست أو تهددت فلا إقرار له. " قال: فخلى عمر سبيلها ثم قال:
عجزت النساء أن تلد مثل على بن أبي طالب، لولا على لهلك عمر. " (3) وروى في
البحار، عن كشف الغمة، عن مناقب الخوارزمي، عن الزمخشري مرفوعا إلى الحسن نحو
ذلك. (4)
7 - وفي الجعفريات بسنده، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده أنه سئل عن
الرجل يقر على نفسه بقتل أو حد؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): " لا يجوز على رجل قود ولأحد
بإقرار بتخويف ولا حبس ولا بضرب ولا بقيد. " (5)

1 - دعائم الإسلام 2 / 469، كتاب السراق والمحاربين، الفصل 1، الحديث 1669.
2 - مستدرك الوسائل 3 / 236، الباب 7 من أبواب حد السرقة، الحديث 1 و 2.
3 - مسند زيد / 299، كتاب الحدود، باب حد الزاني.
4 - بحار الأنوار 40 / 277، تاريخ أمير المؤمنين (عليه السلام)، الباب 97 (باب قضاياه...)، الحديث 41.
5 - الجعفريات (المطبوع مع قرب الإسناد) / 122.
379

8 - وفي سنن أبي داود بسنده:
" إن قوما من الكلاعيين سرق لهم متاع، فاتهموا أناسا من الحاكة، فأتوا النعمان بن
بشير صاحب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فحسبهم أياما ثم خلى سبيلهم، فأتوا النعمان فقالوا: خليت
سبيلهم بغير ضرب ولا امتحان؟ فقال النعمان ما شئتم; إن شئتم أن أضربهم، فإن خرج
متاعكم فذاك وإلا أخذت من ظهوركم مثل ما أخذت من ظهورهم. فقالوا: هذا حكمك؟
فقال: هذا حكم الله وحكم رسوله. " (1) ورواه النسائي أيضا في سننه. (2)
والظاهر أن المشار اليه بلفظ: " هذا " هو القصاص إن ضرب، لا أصل جواز الضرب
فلا يعارض ما تقدم. ولا أقل من وجود الإجمال فيه، مضافا إلى عدم اعتمادنا على سنده،
فلاحظ.
9 - وفي كنز العمال عن ابن مسعود، قال:
" لا يحل في هذه الأمة التجريد ولا مد ولا غل ولا صفد. " (عب.) (3)
10 - وفي البحار، عن العلل، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " إن أول ما استحل الأمراء
العذاب لكذبة كذبها أنس بن مالك على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أنه سمر يد رجل إلى الحائط. "
ومن ثم استحل الأمراء العذاب. " (4)
11 - وفي كتاب " على إمام المتقين " لعبد الرحمان الشرقاوي:
" وضع الإمام (عليه السلام) أصولا كثيرة... من ذلك أنه نهى عن ضرب المتهم، ورفض الوصول
إلى الاعتراف من ضرب المتهم أو تعذيبه، في عصر جعل التعذيب أسلوبا

1 - سنن أبي داود 2 / 448، كتاب الحدود، باب في الامتحان بالضرب.
2 - سنن النسائي 8 / 66، كتاب قطع السارق، باب امتحان السارق بالضرب والحبس.
3 - كنز العمال 5 / 404، كتاب الحدود من قسم الأفعال، فصل في أحكامها، الحديث 13435.
4 - بحار الأنوار 76 / 203 (= طبعة إيران 79 / 203)، كتاب النواهي، الباب 94 (باب النهي عن
التعذيب...)، الحديث 1.
380

للتحقيق، وكان يقول في حماية ضمانات المتهم: " إن يثبت عليه الجرم بإقرار أو بينة
أقمت عليه الحد وإلا لم أعترضه. " (1)
أقول: ولعل المتتبع يعثر على أزيد من ذلك في هذا الباب.
وبالجملة، فتعزير المتهم وتعذيبه بمجرد الاحتمال مشكل. وترتيب الأثر على
الاعتراف المبتنى عليه أشكل.
وبما ذكرنا يظهر عدم جواز اعتماد الإمام والقضاة على أقارير المتهمين التي ينتزعها
بعض أجهزة التحقيق والتجسس بواسطة الحبس والتخويف والتعذيب والخداع و
أمثالها، وأنه لا قيمة لها في المحاكم الشرعية، فتدبر.
وفي دستور الجمهورية الإسلامية في إيران:
" يمنع أي نوع من التعذيب لانتزاع الاعتراف أو كسب المعلومات. ومن غير الجائز
إجبار الشخص على أداء الشهادة، أو الإقرار، أو اليمين. ومثل هذه الشهادة أو الإقرار أو
اليمين يكون فاقدا لقيمته واعتباره. المخالف لهذه المادة يجازى وفق القانون. " (2)
المسألة الثالثة:
الظاهر أنه يجوز حبس المتهم لكشف الحق أو أدائه في حقوق الناس ولا سيما الدم
مع احتمال فراره وعدم التمكن منه:
1 - ففي الوسائل بسند لا بأس به، عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " إن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يحبس في تهمة الدم ستة أيام; فإن جاء أولياء المقتول بثبت، وإلا خلى

1 - كتاب " على إمام المتقين " 2 / 369.
2 - دستور الجمهورية الإسلامية في إيران، المادة 38.
381

سبيله. " (1)
2 - وفي سنن الترمذي بسنده، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده: " ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
حبس رجلا في تهمة ثم خلى عنه. " (2) وروى نحوه أبو داود (3)
3 - وفي التراتيب الإدارية " ذكر بعضهم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سجن في المدينة في
تهمة. رواه عبد الرزاق والنسائي في مصنفيهما من طريق بهز بن حكيم، عن أبيه، عن
جده. وذكر أبو داود عنه في مصنفه، قال: " حبس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ناسا من قومي في تهمة
بدم. "... وفي غير المصنف عن عبد الرزاق بهذا السند: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حبس رجلا في
تهمة ساعة من نهار ثم خلى عنه. " (4)
4 - وفي دعائم الاسلام، عن على (عليه السلام) أنه قال: " لا حبس في تهمة إلا في دم. والحبس
بعد معرفة الحق ظلم. " (5) ورواه عنه في المستدرك. (6)
5 - وفي سنن البيهقي بسنده، عن أبي جعفر (عليه السلام) أن عليا (عليه السلام) قال: " إنما الحبس حتى
يتبين للإمام; فما حبس بعد ذلك فهو جور. " (7)
6 - وفي كتاب الغارات، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: " إني لا آخذ على التهمة، و
لا أعاقب على الظن، ولا أقاتل إلا من خالفني وناصبني وأظهر لي العداوة... " (8)
ورواه عنه ابن أبي الحديد (9)، والطبري في تاريخه. (10)

1 - الوسائل 19 / 121، الباب 12 من أبواب دعوى القتل، الحديث 1.
2 - سنن الترمذي 2 / 435، أبواب الديات، الباب 19، الحديث 1438.
3 - سنن أبي داود 2 / 282، كتاب الأقضية باب في الحبس في الدين وغيره.
4 - التراتيب الإدارية 1 / 296.
5 - دعائم الإسلام 2 / 539، كتاب آداب القضاة، الحديث 1916.
6 - مستدرك الوسائل 3 / 262، الباب 10 من أبواب دعوى القتل، الحديث 1.
7 - سنن البيهقي 6 / 53، كتاب التفليس، باب حبسه إذا اتهم...
8 - الغارات 1 / 371.
9 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3 / 148.
10 - تاريخ الطبري 6 / 3443.
382

7 - وفيه أيضا في قصة خروج الخريت بن راشد من بني ناجية على أمير المؤمنين (عليه السلام)
واعتراض عبد الله بن قعين عليه بعدم استيثاقه، قال: " فقلت: يا أمير المؤمنين (عليه السلام) فلم
لا تأخذه الآن فتستوثق منه؟ فقال (عليه السلام): إنا لو فعلنا هذا لكل من نتهمه من الناس ملأنا
السجون منهم. ولا أراني يسعني الوثوب على الناس والحبس لهم وعقوبتهم حتى
يظهروا لنا الخلاف. " (1) ورواه عنه ابن أبي الحديد. (2)
إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في هذا المجال، وستأتي في الطائفة الأولى من
الجهة الحادية عشرة من فصل السجون.
أقول: مقتضى الأصل الأولي عدم جواز التعرض للشخص بمجرد التهمة، فإنه مخالف
لحريته وسلطته على نفسه، ولأصالة البراءة. فالجواز يحتاج إلى دليل متقن. ومورد
معتبرة السكوني هو خصوص الدم فلا تدل على الجواز في غيره. ورواية بهز بن حكيم
على فرض صدورها قضية في واقعة خاصة فلا إطلاق لها ولا نعرف موردها، ولعل
المورد كان هو الدم. ومقتضى خبر الدعائم عدم الجواز في غير تهمة الدم. ومقتضى
روايتي الغارات عدم الجواز مطلقا اللهم إلا أن يقال: إن موردهما النشاطات السياسية
كما هو الظاهر. وكيف كان فجواز القبض والحبس بمجرد الاتهام في غير الدم في غاية
الإشكال. هذا.
ولكن يمكن أن يقال: إن حفظ نظام المسلمين وكيانهم، وكذلك حفظ أموالهم و
حقوقهم أمران مهمان عند الشارع وهما يتوقفان كثيرا على القبض على المتهمين و
حبسهم بداعي الكشف والتحقيق إذا كانوا في معرض الفرار. فالقول بعدم الجواز لذلك
يوجب ضياع الحقوق والأموال واختلال النظم، ولا سيما إذا غلب الفساد على الزمان و
أهله.
فالظاهر هو الجواز إذا كان الأمر مهما معتنى به بحيث يكون احتماله أيضا

1 - الغارات 1 / 335.
2 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3 / 129. وفيه: " بكل من يتهم " بدل " لكل من نتهمه "، و
" لي " بدل " لنا ".
383

منجزا عند العقلاء، ولكن مع رعاية الدقة والاحتياط وحفظ شؤون الأشخاص مهما
أمكن.
نعم، لا يجوز التعرض والحبس بمجرد الوهم والاتهامات الموهومة التافهة، وعلى
مثل هذا ينبغي أن يحمل بعض الأخبار المانعة. وأما خبر الدعائم فمضافا إلى عدم ثبوت
صدوره فالحصر فيه يمكن أن يكون إضافيا بالنسبة إلى هذا السنخ من الأمور أيضا، و
نظير ذلك كثير في المحاورات. فلعل الحبس بسبب الأمور الجزئية التافهة القابلة
للإغماض كان رائجا في تلك الأعصار كما في عصرنا أيضا فأريد نفيه.
وبالجملة، فالمقام من قبيل سائر موارد التزاحم التي يؤخذ فيها بأهم الأمرين. هذا.
ولكن بعد اللتيا والتي فإن القبض على المسلم وحبسه بمجرد الاتهام والاحتمال في
غير الدم لا يخلو من إشكال، لشدة اهتمام الشرع بحريم المسلمين وشؤونهم، اللهم إلا أن
يكون المورد في الأهمية في حد الدم، فتدبر.
قال المحقق في قصاص الشرائع:
" الرابعة: إذا اتهم والتمس الولي حبسه حتى يحضر ببينة ففي إجابته تردد، ومستند
الجواز ما رواه السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام): أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يحبس في تهمة الدم
ستة أيام، فإن جاء الأولياء بثبت وإلا خلى سبيله. وفي السكوني ضعف. " (1)
وعقب ذلك في الجواهر بقوله:
" يمنع من العمل به فيما خالف أصل البراءة وغيره، إذ هو تعجيل عقوبة لا مقتضى له، و
لذا كان خيرة الحلي والفخر وجده وغيرهم على ما حكى العدم.
وفي محكى المختلف: " التحقيق أن نقول: إن حصلت التهمة للحاكم بسبب لزم الحبس
ستة أيام، عملا بالرواية وتحفظا للنفوس عن الإتلاف، وإن حصلت لغيره فلا، عملا
بالأصل. "...
وعلى كل حال فلا يخلو العمل بالخبر المزبور هنا من قوة لاعتضاده بعمل من

1 - الشرائع 4 / 227، والرواية في الوسائل 19 / 121، الباب 12 من أبواب دعوى القتل.
384

عرفت، وحكاية الإجماع على العمل بأخبار الراوي المزبور...
نعم، الظاهر اختصاص الحكم بالقتل دون الجراح، اقتصارا فيما خالف الأصل على
المتيقن من الخبر المزبور. " (1)
المسألة الرابعة:
ما ذكرناه كله كان مع التهمة والاحتمال، وأما إذا علم الحاكم أنه يوجد عند الشخص
معلومات نافعة في حفظ النظام ورفع الفتنة، أو في تقوية الإسلام ورفع شر الأعداء، أو
في إحقاق حقوق المسلمين بحيث يحكم العقل والشرع بوجوب الإعلام عليه وكان
الوجوب بينا واضحا له أيضا، بحيث يعتقد هو أيضا بوجوبه وأهميته شرعا ولا يكون في
شبهة ولكنه مع ذلك يكتم الشهادة والإعلام عنادا وفرارا من الحق جاز حينئذ تعزيره
للكشف والإعلام فقط، من دون أن يترتب عليه المجازاة إلا مع علم الحاكم وجواز
حكمه بعلمه.
وذلك لما عرفت من جواز التعزير على ترك الواجب مطلقا، وقد قال الله - تعالى -:
" ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه. " (2)
ولعل ما ورد في بعض الروايات من التعذيب أو التهديد بداعي الكشف على فرض
صحتها كان من هذا القبيل، أي كان في صورة العلم باطلاع الشخص وكتمانه، أو كان من
جهة كونه مهدور الدم شرعا:
1 - فمن ذلك قصة كنانة بن أبي الحقيق، حيث صالح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أهل خيبر على
حقن دمائهم وترك جميع أموالهم للمسلمين، وكنز كنانة حلي آل أبي الحقيق وكتمها،
فلما ظهر الكنز وأخرج، أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الزبير بن العوام أن يعذب

1 - الجواهر 42 / 277 (= بتصحيح آخر ص 260).
2 - سورة البقرة (2)، الآية 283.
385

كنانة حتى يستخرج كل ما عنده، فعذبه الزبير حتى جاءه بزند يقدحه في صدره. (1)
2 - وفي سيرة ابن هشام: " انه (صلى الله عليه وآله وسلم) اتي بكنانة، وكان عنده كنز بني النضير، فسأله عنه
فجحد أن يكون يعرف مكانه... فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالخربة، فحفرت فأخرج منها بعض
كنزهم، ثم سأله عما بقي فأبى أن يؤديه، فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الزبير بن العوام، فقال: عذبه
حتى تستأصل ما عنده، فكان الزبير يقدح بزند في صدره حتى أشرف على نفسه، ثم
دفعه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى محمد بن مسلمة فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة. " (2) و
في تاريخ الطبري نحو ذلك. (3)
أقول: بعد ما صالحهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على أن يصير أموالهم للمسلمين صار الكنز من
أموالهم، وادعى كنانة أنه لم يبق منه شيء وأنه برئت منه ذمة الله وذمة رسوله وحل دمه
إن كان بقي منه شيء، فلما ظهر الكنز انكشف كذبه وصار بذلك حلال الدم، فلا يقاس
عليه المسلم المحقون دمه وحريمه، هذا مضافا إلى أن الظاهر حصول العلم بعلم كنانة و
كتمانه عنادا، فتدبر.
3 - وفي بدر أتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بغلامين وهو قائم يصلي، فقالا: نحن سقاة قريش
بعثونا نسقيهم من الماء، فكره القوم خبرهما ورجوا أن يكونا لأبي سفيان فضربوهما،
فلما أذلقوهما قالا: نحن لأبي سفيان فتركوهما، وركع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسجد سجدتيه ثم
سلم وقال: إذا صدقاكم ضربتموهما وإذا كذبا كم تركتموهما؟ صدقا، والله إنهما
لقريش. (4)
وروى نحوه البيهقي في سننه بسنده عن أنس (5)، والواقدي في المغازي (6).

1 - المغازي للواقدي 2 / 672.
2 - سيرة ابن هشام 3 / 351.
3 - تاريخ الطبري 3 / 1582.
4 - سيرة ابن هشام 2 / 268.
5 - سنن البيهقي 9 / 148، كتاب السير، باب الأسير يستطلع منه خبر المشركين.
6 - المغازي 1 / 52.
386

والاستدلال بالرواية مبنى على استفادة تقرير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأصل الضرب للكشف و
لكنه ممنوع، مضافا إلى عدم حرمة الغلامين لكونهما من أهل الحرب.
4 - وبعد ما كتب حاطب بن أبي بلتعة من المدينة كتابا إلى قريش يخبرهم بما أجمع
عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأعطاه امرأة تبلغه قريشا فجعلته في رأسها وفتلت عليه قرونها، و
أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الخبر من السماء بعث هو (صلى الله عليه وآله وسلم) علي بن أبي طالب والزبير، فخرجا
فأدركاها فالتمساه في رحلها فلم يجدا شيئا، فقال لها علي (عليه السلام): إني أحلف بالله ما كذب
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وما كذبنا، لتخرجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنك... (1)
ولا يخفى أن كشف المرأة وتجريدها في تلك الأعصار كان تعذيبا لها. هذا.
ويؤيد ذلك كله ما ورد من التعذيب أو التهديد في قبال ترك الفرائض والواجبات و
الاستنكاف عن الإتيان بها:
1 - ففي الوسائل، عن الرضا (عليه السلام)، عن آبائه، عن على (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" لي الواجد بالدين يحل عرضه وعقوبته ما لم يكن دينه فيما يكره الله - عز وجل -. " (2)
وفيه أيضا، عن حماد بن عثمان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " المولى إذا أبى أن يطلق،
قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يجعل له حظيرة من قصب ويجعله (يحسبه - التهذيب) فيها و
يمنعه من الطعام والشراب حتى يطلق. " (3)
2 - وفيه أيضا، عن تفسير علي بن إبراهيم، قال: روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه بنى
حظيرة من قصب وجعل فيها رجلا آلى من امرأته بعد أربعة أشهر وقال له: " إما أن ترجع
إلى المناكحة وإما أن تطلق، وإلا أحرقت عليك الحظيرة. " (4)

1 - راجع سيرة ابن هشام 4 / 41.
2 - الوسائل 13 / 90، الباب 8 من أبواب الدين والقرض، الحديث 4.
3 - الوسائل 15 / 545، الباب 11 من أبواب الإيلاء، الحديث 1.
4 - الوسائل 15 / 546، الباب 11 من أبواب الإيلاء، الحديث 6.
387

3 - وفيه أيضا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " لينتهين أقوام لا يشهدون الصلاة أو لآمرن مؤذنا يؤذن
ثم يقيم ثم آمر رجلا من أهل بيتي، وهو على، فليحرقن على أقوام بيوتهم بحزم الحطب
لأنهم لا يأتون الصلاة. " (1)
وقد مر في باب الحسبة موارد كثيرة من حسبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) أو
أمرهما بها وكان في كثير منها الضرب والتعذيب، فراجع. هذا.
وبالجملة، ففيما يرتبط بحفظ النظام وتقوية الإسلام وصيانة الحقوق يحكم العقل و
الشرع بوجوب الإعلام على من له علم واطلاع، فإذا علم الحاكم استنكاف الشخص عن
العمل بهذه الوظيفة المهمة جاز له تعزيره لذلك كسائر الواجبات الشرعية.
المسألة الخامسة:
قد كان ما ذكرناه في الحقوق العامة، وحقوق الناس المهمة. وأما في مثل الزنا و
اللواط وشرب الخمر ونحو ذلك من حقوق الله فلا يجب على المرتكب إظهارها، وليس
للحاكم أيضا تهديده أو تعزيره لذلك، بل الأولى في مثلها هو الستر والتوبة إلى الله -
عز وجل -. والأحاديث في هذا المجال كثيرة:
1 - ففي خبر أبي العباس، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رجل فقال: إني
زنيت (إلى أن قال) فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لو استتر ثم تاب كان خيرا له. " (2)
2 - وفي خبر الأصبغ بن نباتة، قال: " أتى رجل أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا
أمير المؤمنين، إني زنيت فطهرني، فأعرض عنه بوجهه، ثم قال له: اجلس، فقال:

1 - الوسائل 5 / 376، الباب 2 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 6.
2 - الوسائل 18 / 328، الباب 16 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 5.
388

أيعجز أحدكم إذا قارف هذه السيئة أن يستر على نفسه كما ستر الله عليه؟ فقام الرجل
فقال: يا أمير المؤمنين، إني زنيت فطهرني. فقال: وما دعاك إلى ما قلت؟ قال: طلب
الطهارة. قال: وأي طهارة أفضل من التوبة. ثم أقبل على أصحابه يحدثهم، فقام الرجل
فقال: يا أمير المؤمنين إني زنيت فطهرني. فقال له: أتقرأ شيئا من القرآن؟ قال: نعم. قال:
اقرأ، فقرأ فأصاب. فقال له: أتعرف ما يلزمك من حقوق الله في صلاتك وزكاتك؟ قال:
نعم. فسأله فأصاب. فقال له: هل بك مرض يعروك أو تجد وجعا في رأسك أو بدنك؟
قال: لا. قال: اذهب حتى نسأل عنك في السر كما سألناك في العلانية، فإن لم تعد إلينا
لم نطلبك... " (1)
3 - وفي مرسل البرقي، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث الزاني الذي أقر أربع مرات
أنه قال لقنبر: " احتفظ به، ثم غضب وقال: ما أقبح بالرجل منكم أن يأتي بعض هذه
الفواحش فيفضح نفسه على رؤوس الملأ! أفلا تاب في بيته؟ فوالله لتوبته فيما بينه وبين
الله أفضل من إقامتي عليه الحد. " (2)
4 - وفي حدود الموطأ لمالك، عن زيد بن أسلم، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " أيها
الناس، قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله. من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر
بستر الله، فإنه من يبدلنا صفحته نقم عليه كتاب الله. " (3) وروى نحوه الشيخ أيضا في
كتاب الإقرار وكتاب السرقة من المبسوط (4).
5 - وفي الموطأ أيضا بسنده، عن سعيد بن المسيب أنه قال: بلغني أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
قال لرجل من أسلم يقال له هزال: " يا هزال لو سترته بردائك لكان خيرا لك. " (5)

1 - الوسائل 18 / 328، الباب 16 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 6.
2 - الوسائل 18 / 327، الباب 16 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 2.
3 - الموطأ 2 / 169، كتاب الحدود، باب ما جاء فيمن اعترف على نفسه بالزنا.
4 - راجع المبسوط ج 3 / 2; و ج 8 / 40.
5 - الموطأ 2 / 166، كتاب الحدود، باب ما جاء في الرجم.
389

إلى غير ذلك من الروايات.
نعم، لو كان مع حق الله - تعالى - حق الناس أيضا. كما إذا ادعى عليه أنه لاط بغلام
مكرها له فجرحه، أو زنى بامرأة مكرها لها كان حكمه حكم ما سبق من حقوق الناس،
كما هو واضح.
وقد تحصل لك مما ذكرناه في المقام خمس مسائل:
الأولى: عدم جواز التعزير بمجرد الاتهام وأنه ظلم.
الثانية: عدم الاعتبار شرعا بالاعتراف المنتزع عن تعذيب.
الثالثة: جواز حبس المتهم لكشف الحق أو أدائه في حقوق الناس ولا سيما الدم
حذرا من الفرار.
الرابعة: جواز تعزير من يعلم الحاكم باطلاعه على معلومات مهمة نافعة في حفظ
النظام أو في إحقاق حقوق المسلمين.
الخامسة: عدم جواز ذلك في مثل الزنا وأمثاله من حقوق الله المحضة.
الجهة العاشرة
في إشارة إجمالية إلى فروع أخرى في المسألة:
لا يخفى أن هنا فروعا كثيرة تعرض لها الأصحاب في كتاب الحدود، والظاهر اتحاد
حكم الحدود والتعزيرات في أكثرها. والبحث فيها هنا بالتفصيل لا يناسب وضع هذا
الكتاب، فلنذكر بعض الروايات الواردة فيها ونحيل التفصيل إلى الكتب الفقهية الباحثة
في مسائل الحدود. ونوصي قضاة المحاكم الإسلامية ومنفذي الأحكام فيها إلى
الالتفات إلى هذه الروايات، وإلى ما مر منا في مبحث السلطة القضائية من آداب الحكم
والقضاء:
390

الأول - ليس في الحدود بعد ثبوتها نظر ساعة:
1 - روى السكوني، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن على (عليه السلام)، قال: " ليس في
الحدود نظر ساعة. " (1)
2 - وروى الصدوق، عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: " إذا كان في الحد لعل أو عسى فالحد
معطل. " (2)
الثاني - الحدود تدرأ بالشبهات ولا شفاعة ولا يمين فيها:
1 - عن الصدوق (قدس سره)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ادرؤوا الحدود بالشبهات. ولا شفاعة
ولا كفالة ولا يمين في حد. " (3)
2 - وروى الترمذي بسنده، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما
استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام ان يخطئ في العفو خير من أن
يخطئ في العقوبة. " (4)
3 - وفي سنن ابن ماجة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ادفعوا الحدود
ما وجدتم له مدفعا. " (5)
4 - وفي خبر مثنى الحناط، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأسامة بن
زيد: " لا يشفع في حد. " (6)

1008 - الوسائل 18 / 336، الباب 25 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1 و 2.
1009 - الوسائل 18 / 336، الباب 25 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1 و 2.
3 - الوسائل 18 / 336، الباب 24 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 4.
4 - سنن الترمذي 2 / 438، أبواب الحدود الباب 2، الحديث 1447.
5 - سنن ابن ماجة 2 / 850، كتاب الحدود، الباب 5 (باب الستر على المؤمن...)، الحديث 2545.
6 - الوسائل 18 / 333، الباب 20 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 2.
391

5 - وروى السكوني بسند معتبر، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام):
" لا يشفعن أحد في حد إذا بلغ الإمام، فإنه لا يملكه. واشفع فيما لم يبلغ الإمام إذا رأيت
الندم. واشفع عند الإمام في غير الحد مع الرجوع من المشفوع له. ولا يشفع في حق
امرئ مسلم ولاغيره إلا بإذنه. " (1)
وفي عدم جواز الشفاعة في الحد أخبار أخر أيضا، فراجع.
6 - وفي خبر إسحاق بن عمار، عن جعفر بن محمد، عن أبيه (عليه السلام): " ان رجلا استعدى
عليا (عليه السلام) على رجل فقال: إنه افترى على فقال على (عليه السلام) للرجل: أفعلت ما فعلت؟ فقال: لا،
ثم قال على (عليه السلام) للمستعدي ألك بينة؟ قال: فقال: مالي بينة فأحلفه لي، قال على (عليه السلام): ما
عليه يمين. " (2)
الثالث - حرمة ضرب المسلم بغير حق وعند الغضب، ووجوب الدفاع عن
المظلوم:
1 - روي السكوني بسند معتبر، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن
أبغض الناس إلى الله - عز وجل - رجل جرد ظهر مسلم بغير حق. " (3)
2 - وفي مرسل بن أسباط: " نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الأدب عند الغضب. " (4)
3 - وفي موثقة مسعدة بن صدقة، عن جعفر، عن أبيه (عليه السلام)، قال: " لا يحضرن أحدكم
رجلا يضربه سلطان جائر ظلما وعدوانا، ولا مقتولا ولا مظلوما إذا لم ينصره، لأن نصرة
المؤمن على المسلم فريضة واجبة إذا هو حضره، والعافية أوسع ما لم تلزمك الحجة
الظاهرة. " (5)

1 - الوسائل 18 / 333، الباب 20 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 4.
2 - الوسائل 18 / 335، الباب 24 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 3.
3 - الوسائل 18 / 336، الباب 26 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1.
4 - الوسائل 18 / 337، الباب 20 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 2.
5 - الوسائل 18 / 313، الباب 4 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1.
392

4 - وفي المستدرك، عن دعائم الإسلام، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " ظهر المؤمن حمى
الله إلا من حد. " (1)
5 - وفيه أيضا، عن الدعائم، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه كتب إلى رفاعة: " دار عن
المؤمنين ما استطعت، فإن ظهره حمى الله، ونفسه كريمة على الله، وله يكون ثواب الله،
وظالمه خصم الله فلا يكون خصمك. " (2)
6 - وفيه أيضا، عن مناقب ابن شهرآشوب، عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: لما أدرك
عمرو بن عبد ود لم يضربه فوقع في على (عليه السلام) فرد عنه حذيفة فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): مه يا
حذيفة، فإن عليا سيذكر سبب وقفته. ثم إنه ضربه، فلما جاء سأله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك،
فقال: " قد كان شتم أمي وتفل في وجهي، فخشيت أن أضربه لحظ نفسي، فتركته حتى
سكن ما بي ثم قتلته في الله. " (3)
الرابع - في عفو الإمام عن الحدود والتعزيرات:
1 - خبر ضريس الكناسي، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " لا يعفي عن الحدود التي لله دون
الإمام. فأما ما كان من حق الناس في حد فلا بأس بأن يعفى عنه دون الإمام. " (4)
والسند إلى ضريس صحيح. وضريس الكناسي مجهول الحال، اللهم إلا أن يجبر ذلك
بأن ابن محبوب في السند وهو من أصحاب الاجماع.
وما يكون الخبر في مقام بيانه هو عقد السلب، أعني عدم جواز عفو غير الإمام
لحقوق الله، لا عقد الإيجاب أعني جواز عفو الإمام له. نعم، هو مفهوم الكلام إجمالا و
لكن لا إطلاق له، فيمكن أن يحمل على خصوص صورة الإقرار بقرينة الأخبار

1 - مستدرك الوسائل 3 / 220، الباب 23 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 2.
2 - مستدرك الوسائل 3 / 220، الباب 23 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 3.
3 - مستدرك الوسائل 3 / 220، الباب 23 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 5.
4 - الوسائل 18 / 331، الباب 18 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1.
393

الأخر. وعلى فرض الاطلاق أيضا يجب تقييده بها.
2 - مرسل البرقي عن بعض الصادقين (عليه السلام) قال: " جاء رجل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فأقر
بالسرقة، فقال له: أتقرأ شيئا من القرآن؟ قال: نعم، سورة البقرة. قال: قد وهبت يدك
لسورة البقرة. قال: فقال الأشعث: أتعطل حدا من حدود الله؟ ما يدريك ما هذا؟ إذا
قامت البينة فليس للإمام أن يعفو، وإذا أقر الرجل على نفسه فذاك إلى الإمام: إن شاء عفا
وإن شاء قطع. " (1)
ونحوه خبر طلحة بن زيد، عن جعفر بن محمد (عليه السلام).
والسند إلى طلحة صحيح. وطلحة وإن كان بتريا على ما قيل ولكن قال الشيخ إن
كتابه معتمد. (2)
ومفاد الخبر هو التفصيل بين البينة وبين الإقرار. وأفتى بذلك الشيخ في النهاية، كما
يأتي.
3 - وعن تحف العقول، عن أبى الحسن الثالث (عليه السلام) في حديث قال: " وأما الرجل الذي
اعترف باللواط فإنه لم يقم عليه البينة، وإنما تطوع بالإقرار من نفسه. وإذا كان للإمام
الذي من الله أن يعاقب عن الله كان له أن يمن عن الله. أما سمعت قول الله: " هذا عطاؤنا
فامنن أو أمسك بغير حساب. " (3)
وظاهر الرواية أيضا هو التفصيل، وإن كان المترائي من التعليل المستفاد من الكلام
الأخير جواز العفو في كلتا الصورتين. هذا.
وأما الأقوال في المسألة فقال المفيد في المقنعة
" ومن زنى وتاب قبل أن تقوم الشهادة عليه بالزنا درأت عنه التوبة الحد، فإن تاب
بعد قيام الشهادة عليه كان للإمام الخيار في العفو عنه أو إقامة الحد عليه - حسب

1023 - الوسائل 18 / 331، الباب 18 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 3.
2 - الفهرست للشيخ 86 / (= ط. أخرى / 112).
3 - الوسائل 18 / 331، الباب 18 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 4.
394

ما يراه من المصلحة في ذلك له ولأهل الإسلام - فإن لم يتب لم يجز العفو عنه في الحد
بحال. " (1)
وقال الشيخ في النهاية:
" ومن زنى وتاب قبل قيام البينة عليه بذلك درأت التوبة عنه الحد. فإن تاب بعد قيام
الشهادة عليه وجب عليه الحد ولم يجز للإمام العفو عنه. فإن كان أقر على نفسه عند
الإمام ثم أظهر التوبة كان للإمام الخيار في العفو عنه أو إقامة الحد عليه حسب ما يراه من
المصلحة في ذلك. ومتى لم يتب لم يجز للإمام العفو عنه على حال. " (2)
وقال أبو الصلاح الحلبي في الكافي:
" فإن تاب الزاني أو الزانية قبل قيام البينة عليه، وظهرت توبته وحمدت طريقته سقط
عنه الحد. وإن تاب بعد قيام البينة فالإمام العادل مخير بين العفو والإقامة، وليس ذلك
لغيره إلا بإذنه. وتوبة المرء سرا أفضل من إقراره ليحد. " (3)
وقال ابن زهرة في الغنية:
" وإن تاب بعد ثبوت الزنا عليه فللإمام العفو عنه، وليس ذلك لغيره. " (4)
فموضوع العفو عند المفيد الثبوت بالشهادة وعند الحلبي الثبوت بالبينة، وعند الشيخ
الثبوت بالاقرار، وعند ابن زهرة مطلق. ولعل المفيد والحلبي أيضا قائلان بالإطلاق، إذ
لو جاز العفو عند البينة جاز عند الإقرار بطريق أولى، بل يمكن أن يقال: إن الشهادة في
كلام المفيد تعم البينة والإقرار، فإن الإقرار أيضا شهادة ولكنها على النفس..
وجميعهم اشترطوا التوبة، وظاهرهم عدم جواز العفو بدونها. وليس في الروايات
التي مرت اسم منها، اللهم إلا أن يقال إن الظاهر من المقر تطوعا أنه تاب وإلا

1 - المقنعة / 123.
2 - النهاية / 696.
3 - الكافي / 407.
4 - الجوامع الفقهية / 560.
395

لم يقر، مضافا إلى عدم الوجه للعفو مع إصرار المرتكب وعدم توبته.
ولكن كلا الوجهين ممنوعان، إذ لعل عمله كان في معرض الثبوت بالشهادة فأقر
برجاء العفو أو التخفيف، ولعل الإمام رأى أن عفوه يوجب حسن ظنه بالإسلام فيعود إلى
الإسلام وتكاليفه أو أنه توقع منه عملا مهما نافعا للإسلام والمسلمين فيعفو عنه وإن
لم يتب ترغيبا له في هذا العمل.
وكيف كان فمقتضى الجمع بين الروايات في المقام هو التفصيل بين ما ثبت بالبينة، و
ما ثبت بالإقرار. ولو أجزنا إجراء الحدود بعلم الحاكم فهل يلحق ذلك بالبينة أو بالإقرار؟
وجهان. ولعل المستفاد من عموم التعليل في رواية تحف العقول جواز العفو فيه أيضا،
فتدبر.
والمقصود بالإمام في أمثال المقام هو المتصدي للحكومة الحقة العادلة في كل عصر
وزمان، لا خصوص الإمام المعصوم. وذلك واضح لكل من ثبت له بما حققناه في هذا
الكتاب لزوم وجود الحكومة وضرورتها في جميع الأعصار، ويطلق على قائد
المسلمين في كل عصر لفظ الإمام، فراجع المباحث السابقة.
ثم إن الظاهر أن مورد عفو الإمام هو الحدود التي تكون لله وليس فيها حق الناس، و
أما الحد الذي يغلب عليه جانب حق الناس كحد القذف فالعفو فيه دائر مدار عفو من له
الحق. ووجهه واضح، فتدبر.
العفو عن التعزيرات:
هذا كله في الحدود الشرعية المقدرة. وأما التعزيرات المفوضة إلى الإمام والحاكم
فإن كانت في قبال حق الناس فالظاهر أن العفو فيها أيضا دائر مدار عفو من له الحق. و
أما ما كانت في قبال حقوق الله - تعالى - فالمستفاد من إطلاق الآيات والروايات
الكثيرة الواردة في العفو والإغماض، ومن سيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) و
غيرهما جواز عفو الإمام عنها إذا رآه صلاحا ولم يوجب تجري المرتكب:
396

1 - قال الله - تبارك وتعالى -: " والكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس، والله يحب
المحسنين. " (1)
2 - وقال: " ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم، فاعف عنهم واصفح، إن
الله يحب المحسنين. " (2)
3 - وقال: " خذ العفو، وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين. " (3)
4 - وقال: " فاصفح الصفح الجميل. " (4)
5 - وقال: " ادفع بالتي هي أحسن السيئة. نحن أعلم بما يصفون. " (5)
6 - وقال: " واصبر على ما يقولون، واهجرهم هجرا جميلا. " (6)
7 - وفي أصول الكافي بسنده، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " عليكم بالعفو، فإن العفو لا يزيد العبد إلا عزا، فتعافوا يعزكم الله. " (7)
8 - وفيه بسنده، عن حمران، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " الندامة على العفو أفضل وأيسر
من الندامة على العقوبة. " (8)
9 - وفيه أيضا بسنده، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، اتي
باليهودية التي سمت الشاة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال لها: ما حملك على ما صنعت؟

1 - سورة آل عمران (3)، الآية 134.
2 - سورة المائدة (5)، الآية 13.
3 - سورة الأعراف (7)، الآية 199.
4 - سورة الحجر (15)، الآية 85.
5 - سورة المؤمنين (23)، الآية 96.
6 - سورة المزمل (73)، الآية 10.
7 - الكافي 2 / 108، كتاب الإيمان والكفر، باب العفو، الحديث 5.
8 - الكافي 2 / 108، كتاب الإيمان والكفر، باب العفو، الحديث 6.
397

فقالت: قلت: إن كان نبيا لم يضره، وإن كان ملكا أرحت الناس منه، قال: فعفا
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنها. " (1)
10 - وفي نهج البلاغة في كتابه (عليه السلام) للأشتر النخعي لما ولاه مصر: " وأشعر قلبك
الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم.
فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق. يفرط منهم الزلل وتعرض لهم
العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي
تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه. فإنك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، والله
فوق من ولاك... ولا تندمن على عفو، ولا تبجحن بعقوبة. " (2)
11 - وفيه أيضا: " أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة. " (3)
12 - وفيه أيضا: " أقيلوا ذوي المروءات عثراتهم. فما يعثر منهم عاثر إلا ويد الله
بيده يرفعه. " (4)
ونحوه في الغرر والدرر. (5) وقد مر في آخر الجهة الأولى قريب من ذلك أيضا عن
الدعائم، وعن أبي داود، فراجع. (6)
13 - وفي شرح ابن أبي الحديد: " وحار به أهل البصرة، وضربوا وجهه ووجوه أولاده
بالسيوف، وشتموه ولعنوه. فلما ظفر بهم رفع السيف عنهم ونادى مناديه في أقطار العسكر:
ألا لا يتبع مول ولا يجهز على جريح ولا يقتل مستأسر. ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن
تحيز إلى عسكر الإمام فهو آمن. ولم يأخذ أثقالهم، ولا سبى ذراريهم ولا غنم شيئا من
أموالهم. ولو شاء أن يفعل كل ذلك لفعل، ولكنه أبي إلا الصفح والعفو. وتقيل سنة
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم

1 - الكافي 2 / 108، كتاب الإيمان والكفر، باب العفو، الحديث 9.
2 - نهج البلاغة، فيض / 993; عبده 3 / 93 - 94; لح 427 - 428، الكتاب 53.
3 - نهج البلاغة، فيض / 1112; عبده 3 / 164; لح 478، الحكمة 52.
4 - نهج البلاغة، فيض / 1095; عبده 3 / 155; لح 471، الحكمة 19.
5 - الغرر والدرر 2 / 260، الحديث 2550.
6 - راجع ص 313 من الكتاب.
398

فتح مكة، فإنه عفا والأحقاد لم تبرد والإساءة لم تنس. " (1)
أقول: تقيل زيد أباه: أشبهه.
14 - وفي الخصال، عن علي بن الحسين (عليه السلام) في رسالة الحقوق: " وأما حق رعيتك
بالسلطان فأن تعلم أنهم صاروا رعيتك لضعفهم وقوتك، فيجب أن تعدل فيهم وتكون لهم
كالوالد الرحيم، وتغفر لهم جهلهم ولا تعاجلهم بالعقوبة وتشكر الله - عز وجل - على ما
آتاك من القوة عليهم. " (2)
15 - وفي تحف العقول، عن الإمام الصادق (عليه السلام): " ثلاثة تجب على السلطان للخاصة و
العامة: مكافأة المحسن بالإحسان ليزدادوا رغبة فيه، وتغمد ذنوب المسئ ليتوب و
يرجع عن غيه، وتألفهم جميعا بالإحسان والإنصاف. " (3)
16 - وفي البحار، عن مصباح الشريعة، قال الصادق (عليه السلام): العفو عند القدرة من سنن
المرسلين والمتقين. وتفسير العفو أن لا تلزم صاحبك فيما أجرم ظاهرا وتنسى من
الأصل ما أصبت منه باطنا، وتزيد على الاختيارات إحسانا. " (4)
17 - وفي الغرر والدرر للآمدي، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " العفو زكاة القدرة. " (5)
18 - وفيه أيضا: " المبادرة إلى العفو من أخلاق الكرام. " (6)
19 - وفيه: " أقل العثرة، وادرء الحد، وتجاوز عما لم يصرح لك به. " (7)

1 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 / 23.
2 - الخصال / 567 (الجزء 2).
3 - تحف العقول / 319.
4 - بحار الأنوار 68 / 423 (= طبعة إيران 71 / 423، كتاب الإيمان والكفر - مكارم الأخلاق،
الباب 93، الحديث 62.
5 - الغرر والدرر 1 / 230، الحديث 924.
6 - الغرر والدرر 2 / 4، الحديث 1566.
7 - الغرر والدرر 2 / 197، الحديث 2364.
399

20 - وفيه: " تجاوز عن الزلل وأقل العثرات ترفع لك الدرجات. " (1)
21 - وفيه: " لا تعاجل الذنب بالعقوبة، واترك بينهما للعفو موضعا تحرز به الأجر و
المثوبة. " (2)
22 - وفيه: " اقبل أعذار الناس تستمع بإخائهم، وألقهم بالبشر تمت أضغانهم. " (3)
23 - وفيه: " أعرف الناس بالله أعذرهم للناس وإن لم يجد لهم عذرا. " (4)
24 - وفيه: " شر الناس من لا يقبل العذر ولا يقيل الذنب. " (5)
25 - وفيه: " قبول عذر المجرم من مواجب الكرم ومحاسن الشيم. " (6)
26 - وفيه: " ما أقبح العقوبة مع الاعتذار. " (7)
27 - وفيه: " شر الناس من لا يعفو عن الزلة ولا يستر العورة. " (8)
28 - وفيه: " المروءة العدل في الإمرة، والعفو مع القدرة، والمواساة في العشرة. " (9)
29 - وفيه: " جمال السياسة العدل في الإمرة، والعفو مع القدرة. " (10)

1 - الغرر والدرر 3 / 314، الحديث 4566.
2 - الغرر والدرر 6 / 306، الحديث 10343.
3 - الغرر والدرر 2 / 215، الحديث 2420.
4 - الغرر والدرر 2 / 444، الحديث 3230.
5 - الغرر والدرر 4 / 165، الحديث 5685.
6 - الغرر والدرر 4 / 517، الحديث 6815.
7 - الغرر والدرر 6 / 68، الحديث 9541.
8 - الغرر والدرر 4 / 175، الحديث 5735.
9 - الغرر والدرر 2 / 142، الحديث 2112.
10 - الغرر والدرر 3 / 375، الحديث 4792.
400

30 - وفيه: " ظفر الكرام عفو وإحسان. ظفر اللئام تجبر وطغيان. " (1)
31 - وفيه: " عند كمال القدرة تظهر فضيلة العفو. " (2)
32 - وفيه: " كفى بالظفر شافعا للمذنب. " (3)
33 - وفيه: " من عفا عن الجرائم فقد أخذ بجوامع الفضل. " (4)
34 - وفيه: " من الدين التجاوز عن الجرم. " (5)
35 - وفيه: " جاز بالحسنة وتجاوز عن السيئة ما لم يكن ثلما في الدين أو وهنا في
سلطان الإسلام. " (6)
36 - وفيه: " لا يقابل مسيء قط بأفضل من العفو عنه. " (7)
37 - وفيه: " رب ذنب مقدار العقوبة عليه إعلام المذنب به. " (8) وقد مر.
38 - وفي البحار، عن الحسن بن على (عليه السلام): " لا تعاجل الذنب بالعقوبة واجعل بينهما
للاعتذار طريقا. " (9) هذا.
والأخبار في هذا المجال كثيرة جدا يعثر عليها المتتبع في مظانها.

1 - الغرر والدرر 4 / 273 - 274، الحديث 6044 و 6045.
2 - الغرر والدرر 4 / 324، الحديث 6215.
3 - الغرر والدرر 4 / 579، الحديث 7052.
4 - الغرر والدرر 5 / 307، الحديث 8499.
5 - الغرر والدرر 6 / 37، الحديث 9400.
6 - الغرر والدرر 3 / 373، الحديث 4788.
7 - الغرر والدرر 6 / 427، الحديث 10880.
8 - الغرر والدرر 4 / 73، الحديث 5342.
9 - بحار الأنوار 75 / 115 (= طبعة إيران 78 / 115)، كتاب الروضة، الباب 19 (باب مواعظ
الحسن (عليه السلام))، الحديث 11.
401

39 - وفي سنن البيهقي بسنده، عن ابن مسعود أن رجلا أصاب من امرأة قبلة فأتى
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فذكر ذلك له فأنزلت: " وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل، إن
الحسنات يذهبن السيئات، ذلك ذكرى للذاكرين. " (1) قال الرجل: يا رسول الله، ألي
هذه؟ قال: " لمن عمل بها من أمتي. " رواه البخاري في الصحيح عن مسدد، وأخرجه
مسلم عن أبي كامل وغيره (2).
40 - وفيه أيضا بسنده، عن عبد الله، قال: جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا
رسول الله، إني عالجت امرأة في أقصى المدينة، وإني أصبت منها ما دون أن أمسها. فأنا
هذا، فاقض في ما شئت. فقال له عمر: لقد سترك الله لو سترت نفسك. قال: ولم يرد عليه
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) شيئا، فقام الرجل فانطلق، فأتبعه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رجلا دعاه، فتلا عليه هذه الآية:
" أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل، إن الحسنات يذهبن السيئات. ذلك ذكرى
للذاكرين. " فقال رجل من القوم: يا نبي الله، هذا له خاصة؟ قال: بل للناس كافة. رواه
مسلم في الصحيح (3)
أقول: ويستفاد من هذين الحديثين رجحان العفو بالنسبة إلى من كان متدينا ملازما
للصلوات، ولعل المراد بذوي الهيئات في الحديث السابق أيضا أهل الدين والفضائل و
السوابق الحسنة، لا أهل الملابس والأموال والميزات الكاذبة. ويشهد لذلك خبر سيف
بن عميرة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " أجيزوا (أقيلوا خ. ل) لأهل المعروف عثراتهم. " (4)
ومن موارد العفو بالسوابق الحسنة قصة حاطب بن أبي بلتعة، الذي أرسل كتابا إلى
قريش يخبرهم بما أجمع عليه رسول الله من الوقوع عليهم بغتة، فعفا

1 - سورة هود (11)، الآية 114.
2 - سنن البيهقي 8 / 241، كتاب الحدود، باب من أصاب ذنبا دون الحد ثم تاب...
3 - سنن البيهقي 8 / 241، كتاب الحدود، باب من أصاب ذنبا دون الحد ثم تاب...
4 - الوسائل 11 / 535، الباب 6 من أبواب فعل المعروف، الحديث 3.
402

عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بسابقة كونه بدريا، فقال: " قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على أهل
بدر. " (1) هذا.
وبالجملة، فيصح العفو بل يستحسن فيما إذا كان التعزير لحق الله - تعالى -، وكان
الشخص صالحا للعفو والإغماض. وأما إذا كان لحق آدمي فهل يجوز عفو الحاكم بدون
إذن من له الحق أم لا؟ وجهان بل قولان. وإن استظهرنا نحن عدم العفو فيها ما لم يتجاوز
صاحب الحق، اللهم إلا في المعارك العامة.
قال الماوردي في الأحكام السلطانية في وجوه الفرق بين الحد والتعزير:
" الوجه الثاني أن الحد وإن لم يجز العفو عنه ولا الشفاعة فيه فيجوز في التعزير العفو
عنه وتسوغ الشفاعة فيه. فإن تفرد التعزير بحق السلطنة وحكم التقويم، ولم يتعلق به
حق الآدمي جاز لولي الأمر أن يراعي الأصلح في العفو أو التعزير، وجاز أن يشفع فيه
من سأل العفو عن المذنب. روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " اشفعوا إلى ويقضي الله على
لسان نبيه ما يشاء. "
ولو تعلق بالتعزير حق لآدمي كالتعزير في الشتم والمواثبة، ففيه حق للمشتوم و
المضروب وحق السلطنة للتقويم والتهذيب. فلا يجوز لوالي الأمر أن يسقط بعفوه حق
المشتوم والمضروب، وعليه أن يستوفي له حقه من تعزير الشاتم والضارب، فإن عفا
المضروب والمشتوم كان ولى الأمر بعد عفوهما على خياره في فعل الأصلح من التعزير
تقويما والصفح عنه عفوا.
فان تعافوا عن الشتم والضرب قبل الترافع اليه سقط التعزير الآدمي، واختلف في
سقوط حق السلطنة عنه والتقويم على الوجهين... " (2)
وفي الباب الخمسين من معالم القربة:
" وإن رأى الإمام أو نائبه ترك التعزير جاز. هذا نقل الشيخ أبي حامد. من غير فرق
بين أن يتعلق به حق آدمي أو لا يتعلق، لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أقيلوا ذوي الهيئات

1 - سنن أبي داود 2 / 45، كتاب الجهاد، باب في حكم الجاسوس إذا كان مسلما.
2 - الأحكام السلطانية / 237.
403

عثراتهم إلا في الحدود. " وأدنى درجات الأمر الإباحة، لأنه ضرب غير محدود
فلم يكن واجبا كضرب الزوجة.
وقال في المهذب: ليس له تركه إذا تعلق به حق الآدمي. وقال الغزالي: إذا تعلق به
حق الآدمي فليس له الإهمال مع الطلب، لكن هل يجوز الاقتصار على التوبيخ باللسان؟
فيه وجهان. وعلى المتولي أن يستوفي له حقه من تعزير الشاتم والضارب; فإن عفا
المشتوم أو المضروب كان ولى الأمر بعد عفوهما على خياره في فعل المصلحة وتعزيره
تقويما، لأن التقويم من حقوق المصالح العامة، أو الصفح عنه عفوا. فإن تعافوا عن الشتم
والضرب قبل الترافع اليه سقط من التعزير حق الآدمي. " (1)
أقول: ومما يدل على جواز العفو أيضا استقرار سيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) على
العفو والإغماض في كثير من موارد التخلف الموجبة للتعزير، كما يظهر ذلك لمن تتبع
التاريخ.
فإن قلت: إذا كان للإمام ونائبه العفو في التعزيرات مطلقا أو فيما كان لحق الله -
تعالى - فما هو المحمل للروايات والفتاوى الظاهرة في الوجوب، ولا سيما ما عبر فيها
بلفظ الوجوب؟
قلت: يتعين لا محالة حمل الوجوب على مفهومه اللغوي، أعني الثبوت، أو يراد به
الوجوب بحسب طبع الفعل مع قطع النظر عن كون المحل محلا للإغماض والعفو. و
يسمى وجوبا اقتضائيا. كما قد يشعر بذلك لفظ العفو أيضا، أو يراد به موارد كون الحق
للآدمي إذا لم يرض بعفوه، فتدبر.
الخامس - لا تضرب الحدود في شدة الحر أو البرد:
1 - ما رواه الكليني بسنده، عن هشام بن أحمر، عن العبد الصالح (عليه السلام)، قال:

1 - معالم القربة / 192، (= ط. مصر / 286).
404

كان جالسا في المسجد وأنا معه، فسمع صوت رجل يضرب صلاة الغداة في يوم
شديد البرد، فقال: ما هذا؟ قالوا: رجل يضرب. فقال: " سبحان الله، في هذه الساعة؟ إنه
لا يضرب أحد في شيء من الحدود في الشتاء إلا في أحر ساعة من النهار، ولا في
الصيف إلا في أبرد ما يكون من النهار. " (1)
2 - ما رواه بسنده، عن أبي داود المسترق، عن بعض أصحابنا، قال: مررت مع أبي
عبد الله (عليه السلام) وإذا رجل يضرب بالسياط. فقال أبو عبد الله (عليه السلام): " سبحان الله، في مثل هذا
الوقت يضرب؟ " قلت له: وللضرب حد؟ قال: نعم، إذا كان في البرد ضرب في حر النهار،
وإذا كان في الحر ضرب في برد النهار. " ورواهما الشيخ أيضا. (2)
3 - ما رواه بسنده، عن سعدان بن مسلم، عن بعض أصحابنا، قال: خرج أبو الحسن (عليه السلام)
في بعض حوائجه فمر برجل يحد في الشتاء، فقال: " سبحان الله، ما ينبغي هذا. " فقلت: و
لهذا حد؟ قال: نعم، ينبغي لمن يحد في الشتاء أن يحد في حر النهار، ولمن حد في
الصيف أن يحد في برد النهار. " (3)
أقول: إطلاق الروايات يشمل جميع الحدود حتى حد الزنا الذي يطلب فيه الشدة. و
ظاهر الروايتين الأوليين الحرمة، وربما تحملان على الكراهة بقرينة لفظ " ينبغي " في
الأخيرة. ولكن نقول إن اللفظ بحسب اللغة لا ينافي الحرمة. نظير لفظ الكراهة في اللغة و
إن صارا في اصطلاحنا ظاهرين في الكراهة الاصطلاحية. هذا مضافا إلى احتمال اتحاد
الواقعة في الأولى والأخيرة، فتكون إحديهما أو كلاهما نقلا بالمعنى، فتدبر.
قال في الجواهر:
" ثم إن ظاهر النص والفتوى كما اعترف به في المسالك كون الحكم على الوجوب

1 - الوسائل 18 / 315، الباب 7 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1.
2 - الوسائل 18 / 315، الباب 7 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 2.
3 - الوسائل 18 / 316، الباب 7 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 3.
405

دون الندب. وحينئذ فلو أقامه على غير الوجه المزبور ضمن. " (1) هذا.
والظاهر استفادة حكم الضرب التعزيري أيضا من هذه الروايات بالمناط والأولوية،
كما لا يخفى.
السادس - لا تجري الحدود على من به قروح أو يكون مريضا حتى تبرأ، أو
يرفق به في الضرب:
1 - روى الكليني بسنده، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " أتي
أمير المؤمنين (عليه السلام) برجل أصاب حدا وبه قروح في جسده كثيرة، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام):
أقروه حتى تبرأ. لا تنكؤوها (2) عليه فتقتلوه. " ورواه الصدوق أيضا (3).
2 - وروى بسنده، عن أبي العباس، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: أتي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
برجل دميم قصير قد سقى بطنه وقد درت عروق بطنه قد فجر بامرأة، فقالت المرأة: ما
علمت به إلا وقد دخل على. فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أزنيت؟ فقال له: نعم - ولم يكن
أحصن - فصعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بصره وخفضه، ثم دعا بعذق فقده مأة، ثم ضربه
بشماريخه. " (4)
3 - وفي موثقة سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، عن أبيه، عن آبائه - عليهم السلام -، عن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) " أنه أتي برجل كبير البطن قد أصاب محرما، فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعرجون
فيه مأة شمراخ، فضربه مرة واحدة، فكان الحد. " (5)
4 - وروى الصدوق بإسناده، عن موسى بن بكر، عن زرارة، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام):
" لو أن رجلا أخذ حزمة من قضبان أو أصلا فيه قضبان فضربه ضربة واحدة

1 - الجواهر 41 / 344.
2 - نكأ القرحة: قشرها قبل أن تبرأ.
3 - الوسائل 18 / 321، الباب 13 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 4.
4 - الوسائل 18 / 322، الباب 13 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 5.
5 - الوسائل 18 / 322، الباب 13 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 7.
406

أجزأه عن عدة ما يريد أن يجلد من عدة القضبان. " (1)
وفي هذا الباب روايات أخر أيضا تقرب مضامينها مما ذكر فراجع.
أقول: حمل الأصحاب روايات الشماريخ على المريض الذي لا يرجى شفاؤه أو
اقتضت المصلحة التعجيل في حده.
قال الشيخ في النهاية:
" ومن وجب عليه الجلد وكان عليلا، ترك حتى يبرأ ثم يقام عليه الحد. فإن اقتضت
المصلحة تقديم الحد عليه أخذ عرجون فيه مأة شمراخ أو ما ينوب منابه ويضرب به
ضربة واحدة، وقد أجزأه. " (2)
وفي الشرائع:
" وإن اقتضت المصلحة التعجيل ضرب بالضغف المشتمل على العدد، ولا يشترط
وصول كل شمراخ إلى جسده. " (3) هذا.
وظاهر الرواية الأخيرة التي رواها الصدوق كفاية هذه الكيفية مطلقا ولو في حال
الصحة والاختيار. ولكن لا أظن أن أحدا يلتزم بذلك. فتحمل لا محالة على المريض،
بقرينة ما سبق.
ولا يخفى أن المتفاهم من أخبار هذا الفرع والفرع السابق أن الشارع المقدس
لا يرضى بإيذاء المجرم وإيلامه بأكثر مما يقتضيه طبع الجلد في الحالة العادية، فتدبر.
ويستفاد حكم الضرب التعزيري أيضا من هذه الأخبار بتنقيح المناط والأولوية.

1 - الوسائل 18 / 323، الباب 13 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 8.
2 - النهاية / 701.
3 - الشرائع 4 / 156.
407

السابع - كيفية إجراء الحدود والتعزيرات:
1 - فعن الكافي بسند موثوق به، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " يضرب الرجل
الحد قائما، والمرأة قاعدة. ويضرب على كل عضو، ويترك الرأس والمذاكير. " ورواه
الصدوق أيضا إلا أنه قال: " ويترك الوجه والمذاكير. " (1)
2 - موثق إسحاق بن عمار، قال: سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن الزاني كيف يجلد؟ قال:
" أشد الجلد. " قلت: فمن فوق ثيابه؟ قال: " بل تخلع ثيابه. " قلت: فالمفتري؟ قال:
" يضرب بين الضربين جسده كله فوق ثيابه. " (2)
3 - موثقه الآخر، قال: سألت أبا إبراهيم (عليه السلام): عن الزاني كيف يجلد؟ قال: أشد الجلد.
فقلت: من فوق الثياب؟ فقال: " بل يجرد. " (3)
أقول: المقصود غير ما يستر العورة، والمرأة كلها عورة. ووجهه واضح.
4 - موثق سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " حد الزاني كأشد ما يكون من
الحدود. " (4)
5 - خبر حريز، عمن أخبره، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: " يفرق الحد على الجسد كله، و
يتقى الفرج والوجه. ويضرب بين الضربين. " قال في الوسائل: " لعله مخصوص بغير
الزنا. " (5)
6 - خبر مسمع بن عبد الملك، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال

1 - الوسائل 18 / 369، الباب 11 من أبواب حد الزنا، الحديث 1.
2 - الوسائل 18 / 369، الباب 11 من أبواب حد الزنا، الحديث 2.
3 - الوسائل 18 / 369، الباب 11 من أبواب حد الزنا، الحديث 3.
4 - الوسائل 18 / 370، الباب 11 من أبواب حد الزنا، الحديث 4.
5 - الوسائل 18 / 370، الباب 11 من أبواب حد الزنا، الحديث 6.
408

رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " الزاني أشد ضربا من شارب الخمر، وشارب الخمر أشد ضربا من
القاذف. والقاذف أشد ضربا من التعزير. " (1)
7 - وخبر أبي البختري، عن جعفر، عن أبيه، عن على (عليه السلام)، قال: " حد الزاني أشد من
حد القاذف، وحد الشارب أشد من حد القاذف. " (2)
8 - وعن الصدوق في العيون والعلل بأسانيده، عن محمد بن سنان، عن الرضا (عليه السلام)
فيما كتب إليه: " وعلة ضرب الزاني على جسده بأشد الضرب لمباشرته الزنا واستلذاذ
الجسد كله به، فجعل الضرب عقوبة له، وعبرة لغيره. وهو أعظم الجنايات. " (3)
9 - وروى الشيخ، عن طلحة بن زيد، عن جعفر، عن أبيه (عليه السلام)، قال: " لا يجرد في حد و
لا يشنج. " - يعني: يمد - وقال: " ويضرب الزاني على الحال التي يوجد عليها: إن وجد
عريانا ضرب عريانا، وإن وجد وعليه ثيابه ضرب وعليه ثيابه. " (4)
والسند إلى طلحة صحيح. وطلحة بن زيد وإن قالوا أنه بتري، ولكن قال الشيخ " إن
كتابه معتمد " (5) والأصحاب يأخذون برواياته.
10 - وفي دعائم الإسلام، عن على (عليه السلام) أنه قال في قول الله " ولا تأخذكم بهما رأفة
في دين الله " (6) قال: إقامة الحدود. إن وجد الزاني عريانا ضرب عريانا، وإن وجد و
عليه ثياب ضرب وعليه ثيابه. ويجلد أشد الجلد. ويضرب الرجل قائما، والمرأة
قاعدة. ويضرب كل عضو منه ومنها ما خلا الوجه والفرج والمذاكير كأشد ما يكون من
الضرب. " (7) ورواه عنه في المستدرك. (8)

1 - الوسائل 18 / 449، الباب 15 من أبواب حد القذف، الحديث 5.
2 - الوسائل 18 / 370، الباب 11 من أبواب حد الزنا، الحديث 9.
3 - الوسائل 18 / 370، الباب 11 من أبواب حد الزنا، الحديث 8.
4 - الوسائل 18 / 370، الباب 11 من أبواب حد الزنا، الحديث 7.
5 - الفهرست للشيخ / 86 (ط. أخرى / 112).
6 - سورة النور (24)، الآية 2.
7 - دعائم الإسلام 2 / 451، كتاب الحدود، الفصل 2، الحديث 1580.
8 - مستدرك الوسائل 3 / 223، الباب 9 من أبواب حدود الزنا، الحديث 3.
409

أقول: قال في الشرائع:
" ويجلد الزاني مجردا. وقيل: على الحال التي وجد عليها. " (1)
ويمكن أن يؤيد القول الأول بأن مفهوم الجلد هو ضرب الجلد. نظير قولهم: ظهره و
بطنه ورأسه، أي ضرب ظهره وبطنه ورأسه. فهي أفعال مأخوذة من الأسماء.
ولكن الأحوط هو القول الثاني، إذ الحدود وكذا خصوصياتها تدرأ بالشبهات. و
إطلاق قوله: " وتخلع ثيابه "، أو " يجرد " في موثقة إسحاق بن عمار يحمل على التفصيل
في خبر طلحة حمل كل مطلق على المفصل والمقيد. ولعل الأغلب في الزاني أن يوجد
مجردا، فيحمل الإطلاق على الغالب، فتدبر. هذا.
11 - وفي سنن أبي داود بسنده، عن أبي هريرة، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: " إذا ضرب
أحدكم فليتق الوجه. " (2)
12 - وفي سنن البيهقي بسنده، عن هنيدة بن خالد أنه شهد عليا (عليه السلام) أقام على رجل
حدا فقال للجالد: " اضرب وأعط كل عضو حقه، واتق وجهه ومذاكيره. " (3)
وروى نحوه عبد الرزاق في المصنف، عن عكرمة بن خالد. (4)
13 - وفي سنن البيهقي أيضا بسنده، عن على (عليه السلام) أنه اتي برجل في خمر فقال: " دع له
يديه يتقي بهما. " (5)
وروى نحوه عبد الرزاق في المصنف أيضا (6).

1 - الشرائع 4 / 157.
2 - سنن أبي داود 2 / 476، كتاب الحدود باب في ضرب الوجه في الحد.
3 - سنن البيهقي 8 / 327، كتاب الأشربة والحد فيها، باب ما جاء في صفة السوط والضرب.
4 - المصنف 7 / 370، باب ضرب الحدود...، الحديث 13517.
5 - سنن البيهقي 8 / 326، كتاب الأشربة والحد فيها، باب ما جاء في صفة السوط والضرب.
6 - المصنف 7 / 370، باب ضرب الحدود...، الحديث 13518.
410

14 - وفي المصنف لعبد الرزاق، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير: أن رجلا جاء إلى
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله، إني أصبت حدا فأقمه على، فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بسوط
جديد عليه ثمرته. فقال: لا، سوط دون هذا. فاتي بسوط مكسور العجز (الفجر). فقال:
لا، سوط فوق هذا. فاتي بسوط بين السوطين. فأمر به فجلد، ثم صعد المنبر والغضب
يعرف في وجهه فقال: " أيها الناس، إن الله - تعالى - حرم عليكم الفواحش ما ظهر منها و
ما بطن. فمن أصاب منها شيئا فليستتر بستر الله. فإنه من يرفع إلينا من ذلك شيئا
نقمه. " (1)
وروى نحو ذلك البيهقي في السنن بسنده، عن زيد بن أسلم، فراجع. (2)
أقول: ثمرة السوط: طرفه الذي في أسفله ويكون فيه عقدة.
وقد ناسب هنا نقل كلام من معالم القربة في كيفية إجراء الحدود والتعزيرات، ذكرها
في أول الباب الخمسين من كتابه، قال:
" فمن ذلك السوط والدرة: أما السوط فيتخذ وسطا، لا بالغليظ الشديد ولا بالرقيق
اللين، بل يكون من وسطين حتى لا يؤلم الجسم، لما روى زيد بن أسلم أن رجلا اعترف
عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالزنا فدعا له بالسوط. فأتى بسوط مكسور، فقال: فوق هذا. فأتى بسوط
جديد، فقال: دون هذا. فأتى بسوط قد لأن، فضرب به.
وأما الدرة فتكون من جلد البقر أو الجمل مخروزة. وتكون هذه الآلة معلقة على دكة
المحتسب ليشاهدها الناس فترعد منها قلوب المفسدين وينزجر بها أهل التدليس. فإذا
أتى له بمن زنى وهو بكر جلده مأة جلدة في ملأ من الناس، كما قال الله - تعالى -: " و
ليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين. "...
ويضرب الرجل في الحد والتعزير قائما. ولا يمد ولا يربط، لأن لكل عضو قسطا من
الضرب. ويتوقى الوجه والرأس والفرج والخاصرة وسائر المواضع المخوفة، لما روي
أن عليا (عليه السلام) قال للجلاد: اضربه وأعط كل عضو حقه، واتق وجهه ومذاكيره.

1 - المصنف 7 / 369، باب ضرب الحدود...، الحديث 13515.
2 - سنن البيهقي 8 / 326، كتاب الأشربة والحد فيها، باب ما جاء في صفة السوط والضرب.
411

واعلم أن أكثر أصحاب الشافعي قالوا: لا يتقى الرأس، لأن أبا بكر قال للجلاد: اضرب
الرأس، فإن الشيطان في الرأس، ولأنه يكون مغطى في العادة فلا يخاف إفساده. و
الخاصرة كالرأس.
وقال أبو حنيفة: يلزمه اتقاؤه. وهو أشبه، لأن الضرب عليه أخوف.
ولا يجرد بل يكون عليه قميص. فإن كان عليه جبة محشوة أو فروة جرد منها، لأنها
تقيه الضرب. ولا يتولى الضرب غير الرجال، لأنهم أبصر به. ولا يبلغ بالضرب وما يجرح
وينهر الدم.
وأما المرأة فتضرب جالسة في إزارها، لأنها عورة; فإذا كانت قائمة ربما تكشفت. و
تشد عليها ثيابها لتستتر بها. قال الشافعي: ويلي ذلك منها امرأة، يعني شد الثياب عليها...
وأما صفات الضرب في التعزير فيجوز أن يكون بالعصا وبالسوط الذي كسرت
ثمرته، لا يجوز أن يبلغ بتعزيره كما تقدم أنهار الدم.
وضرب الحد يجوز أن يفرق في البدن كله بعد توقي مواضع المقاتل، ليأخذ كل عضو
نصيبه من الحد. ولا يجوز أن يجمع في موضع واحد من الجسد.
واختلف في ضرب التعزير، فأجراه جمهور أصحاب الشافعي مجرى ضرب الحد في
التفريق. وجوز عبد الله الزبيري جمعه في موضع واحد من الجسد.
ويجوز في مكان التعزير أن يجرد من ثيابه إلا قدر ما يستر عورته. ويشهر في الناس
وينادى عليه بذنبه إذا تكرر منه ولم يقلع عنه. ويجوز أن يحلق شعر رأسه ولا تحلق
لحيته. واختلف في جواز تسويد وجهه، فجوزه الأكثرون. أما ركوبه الدابة مستدبرا فنقل
الخلف عن السلف والحكام أنهم يفعلونه. ويجوز أن يصلب في التعزير حيا. ولا يمنع من
طعام أو شراب. ولا يمنع من الوضوء للصلاة ويصلي مؤميا ويعيد إذا أرسل ولا يجاوز
بصلبه ثلاثة أيام. " (1) هذا.
وقال الماوردي في الأحكام السلطانية:

1 - معالم القربة / 184 - 185 و 193 - 194 (= ط. مصر / 277 - 278 و 287).
412

" وأما صفة الضرب في التعزير فيجوز أن يكون بالعصا وبالسوط الذي كسرت
ثمرته، كالحد. واختلف في جوازه بسوط لم تكسر ثمرته، فذهب الزبيري إلى جوازه، و
إن زاد في الصفة على ضرب الحدود وأنه يجوز أن يبلغ به أنهار الدم. وذهب جمهور
أصحاب الشافعي إلى حظره بسوط لم تكسر ثمرته، لأن الضرب في الحدود أبلغ وأغلظ،
وهو كذلك محظور، فكان في التعزير أولى أن يكون محظورا، ولا يجوز أن يبلغ بتعزير
إنهار الدم.
وضرب الحد يجب أن يفرق في البدن كله بعد توقي المواضع القاتلة، ليأخذ كل عضو
نصيبه من الحد ولا يجوز أن يجمع في موضع واحد من الجسد.
واختلف في ضرب التعزير، فأجراه جمهور أصحاب الشافعي مجرى الضرب في
الحد في تفريقه وحظر جمعه. وخالفهم الزبيري، فجوز جمعه في موضع واحد من
الجسد، لأنه لما جاز إسقاطه عن جميع الجسد جاز إسقاطه عن بعضه بخلاف الحد.
ويجوز أن يصلب في التعزير حيا. قد صلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رجلا على جبل يقال له
أبو ناب. ولا يمنع إذا صلب أداء طعام ولا شراب. ولا يمنع من الوضوء للصلاة، ويصلى
مؤميا ويعيد إذا أرسل ولا يجاوز بصلبه ثلاثة أيام. ويجوز في نكال التعزير أن يجرد من
ثيابه إلا قدر ما يستر عورته. ويشهر في الناس وينادى عليه بذنبه إذا تكرر منه و
لم يتب. ويجوز أن يحلق شعره ولا يجوز أن تحلق لحيته. واختلف في جواز تسويد
وجوههم، فجوزه الأكثرون ومنع منه الأقلون. " (1)
أقول: ولا يخفى أن إقامة الدليل على بعض ما ذكروه في المقام مشكل، وأكثرها أمور
استحسانية، وبعضها يخالف مضامين الأخبار التي مضت. والاحتياط حسن على كل
حال، وطريق الاحتياط واضح.

1 - الأحكام السلطانية / 238 - 239.
413

الجهة الحادية عشرة:
عود إلى البدأ:
قد مر في أول بحث التعزيرات عن المبسوط:
" أن كل من أتى معصية لا يجب بها الحد فإنه يعزر. " (1)
وعن الشرائع والقواعد:
" أن كل من فعل محرما أو ترك واجبا فللإمام تعزيره بما لا يبلغ الحد. " (2)
وهذه الكلية مما أفتى به فقهاء الفريقين من الشيعة والسنة، ثم تعرض كل منهم
لمصاديق لها من باب المثال.
وممن تعرض لها وذكر لها مصاديق كثيرة أبو الصلاح الحلبي، من أعاظم فقهاء الشيعة
الإمامية، المتوفي في 447 من الهجرة النبوية، فلنذكر كلامه في المقام تكميلا لبحث
التعزيرات الشرعية:
قال في كتابه المسمى بالكافي:
" التعزير تأديب تعبد الله - سبحانه - به لردع المعزر وغيره من المكلفين. وهو
مستحق للإخلال بكل واجب وإيثار كل قبيح لم يرد الشرع بتوظيف الحد عليه. وحكمه
يلزم بإقرار مرتين أو شهادة عدلين.
فمن ذلك أن يخل ببعض الواجبات العقلية كرد الوديعة وقضاء الدين، أو الفرائض
الشرعية كالصلاة والزكاة والصوم والحج إلى غير ذلك من الواجبات والفرائض
المبتدءة والمسببة والمشترطة. فيلزم سلطان الإسلام تأديبه بما يردعه وغيره عن

1 - المبسوط 8 / 69.
2 - الشرائع 4 / 168; والقواعد 2 / 262.
414

الإخلال بالواجب ويحمله وسواه على فعله.
ومن ذلك أن يفعل بعض القبائح. وهي على ضروب: منها وجود الرجل والمرأة
لا عصمة بينهما في إزار واحد أو بيت واحد، إلى غير ذلك من ضم أو تقبيل فما فوقهما،
فيعزرا بحسب ما يراه ولى التأديب من عشرة أسواط إلى تسعة وتسعين سوطا.
وكذلك حكم الرجلين في شعار واحد مجردين، والمرأتين كذلك، والرجل والغلام
في بيت واحد وفي شعار واحد مع الريبة على كل حال، إلى غير ذلك مع (من. ظ) ضم و
تقبيل يوجب التعزير.
ويعزر الصبي المتلوط به، والناقص العقل، والصبيان المتلاوطان، والصغيرتان
المتفاعلتان، والصبي العابث بالمرأة، والصغير والصبية، والمأوفة المفعول بها، والأمة إذا
ادعت إكراه السيدة لها على السحق، والعبد المفعول به إذا ادعى إكراه السيد له على
التلوط به، ويعزر مالك الأمة إذا أكرهها على البغاء وتحد هي (ولا تحد هي. ظ).
ويعزر من أقر على نفسه بزنا أو لواط أو سحق أقل من أربع مرات مع الإقامة عليه. و
يعزر من أقر مرتين أو شهد عليه شاهدان بوطئ دون الفرج.
ويعزر واطئ الأمة المشتركة بالابتياع أو الغنيمة، والأمة المكاتبة إذا تحرر بعضها. و
كذلك حكم من عقد نكاح شبهة ووطئ معه. ويعزر من افتض بكرا بإصبعه ويغرم مهر
مثلها.
ويعزر من استمنى بكفه أو أتى بهيمة أو جامع بعض حلائله بعد الموت أو بعض
المحرمات بعد الحد.
ويعزر من عرض بغيره بما يفيد القذف بالزنا أو اللواط، كقوله يا ولد خبث، أو حملت
أمك بك في حيضها، أو أتيت بهيمة أو استمنيت أو سرقت أو قدت أو شربت خمرا، أو
أكلت محرما أو كذبت، وللمرأة يا ساحقة، أو نبزه بما يقتضي النقص كقوله: يا سفلة، أو يا
ساقط أو يا سفيه أو يا أحمق أو فاسق أو مجرم أو كافر أو تارك الصلاة أو الصوم، وهو
غير مشهور بما يقتضي ذلك. فإن كان مشهورا به
415

لم يعزر من قرنه بفعله أو وصفه بما يقتضيه. كالمجاهرين بشرب الخمر أو الفقاع أو
بيعهما أو ضرب العود وغيره من الملاهي، أو ترك الصلاة والإفطار في الصوم. لا تأديب
على من قال لمن هذه حاله: يا فاسق أو ساقط أو مجرم أو عاص. كما لأحد على من قال
لمعترف بالزنا: يا زان، وباللواط: يا لائط.
وإذا تقاذف العاقلان عزرا جميعا. وإذا قذف الحر المسلم أو المسلمة الحرة عبدا أو
أمة أو ذميا أو ذمية أو صبية أو مجنونا أو مجنونة، عزر. ويعزر العبيد والإماء وأهل
الذمة إذا تقاذفوا.
وإذا قذف المسلم أو الكافر غيره بما هو مشهور به ومعترف بفعله من كفر أو فسق
فلا شيء عليه، بل المسلم عابد بذلك.
وإذا عير المسلم ببعض الآفات كالعمى والعرج والجنون والجذام والبرص عزر. و
إن عيره بذلك كافر أنهك عقوبة. وإن كان المعير كافرا من مسلم فلا شيء عليه. وحكم
تعريض الواحد بالجماعة بما يوجب التعزير بلفظ واحد أو لكل منهم بتعريض يخصه ما
قدمناه في القذف. وإذا قذف المرء ولده أو عبده أو أمته عزر.
ويعزر من سرق ما لا يوجب القطع لاختلال بعض الشروط: كسرقة العبد من سيده، و
الوالد من ولده، ومن تجب نفقته ممن تجب عليه، والشريك من شريكه، والمتأول، وما
نقص عن ربع دينار، وما بلغه فما فوقه من غير حرز مأذون فيه (من غير حرز أو من
حرز مأذون فيه. ظ) أو منه ولما يخرجه عنه أو من مال مشترك كالمغنم، أو اختلس أو
مكر، أو بنج غيره، أو طفف عليه. ويرجع عليه بما أخذه.
ويعزر من أكل أو شرب أو باع أو ابتاع أو تعلم أو علم أو نظر أو سعى أو بطش أو
أصغى أو آجر أو استأجر أو أمر أو نهى على وجه قبيح.
فإن كان من أتى ما يوجب التعزير عاقلا (عاملا. ظ) في يوم أو ليلة معظمين كيوم
الجمعة والعيد وزمان الصوم أو ليلته، أو مكان معظم كالمسجد الحرام أو مسجد
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أو مسجد الكوفة أو بعض مشاهد الأئمة (عليهم السلام) أو مسجد الجامع أو المحلة
غلظت عليه العقوبة. وان كان ذلك مما يوجب الحد أضيف إليه لحرمة
416

الزمان أو المكان تعزير مغلظ.
فإن رجع من وجب عليه التأديب بإقراره عنه أو تاب قبل رفعه إلى السلطان وكان
من حقوق الله سقط عنه فرض إقامته، وإن كان من حقوق الآدميين لم تؤثر التوبة و
لا الرجوع عن الإقرار في إسقاطه، وكان ذلك إلى ولى الاستيفاء والعفو.
والتعزير لما يناسب القذف من التعريض والنبز والتلقب من ثلاثة أسواط إلى تسعة و
سبعين سوطا، ولما عدا ذلك من ثلاثة إلى تسعة وتسعين سوطا. وحكمه يلزم القاصد
العالم أو المتمكن من العلم دون الساهي بفعله، والطفل الذي لا يصح منه القصد، و
المجنون المطبق.
وإذا عاود المعزر إلى ما يوجبه عزر ثانية وثالثة ورابعة واستتيب، فإن أصر وعاود
بعد التوبة قتل صبرا. " (1)
انتهى كلام الكافي، وقد ذكرناه بطوله لجامعيته في الجملة، فلاحظ.
الجهة الثانية عشرة:
في الفروق التي ذكرها بعض المصنفين بين أحكام الحد والتعزير:
قال المحقق في أول الحدود من الشرائع:
" كل ماله عقوبة مقدرة يسمى حدا، وما ليس كذلك يسمى تعزيرا. " (2)
وربما يعترض على الأول بعدم الطرد، وعلى الثاني بعدم العكس. إذ كل من القصاص
والديات عقوبة مقدرة وليسا بحد. وكذلك الكفارات، وعقوبة وطي الصائمة والحائض
ونحوها مقدرة ومع ذلك تسمى تعزيرا.

1 - الكافي لأبي الصلاح / 416 - 420.
2 - الشرائع 4 / 147.
417

وربما يجاب عن الأول بالتقييد بكونه حق الله ليخرج القصاص والديات، وعن
الثاني بالتقييد بقولهم: " غالبا " كما في بعض الكلمات ليشمل التعزيرات المقدرة أيضا.
ولكن يرد على الأول - مضافا إلى بقاء إشكال الكفارات - النقض بحد القذف فإنه
حد بلا إشكال مع كونه من حقوق الناس، وعلى الثاني بتداخل حد الحد والتعزير حينئذ.
هذا.
وقال الشهيد الأول في كتابه المسمى بالقواعد والفوائد:
" فائدة: يفرق بين الحد والتعزير من وجوه عشرة:
الأول: عدم التقدير في طرف القلة لكنه مقدر في طرف الكثرة بما لا يبلغ الحد. و
جوزه كثير من العامة، لأن عمر جلد رجلا زور كتابا عليه ونقش خاتما مثل خاتمه،
فشفع فيه قوم فقال: أذكرني الطعن وكنت ناسيا، فجلده مأة أخرى، ثم جلده بعد ذلك مأة
أخرى.
الثاني: استواء الحر والعبد فيه.
الثالث: كونه على وفق الجنايات في العظم والصغر بخلاف الحد، فإنه يكفي فيه
مسمى الفعل. فلا فرق في القطع بين سرقة ربع دينار وقنطار، وشارب قطرة من الخمر و
شارب جرة مع عظم اختلاف مفاسدها.
الرابع: أنه تابع للمفسدة وإن لم يكن معصية كتأديب الصبيان والبهائم والمجانين
استصلاحا لهم. وبعض الأصحاب يطلق على هذا التأديب. أما الحنفي فيحد بشرب النبيذ
وإن لم يسكر، لأن تقليده لإمامه فاسد، لمنافاته النصوص عندنا مثل: " ما أسكر كثيره
فقليله حرام " (1)، والقياس الجلي عندهم، وترد شهادته، لفسقه.
الخامس: إذا كانت معصية حقيرة لا تستحق من التعزير إلا الحقير وكان لا أثر له البتة
فقد قيل: لا يعزر، لعدم الفائدة بالقليل وعدم إباحة الكثير.
السادس: سقوطه بالتوبة، وفي بعض الحدود الخلاف. والظاهر أنه إنما يسقط

1 - الوسائل 17 / 222، الباب 1 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث 5.
418

بالتوبة قبل قيام البينة.
السابع: دخول التخيير فيه بحسب أنواع التعزير، ولا تخيير في الحدود إلا في
المحاربة.
الثامن: اختلافه بحسب الفاعل والمفعول والجناية، والحدود لا تختلف بحسبها.
التاسع: لو اختلفت الإهانات في البلدان روعي في كل بلد عادته.
العاشر: أنه يتنوع إلى كونه على حق الله - تعالى - كالكذب، وعلى حق العبد محضا
كالشتم، وعلى حقهما كالجناية على صلحاء الموتى بالشتم. ولا يمكن أن يكون الحد
تارة لحق الله وتارة لحق الآدمي، بل الكل حق الله - تعالى - إلا القذف على خلاف. " (1)
وقال الفاضل السيوري:
" عندي في الأخير نظر. إذ كونه على حق العبد محضا ممنوع، لأنه - تعالى - أمر
بتعظيم المؤمن وحرم إهانته. فإذا فعل خلاف ذلك استحق التعزير. " (2)
أقول: فالشهيد أيضا مثل المحقق والعلامة ومن حذا حذوهما لم يعتبر في التعزير إلا
عدم بلوغه الحد، ولم يفت بأخبار العشر أو بضعة عشر. ولعله حملها على التأديب أو
على الإرشاد إلى بعض المراتب أو كونها من باب المثال، كما مر. وما ذكره بالنسبة إلى
الحنفي لا يوافق القواعد والأصول، كما لا يخفى على أهله. هذا.
وقد يناقش في بعض ما ذكره، كما أنه توجد فروق أخرى بينهما تقدم بعضها، فلاحظ.
وقد فرق الماوردي في الأحكام السلطانية في فصل التعزير بين الحد والتعزير بثلاثة
وجوه فقال:
" ويخالف الحدود من ثلاثة أوجه: أحدها: أن تأديب ذوي الهيئة من أهل الصيانة
أخف من تأديب أهل البذاء والسفاهة، لقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " أقيلوا ذوي الهيئات

1 - القواعد والفوائد 2 / 142 - 144; ونضد القواعد / 472 - 473.
2 - نضد القواعد / 473.
419

عثراتهم. " فتدرج في الناس على منازلهم، وإن تساووا في الحدود المقدرة. فيكون
تعزير من جل قدره بالإعراض عنه، وتعزير من دونه بالتعنيف له، وتعزير من دونه
بزواجر الكلام وغاية الاستخفاف الذي لاقذف فيه ولا سب، ثم يعدل بمن دون ذلك إلى
الحبس الذي يحبسون فيه على حسب ذنبهم وبحسب هفواتهم; فمنهم من يحبس يوما،
ومنهم من يحبس أكثر منه إلى غاية مقدرة. وقال أبو عبد الله الزبيري من أصحاب
الشافعي: تقدر غايته بأشهر (في معالم القربة: غايته شهرا) للاستبراء والكشف، وبستة
أشهر للتأديب والتقويم. ثم يعدل بمن دون ذلك إلى النفي والإبعاد إذا تعدت ذنوبه إلى
اجتذاب غيره إليها واستضراره بها... ثم يعدل بمن دون ذلك إلى الضرب ينزلون فيه على
حسب الهفوة في مقدار الضرب وبحسب الرتبة في الامتهان والصيانة...
والوجه الثاني: أن الحد وإن لم يجز العفو عنه ولا الشفاعة فيه فيجوز في التعزير العفو
عنه وتسوغ الشفاعة فيه. فإن تفرد التعزير بحق السلطنة وحكم التقويم ولم يتعلق به حق
لآدمي جاز لولي الأمر أن يراعي الأصلح في العفو أو التعزير، وجاز أن يشفع فيه من
سأل العفو عن الذنب. روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " اشفعوا إلى، ويقضي الله على لسان
نبيه ما يشاء. " ولو تعلق بالتعزير حق لآدمي كالتعزير في الشتم والمواثبة ففيه حق
المشتوم والمضروب، وحق السلطنة للتقويم والتهذيب...
والوجه الثالث: أن الحد وإن كان ما حدث عنه من التلف هدرا فإن التعزير يوجب
ضمان ما حدث عنه من التلف... " (1)
أقول: وما ذكره من عدم جواز العفو في الحدود ينافي ما بيناه في الجهة العاشرة من
جواز عفو الإمام عنها إذا كان ثبوتها بالإقرار وتاب المجرم وندم، فراجع. نعم، يصح ما
ذكره من جواز عفوه للتعزيرات إذا رآه صلاحا ولم يوجب تجرأ المجرم، وقد مر تفصيله.

1 - الأحكام السلطانية / 236 - 238.
420

الفصل السابع
في أحكام السجون وآدابها
وفيه جهات من البحث:
الجهة الأولى:
في بيان مفهوم السجن بحسب اللغة:
اعلم أنه يعبر عن مفهوم السجن بألفاظ كثيرة، كالسجن، والحبس، والوقف، و
الإيقاف، والحصر، والإثبات، والإقرار، والامساك ونحو ذلك، ولكن أعرفها وأشهرها
الأولان. فلنذكر بعض كلمات أهل اللغة في مفادهما:
1 - قال الراغب في المفردات:
" السجن: الحبس في السجن. وقرئ: " رب السجن أحب إلى. " بفتح السين و
كسرها. قال: " ليسجننه حتى حين. " " ودخل معه السجن فتيان. " (1)

1 - المفردات / 230، والآيات من سورة يوسف (12)، رقمها 33 و 35 و 36.
421

2 - وقال:
" الحبس: المنع من الانبعاث. قال - عز وجل -: " تحبسونهما من بعد الصلاة. " و
الحبس: مصنع الماء الذي يحبسه. " (1)
3 - وفي الصحاح:
" السجن: الحبس. والسجن بالفتح: المصدر. وقد سجنه يسجنه، أي حبسه. " (2)
4 - وفيه أيضا:
" الحبس: ضد التخلية. وحبسته وأحتبسته بمعنى. واحتبس أيضا بنفسه، يتعدى و
لا يتعدى. وتحبس على كذا، أي حبس نفسه على ذلك. " (3)
5 - وفي القاموس:
" سجنه: حبسه، والهم: لم يبثه. والسجن بالكسر: المحبس، وصاحبه سجان، و
السجين: المسجون. "
6 - وفيه أيضا:
" الحبس: المنع كالمحبس كمقعد. حبسه يحبسه. " (4)
7 - وفي لسان العرب:
" السجن: الحبس. والسجن بالفتح: المصدر. سجنه يسجنه سجنا، أي حبسه... و
السجان: صاحب السجن، ورجل سجين: مسجون. وكذلك الأنثى بغير هاء. " (5)
8 - وفيه أيضا:
" حبسه يحبسه حبسا فهو محبوس وحبيس. واحتبسه وحبسه: أمسكه عن وجهه. و
الحبس ضد التخلية. واحتبسه واحتبس بنفسه، يتعدى ولا يتعدى... والحبس و
المحبسة والمحبس: اسم الموضع. " (6)

1 - المفردات / 104، والآية من سورة المائدة (5)، رقمها 106.
2 - صحاح اللغة 5 / 2133.
3 - صحاح اللغة 3 / 915.
4 - القاموس / 824 و 345.
5 - لسان العرب 13 / 203.
6 - لسان العرب 6 / 44.
422

فيظهر من جميع ذلك أن مفاد اللفظين هو تحديد الشخص ومنعه من الانبعاث و
الانطلاق والتصرفات الحرة، فليس للمكان وخصوصياته ووجود الإمكانات وعدمها
دخل فيه، وإنما المهم صيرورة الشخص ممتنعا مقيدا.
وفي الخطط المقريزية:
" الحبس الشرعي ليس هو السجن في مكان ضيق، وإنما هو تعويق الشخص ومنعه
من التصرف بنفسه، سواء كان في بيت أو مسجد، أو كان بتولي نفس الخصم أو وكيله عليه
وملازمته له. ولهذا سماه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أسيرا، كما روى أبو داود وابن ماجة، عن الهرماس
بن حبيب، عن أبيه، قال: أتيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بغريم لي فقال لي: ألزمه. ثم قال لي: يا أخا
بني تميم ما تريد أن تفعل بأسيرك؟ وفي رواية ابن ماجة: ثم مر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بي آخر
النهار فقال: ما فعل أسيرك يا أخا بني تميم؟
وهذا كان هو الحبس على عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبي بكر الصديق ولم يكن له محبس معد
لحبس الخصوم، ولكن لما انتشرت الرعية في زمن عمر بن الخطاب ابتاع من صفوان بن
أمية دارا بمكة بأربعة آلاف درهم وجعلها سجنا يحبس فيها.
ولهذا تنازع العلماء هل يتخذ الإمام حبسا على قولين: فمن قال: لا يتخذ حبسا،
احتج بأنه لم يكن لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا لخليفته من بعده حبس ولكن يعوقه بمكان من
الأمكنة أو يقيم عليه حافظا وهو الذي يسمى الترسيم، أو يأمر غريمه غلامه بملازمته. و
من قال: له أن يتخذ حبسا، احتج بفعل عمر بن الخطاب.
ومضت السنة في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبي بكر وعمر وعثمان وعلى " رض " أنه
لا يحبس على الديون ولكن يتلازم الخصمان. وأول من حبس على الدين شريح
القاضي.
وأما الحبس الذي هو الآن فإنه لا يجوز عند أحد من المسلمين. وذلك أنه يجمع
الجمع الكثير في موضع يضيق عنهم، غير متمكنين من الوضوء والصلاة، وقد يرى
بعضهم عورة بعض، ويؤذيهم الحر في الصيف والبرد في الشتاء، وربما يحبس
423

أحدهم السنة وأكثر ولا جدة له وأن أصل حبسه على ضمان. " (1)
أقول: وقد حكى قريبا مما ذكر في التراتيب الإدارية (2) عن الماوردي في الأحكام
السلطانية، ولكني لم أجده فيه. وما ذكره كلام متين، لما عرفت من عدم دخل للمكان
الخاص في صدق مفهوم الحبس وما هو المقصود منه. والحبس الرائج المتعارف في
أعصارنا أكثر مصاديقه ظلم على الإنسان والإنسانية، ومخالف لموازين العقل والشرع.
هذا.
وفي التراتيب الإدارية:
" وقال الإمام أبو عبد الله بن فرج مولى ابن الطلاع في كتاب الأقضية: اختلف أهل
العلم هل سجن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبو بكر أحدا قط أم لا؟ فذكر بعضهم: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
لم يكن له سجن ولا سجن أحدا قط، وذكر بعضهم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سجن في المدينة
في تهمة. رواه عبد الرزاق والنسائي في مصنفيهما من طريق بهز بن حكيم، عن أبيه، عن
جده. وذكر أبو داود عنه في مصنفه، قال: حبس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ناسا من قومي في تهمة
بدم...
وفي بدائع السلك للقاضي ابن الأزرق نقلا عن ابن فرحون، عن ابن القيم الجوزية: أن
الحبس الشرعي ليس هو السجن في مكان ضيق، وإنما هو تعويق الشخص ومنعه من
التصرف، كان في بيت أو مسجد، أو ملازمة الغريم له. ولهذا سماه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أسيرا. " (3)
أقول: لا يخفى أن في حرية الشخص وانطلاقه وانبعاثه منافع وبركات لنفسه ولمن
تعلق به، وربما توجد فيها أيضا خسارات وأضرار. فيترتب على انبعاث الشخص و
حريته أثران متضادان. فإن وقع الحبس بداعي المنع عن الأول كان

1 - الخطط 3 / 99.
2 - التراتيب الإدارية 1 / 295.
3 - التراتيب الإدارية 1 / 296.
424

من قبيل العقوبة والمجازاة حدا أو تعزيرا، وإن وقع بداعي المنع عن الثاني فقط
لم يكن من هذا القبيل بل من قبيل حفظ حقوق الناس ورفع الشر والظلم عنهم. ولعل
أكثر موارد السجن في الشريعة الإسلامية بل في الشرائع الإلهية كانت من القسم الثاني،
كما سيأتي بيانه.
الجهة الثانية:
في مشروعية الحبس اجمالا:
الحبس مشروع بالأدلة الأربعة: أما الكتاب فاستدلوا منه بآيات:
1 - منها: قوله - تعالى - في سورة المائدة: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله و
يسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو
ينفوا من الأرض. " (1)
حيث فسر كثير من المفسرين والفقهاء النفي في الآية بالحبس. وبه فسر في بعض
الروايات أيضا. فإليك نماذج منها:
1 - قال الطبرسي في مجمع البيان:
" وقال أبو حنيفة وأصحابه إن النفي هو الحبس والسجن. واحتجوا بأن المسجون
يكون بمنزلة المخرج من الدنيا إذا كان ممنوعا من التصرف محولا بينه وبين أهله مع
مقاساته الشدائد في الحبس، وأنشد قول بعض المسجونين:
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها * فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى
إذا جاءنا السجان يوما لحاجة * عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا. " (2)
2 - وحكى قريبا من ذلك الكاشاني في بدائع الصنائع عن النخعي في رواية

1 - سورة المائدة (5)، الآية 33.
2 - مجمع البيان 2 / 188 (الجزء 3).
425

عنه، فراجع. (1)
3 - وقال الماوردي في الأحكام السلطانية:
" أو ينفوا من الأرض، فقد اختلف أهل التأويل فيه على أربعة أقاويل: أحدها: أنه
إبعادهم من بلاد الإسلام إلى بلاد الشرك، وهذا قول مالك بن أنس والحسن وقتادة و
الزهري. والثاني: أنه إخراجهم من مدينة إلى أخرى، وهذا قول عمر بن عبد العزيز و
سعيد بن جبير. والثالث: أنه الحبس، وهو قول أبي حنيفة ومالك. والرابع: وهو أن
يطلبوا لإقامة الحدود عليهم فيبعدوا، وهذا قول ابن عباس والشافعي. " (2)
4 - وفي المدونة الكبرى في فتاوى مالك بن أنس:
" قال مالك: منهم من يخرج بعصا أو بشيء، فيؤخذ على تلك الحال ولم يخف السبيل
ولم يأخذ المال ولم يقتل. قال مالك: فهذا لو أخذ فيه بأيسره لم أر في ذلك بأسا. قلت: و
ما أيسره عند مالك؟ قال: أيسره وأخفه أن يجلد وينفى ويسجن في الموضع الذي نفي
اليه... قلت: وكم يسجن حيث ينفى؟ قال مالك: يسجن حتى تعرف له توبة. " (3)
5 - وفي المنهاج النووي في فقه الشافعية في باب قاطع الطريق:
" ولو علم الإمام قوما يخيفون الطريق ولم يأخذوا مالا ولا نفسا عزرهم بحبس و
غيره. " (4)
والظاهر أنه وأمثاله أخذوا الفتوى من الآية الشريفة بحمل النفي فيها على الحبس،
هذا.
6 - وفي الوسائل، عن العياشي، عن أبي جعفر محمد بن علي الرضا (عليه السلام) في

1 - بدائع الصنائع 7 / 95.
2 - الأحكام السلطانية / 62.
3 - المدونة الكبرى 4 / 429.
4 - المنهاج / 532.
426

حديث: " فإن كانوا أخافوا السبيل فقط ولم يقتلوا أحدا ولم يأخذوا مالا أمر
بإيداعهم الحبس. فإن ذلك معنى نفيهم من الأرض بإخافتهم السبيل. " (1)
7 - وفي مسند زيد: " حدثني زيد بن على، عن أبيه، عن جده، عن على (عليه السلام) قال: إذا
قطع الطريق اللصوص وأشهروا السلاح ولم يأخذوا مالا ولم يقتلوا مسلما ثم أخذوا،
حبسوا حتى يموتوا. وذلك نفيهم من الأرض... " (2)
أقول: وقد يقال في توجيه ذلك: إن النفي من الأرض حقيقة غير ممكن، إذ كل مكان
يرسل هو إليه يكون من الأرض لا محالة، فالمراد جعله بحيث لا يتمكن أن يتصرف فيها
تصرف الأحياء، فينطبق قهرا على الحبس. وقد أشار إلى هذا المعنى في مجمع البيان،
كما مر. هذا مضافا إلى أن الملاك والغرض من النفي وهو الانقطاع من أهله وأهل بلده
يحصل بالحبس أيضا، كما لا يخفى. فتأمل. هذا.
ولكن معظم أصحابنا الإمامية لم يفتوا بالحبس في المقام. فالشيخ الطوسي (قدس سره) في
نهايته الذي وضعه لنقل الفتاوى المأثورة قال في المقام:
" إن لم يجرح ولم يأخذ المال وجب عليه أن ينفى من البلد الذي فعل فيه ذلك الفعل
إلى غيره، ثم يكتب إلى أهل ذلك المصر بأنه منفي محارب، فلا تواكلوه ولا تشاربوه و
لا تبايعوه ولا تجالسوه. " (3)
اللهم إلا أن يسمى هذا التضييق أيضا حبسا.
وقال في الخلاف (المسألة 3 من كتاب قطاع الطريق):
" قد بينا أن نفيه من الأرض أن يخرج من بلده ولا يترك أن يستقر في بلد حتى يتوب.
فإن قصد بلد الشرك منع من دخوله وقوتلوا على تمكينهم من دخوله إليهم. وقال
أبو حنيفة: نفيه أن يحبس في بلده. وقال أبو العباس بن سريج: يحبس في غير

1 - الوسائل 18 / 536، الباب 1 من أبواب حد المحارب، الحديث 8.
2 - مسند زيد / 223، كتاب السير، باب قطاع الطريق.
3 - النهاية / 720.
427

بلده. دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم. " (1)
ولم يذكر الحبس في المقنعة وفي الشرائع أيضا على ما رأيت.
نعم، في المبسوط:
" فقال قوم إذا شهر السلاح وأخاف السبيل لقطع الطريق كان حكمه متى ظفر به
الإمام التعزير. وهو أن ينفى عن بلده ويحبس في غيره، وفيهم من قال: (لا. ظ) يحبس
في غيره. وهذا مذهبنا غير أن أصحابنا رووا أنه لا يقر في بلده وينفى عن بلاد الإسلام
كلها... " (2)
وفي الكافي لأبي الصلاح:
" وإن لم يقتلوا ولم يأخذوا مالا أن ينفيهم من الأرض بالحبس أو النفي من مصر إلى
مصر. " (3) هذا.
والمسألة محل إشكال اللهم إلا أن يقال إن النفي هنا من مصاديق التعزير كما عبر
بذلك في الخلاف والمبسوط وغيرهما، ويجوز في جميع موارد التعزير اختيار الحاكم
للحبس إذا رآه صلاحا. أو يقال إن ما ذكر في الأخبار والفتاوى مصاديق للنفي، فلا
ينافي جواز اختيار سائر الأنحاء من النفي أيضا، فتأمل.
2 - ومن الآيات الواردة في الحبس قوله - تعالى - في سورة النساء: " واللاتي يأتين
الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم، فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت
حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا. " (4)
وقد فسر المفسرون والفقهاء الإمساك في الآية بالحبس. والأغلب على نسخ الآية
بما ورد في الجلد والرجم وقالوا إنهما السبيل المجعول لهن.
قال الطبرسي في مجمع البيان:

1 - الخلاف 3 / 211.
2 - المبسوط 8 / 47.
3 - الكافي / 252.
4 - سورة النساء (4)، الآية 15.
428

" أي فاحبسوهن " في البيوت حتى يتوفاهن الموت "، أي يدركهن الموت فيمتن في
البيوت. وكان في مبدأ الإسلام إذا فجرت المرأة وقام عليها أربعة شهود حبست في
البيت أبدا حتى تموت، ثم نسخ ذلك بالرجم في المحصنين والجلد في البكرين " أو
يجعل الله لهن سبيلا. " قالوا لما نزل قوله: " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مأة
جلدة " قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مأة و
تغريب عام، والثيب بالثيب جلد مأة والرجم. (1)
3 - ومن الآيات أيضا قوله - تعالى -: في سورة المائدة: " يا أيها الذين آمنوا شهادة
بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن
أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت، تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان
بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن
الآثمين. " (2)
وظاهر تفريع إقسامهما على حبسهما أن حبسهما بعد الصلاة يؤثر في إقسامهما و
شهادتهما بالحق. ولعل هذا يكون شاهدا على أن المراد بالصلاة صلاة أنفسهما:
قال الطبرسي في مجمع البيان:
" تحبسونهما من بعد صلاتهما العصر، لأن الناس كانوا يحلفون بالحجاز بعد صلاة
العصر لاجتماع الناس وتكاثرهم في ذلك الوقت. وهو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) وقتادة
وسعيد بن جبير وغيرهم. وقيل هي صلاة الظهر أو العصر، عن الحسن. وقيل: بعد صلاة
أهل دينهما يعني الذميين، عن ابن عباس والسدي.
ومعنى تحبسونهما تقفونهما وتقيمونهما... والخطاب في تحبسونهما للورثة. ويجوز
أن يكون خطابا للقضاة ويكون بمعنى الأمر، أي فاحبسوهما. ذكره ابن الأنباري. " (3)
وعن ابن العربي في أحكام القرآن:
" تحبسونهما من بعد الصلاة. وفي ذلك دليل على حبس من وجب عليه الحق. وهو

1 - مجمع البيان 2 / 20 - 21 (الجزء 3).
2 - سورة المائدة (5)، الآية 106.
3 - مجمع البيان 2 / 257 (الجزء 3).
429

أصل من أصول الحكمة وحكم من أحكام الدين، فإن الحقوق المتوجهة على
قسمين: منها ما يصح استيفاؤه معجلا، ومنها ما لا يمكن استيفاؤه إلا مؤجلا. فإن خلي
من عليه الحق وغاب واختفى بطل الحق وتوى (أي ذهب)، فلم يكن بد من التوثق منه،
فإما بعوض عن الحق ويكون بمالية موجودة فيه وهي المسمى رهنا وهو الأولى و
الأوكد، وإما شخص ينوب منابه في المطالبة والذمة وهو دون الأول، لأنه يجوز أن
يغيب كغيبته ويتعذر وجوده كتعذره، ولكن لا يمكن أكثر من هذا. فإن تعذرا جميعا
لم يبق إلا التوثق بحبسه حتى تقع منه التوفية لما كان عليه من حق، فإن كان الحق بدنيا
لا يقبل البدل كالحدود والقصاص ولم يتفق استيفاؤه معجلا لم يبق إلا التوثق بسجنه، و
لأجل هذه الحكمة شرع السجن. وقد روى الترمذي وأبو داود أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حبس في
تهمة رجلا ثم خلى عنه. " (1)
4 - ومن الآيات أيضا قوله - تعالى - في سورة التوبة: " فإذا انسلخ الأشهر الحرم
فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، وخذوهم واحصروهم. " (2)
قال في المجمع:
" معناه: واحبسوهم واسترقوهم، أو فادوهم بمال. وقيل: وامنعوهم دخول مكة و
التصرف في بلاد الإسلام. " (3)
أقول: قد عرفت أنه لايراد بالحبس في الكتاب والسنة حصر الشخص في مكان
ضيق، بل هو ضد التخلية. فيراد به تحديد الشخص ومنعه من الانبعاث والتصرفات
الحرة.
فهذه أربع آيات يستدل بها على مشروعية الحبس.
وأما السنة فالروايات الدالة على مشروعية الحبس إجمالا مستفيضة، بل لعلها

1 - أحكام السجون للوائلي / 38; عن " أحكام القرآن " لابن العربي أبي بكر محمد بن عبد الله
2 / 723.
2 - سورة التوبة (9)، الآية 5.
3 - مجمع البيان 3 / 7 (الجزء 5).
430

متواترة إجمالا من طرق الفريقين نذكر منها نماذج ويأتي كثير منها في الفروع و
الجهات الآتية:
1 - ففي الخصومات من صحيح البخاري بسنده، عن أبي هريرة، قال: " بعث
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال سيد
أهل اليمامة، فربطوه بسارية من سواري المسجد فخرج اليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ما
عندك يا ثمامة؟ قال: عندي يا محمد خير، فذكر الحديث. قال: أطلقوا ثمامة. " (1)
2 - وفيه أيضا قال: " ويذكر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " لي الواجد يحل عقوبته وعرضه. " قال
سفيان: عرضه، يقول: مطلتني، وعقوبته الحبس. " (2)
وروى نحوه أبو داود وابن ماجة كما سيأتي في خلال روايات الحبس في الدين في
الجهة الحادية عشرة. (3)
3 - وروى أبو داود بسنده، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده " أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حبس
رجلا في تهمة. " (4)
4 - وفي صحيحة عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: جاء رجل إلى
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: إن أمي لا تدفع يد لامس؟ قال: فاحبسها. قال: قد فعلت. قال:
فامنع من يدخل عليها. قال: قد فعلت. قال: قيدها، فإنك لا تبرها بشيء أفضل من أن
تمنعها من محارم الله - عز وجل - (5).
وعموم التعليل في الصحيحة يدل على جواز الحبس والتقييد بالنسبة إلى كل
من لا يتمكن من منعه عن محارم الله تعالى الا بذلك.
5 - وفي خبر غياث بن إبراهيم، عن جعفر (عليه السلام) عن أبيه أن عليا (عليه السلام) كان يحبس في

1 - صحيح البخاري 2 / 62، كتاب في الاستقراض وأداء الديون... باب التوثيق ممن تخشى
معرته.
2 - صحيح البخاري 2 / 58، كتاب في الاستقراض وأداء الديون... باب لصاحب الحق مقال.
3 - راجع ص 484 من الكتاب.
4 - سنن أبي داود 2 / 282، كتاب الأقضية، باب في الحبس في الدين وغيره.
5 - الوسائل 18 / 414، الباب 48 من أبواب حد الزنا، الحديث 1.
431

الدين فإذا تبين له حاجة وإفلاس خلى سبيله حتى يستفيد مالا. (1)
6 - وفي موثقة عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " اتي أمير المؤمنين (عليه السلام) برجل قد
تكفل بنفس رجل، فحبسه وقال: اطلب صاحبك. " (2) وبهذا المضمون روايات أخر
أيضا.
7 - وعن البرقي، عن أبيه، عن علي (عليه السلام)، قال: " يجب على الإمام أن يحبس الفساق
من العلماء، والجهال من الأطباء، والمفاليس من الأكرياء. " (3)
أقول: الأكرياء جمع الكرى: يستعمل بمعنى المكارى وبمعنى المكترى معا. ولعله
يشمل جميع الدلالين ووسائط المعاملات.
8 - وفي خبر حريز، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " لا يخلد في السجن إلا ثلاثة: الذي
يمسك على الموت يحفظه حتى يقتل، والمرأة المرتدة عن الإسلام، والسارق بعد قطع
اليد والرجل. " (4)
إلى غير ذلك من الأخبار وسيجئ كثير منها في الجهة التي نعقدها لذكر ما ورد في
السجن والحبس من الأخبار، وقد أشرنا إلى تواترها إجمالا.
واعلم: أن الخبر المتواتر - أعني ما بلغ كثرة الطرق والمخبرين فيه حدا يوجب العلم
بصدوره - على ثلاثة أقسام:

1 - الوسائل 13 / 148، الباب 7 من كتاب الحجر، الحديث 1.
2 - الوسائل 13 / 156، الباب 9 من كتاب الضمان، الحديث 1.
3 - الوسائل 18 / 221، الباب 32 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 3.
4 - الوسائل 18 / 221، الباب 32 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.
432

الأول: المتواتر لفظا. ويراد بذلك أن المخبرين بأجمعهم رووا واقعة واحدة ومعنى
واحدا بلفظ واحد.
الثاني: المتواتر معنى. بمعنى أنهم بأجمعهم حكوا واقعة واحدة وقعت في وقت خاص
ولكن بألفاظ مختلفة، فيكون الجميع أو غير واحد منهم ناقلا بالمعنى والمضمون. نظير ما
وقع في نقل قصة الغدير ونصب أمير المؤمنين (عليه السلام) فيه.
الثالث: المتواتر اجمالا. بمعنى أن كل واحد من المخبرين حكى واقعة خاصة غير ما
حكاه الآخرون، ولعل كل واحد منهم حكى واقعة خاصة عن إمام خاص، ولكن كثرة
الوقائع المنقولة توجب العلم بصدق بعضها لا محالة بحيث لا يحتمل كذب الجميع، كما في
المقام. فإن كل واحدة من الروايات تحكي عن مسألة خاصة وقول خاص عن إمام
خاص ولكن يحصل لنا العلم بعدم كذب الجميع. فإذا كان يستفاد من كل واحدة منها
مشروعية السجن فلا محالة تثبت تلك. ونظير هذا في أبواب الفقه كثير.
وأما الإجماع فقد ادعاه بعض الفقهاء من الحنفية والشافعية في المقام، كما حكاه في
كتاب " أحكام السجون " (1). ولكن لما لم تكن المسألة بنفسها معنونة في كتب الفقهاء
القدماء من أصحابنا بل وفي أكثر كتب الفقهاء من السنة فلا محالة لا يوجد فيها إجماع
محقق. نعم، لا بأس بادعائه مقدرا، بمعنى وضوح المسألة بحيث إن كل فقيه من الفريقين
لو سئل عنها لأفتى بها بلا شك. هذا.
ولكن بعد وضوح المسألة وثبوتها بالكتاب والسنة لا حاجة فيها إلى الإجماع. وقد
عرفت منا مرارا أن الإجماع بما هو إجماع لا موضوعية له عندنا بل تكون حجيته

1 - راجع أحكام السجون / 48.
433

من جهة كشفه عن قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة - عليهم السلام - وتلقي المسألة منهم. وإذا
كان المكشوف بذاته قطعيا عندنا فلا حاجة فيه إلى الكاشف والكشف، فتدبر.
وأما العقل فبيانه إجمالا هو أن العقل يحكم بوجوب حفظ النظام وصيانة الحقوق و
المصالح العامة، وواضح أنه لا يحصل هذا الغرض إلا بدولة عادلة مطاعة مقتدرة تحقق
مصالحهم وترفع شرور العتاة والظالمين عنهم، وحبس الجاني وإن كان فيه ضرر لنفس
المحبوس ويكون منافيا لسلطة الناس على نفوسهم وجميع شؤونهم ولكن إطلاقه تهديد
لأمن العامة وتضييع لحقوقهم، فيحكم العقل السليم بوجوب تقديم المصالح العامة على
مصلحة الفرد وحبس الجاني لحفظها ورفع شره، وكل ما حكم به العقل حكم به الشرع،
كما حقق في محله. فتلخص من جميع ما ذكرناه مشروعية الحبس، بل وجوبه وضرورته
إجمالا.
الجهة الثالثة:
في أول من بنى السجن في الإسلام:
قد عرفت أن الحبس كان متعارفا في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن مفهوم الحبس كما مر
لا يلازم وجود مكان خاص ممحض له، بل كان يمكن أن يقع في بيت أو مسجد أو دهليز
أو نحو ذلك من الأماكن، ولم يكن الغرض منه إلا تحديد الشخص ومنعه من التصرف و
الانبعاث.
وقد وقع الكلام في تعيين أول من أحدث السجن في الإسلام، فقيل: إنه عمر. وقيل:
إنه على (عليه السلام). فلنذكر بعض ما قيل في المقام وإن لم تترتب عليه فائدة فقهية مهمة:
434

1 - ففي مسند زيد، عن أبيه، عن جده، عن على (عليه السلام): " أنه بنى سجنا وسماه نافعا، ثم
بدا له فنقضه (وبنى آخر - ظ -.) وسماه مخيسا، وجعل يرتجز ويقول:
ألم تراني كيسا مكيسا * بنيت بعد نافع مخيسا. " (1)
أقول: في القاموس:
" خيسه تخييسا: ذلله. والمخيس كمعظم ومحدث: السجن، وسجن بناه على (عليه السلام). و
كان أولا جعله من قصب سماه نافعا فنقبه اللصوص فقال:
أما تراني كيسا مكيسا * بنيت بعد نافع مخيسا
بابا حصينا وأمينا كيسا " (2).
2 - وفي كتاب " أحكام السجون " عن السيوطي في كتابه: " الوسائل إلى مسامرة
الأوائل ":
" أول من بنى سجنا في الإسلام علي بن أبي طالب (عليه السلام). وكان الخلفاء يحبسون قبله في
الآبار. وروى أنه حبس أعرابيا سارقا، ففر من حبسه وأنشأ يقول:
ولو أني بقيت به إليهم * لجروني إلى شيخ بطين. " (3)
3 - وفيه أيضا عن ابن الهمام في كتابه شرح فتح القدير في الفقه الحنفي، قال:
" ولم يكن في عهده - أي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - وأبي بكر سجن، وإنما كان يحبس في المسجد
أو الدهليز حتى اشترى عمر دارا بمكة بأربعة آلاف درهم واتخذه محبسا. وقيل:
لم يكن في زمن عمر ولا عثمان أيضا إلى زمن على (عليه السلام) فبناه. وهو أول سجن بني في
الإسلام. قال في الفائق: بنى سجنا من قصب فسماه نافعا، فنقبه اللصوص وتسيب الناس
منه، ثم بنى سجنا من مدر فسماه مخيسا. وفي ذلك يقول على (عليه السلام):
اما تراني كيسا مكيسا * بنيت بعد نافع مخيسا

1 - مسند زيد / 266، كتاب الشهادات، باب القضاء.
2 - القاموس / 349.
3 - أحكام السجون / 45.
435

سجنا حصينا وأمينا كيسا. " (1)
4 - وفي كتاب الغارات بسنده، عن سابق البربري قال:
" رأيت المحبس وهو خص. وكان الناس يفرجونه ويخرجون منه، " فبناه على (عليه السلام)
بالجص والآجر. قال: فسمعته يقول:
ألا تراني كيسا مكيسا * بنيت بعد نافع مخيسا. (2)
5 - وفي التراتيب الإدارية قال:
" وفي إتحاف الرواة بمسلسل القضاة، للإمام أحمد بن الشلبي الحنفي لدى ذكره
أوليات على (عليه السلام): وأول من بنى السجن في الإسلام، وكانت الخلفاء قبله يحبسون في
الآبار. وفي شفاء الغليل للخفاجي: لم يكن في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبي بكر وعمر و
عثمان سجن. وكان يحبس في المسجد أو في الدهاليز حيث أمكن، فلما كان زمن
على (عليه السلام) أحدث السجن، وكان أول من أحدثه في الإسلام وسماه نافعا، ولم يكن حصينا
فانفلت الناس منه، فبنى آخر وسماه مخيسا بالخاء المعجمة والياء المشددة فتحا و
كسرا...
قلت: ولعل عمر كان يحبس في الآبار قبل شراء الدار التي أعدها للسجن، فقد أخرج
البيهقي من حديث نافع بن عبد الحارث أنه اشترى من صفوان بن أمية دارا لسجن عمر
بن الخطاب بأربعة آلاف. "
ثم قال: " كان السلطان أبو الأملاك المولى إسماعيل بن الشريف العلوي سأل علماء
فاس: القاضي بردلة، والمناوي، وابن رحال وغيرهم من أول من أحدث السجن؟ و
كيف كان الناس يسجنون في الآبار؟ وكيف الجمع بين ما ذكره السيوطي من أن أول من
أحدث السجن علي (عليه السلام)، وبين ما ذكره ابن فرحون من أنه عمر لما اتسعت مملكته؟
فأجاب الشيخ المناوي بأن التعارض يدفع ما بين ابن فرحون والسيوطي بحمل

1 - أحكام السجون / 46.
2 - الغارات 1 / 132.
436

كلام السيوطي على أن عليا (عليه السلام) أول من أحدث له مكانا مخصوصا واتخذه بقصده في
ابتداء، وما كان من عمر فإنه كان في ثاني حال وعارضا للدار المتخذة بالقصد الأول
لغيره من السكنى ونحوها.
وأما استشكال السجن في الآبار فإن المراد بها السراديب والمطامير المتخذة تحت
الأرض، وقد تكون من الاتساع بحيث تحمل المئين من الناس لا سيما مصانع ملوك
الأمم السالفة، فإنها كانت على قدر قواهم التي لا نسبة بينها وبين من جاء بعدهم، و
تسمية ذلك بالآبار للشبه الصوري بالكون تحت الأرض مع ضيق أبوابها ومداخلها. " (1)
أقول: وفي الخصومات من صحيح البخاري:
" اشترى نافع بن عبد الحارث دارا للسجن بمكة من صفوان بن أمية على أن عمر إن
رضي فالبيع بيعه، وإن لم يرض عمر فلصفوان أربعمأة دينار. " (2)
وليس في هذه الرواية أن عمر رضي بذلك أم لا، وأن الدار صارت سجنا أم لا.
الجهة الرابعة:
في موضوع الحبس الشرعي والغرض منه:
لا يخفى أن موضوع العقوبات الشرعية هو الإنسان البالغ العاقل القادر المختار. وهذا
واضح لمن كان خبيرا بفقه الشيعة والسنة. نعم، ربما يؤدب الصبي والمجنون بل البهائم
أيضا ولو بحبس ما ولكن الأدب غير العقوبة.
والغرض الأساسي من وضع العقوبات الشرعية ليس هو الانتقام وإرضاء القوة

1 - التراتيب الإدارية 1 / 297 - 299.
2 - صحيح البخاري 2 / 62، كتاب في الاستقراض وأداء الديون...، باب الربط والحبس في
الحرم.
437

الغضبية، وليست هي أيضا أمورا تعبدية محضة ليؤتى بها بداعي القرب والتعبد
المحض. بل الملاك في تشريعها قلع جذور الفساد وإصلاح الفرد والمجتمع. ويظهر هذا
لكل من تتبع الكتاب والسنة.
ألا ترى أن أهم العقوبات الشرعية وأشدها هو قصاص النفس، وهو على ما نراه
إعدام وإفناء للشخص، ولكن الله - تعالى - جعله حياة للناس فقال: " ولكم في
القصاص حياة يا أولي الألباب. " (1)
بل جميع أحكام الله - تعالى - في جميع شؤون الإنسان تابعة للمصالح والمفاسد
النفس الأمرية وإن لم نعرفها وليست تكاليف جزافية بلا ملاك:
ففي العلل، عن الرضا (عليه السلام) في جواب كتاب محمد بن سنان إليه: " جاءني كتابك; تذكر
أن بعض أهل القبلة يزعم أن الله - تبارك وتعالى - لم يحل شيئا ولم يحرمه لعلة أكثر من
التعبد لعباده بذلك! قد ضل من قال ذلك ضلالا بعيدا وخسر خسرانا مبينا، لأنه لو كان
ذلك لكان جائزا أن يستعبدهم بتحليل ما حرم وتحريم ما أحل، حتى يستعبدهم بترك
الصلاة والصيام وأعمال البر كلها، والإنكار له ولرسوله وكتبه والجحود، (و - ظ.) بالزنا
والسرقة وتحريم ذوات المحارم وما أشبه ذلك من الأمور التي فيها فساد التدبير وفناء
الخلق... إنا وجدنا كل ما أحل الله ففيه صلاح العباد وبقاؤهم ولهم إليه الحاجة التي
لا يستغنون عنها، ووجدنا المحرم من الأشياء لا حاجة بالعباد إليه ووجدناه مفسدا داعيا
إلى الفناء والهلاك. " (2)
والأخبار في هذا المجال كثيرة تظهر لمن تتبع.
وعلى هذا فيجب أن يلحظ في السجون الشرعية أن لا تكون خاضعة لأهواء الحكام
والضباط والمراقبين، بل تنظم على نحو تصير موانع قبل الفعل، وزواجر بعده. يعني أن
العلم بشرعيتها يمنع من الإقدام على العمل، وتنفيذها بعد وقوعه يوجب تنبه المرتكب و
ارتداعه عن العود اليه ويصلحه ويقومه. وبهذا الملاك أيضا يقع التشديد والتخفيف فيها
أيضا.

1 - سورة البقرة (2)، الآية 179.
2 - علل الشرائع / 197 (= طبعة أخرى / 592 - الجزء 2)، الباب 385 (باب نوادر العلل)، الحديث
43.
438

وبالجملة، فالعقوبات الشرعية ومنها السجون التعزيرية تستهدف الإصلاح وتحقيق
المصالح العامة، لا الانتقام من المجرم وإفنائه أو تحقيره وتحطيم شخصيته ونفسياته.
فالمتصدي للسجن والسجن يجب أن يكون كطبيب حاذق لا يستهدف إلا علاج
المريض وسلامته ولو بكى الأعضاء الفاسدة المسرية وقطعها، فيعود المرضى إلى
المجتمع سالمين. هذا.
ولكن من المؤسف عليه أن السجون الرائجة في أعصارنا في أكثر البلاد حتى البلاد
الإسلامية ليست على وزان ما يريده الشرع ويحكم به العقل، بل لا تنتج إلا خسارات في
الأموال والنفوس.
قال في كتاب " التشريع الجنائي الإسلامي " ما ملخصه:
" المقياس الصحيح لنجاح عقوبة ما هو أثرها على المجرمين والجريمة، فإن نقص
عدد المجرمين وقلت الجرائم فقد نجحت العقوبة، وإن زاد عدد المجرمين والجرائم فقد
فشلت العقوبة ووجب أن تستبدل بها عقوبة أخرى قمينة بأن تردع المجرمين وتصرفهم
عن ارتكاب الجرائم...
وعقوبة الحبس هذه هي العقوبة الأساسية لمعظم الجرائم، يجازى بها المجرم الذي
ارتكب جريمته لأول مرة، ويجازى بها المجرم العاتي الذي تخصص في الإجرام، و
يجازى بها الرجال والنساء والشبان والشيب، ويجازى بها من ارتكب جريمة خطيرة
ومن ارتكب جريمة تافهة، وتنفذ العقوبة على هؤلاء جميعا بطريقة واحدة تقريبا.
وقد أدى تطبيق هذه العقوبة على هذا الوجه إلى نتائج خطيرة ومشاكل دقيقة نبسطها
فيما يلي:
1 - إرهاق خزانة الدولة وتعطيل الإنتاج: يوضع المحكوم عليهم بعقوبة الحبس على
اختلاف أنواعها في محابس يقيمون بها حتى تنتهي مدة العقوبة...
والمحكوم عليهم يكونون في الغالب من الأشخاص الأصحاء القادرين على العمل.
439

فوضعهم في السجون هو تعطيل لقدرتهم على العمل وتضييع لمجهود كبير كان من
الممكن أن يبذلوه فيستفيد منه المجتمع لو عوقبوا بعقوبة أخرى غير الحبس تكفي
لتأديبهم وردع غيرهم.
ولا شك أن هناك من العقوبات ما يمكن أن يؤدي وظيفة الزجر والردع ويكون له
أثره في محاربة الجريمة دون أن يؤدي إلى تعطيل مجهود المحكوم عليه كالجلد مثلا... و
لقد حاولت مصلحة السجون أن تستغل قدرة المسجونين على العمل، ولكنها لم تستطع
حتى الآن أن توجد عملا إلا لعدد قليل من المسجونين، أما الباقون فيكادون يقضون
حياتهم في السجون دون عمل، يأكلون ويتطببون ويلبسون على حساب الحكومة...
2 - إفساد المسجونين: وكان من الممكن أن تتحمل الجماعة هذه الخسارة الكبيرة
سنويا لو كانت عقوبة الحبس تؤدي إلى إصلاح المسجونين، ولكنها في الواقع تؤدي
بالصالح إلى الفساد، وتزيد الفساد فسادا على فساده.
فالسجن يجمع بين المجرم الذي ألف الإجرام وتمرس بأساليبه، وبين المجرم
المتخصص في نوع من الإجرام، وبين المجرم العادي. كما يضم السجن أشخاصا ليسوا
بمجرمين حقيقيين، وإنما جعلهم القانون مجرمين اعتبارا كالمحكوم عليهم في حمل
الأسلحة، أو لعدم زراعة نسبة معينة من القمح والشعير، وكالمحكوم عليهم في جرائم
الخطأ والإهمال.
واجتماع هؤلاء جميعا في صعيد واحد يؤدي إلى تفشي عدوى الإجرام بينهم،
فالمجرم الخبير بأساليب الإجرام يلقن ما يعلمه لمن هم أقل منه خبرة، والمتخصص في
نوع من الجرائم لا يبخل بما يعلم عن زملائه، ويجد المجرمون الحقيقون في نفوس
زملائهم السذج أرضا خصبة يحسنون استغلالها دائما، فلا يخرجون من السجن إلا وقد
تشبعت نفوسهم إجراما.
ولقد دلت المشاهدات على أن الرجل يدخل السجن لأمر لا يعتبره العرف جريمة
كضبط قطعة سلاح معه، وكان المعروف عنه قبل دخوله السجن أنه يكره المجرمين و
يأنف أن يكون منهم، فإذا خرج من السجن حبب إليه الإجرام واحترفه بل
440

صار يتباهى به...
فالسجن الذي يقال عنه إنه إصلاح وتهذيب ليس كذلك في الواقع، وإنما هو معهد
للإفساد وتلقين أساليب الإجرام.
... أما جمع الشبان في محبس واحد، والكهول في محبس واحد فلن يكون علاجا،
لأن الإحسائيات تدل على أن أكثر المجرمين من الشبان... ووجود الشبان المحكوم
عليهم لأول مرة مع شبان ذوي السوابق كفيل بأن يخلق الأولين بأخلاق الآخرين.
3 - انعدام قوة الردع: إن عقوبة الحبس قد فرضت على أساس أنها عقوبة رادعة. و
لكن الواقع قد أثبت أنها لا فائدة منها ولا أثر لها في نفوس المجرمين. فالذين يعاقبون
بالأشغال الشاقة وهي أقصى أنواع الحبس لا يكادون يخرجون من السجن حتى يعودوا
لارتكاب الجرائم. ولو كانت العقوبة رادعة لما عادوا لما عوقبوا عليه بهذه السرعة...
4 - قتل الشعور بالمسؤولية: وعقوبة الحبس - فوق أنها غير رادعة - تؤدي إلى قتل
الشعور بالمسؤولية في نفس المجرمين وتحبب إليهم التعطل. فالكثير من المسجونين
يقضون في السجن مددا طويلة نوعا ما ينعمون فيها بالتعطل عن العمل ويكفون فيها
مؤونة أنفسهم من مطعم وملبس وعلاج... وأنهم يموت فيهم كل شعور بالمسؤولية نحو
أسرهم بل نحو أنفسهم. فلا يكادون يخرجون من السجن حتى يعملوا للعودة إليه، لا حبا
في الجريمة ولا حرصا عليها، وإنما حبا في العودة إلى السجن وحرصا على حياة
البطالة.
5 - ازدياد سلطان المجرمين: ومن المجرمين من يغادر السجن ليعيش عالة على
الجماعة يستغل جريمته السابقة لإخافة الناس وإرهابهم وابتزار أموالهم ويعيش على
هذا السلطان الموهوم...
6 - انخفاض المستوى الصحي والأخلاقي: وتنفيذ عقوبة الحبس يقتضى وضع عدد
كبير من الرجال الأصحاء الأقوياء في مكان واحد لمدد مختلفة يمنعون فيها من التمتع
بحرياتهم، ومن الاتصال بزوجاتهم. ولما كان عدد المحبوسين يزيد عاما
441

بعد عام، والمحابس لا تزيد، فقد اضطر ولاة الأمور إلى حشرهم حشرا في غرف
السجون، كما يحشر السردين في علبته... وقد أدى ازدحام السجون وعدم توفر
الوسائل الصحية بها وحرمان المسجونين من الاتصال بزوجاتهم إلى انتشار الأمراض
السرية والجلدية والصدرية وغيرها من الأمراض الخطيرة بين المسجونين...
فالسجون إذن أداة لنشر الأمراض بين المسجونين ولإفساد أخلاقهم وتضييع
رجولتهم. ولا يقتصر شر السجون على هذا، بل إنها تؤدي إلى فساد الأخلاق في
خارجها، لأن وضع الرجال في السجون معناه تعريض زوجات هؤلاء الرجال وبناتهم و
أخواتهم إلى الحاجة وإلى الفتنة، ووضعهن وجها لوجه أمام الشيطان.
7 - ازدياد الجرائم: وقد وضعت عقوبة الحبس على اختلاف أنواعها لمحاربة
الجريمة، ولكن الإحصائيات التي لا تكذب تدل على أن الجرائم تزداد عاما بعد عام
زيادة تسترعي النظر وتبعث على التفكير الطويل...
يؤدي تنفيذ النظام الوضعي إلى وضع عدد كبير من الرجال الأصحاء القادرين على
العمل في المحبس والإنفاق عليهم دون أن يؤدوا عملا مجديا. فتخسر الأمة من وجهين:
تخسر المال الذي تنفقه على المحبوسين، وتخسر ما كان يمكن أن ينتجه هؤلاء لو
لم يوضعوا في المحابس.
ولكن هذه الخسائر تنتفي لو نفذ النظام الإسلامي، لأن الشريعة لا تعرف الحبس في
جرائم الحدود والقصاص، وهي كما بينا تبلغ ثلثي الجرائم عادة. كما أن الشريعة تفضل
في التعازير عقوبة الجلد على عقوبة الحبس، ولا تفضل عقوبة الحبس إلا إذا كان حبسا
غير محدود المدة، حيث يبقى المجرم بعيدا عن الجماعة مكفوفا شره وأذاه حتى يموت.
ولا يحكم بهذا النوع من الحبس إلا في الجرائم الخطيرة أو على المجرمين العادين. وإذا
فرض أن عقوبة الجلد تطبق في نصف الجرائم الباقية كان الباقي الأخير من الجرائم -
حوالي 15 % من مجموع الجرائم - يقسم بين عقوبات الحبس والغرامة والتغريب وغير
ذلك من عقوبات التعازير المتعددة، والمفروض أن الجرائم التي يجلد فيها هي جرائم
التعازير الخطيرة. فالجرائم التي تبقى أخيرا ليعاقب
442

عليها بغير الجلد والحبس غير المحدد المدة هي جرائم تافهة في الغالب يكفي في
عقابها النصح والتوبيخ والغرامة والحبس مع إيقاف التنفيذ، فتكون النتيجة أن لا يحبس
فعلا إلا في حوالي 5 % من مجموع الجرائم. وهذه نتيجة لا يمكن الوصول إليها إلا بتطبيق
نظرية الشريعة الإسلامية في العقاب... " (1)
أقول: وحيث إن مشكلة السجون في القوانين الوضعية الرائجة في البلاد صارت من
أعظم المشاكل والمصائب للدول، بل صارت مما يخاف منها على الأنظمة أحيانا
فاللازم التفكير في تقليل السجن والسجناء مهما أمكن، وتنفيذ سائر التعزيرات بل و
التوصل بالعفو والإغماض أو القناعة بمثل التعنيف والتوبيخ والتهديد في أكثر الموارد
التي لا يرى فيها ضرورة للتعزير أو الحبس، فتدبر.
الجهة الخامسة:
في إشارة إجمالية إلى مكان السجن من العقوبات في الشريعة الإسلامية:
هل الحبس الشرعي حد أو تعزير، أو قسيم لهما، أو يختلف بحسب الموارد؟ فلنذكر
لبيان ذلك مقدمة، فنقول: العقوبات المشرعة في الإسلام في قبال الجرائم عبارة عن
الحدود، والتعزيرات، والكفارات، والقصاص، والديات. وتنقسم العقوبات إلى
قسمين: قسم يغلب فيه جانب حق الله - تعالى -، أو يمحض فيه كالكفارات وأكثر
الحدود الشرعية، وكذلك التعزيرات الواقعة في قبال مقدمات الزنا واللواط وشبههما، و
قسم يغلب فيه جانب حق الناس كالقصاص والديات بل وحد القذف والتعزير لما
يناسبه من السب والشتم ونحوهما.
وقد مر من الشرائع بيان الفارق بين الحد والتعزير، فقال في أول الحدود من الشرائع:

1 - التشريع الجنائي الإسلامي 1 / 730 - 742.
443

" كل ماله عقوبة مقدرة يسمى حدا، وما ليس كذلك يسمى تعزيرا. " (1)
وقد مر وجود التسامح في التعريفين، حيث إن الحد والتعزير اسمان لنفس العقوبة لا
لموضوعها. كما مر الإشكال فيهما طردا وعكسا في الجهة الثانية عشرة من بحث
التعزيرات.
وقد أشرنا في الجهة الأولى من جهات البحث هنا أن في حرية الشخص وإطلاقه
منافع وبركات لنفسه ولمن تعلق به من ولده ووالديه وعائلته وأقاربه بل للمجتمع أيضا
بحسب شغله وعواطفه وآثاره الوجودية، وربما يترتب على حريته أضرار وخسارات
وتضييع لحقوق الأشخاص والمجتمع أيضا.
فإن وقع حبسه بداعي المنع عن انتفاعه بالحرية وإطلاق التصرفات تأديبا له وتنبيها
له ولغيره كان الحبس مصداقا للعقوبة حدا أو تعزيرا. وإن كان بداعي الردع عن ورود
الخسارة والضرر من قبله على الأفراد والمجتمع ولو بسبب فراره لو لم يحبس لم يكن
حبسه حينئذ بداعي التأديب والعقوبة حدا أو تعزيرا، بل بداعي عدم الفرار أو بداعي دفع
شره وضرره عن الغير ليحفظ مال الغير أو نفسه أو عرضه في قبال ظلمه وتعديه أو فراره
فقط. ولو سلم صدق التأديب والعقوبة حينئذ أيضا فلا إشكال في عدم صدقهما في حبس
المتهم الذي لم يعلم بعد كونه مجرما أم لا.
إذا عرفت هذا فنقول: يظهر مما ذكر أن الحبس في الإسلام قد يقع حدا. مثل ما يقع
بدل النفي من الأرض في حد المحاربة على احتمال، ومثل تخليد السارق الذي قطعت
يده ورجله في السجن، إذ الظاهر كونه من قبيل القطع الذي هو حد قطعا.
وقد يقع تعزيرا. مثل ما يقع من قبل الحكام في موارد التعزير بدل الضرب أو بضميمته
بناء على جواز ذلك، كما هو الأقوى. وقد مر تفصيله ويأتي الأخبار الواردة في موارد
الجمع بين الجلد والحبس في الجهة التالية.
وقد لا يكون الحبس حدا ولا تعزيرا. كحبس المتهم للكشف أو الانكشاف

1 - الشرائع 4 / 147.
444

المعبر عنه بالتوقيف الموقت، حيث لم يثبت الجرم بعد حتى يعاقب المرتكب. بل وكذا
كل من يحبس لرفع شره وضرره فقط، إذ لم يلحظ في حبسه تأديبه وتنبيهه حتى يصدق
عليه التعزير، اللهم إلا أن يقال إن الأدب يترتب قهرا وإن لم يقصد، وكفى ذلك في صدق
عنوان التعزير، فتأمل.
ولعل المتتبع في أخبار الفريقين الواردة في موارد الحبس في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و
أمير المؤمنين (عليه السلام) يظهر له أن أكثر موارد حبسهما كان من قبيل القسم الثالث أو الرابع، فلم
يكن من قبيل الحد أو التعزير فتدبر. هذا.
ولكن في كتاب " أحكام السجون " للوائلي حكم بكون السجن مطلقا من التعزيرات،
فقال ما محصله:
" أما أدلة كونه من التعزيرات:
1 - إن الحد عقوبة مقدرة منصوص على قدرها، في حين أن التعزيرات ليست بمحددة
بل متروكة إلى نظر الإمام، وبما أن السجن فيما جعل عقوبة غير محدد فهو داخل في
التعزيرات.
2 - السجن يتناوله عفو الإمام أو نائبه فيما إذا ظهرت دلائل التوبة. ولو كان من
الحدود لما جاز للإمام أن ينقص من مدته شيئا، فإنه ليس للإمام العفو في جرائم الحدود.
3 - عقوبة السجن كانت توقع في المسجد كما في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). ولو كان من
الحدود لم يكن يقام فيه، لنهيه (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك. ولذلك نرى الفقهاء يدرجون السجن في
قسم التعزيرات وينصون على كونه تعزيرا. " (1)
أقول: لا يخفى أن التعزيرات من أقسام العقوبات، وليس كل سجن بداعي عقوبة
الشخص وتأديبه كحبس المتهم مثلا. وأما الوجوه الثلاثة التي ذكرها دليلا فيرد على
الوجه الأول أولا أن التعزير غير مقدر، لا أن كل غير مقدر فهو تعزير، وبينهما فرق. و
ثانيا أن الإخلاد في السجن مقدر من قبل الشارع في بعض الموارد،

1 - أحكام السجون / 57.
445

فيمكن أن يعد حدا. وعلى الوجه الثاني أن الحد أيضا قد يشمله عفو الإمام، كما إذا
ثبت بالإقرار بل مطلقا على قول المفيد ومن تبعه كما مر تفصيله. وعلى الوجه الثالث
أولا أن ما كان يوقع في المسجد لعله لم يكن عقوبة، كما في حبس المتهم. وثانيا أن النهي
لعله كان ينصرف إلى خصوص الجلد الذي ربما يوجب تلوث المسجد ووجود الصياح
والغوغاء فيه، فتدبر.
الجهة السادسة:
في إشارة إجمالية إلى موارد الجمع بين الحبس وبعض العقوبات الأخر:
قد ظهر من مطاوي ما ذكرناه أن الحبس قد يقع بداعي العقوبة حدا، أو تعزيرا. فيراد به
تنبيه الشخص المجرم وارتداعه، وكذا تنبه غيره ممن رأى أو سمع. وقد يراد به إمساك
الشخص فقط حذرا من فراره، لينكشف الحق أو يستكشف منه أو يطالب به. وقد يراد به
دفع شره وضرره فقط من دون أن يرجى منه التنبه والصلاح. فهذه أربعة أقسام.
أما القسمان الأولان، أعني ما يقع بداعي العقوبة حدا أو تعزيرا، فيجوز بل قد يجب
أن يضاف إليه بعض العقوبات الأخر من القيد والغل والضرب قبل الحبس أو في
الحبس، والتضييق في المأكل والمشرب وزيارة الأهل والعيال والإخوان وسائر
الإمكانات إذا رأى الحاكم العادل البصير به وبنفسياته دخل هذه الأمور في تنبهه وفي
إصلاحه وتهذيبه.
ولكن تجب الدقة والتعمق في تشخيص لزومها وفي مقدارها وكيفياتها. إذ ربما
يتسرب في البين أحاسيس الانتقام ووساوس النفس الأمارة بالسوء، أو يقع التنفيذ و
الإجراء بأيدي الجهال بالموازين الشرعية أو من في قلبه مرض أو غل أو حقد أو سوء
خاطرة، فيعتدي على الأسراء والمسجونين، وبذلك يوجد في نفوسهم العقدة وتوجب
هذه استنكافهم من التسليم والانقياد للحق بعد ما كان يرجى منهم
446

ذلك في بادئ الأمر.
وبالجملة، فهذه الأعمال وزانها وزان العلاجات الطبية الشاقة التي لا يجوز أن تقع إلا
من قبل من له خبرة بها وبطرقها ومحالها والمقدار الضروري منها.
هذا كله في القسم الأول والثاني من أقسام الحبس، أعني ما يقع بداعي العقوبة حدا
أو تعزيرا.
وأما في القسم الثالث والرابع من أقسام الحبس فلا وجه غالبا للتضييقات وضم
سائر العقوبات، بل تكون ظلما على الإنسان والإنسانية. إذ الغرض يحصل غالبا بمجرد
حبسه ومنعه من الفرار والانبعاث، والتضييق على الإنسان مخالف لسلطة كل أحد على
نفسه بحسب العقل والشرع، بل الضرب ونحوه يوجب القصاص والدية أيضا.
نعم، في خصوص الحبس الموقت بداعي الكشف ربما يتوقف ذلك على منع زيارة
أهله وإخوانه له. وربما تقع الحاجة إلى الضرب ونحوه تعزيرا له ليظهر الحق والواقع إذا
فرض وجوب الإظهار عليه واستنكف عنه، لما مر من جواز التعزير على ترك الواجب،
فتدبر.
وأما من يحبس لعدم الفرار فقط، أو من يحبس لدفع شره وضرره فقط بعد العلم بعدم
ارتداعه أصلا فلاوجه لإيراد التضييقات عليه، وطبع الحبس لا يقتضي أزيد من منعه من
الانبعاث فقط.
وبالجملة، فالحبس وكذا التضييقات إنما تقع للضرورة، والضرورات تتقدر بقدرها،
والزائد عليها حرام شرعا.
إجبار المسجون على المقابلة التلفزيونية:
وبذلك يظهر أن إجبار المسجونين على المقابلة التلفزيونية الرائجة في عصرنا
447

وتحطيم شخصياتهم الاجتماعية أمر محرم لا يرضى به الشارع الذي له اهتمام كثير
بعرض المسلمين وحفظ شخصياتهم.
1 - وفي أصول الكافي بسنده، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: " لا تتبعوا عثرات المسلمين،
فإنه من تتبع عثرات المسلمين تتبع الله عثرته، ومن تتبع الله عثرته يفضحه. " (1)
2 - وفيه أيضا بسنده عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: قال الله - عز وجل -: " قد نابذني من أذل عبدي
المؤمن. " (2)
3 - وفيه أيضا بسنده، عن عبد الله بن سنان، قال: قلت له: عورة المؤمن على المؤمن
حرام؟ قال: نعم. قلت: تعني سفليه؟ قال: ليس حيث تذهب; إنما هو إذاعة سره. (3)
4 - وفي الغرر والدرر للآمدي، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " من كشف حجاب أخيه
انكشف عورات بيته. " (4)
5 - وفيه أيضا عنه (عليه السلام): " شر الناس من لا يعفو عن الزلة ولا يستر العورة. " (5) و
الأخبار في هذا المجال كثيرة.
وفي دستور الجمهورية الإسلامية في إيران:
" إن هتك حرمة وشخصية أي شخص ثم اعتقاله أو توقيفه أو سجنه أو تبعيده بحكم
القانون، ممنوع بأي شكل من الأشكال وموجب للمجازاة. " (6)
نعم، لو بلغ الشخص المجرم في الإجرام والتجاهر به والعناد في قبال الحق حدا

1 - الكافي 2 / 355، كتاب الإيمان والكفر، باب من طلب عثرات المؤمنين...، الحديث 4.
2 - الكافي 2 / 352، كتاب الإيمان والكفر، باب من أذى المسلمين...، الحديث 6.
3 - الكافي 2 / 358، كتاب الإيمان والكفر، باب الرواية عن المؤمن، الحديث 2.
4 - الغرر والدرر 5 / 371، الحديث 8802.
5 - الغرر والدرر 4 / 175، الحديث 5735.
6 - دستور الجمهورية الإسلامية في إيران، المادة 39.
448

لا يبقى له مع ذلك حرمة عند الله - تعالى - وعند عقلاء الناس، وصار عندهم رجلا
متهتكا ساقطا عن الإنسانية فالظاهر حينئذ عدم حرمة الإذاعة لأسراره ما لم يسر ذلك
إلى هتك حرمة غيره. وكذلك إذا كان الشخص بحيث يجب أن يعرفه الناس حتى
لا يغتروا به أو يعتمدوا عليه. كما في شاهد الزور الذي يطاف به، وأمين السوق الذي
ينادى عليه كما سيأتي في قصة ابن هرمة، وغير ذلك من الموارد التي يوجد في الإفشاء
والإذاعة مصلحة ملزمة.
وبما ذكرنا أيضا يظهر عدم جواز إجبار الشخص المسجون على أمور أخر تسلب
حريته وسلطته على نفسه، كالشركة في بعض الحفلات، أو التصدي لبعض الأعمال، أو
المساعدة في الاستخبارات أو نحو ذلك، فتدبر. هذا.
وقد ورد ذكر العقوبات المكملة للحبس العقوبي في كثير من الأخبار والفتاوى نشير
إلى ما عثرنا عليه من الموارد:
1 - المرأة المرتدة: ففي صحيحة حماد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في المرتدة عن الإسلام،
قال: " لا تقتل، وتستخدم خدمة شديدة، وتمنع الطعام والشراب إلا ما يمسك نفسها، و
تلبس خشن الثياب، وتضرب على الصلوات. " (1)
وفي خبر آخر: " والمرأة إذا ارتدت عن الإسلام استتيبت، فإن تابت وإلا خلدت في
السجن، وضيق عليها في حبسها. " (2)
2 - المختلس، والطرار، والنباش: ففي خبر السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " إن
أمير المؤمنين (عليه السلام) اتي برجل اختلس درة من أذن جارية، فقال (عليه السلام): هذه الدغارة المعلنة،
فضربه

1 - الوسائل 18 / 549، الباب 4 من أبواب حد المرتد، الحديث 1.
2 - الوسائل 18 / 550، الباب 4 من أبواب حد المرتد، الحديث 6.
449

وحبسه. " (1) ونحوه خبر الجعفريات (2) وسيأتي.
وفي الدعائم، عن جعفر بن محمد (عليه السلام): " أنه لا يقطع الطرار وهو الذي يقطع النفقة من
كم الرجل أو ثوبه، ولا المختلس وهو الذي يختطف الشيء، ولكن يضربان ضربا شديدا
ويحبسان. " (3)
وفيه أيضا: وقال جعفر بن محمد (عليه السلام): " لا تقطع يد النباش إلا أن يؤخذ وقد نبش
مرارا. ويعاقب في كل مرة عقوبة موجعة، وينكل ويحبس. " (4)
وفي مسند زيد بن على (عليه السلام)، عن أبيه، عن جده، عن على (عليه السلام): " إنه كان يحبس في
النفقة، وفي الدين، وفي القصاص، وفي الحدود، وفي جميع الحقوق. وكان يقيد الدعار
بقيود لها أقفال، ويوكل بهم من يحلها لهم في أوقات الصلاة من أحد الجانبين. " (5)
أقول: الدعار بالضم جمع داعر بالمهملات الثلاث: الخبيث الفاسد. وبالذال المعجمة:
الخبيث المعيوب. وبالغين المعجمة: المهاجم.
3 - الحالق شعر المرأة: ففي خبر عبد الله بن سنان، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت
فداك ما على رجل وثب على امرأة فحلق رأسها؟ قال: يضرب ضربا وجيعا، ويحبس
في سجن المسلمين حتى يستبرأ شعرها، فإن نبت أخذ منه مهر نسائها، وإن لم ينبت أخذ
منه الدية كاملة... " (6)
4 - المؤلي إذا أبى أن يطلق أو يفيء: ففي خبر حماد بن عثمان، عن أبي

1 - الوسائل 18 / 503، الباب 12 من أبواب حد السرقة، الحديث 4.
2 - مستدرك الوسائل 3 / 237، الباب 12 من أبواب حد السرقة، الحديث 1.
3 - دعائم الإسلام 2 / 473، كتاب السراق، الفصل 2، الحديث 1690.
4 - دعائم الإسلام 2 / 476، كتاب السراق، الفصل 2، الحديث 1707.
5 - مسند زيد / 265، كتاب الشهادات، باب القضاء.
6 - الوسائل 19 / 255، الباب 30 من أبواب ديات الأعضاء، الحديث 1.
450

عبد الله (عليه السلام)، قال: " المولى إذا أبى أن يطلق؟ قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يجعل له
حظيرة من قصب، ويجعله (يحبسه يب.) فيها ويمنعه من الطعام والشراب حتى
يطلق. " (1) ونحوه روايات أخر وسيأتي.
5 - شارب الخمر في رمضان: ففي خبر أبي مريم، قال: اتي أمير المؤمنين (عليه السلام)
بالنجاشي الشاعر قد شرب الخمر في شهر رمضان، فضربه ثمانين، ثم حبسه ليلة، ثم دعا
به من الغد فضربه عشرين، فقال له: يا أمير المؤمنين، هذا ضربتني ثمانين في شرب
الخمر، وهذه العشرون ما هي؟ قال: هذا لتجرئك على شرب الخمر في شهر رمضان. " (2)
فتأمل.
6 - من أمسك أحدا ليقتله الآخر: ففي خبر عمرو بن أبي المقدام، الحاكي لقصة رجل
شكا إلى المنصور عن رجلين أخرجا أخاه من منزله ليلا فأمسكه أحدهما وقتله الآخر،
أن المنصور طلب من جعفر بن محمد (عليه السلام) أن يقضي بينهم، فأمر (عليه السلام) أخاه أن يضرب عنق
القاتل، ثم أمر بالآخر فضرب جنبيه، وحبسه في السجن، ووقع على رأسه: يحبس عمره
ويضرب في كل سنة خمسين جلدة. " (3) وروى نحوه في دعائم الإسلام، فراجع. (4)
7 - القاتل عمدا إذا لم يقتص منه: ففي خبر الفضيل بن يسار، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام):
عشرة قتلوا رجلا؟ قال: إن شاء أولياؤه قتلوهم جميعا وغرموا تسع ديات، وإن شاؤوا
تخيروا رجلا فقتلوه وأدى التسعة الباقون إلى أهل المقتول الأخير عشر الدية كل رجل
منهم. قال: ثم الوالي بعد يلي أدبهم وحبسهم. " (5)

1 - الوسائل 15 / 545، الباب 11 من أبواب الإيلاء، الحديث 1.
2 - الوسائل 18 / 474، الباب 9 من أبواب حد المسكر، الحديث 1.
3 - الوسائل 19 / 36، الباب 18 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 1.
4 - دعائم الإسلام 2 / 406 - 407، كتاب الديات، الفصل 2 (ذكر القصاص)، الحديث 1419.
5 - الوسائل 19 / 30، الباب 12 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 6.
451

ومن هذا القبيل أيضا مرسلة الكليني، قال: وفي رواية أخرى: " ثم للوالي بعد أدبه و
حبسه. " (1) إذا الظاهر كون الأدب غير الحبس.
8 - شاهد الزور: ففي خبر غياث بن إبراهيم، عن جعفر، عن أبيه أن عليا (عليه السلام) كان إذا
أخذ شاهد زور، فإن كان غريبا بعث به إلى حيه، وإن كان سوقيا بعث به إلى سوقه، فطيف
به، ثم يحبسه أياما ثم يخلى سبيله. " (2) هذا.
وفي سنن البيهقي، عن مكحول:
" أن عمر بن الخطاب كتب إلى عماله في كور الشام في شاهد الزور أن يجلد أربعين،
ويحلق رأسه، ويسخم وجهه، ويطاف به، ويطال حبسه. " (3)
أقول: سخهم وجهه: سوده. هذا. والبيهقي ضعف الرواية، فراجع.
9 - أمين السوق إذا خان: ففي دعائم الإسلام، عن على (عليه السلام): " إنه استدرك على ابن
هرمة خيانة - وكان على سوق الأهواز - فكتب إلى رفاعة: إذا قرأت كتابي فنح ابن هرمة
عن السوق، وأوقفه للناس واسجنه وناد عليه. واكتب إلى أهل عملك تعلمهم رأيي فيه.
ولا تأخذك فيه غفلة ولا تفريط فتهلك عند الله وأعزلك أخبث عزلة، وأعيذك بالله من
ذلك.
فإذا كان يوم الجمعة فأخرجه من السجن واضربه خمسة وثلاثين سوطا وطف به
إلى الأسواق. فمن أتى عليه بشاهد فحلفه مع شاهده وادفع إليه من مكسبه ما شهد به
عليه، ومر به إلى السجن مهانا مقبوحا منبوحا، واحزم رجليه بحزام وأخرجه وقت
الصلاة.
ولا تحل (ولا تخل خ. ل) بينه وبين من يأتيه بمطعم أو مشرب أو ملبس أو مفرش، و
لا تدع أحدا يدخل إليه ممن يلقنه اللدد ويرجيه الخلوص (الخلاص خ. ل) فإن صح
عندك أن أحدا لقنه ما يضر به مسلما فاضربه بالدرة فاحبسه حتى يتوب.

1 - الوسائل 19 / 303، الباب 4 من أبواب العاقلة، الحديث 2.
2 - الوسائل 18 / 244، الباب 15 من أبواب الشهادات، الحديث 3.
3 - سنن البيهقي 10 / 142، كتاب آداب القاضي، باب ما يفعل بشاهد الزور.
452

ومر بإخراج أهل السجن في الليل إلى صحن السجن ليتفرجوا غير ابن هرمة، إلا أن
تخاف موته فتخرجه مع أهل السجن إلى الصحن. فإن رأيت به طاقة أو استطاعة فاضربه
بعد ثلاثين يوما خمسة وثلاثين سوطا بعد الخمسة والثلاثين الأولى. واكتب إلى بما
فعلت في السوق ومن اخترت بعد الخائن، واقطع عن الخائن رزقه. " (1)
ورواه عنه في المستدرك. (2)
10 - من يلقن المجرم بما يضر مسلما: ويدل عليه هذا الخبر الذي مر من الدعائم.
11 - من قتل مملوكه: 1 - ففي رواية أبي الفتح الجرجاني، عن أبي الحسن (عليه السلام) في رجل
قتل مملوكه أو مملوكته؟ قال: إن كان المملوك له أدب وحبس إلا أن يكون معروفا بقتل
المماليك فيقتل به. (3)
2 - وفي خبر مسمع بن عبد الملك، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن أمير المؤمنين (عليه السلام) رفع إليه
رجل عذب عبده حتى مات، فضربه مأة نكالا، وحبسه سنة، وأغرمه قيمة العبد فتصدق
بها عنه. (4)
12 - من سرق ثالثة: 1 - فعن العياشي، عن السكوني، عن جعفر بن محمد، عن أبيه،
عن على (عليه السلام): " أنه اتي بسارق فقطع يده، ثم أتى به مرة أخرى فقطع رجله اليسرى، ثم
أتى به ثالثة فقال إني أستحيي من ربي أن لا أدع له يدا يأكل بها ويشرب بها ويستنجي
بها ولا رجلا يمشي عليها، فجلده واستودعه السجن وأنفق عليه من بيت المال. " (5)

1 - دعائم الإسلام 2 / 532، كتاب آداب القضاة، الحديث 1892.
2 - مستدرك الوسائل 3 / 207، الباب 24 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 5.
3 - الوسائل 19 / 69، الباب 38 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 1.
4 - الوسائل 19 / 68، الباب 37 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 5.
5 - الوسائل 18 / 496، الباب 5 من أبواب حد السرقة، الحديث 16.
453

2 - وفي المستدرك، عن الجعفريات بسنده " وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) إذا سرق السارق
بعد أن تقطع يده ورجله، جلد وحبس في السجن وأنفق عليه من فيء المسلمين. " (1)
أقول: وفي كتاب الخراج لأبي يوسف في حكم الجواسيس:
" وسألت يا أمير المؤمنين على الجواسيس يوجدون وهم من أهل الذمة أو أهل
الحرب أو من المسلمين، فإن كانوا من أهل الحرب أو من أهل الذمة ممن يؤدي الجزية
من اليهود والنصارى والمجوس فاضرب أعناقهم، وإن كانوا من أهل الإسلام معروفين
فأوجعهم عقوبة وأطل حبسهم حتى يحدثوا توبة. " (2)
وقد مر عن مالك في المدونة الكبرى في من خرج بعصا أو بشيء ولم يخف السبيل و
لم يأخذ المال ولم يقتل، قال مالك:
" فهذا لو أخذ فيه بأيسره لم أر في ذلك بأسا. قلت: وما أيسره عند مالك؟ قال: أيسره و
أخفه أن يجلد وينفى ويسجن في الموضع الذي نفي إليه. " (3)
وحكى نحو ذلك عن مالك في الزاني البكر. (4)

1 - مستدرك الوسائل 3 / 236، الباب 5 من أبواب حد السرقة، الحديث 2.
2 - الخراج / 189.
3 - المدونة الكبرى 4 / 429.
4 - راجع أحكام السجون / 109.
454

الجهة السابعة:
في أقسام السجون بحسب أصناف السجناء:
لا ريب أن السجون الشرعية يجب أن تلحظ فيها وفي برامجها الموازين الشرعية و
الأهداف الإصلاحية الإسلامية. ومن الواضح أن اختلاط الرجال بالنساء في مكان
خلوة مما يوجب الفساد قطعا. كما أن اختلاط الصبيان بل الشبان الأحداث السذج
بالرجال المجربين لطرق الفساد والدعارة والتلصص في مكان خلوة لا شغل لهم فيه إلا
المقاولة والمفاكهة وصرف الوقت يوجب نشوء الصبيان والشبان على الفساد في
الأخلاق والأفعال، ولا يرضى الشرع المبين بذلك قطعا.
فيجب أن يفرد لكل صنف من هؤلاء ومن أصناف المجرمين مكان خاص، لئلا يؤدي
الأمر إلى الفساد. وبذلك يظهر وجوب إفراد سجن الشباب السذج أيضا عن سجن من
توغل في الانحراف الفكري والعقائد الفاسدة والمناهج الباطلة المعدية، إذا المعاشرة
المستمرة مؤثرة قطعا; فينقلب السجن المعد للإصلاح إلى محل الفساد والإفساد. هذا.
وفي التراتيب الإدارية للكتاني قال:
" في كتب السيرة من خبر إسلام عدى بن حاتم وفراره إلى الشام حين سمعه بجيش
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وطئ بلادهم: فخرج يتبعه خيل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأصابت بنت حاتم ممن
أصابته فقدم بها في سبايا طئ، وقد بلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه هرب إلى الشام، فجعلت
بنت حاتم في حصيرة بباب المسجد وكانت النساء تحتبس فيها. " (1)

1 - التراتيب الإدارية 1 / 299.
455

أقول: يظهر بذلك وجود السجن في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأن سجن النساء كان منفردا
عن سجن الرجال.
وفي كتاب أحكام السجون للوائلي:
" نص ابن عابدين في كتابه " رد المحتار على الدر المختار "، فقال: ويجعل للنساء
سجن على حدة دفعا للفتنة، كما نص على ضرورة تفريق الأحداث عن الكبار. ونص
السرخسي في المبسوط، فقال: وينبغي أن يكون محبس النساء في الدين على حدة، و
لا يكون معهن رجل حتى لا يؤدي إلى فتنة. " (1)
أقول: ذكر الدين من باب المثال قطعا، حيث كان أكثر حبسهن لذلك. والظاهر أنه أراد
بقوله: " ينبغي " اللزوم لا الاستحباب، فتدبر.
الجهة الثامنة:
في تقسيمها بملاحظة أسبابها الرئيسية:
نلخص ذلك من كتاب " أحكام السجون "، قال فيه ما ملخصه:
" للدخول في السجن أسباب تستفاد من تتبع الروايات وآراء الفقهاء وأنها أربعة
أقسام رئيسية:
الأول: السجن الاحتياطي. وهو إجراء تحفظي يتخذ قبل المتهم الذي لم تثبت إدانته
بعد ويحتمل أن تظهر براءته. والحبس بالنسبة له ليس عقوبة وإنما مجرد وسيلة
احتياطية أثناء التحقيق لمنعه من الهروب أو عن التأثير على مجرى التحقيق، ولذلك
يعامل في السجون معاملة تختلف عن المحكوم عليهم.
فعن ابن القيم في كتاب الطرق الحكمية: أن من الدعاوي أن يكون المتهم مجهول
الحال لا يعرف ببر ولا فجور، فيحبس حتى ينكشف حاله، وهو ثابت عند عامة

1 - أحكام السجون / 101.
456

علماء الإسلام. والمنصوص عليه عند أكثر الأئمة أنه يحبسه القاضي والوالي. هكذا
نص عليه مالك وأبو حنيفة وأحمد وأصحابهم. وقال الإمام أحمد: قد حبس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
في تهمة، قال أحمد: وذلك حتى يتبين للحاكم أمره...
ومن أمثلة هذا النوع ما ذكره السيد محسن العاملي في كتابه عجائب أحكام
أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: إن عليا (عليه السلام) حبس متهما بالقتل حتى نظر في أمر المتهمين معه.
الثاني: السجن الاستبرائي، كحبس من أشكل حاله في العسر واليسر كما روى في
الوسائل أن عليا (عليه السلام) قضى في الدين أن يحبس صاحبه، فإن تبين إفلاسه والحاجة
فيخلى سبيله حتى يستفيد مالا. وكمن يحبس اختبارا لما ينسب إليه من السرقة و
الفساد.
الثالث: السجن الحقوقي بقسميها من العامة والخاصة. فمن ذلك في الحقوق الخاصة
ما رواه في الوسائل: أن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يحبس ثلاثة: رجلا أكل مال اليتيم، أو
غصبه، أو اؤتمن على أمانة فذهب بها. وفي الحقوق العامة ما أورد ابن النجار الحنبلي
في منتهى الإرادات: إن من عرف بأذى الناس حتى بعينه - أي الغمز - حبس مؤبدا. و
مثل حبس الجاسوس المسلم وعقابه وتركه سجينا حتى يحدث توبة.
الرابع: السجن الجنائي. وأمثلته مستفيضة، من ذلك ما ورد " أن عليا (عليه السلام) قضى في
أربعة تباعجوا بالسكاكين وهم سكارى، فسجنهم حتى يفيقوا، فمات منهم اثنان وبقي
اثنان، فقضى بالدية على قبائل الأربعة وأخذ جراحة الباقين من دية المقتولين. " إلى
آخر ما ذكره، فراجع. (1)
أقول: بعج البطن: شقه. ولم يظهر لي فرق بين بين القسم الأول والثاني، فالأولى
جعلهما قسما واحدا. كما أن من المسجونين من يسجن لحق الله المحض، كالمرأة
المرتدة. فهل يدرج هذا في القسم الثالث أو يجعل قسما على حدة؟
ثم إنه لم يذكر في الأقسام الأسباب والآراء السياسية الموجبة للسجن في أعصارنا،
اللهم إلا أن تدخل هذه في قسم الحقوق العامة، أو يقال إن السجن

1 - أحكام السجون / 128 - 130.
457

بسببها بدعة ومخالف لحرية الناس في إظهار آرائهم السياسية ما لم يترتب عليه القتل
والإغارة وسلب الأمن من المجتمع. ويشهد لذلك عمل أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و
الأئمة (عليهم السلام)، فتدبر.
الجهة التاسعة:
في نفقات السجن والسجناء:
أما السجن فحيث إنه من المصالح العامة ومما يتوقف عليه استيفاء الحقوق وتأديب
المجرمين وحفظ النظام وأمن السبل، فلا محالة تكون نفقات بنائه وعمارته ومرافقه و
مراقبيه على بيت المال. واحتمال كونها في مال المسجون ضعيف. وأضعف منه كونها في
مال الحاكم بشخصه.
هذا مضافا إلى أنه لم يعهد في التاريخ ولا في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام)
كون أجرة السجن ومراقبيه على المسجون أو على الحاكم بشخصه. وقد مر بناء
أمير المؤمنين (عليه السلام) سجنين في الكوفة سماهما نافعا ومخيسا، والظاهر أنه بناهما من
بيت المال لا من أمواله الشخصية أو من أموال السجناء.
وأما نفقة المسجون فهل تكون على بيت المال مطلقا، أو على نفسه كذلك، أو يفصل
بين من له مال أو يقدر على تحصيله ولو بالاشتغال في السجن، وبين غيره، أو يفصل بين
المخلد في السجن فتكون على بيت المال كما في بعض الأخبار، وبين غيره فتكون على
نفسه، أو يفصل بين التوقيف الموقت للكشف فتكون على بيت المال لعدم ثبوت تقصيره،
وبين المحكوم بالسجن لثبوت تقصيره فتكون على نفسه على طبق القاعدة؟ في المسألة
وجوه:
ونحن نتعرض أولا لما تقتضيه القواعد الأولية، ثم للروايات الواردة في المسألة، ثم
نذكر بعض ما ذكره الفقهاء والمصنفون في هذا المقام تتميما للفائدة:
فنقول: حيث إن نفقة الإنسان وكذا نفقات عائلته تكون أولا وبالذات في
458

أمواله وعلى عهدة نفسه - والمفروض أن كلامنا ليس في مطلق السجن ولو كان غير
مشروع، بل في السجن المشروع من قبل الله - تعالى - أعني ما وقع في قبال تهمة أجاز
الشارع كشفها ولو بالسجن، أو في قبال إفساد الشخص أو عصيانه أو مطله وامتناعه -
فمع فرض تمكنه من تحصيل النفقة وأدائها لا يرى وجه لتحميلها بيت المال المتعلق
بالمسلمين.
نعم، لو كان فقيرا وبقي هو وعائلته بلا معاش، وكان السجن مانعا من شغله وعمله
المناسب صار حكمه حكم سائر الفقراء والمساكين في الارتزاق من بيت المال المعد
لسد الخلات.
وبالجملة، فيفصل بين الغني بالفعل أو بالقوة، وبين غيره. فنفقة الغني ولو بالقوة على
نفسه، ونفقة الفقير على بيت المال.
لا يقال: إن الغرض من سجنه كف شره وأذاه عن المسلمين، فتكون نفقته في طريق
المصالح العامة، نظير نفقة السجن ومراقبيه.
فإنه يقال: فرق بين السجن والمسجون، إذ نفقة الشخص بحسب الطبع الأولى تكون
على نفسه، والمفروض أن حبسه مستند إلى عمل نفسه وتقصيره وأن قدرته المالية و
تمكنه باقية ولو في السجن، فلا وجه لتحميل نفقته على بيت المال.
نعم، لأحد أن يقول: إن ما ذكرت صحيح في من ثبت تقصيره وحكم بحبسه لذلك، و
أما المسجون في تهمة قبل كشفها فلم يثبت تقصيره، وحيث إن توقيفه الموقت يكون في
طريق المصالح العامة وتحمله النفقة حينئذ ضرر عليه لا يجبر، كان المناسب رزقه من
بيت المال حتى يتضح الحال.
وهذا التفصيل عندي قوى وإن لم أعثر على من أفتى به. ويحتمل في المتهم أيضا
ثبوت حق المطالبة منه إذا ثبت بعد ذلك كونه مقصرا، فتدبر.
وكيف كان، فاللازم رعاية ما تقتضيه القواعد الأولية ما لم يرد دليل على خلافها.
فلنرجع إلى الروايات الواردة في المسألة ولنبين المستفاد منها فنقول:
459

1 - روى في الوسائل عن قرب الإسناد بسنده، عن جعفر، عن أبيه أن على بن
أبي طالب (عليه السلام) لما قتله ابن ملجم قال: " احبسوا هذا الأسير وأطعموه وأحسنوا إساره. فإن
عشت فأنا أولى بما صنع بي: إن شئت استقدت وإن شئت عفوت... " (1)
وروى نحوه البيهقي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه. (2)
أقول: لا يخفى أن هذه حكاية عن واقعة خاصة، فلا تدل على حكم كلي بالنسبة إلى
كل سجين ولو كان متمكنا بالفعل. ولعله كان أمرا عاطفيا منه (عليه السلام) بالنسبة إلى الأسير
المحبوس في بيته. والظاهر من كلامه (عليه السلام) إطعامه من طعامه لا من بيت المال، فتدبر.
2 - وفي خبر أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " إن عليا (عليه السلام) كان يطعم من خلد في
السجن من بيت مال المسلمين. " (3)
والظاهر من الخبر عموم الحكم بالنسبة إلى كل من خلد، فان التعبير يدل على
الاستمرار.
3 - وروى الكليني عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد،
عن النضر بن سويد، عن القاسم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سألته عن رجل سرق، فقال:
سمعت أبي يقول: اتي علي (عليه السلام) في زمانه برجل قد سرق فقطع يده، ثم اتي به ثانية فقطع
رجله من خلاف، ثم اتي به ثالثة فخلده في السجن وأنفق عليه من بيت مال المسلمين و
قال: هكذا صنع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا أخالفه. " (4)
ورواه الشيخ بسنده، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن أبي القاسم. (5)

1 - الوسائل 19 / 96، الباب 62 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 4.
2 - سنن البيهقي 8 / 183، كتاب قتال أهل البغي، باب الرجل يقتل واحدا من المسلمين...
3 - الوسائل 11 / 69، الباب 32 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
4 - الوسائل 18 / 493، الباب 5 من أبواب حد السرقة، الحديث 3.
5 - التهذيب 10 / 104، الباب 8 من كتاب الحدود، الحديث 22.
460

أقول: الظاهر أن المراد بالقاسم في سند الكليني قاسم بن سليمان، وحاله غير معلوم و
إن قيل بأن نقل النضر بن سويد عنه يلحقه بالحسان. وأما أبو القاسم في سند الشيخ فلم
يعلم المراد منه، ولعله مصحف القاسم.
ثم لا يخفى أن المحكى من فعل أمير المؤمنين (عليه السلام) هو واقعة خاصة. فلعل الشخص كان
فقيرا غير متمكن، فلا يدل الخبر على وجوب الإنفاق على كل مسجون. والظاهر أن
المشار اليه في قوله: " هكذا صنع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، " ليس هو مسألة الإنفاق، بل مسألة
الحبس في الثالثة في قبال ما كان يفعله أبو بكر وعمر من القطع في الثالثة والرابعة أيضا
كما دلت عليه أخبارهم.
4 - صحيحة أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " تقطع رجل السارق بعد قطع اليد، ثم
لا يقطع بعد، فإن عاد حبس في السجن وأنفق عليه من بيت مال المسلمين. " (1)
5 - صحيحة الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث في السرقة، قال: " تقطع اليد و
الرجل ثم لا يقطع بعد، ولكن إن عاد حبس وأنفق عليه من بيت مال المسلمين. " (2)
والظاهر جواز الاستدلال بإطلاق الصحيحتين. واحتمال خصوصية السرقة ضعيف،
وكذا احتمال خصوصية التخليد في السجن وإن كان المورد من موارد الإخلاد في
السجن كما يدل عليه بعض أخبار الباب. اللهم إلا أن يقال: إن الغالب في من يخلد في
السجن هو الفقر وعدم التمكن، فلا يستفاد من هذه الأخبار حكم المسجون المتمكن.
6 - موثقة سماعة، قال: " سألته عن السارق وقد قطعت يده، فقال: تقطع رجله بعد
يده، فإن عاد حبس في السجن وأنفق عليه من بيت مال المسلمين. " (3)

1 - الوسائل 18 / 493، الباب 5 من أبواب حد السرقة، الحديث 6.
2 - الوسائل 18 / 494، الباب 5 من أبواب حد السرقة، الحديث 7.
3 - الوسائل 18 / 496، الباب 5 من أبواب حد السرقة، الحديث 14.
461

7 - وروى الصدوق بإسناده إلى قضايا أمير المؤمنين (عليه السلام): " أنه كان إذا سرق الرجل
أولا قطع يمينه، فإن عاد قطع رجله اليسرى، فإن عاد ثالثة خلده السجن وأنفق عليه من
بيت المال. " (1)
8 - وعن العياشي في تفسيره، عن السكوني، عن جعفر بن محمد عن أبيه، عن
على (عليه السلام) أنه اتي بسارق فقطع يده... فجلده واستودعه السجن وأنفق عليه من
بيت المال. " (2)
9 - وفي دعائم الإسلام، عن على (عليه السلام) أنه قال: " من خلد في السجن رزق من
بيت المال ولا يخلد في السجن إلا ثلاثة: الذي يمسك على الموت، والمرأة ترتد إلا أن
تتوب، والسارق بعد قطع اليد والرجل، يعني إذا سرق بعد ذلك في الثالثة. " (3) ورواه
عنه في المستدرك. (4)
10 - وفيه أيضا في حديث: " وكان على (عليه السلام) إذا اتي بالسارق في الثالثة بعد أن قطع
يده ورجله في المرتين خلده في السجن وأنفق عليه من فيء المسلمين، فإن سرق في
السجن قتله. " (5) ورواه عنه في المستدرك. (6)
11 - وفي المستدرك، عن الجعفريات بسنده: " وكان أمير المؤمنين إذا سرق السارق
بعد أن تقطع يده ورجله جلد وحبس في السجن وأنفق عليه من فيء المسلمين. " (7)
12 - وفيه أيضا، عن نوادر أحمد بن محمد بن عيسى بسنده، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في
حديث، قال: " ويقطع من السارق الرجل بعد اليد، فإن عاد فلا قطع ولكن يخلد السجن و
ينفق عليه من بيت المال. " (8)

1 - الوسائل 18 / 495، الباب 5 من أبواب حد السرقة، الحديث 10.
2 - الوسائل 18 / 496، الباب 5 من أبواب حد السرقة، الحديث 16.
3 - دعائم الإسلام 2 / 539، كتاب آداب القضاة، الحديث 1917.
4 - مستدرك الوسائل 3 / 236، الباب 5 من أبواب حد السرقة، الحديث 4.
5 - دعائم الإسلام 2 / 470، كتاب السراق، الفصل 1، الحديث 1674.
6 - مستدرك الوسائل 3 / 236، الباب 5 من أبواب حد السرقة، الحديث 3.
7 - مستدرك الوسائل 3 / 236، الباب 5 من أبواب حد السرقة، الحديث 2.
8 - مستدرك الوسائل 3 / 236، الباب 5 من أبواب حد السرقة، الحديث 6.
462

هذا ما عثرنا عليه من أخبار المسألة.
ودلالتها إجمالا على كون نفقة السجناء على بيت المال ظاهرة، وظاهر بعضها
الإطلاق أيضا، فيرفع بسببها اليد عما أصلناه من القاعدة الأولية. اللهم إلا أن يقال إن
مورد الجميع السرقة الثالثة، وحكمها التخليد في السجن، والغالب فيمن خلد فيه تلاشى
طرق المعيشة واضمحلالها، فلا يستفاد من هذه الروايات حكم من بقي رأس ماله و
ثروته. هذا.
وفي كتاب القضاء من ملحقات العروة:
" الظاهر أن مؤونة الحبس من بيت المال. وإذا لم يكن فعلى المحبوس. ويحتمل كونها
على المحكوم له. " (1)
أقول: محل بحثه مطل المديون، فيوجد في قباله مطالب الدين الذي حكم له بسجن
المديون.
وفي كتاب القضاء من المستند:
" مؤونة المحبوس حال الحبس من ماله، ووجهه ظاهر. ويشكل الأمر لو لم يكن له
شيء ظاهر، وكان ينفق كل يوم بقرض أو كسب قدر مؤونته أو سؤال أو كل على غيره و
نحوها، بل قد يغتنم المحبس لذلك. وكذا الإشكال في مؤونة الحبس، فإنه يحتاج إلى
مكان ومراقب ليلا ونهارا لئلا يهرب، فإن كان هنا بيت مال فالمؤونتان عليه، وإلا فإن
بذله خصمه من ماله فلا إشكال أيضا، وإلا فتحميله على الحاكم ضرر عليه منفى.
فيعارض بأدلته أدلة الحبس، فيرجع إلى أصل عدم وجوب الحبس عليه، أو يقال
بالتخيير فله إطلاقه ولا يجب عليه شيء. " (2)
وفي كتاب الخراج للقاضي أبي يوسف، الذي كتبه لهارون الرشيد، كلام طويل في هذا
المقام يناسب ذكره، قال فيه:

1 - ملحقات العروة الوثقى 3 / 56، كتاب القضاء، الفصل 3، المسألة 13.
2 - مستند الشيعة 2 / 549.
463

" وأما ما سألت عنه يا أمير المؤمنين من أمر أهل الدعارة والفسق والتلصص إذا
أخذوا في شيء من الجنايات وحبسوا هل يجرى عليهم ما يقوتهم في الحبس، والذي
يجرى عليهم من الصدقة أو من غير الصدقة؟ وما ينبغي أن يعمل به فيهم.
قال: لابد لمن كان في مثل حالهم إذا لم يكن له شئ يأكل منه لامال ولاوجه شيء
يقيم به بدنه أن يجرى عليه من الصدقة أو من بيت المال. من أي الوجهين فعلت فذلك
موسع عليك، وأحب إلى أن تجري من بيت المال على كل واحد منهم ما يقوته، فإنه
لا يحل ولا يسع إلا ذلك.
قال: والأسير من أسرى المشركين لابد أن يطعم ويحسن إليه حتى يحكم فيه، فكيف
برجل مسلم قد أخطأ أو أذنب: يترك يموت جوعا؟ وإنما حمله على ما صار إليه القضاء
أو الجهل.
ولم تزل الخلفاء يا أمير المؤمنين تجري على أهل السجون ما يقوتهم في طعامهم و
أدمهم وكسوتهم الشتاء والصيف. وأول من فعل ذلك على بن أبي طالب - كرم الله وجهه
- بالعراق، ثم فعله معاوية بالشام، ثم فعل ذلك الخلفاء من بعده.
قال: حدثني إسماعيل بن إبراهيم بن المهاجر، عن عبد الملك بن عمير، قال: كان على
بن أبي طالب إذا كان في القبيلة أو القوم الرجل الداعر حبسه، فإن كان له مال أنفق عليه
من ماله، وإن لم يكن له مال أنفق عليه من بيت مال المسلمين، وقال: يحبس عنهم شره و
ينفق عليه من بيت مالهم.
قال: وحدثنا بعض أشياخنا، عن جعفر بن برقان، قال: كتب إلينا عمر بن عبد العزيز:
" لا تدعن في سجونكم أحدا من المسلمين في وثاق لا يستطيع أن يصلي قائما، ولا تبيتن
في قيد إلا رجلا مطلوبا بدم. وأجروا عليهم من الصدقة ما يصلحهم في طعامهم وأدمهم.
والسلام. "
فمر بالتقدير لهم ما يقوتهم في طعامهم وأدمهم، وصير ذلك دراهم تجري عليهم في
كل شهر يدفع ذلك إليهم، فإنك إن أجريت عليهم الخبز ذهب به ولاة السجن والقوام و
الجلاوزة. وول ذلك رجلا من أهل الخير والصلاح يثبت أسماء من في السجن ممن
تجرى عليهم الصدقة، وتكون الأسماء عنده، ويدفع ذلك إليهم شهرا
464

بشهر; يقعد ويدعو باسم رجل رجل ويدفع ذلك إليه في يده، فمن كان منهم قد أطلق
وخلي سبيله رد ما يجرى عليه، ويكون للإجراء عشرة دراهم في الشهر لكل واحد، و
ليس كل من في السجن يحتاج إلى أن يجرى عليه.
وكسوتهم في الشتاء قميص وكساء، وفي الصيف قميص وإزار، ويجرى على
النساء مثل ذلك، وكسوتهن في الشتاء قميص ومقنعة وكساء، وفي الصيف قميص و
إزار ومقنعة.
وأغنهم عن الخروج في السلاسل يتصدق عليهم الناس، فإن هذا عظيم أن يكون قوم
من المسلمين قد أذنبوا وأخطأوا وقضى الله عليهم ما هم فيه فحبسوا يخرجون في
السلاسل يتصدقون. وما أظن أهل الشرك يفعلون هذا بأسارى المسلمين الذين في
أيديهم، فكيف ينبغي أن يفعل هذا بأهل الإسلام؟ وإنما صاروا إلى الخروج في السلاسل
يتصدقون لما هم فيه من جهد الجوع. فربما أصابوا ما يأكلون وربما لم يصيبوا.
إن ابن آدم لم يعر من الذنوب، فتفقد أمرهم، ومر بالإجراء عليهم مثل ما فسرت لك.
ومن مات منهم ولم يكن له ولى ولا قرابة، غسل وكفن من بيت المال وصلي عليه و
دفن، فإنه بلغني وأخبرني به الثقات أنه ربما مات منهم الميت الغريب، فيمكث في
السجن اليوم واليومين حتى يستأمر الوالي في دفنه وحتى يجمع أهل السجن من عندهم
ما يتصدقون ويكترون من يحمله إلى المقابر فيدفن بلا غسل ولا كفن ولا صلاة عليه! فما
أعظم هذا في الإسلام وأهله!
ولو أمرت بإقامة الحدود لقل أهل الحبس ولخاف الفساق وأهل الدعارة ولتناهوا
عما هم عليه. وإنما يكثر أهل الحبس لقلة النظر في أمرهم. إنما هو حبس وليس فيه نظر.
فمر ولاتك جميعا بالنظر في أمر أهل الحبوس في كل أيام; فمن كان عليه أدب أدب و
أطلق، ومن لم يكن له قضية خلي عنه. وتقدم إليهم أن لا يسرفوا في الأدب ولا يتجاوزوا
بذلك إلى ما لا يحل ولا يسع، فإنه بلغني أنهم يضربون الرجل في التهمة وفي الجناية:
الثلاثمأة والمأتين وأكثر وأقل! وهذا مما لا يحل ولا يسع. ظهر
465

المؤمن حمى إلا من حق يجب بفجور أو قذف أو سكر أو تعزير للأمر أتاه لا يجب فيه
حد. وليس يضرب في شيء من ذلك، كما بلغني أن ولاتك يضربون وإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
قد نهى عن ضرب المصلين. " (1)
انتهى كلام أبي يوسف. وإنما حكيناه بطوله لاشتماله على أمور مهمة دقيقة، ولأنه
يرينا أيضا سنخ أعمال الولاة والأمراء في تلك الأعصار ومعاملتهم للسجناء والأسراء،
ويظهر منه التفصيل بين واجد المال وفاقده مستندا في ذلك إلى ما رواه عن
أمير المؤمنين (عليه السلام).
وقال الماوردي في الأحكام السلطانية:
" يجوز للأمير فيمن تكررت منه الجرائم ولم ينزجر عنها بالحدود أن يستديم حبسه
إذا استضر الناس بجرائمه حتى يموت بعد أن يقوم بقوته وكسوته من بيت المال ليدفع
ضرره عن الناس. " (2)
وفي كتاب أحكام السجون عن كتاب نظم الحكم بمصر:
" وأول من أجرى من الخلفاء الراشدين على أهل السجون ما يقوتهم في طعامهم و
كسوتهم صيفا وشتاء هو الإمام على (عليه السلام). فإذا كان للمجرم مال أنفق منه عليه في السجن،
وإن لم يكن له مال أنفق عليه من بيت مال المسلمين حتى يحبس عن الناس شره. " (3)
أقول: وكيف كان فالأقوى في المسألة هو التفصيل بين المتمكن فعلا أو بالقوة من
تحصيل ما يعيش به، وبين غيره، ففي الأول يكون على نفسه وفي الثاني على بيت المال،
اللهم إلا أن يكون للحكومة مانع من قبول المال والمؤونة من الخارج وتقتضي المصلحة
كون الجميع على بيت المال تحت نظام واحد، كما لعله الغالب في سجون عصرنا، فتدبر.

1 - الخراج / 149 - 151.
2 - الأحكام السلطانية / 220.
3 - أحكام السجون / 125.
466

الجهة العاشرة:
في التعرض لفروع أخر جزئية:
يظهر من جميعها إجمالا وجوب رعاية السجناء في معاشهم ومعادهم، والسعي في
خلاصهم من السجن، والاهتمام بمرافقهم بمقدار لا ينافي المقصود من حبسهم:
الأول:
النظر في حال المحبوسين:
حيث إن السجون في جميع الأعصار كانت تحت أمر السلطة القضائية، كما هو
المتعارف في عصرنا أيضا، ذكر الفقهاء في آداب القضاء أن من وظائف القاضي
المنصوب في أول نصبه أن ينظر في حال المحبوسين بأمر القاضي المعزول، كيلا يبقى في
السجن شخص بلا جهة ملزمة.
ففي آداب القضاء من المبسوط:
" فإذا جلس للقضاء فأول شيء ينظر فيه حال المحبسين في حبس المعزول، لأن
الحبس عذاب فيخلصهم منه، ولأنه قد يكون منهم من تم عليه الحبس بغير حق. " إلى
آخر ما ذكره. (1)
وفي قضاء الشرائع في الآداب المستحبة للقاضي:
" ثم يسأل عن أهل السجون ويثبت أسماءهم وينادي في البلد بذلك ليحضر

1 - المبسوط 8 / 91.
467

الخصوم ويجعل لذلك وقتا، فإذا اجتمعوا أخرج اسم واحد واحد ويسأله عن موجب
حبسه، وعرض قوله على خصمه، فإن ثبت لحبسه موجب أعاده، وإلا أشاع حاله بحيث
إن لم يظهر له خصم أطلقه. وكذا لو أحضر محبوسا فقال: لا خصم لي، فإنه ينادي في
البلد، فإن لم يظهر له خصم أطلقه، وقيل: يحلفه مع ذلك. " (1)
وفي المنهاج للنووي في فقه الشافعية:
" وينظر أولا في أهل الحبس، فمن قال: حبست بحق أدامه، أو ظلما فعلى خصمه
حجة. " (2)
وفي أحكام السجون عن المهذب لأبي إسحاق الشيرازي من فقهاء الشوافع، قال:
" ويستحب أن يبدأ في نظرة المحبسين، لأن الحبس عقوبة وعذاب، وربما كان فيهم
من تجب تخليته، فاستحب البداية بهم. ويكتب أسماء المحبسين وينادي في البلدان:
القاضي يريد النظر في أمر المحبسين في يوم كذا، فليحضر من له محبوس، فإذا حضر
الخصوم أخرج خصم كل واحد منهم، فإن وجب إطلاقه أطلقه، وإن وجب حبسه أعاده
إلى الحبس. " (3)
أقول: وقد صرح بهذا المضمون أكثر فقهاء الشيعة والسنة في كتاب القضاء، فراجع و
انظر كيف اهتم الفقه الإسلامي بأمر المحبوسين وتفقد حالاتهم، ولاحظ ما تعارف في
أكثر البلدان من امتلاء السجون بمتهمين قضوا أشهرا عديدة بل سنوات في السجون بلا
تعيين لحالهم وأوضاعهم وما إليه مآلهم، فتدبر.

1 - الشرائع 4 / 73.
2 - المنهاج / 591.
3 - أحكام السجون / 120; عن المهذب 2 / 298.
468

الثاني:
رعاية حاجات المحبوسين:
إن على الإمام أن يراعي حاجات المحبوسين في معاشهم من الغذاء والدواء والهواء
الصافي والألبسة الصيفية والشتوية وسائر المرافق والإمكانات. وقد مر بالتفصيل
البحث في نفقة المحبوسين في الجهة التاسعة، ومر عن كتاب الخراج لأبي يوسف قوله:
" ولم تزل الخلفاء تجري على أهل السجون ما يقوتهم في طعامهم وأدمهم وكسوتهم
الشتاء والصيف. وأول من فعل ذلك على بن أبي طالب - كرم الله وجهه - بالعراق، ثم
فعله معاوية بالشام، ثم فعل ذلك الخلفاء من بعده. " (1)
وفي كتاب أحكام السجون في بيان ما يلزم رعايته:
" أن يكون بناء السجن مريحا وواقيا من الحر والبرد مما يتوفر معه راحة السجين. و
من هنا ترى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يحبس في الدور الاعتيادية التي يسكنها سائر الناس ويتوفر
فيها النور والسعة. فقد حبس الأسرى المقاتلين الذين حكمهم القتل في دور اعتيادية، إذ
فرقهم على بيوت الصحابة، وأحيانا كان يحبسهم في دار واحدة كما حبسهم في دار
امرأة من بني النجار من الأنصار. " (2)
وفي بدائع الصنائع:
" وأما بيان ما يمنع المحبوس عنه وما لا يمنع: فالمحبوس ممنوع عن الخروج إلى
أشغاله ومهماته، وإلى الجمع والجماعات والأعياد وتشييع الجنائز وعيادة المرضى و
الزيارة والضيافة، لأن الحبس للتوسل إلى قضاء الدين فإذا منع عن أشغاله ومهماته

1 - الخراج / 149.
2 - أحكام السجون / 117.
469

الدينية والدنيوية تضجر فيسارع إلى قضاء الدين. ولا يمنع من دخول أقاربه عليه،
لأن ذلك لا يخل بما وضع له الحبس، بل قد يقع وسيلة إليه. ولا يمنع من التصرفات
الشرعية من البيع والشراء والهبة والصدقة والإقرار لغيرهم من الغرماء، حتى لو فعل
شيئا من ذلك نفذ ولم يكن للغرماء ولاية الإبطال، لأن الحبس لا يوجب بطلان أهلية
التصرفات... " (1)
أقول: ما ذكره من عدم الخروج إلى الجمع ربما ينافي ما نذكره عن قريب من إخراج
الإمام المحبوسين إلى الجمع والأعياد ولكن تحت مراقبة الحراس وضمانة الأولياء.
هذا.
ومن الأمور المهمة التي ينبغي رعايتها إيجاد شرائط اللقاء بين المسجون وزوجه و
إمكان الخلوة بينهما، فإن الحاجة الجنسية من أشد الحاجات، والفصل الطويل بينهما
يستعقب غالبا أمورا لا يرضى بها العقل والشرع، وربما يوجب الفرقة، وتلاشي الحياة
العائلية.
وفي المستدرك، عن الجعفريات بسنده، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن
على (عليه السلام): " إن امرأة استعدت عليا (عليه السلام) على زوجها، فأمر على (عليه السلام) بحبسه. وذلك الزوج
لا ينفق عليها إضرارا بها، فقال الزوج احبسها معي. فقال على (عليه السلام): لك ذلك; انطلقي
معه. " (2)
الثالث:
ضمان السجان إذا فرط:
لو فرط السجان في أمن مكان السجين أو تهويته أو غذائه أو دوائه أو سائر

1 - بدائع الصنائع، 7 / 174.
2 - مستدرك الوسائل 2 / 497، الباب 6 من كتاب الحجر، الحديث 3.
470

وسائل عيشته فمات أو مرض لأجل تفريطه فالظاهر ضمانه له قصاصا أو دية،
لاستناد الموت والمرض إلى عمله.
1 - قال الشيخ في الخلاف (المسألة 19 من الجنايات):
" إذا أخذ صغيرا فحبسه ظلما فوقع عليه حائط أو قتله سبع أو لسعته حية أو عقرب
فمات كان عليه ضمانه، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: لا ضمان عليه. دليلنا إجماع
الفرقة وأخبارهم، وأيضا طريقة الاحتياط تقتضيه. وأما إذا مات حتف أنفه فلا ضمان
عليه بلا خلاف. " (1)
أقول: الظاهر أن مراده بأخبار الفرقة الأخبار الدالة على الضمان في أشباه المقام مما
كان الموت فيها مستندا إلى فعل السبب عرفا. ومراده بحتف الأنف ما كان الموت فيه
مستندا إلى بلوغ أجله الطبيعي.
ولعل ذكر الصبي كان من جهة وضوح استناد موته إلى هذه الأمور التي ذكرها، إذ
الكبير يدافع عن نفسه غالبا ولو بالصياح والاستمداد، وإلا فلو لم يتمكن هو من الدفاع
لأجل حبسه وتفريط الحابس فالظاهر هو الضمان فيه أيضا.
وكذلك لافرق بين الحبس ظلما أو عن حق، إذا الحق هو الحبس لا جعله في معرض
السبع أو الحية أو الحائط المشرف على الوقوع، فتأمل.
2 - وقال في كتاب الجراح من المبسوط:
" إذا أخذ حرا فحبسه فمات في حبسه فإن كان يراعيه بالطعام والشراب فمات في
الحبس فلا ضمان بوجه، صغيرا كان أو كبيرا. وقال بعضهم: إن كان كبيرا مثل هذا، وإن
كان صغيرا فإن مات حتف أنفه فلا ضمان، وإن مات بسبب مثل أن لدغته حية أو عقرب
أو قتله سبع أو وقع عليه حائط أو سقف فقتله فعليه الضمان. وهذا الذي يقتضيه مذهبنا و
أخبارنا.
فأما إن منعه الطعام أو الشراب أو هما، أو طين عليه البيت فمات، فإن مات في

1 - الخلاف 3 / 94.
471

مدة يموت فيها غالبا فعليه القود، وإن كان لا يموت فيها غالبا فلا قود وفيه الدية. و
هذا يختلف باختلاف حال الإنسان والزمان: فإن كان جائعا أو عطشانا والزمان شديد
الحر، مات في الزمان القليل. وإن كان شبعانا أو ريانا والزمان معتدل أو شديد البرد،
لم يمت في الزمان الطويل، فيعتبر هذا فيه، فإن كان في مدة يموت مثله فيها فعليه القود، و
إن كان لا يموت غالبا فيها فعليه الدية. " (1)
3 - وفي كتاب الجنايات من قواعد العلامة في بيان أنحاء القتل:
" لو حبسه ومنعه الطعام والشراب مدة لا يحتمل في مثله البقاء فيها فمات، أو أعقبه
مرضا مات به، أو ضعف قوة حتى تلف بسببه فهو عمد. ويختلف ذلك باختلاف الناس و
قواهم، واختلاف الأحوال والأزمان. فالريان في البرد يصبر ما لا يصبر العطشان في
الحر، وبارد المزاج يصبر على الجوع أكثر من حاره. ولو حبس الجائع حتى مات جوعا
فإن علم جوعه لزمه القصاص، كما لو ضرب مريضا ضربا يقتل المريض دون الصحيح، و
إن جهله ففي القصاص إشكال. فإن نفيناه ففي إيجاب كل الدية أو نصفها إحالة للهلاك
على الجوعين إشكال. " (2)
4 - وفي كتاب أحكام السجون نقلا عن مبسوط السرخسي:
" لو حبسه في البيت فطبق عليه الباب حتى مات فعند الصاحبين - أي أبي يوسف و
محمد بن الحسن - أنه يضمن ديته، لأنه تسبب في إتلافه على وجه متعد فيه، فيكون
بمنزلة حافر البئر في الطريق. " (3)
5 - وفيه أيضا عن أبي إسحاق الشيرازي في المهذب:
" وإن حبس رجلا ومنع عنه الطعام والشراب مدة لا يبقى فيها من غير طعام و
لا شراب فمات، وجب عليه القصاص. " (4)
إلى غير ذلك من كلمات فقهاء الفريقين. والعمدة صحة استناد الموت إليه

1 - المبسوط 7 / 18.
2 - القواعد 2 / 278.
3 - أحكام السجون / 118.
4 - أحكام السجون / 119; عن المهذب 2 / 176.
472

عرفا ولو بالتسبيب إذا كان أقوى من المباشرة. ولا ينحصر الحكم في الطعام و
الشراب بل يعم الدواء وسائر ما يتوقف عليه إدامة الحياة بالنسبة إلى هذا الشخص ولو
مثل وسائل التهوية والتدفئة ونحوهما، فتدبر.
الرابع:
على الإمام أن يراعي الشؤون الدينية للسجناء:
1 - فعن الصدوق بإسناده، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: " على
الإمام أن يخرج المحبسين في الدين يوم الجمعة إلى الجمعة، ويوم العيد إلى العيد.
فيرسل معهم، فإذا قضوا الصلاة والعيد ردهم إلى السجن. " (1)
وسند الصدوق إلى عبد الله بن سنان صحيح، فالرواية صحيحة.
وعن الشيخ بسنده، عن عبد الرحمان بن سيابة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) مثله (2).
وسنده إلى ابن سيابة صحيح، والظاهر كون ابن سيابة موثوقا به وإن رماه صاحب
المدارك بالجهالة.
2 - وعن الجعفريات بسنده، عن جعفر بن محمد، عن أبيه (عليه السلام): " أن عليا (عليه السلام) كان يخرج
أهل السجون من الحبس في دين أو تهمة إلى الجمعة، فيشهدونها، ويضمنهم الأولياء
حتى يردونهم. " (3)
والظاهر أنه لا خصوصية للدين والتهمة، بل الظاهر عموم الحكم لكل مسجون مسلم.
نعم، ربما يظهر من هاتين الروايتين أن الحبس في تلك الأعصار لم يكن غالبا إلا في
الديون أو التهم، ولم يكن الأمر مثل ما في أعصارنا بحيث يحكم بالحبس

1 - الوسائل 18 / 221، الباب 32 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2.
2 - الوسائل 5 / 36، الباب 21 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 1.
3 - مستدرك الوسائل 1 / 410، الباب 17 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 1; و 3 / 207، الباب
24 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.
473

لكل كبيرة وصغيرة بل لكل أمر تافه موهوم أيضا، بل لم يعهد في عصر
أمير المؤمنين (عليه السلام) وما قبله وجود السجون السياسية الرائجة في عصرنا، حيث إن الناس
كانوا أحرارا في عرض آرائهم السياسية ما لم يترتب عليها البغي والطغيان والقتل و
الإغارة. هذا.
3 - وعن الجعفريات بسنده، عن جعفر بن محمد، عن أبيه (عليه السلام): " أن عليا (عليه السلام) كان يخرج
الفساق إلى الجمعة، وكان يأمر بالتضييق عليهم. " (1)
ولعل الظاهر منه الإخراج من السجن. وإن أبيت ذلك فعمومه يشمل المسجونين.
4 - وفي كتاب " أحكام السجون " نقلا عن الأستاذ توفيق الفكيكي في بحثه في
تاريخ السجن الإصلاحي:
" قد جاءت الأخبار ودلت الآثار التي يجدها القارئ في كتب التاريخ والآداب و
السير وفي مدونات الفقه الإسلامي بأن العبادات الشرعية والآداب التهذيبية والتعاليم
القرآنية والقراءة والكتابة كانت مرعية ومحتمة في النافع والمخيس. (2)
وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) يؤدب المسجونين المكلفين بالنفعات - العصى - على تركهم
الشعائر الدينية، ويعزر المهمل منهم أو المتهاون بأدائها. كما كان يلحظ بروح الإنصاف
أحوال معيشتهم وإدارتهم وشؤونهم الأخرى ملاحظة دقيقة، ويشملهم برعايته ويرأف
بحالهم. " (3)
الجهة الحادية عشرة:
في ذكر ما عثرت عليه من موارد السجن في أخبار الشيعة والسنة:

1 - مستدرك الوسائل 1 / 410، الباب 17 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 2.
2 - سجنان بناهما أمير المؤمنين (عليه السلام) كما مر.
3 - أحكام السجون / 124.
474

وقبل التعرض لها نذكر ضابطة ذكرها الشهيد الأول لذلك في كتابه المسمى بالقواعد و
الفوائد، وضابطة حكاها في كتاب " الفقه الإسلامي وأدلته " عن بعض علماء السنة:
قال الشهيد في القواعد:
" ضابط الحبس: توقف استخراج الحق عليه. ويثبت في مواضع:
] 1 [- الجاني إذا كان المجنى عليه غائبا أو وليه، حفظا لمحل القصاص.
] 2 [- والممتنع من أداء الحق مع قدرته عليه.
] 3 [- والمشكل أمره في العسر واليسر إذا كانت الدعوى مالا، أو علم له أصل مال و
لم يثبت إعساره، فيحبس ليعلم أحد الأمرين.
] 4 [- والسارق بعد قطع يده ورجله مرتين، أو سرق ولا يد له ولا رجل.
] 5 [- من امتنع من التصرف الواجب عليه الذي لا يدخله النيابة كتعيين المختارة و
المطلقة، وتعيين المقربه من العينين أو الأعيان، وقدر المقر به عينا أو ذمة، وتعيين المقر
له.
] 6 [- والمتهم بالدم، ستة أيام.
فإن قلت: القواعد تقتضي أن العقوبة بقدر الجناية، ومن امتنع عن أداء درهم حبس
حتى يؤديه، فربما طال الحبس، وهذه عقوبة عظيمة في مقابلة جناية حقيرة. قلت: لما
استمر امتناعه قوبل كل ساعة من ساعات الامتناع بساعة من ساعات الحبس، فهي
جنايات متكررة وعقوبات متكررة. " (1)
انتهى كلام الشهيد (قدس سره).
أقول: كأن الشهيد " قده " لم يكن يرى للسجن التعزيري ولا السجون السياسية الرائجة
في جميع الأعصار اعتبارا شرعيا، ولذا لم يتعرض لهما. كما أنه لم يذكر من

1 - القواعد والفوائد 2 / 192; ونضد القواعد / 499.
475

موارد الإخلاد في السجن الواردة في الروايات إلا موردا واحدا وهو السارق بعد
قطع يده ورجله، مع أن موارد الإخلاد أكثر كما سيظهر.
وفي الفقه الإسلامي وأدلته، عن القرافي المالكي في كتاب الفروق:
" ويشرع الحبس في ثمانية مواضع:
الأول: يحبس الجاني لغيبة المجني عليه، حفظا لمحل القصاص.
الثاني: حبس الآبق سنة، حفظا للمالية رجاء أن يعرف صاحبه.
الثالث: يحبس الممتنع عن دفع الحق، إلجاء إليه.
الرابع: يحبس من أشكل أمره في العسر واليسر، اختبارا لحاله، فإذا ظهر حاله حكم
بموجبه عسرا أو يسرا.
الخامس: الحبس للجاني، تعزيرا وردعا عن معاصي الله - تعالى -.
السادس: يحبس من امتنع من التصرف الواجب الذي لا تدخله النيابة، كحبس من
أسلم متزوجا بأختين أو عشر نسوة، أو امرأة وابنتها، وامتنع من تعيين واحدة.
السابع: من أقر بمجهول، عينا أو في الذمة، وامتنع من تعيينه، فيحبس حتى يعينهما،
فيقول: العين هو هذا الثوب أو هذه الدابة ونحوهما، أو الشيء الذي أقررت به هو دينار
في ذمتي.
الثامن: يحبس الممتنع في حق الله - تعالى - الذي لا تدخله النيابة عند الشافعية
كالصوم. وعند المالكية، يقتل كالصلاة.
قال القرافي: وما عدا هذه الثمانية لا يجوز الحبس فيه، ولا يجوز الحبس في الحق إذا
تمكن الحاكم من استيفائه. فإن امتنع المدين من دفع الدين، وعرف ماله، أخذنا منه
مقدار الدين، ولا يجوز لنا حبسه. وكذلك إذا ظفرنا بماله أو داره أو شيء يباع له في
الدين رهنا كان أو غيره فعلنا ذلك ولا نحبسه، لأن في حبسه استمرار ظلمه، ودوام
المنكر في الظلم. " (1)
أقول: كلام هذا القائل أيضا خال من ذكر السجون السياسية التي صارت

1 - الفقه الإسلامي وأدلته 6 / 199.
476

مشكلة اجتماعية في جميع البلاد، فتدبر.
إذا عرفت هذا فنقول: الأخبار الواردة في الحبس على طائفتين:
الأولى: ما تعرضت لمطلق الحبس والسجن بنحو الإجمال أو لمدة معينة.
والثانية: ما تعرضت لمن يخلد في السجن حتى يموت أو حتى يتوب.
فنذكر الطائفة الأولى أولا ثم نعقبها بالطائفة الثانية. ولا يخفى أنه ربما يرجع بعض
العناوين إلى بعض ويدخل بعضها في بعض، ولكن المقصود التعرض لجميع الموارد
المذكورة في الروايات. وربما يجري في بعضها تنقيح المناط القطعي وإلغاء الخصوصية
أو يصطاد من الجميع قاعدة كلية عامة، فلاحظ.
أما الطائفة الأولى:
فالأول منها - مورد التهمة:
1 - فروى الكليني والشيخ بأسانيد معتبرة، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي
عبد الله (عليه السلام)، قال: " إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يحبس في تهمة الدم ستة أيام، فإن جاء أولياء
المقتول بثبت، وإلا خلى سبيله. " (1)
أقول: الثبت بفتحتين: الحجة والدليل - والتعبير بالماضي الاستمراري، أعني قوله:
" كان يحبس " كاشف عن تعدد الوقائع الصادرة عنه. والموضوع في الحديث وإن كان
خصوص الدم ولكن إثبات الشيء لا يدل على نفي غيره، فلا يدل هذا الحديث على عدم
جواز الحبس لغير الدم.
وليلاحظ أن الدم مع أهميته واهتمام الإسلام بأمره لم يكن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يحبس بداعي
كشفه إلا ستة أيام، ثم كان يخلي سبيل المتهم. وظاهر عبارة الشهيد في

1 - الوسائل 19 / 121، الباب 12 من أبواب دعوى القتل، الحديث 1.
477

القواعد كما مر أيضا تعين ستة أيام، وعدم جواز التعدي عنها. وليس هذا إلا لأن
شخصيات الناس وأوقاتهم أيضا محترمة مهتم بها في الإسلام، فلا يجوز التعرض لها و
تضييعها إلا بقدر الضرورة، فتدبر.
2 - وفي سنن أبي داود بسنده، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده: " أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
حبس رجلا في تهمة. " (1)
3 - وفي سنن الترمذي بسنده، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده: " أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
حبس رجلا في تهمة ثم خلى عنه. " (2)
4 - وفي سنن البيهقي بسنده، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده: " أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
حبس رجلا في تهمة ساعة من نهار ثم خلى عنه. " (3)
والظاهر أن الثلاثة رواية واحدة نقلت بوجوه مختلفة.
5 - وفي التراتيب الإدارية: " ذكر بعضهم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سجن في المدينة في
تهمة. رواه عبد الرزاق والنسائي في مصنفيهما من طريق بهز بن حكيم، عن أبيه، عن
جده. وذكر أبو داود عنه في مصنفه، قال: " حبس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ناسا من قومي في تهمة
بدم. "... وفي غير المصنف، عن عبد الرزاق بهذا السند: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حبس رجلا في
تهمة ساعة من نهار ثم خلى عنه. " (4) هذا.
6 - وفي سنن البيهقي بسنده، عن أبي جعفر (عليه السلام): أن عليا (عليه السلام) قال: " إنما الحبس حتى
يتبين للإمام. فما حبس بعد ذلك فهو جور. " (5)

1 - سنن أبي داود 2 / 282، كتاب الأقضية، باب في الحبس في الدين وغيره.
2 - سنن الترمذي 2 / 435، أبواب الديات، الباب 19، الحديث 1438.
3 - سنن البيهقي 6 / 53، كتاب التفليس، باب حبسه إذا اتهم وتخليته...
4 - التراتيب الإدارية 1 / 296.
5 - سنن البيهقي 6 / 53، كتاب التفليس، باب حبسه إذا اتهم وتخليته...
478

7 - وفي الوسائل بسنده، عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قصة شاب شكا عند
أمير المؤمنين (عليه السلام) عن نفر خرجوا بأبيه في السفر، فرجعوا ولم يرجع أبوه وقالوا: مات و
ما ترك مالا، ففرقهم أمير المؤمنين وسأل واحدا منهم، فادعى موت الرجل ولم يقر
بالقتل، فأمر (عليه السلام) أن يغطى رأسه وينطلق به إلى السجن، ثم دعا بآخر للسؤال... " (1) و
روى نحوه في البحار (2). والحديث طويل.
8 - وفي البحار، عن المناقب في قصة غلام قتل مولاه، فأمر عمر بقتله، فادعى الغلام
أن مولاه أتاه في ذاته، قال: " إن عليا (عليه السلام) قال لعمر: احبس هذا الغلام، فلا تحدث فيه
حدثا حتى تمر ثلاثة أيام... " (3)
فمورد الخبرين أيضا الاتهام، ووقع الحبس للكشف والتحقيق.
9 - وفي دعائم الإسلام، عن على (عليه السلام) أنه قال: " لا حبس في تهمة إلا في دم، والحبس
بعد معرفة الحق ظلم. " (4) ورواه عنه في المستدرك. (5)
10 - وفي المصنف لعبد الرزاق بسنده، قال: " أقبل رجلان من بني غفار حتى نزلا
منزلا بضجنان من مياه المدينة وعندها ناس من غطفان، عندهم ظهر لهم، فأصبح
الغطفانيون قد أضلوا قرينتين من إبلهم، فاتهموا الغفاريين، فأقبلوا بهما إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و
ذكروا له أمرهم، فحبس أحد الغفاريين وقال للآخر: اذهب فالتمس، فلم يكن إلا يسيرا
حتى جاء بهما... ". (6)
وظاهر الخبر أيضا هو مورد التهمة والمورد هو المال، فيعارض خبر الدعائم اللهم إلا
أن يقال إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان عالما أو حصل له العلم، فلم يقع الحبس بمجرد الاتهام.

1 - الوسائل 18 / 204 - 205، الباب 20 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.
2 - بحار الأنوار 40 / 259 وما بعدها، كتاب تاريخ أمير المؤمنين (عليه السلام)، الباب 97 (باب قضاياه...)،
الحديث 30.
3 - بحار الأنوار 40 / 230، كتاب تاريخ أمير المؤمنين (عليه السلام)، الباب 97، الحديث 10.
4 - دعائم الإسلام 2 / 539 كتاب آداب القضاة، الحديث 1916.
5 - مستدرك الوسائل 3 / 262، الباب 10 من أبواب دعوى القتل، الحديث 1.
6 - المصنف 10 / 216، باب التهمة، الحديث 18892.
479

11 - وفي كتاب الغارات، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: " إني لا آخذ على التهمة، و
لا أعاقب على الظن ولا أقاتل إلا من خالفني وناصبني وأظهر لي العداوة... " (1)
ورواه عنه ابن أبي الحديد والطبري. (2)
أقول: يمكن أن يقال: إن هذا حكاية عن سيرة نفسه، فلا يدل على عدم جواز الأخذ
على التهمة.
12 - وفي الغارات أيضا في قصة خروج الخريت بن راشد من بني ناجية على
أمير المؤمنين (عليه السلام) واعتراض عبد الله بن قعين عليه بعدم استيثاقه، قال: " فقلت: يا
أمير المؤمنين فلم لا تأخذه الآن فتستوثق منه؟ فقال: " إنا لو فعلنا هذا لكل من نتهمه من
الناس ملأنا السجون منهم. ولا أراني يسعني الوثوب على الناس والحبس لهم وعقوبتهم
حتى يظهروا لنا الخلاف. " (3) ورواه عنه ابن أبي الحديد. (4)
أقول: يمكن أن يقال: إن ظاهر الخبر أن تركه (عليه السلام) لأخذ المتهمين كان لإشكال سياسي
لا للإشكال الشرعي.
وفيه أن ظاهر قوله: " ولا أراني يسعني الوثوب على الناس " هو عدم الوسعة شرعا،
فتأمل.
13 - وفي تاريخ الطبري: " قال أبو مخنف، عن مجاهد، عن المحل بن خليفة أن رجلا
منهم من بني سدوس يقال له العيزار بن الأخنس كان يرى رأي الخوارج خرج إليهم،
فاستقبل وراء المدائن عدى بن حاتم ومعه الأسود بن قيس والأسود بن يزيد
المراديان، فقال له العيزار حين استقبله: أسالم غانم أم ظالم آثم؟ فقال:

1 - الغارات 1 / 371.
2 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3 / 148; وتاريخ الطبري 6 / 3443.
3 - الغارات 1 / 335.
4 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3 / 129. وفيه " بكل من يتهم " بدل " لكل من نتهمه "، و
" لي " بدل " لنا ".
480

عدى: لا بل سالم غانم. فقال له المراديان: ما قلت هذا إلا لشر في نفسك، وإنك
لنعرفك يا عيزار برأي القوم، فلا تفارقنا حتى نذهب إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فنخبره خبرك،
فلم يكن بأوشك أن جاء على (عليه السلام) فأخبراه خبره وقالا: يا أمير المؤمنين إنه يرى رأي
القوم قد عرفناه بذلك، فقال: ما يحل لنا دمه ولكنا نحبسه. فقال عدى بن حاتم: يا
أمير المؤمنين، ادفعه إلى وأنا أضمن أن لا يأتيك من قبله مكروه، فدفعه اليه. " (1)
أقول: ولعل الخبر يدل على جواز السجن بالاتهامات السياسية، فتأمل.
فهذه ما عثرنا عليه من الأخبار في المسألة.
إذا عرفت هذا فنقول: إن مقتضى الأصل الأولي عدم جواز التعرض للشخص بمجرد
التهمة، فإنه مخالف لحريته وسلطته على نفسه، ولأصالة البراءة. فالجواز يحتاج إلى
دليل متقن. ومورد معتبرة السكوني هو خصوص الدم، فلا تدل على الجواز في غيره. و
رواية بهز بن حكيم على فرض صدورها قضية في واقعة خاصة، فلا إطلاق لها ولا نعرف
موردها. ومقتضى خبر الدعائم عدم الجواز في غير تهمة الدم، ولكن لم تثبت حجيته. و
خبر الغفاريين مورده المال. والخبر الأخير مورده النشاط السياسي أو البغي، ولكن
لم تثبت حجيتهما. وكيف كان، فيشكل الأمر في غير الدم.
ولكن يمكن أن يقال: إن حفظ نظام المسلمين وكيانهم، وكذا حفظ أموالهم و
حقوقهم أمران مهمان عند الشرع، وهما يتوقفان كثيرا على القبض على المتهمين و
حبسهم بداعي الكشف والتحقيق إذا كانوا في معرض الفرار. فالقول بعدم الجواز لذلك
يوجب ضياع الحقوق والأموال واختلال النظم، ولا سيما إذا غلب الفساد على الزمان و
أهله.
فالظاهر هو الجواز إذا كان الأمر مهما معتنى به عرفا، بحيث يكون احتماله

1 - تاريخ الطبري 6 / 3384.
481

أيضا منجزا عند العقلاء، ولكن مع رعاية الدقة والاحتياط في مقام العمل وحفظ
حيثيات الأشخاص مع الإمكان. نعم، لا يجوز التعرض والحبس بمجرد الوهم و
الاتهامات الموهومة ولا سيما في الأمور التافهة الجزئية، وعلى مثل هذه ينبغي أن
يحمل بعض الأخبار المانعة.
وأما خبر الدعائم فمضافا إلى عدم ثبوت صدوره فالحصر فيه يمكن أن يكون
إضافيا بالنسبة إلى هذا السنخ من الأمور أيضا، ونظير ذلك كثير في الروايات و
المحاورات. فلعل الحبس بسبب الأمور التافهة الموهومة القابلة للإغماض كان رائجا في
تلك الأعصار كما في أعصارنا أيضا فأريد نفيه.
وبالجملة، فالمقام من قبيل سائر موارد التزاحم التي يؤخذ فيها بأهم الأمرين. هذا.
ولكن بعد اللتيا والتي فإن القبض على المسلم وحبسه بمجرد الاتهام والاحتمال في
غير الدم لا يخلو من إشكال لشدة اهتمام الشرع بحريم المسلم وحيثيته اللهم إلا إذا كان
المورد في الأهمية في حد الدم.
وكيف كان فهذا النحو من الحبس ليس بحد ولا تعزير. وقد مر في الجهة التاسعة من
فصل التعزيرات بحث في هذا المجال، وذكرنا هناك كلام المحقق في الشرائع وكلام
صاحب الجواهر أيضا في هذه المسألة، فراجع قصاص الجواهر. (1)
الثاني والثالث والرابع - الفساق من العلماء، والجهال من الأطباء، و
المفاليس من الأكرياء:
1 - عن الفقيه والتهذيب، عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي، عن أبيه، عن على (عليه السلام)،
قال: " يجب على الإمام أن يحبس الفساق من العلماء، والجهال من الأطباء، والمفاليس
من الأكرياء. " (2)

1 - الجواهر 42 / 277 (= طبعة أخرى بتصحيح آخر ص 260).
2 - الوسائل 18 / 221، الباب 32 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 3.
482

أقول: الأكرياء جمع الكرى، ويستعمل بمعنى المكاري والمكتري معا. قيل: وهم
المقاولون الذين يخدعون الناس ولا يفون بالتزامهم.
ولا يخفى عدم الخصوصية للعناوين الثلاثة، بل المستفاد من الرواية بإلغاء
الخصوصية أن كل من تصدى لعمل وشغل في المجتمع ولم يكن أهلا له، بحيث يتضرر
بعمله وسيرته المجتمع، يجب ردعه ومنعه عن ذلك ولو بحبسه.
وإن شئت قلت: أحد العناوين الثلاثة يرتبط بدين الناس، والثاني بحياتهم ونفوسهم،
والثالث بأموالهم. فكل من يرتبط بالشؤون الثلاثة لأبناء النوع، ولم يكن أهلا لما اتخذه
من الحرف كان على الإمام حبسه ومنعه. ولا محالة يكون الحبس بعد عدم تأثير الوعظ
والتعنيف والتخويف، فإن كان ممن يتأدب بالحبس كان حبسه تعزيرا وتأديبا له، وإلا
كان لرفع شره وإضراره فقط، فلا يكون حدا ولا تعزيرا، فتأمل.
الخامس والسادس والسابع - الغاصب لمال الغير، وآكل مال اليتيم ظلما، و
الخائن في الأمانة:
1 - فروى الشيخ بسند صحيح، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " كان على (عليه السلام)
لا يحبس في الدين إلا ثلاثة: الغاصب، ومن أكل مال اليتيم ظلما، ومن اؤتمن على أمانة
فذهب بها. وإن وجد له شيئا باعه، غائبا كان أو شاهدا. " (1)
قال الشيخ:
" هذا يحتمل وجهين: أحدهما أنه ما كان يحبس على وجه العقوبة إلا الثلاثة الذين
ذكرهم، والثاني ما كان يحبس حبسا طويلا إلا الثلاثة الذين استثناهم، لان الحبس في
الدين إنما يكون مقدار ما يبين حاله. "

147 - الوسائل 18 / 181، الباب 11 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2 وذيله.
483

2 - خبر عبد الرحمان بن الحجاج - رفعه - أن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان لا يرى الحبس إلا
في ثلاث: رجل أكل مال اليتيم، أو غصبه، أو رجل اؤتمن على أمانة فذهب بها. " (1)
أقول: يظهر من هاتين الروايتين أن للموارد الثلاثة خصوصية من بين جميع موارد
الدين. وهو كذلك، كما لا يخفى.
ولعل الحصر في الخبرين إضافي في قبال بعض الأمور غير المهمة التي كانوا
يحبسون الناس لها وكان هو - عليه السلام - مخالفا لمزاحمة الناس فيها، وإلا فموارد
حبسه (عليه السلام) أكثر من هذا، كما سيأتي. أو لعل الحبس في الموارد الثلاثة يكون على وجه
العقوبة دون غيرها، كما ذكره الشيخ.
الثامن والتاسع - المديون المماطل والمدعي للافلاس:
1 - في صحيح البخاري " ويذكر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " لي الواجد يحل عقوبته وعرضه.
قال سفيان: عرضه يقول: مطلتني، وعقوبته: الحبس. " (2)
2 - وفي سنن أبي داود بسنده، عن عمرو بن الشريد، عن أبيه، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
،
قال: " لي الواجد يحل عرضه وعقوبته. " قال ابن المبارك: يحل عرضه: يغلظ له، و
عقوبته: يحبس له. (3)
3 - وفي سنن ابن ماجة بسنده، عن عمرو بن الشريد، عن أبيه، قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لي الواجد يحل عرضه وعقوبته. " قال على الطنافسي: يعني عرضه:
شكايته، وعقوبته: سجنه. (4)

1 - الوسائل 18 / 578، الباب 5 من أبواب بقية الحدود، الحديث 1.
2 - صحيح البخاري 2 / 58، كتاب في الاستقراض وأداء الديون... باب لصاحب الحق مقال.
3 - سنن أبي داود 2 / 282، كتاب الأقضية، باب في الحبس في الدين وغيره.
4 - سنن أبن ماجة 2 / 811، كتاب الصدقات، الباب 18 (باب الحبس في الدين...)، الحديث
2427.
484

أقول: التفسير بالحبس والسجن ليس من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما ترى، ولكن إطلاق العقوبة
يشمل الحبس أيضا بلا إشكال.
قال في ملحقات العروة الوثقى:
" إذا كان المقر المحكوم عليه واجدا للمال ألزم به، وإن امتنع أجبر عليه، وإن ماطل و
أصر على الامتناع جازت عقوبته بالتغليظ في القول ورفع الصوت عليه والشتم بمثل
قوله: يا ظالم، يا فاسق، بل بالحبس والضرب حسب مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر; الأهون فالأهون، لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لي الواجد يحل عقوبته وعرضه. " (1)
4 - وفي دعائم الإسلام، عن جعفر بن محمد (عليه السلام) أنه قال: " من امتنع من دفع الحق و
كان موسرا حاضرا عنده ما وجب عليه، فامتنع من أدائه وأبى خصمه إلا أن يدفع إليه
حقه، فإنه يضرب حتى يقضيه. وإن كان الذي عليه لا يحضره إلا في عروض فإنه يعطيه
كفيلا أو يحبس له إن لم يجد الكفيل إلى مقدار ما يبيع ويقضي. " (2) ورواه عنه في
المستدرك. (3)
5 - وروى الكليني والشيخ بسند موثوق به، عن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: كان
أمير المؤمنين (عليه السلام) يحبس الرجل إذا التوى على غرمائه ثم يأمر فيقسم ماله بينهم
بالحصص، فإن أبى باعه فيقسم، يعني ماله. " (4)
6 - وعن الشيخ بسنده، عن الأصبغ بن نباتة، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " أنه قضى أن
يحجر على الغلام حتى يعقل. وقضى في الدين أنه يحبس صاحبه، فإن تبين إفلاسه و
الحاجة فيخلي سبيله حتى يستفيد

1 - ملحقات العروة 3 / 50، كتاب القضاء الفصل 3، المسألة 5.
2 - دعائم الإسلام 2 / 540، كتاب آداب القضاة، الحديث 1923.
3 - مستدرك الوسائل 3 / 199، الباب 9 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.
4 - الكافي 5 / 102، (الفروع، ط. القديم 1 / 356) كتاب المعيشة، باب إذا التوى الذي عليه الدين
على غرمائه، الحديث 1، والوسائل 13 / 147، الباب 6 من كتاب الحجر، الحديث 1.
485

مالا. وقضى في الرجل يلتوي على غرمائه أنه يحبس ثم يؤمر به فيقسم ماله بين
غرمائه بالحصص، فإن أبى باعه فقسمه بينهم. " (1)
7 - وعن الشيخ أيضا بسنده، عن غياث بن إبراهيم، عن جعفر، عن أبيه (عليه السلام): " أن
عليا (عليه السلام) كان يحبس في الدين، فإن تبين له إفلاس وحاجة خلى سبيله حتى يستفيد
مالا. " (2)
8 - وعن الشيخ أيضا بسنده، عن السكوني، عن جعفر، عن أبيه (عليه السلام): " أن عليا (عليه السلام) كان
يحبس في الدين ثم ينظر، فإن كان له مال أعطى الغرماء، وإن لم يكن له مال دفعه إلى
الغرماء فيقول لهم: اصنعوا به ما شئتم: إن شئتم آجروه، وإن شئتم استعملوه. " (3)
9 - وفي المستدرك، عن كتاب الغارات - في قصة مصقلة بن هبيرة الشيباني بعد ما
اشترى أسارى بني ناجية وأعتقهم ولم يدفع بعض أثمانهم ثم فر ولحق بمعاوية - قال:
فبلغ ذلك عليا (عليه السلام) فقال: " ماله؟! ترحه الله، فعل فعل السيد وفر فرار العبد وخان خيانة
الفاجر. أما إنه لو أقام فعجز ما زدنا على حبسه، فإن وجدنا له شيئا اخذناه، وإن لم نقدر له
على مال تركناه، ثم سار إلى داره فهدمها. " (4)
أقول: الترح ضد الفرح. وفي المستدرك: " طرحه الله ".
10 - وفي الغارات قال: " كان على (عليه السلام) ولى المنذر بن الجارود فارسا فاحتاز مالا من
الخراج; قال: كان المال أربعمأة ألف درهم، فحبسه على (عليه السلام) فشفع فيه صعصعة بن
صوحان إلى على (عليه السلام) وقام بأمره وخلصه. " (5)
11 - وفيه أيضا " كان يزيد بن حجية قد استعمله على (عليه السلام) على الري

1 - الوسائل 18 / 180، الباب 11 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى، الحديث 1.
2 - الوسائل 13 / 148، الباب 7 من كتاب الحجر، الحديث 1.
3 - الوسائل 13 / 148، الباب 7 من كتاب الحجر، الحديث 3.
4 - مستدرك الوسائل 3 / 207، الباب 24 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 6; عن الغارات
1 / 365 - 366.
5 - الغارات 2 / 522.
486

ودستبي، فكسر الخراج واحتجن المال لنفسه فحبسه علي (عليه السلام). (1)
ولعل المتتبع يعثر على موارد أكثر من هذا القبيل. ويمكن إدراجها في ما مر من
حبس الخائن في الأمانة، فإن بيت المال أمانة في يد العامل. هذا.
12 - وفي دعائم الإسلام، عن على (عليه السلام) أنه قال: " لا حبس على معسر; قال الله -
عز وجل -: وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة (2). فالمعسر إذا أثبت عدمه لم يكن عليه
حبس. " (3) ورواه عنه في المستدرك (4).
أقول: هنا مسألتان ينبغي الإشارة اليهما، والتفصيل موكول إلى كتب الفقه الموسوعة:
الأولى:
قال في الخلاف (المسألة 10 من كتاب التفليس):
" يجوز للحاكم أن يبيع مال المفلس ويقسمه بين الغرماء، وبه قال الشافعي. وقال
أبو حنيفة: ليس له بيعه وإنما يجبره على بيعه، فإن باعه وإلا حبسه إلى أن يبيعه و
لا يتولاه بنفسه من غير اختياره.
دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم، وقد أوردناها فيما مضى، وأيضا روى كعب بن مالك
أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حجر على معاذ وباع ماله في دينه، وهذا يقتضي أنه باعه بغير
اختياره. " (5)

1 - الغارات 2 / 525.
2 - سورة البقرة (2)، الآية 280.
3 - دعائم الإسلام 2 / 71، كتاب البيوع، الفصل 17، الحديث 197.
4 - مستدرك الوسائل 2 / 496، الباب 6 من كتاب الحجر، الحديث 2. وفيه: " على مفلس " بدل
" على معسر ".
5 - الخلاف 2 / 115.
487

أقول: المذكور في بعض ما مر من الروايات أن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يأمر أن يقسم
ماله بينهم، فإن أبى باعه فيقسم. وظاهر هذا تصدي نفس المديون للبيع، فإن أبى باعه
الإمام. وهو الأحوط اللهم إلا أن لا يرضى به الغرماء ولا يعتمدوا عليه، فيحجره الحاكم
عن التصرف مطلقا حتى عن البيع لأداء الدين.
المسألة الثانية:
قال في الخلاف (المسألة 15 من التفليس):
" إذا أفلس من عليه الدين وكان ما في يده لا يفي بقضاء ديونه فإنه لا يؤاجر ليكتسب
ويدفع إلى الغرماء، وبه قال أبو حنيفة والشافعي ومالك وأكثر الفقهاء. وقال أحمد و
إسحاق وعمر بن عبد العزيز وعبيد الله بن الحسن العنبري وسوار بن عبد الله القاضي إنه
يؤاجر ويؤخذ أجرته فتقسم بين غرمائه.
دليلنا أن الأصل براءة الذمة، ولا دليل على وجوب إجارته وتكسبه، وأيضا قوله -
تعالى -: وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة، ولم يأمر بالكسب. " (1)
أقول: لا مجال لأصل البراءة، إذ أداء الدين واجب مع الإمكان. ولو توقف العمل بهذا
الواجب على قبول المديون للاستيجار والاستعمال وكان الشخص ممن يعتاد هذا و
لا يشق عليه فالقواعد تقتضي وجوب القبول، وهذا أحد طرق استفادة المال. ولعل قوله:
" فيخلى سبيله حتى يستفيد مالا " لايراد به إلا تخليته من السجن، فلا ينافي جواز
استيجاره واستعماله. والقدرة على تحصيل المال بالعمل المناسب لشأنه بلا مشقة عرفية
تعد ميسرة عرفا، ولذا تحرم عليه الزكاة، فلا ينافي استيجاره واستعماله لمفاد الآية
الشريفة.
ومقتضى معتبرة السكوني جواز استيجار الغرماء واستعمالهم إياه، فلا يصح

1 - الخلاف 2 / 116.
488

ما ذكره الشيخ من عدم الدليل.
وفي الوسائل بعد ذكر رواية السكوني قال:
" يمكن أن يحمل هذا على من يعتاد إجارة نفسه والعمل بيده، لما تقدم هنا وفي
الدين وغيره من وجوب إنظار المعسر. ذكره بعض علمائنا. " (1)
وظاهر كلامه هو التفصيل بين من يعتاد العمل ولا يشق عليه، وبين غيره.
وفي الدروس:
" ويجب التكسب لقضاء الدين على الأقوى بما يليق بالمديون ولو كان إجارة نفسه،
وعليه تحمل الرواية عن على (عليه السلام). " (2)
وفي متن اللمعة:
" وعن على (عليه السلام): " إن شئتم فآجروه، وإن شئتم استعملوه. " وهو يدل على وجوب
التكسب. واختاره ابن حمزة والعلامة، ومنعه الشيخ وابن إدريس. والأول أقرب. "
وذيل هذا في شرحها بقوله:
" لوجوب قضاء الدين على القادر مع المطالبة، والمتكسب قادر، ولهذا يحرم عليه
الزكاة وحينئذ فهو خارج من الآية. وإنما يجب عليه التكسب فيما يليق بحاله عادة ولو
بمؤاجرة نفسه، وعليه تحمل الرواية. " (3)
وكيف كان فالأقوى في المسألة هو التفصيل. وقد تعرض للمسألة في الجواهر عند
قول المحقق: " ولا يجوز إلزامه ولا مؤاجرته "، فراجع. (4)
وتعرض لها ولرواياتها البيهقي في سننه في بابين. وفيه عن أبي سعيد الخدري:
" أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) باع حرا أفلس في دينه. " وفي رواية أخرى عن شيخ يقال له سرق أن

1 - الوسائل 13 / 148، الباب 7 من كتاب الحجر، ذيل الحديث 3.
2 - الدروس / 373.
3 - اللمعة وشرحها (الروضة) 4 / 40 - 41 (= طبعة أخرى 1 / 404)، كتاب الدين.
4 - الجواهر 25 / 324 - 325.
489

رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سماه بهذا الاسم وقال: " قدمت المدينة فأخبرتهم أن مالي يقدم،
فبايعوني، فاستهلكت أموالهم، فأتوا بي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: أنت سرق، فباعني بأربعة
أبعرة. " (1)
ولا يخفى أن الروايتين على فرض صحتهما موافقتان لما تضمنته رواية السكوني، إذ
المراد بالبيع فيهما هو استيجار الشخص، فتدبر.
العاشر - من ترك الإنفاق على زوجته بلا إعسار:
1 - في المستدرك، عن الجعفريات بسنده، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده،
عن على (عليه السلام): " إن امرأة استعدت عليا (عليه السلام) على زوجها، فأمر على (عليه السلام) بحبسه - وذلك
الزوج لا ينفق عليها إضرارا بها - فقال الزوج احبسها معي. فقال على (عليه السلام): لك ذلك،
انطلقي معه. " (2)
2 - وفي الجعفريات بهذا السند، عن على (عليه السلام)، قال: " يجبر الرجل على النفقة على
امرأته، فإن لم يفعل حبس. " (3)
3 - وفي الوسائل بسنده، عن السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن على (عليه السلام): " إن امرأة
استعدت على زوجها أنه لا ينفق عليها وكان زوجها معسرا، فأبى أن يحبسه وقال: إن مع
العسر يسرا. " (4)
4 - وفي الجعفريات بالسند الذي مر، عن على (عليه السلام): " إن امرأة استعدت على زوجها و
كان زوجها معسرا، فأبى أن يحبسه أول مرة وقال: إن مع العسر يسرا. " (5)

1 - سنن البيهقي 6 / 49 - 50، كتاب التفليس، باب لا يؤاجر الحر في دين عليه...، وباب ما جاء في
بيع الحر المفلس في دينه.
2 - مستدرك الوسائل 2 / 497، الباب 6 من كتاب الحجر، الحديث 3.
3 - الجعفريات (المطبوع مع قرب الإسناد) / 109.
4 - الوسائل 13 / 148، الباب 7 من كتاب الحجر، الحديث 2.
5 - الجعفريات (المطبوع مع قرب الإسناد) / 109.
490

5 - ويأتي في خبر مسند زيد أيضا ذكر الحبس للنفقة. (1)
الحادي عشر - الكفيل حتى يحضر المكفول أو ما عليه:
1 - عن الكليني بسند موثوق به، عن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " اتي
أمير المؤمنين (عليه السلام) برجل قد تكفل بنفس رجل، فحبسه وقال: اطلب صاحبك. " (2)
2 - وعن الصدوق بسنده، عن الأصبغ بن نباتة، قال: " قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في
رجل تكفل بنفس رجل أن يحبس، وقال له: اطلب صاحبك. " (3)
3 - وعن الشيخ بسنده، عن إسحاق بن عمار، عن جعفر، عن أبيه: " أن عليا (عليه السلام) اتي
برجل كفل برجل بعينه، فأخذ بالمكفول فقال: احبسوه حتى يأتي بصاحبه. " (4)
أقول: قوله: " فأخذ بالمكفول "، يعني: أخذ الكفيل بسبب المكفول.
4 - وعنه بسنده، عن عامر بن مروان، عن جعفر، عن أبيه، عن على (عليه السلام): " أنه اتي
برجل قد كفل بنفس رجل، فحبسه فقال: اطلب صاحبك. " (5)
5 - وفي المستدرك، عن فقه الرضا: " روي: إذا كفل الرجل حبس إلى أن يأتي
صاحبه. " (6)
6 - وفي مسند زيد: زيد بن على، عن أبيه، عن جده، عن على (عليه السلام): " أن رجلا كفل
لرجل بنفس رجل، فحبسه حتى جاء به. " (7)

1 - راجع ص 493 من الكتاب.
2 - الوسائل 13 / 156، الباب 9 من كتاب الضمان، الحديث 1.
3 - الوسائل 13 / 156، الباب 9 من كتاب الضمان، الحديث 2.
4 - الوسائل 13 / 156، الباب 9 من كتاب الضمان، الحديث 3.
5 - الوسائل 13 / 156، الباب 9 من كتاب الضمان، الحديث 4.
6 - مستدرك الوسائل 2 / 498، الباب 7 من كتاب الضمان، الحديث 1; عن فقه الرضا / 256.
7 - مسند زيد / 257، باب الحوالة والكفالة والضمانة.
491

7 - وفي دعائم الإسلام، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: " إذا تحمل الرجل بوجه الرجل إلى
أجل فجاء الأجل من قبل أن يأتي به وطلب الحمالة حبس، إلا أن يؤدي عنه ما وجب
عليه، إن كان الذي يطلب به معلوما، وله أن يرجع به عليه، وإن كان الذي قد طلب به
مجهولا، ما لابد فيه من إحضار الوجه كان عليه إحضاره إلا أن يموت، وإن مات
فلا شيء عليه. " (1) ورواه عنه في المستدرك. (2)
أقول: قال الله - تعالى - في قصة اخوة يوسف: " نفقد صواع الملك، ولمن جاء به
حمل بعير، وأنا به زعيم. " (3) فالزعيم والكفيل والحميل والقبيل والضمين والصبير
كلها بمعنى واحد، كما في الدعائم.
والكفالة صحيحة عندنا وعند أكثر فقهاء السنة. وخالف فيها بعضهم، فراجع الخلاف
(المسألة 16 من كتاب الضمان) (4). والاستدلال في الأخبار التي ذكرناها بفعل على (عليه السلام)
يشعر بوجود الخلاف في تلك الأعصار.
وفي الشرائع:
" وللمكفول له مطالبة الكفيل بالمكفول عنه... وإن امتنع كان له حبسه حتى يحضره،
أو يؤدي ما عليه. " (5) وقد حكى في الجواهر ذلك عن النهاية وغيرها أيضا.
ولكنك ترى أن التخيير بين الإحضار والأداء ليس فيما تقدم من الأخبار إلا في خبر
الدعائم ولذا استشكل فيه في التذكرة وغيرها، إذ قد يكون للمكفول له غرض لا يتعلق
بالأداء، أو لا يريده من غير المكفول عنه. فالمسألة غير خالية عن الإشكال، فراجع
الجواهر. (6)

1 - دعائم الإسلام 2 / 64، كتاب البيوع، الفصل 16، الحديث 179.
2 - مستدرك الوسائل 2 / 498، الباب 7 من كتاب الضمان، الحديث 3 مع تفاوت.
3 - سورة يوسف (12)، الآية 72.
4 - الخلاف 2 / 136.
5 - الشرائع 2 / 115.
6 - الجواهر 26 / 189.
492

ويشبه الكفيل في المقام من خلص القاتل من أيدي أولياء المقتول. وبه رواية نذكرها
في عداد من يخلد في السجن، كما سيأتي. (1)
الثاني عشر - من عليه حق من حقوق الناس أو حقوق الله غير ما ذكر فيحبس
لاستيفائه:
1 - في مسند زيد، عن أبيه، عن جده، عن على (عليه السلام): " أنه كان يحبس في النفقة، وفي
الدين، وفي القصاص، وفي الحدود، وفي جميع الحقوق. وكان يقيد الدعار بقيود لها
أقفال، ويوكل بهم من يحلها لهم في أوقات الصلاة من أحد الجانبين. " (2)
أقول: الدعار بالضم جمع داعر بالمهملات الثلاث: الخبيث والفاسد، وبالذال
المعجمة: الخبيث المعيوب، وبالغين المعجمة: المهاجم.
2 - وفي الوسائل عن قرب الإسناد بسنده، عن جعفر، عن أبيه: " أن علي بن
أبي طالب (عليه السلام) لما قتله ابن ملجم قال: " احبسوا هذا الأسير وأطعموه وأحسنوا إساره، فإن
عشت فأنا أولى بما صنع بي: إن شئت استقدت، وإن شئت عفوت، وإن شئت صالحت. و
إن مت فذلك إليكم، فإن بدا لكم أن تقتلوه فلا تمثلوا به. " (3)
وروى نحوه البيهقي بسنده، عن جعفر بن محمد، عن أبيه. (4)
3 - وفي مرفوعة أبي مريم، قال: اتي أمير المؤمنين (عليه السلام) بالنجاشي الشاعر قد شرب
الخمر في شهر رمضان، " فضربه ثمانين، ثم حبسه ليلة، ثم دعا به من الغد فضربه
عشرين. فقال له: يا أمير المؤمنين هذا ضربتني ثمانين في شرب الخمر، وهذه العشرون
ما هي؟ قال: " هذا لتجرئك على شرب الخمر في شهر رمضان. " (5)

1 - راجع ص 531 من الكتاب.
2 - مسند زيد / 265، كتاب الشهادات، باب القضاء.
3 - الوسائل 19 / 96، الباب 62 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 4.
4 - سنن البيهقي 8 / 183، كتاب قتال أهل البغي، باب الرجل يقتل واحدا من المسلمين...
5 - الوسائل 18 / 474، الباب 9 من أبواب حد المسكر، الحديث 1.
493

4 - وفي دعائم الإسلام، عن على (عليه السلام): " أنه اتي بالنجاشي الشاعر وقد شرب الخمر في
شهر رمضان، فجلده ثمانين جلدة، ثم حبسه، ثم أخرجه من غد فضربه تسعة وثلاثين
سوطا. فقال: ما هذه العلاوة يا أمير المؤمنين؟ قال: لتجرئك على الله وإفطارك في شهر
رمضان. " (1) ورواه عنه في المستدرك. (2)
5 - وفي صحيحة محمد بن قيس، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في
وليدة كانت نصرانية، فأسلمت وولدت لسيدها، ثم إن سيدها مات وأوصى بها عتاقة
السرية على عهد عمر، فنكحت نصرانيا ديرانيا وتنصرت فولدت منه ولدين وحبلت
بالثالث، فقضى فيها أن يعرض عليها الإسلام، فعرض عليها الإسلام فأبت، فقال: ما
ولدت من ولد نصرانيا فهم عبيد لأخيهم الذي ولدت لسيدها الأول، وأنا أحبسها حتى
تضع ولدها فإذا ولدت قتلتها. " (3)
قال في الوسائل:
" ذكر الشيخ: أنه مقصور على ما حكم به على (عليه السلام) ولا يتعدى إلى غيرها، قال: ولعلها
تزوجت بمسلم ثم ارتدت وتزوجت فاستحقت القتل لذلك ". (4)
أقول: ولعلها صارت معاندة للإسلام وداعية ضده فصارت بذلك مفسدة مستحقة
للقتل، وإلا فالمرأة المرتدة لا تقتل بالارتداد بل تحبس في السجن حتى تتوب أو
تموت، كما سيأتي.
6 - وفي صحيحة أبي مريم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " أتت امرأة أمير المؤمنين (عليه السلام)
فقالت: إني قد فجرت، فاعرض بوجهه عنها، فتحولت حتى استقبلت وجهه فقالت: إني
قد فجرت، فأعرض عنها، ثم استقبلته فقالت: إني قد فجرت، فأعرض عنها، ثم استقبلته
فقالت: إني فجرت، فأمر بها فحبست وكانت حاملا، فتربص بها حتى وضعت ثم أمر بها
بعد ذلك فحفر

1 - دعائم الإسلام 2 / 464، كتاب الحدود، الفصل 4، الحديث 1644.
2 - مستدرك الوسائل 3 / 234، الباب 7 من أبواب حد المسكر، الحديث 1.
3 - الوسائل 18 / 550، الباب 4 من أبواب حد المرتد، الحديث 5 وذيله.
4 - الوسائل 18 / 550، الباب 4 من أبواب حد المرتد، الحديث 5 وذيله.
494

لها حفيرة في الرحبة... " (1)
7 - وفي سنن البيهقي بسنده، عن الشعبي، قال: " جيء بشراحة الهمدانية إلى على (عليه السلام)
فقال لها: ويلك لعل رجلا وقع عليك وأنت نائمة؟ قالت: لا. قال: لعلك استكرهك؟ قالت:
لا. قال: لعل زوجك من عدونا هذا أتاك فأنت تكرهين أن تدلى عليه; يلقنها لعلها تقول:
نعم. قال: فأمر بها فحبست، فلما وضعت ما في بطنها أخرجها يوم الخميس فضربها مأة و
حفر لها يوم الجمعة في الرحبة... " (2)
الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر - المختلس،
والطرار، والنباش، والداعر:
1 - ففي الوسائل بسنده، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " أن أمير المؤمنين (عليه السلام) اتي
برجل اختلس درة من أذن جارية؟ فقال: هذه الدغارة المعلنة، فضربه وحبسه. " (3)
2 - وفي المستدرك، عن الجعفريات بسنده، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن
جده (عليه السلام): " أن عليا (عليه السلام) رفع إليه أن رجلا اختلس ظرفا (طوقا خ. ل) من ذهب من جارية،
فقال علي (عليه السلام): أدرأ عنه الدغارة المعلنة، فضربه وحبسه، وقال: لاقطع على
المختلس. " (4)
3 - وفيه أيضا، عن الجعفريات بهذا الإسناد، عن على (عليه السلام) أنه قال: " أربعة لاقطع
عليهم: المختلس; فإنما هي الدغارة المعلنة، عليه ضرب وحبس... " (5)
4 - وفي دعائم الإسلام، عن على (عليه السلام): أنه قال في المختلس: " لا يقطع، ولكنه

1 - الوسائل 18 / 380، الباب 16 من أبواب حد الزنا، الحديث 5.
2 - سنن البيهقي 8 / 220، كتاب الحدود، باب من اعتبر حضور الإمام والشهود...
3 - الوسائل 18 / 503، الباب 12 من أبواب حد السرقة، الحديث 4.
4 - مستدرك الوسائل 3 / 237، الباب 12 من أبواب حد السرقة، الحديث 1.
5 - مستدرك الوسائل 3 / 237، الباب 12 من أبواب حد السرقة، الحديث 2.
495

يضرب ويسجن. " (1) ورواه عنه في المستدرك. (2)
5 - وفيه أيضا، عن جعفر بن محمد (عليه السلام): " أنه لا يقطع الطرار; وهو الذي يقطع النفقة من
كم الرجل أو ثوبه، ولا المختلس; وهو الذي يختطف الشيء. ولكن يضربان ضربا
شديدا ويحبسان. " (3) ورواه عنه في المستدرك (4).
6 - وفيه أيضا: وقال جعفر بن محمد (عليه السلام): " لا تقطع يد النباش إلا أن يؤخذ وقد نبش
مرارا، ويعاقب في كل مرة عقوبة موجعة وينكل ويحبس. " (5) ورواه عنه في
المستدرك (6).
7 - وفي خراج أبي يوسف بسنده، قال: " كان على بن أبي طالب إذا كان في القبيلة أو
القوم الرجل الداعر حبسه، فإن كان له مال أنفق عليه من ماله، وإن لم يكن له مال أنفق
عليه من بيت مال المسلمين وقال: يحبس عنهم شره وينفق عليه من بيت مالهم. " (7)
أقول: طر الشيء: قطعه، وطر الثوب: شقه. وقد مر معنى الداعر باحتمالاته.
ولا يخفى أن عدم القطع في المختلس واضح، إذ يشترط في القطع أن يكون المال
محرزا في حرز ويؤخذ منه سرا، ويدل عليه أيضا أخبار كثيرة من الفريقين، فراجع
الوسائل (8) والبيهقي. (9)

1 - دعائم الإسلام 2 / 472، كتاب السراق، الفصل 2، الحديث 1686.
2 - مستدرك الوسائل 3 / 237، الباب 12 من أبواب حد السرقة، الحديث 3.
3 - دعائم الإسلام 2 / 473، كتاب السراق، الفصل 2، الحديث 1690.
4 - مستدرك الوسائل 3 / 237، الباب 13 من أبواب حد السرقة، الحديث 2.
5 - دعائم الإسلام 2 / 476، كتاب السراق، الفصل 2، الحديث 1707.
6 - مستدرك الوسائل 3 / 238، الباب 18 من أبواب حد السرقة، الحديث 2.
7 - الخراج / 150.
8 - الوسائل 18 / 502 - 504، الباب 12 من أبواب حد السرقة.
9 - سنن البيهقي 8 / 279، كتاب السرقة، باب لاقطع على المختلس...
496

وأما الطرار والنباش: فالروايات فيهما مختلفة يدل بعضها على القطع وبعضها على
العدم، فراجع الوسائل (1) والبيهقي. (2)
وفي الشرائع:
" ولا يقطع من سرق من جيب إنسان أو كمه الظاهرين، ويقطع لو كانا باطنين. " (3)
وعقب ذلك في الجواهر بقوله:
" على المشهور بين الأصحاب، بل في كشف اللثام: أنهم قاطعون بالتفصيل المزبور،
كما عن غيره نفي الخلاف فيه، بل عن الشيخ وابن زهرة الإجماع عليه. ولعله لصدق
الحرز عرفا، مضافا إلى قوى السكوني... وخبر مسمع أبي سيار... وبهما بعد انجبارهما و
اعتضادهما بما سمعت يقيد إطلاق القطع وعدمه في غيرهما من النصوص. " (4)
أقول: وقوى السكوني يراد به ما رواه الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن
النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " اتي أمير المؤمنين (عليه السلام) بطرار قد طر
دراهم من كم رجل، قال: إن كان طر من قميصه الأعلى لم أقطعه، وإن كان طر من قميصه
السافل (الداخل) قطعته. " ونحوه خبر مسمع. (5)
وأما النباش: فقال المحقق في الشرائع:
" ويقطع سارق الكفن، لان القبر حرز له. " (6)

1 - الوسائل 18 / 504 - 505 و 510 - 514، الباب 13 و 19 من أبواب حد السرقة.
2 - سنن البيهقي 8 / 269، كتاب السرقة، باب الطرار وباب النباش...
3 - الشرائع 4 / 175.
4 - الجواهر 41 / 504 - 505.
5 - الوسائل 18 / 504 - 505، الباب 13 من أبواب حد السرقة، الحديث 2.
6 - الشرائع 4 / 176.
497

وذيله في الجواهر بقوله:
" إجماعا في صريح المحكى عن الإيضاح والكنز والتنقيح وظاهر الديلمي. وما
عن المقنع والفقيه من عدم القطع على النباش إلا أن يؤخذ وقد نبش مرارا، مع شذوذه
يمكن حمله كمستنده على النباش غير السارق، لا على أن القبر غير حرز كما استظهره
منه في المسالك تبعا لغاية المراد. وعلى تقديره فهو محجوج بما عرفت وبالعرف و
ظاهر النصوص. " (1)
واما علماء السنة فالمسألة عندهم على قولين كما في الخلاف (المسألة 28 من كتاب
السرقة)، قال فيه:
" النباش يقطع إذا أخرج الكفن من القبر إلى وجه الأرض، وبه قال ابن الزبير وعائشة
وعمر بن عبد العزيز والحسن البصري وإبراهيم النخعي، وإليه ذهب حماد بن أبي
سليمان وربيعة ومالك والشافعي وعثمان البتي وأبو يوسف وأحمد وإسحاق.
وقال الأوزاعي والثوري وأبو حنيفة ومحمد: لا يقطع النباش، لأن القبر ليس بحرز،
لأنه لو كان حرزا لشيء لكان حرزا لمثله كالخزائن الوثيقة.
دليلنا قوله - تعالى -: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما (2). وهذا سارق... " (3)
أقول: يمكن أن تحمل روايات عدم القطع على التقية، أو على النبش بلا سرقة; نظير
من نقب بيتا ولم يأخذ منه شيئا، أو على سرقة ما دون النصاب، أو على سرقة غير الكفن
مما ربما كانوا يدفنونه مع الميت حيث إن القبر ليس حرزا لغير الكفن عرفا، فتأمل.
ومحل البحث التفصيلي في هذه المسائل كتاب الحدود من الفقه، وإنما تعرضنا له
إجمالا استطرادا بمناسبة مسألة السجن.

1 - الجواهر 41 / 515.
2 - سورة المائدة (5)، الآية 38.
3 - الخلاف 3 / 200.
498

السابع عشر - أمين السوق إذا خان:
ففي دعائم الإسلام، عن علي (عليه السلام): أنه استدرك على ابن هرمة خيانة - وكان على سوق
الأهواز - فكتب إلى رفاعة: " إذا قرأت كتابي فنح ابن هرمة عن السوق، وأوقفه وأسجنه
وناد عليه... " (1) وقد مر بطوله في الجهة السادسة عند البحث في العقوبات التكميلية
للحبس، فراجع. ورواه في المستدرك أيضا. (2)
الثامن عشر - من يلقن المجرم بما يضر مسلما:
ويدل عليه قوله في هذا الخبر من الدعائم: " فإن صح عندك أن أحدا لقنه ما يضر به
مسلما فاضربه بالدرة فاحبسه حتى يتوب. "
التاسع عشر - شاهد الزور:
ففي خبر غياث بن إبراهيم، عن جعفر، عن أبيه (عليه السلام) أن عليا (عليه السلام) كان إذا أخذ شاهد زور
فإن كان غريبا بعث به إلى حيه، وإن كان سوقيا بعث به إلى سوقه فطيف به، ثم يحبسه
أياما ثم يخلى سبيله. " (3) هذا.
وفي سنن البيهقي بسنده، عن عبد الله بن عامر، قال:
" اتي عمر بشاهد زور فوقفه للناس يوما إلى الليل يقول: هذا فلان، يشهد بزور
فاعرفوه، ثم حبسه. " (4)
وفيه أيضا بسنده، عن مكحول:

1 - دعائم الإسلام 2 / 532; راجع ص 452 من الكتاب.
2 - مستدرك الوسائل 3 / 207، الباب 24 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 5.
3 - الوسائل 18 / 244، الباب 15 من كتاب الشهادات، الحديث 3.
4 - سنن البيهقي 10 / 141، كتاب آداب القاضي، باب ما يفعل بشاهد الزور.
499

" أن عمر بن الخطاب كتب إلى عماله في كور الشام في شاهد الزور أن يجلد أربعين،
ويحلق رأسه، ويسخم وجهه (1)، ويطاف به، ويطال حبسه. " قال البيهقي: سند الرواية
ضعيف. (2)
العشرون - من وثب على امرأة فحلق رأسها:
1 - ففي خبر عبد الله بن سنان، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك ما على رجل
وثب على امرأة فحلق رأسها؟ قال: يضرب ضربا وجيعا، ويحبس في سجن المسلمين
حتى يستبرأ شعرها، فإن نبت أخذ منه مهر نسائها، وإن لم ينبت أخذ منه الدية كاملة.
قلت: فكيف صار مهر نسائها إن نبت شعرها؟ فقال: يا ابن سنان، إن شعر المرأة وعذرتها
شريكان في الجمال، فإذا ذهب بأحدهما وجب لها المهر كملا. " رواه المشايخ الثلاثة. (3)
وأفتى بمضمونه الأصحاب; ففي الشرائع:
" أما شعر المرأة ففيه ديتها. ولو نبت ففيه مهرها. " (4)
وفي الجواهر:
" بلا خلاف أجده فيه إلا من الإسكافي في الثاني خاصة فجعل فيه ثلث الدية. " (5)
وفي الجواهر أيضا:
" ولو زاد مهر نسائها على مهر السنة أخذته، لإطلاق النص والفتوى. نعم، لو زاد على
ديتها لم يكن لها إلا الدية، للإجماع كما في كشف اللثام على أنه لا يزيد دية عضو من
إنسان على دية نفسه. " (6)

1 - سخم وجهه: سوده.
2 - سنن البيهقي 10 / 142، كتاب آداب القاضي، باب ما يفعل بشاهد الزور.
3 - الوسائل 19 / 255، الباب 30 من أبواب ديات الأعضاء، الحديث 1.
4 - الشرائع 4 / 261.
5 - الجواهر 42 / 174 (كتاب الديات).
6 - الجواهر 42 / 175 (كتاب الديات).
500

2 - ولكن روى في الدعائم، عن جعفر بن محمد (عليه السلام): " وإن كانت امرأة فحلق رجل
رأسها حبس في السجن حتى ينبت، ويخرج بين ذلك ثم يضرب فيرد إلى السجن، فإذا
نبت أخذ منه مثل مهر نسائها إلا أن يكون أكثر من مهر السنة، فإن كان أكثر من مهر السنة
رد إلى السنة. " (1) ورواه عنه في المستدرك. (2)
ولكن الاعتماد على ما يختص به هذا الكتاب مشكل. هذا.
والمذكور في الروايتين وإن كان هو الرجل ولكن الظاهر مساواة المرأة له، فلو
حلقت امرأة رأس امرأة كان حكمها حكم الرجل. ولو حلق الزوج رأس زوجته فهل
الحكم فيه ذلك؟ لا يبعد ذلك وإن كان لا يخلو من خفاء.
الحادي والعشرون - الأم إذا كانت تزني:
1 - ففي صحيحة عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " جاء رجل إلى
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: إن أمي لا تدفع يد لامس؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): فاحبسها. قال: قد فعلت.
قال: فامنع من يدخل عليها. قال: قد فعلت. قال: قيدها، فإنك لا تبرها بشيء أفضل من أن
تمنعها من محارم الله - عز وجل -. " (3)
أقول: عموم التعليل في الصحيحة يفيدنا جواز الحبس والتقييد بالنسبة إلى كل من
لا يتمكن من منعه من محارم الله - تعالى - إلا بذلك.
الثاني والعشرون - السكارى المتباعجون بالسكاكين:
1 - فعن الشيخ بإسناده، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " قال: كان
قوم يشربون فيكسرون فيتباعجون (4) بسكاكين كانت معهم، فرفعوا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)

1 - دعائم الإسلام 2 / 430، كتاب الديات، الفصل 8، الحديث 1489.
2 - مستدرك الوسائل 3 / 280، الباب 28 من أبواب ديات الأعضاء، الحديث 3.
3 - الوسائل 18 / 414، الباب 48 من أبواب حد الزنا، الحديث 1.
4 - بعج بطنه بالسكين: شقه.
501

فسجنهم فمات منهم رجلان وبقي رجلان. فقال أهل المقتولين: يا أمير المؤمنين،
أقدهما بصاحبينا. فقال (عليه السلام) للقوم: ما ترون؟ فقالوا: نرى أن تقيدهما. فقال على (عليه السلام) للقوم:
فلعل ذينك الذين ماتا قتل كل واحد منهما صاحبه. قالوا: لا ندري. فقال علي (عليه السلام): بل
أجعل دية المقتولين على قبائل الأربعة، وآخذ دية جراحة الباقيين من دية
المقتولين. " (1)
ورواه الصدوق أيضا عن السكوني. والسند لا بأس به. وروى المفيد في المقنعة و
الإرشاد أيضا نحوه. (1354)
وروى في المستدرك أيضا عن الجعفريات نحوه (2).
2 - وفي دعائم الإسلام، عن على (عليه السلام): " أنه قضى في أربعة نفر شربوا الخمر فتباعجوا
بالسكاكين، فأتي بهم فحبسهم، فمات منهم رجلان وبقي رجلان، فقال أهل المقتولين:
أقدنا من هذين - ولم يكن أحد منهم أقر، ولم تقم عليهم بينة - فقال على (عليه السلام): فلعل الذين
ماتا قتل كل واحد منهما صاحبه. قالوا: لا ندري. فقضى بدية المقتولين على الأربعة، و
أخذ جراحة الباقيين من دية المقتولين. " (3) ورواه عنه في المستدرك. (4)
أقول: مفاد خبر الدعائم استقرار دية المقتولين على الأربعة، وظاهر خبر السكوني
كونها على عاقلة الأربعة.
وروى الكليني والشيخ في هذه المسألة بسند صحيح، عن محمد بن قيس، عن
أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في أربعة شربوا مسكرا فأخذ بعضهم على بعض
السلاح فاقتتلوا فقتل اثنان وجرح اثنان، فأمر المجروحين فضرب كل واحد منهما ثمانين
جلدة، وقضى بدية المقتولين على المجروحين وأمر أن تقاس جراحة المجروحين فترفع
من الدية، فإن مات المجروحان فليس على أحد من أولياء المقتولين شيء " (5)

1353 و 1354 - الوسائل 19 / 173، الباب 1 من أبواب موجبات الضمان، الحديث 2.
2 - مستدرك الوسائل 3 / 268، الباب 1 من أبواب موجبات الضمان من كتاب الديات، الحديث 1.
3 - دعائم الإسلام 2 / 423، كتاب الديات، الفصل 5، الحديث 1475.
4 - مستدرك الوسائل 3 / 268، الباب 1 من أبواب موجبات الضمان، الحديث 2.
5 - الوسائل 19 / 172، الباب 1 من أبواب موجبات الضمان، الحديث 1.
502

ومفاده كون دية المقتولين على المجروحين، فاختلف مفاد الروايات الثلاث في
حكم دية المقتولين.
وفي الشرائع بعد التعرض لمفاد صحيحة محمد بن قيس وخبر السكوني قال: " ومن
المحتمل أن يكون على (عليه السلام) قد اطلع في هذه الواقعة على ما يوجب هذا الحكم. " (1)
أقول: ولم يتعرض هو لرفع التعارض بين الصحيحة والخبر، مع أن الظاهر حكايتهما
عن واقعة واحدة.
وفي المسالك بعد المناقشة في سند الصحيحة باشتراك محمد بن قيس بين الثقة و
الضعيف قال:
" إن الاجتماع المذكور والاقتتال لا يستلزم كون القاتل هو المجروح وبالعكس،
فينبغي أن يحض حكمها بواقعتها. نعم، يمكن الحكم بكون ذلك لوثا يثبت القتل بالقسامة
من عمد أو خطأ وقتل وجرح.
وأورد عليها شيخنا الشهيد في الشرح بأنه إذا حكم بأن المجروحين قاتلان فلم
لم يستقدمنهما؟ وبأن الحكم بأخذ دية الجرح وإهدار الدية لو ماتا أشكل أيضا، وكذا في
الحكم بوجوب الدية في جراحتهما لأن موجب العمد القصاص.
وجوابه أن القتل وقع منهما حال السكر، فلا يكون عمدا بل يوجب الدية خاصة، و
فرض الجرح غير قاتل، كما هو ظاهر الرواية. ووجوب دية الجرح لوقوعه أيضا من
السكران كالقتل أو لفوات محل القصاص. " (2)
أقول: ما ذكره من اشتراك محمد بن قيس يدفعه أن الظاهر أن الذي يروي عنه عاصم
بن حميد هو محمد بن قيس البجلي الثقة الراوي لقضايا أمير المؤمنين (عليه السلام).
وفي الجواهر بعد التعرض للصحيحة قال:
" لم يحك العمل به إلا عن أبي علي والقاضي، خصوصا بعد معارضته بما في رواية
السكوني... بل في كشف الرموز: إن هذا الخبر أقرب إلى الصواب لأن القاتل غير معين،

1 - الشرائع 4 / 253.
2 - المسالك 2 / 494.
503

واشتراكهم في القتل أيضا مجهول لجواز أن يكون حصل القتل من أحدهم فرجع إلى
الدية لأن لا يبطل دم امرء مسلم، وجعل على قبائل الأربعة لأن لكل منهم تأثيرا في
القتل. وإن كان فيه أن تغريم العاقلة على خلاف الأصل، خصوصا بعد الاتفاق ظاهرا
على أن عمد السكران موجب للقصاص أو شبه عمد موجب للدية من ماله، ولا قائل
بكونه خطأ محضا. على أنه إن علم أن لكل منهما أثرا في القتل كان لأولياء المقتولين قتل
الباقيين، وإن لم يعلم فلم جعلت الدية على قبائلهم؟
وفي كشف اللثام: إنه يمكن تنزيل الخبر على أن ولى كل قتيل ادعى على الباقين
اشتراكهم، وقد حصل اللوث ولم يحلف هو ولا الباقيان ولا أولياء القتيلين.
وفيه نظر. فلا محيص عن مخالفة الخبر المزبور للقواعد. " (1) انتهى كلام الجواهر.
أقول: لعل وجه النظر هو أن اللوث وترك الحلف لا يقتضيان استقرار الدية على
العاقلة، بل اللازم استقرارها على المجروحين بعد الادعاء عليهما وامتناعهما من
الحلف. اللهم إلا أن يقال: حيث إن دم المسلم لا يطل بلا إشكال، والأربعة قد بلغوا في
السكر حدا زال عنهم العقل بالكلية ولو موقتا، فصار وزانهم وزان المجنون. وكما يوزع
الدينار المودع المردد بين الشخصين بينهما بالمناصفة رعاية للإنصاف الحاكم به العقلاء
والشرع أيضا كما في خبر السكوني عن الصادق (عليه السلام) (2) فكذلك الدية المرددة بين الأربعة
تقسم عليهم أو على عاقلتهم، إذ وزان الغرم وزان الغنم عرفا وشرعا.
نعم، يقع الإشكال في كسر دية جراحة الباقين من دية المقتولين، اللهم إلا أن تحمل
الجراحة على كونها ما دون الموضحة فلا تكون على العاقلة بل على نفس الجارح فتدفع
من الدية المنتقلة إلى المقتول كسائر الديون، ولكن يرد على ذلك أن الدية للقتيلين ولعل
الجرح لم يقع من قبلهما بل من قبل المجروحين أو أحدهما أو من

1 - الجواهر 42 / 91 (كتاب الديات).
2 - الوسائل 13 / 171، الباب 2 من كتاب الصلح، الحديث 1.
504

قبل الأربعة، فتأمل.
والذي يهون الخطب أن الصحيحة ومعتبرة السكوني متعارضتان، والمحكي فيهما
واقعة واحدة، ولم يحرز عمل المشهور بواحد منهما ليترجح، فتسقطان عن الحجية. و
الاعتبار العقلائي في أمثال المقام يقتضي التوزيع، كما مر. وإن أبيت كان اللازم أداء
الدية من بيت المال، كما ورد في دية من مات في زحام الناس في جمعة أو عرفة أو على
جسر، إذ لا يطل دم المسلم، فراجع الوسائل. (1)
الثالث والعشرون - القاتل عمدا إذا لم يقتص منه:
1 - ففي الوسائل بسنده، عن الفضيل بن يسار، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): عشرة قتلوا
رجلا؟ قال: " إن شاء أولياؤه قتلوهم جميعا وغرموا تسع ديات، وإن شاؤوا تخيروا
رجلا فقتلوه وأدى التسعة الباقون إلى أهل المقتول الأخير عشر الدية كل رجل منهم. "
قال: " ثم الوالي بعد يلي أدبهم وحبسهم. " (2)
أقول: روى الحديث المشايخ الثلاثة، والسند موثوق به.
2 - وفيه أيضا بسنده، عن أبي بصير، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل قتل رجلا
متعمدا ثم هرب القاتل فلم يقدر عليه؟ قال: " إن كان له مال أخذت الدية من ماله وإلا
فمن الأقرب فالأقرب، وإن لم يكن له قرابة أداه الإمام، فإنه لا يبطل دم امرئ مسلم. "
قال الكليني: وفي رواية أخرى: " ثم للوالي بعد أدبه وحبسه. " (3)
أقول: والظاهر أن المراد بالأدب الضرب. فمقتضى الحديثين أن القاتل عمدا إذا أدى
الدية كان للوالي تعزيره وحبسه أيضا للحق العام الاجتماعي، اللهم إلا أن تقتضي
المصلحة عفوه. هذا.

1 - راجع الوسائل 19 / 194، الباب 23 من أبواب موجبات الضمان.
2 - الوسائل 19 / 30، الباب 12 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 6.
3 - الوسائل 19 / 303، الباب 4 من أبواب العاقلة، الحديث 1 و 2.
505

وأما ما دل عليه خبر الفضيل من تخيير الأولياء في القصاص، فقال المحقق في
الشرائع:
" إذا اشترك جماعة في قتل واحد قتلوا به. والولي بالخيار بين قتل الجميع بعد أن يرد
عليهم ما فضل عن دية المقتول فيأخذ كل واحد منهم ما فضل من ديته عن جنايته، وبين
قتل البعض، ويرد الباقون دية جنايتهم. " (1)
وعقب ذلك في الجواهر بقوله:
" بلا خلاف أجده في شيء من ذلك، بل الإجماع بقسميه عليه، مضافا إلى معلومية
كون شرع القصاص لحقن الدماء، فلو لم يجب عند الاشتراك لاتخذ ذريعة إلى سفكها، و
إلى صدق كون المجموع قاتلا فيندرج في قوله - تعالى -: " ومن قتل مظلوما فقد جعلنا
لوليه سلطانا " إلا أنه منهى عن الإسراف في القتل. ولعل منه قتلهم أجمع من دون رد ما
زاد على جنايتهم عليهم. " (2) هذا.
ويدل على الحكم مضافا إلى ما مر أخبار مستفيضة وفيها الصحيح والموثق أيضا. و
قد أفتى بها أصحابنا الإمامية بلا خلاف، فراجع.
نعم، يظهر من بعض الأخبار عدم جواز أن يقتل بواحد أكثر من واحد: منها خبر
أبي العباس وغيره، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " إذا اجتمع العدة على قتل رجل واحد
حكم الوالي أن يقتل أيهم شاؤوا، وليس لهم أن يقتلوا أكثر من واحد، إن الله - عز وجل -
يقول: " ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل. " (3).
ولكن يحمل ذلك على التنزه أو التقية أو قتل الأكثر من دون رد الدية كما هو الظاهر
من فقهاء السنة.
وبالجملة، فإجماع أصحابنا على الأخذ بالأخبار الأولة فتطرح الأخيرة أو تحمل
على ما ذكر. وأول المرجحات للأخبار المتعارضة هو الأخذ بما اشتهر.
وأما فقهاء السنة فالمشهور بينهم أيضا جواز قتل الأكثر بواحد، ولكن لبعضهم

1 - الشرائع 4 / 202.
2 - الجواهر 42 / 66 (طبعة أخرى بتصحيح آخر ص 63). والآية المذكورة من سورة الإسراء
(17)، رقمها 33.
3 - الوسائل 19 / 30، الباب 12 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 7.
506

خلاف في المسألة:
قال في الخلاف (المسألة 14 من كتاب الجنايات) ما ملخصه:
" إذا قتل جماعة واحدا قتلوا به أجمعين، وبه قال في الصحابة على (عليه السلام) وعمر و
المغيرة بن شعبة وابن عباس، وفي التابعين سعيد بن المسيب والحسن البصري وعطاء،
وفي الفقهاء مالك والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه، والشافعي وأحمد و
إسحاق، إلا أن عندنا أنهم لا يقتلون بواحد إلا إذا رد أولياؤه ما زاد على دية صاحبهم. و
متى أراد أولياء المقتول قتل كل واحد منهم كان لهم ذلك ورد الباقون على أولياء هذا
المقاد منه ما يزيد على حصة صاحبهم. ولم يعتبر ذلك أحد من الفقهاء.
وذهبت طائفة إلى أن الجماعة لا تقتل بالواحد لكن ولى المقتول يقتل منهم واحدا و
يسقط من الدية بحصته ويأخذ من الباقين الباقي من الدية على عدد الجناة، ذهب إليه
في الصحابة عبد الله بن الزبير ومعاذ، وفي التابعين ابن سيرين والزهري. وذهبت طائفة
إلى أن الجماعة لا تقتل بالواحد ولا واحد منهم، ذهب إليه ربيعة وأهل الظاهر داود و
أصحابه.
دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم... وهو إجماع الصحابة، روي عن على (عليه السلام) وعمر و
ابن عباس والمغيرة، وروى سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قتل نفرا خمسا أو
سبعا برجل قتلوه غيلة وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلهم جميعا، وروى عن
على (عليه السلام) أنه قتل ثلاثة قتلوا واحدا، وعن المغيرة بن شعبة أنه قتل سبعة بواحد، وعن
ابن عباس: أنه إذا قتل جماعة واحدا قتلوا به ولو كانوا مأة. " (1)
أقول: وقد تعرض للمسألة ابن قدامة الحنبلي في المغني، فراجعه (2) وراجع سنن
البيهقي (3). هذا.

1 - الخلاف 3 / 92.
2 - المغني 9 / 366.
3 - سنن البيهقي 8 / 40 - 41، كتاب الجنايات، باب النفر يقتلون الرجل.
507

وفي نهج البلاغة في ذكر أصحاب الجمل قال: " فوالله لو لم يصيبوا من المسلمين إلا
رجلا واحدا معتمدين لقتله بلا جرم جره لحل لي قتل ذلك الجيش كله، إذا حضروه
فلم ينكروا ولم يدفعوا عنه بلسان ولا بيد. " (1) فتأمل، إذ لعل القتل فيه كان للبغي
لا للقصاص.
الرابع والعشرون - الأسراء:
1 - ففي سنن البيهقي بسنده، عن أبي هريرة، قال: " بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خيلا نحو
أرض نجد، فجاءت برجل يقال له ثمامة بن أثال الحنفي سيد أهل اليمامة، فربطوه
بسارية من سواري المسجد، فخرج عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: ما عندك يا ثمامة؟ قال:
عندي يا محمد خير; إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن ترد المال
فسل تعط منه ما شئت. فتركه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى إذا كان من الغد. ثم قال: ما عندك يا
ثمامة؟ فقال: عندي ما قلت لك، فردها عليه. ثم أتاه اليوم الثالث فردها عليه، فقام
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أطلقوا ثمامة. فخرج ثمامة إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل من
الماء ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله. يا
محمد، والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلى من وجهك وقد أصبح وجهك
أحب الوجوه إلى. والله ما كان دين أبغض إلى من دينك وقد أصبح دينك أحب الأديان
إلى... " (2)
أقول: فانظر إلى تأثير عفو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وإغماضه في روح هذا الرجل وفكره، و
هكذا ينبغي أن يعمل الكرام لا أن يصروا في المجازات والانتقام.
2 - وروى البيهقي أيضا بسنده، عن ابن عباس، قال: " لما أمسى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم
بدر والأسارى محبوسون بالوثائق بات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ساهرا أول الليل، فقال له
أصحابه: يا رسول الله، مالك لا تنام؟ - وقد أسر العباس رجل

1 - نهج البلاغة، فيض / 556; عبده 2 / 104; لح / 247، الخطبة 172.
2 - سنن البيهقي 9 / 65، كتاب السير، باب ما يفعله بالرجال البالغين منهم.
508

من الأنصار - فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): سمعت أنين عمي العباس في وثاقه. فأطلقوه
فسكت، فنام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). " (1)
3 - وفي إرشاد المفيد في قصة أسارى بني قريظة، قال:
" ولما جيء بالأسارى إلى المدينة حبسوا في دار من دور بني النجار. " (2)
4 - وفي سيرة ابن هشام:
" فجعلت بنت حاتم في حظيرة بباب المسجد كانت السبايا يحبسن فيها. " (3)
5 - وقد مر عن التراتيب الإدارية في قصة بنت حاتم:
" فقدم بها في سبايا طئ... فجعلت بنت حاتم في حصيرة بباب المسجد. وكانت
النساء تحتبسن فيها. " (4)
الخامس والعشرون - من عذب عبده حتى مات:
1 - خبر مسمع بن عبد الملك، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " أن أمير المؤمنين (عليه السلام) رفع إليه رجل
عذب عبده حتى مات، فضربه مأة نكالا وحبسه سنة، وأغرمه قيمة العبد فتصدق بها
عنه. " (5)
وروى نحوه في المستدرك، عن الجعفريات بسنده، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن
جده. (6)
أقول: ويستفاد من الخبر جواز التعزير إلى مأة، أعني الحد الكامل، وكذلك جواز
التعزير بالمال، كما لا يخفى.
2 - خبر أبي الفتح الجرجاني، عن أبي الحسن (عليه السلام) في رجل قتل مملوكه أو

1 - سنن البيهقي 9 / 89، كتاب السير، باب الأسير يوثق.
2 - ارشاد المفيد / 51 (= طبعة أخرى / 58).
3 - سيرة ابن هشام 4 / 225.
4 - التراتيب الإدارية 1 / 300.
5 - الوسائل 19 / 68، الباب 37 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 5.
6 - مستدرك الوسائل 3 / 257، الباب 34 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 1.
509

مملوكته، قال: " إن كان المملوك له أدب وحبس، إلا أن يكون معروفا بقتل المماليك
فيقتل به. " (1)
وقال المحقق في الشرائع:
" ولو قتل المولى عبده كفر وعزر ولم يقتل به. وقيل: يغرم قيمته ويتصدق بها، وفي
المستند ضعف. وفي بعض الروايات: إن اعتاد ذلك قتل به. " (2)
السادس والعشرون - من أعتق نصيبه من مملوكه المشترك فيه فيحبس
ليشتري البقية ويعتقها:
ففي سنن البيهقي بسنده، عن أبي مجلز: " أن غلامين من جهينة كان بينهما غلام، فأعتق
أحدهما نصيبه، فحبسه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى باع فيه غنيمة له. " (3)
أقول: حيث إن من خواص العتق السراية، فمن أعتق شقصا من مملوكه سرى العتق
إلى كله، ولو كان له فيه شريك قوم عليه نصيب الشريك مع يساره أو استسعى فيها
المملوك بنفسه فيعتق الجميع. ويدل على الحكم أخبار كثيرة، فراجع الوسائل. (4)
قال في الشرائع:
" من أعتق شقصا من عبده سرى العتق فيه كله إذا كان المعتق صحيحا جائز التصرف.
وإن كان له فيه شريك قوم عليه إن كان موسرا وسعى العبد في فك ما بقي منه إن كان
المعتق معسرا. " (5)

1 - الوسائل 19 / 69، الباب 38 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 1.
2 - الشرائع 4 / 205.
3 - سنن البيهقي 6 / 49، كتاب التفليس، باب الحجر على المفلس وبيع ماله في ديونه.
4 - راجع الوسائل 16 / 25 - 28، الباب 18 من كتاب العتق.
5 - الشرائع 3 / 111.
510

السابع والعشرون - القواد المحكوم بالنفي على ما روي:
ففي فقه الرضا:
" وإن قامت بينة على قواد جلد خمسة وسبعين، ونفي عن المصر الذي هو فيه. و
روى أن النفي هو الحبس سنة أو يتوب. " (1)
ورواه عنه في البحار (2)، والمستدرك. (3)
قال في الشرائع:
" يجب على القواد خمس وسبعون جلدة... وهل ينفى بأول مرة؟ قال في النهاية: نعم.
وقال المفيد ينفى في الثانية. والأول مروى " (4)
الثامن والعشرون - المرتد الملي يحبس ليتوب:
ففي الوسائل، عن عبد الله بن سنان، عن أبيه، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " إن عبد الله بن
سبا كان يدعي النبوة، وكان يزعم أن أمير المؤمنين (عليه السلام) هو الله - تعالى عن ذلك - فبلغ
أمير المؤمنين (عليه السلام) فدعاه فسأله فأقر وقال: نعم أنت هو، وقد كان ألقي في روعي أنك أنت
الله وأنا نبي، فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): " ويلك قد سخر منك الشيطان، فارجع عن هذا
ثكلتك أمك وتب، فأبى فحبسه واستتابه ثلاثة أيام فلم يتب، فأخرجه فأحرقه
بالنار... " (5)
وذكر الكشي عن بعض أهل العلم أن عبد الله بن سبأ كان يهوديا فأسلم. (6)

1 - فقه الرضا / 310.
2 - بحار الأنوار 76 / 116 (= طبعة إيران 79 / 116)، كتاب النواهي، الباب 84 (باب الدياثة و
القيادة)، الرقم 12.
3 - مستدرك الوسائل 3 / 230، الباب 5 من أبواب السحق والقيادة، الحديث 1.
4 - الشرائع 4 / 162.
5 - الوسائل 18 / 554، الباب 6 من أبواب حد المرتد، الحديث 4.
6 - اختيار معرفة الرجال / 108.
511

التاسع والعشرون - من قطع يده فيحبس للعلاج:
1 - فروى الكليني بسنده، عن الحارث بن حضيرة، قال: مررت بحبشي وهو يستقي
بالمدينة فإذا هو أقطع، فقلت له: من قطعك؟ قال: قطعني خير الناس: إنا أخذنا في سرقة و
نحن ثمانية نفر، فذهب بنا إلى على بن أبي طالب (عليه السلام)، فأقررنا بالسرقة، فقال لنا: تعرفون
أنها حرام؟ فقلنا: نعم. فأمر بنا فقطعت أصابعنا من الراحة وخليت الإبهام، ثم أمر بنا
فحبسنا في بيت يطعمنا فيه السمن والعسل حتى برئت أيدينا، ثم أمر بنا فأخرجنا و
كسانا فأحسن كسوتنا، ثم قال لنا: إن تتوبوا وتصلحوا فهو خير لكم يلحقكم الله
بأيديكم في الجنة، وإلا تفعلوا يلحقكم الله بأيديكم في النار. " (1)
2 - وفي دعائم الإسلام، عن على (عليه السلام) أنه أمر بقطع سراق، فلما قطعوا أمر بحسمهم
فحسموا (أمر بحبسهم فحبسوا - المستدرك)، ثم قال: يا قنبر خذهم إليك فداو كلومهم و
أحسن القيام عليهم فإذا برئوا فأعلمني، فلما برئوا أتاه فقال: يا أمير المؤمنين قد برئت
جراحهم، فقال: اذهب فاكس كل واحد منهم ثوبين وأتني بهم، ففعل وأتاه بهم كأنهم قوم
محرمون... " (2) ورواه عنه في المستدرك. (3)
أقول: يقال: حسم العرق: كواه لئلا يسيل دمه.
الطائفة الثانية من أخبار الحبس والسجن:
ما تعرضت لمن يخلد في السجن، حتى يموت أو حتى يتوب:
وموارده أيضا كثيرة. وسيأتي المراد من التخليد:

1 - الوسائل 18 / 528، الباب 30 من أبواب حد السرقة، الحديث 1.
2 - دعائم الإسلام 2 / 470، كتاب السراق، الفصل 1، الحديث 1678.
3 - مستدرك الوسائل 3 / 239، الباب 28 من أبواب حد السرقة، الحديث 2.
512

الأول - من سرق ثالثة:
والأخبار في هذا المورد في غاية الكثرة:
1 - صحيحة محمد بن قيس، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في
السارق إذا سرق قطعت يمينه، وإذا سرق مرة أخرى قطعت رجله اليسرى، ثم إذا سرق
مرة أخرى سجنه، وتركت رجله اليمنى يمشى عليها إلى الغائط، ويده اليسرى يأكل بها
ويستنجي بها، فقال: إني لأستحيي من الله أن أتركه لا ينتفع بشيء، ولكني أسجنه حتى
يموت في السجن. وقال: ما قطع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من سارق بعد يده ورجله. " (1)
2 - خبر زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " كان على (عليه السلام) لا يزيد على قطع اليد والرجل،
ويقول: إني لأستحيي من ربي أن أدعه ليس له ما يستنجي به أو يتطهر به. قال: وسألته
إن هو سرق بعد قطع اليد والرجل؟ قال: استودعه السجن أبدا وأغنى (أكفى) عن الناس
شره. " (2)
3 - خبر القاسم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سألته عن رجل سرق، فقال: سمعت أبي
يقول: اتي على (عليه السلام) في زمانه برجل قد سرق فقطع يده، ثم أتي به ثانية فقطع رجله من
خلاف، ثم أتى به ثالثة فخلده في السجن وأنفق عليه من بيت مال المسلمين، وقال:
هكذا صنع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا أخالفه. " (3)
4 - موثقة سماعة بن مهران، قال: قال: إذا أخذ السارق قطعت يده من وسط الكف،
فإن عاد قطعت رجله من وسط القدم، فإن عاد استودع السجن، فإن سرق في السجن
قتل. " (4)

1 - الوسائل 18 / 492، الباب 5 من أبواب حد السرقة، الحديث 1.
2 - الوسائل 18 / 492، الباب 5 من أبواب حد السرقة، الحديث 2.
3 - الوسائل 18 / 493، الباب 5 من أبواب حد السرقة، الحديث 3.
4 - الوسائل 18 / 493، الباب 5 من أبواب حد السرقة، الحديث 4.
513

5 - صحيحة الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث في السرقة، قال: " تقطع اليد و
الرجل ثم لا يقطع بعد، ولكن إن عاد حبس وأنفق عليه من بيت مال المسلمين. " (1)
6 - صحيحة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) وعبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " إن
الأشل إذا سرق قطعت يمينه على كل حال، شلاء كانت أو صحيحة. فإن عاد فسرق
قطعت رجله اليسرى، فإن عاد خلد في السجن وأجرى عليه من بيت المال وكف عن
الناس. " (2)
إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة في هذا المجال، فراجع الوسائل (3)، و
المستدرك. (4)
وما ذكر فيه منها الحبس أو السجن بنحو الإطلاق يحمل لا محالة على التخليد فيه
حملا للمطلق على المقيد.
وأفتى أصحابنا الإمامية بمضمون هذه الأخبار; ففي الشرائع:
" فإن سرق ثالثة حبس دائما " (5)
وعقبه في الجواهر بقوله:
" حتى يموت أو يتوب، وأنفق عليه من بيت المال إن لم يكن له مال، ولا يقطع شيء
منه، بلا خلاف أجده في شيء من ذلك نصا وفتوى، بل يمكن دعوى القطع به من
النصوص. " (6)
أقول: وفي كثير من النصوص تصريح بعمل أمير المؤمنين (عليه السلام) وصنع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)،
وإشارة إلى وجود خلاف في المسألة. وهو كذلك، لاختلاف

1 - الوسائل 18 / 494، الباب 5 من أبواب حد السرقة، الحديث 7.
2 - الوسائل 18 / 502، الباب 11 من أبواب حد السرقة، الحديث 4.
3 - راجع الوسائل 18 / 492 - 496، الباب 5 من أبواب حد السرقة.
4 - راجع مستدرك الوسائل 3 / 236، الباب 5 من أبواب حد السرقة.
5 - الشرائع 4 / 176.
6 - الجواهر 41 / 533.
514

علماء السنة في ذلك:
قال في الخلاف (المسألة 30 من كتاب السرقة):
" إذا سرق السارق بعد قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى في الثالثة خلد الحبس و
لاقطع عليه، فإن سرق في الحبس من حرز وجب عليه القتل.
وقال الشافعي: تقطع يده اليسرى في الثالثة ورجله اليمنى في الرابعة، وبه قال مالك
وإسحاق.
وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد: لا يقطع في الثالثة، مثل ما قلناه غير أنهم
لم يقولوا بتخليد الحبس. دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم. " (1)
وفي المحلى لابن حزم:
" اختلف الناس فيما يقطع من السارق، فقالت طائفة: لا تقطع إلا اليد الواحدة فقط، ثم
لا يقطع منه شيء. وقالت طائفة: لا يقطع منه إلا اليد والرجل من خلاف، ثم لا يقطع منه
شيء. وقالت طائفة: تقطع اليد ثم الرجل الأخرى. وقالت طائفة: تقطع يده ثم رجله من
خلاف ثم رجله الثانية. "
ثم تعرض لدليل كل من الأقوال، ثم قال:
" فإذ إنما جاء القرآن والسنة بقطع يد السارق لا بقطع رجله فلا يجوز قطع رجله أصلا.
وهذا ما لا إشكال فيه، والحمد لله. فوجب من هذا إذا سرق الرجل أو المرأة أن يقطع من
كل واحد منهما يدا واحدة، فإن سرق أحدهما ثانية قطعت يده الثانية بالنص من القرآن و
السنة، فإن سرق في الثالثة عزر وثقف ومنع الناس ضره حتى يصلح حاله. " (2)
وفي المغنى لابن قدامة - بعد قول الخرقي:
" فإن عاد حبس، ولا يقطع غير يد ورجل. " - قال: " يعني إذا عاد فسرق بعد قطع يده
ورجله لم يقطع منه شيء آخر وحبس. وبهذا قال على (عليه السلام) والحسن

1 - الخلاف 3 / 201.
2 - المحلى 8 / 354 و 357، (الجزء 11): المسألة 2283.
515

والشعبي والنخعي والزهري وحماد والثوري وأصحاب الرأي.
وعن أحمد أنه تقطع في الثالثة يده اليسرى، وفي الرابعة رجله اليمنى، وفي الخامسة
يعزر ويحبس.
وروى عن أبي بكر وعمر أنهما قطعا يد أقطع اليد والرجل، وهذا قول قتادة ومالك و
الشافعي وأبي ثور وابن المنذر.
وروى عن عثمان وعمرو بن العاص وعمر بن عبد العزيز أنه تقطع يده اليسرى في
الثالثة والرجل اليمنى في الرابعة ويقتل في الخامسة، لأن جابرا قال: جيء إلى
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بسارق، فقال: اقتلوه. فقالوا: يا رسول الله إنما سرق. فقال: اقطعوه. قال فقطع.
ثم جيء به الثانية، فقال: اقتلوه. قالوا: يا رسول الله إنما سرق. قال: اقطعوه، فقطع. ثم
جيء به الثالثة، فقال: اقتلوه. فقالوا: يا رسول الله إنما سرق. قال: اقطعوه. قال ثم أتي به
الرابعة، فقال: اقتلوه. قالوا: يا رسول الله انما سرق. قال: اقطعوه. ثم أتي به الخامسة، قال:
اقتلوه. قال: فانطلقنا به فقتلناه ثم اجتررناه فألقيناه في بئر. رواه أبو داود.
وعن أبي هريرة: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال في السارق: " وإن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق
فاقطعوا رجله، ثم إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله. "
ولأن اليسار تقطع قودا فجاز قطعها في السرقة كاليمني، ولأنه فعل أبي بكر وعمر، و
قد قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر. "
ولنا ما روى سعيد: حدثنا أبو معشر، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، قال:
حضرت علي بن أبي طالب (عليه السلام) اتي برجل مقطوع اليد والرجل قد سرق، فقال لأصحابه:
ما ترون في هذا؟ قالوا: اقطعه يا أمير المؤمنين، قال: قتلته إذا وما عليه القتل; بأي شيء
يأكل الطعام؟ بأي شيء يتوضأ للصلاة؟ بأي شيء يغتسل من جنابته؟ بأي شيء يقوم
على حاجته؟ فرده إلى السجن أياما ثم أخرجه فاستشار أصحابه، فقالوا مثل قولهم
الأول، وقال لهم مثل ما قال أول مرة، فجلده جلدا شديدا ثم أرسله. "
وروى عنه أنه قال: لأستحي من الله أن لا أدع له يدا يبطش بها، ولا رجلا يمشي
عليها...
516

وأما حديث جابر ففي حق شخص استحق القتل، بدليل أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر به في أول
مرة وفي كل مرة، وفعل ذلك في الخامسة. ورواه النسائي وقال: حديث منكر.
وأما الحديث الآخر وفعل أبي بكر وعمر فقد عارضه قول على (عليه السلام)، وقد روي عن
عمر أنه رجع إلى قول على (عليه السلام): فروى سعيد: حدثنا أبو الأحوص، عن سماك بن حرب،
عن عبد الرحمان بن عائذ، قال: اتي عمر برجل أقطع اليد والرجل قد سرق، فأمر به عمر
أن تقطع رجله، فقال على (عليه السلام): إنما قال الله - تعالى - " إنما جزاء الذين يحاربون الله و
رسوله ويسعون في الأرض فسادا. " (1) الآية، وقد قطعت يد هذا ورجله، فلا ينبغي أن
تقطع رجله فتدعه ليس له قائمة يمشي عليها; إما أن تعزره وإما أن تستودعه السجن،
فاستودعه السجن. " (2)
انتهى ما أردنا نقله من كتاب المغني بطوله.
أقول: خبر جابر رواه أبو داود في الحدود باب في السارق يسرق مرارا (3)، و
النسائي في كتاب قطع السارق من سننه وقال: " هذا حديث منكر. " (4) ووجهه واضح،
إذ كيف حكم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في جميع المراتب الأربع بالقتل، وكيف أضرب عما قاله
بقول أصحابه؟! وهل الأمر اشتبه على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ونسي حكم القطع المنزل في
الكتاب العزيز حتى ذكره أصحابه؟!
وخبر عبد الرحمان بن عائذ رواه البيهقي (5) وروى البيهقي أيضا، عن عبد الله بن
سلمة: " أن عليا (عليه السلام) اتي بسارق فقطع يده، ثم أتي به فقطع رجله، ثم أتي به، فقال: أقطع
يده، بأي شيء يتمسح، وبأي شيء يأكل؟ ثم قال: أقطع رجله، على أي شيء يمشي؟ إني
لأستحيي

1 - سورة المائدة (5) الآية 33.
2 - المغنى 10 / 271 - 273.
3 - سنن أبي داود 2 / 454.
4 - سنن النسائي 8 / 90 - 91، كتاب قطع السارق، باب قطع اليدين والرجلين من السارق.
5 - سنن البيهقي 8 / 274، كتاب السرقة، باب السارق يعود فيسرق...
517

الله. قال: ثم ضربه وخلده السجن. " (1)
فالحق في المسألة ما أفتى به أصحابنا الإمامية.
ثم إن الظاهر أن المراد بتخليده في السجن عدم كون حبسه موقتا محدودا بزمان
معين كالسنة مثلا، بل يبقى فيه حتى يظهر صلاحه وتوبته فيطلق، فإن لم يتب بقي فيه
دائما، وهو الظاهر من الجواهر أيضا كما مر.
ويشهد لذلك قوله (عليه السلام) في خبر الزرارة السابق: " وأعني عن الناس شره "، وفي
صحيحته السابقة: " وكف عن الناس. " إذ بعد التوبة لا شر له.
واحتمال تعين بقائه فيه تعبدا وإن تاب وصلح بعيد جدا، وإن كان ربما يلوح هذا
من أخبار الباب بل يمكن أن يستأنس له بأنه بدل القطع الذي هو حد إلهي يجب تنفيذه و
إن تاب بعد رفع أمره إلى الإمام. نعم، للإمام العفو عنه إذا كان الثبوت بالإقرار على
الأصح أو مطلقا على قول المفيد، كما مر.
الثاني من موارد التخليد في السجن - المرأة المرتدة:
والأخبار فيها مستفيضة:
1 - صحيحة حريز، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " لا يخلد في السجن إلا ثلاثة: الذي
يمسك على الموت، والمرأة ترتد عن الإسلام، والسارق بعد قطع اليد والرجل. " (2)
والحصر إضافي لا حقيقي، إذ موارد التخليد أكثر من ثلاثة، كما سيظهر. ولعله شاع
في تلك الأعصار تخليد الناس في السجون بلا جهة مبررة، فكان قوله (عليه السلام) تلميحا إلى
تخطئتهم.
2 - خبر غياث بن إبراهيم، عن جعفر، عن أبيه، عن على (عليه السلام)، قال: " إذا ارتدت المرأة
عن الإسلام لم تقتل ولكن تحبس أبدا. " (3)

1 - سنن البيهقي 8 / 275، كتاب السرقة، باب السارق يعود فيسرق...
2 - الوسائل 18 / 550، الباب 4 من أبواب حد المرتد، الحديث 3.
3 - الوسائل 18 / 549، الباب 4 من أبواب حد المرتد، الحديث 2.
518

3 - خبر عباد بن صهيب، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " المرتد يستتاب، فإن تاب وإلا
قتل. والمرأة تستتاب، فإن تابت وإلا حبست في السجن وأضر بها. " (1)
4 - خبر ابن محبوب، عن غير واحد من أصحابنا، عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام) في
المرتد يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، والمرأة إذا ارتدت عن الإسلام استتيبت، فإن تابت
وإلا خلدت في السجن وضيق عليها في حبسها. " (2)
5 - وفي دعائم الإسلام، عن على (عليه السلام) أنه قال: " من خلد في السجن رزق من
بيت المال. ولا يخلد في السجن إلا ثلاثة: الذي يمسك على الموت، والمرأة ترتد إلا أن
تتوب، والسارق بعد قطع اليد والرجل، يعني إذا سرق بعد ذلك في الثالثة. " (3) ورواه
عنه في المستدرك. (4)
6 - وفيه أيضا، عن على (عليه السلام) أنه قال: " إذا ارتدت المرأة فالحكم فيها أن تحبس حتى
تسلم أو تموت، ولا تقتل.
وإن كانت أمة فاحتاج مواليها إلى خدمتها استخدموها وضيق عليها بأشد الضيق، و
لم تلبس إلا من خشن الثياب بمقدار ما يواري عورتها ويدفع عنها ما يخاف منه الموت
من حر أو برد، وتطعم من خشن الطعام حسب ما يمسك رمقها... " (5) ورواه عنه في
المستدرك. (6)
7 - وفيه أيضا في حديث المرتد: " وإن كانت امرأة حبست حتى تموت أو
تتوب. " (7) ورواه عنه في المستدرك (8). هذا.

1 - الوسائل 18 / 550، الباب 4 من أبواب حد المرتد، الحديث 4.
2 - الوسائل 18 / 550، الباب 4 من أبواب حد المرتد، الحديث 6.
3 - دعائم الإسلام 2 / 539، كتاب آداب القضاة، الحديث 1917.
4 - مستدرك الوسائل 3 / 207، الباب 24 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 4.
5 - دعائم الإسلام 2 / 480، كتاب الردة والبدعة، الفصل 1، الحديث 1720.
6 - مستدرك الوسائل 3 / 243، الباب 3 من أبواب حد المرتد، الحديث 1.
7 - دعائم الإسلام 1 / 398، كتاب الجهاد، ذكر من يسع قتله من أهل القبلة.
8 - مستدرك الوسائل 3 / 243، الباب 3 من أبواب حد المرتد، الحديث 2.
519

وفي صحيحة حماد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في المرتدة عن الإسلام قال: " لا تقتل، و
تستخدم خدمة شديدة، وتمنع الطعام والشراب إلا ما يمسك نفسها، وتلبس خشن
الثياب، وتضرب على الصلوات. "
ورواه الصدوق بإسناده، عن حماد، عن الحلبي مثله إلا أنه قال: " أخشن الثياب. " (1)
وبالجملة، فالمرتدة لا تقتل بحال، بل تحبس حتى تتوب أو تموت، وبه أفتى
أصحابنا الإمامية; قال في الشرائع:
" ولا تقتل المرأة بالردة، بل تحبس دائما وإن كانت مولودة على الفطرة، وتضرب
أوقات الصلاة. " (2) وذيله في الجواهر بقوله: " إجماعا بقسميه، ونصوصا. " (3)
وأما فقهاء السنة فالمسألة مختلف فيها عندهم:
قال الشيخ في كتاب المرتد من الخلاف (المسألة 1):
" المرأة إذا ارتدت لا تقتل، بل تحبس وتجبر على الإسلام حتى ترجع أو تموت في
الحبس، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وقالوا: إن لحقت بدار الحرب سبيت واسترقت.
وروى عن على (عليه السلام) أنها تسترق، وبه قال قتادة.
وقال الشافعي: إذا ارتدت المرأة قتلت مثل الرجل إن لم يرجع، وبه قال أبو بكر، و
روى عن على (عليه السلام) أنه قال: كل مرتد مقتول، ذكرا كان أو أنثى. وبه قال في التابعين
الحسن البصري والزهري، وفي الفقهاء مالك والأوزاعي والليث بن سعد وأحمد بن
حنبل وإسحاق.
دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم، وروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه نهى عن قتل النساء

1 - الوسائل 18 / 549، الباب 4 من أبواب حد المرتد، الحديث 1.
2 - الشرائع 4 / 183.
3 - الجواهر 41 / 611.
520

والوالدان، ولم يفرق، وروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه نهى عن قتل المرتدة، وروى عن
ابن عباس أنه قال: المرتدة تحبس ولا تقتل. وأيضا الأصل حقن الدماء، ولم يقم دليل
على جواز قتلها. فعلى من ادعى قتلها الدلالة. " (1)
وفي المغني لابن قدامة - بعد قول الخرقي:
" ومن ارتد عن الإسلام من الرجال والنساء وكان بالغا عاقلا دعي إليه ثلاثة أيام و
ضيق عليه، فإن رجع وإلا قتل. " - قال ابن قدامة: "... لافرق بين الرجال والنساء في
وجوب القتل. روي ذلك عن أبي بكر وعلى (عليه السلام)، وبه قال الحسن والزهري والنخعي و
مكحول وحماد ومالك والليث والأوزاعي والشافعي وإسحاق.
وروى عن على والحسن وقتادة أنها تسترق ولا تقتل، لأن أبا بكر استرق نساء
بني حنيفة وذراريهم، وأعطى عليا منهم امرأة فولدت له محمد بن الحنفية، وكان هذا
بمحضر من الصحابة فلم ينكر فكان إجماعا.
وقال أبو حنيفة: تجبر على الإسلام بالحبس والضرب، ولا تقتل لقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" لا تقتلوا امرأة. " ولأنها لا تقتل بالكفر الأصلي فلا تقتل بالطارئ كالصبي.
ولنا قوله (عليه السلام): " من بدل دينه فاقتلوه. " رواه البخاري وأبو داود. " (2) هذا.
والمستفاد مما مر عن الدعائم خلاصها من السجن إن تابت وأسلمت. وهو الأظهر
الأقوى، إذا لاوجه لبقائها فيه بعد ما صلحت وطابت; وهو الظاهر من الخلاف أيضا. و
في الجواهر:
" نعم، إن تابت عفي عنها، كما صرح به غير واحد. " (3)
وفي التحرير:
" ولو تابت فالوجه قبول توبتها وسقوط ذلك عنها وإن كانت عن فطرة. " (4)

1 - الخلاف 3 / 170.
2 - المغني 10 / 74.
3 - الجواهر 41 / 612.
4 - تحرير الأحكام 2 / 235.
521

وفي المسالك:
" إنما تحبس المرتدة دائما على تقدير امتناعها من التوبة، فلو تابت قبل منها وإن كان
ارتدادها عن فطرة عند الأصحاب. " (1)
ولكنه ناقش بعد ذلك باحتمال أن يكون الحبس الدائم حدها في الفطرية من غير أن
تقبل توبتها، كما لاتقبل توبة الفطري.
ولكن الأظهر ما ذكرناه وقويناه. ويمكن أن يستأنس لذلك بما ورد من الإضرار بها
والتضييق عليها وضربها على الصلوات. ويشهد له ما مر من الدعائم. هذا مضافا إلى أن
للحاكم العفو عن الحدود إن ثبتت بالإقرار بل مطلقا على قول المفيد كما مر، فتأمل. و
المراد بتخليدها في السجن كما مر عدم كون حبسها محدودا بزمان معين، لا بقاؤها في
السجن وإن صلحت وتابت.
الثالث - المؤلي إذا أبى أن يفيء أو يطلق:
1 - ففي صحيحة أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " الايلاء هو أن يحلف الرجل
على امرأته أن لا يجامعها، فإن صبرت عليه فلها أن تصبر، وإن رفعته إلى الإمام أنظره
أربعة أشهر ثم يقول له بعد ذلك: إما أن ترجع إلى المناكحة وإما أن تطلق، فإن أبى حبسه
أبدا. " (2)
2 - خبر حماد بن عثمان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " المؤلي إذا أبى أن يطلق، قال:
كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يجعل له حظيرة من قصب ويجعله (يحبسه - يب) فيها ويمنعه من
الطعام والشراب حتى يطلق. " (3)
3 - خبر غياث بن إبراهيم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " كان أمير المؤمنين (عليه السلام) إذا أبى
المؤلي أن يطلق جعل له حظيرة من قصب وأعطاه ربع قوته حتى يطلق. " (4)

1 - المسالك 2 / 451.
2 - الوسائل 15 / 541، الباب 8 من أبواب الايلاء، الحديث 6.
3 - الوسائل 15 / 545، الباب 11 من أبواب الإيلاء، الحديث 1.
4 - الوسائل 15 / 545، الباب 11 من أبواب الإيلاء، الحديث 3.
522

4 - مرسلة الصدوق، قال: " روي أنه إن فاء وهو أن يراجع إلى الجماع، وإلا حبس
في حظيرة من قصب وشدد عليه في المأكل والمشرب حتى يطلق. " (1)
5 - ما عن تفسير العياشي، عن صفوان بن يحيى، عن بعض أصحابه، عن أبي
عبد الله (عليه السلام) في المؤلي إذا أبى أن يطلق؟ قال: " كان على (عليه السلام) يجعل له حظيرة من قصب و
يحبسه فيها ويمنعه من الطعام والشراب حتى يطلق. " (2)
6 - ما عن تفسير على بن إبراهيم قال: " روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه بنى حظيرة من
قصب وجعل فيها رجلا آلى من امرأته بعد أربعة أشهر، وقال له: إما أن ترجع إلى
المناكحة، وإما أن تطلق، وإلا أحرقت عليك الحظيرة. " (3)
إلى غير ذلك من الأخبار، ومنها ما ذكر فيه لفظ الوقف، فراجع.
ومقتضى هذه الأخبار أن الإمام أو الحاكم من قبله بعد الأربعة أشهر يخيره بين أن
يفيء إلى النكاح أو يطلق. وبذلك أفتى أصحابنا الإمامية، وأكثر فقهاء السنة أيضا. وقال
بعضهم: إن وقت الفيء في الأربعة أشهر فإن ترك الجماع فيها وقعت الطلقة قهرا بانقضاء
الأربعة طلقة بائنة. وقال بعضهم: إنه يقع الطلاق قهرا بانقضائها طلقة رجعية، فراجع
الخلاف (المسألة 2 من كتاب الايلاء). (4)
ووردت في هذا المجال روايات كثيرة من طرق السنة أيضا، فراجع سنن البيهقي. (5)
الرابع من موارد التخليد في السجن - من أمسك رجلا ليقتله غيره:
1 - صحيحة الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " قضى على (عليه السلام) في رجلين أمسك

1 - الوسائل 15 / 545، الباب 11 من أبواب الإيلاء، الحديث 4.
2 - الوسائل 15 / 546، الباب 11 من أبواب الإيلاء، الحديث 7.
3 - الوسائل 15 / 546، الباب 11 من أبواب الإيلاء، الحديث 6.
4 - الخلاف 3 / 6.
5 - سنن البيهقي 7 / 376 وما بعدها، كتاب الإيلاء.
523

أحدهما وقتل الآخر، قال: يقتل القاتل ويحبس الآخر حتى يموت غما كما حبسه
حتى مات غما... " (1)
2 - موثقة سماعة، قال: " قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في رجل شد على رجل ليقتله و
الرجل فار منه فاستقبله رجل آخر فأمسكه عليه حتى جاء الرجل فقتله، فقتل الرجل
الذي قتله، وقضى على الآخر الذي أمسكه عليه أن يطرح في السجن أبدا حتى يموت
فيه لأنه أمسكه على الموت. " (2)
3 - معتبرة السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " إن ثلاثة نفر رفعوا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام):
واحد منهم أمسك رجلا، وأقبل الآخر فقتله، والآخر يراهم، فقضى في (صاحب -
الفقهي) الرؤية أن تسمل عيناه، وفي الذي أمسك أن يسجن حتى يموت كما أمسكه، و
قضى في الذي قتل أن يقتل. " (3)
أقول: هل المراد بالرؤية مجرد الرؤية والنظر، أو كون الشخص عينا وربيئة للقاتل
بحيث أعانه في عمله؟ وجهان. والمتيقن هو الثاني، فيجب الأخذ به، إذ الحدود تدرأ
بالشبهات. ويشهد لذلك أيضا قوله في خبر الدعائم الآتي: " وآخر ينظر لهما "، كما
لا يخفى.
4 - خبر عمرو بن أبي المقدام، الحاكي لقصة رجل شكا إلى المنصور عن رجلين
أخرجا أخاه من منزله ليلا، فأمسكه أحدهما وقتله الآخر، فطلب المنصور من جعفر بن
محمد (عليه السلام) أن يقضي بينهم، فأمر (عليه السلام) أخا المقتول أن يضرب عنق القاتل، ثم أمر بالآخر
فضرب جنبيه وحبسه في السجن ووقع على رأسه: يحبس عمره ويضرب في كل سنة
خمسين جلدة. " (4)
أقول: لعل إضافة الضرب في هذا الحديث كانت في قبال إخراجهما الرجل

1 - الوسائل 19 / 35، الباب 17 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 1.
2 - الوسائل 19 / 35، الباب 17 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 2.
3 - الوسائل 19 / 35، الباب 17 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 3.
4 - الوسائل 19 / 36، الباب 18 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 1.
524

ليلا من منزله، أو لأن الحاكم يعزره بما يراه صلاحا.
5 - وقد مر في بحث المرتدة صحيحة حريز، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " لا يخلد في
السجن إلا ثلاثة: الذي يمسك على الموت، والمرأة ترد عن الإسلام، والسارق بعد قطع
اليد والرجل. " (1)
6 - وفي المستدرك، عن الجعفريات بسنده، عن على (عليه السلام): " أنه اتي برجلين أمسك
أحدهما وجاء الآخر فقتل، فقال: أما الذي قتل فيقتل، وأما الذي أمسك فإنه يحبس في
السجن حتى يموت. " (2)
7 - وفيه أيضا، عن دعائم الإسلام، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " أنه قضى في رجل قتل
رجلا، وآخر يمسكه للقتل، وآخر ينظر لهما لئلا يأتيهم أحد، فقضى بأن يقتل القاتل، و
أن يمسك الممسك في الحبس حتى يموت بعد أن يجلد ويخلد في السجن ويضرب في
كل عام خمسين سوطا نكالا، ويسمل عينا الذي كان ينظر لهما. " (3)
8 - وفيه أيضا، عن كتاب درست بن أبي منصور، عن بعض أصحابنا، عن أبي
عبد الله (عليه السلام) وعن أبي جعفر (عليه السلام) في رجل عدا على رجل وجعل ينادي: احبسوه احبسوه،
قال: فحبسه رجل، وأدركه فقتله، قال: فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): يحبس الممسك حتى
يموت، كما حبس المقتول على الموت. " (4)
9 - وفيه أيضا، عن البحار، عن كتاب مقصد الراغب: " قضى على (عليه السلام) في رجل أمسك
رجلا حتى جاء آخر فقتله، ورجل ينظر، فقضى بقتل القاتل، وقلع عين الذي نظر و
لم يعنه، وخلد الذي أمسك في الحبس حتى مات. " (5) هذا.

1 - الوسائل 18 / 550، الباب 4 من أبواب حد المرتد، الحديث 3.
2 - مستدرك الوسائل 3 / 254، الباب 15 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 1.
3 - مستدرك الوسائل 3 / 254، الباب 15 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 3.
4 - مستدرك الوسائل 3 / 254، الباب 15 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 4.
5 - مستدرك الوسائل 3 / 254، الباب 15 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 5.
525

10 - وفي سنن البيهقي بسنده، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إذا أمسك
الرجل الرجل وقتله الآخر يقتل الذي قتل، ويحبس الذي أمسك. " (1)
11 - وفيه أيضا عن إسماعيل بن أمية، قال: " قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في رجل أمسك
رجلا وقتل الآخر؟ قال: يقتل القاتل، ويحبس الممسك. " وعن جابر، عن عامر، عن
على (عليه السلام): " أنه قضى بذلك. " (2)
وقد أفتى أصحابنا الإمامية بمضمون هذه الأخبار:
قال في الشرائع:
" ولو أمسك واحد وقتل الآخر فالقود على القاتل دون الممسك، لكن الممسك
يحبس أبدا. ولو نظر لهما ثالث لم يضمن لكن تسمل عيناه، أي تفقأ. " (3)
وفي الجواهر ذيل المسألة الأولى بقوله:
" بلا خلاف أجده في شيء من ذلك، بل عن الخلاف والغنية وغيرهما الإجماع عليه،
للمعتبرة المستفيضة. "
وذيل المسألة الثانية بقوله:
" للإجماع في محكى الخلاف، ولخبر السكوني. " (4)
وأما فقهاء السنة ففيهم خلاف:
قال الشيخ في الخلاف (المسألة 36 من كتاب الجنايات):
" روى أصحابنا أن من أمسك إنسانا حتى جاء آخر فقتله: أن على القاتل القود، و
على الممسك أن يحبس أبدا حتى يموت، وبه قال ربيعة.
وقال الشافعي: إن كان أمسكه متلاعبا مازحا فلا شيء عليه، وإن كان أمسكه عليه
للقتل أو ليضربه ولم يعلم أنه يقتله فقد عصى وأثم وعليه التعزير. وروى

1 - سنن البيهقي 8 / 50، كتاب الجنايات، باب الرجل يحبس الرجل للآخر فيقتله.
2 - سنن البيهقي 8 / 50 - 51، كتاب الجنايات، باب الرجل يحبس الرجل للآخر فيقتله.
3 - الشرائع 4 / 199.
4 - الجواهر 42 / 46 (= طبعة أخرى بتصحيح آخر ص 42 - 43).
526

ذلك عن على (عليه السلام). وإليه ذهب أهل العراق: أبو حنيفة وأصحابه.
وقال مالك: إن كان متلاعبا لا شئ عليه، وإن كان للقتل فعليهما القود معا كما لو
اشتركا في قتله.
دليلنا إجماع الطائفة وأخبارهم، لأنهم ما رووا خلافا لما بيناه، وروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
أنه قال: " يقتل القاتل ويصبر الصابر. " قال أبو عبيد: معناه: يحبس الحابس; فإن
المصبور: المحبوس. "
(المسألة 37):
" إذا كان معهم ردء ينظر لهم فإنه يسمل عينه ولا يجب عليه القتل. وقال أبو حنيفة:
يجب على الردء القتل دون الممسك. وقال مالك: يجب على الممسك دون الردء على ما
حكيناه. وقال الشافعي: لا يجب القود إلا على المباشر دون الممسك والردء. دليلنا ما
قدمناه في المسألة الأولى سواء. " (1)
وفي المغنى لابن قدامة الحنبلي - بعد قول الخرقي:
" وإذا أمسك رجلا وقتله آخر قتل القاتل وحبس الماسك حتى يموت " - قال ما
ملخصه: " لا خلاف أن القاتل يقتل. وأما الممسك فإن لم يعلم أن القاتل يقتله فلا شيء
عليه، وإن أمسكه له ليقتله فاختلفت الرواية فيه عن أحمد; فروي عنه أنه يحبس حتى
يموت، وهذا قول عطاء وربيعة وروى ذلك عن على (عليه السلام). وروى عن أحمد أنه يقتل
أيضا، وهو قول مالك. وقال أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور وابن المنذر يعاقب ويأثم و
لا يقتل.
ولنا ما روى الدارقطني بإسناده عن ابن عمر أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " إذا أمسك الرجل و
قتله الآخر يقتل الذي قتل، ويحبس الذي أمسك. " ولأنه حبسه إلى الموت فيحبس
الآخر إلى الموت، كما لو حبسه عن الطعام والشراب حتى مات فإننا نفعل به ذلك حتى
يموت. " (2) هذا.

1 - الخلاف 3 / 100.
2 - المغني 9 / 477
527

ثم إن هيهنا مشكلة يجب التنبه لها والتتبع والدقة لحلها، وهي أن حبس الممسك، و
سمل عين الرائي، وكذا حبس الآمر بالقتل على ما يأتي هل تكون هذه الثلاثة من قبيل
حق الناس كحق القصاص فيشترط في تنفيذها مطالبة الأولياء ويجوز لهم العفو عنهم، أو
من قبيل حقوق الله الموضوعة للتقويم؟ وعلى الثاني فهل تكون من قبيل التعزيرات
الشرعية التي يجوز للإمام عفوها مطلقا كما مر، أو من قبيل الحدود، حيث فصلنا فيها بين
ما ثبتت بالإقرار فيصح العفو وبين ما ثبتت بالبينة فلا يصح؟ في المسألة وجوه. هذا.
ويمكن أن يناقش الوجه الأول باستبعاد أن يجعل في قبال نفس واحدة أكثر من
نفس بعنوان الاستحقاق، والوجه الثالث بأن اللازم منه زيادة الفرع على الأصل، فإن
الثلاثة بمنزلة الفروع لنفس القاتل، والأصل قابل للعفو فكيف لا يصح العفو عمن هو أقل
منه جرما.
وبالجملة، فالمسألة محتاجة إلى الدقة والتأمل. ولم أر من تعرض لها. ولعل
الاحتياط يقتضى عدم تنفيذها إلا مع مطالبة أولياء الدم نظير نفس القصاص، فإن الحدود
تدرأ بالشبهات، فتأمل.
الخامس من موارد التخليد في السجن - من أمر رجلا حرا بقتل رجل:
1 - فعن الكليني بسند صحيح، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام): " في رجل أمر رجلا بقتل
رجل (فقتله)، فقال: يقتل به الذي قتله، ويحبس الآمر بقتله في الحبس حتى يموت. "
وعن الشيخ أيضا مثله. وعن الصدوق أيضا نحوه إلا أنه قال: " أمر رجلا حرا. " (1) و
الرواية مفتى بها عند أصحابنا، كما سيظهر.

1 - الوسائل 19 / 32، الباب 13 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 1.
528

السادس - العبد القاتل بأمر سيده:
1 - فعن الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي
عبد الله (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): في رجل أمر عبده أن يقتل رجلا فقتله، فقال
أمير المؤمنين (عليه السلام): وهل عبد الرجل إلا كسوطه أو كسيفه؟ يقتل السيد، ويستودع العبد
السجن. "
وعن الصدوق بإسناده، عن السكوني مثله. وعنه أيضا بإسناده إلى قضايا على (عليه السلام) إلا
أنه قال: " ويستودع العبد في السجن حتى يموت. " وعن الشيخ أيضا بإسناده، عن على
بن إبراهيم. (1)
2 - وفي سنن البيهقي بسنده، عن خلاس، عن علي (عليه السلام)، قال: " إذا أمر الرجل عبده أن
يقتل رجلا فإنما هو كسيفه أو كسوطه; يقتل المولى ويحبس العبد في السجن. " (2)
أقول: قال الشيخ في نهايته:
" وإذا أمر إنسان حرا بقتل رجل فقتله المأمور وجب القود على القاتل دون الآمر، و
كان على الإمام حبسه ما دام حيا. فإن أمر عبده بقتل غيره فقتله كان الحكم أيضا مثل
ذلك سواء. وقد روي أنه يقتل السيد ويستودع العبد السجن. والمعتمد ما قلناه. " (3)
وقال في الخلاف (المسألة 30 من كتاب الجنايات):
" اختلف روايات أصحابنا في أن السيد إذا أمر غلامه بقتل غيره فقتله على من يجب
القود؟ فرووا في بعضها أن على السيد القود، وفي بعضها أن على العبد القود ولم يفصلوا.

1 - الوسائل 19 / 33، الباب 14 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 2.
2 - سنن البيهقي 8 / 50، كتاب الجنايات، باب ما جاء في أمر السيد عبده.
3 - النهاية / 747.
529

والوجه في ذلك أنه إن كان العبد مميزا عاقلا يعلم أن ما أمره به معصية فإن القود على
العبد، وإن كان صغيرا أو كبيرا لا يميز ويعتقد أن جميع ما يأمره سيده به واجب عليه فعله
كان القود على السيد.
والأقوى في نفسي أن نقول: إن كان العبد عالما بأنه لا يستحق القتل أو متمكنا من
العلم به فعليه القود، وإن كان صغيرا أو مجنونا فإنه يسقط القود ويجب فيه الدية... " (1)
وفي المغني لابن قدامة الحنبلي:
" ومتى كان العبد يعلم تحريم القتل فالقصاص عليه، ويؤدب سيده - لأمره بما أفضى
إلى القتل - بما يراه الإمام من الحبس والتعزير، وإن كان غير عالم بحظره فالقصاص
على سيده ويؤدب العبد. قال أحمد: يضرب ويؤدب. ونقل عنه أبو طالب، قال: يقتل
الولي ويحبس العبد حتى يموت، لأن العبد سوط المولى وسيفه. كذا قال على و
أبو هريرة، وقال على (عليه السلام): يستودع السجن. وممن قال بهذه الجملة الشافعي. وممن قال
إن السيد يقتل: على وأبو هريرة. وقال قتادة: يقتلان جميعا. " (2)
أقول: صحيحة زرارة بنقل الصدوق مختصة بكون المأمور حرا، وبنقل الكليني و
الشيخ وإن كانت مطلقة من هذه الجهة ولكن معتبرة السكوني خاصة بل حاكمة عليها
بوجه، فيتعين الأخذ بها. ويؤيدها ما رويناه عن البيهقي، بل وموثقة إسحاق بن عمار،
عن أبي عبد الله (عليه السلام) في رجل أمر عبده أن يقتل رجلا فقتله، قال: فقال: يقتل السيد به. (3)
ويؤيد ذلك الاعتبار العقلائي أيضا، فإن الغالب في العبيد كونهم مسخرين تحت إرادة
الموالي ولا يلتفتون إلى أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. نعم، لو كان

1 - الخلاف 3 / 98.
2 - المغني 9 / 479.
3 - الوسائل 19 / 33، الباب 14 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 1.
530

العبد بصيرا ملتفتا إلى هذا الأمر ومع ذلك أطاع المولى صح القول بكون المباشر
حينئذ أقوى في استناد العمل إليه والمعتبرة محمولة على الغالب كما هو ظاهرها، فتدبر.
السابع - من خلص القاتل من أيدي الأولياء:
فروى المشايخ الثلاثة بسند صحيح، عن حريز، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " سألته عن
رجل قتل رجلا عمدا، فرفع إلى الوالي، فدفعه الوالي إلى أولياء المقتول ليقتلوه، فوثب
عليه قوم فخلصوا القاتل من أيدي الأولياء؟ قال: أرى أن يحبس الذين خلصوا القاتل
من أيدي الأولياء (أبدا - الفقيه) حتى يأتوا بالقاتل. قيل: فإن مات القاتل وهم في
السجن؟ قال: إن مات فعليهم الدية، يؤدونها جميعا إلى أولياء المقتول. " (1)
أقول: قال الشيخ في الكفالات من النهاية:
" ومن خلى قاتلا من يد ولى المقتول بالجبر والإكراه كان ضامنا لدية المقتول إلا أن
يرد القاتل إلى الولي ويمكنه منه. " (2)
وليس في كلامه ذكر الحبس وإجباره بإحضار القاتل، بل الظاهر منه أن أداءه للدية
يوجب براءته وخلاصه. والالتزام به مشكل، ولا نرى وجها لترك العمل بظاهر الخبر،
فراجع مظان البحث عن المسألة.
ووزان الباب وزان الكفالة; وقد قالوا فيها كما مر أن الكفيل يحبس حتى يحضر
المكفول أو يؤدي ما عليه. وظاهرهم التخيير بينهما، وقد ناقشنا في ذلك - كما مر - تبعا
للعلامة في التذكرة وغيرها، فراجع ما مر منا في حبس الكفيل. (3)

1 - الوسائل 19 / 34، الباب 16 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 1; و 13 / 160، الباب 15
من كتاب الضمان، الحديث 1.
2 - النهاية / 316.
3 - راجع ص 492 من الكتاب.
531

وكان الأنسب ذكر هذه المسألة عقيب مسألة حبس الكفيل، ولكن ذكرناها هنا لما في
رواية الفقيه من قوله: " أبدا ".
الثامن - المحارب المحكوم بالنفي على ما في بعض الأخبار والفتاوى:
1 - فعن العياشي، عن أبي جعفر محمد بن على الرضا (عليه السلام) في حديث: " فإن كانوا
أخافوا السبيل فقط ولم يقتلوا أحدا ولم يأخذوا مالا أمر بإيداعهم الحبس، فإن ذلك
معنى نفيهم من الأرض بإخافتهم السبيل. " (1)
2 - وفي مسند زيد: عن أبيه، عن جده، عن على (عليه السلام)، قال: " إذا قطع الطريق اللصوص
وأشهروا السلاح ولم يأخذوا مالا ولم يقتلوا مسلما ثم أخذوا حبسوا حتى يموتوا، و
ذلك نفيهم من الأرض. " (2)
وقد مرت الفتاوى في هذا المجال في أوائل البحث، فراجع (3).
3 - وفي خبر عبيد الله المدائني، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " وإن حارب الله وسعى في
الأرض فسادا ولم يقتل ولم يأخذ من المال نفي في الأرض. قال: قلت: وما حد نفيه؟
قال: سنة ينفى من الأرض التي فعل فيها إلى غيرها، ثم يكتب إلى ذلك المصر بأنه منفي،
فلا تؤاكلوه ولا تشاربوه ولا تناكحوه، حتى يخرج إلى غيره فيكتب إليهم أيضا بمثل ذلك.
فلا يزال هذه حاله سنة، فإذا فعل به ذلك تاب وهو صاغر. " (4)
ومقتضى ذلك كون مدة السجن أيضا سنة لأنه بدل النفي، ولكن في الجواهر قال:
" لكن المصنف وغيره بل الأكثر على عدم التقييد بالسنة، بل لم يحك إلا عن ابن
سعيد. " (5)

1 - الوسائل 18 / 536، الباب 1 من أبواب حد المحارب، الحديث 8.
2 - مسند زيد / 323، كتاب السير، باب قطاع الطريق.
3 - راجع ص 425 من الكتاب.
4 - التهذيب 10 / 131، باب الحد في السرقة، و...، الحديث 140.
5 - الجواهر 41 / 593.
532

التاسع من موارد التخليد - الذي يمثل:
فروى الكليني بسنده، عن حماد، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " لا يخلد في السجن إلا
ثلاثة: الذي يمثل، والمرأة ترتد عن الإسلام، والسارق بعد قطع اليد والرجل. " (1)
أقول: قال المجلسي في مرآة العقول:
" قوله: " الذي يمثل "، التمثيل عمل الصور والتمثال، أو التنكيل والتشويه بقطع الأنف
والأذن والأطراف. والحبس فيهما مخالف للمشهور، وفي التهذيب: يمسك على
الموت، وهو الموافق لسائر الأخبار وأقوال الأصحاب كما سيأتي. ولعله كان " يمسك "
فصحف. " (2)
وأقول: خبر التهذيب مر في المرأة المرتدة عن حريز، ورواه في الوسائل. (3)
ولو صح خبر الكليني فلا محالة يراد بقوله: " الذي يمثل " الذي يصر على العمل و
يدوم عليه، والاستمرار أحد معاني الفعل المستقبل.
ولا يبعد جواز حكم الإمام بالسجن على من يصر على عمل حرام مستهجن بحيث
لا يردعه عنه رادع إلا ذاك، فتدبر.
العاشر - المنجم المصر على التنجيم:
ففي نهج السعادة: " نادى على (عليه السلام) بالرحيل (إلى النهروان)، فأتاه مسافر بن عفيف
الأزدي فقال: يا أمير المؤمنين، لا تسر في هذه الساعة... وقال: (عليه السلام): لئن بلغني أنك تنظر
في النجوم لأخلدنك في الحبس ما دام لي سلطان. فوالله ما كان محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) منجما

1 - الوسائل 18 / 493، الباب 5 من أبواب حد السرقة، الحديث 5.
2 - مرآة العقول 4 / 187، في آخر كتاب الحدود من ط. القديم.
3 - راجع الوسائل 18 / 550، الباب 4 من أبواب حد المرتد، الحديث 3.
533

ولا كاهنا. " (1)
أقول: وهذا أيضا يؤيد ما أشرنا إليه من جواز حكم الإمام بحبس من يصر على أمر
حرام وبقائه فيه ما لم يرتدع.
الحادي عشر - من وقع على أخته ولم يمت بالضربة:
1 - ففي خبر عامر بن السمط، عن علي بن الحسين (عليه السلام) في الرجل يقع على أخته؟
قال: " يضرب ضربة بالسيف; بلغت منه ما بلغت، فإن عاش خلد في السجن حتى
يموت. " (2)
2 - مرسلة محمد بن عبد الله بن مهران، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " سألته
عن رجل وقع على أخته؟ قال: يضرب ضربة بالسيف. قلت: فإنه يخلص؟ قال: يحبس
أبدا حتى يموت. " (3) *

1 - نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة 2 / 371 - 372، الخطبة 263.
2 - الوسائل 18 / 387، الباب 19 من أبواب حد الزنا، الحديث 10.
3 - الوسائل 18 / 386، الباب 19 من أبواب حد الزنا، الحديث 4.
* أقول: قد انتهى إلى هنا ما أردنا تحقيقه في أحكام السجون، وقد نقل في كتاب " أحكام السجون "
للوائلي (ص 165 - 179) مجموعة القواعد لمعاملة المسجونين، التي أقرتها هيئة الأمم المتحدة في
المؤتمر الذي عقدته في مدينة جنيف بسويسرا في سنة 1955 م. وقد ترجمت بلغات مختلفة. و
نحن نذكر هنا في الذيل بعض هذه القواعد تتميما للفائدة، حيث إنها مقررات نافعة بحال المسجونين
والنظم الحاكمة، يحكم بحسنها بل بلزوم أكثرها العقل والعقلاء، فينبغي رعايتها مهما أمكن:
القاعدة 6: نصت بوجوب مسك سجل للمسجونين يتضمن: هوياتهم، ومصدر حبسهم، وأسباب
الحبس، وتاريخ الدخول للسجن والإخلاء، وعدم قبول أي شخص بدون هذا السجل.
القاعدتان 7 و 8: نصتا على وجوب فصل طوائف السجناء حسب سنهم وجنسهم وسوابقهم وسبب
حبسهم، وما تقتضيه معاملتهم.
القاعدة 10: نصت على ضرورة توفير الشروط الصحية من حيث السعة والهواء والإضاءة والتدفئة
والتهوية بالسجن.
القاعدة 12: أوجبت توفير الأدوات الصحية لقضاء حاجة السجناء، مع لياقتها ونظافتها.
القاعدة 13: أوجبت تهيئة حمامات كافية يراعى فيها الفصول السنوية، ووجوب استحمام السجين
كل
أسبوع على الأقل.
القاعدة 14: أوجبت صيانة الأماكن التي يرتادها المسجونون ونظافتها.
القاعدة 17 و 18: أوجبتا تزويد المساجين بالملابس الكافية مع نظافتها، ورخصت لهم ارتداء ملابسهم
الخاصة بالمناسبات.
القاعدة 19: أوجبت لكل سجين سريرا خاصا وفراشا كافيا ونظيفا، وحسب العرف المحلي مع تبديله إذا
اتسخ.
القاعدة 20: أوجبت على إدارة السجن تزويد السجن بوجبات غذائية كافية مع ماء صالح للشرب دائما.
القاعدة 21: أوجبت للسجن الذي لا يعمل ساعة رياضة بالهواء، ولصغار السن تدريبا رياضيا خلال مدة
مخصصة لذلك.
القاعدة 22: أوجبت وجود طبيب نفسي واحد على الأقل في كل مؤسسة عقابية مع تنظيم الخدمات الطبية،
وتخصيص قسم للطب النفسي ونقل المرضي إلى مؤسسات مدنية إذا دعت الحاجة، وإذا كان بالمؤسسة
مستشفى فيجب تزويده بكل حاجاته من حيث الإداريين والفنيين والأدوات وتوفير خدمات طبية
للأسنان.
القاعدة 23: أوجبت في سجون النساء أماكن خاصة لرعايتهن وعلاجهن قبل وأثناء وبعد الوضع، ولا يذكر
بشهادة الميلاد ولادة الوليد بالسجن، وفي حالة السماح للأمهات بالارتباط بأطفالهن تهيئة أماكن خاصة
للحضانة.
القاعدة 25 و 26: أوجبتا على الطبيب إجراء الكشف يوميا على كل سجين، أو لمن يطلب أو يسترعي
الانتباه، ويقدم لمدير السجن تقريرا عما تستدعيه بعض الحالات، وأن يديم الطبيب التفتيش ويقدم
تفتيشاته لمدير السجن في نوع الغذاء وكميته، والحالة الصحية، ونظافة المؤسسة والمنشآت الصحية، و
التدفئة والتهوية ونظافة الملابس والفراش ومراعاة قواعد التربية البدنية، وعلى مدير السجن العناية
بالتقارير وتنفيذها فيما إذا أقرت، ورفع الأمر للسلطات العليا إذا لم يكن ذلك من صلاحيته.
القاعدة 27: تعرضت لحفظ النظام وللجزاءات وأوجبت حفظ النظام بحزم وبالقدر الضروري من القيود.
القاعدة 28: منعت أن يمنح أي سجين سلطة تأديبية على زملائه على أن لا تحول هذه القاعدة دون قيام
مجموعات من السجناء بأعمال ذات طابع ثقافي أو اجتماعي بقصد إصلاحهم، وتكون هذه الأعمال تحت
رقابة المؤسسة.
القاعدة 30: منعت معاقبة السجين إلا وفق القانون المشار إليه، ومنعت العقاب مرتين عن نفس المخالفة، و
أوجبت سبق إخطاره بالتهمة ليدافع عن نفسه، والسماح له بتقديم دفاعه ولو بمترجم إذا لزم ذلك، وأن
تدرس أمثال هذه الحالات بدقة.
القاعدة 31: منعت العقوبات اللا إنسانية والقاسية كجزاءات تأديبية مثل الوضع في زنزانة مظلمة.
القاعدة 33: منعت استعمال وسائل الإكراه كالسلاسل وقمصان الأكتاف لكن لا مطلقا، بل كجزاء تأديبي. و
منعت مطلقا - كوسيلة إكراهية - استعمال السلاسل والحديد. أما وسائل الإكراه الأخرى فتسخدم فيما يلي...
القاعدة 34: حددت نماذج أدوات الإكراه وكيفية استعمالها، ونصت على أنها للضرورة فقط.
القاعدة 35: أوجبت تزويد كل سجين بالمعلومات والنظم المقررة معاملة المسجونين من صنفه وذلك كتبيا،
إلا للأمي فتكون شفوية.
القاعدة 36: أوجبت تهيئة الفرصة لكل مسجون لتقديم التماساته وشكاواه في كل يوم لمدير المؤسسة أو
للمفتش أثناء قيامه بالتفتيش، وله الحديث مع المفتش منفردا، وأن لا تراقب شكاواه التي يرفعها، ويجب
فحصها من قبل من قدمت له للرد عليها بسرعة.
القاعدة 37: أوجبت إخبار المسجونين بجواز الاتصال بأسرهم وأصدقائهم الطيبين; إما مراسلة أو بزيارة تعين
بأوقات مع مراقبتهم حال الزيارة.
القاعدة 38: أوجبت السماح للمسجونين الأجانب بالاتصال بممثليهم أو الهيئات المكلفة برعاية مصالحهم.
القاعدة 39: أوجبت اطلاع المسجونين على الأنباء المهمة بوسائل الاطلاع كالصحف والإذاعة والنشرات.
القاعدة 40: أوجبت إيجاد مكتبة لجميع المساجين بكل مؤسسة تزود بما يكفي من الكتب، وحث المسجونين
على المطالعة.
القاعدة 41: أوجبت انتداب ممثل ديني إذا كان بالسجن عدد كاف من دين واحد للقيام بخدمات دينية لهم و
يسمح للممثل بالقيام بخدماته على انفراد وبالأوقات المناسبة، ويحق لكل سجين الاتصال بمثل لأي دين إذا
أراد، وللسجين رفض أي ممثل لا يريده.
القاعدة 42: أوجبت السماح لكل مسجون بممارسة طقوسه الدينية وحيازته للكتب الخاصة بذلك.
القاعدة 43: أوجبت حفظ مملوكات السجين من نقود وملابس وأشياء ثمينة وإثباتها بقائمة يوقع عليها، و
إرجاعها له عند الخروج واستلام وصل منه، أما ما يرسل له من الخارج فيخضع لنظام المؤسسة، أما إذا كان عنده
مواد مخدرة وأدوية فيتصرف بها حسب رأي الطبيب.
القاعدة 44: أوجبت إخطار ذوي السجين بمرضه أو موته أو نقله إلى مؤسسة أخرى، وإخطار السجين نفسه
بموت أحد أقاربه أو مرضه، ويؤذن للسجين بزيارته إن سمحت الحالة، كما تخطر أسرة السجين بحبسه ابتداء.
القاعدة 45: أوجبت للسجين الواسطة المريحة عند نقله، وعدم تعريضه للإهانة من الجمهور، وتحمل مصاريف
نقله من الإدارة ومساواة السجناء بذلك.
القاعدة 46: أوجبت اختيار السجانين من ذوي الكفاءة والإنسانية على مختلف درجاتهم، كما أوجبت توعية
السجانين وتوعية الرأي العام بمهمة السجون وتستخدم الوسائل المناسبة لذلك، ويجب أن يكون موظفو
534



السجون متفرغين، وأن يتمتعوا بحقوق موظفي الدولة المدنيين وتكون رواتبهم كافية نظرا لعملهم الشاق.
القاعدة 47: أوجبت كون موظفي السجن بمستوى ثقافي وذهني لائق، على أن يجتازوا تدريبا عاما وتخصصا
قبل توظيفهم، وأن يحافظوا على هذا المستوى ويعملوا لرفعه أثناء الخدمة.
القاعدة 48: أوجبت على موظفي السجون أن يكونوا قدوة حسنة لمسجونين في سلوكهم.
القاعدة 49: أوجبت ضم أخصائيين بعلم النفس والاجتماع والصناعة والأمراض العقلية إلى موظفي السجون،
وأن تكون خدمات هؤلاء مستديمة ويستبعد منهم من يعمل بصورة موقتة.
القاعدة 50 و 51: أوجبتا أن يكون مدير المؤسسة ذا أهلية كافية خلقيا وإداريا وتدريبا، وأن يكون عمله دائميا
بالمؤسسة ويقيم بالقرب منها، وإذا عين بمؤسستين أو أكثر يجب أن يزور كلا منها بفترات متعددة، ويعين من
قبله موظفا دائما يكون مسؤول عنها، وأن تكون لغته لغة غالبية المسجونين.
القاعدة 52: أوجبت في المؤسسات التي تحتاج إلى أكثر من طبيب إقامة طبيب واحد بصورة دائمية بالمؤسسة
أو بقربها، أما المؤسسات الأخرى فيقوم الطبيب بزيارتها يوميا وعليه الحضور في الحالات العاجلة فورا.
القاعدة 53: أوجبت في المؤسسات التي تقبل الجنسين وضع قسم النساء بإدارة موظفة مسؤولة شخصيا عن
مفاتيحه، ولا يجوز لذكور الموظفين دخول هذا القسم بدون إحدى الموظفات. وهذا الإجراء لا يمنع الموظفين
الذكور كالأطباء والمدرسين من أداء واجباتهم بالمؤسسة.
القاعدة 54: منعت موظفي المؤسسات من استعمال القوة إلا في حالة الدفاع عن النفس أو محاولة هرب
السجين، أو مقاومته بدنيا، إيجابيا أو سلبيا. وإذا اضطروا لاستعمال القوة فبالقدر الضروري مع تبليغ الحادث
لمدير المؤسسة فورا، كما أوجبت تدريب موظفي السجن تدريبا بدنيا خاصا لمقاومة المسجونين المعتدين، و
لا يجوز للموظف حمل السلاح إلا بظروف خاصة وبشرط كونهم مدربين على استعماله.
القاعدة 55: خاصة بالتفتيش. وقد أوجبت تفتيش المؤسسات العقابية بصورة منظمة ومن قبل مفتشين
مختصين، على أن يديروا المؤسسات وفقا للقوانين ويحققوا أهداف الخدمات العقابية.
القاعدة 57: اعتبرت عقوبة الحبس مؤلمة وأوصت بأن لا يزيد نظام السجن من العناء للمحبوس زيادة على ألم
الحبس ما لم يكن لهذه الزيادة ما يبررها.
القاعدة 58: أوصت بتأهيل السجين للعودة للمجتمع من جديد سليما، لأن غاية السجن حماية المجتمع.
القاعدة 59: أوصت بتحقيق غاية السجن بمختلف الوسائل العلاجية والتربوية والأخلاقية وفق العلاج الفردي
لكل سجين وبطريقة فردية.
القاعدة 61: أوجبت معاملة السجين باعتباره جزء من المجتمع وليس بمنبوذ منه، ويجب تجنيد المجتمع
لتأهيل السجين اجتماعيا وأن يعهد لباحثين اجتماعيين بمهمة المحافظة على صلات السجين بأسرته أو
بالهيئات التي تعمل على إفادته، واتخاذ الخطوات لحماية حقوق السجين المدنية وحقوقه في الضمان
الاجتماعي في حدود القانون.
القاعدة 64: قررت أن واجب المجتمع لا ينتهي بالإفراج عن المسجون; فأوجبت وجود هيئات حكومية لتأهيل
المسجون اجتماعيا وأوصت بعدم التحامل عليه.
القاعدة 65: أوجبت معاملة السجناء بما يخلق الرغبة في نفوسهم لأن يعيشوا في ظل القانون ويعولوا أنفسهم، و
أن ينمي فيهم الشعور بالمسؤولية واحترام النفس.
القاعدة 71: أوجبت على كل سجين العمل وفق استعداده الجسمي والعقلي حسب تقرير الطبيب، وأن لا يكون
طابع العمل بالسجون التعذيب والإيلام وتوفير العمل الكافي الذي يستوعب نشاط المسجونين على أن يكون
العمل مما يساعدهم بعد الإفراج عنهم لكسب أرزاقهم بطرق شريفة وتوفير التدريب المهني للقادرين خصوصا
صغار السن على أن يختاروا هم نوع العمل.
القاعدة 72: أوجبت كون نظام العمل في المؤسسات على غرار مثله في الخارج حتى يعد المسجون إعدادا
مرضيا للحياة الطبيعية، وتقدم مصلحة المسجونين على ربح المؤسسة من صناعة ما.
القاعدة 75: أوجبت تحديد ساعات العمل يوميا وأسبوعيا بنفس قانون العرف المحلى للعمال غير المسجونين،
وتخصيص يوم للراحة أسبوعيا ووقت كاف لأوجه النشاط الأخرى التي يزاولها السجناء.
القاعدة 76: أوجبت أن يثاب السجين بمكافأة عادلة وفق النظام ويسمح له بإنفاق جزء من مكسبه على حاجاته
غير الممنوعة، وإرسال جزء لعائلته، وتحتفظ المؤسسة بجزء من مكاسبه له يتسلمه عند الخروج.
القاعدة 77: أوجبت توفير وتنمية وسائل التعليم للقادرين خصوصا التعليم الديني، وأوجبت تعليم الأميين
إجباريا وكذلك صغار السن وبشرط تنسيق التعليم مع نظام التعليم العام للدولة ليتابع السجين تعليمه عند
الإفراج عنه.
القاعدة 80: أوجبت التفكير بمستقبل السجين والعناية بذلك منذ بدء سجنه، وأوصت بتشجيع صلاته بالهيئات
المفيدة له ولأسرته وبتأهيله اجتماعيا.
القاعدة 82: أوجبت منع حبس المجنون وأوصت بنقله لمؤسسات الأمراض العقلية ووضع هؤلاء تحت رقابة
خاصة من الطبيب، وأوصت بتوفير العلاج العقلي للمسجونين حسب الحاجة.
القاعدة 84: أوجبت في الشخص الموقوف تحت حفظ البوليس أو غيره أن يسمى بالمتهم قبل المحاكمة وأن
يفترض فيه البراءة ويعامل على أساسها، ويجب مراعاة حماية الحرية الفردية، ويتمتع هؤلاء بنظام خاص
مواده كما يلي:
القاعدة 85: أوجبت الفصل بين الموقوف والمحكوم عليه، وبين الصغار والبالغين وأن يحبسوا بمؤسسات
مستقلة.
القاعدة 86: أوجبت أن ينام الموقوف بحجرة مستقلة مع مراعاة العرف المحلى بالطقس.
القاعدة 87: جوزت للموقوفين الحصول على طعامهم من الخارج إما على نفقتهم أو نفقة أسرهم وإلا فمن إدارة
السجن وفق النظام.
القاعدة 88: سمحت للموقوف بارتداء ملابسه الخاصة بشرط كونها نظيفة وإلا بكساء يختلف عن لباس
المسجونين.
القاعدة 89: أعطت الموقوف حق العمل وأخذ أجور عليه ولكن بدون أن يجير على ذلك.
القاعدة 90: أوجبت السماح للموقوف بالحصول على الكتب والصحف وأدوات الكتابة على نفقته أو نفقة الغير،
وذلك مع مراعاة أمن المؤسسة ونظامها.
القاعدة 91: أوجبت السماح للموقوف بأن يعالجه طبيبه الخاص حال تمكنه من دفع النفقات وقيام طلبه على
أساس معقول.
القاعدة 92: سمحت للمتهم بإخبار أسرته بتوقيفه، وأوصت له بتسهيل الاتصال بهم، والسماح بزيارتهم له مع
رعاية أمن المؤسسة وحسن النظام فيها وأن يكون ذلك وفق العدالة.
القاعدة 93: سمحت له بتعيين محام للدفاع عنه حسب نصوص القانون، وللمحامي أن يزوره لتحضير دفاعه، و
أجازت له مقابلة المحامي على انفراد وبإشراف موظفي المؤسسة ولكن دون أن يسمعوا كلامهما.
534

الفصل الثامن
في التجسس والاستخبارات العامة
وفيه أيضا جهات من البحث:
الجهة الأولى:
في وجوب حفظ أعراض المسلمين وأسرارهم:
ونقدم هذه الجهة من جهة أن مضمونها مطابق للأصل، إذ الأصل كما مر في الباب
الأول من الكتاب عدم ولاية أحد على أحد، ومراقبة الغير والتجسس عليه وإذاعة
عيوبه وأسراره نحو تصرف في شؤون الغير، فالأصل يقتضي عدم جوازه.
وكيف كان فنقول: إن من الوظائف الخطيرة التي اهتم بها الإسلام حفظ حرمات
المسلمين وأعراضهم، والاجتناب عن التفتيش عن عقائد الناس وأسرارهم، فلم يجز
التجسس على دخائل الناس وخفاياهم، ولم يسمح لأحد إشاعة أسرار المسلمين و
عثراتهم، وعلى هذين الأصلين المهمين بنيت حياة الناس وطمأنة
539

خواطرهم في نشاطاتهم:
1 - قال الله - تعالى - " يا أيها الذين آمنوا، اجتنبوا كثيرا من الظن، إن بعض الظن إثم،
ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا؟
فكرهتموه. " (1)
قال في المجمع:
" أي ولا تتبعوا عثرات المؤمنين. عن ابن عباس وقتادة ومجاهد.
وقال أبو عبيدة: التجسس والتحسس واحد. وروى في الشواذ عن ابن عباس: " و
لا تحسسوا " بالحاء، قال الأخفش: وليس يبعد أحدهما عن الآخر إلا أن التجسس:
البحث عما يكتم ومنه الجاسوس، والتحسس بالحاء: البحث عما تعرفه. " (2)
أقول: فالله - تبارك وتعالى - نهى أولا عن سوء الظن بالمؤمنين، وثانيا عن التفتيش
والتجسس على دخائلهم، وثالثا عن إذاعتها وإشاعتها على فرض الإطلاع عليها، و
لعل المستفاد من الآية أن حياة الإنسان إنما هي بعرضه وشخصيته الاجتماعية، والهتك
لهما كأنه سلب لحياته هذه، فتأمل.
وفي مكاسب الشيخ الأنصاري - قدس سره -:
" فجعل المؤمن أخا، وعرضه كلحمه، والتفكه به أكلا، وعدم شعوره بذلك بمنزلة
حالة موته. " (3)
2 - وقال الله - تعالى -: " إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم
عذاب أليم. " (4)
3 - وفي تفسير القرطبي في ذيل آية الحجرات: " ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة:
أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث. ولا تحسسوا ولا تجسسوا،

1 - سورة الحجرات (49)، الآية 12.
2 - مجمع البيان 5 / 137، (الجزء 9).
3 - المكاسب / 40.
4 - سورة النور (24)، الآية 19.
540

ولا تناجشوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا. " (1) ورواه
البيهقي. (2)
أقول: نجش الحديث: أذاعه.
4 - وفيه أيضا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن الله حرم من المسلم دمه وعرضه وأن يظن به ظن
السوء. " (3)
5 - وفي أصول الكافي بسنده عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام)،
قال: " من قال في مؤمن ما رأته عيناه وسمعته أذناه فهو من الذين قال الله - عز وجل -: إن
الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم. " (4)
6 - وفي تفسير نور الثقلين عن كتاب ثواب الأعمال للصدوق بسنده عن محمد بن
الفضيل، عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام)، قال: قلت له: جعلت فداك، الرجل من إخواني
بلغني عنه الشيء الذي أكرهه فأسأله عنه فينكر ذلك وقد أخبرني عنه قوم ثقات؟ فقال لي: يا
محمد، كذب سمعك وبصرك عن أخيك. وإن شهد عندك خمسون قسامة، وقال لك قولا
فصدقه وكذبهم، ولا تذيعن عليه شيئا تشينه به وتهدم به مروته فتكون من الذين قال الله -
عز وجل -: إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم. " (5) وروى
نحوه الكليني في روضة الكافي. (6)
أقول: ولا يراد بتذكيب الخمسين تكذيبهم حقيقة، بل يراد بذلك عدم ترتيب الأثر على
شهادتهم بعد إنكار المشهود عليه المساوق عادة للاعتذار وطلب العفو على

1 - تفسير القرطبي 16 / 331.
2 - سنن البيهقي 8 / 333، كتاب الأشربة والحد فيها، باب ما جاء في النهي عن التجسس.
3 - تفسير القرطبي 16 / 332.
4 - أصول الكافي 2 / 357، كتاب الإيمان والكفر، باب الغيبة والبهت، الحديث 2.
5 - تفسير نور الثقلين 3 / 582.
6 - الكافي 8 / 147، الحديث 125.
541

فرض الارتكاب، كما لا يخفى.
7 - وفي أصول الكافي بسنده عن إسحاق بن عمار، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول:
قال رسول الله (عليه السلام): " يا معشر من أسلم بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه، لا تذموا
المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عوراتهم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله - تعالى
- عورته يفضحه ولو في بيته. " (1)
8 - وفيه أيضا بسنده عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " يا
معشر من أسلم بلسانه ولم يسلم بقلبه، لا تتبعوا عثرات المسلمين، فإنه من تتبع عثرات
المسلمين تتبع الله عثرته، ومن تتبع الله عثرته يفضحه. " (2)
9 - وفيه أيضا بسنده عن محمد بن مسلم أو الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) " لا تطلبوا عثرات المؤمنين، فإن من تتبع عثرات أخيه تتبع الله عثراته، ومن
تتبع الله عثراته يفضحه ولو في جوف بيته. " (3)
10 - وفي تفسير القرطبي عن أبي برزة الأسلمي، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " يا معشر
من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من
اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته. " (4)
11 - وفي أصول الكافي بسنده عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " أقرب ما يكون العبد
إلى الكفر أن يواخي الرجل الرجل على الدين فيحصى عليه زلاته ليعيره بها يوماما. " (5) و
نحو ذلك روايتان أخريان أيضا، فراجع.

1 - الكافي 2 / 354، كتاب الإيمان والكفر، باب من طلب عثرات المؤمنين...، الحديث 2.
2 - الكافي 2 / 355، كتاب الإيمان والكفر، باب من طلب عثرات المؤمنين...، الحديث 4.
3 - الكافي 2 / 355، كتاب الإيمان والكفر، باب من طلب عثرات المؤمنين...، الحديث 5.
4 - تفسير القرطبي 16 / 333.
5 - الكافي 2 / 355، كتاب الإيمان والكفر، باب من طلب عثرات المؤمنين...، الحديث 6.
542

12 - وفيه أيضا بسنده عن عبد الله بن سنان، قال: قلت له: " عورة المؤمن على
المؤمن حرام؟ قال: نعم. قلت: تعني سفليه؟ قال: ليس حيث تذهب، إنما هي إذاعة
سره. " (1)
13 - وفي نهج البلاغة في كتابه (عليه السلام) لمالك: " وليكن أبعد رعيتك منك وأشنأهم عندك
أطلبهم لمعايب الناس، فإن في الناس عيوبا الوالي أحق من سترها، فلا تكشفن عما غاب
عنك منها، فإنما عليك تطهير ما ظهر لك، والله يحكم على ما غاب عنك فاستر العورة ما
استطعت يستر الله منك ما تحب ستره من رعيتك. " (2)
14 - وفي الغرر والدرر عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " تتبع العورات من أعظم
السوءات. " (3)
15 - وفيه أيضا: " تتبع العيوب من أقبح العيوب وشر السيئات. " (4)
16 - وفيه أيضا: " شر الناس من لا يعفو عن الزلة ولا يستر العورة. " (5)
17 - وفيه أيضا: " من بحث عن أسرار غيره أظهر الله أسراره. " (6)
18 - وفيه أيضا: " من كشف حجاب أخيه انكشف عورات بيته. " (7)
19 - وفيه أيضا: " سوء الظن يفسد الأمور ويبعث على الشرور. " (8)

1 - الكافي 2 / 358، كتاب الإيمان والكفر، باب الرواية على المؤمن...، الحديث 2.
2 - نهج البلاغة، فيض / 997; عبده 3 / 96; لح / 429، الكتاب 53.
3 - الغرر والدرر 3 / 318، الحديث 4580.
4 - الغرر والدرر 3 / 318، الحديث 4581.
5 - الغرر والدرر 4 / 175، الحديث 5735.
6 - الغرر والدرر 5 / 371، الحديث 8799.
7 - الغرر والدرر 5 / 371، الحديث 8802.
8 - الغرر والدرر 4 / 132، الحديث 5575.
543

20 - وفي تفسير نور الثقلين عن خصال الصدوق، عن محمد بن مروان، عن أبي
عبد الله (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: " ثلاثة يعذبون يوم القيامة (إلى أن قال): والمستمع
حديث قوم وهم له كارهون يصب في أذنيه الآنك. " (1)
21 - وفيه أيضا عنه، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث
له: " ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون يصب في أذنيه الآنك يوم القيامة. " قال
سفيان: " الآنك: الرصاص. " (2)
22 - وفي رواية الأصبغ بن نباتة التي مرت عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال لرجل أقر
عنده بالزنا: " أيعجز أحدكم إذا قارف هذه السيئة أن يستر على نفسه كما ستر الله
عليه؟ " (3)
أقول: ونظير هذه الرواية روايات أخر قد مرت في فصل التعزيرات، ويظهر منها أن
هذا السنخ من المعاصي الجنسية الشخصية الخفية لا يجوز التفتيش عنها والتجسس
عليها ويكون المطلوب شرعا استتارها.
23 - وفي سنن البيهقي بسنده، عن جمع من الصحابة، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: " إن الأمير
إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم. " (4) ورواه القرطبي أيضا في تفسيره عن
أبي أمامة. (5)
24 - وفيه أيضا بسنده عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " إنك إن اتبعت عورات الناس أو
عثرات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم. " ورواه القرطبي أيضا. (6)

1 - نور الثقلين 5 / 93.
2 - نور الثقلين 5 / 93.
3 - الوسائل 18 / 328، الباب 16 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 6.
4 - سنن البيهقي 8 / 333، كتاب الأشربة، باب ما جاء في النهي عن التجسس.
5 - تفسير القرطبي 16 / 333.
6 - سنن البيهقي 8 / 333، كتاب الأشربة، باب ما جاء في النهي عن التجسس; وتفسير القرطبي
16 / 333.
544

25 - وفي صحيح البخاري بسنده عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبته في حجة الوداع
قال: " إن الله - تبارك وتعالى - قد حرم دماءكم وأموالكم وأعراضكم إلا بحقها كحرمة
يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، ألا هل بلغت؟ ثلاثا... " (1)
إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في هذا المجال من طرق الفريقين.
أقول: فليتأمل كل من له عناية واهتمام بالشرع وأحكامه فيما ذكر من الآيات و
الروايات وفي غيرها مما ورد في هذا المجال، وليحفظ أسرار المسلمين وعثراتهم
الخفية الفردية والعائلية، ولا يتعرض لها بالاستماع والتفتيش والنشر والإشاعة، و
لا يعتذر بكونه موظفا في الاستخبارات، فإن الموظفين فيها لا يجوز لهم التفتيش و
التحقيق إلا في الأمور المهمة العامة الماسة بمصالح النظام والمجتمع بمقدار الضرورة و
سيأتي بيانه.
وفي دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية (المادة 23):
" يمنع تفتيش العقائد ولا يمكن مؤاخذة أي شخص أو التعرض له لمجرد اعتناقه
عقيدة معينة. "
(المادة 25):
" يمنع تفتيش الرسائل وعدم إيصالها، تسجيل وإفشاء المكالمات الهاتفية، إفشاء
المخابرات البرقية والتلكس ومراقبتها، وعدم مخابرتها، وعدم إيصالها، استراق السمع،
وكل أنواع التجسس إلا بحكم القانون. " هذا.
وليس من المروة التفتيش عن كل خطأ وعثرة وتعقيبهما وإن خفيتا أو تاب
صاحبهما، وإنما المروة بالصفح والإغماض والنصح والإرشاد وتقويم الشخص و
جذبه إلى الاعتدال والاستقامة تدريجا، إذ قل من يعتصم عن الخطأ والانحراف.
وقد قال الشاعر:
" فمن ذا الذي ترضى سجاياه كلها، * كفى المرأ نبلا أن تعد معايبه. "

1 - صحيح البخاري 4 / 172، كتاب الحدود، باب ظهر المؤمن حمى إلا في حد أو حق.
545

نعم، يعاقب المتجاهر المصر على الذنب، بل كل من ثبت جرمه عند الحاكم إلا إذا
صلح للعفو وعفا عنه. فتدبر. هذا.
وفي كنز العمال عن ثور الكندي:
" إن عمر بن الخطاب كان يعس بالمدينة من الليل، فسمع صوت رجل في بيت يتغنى،
فتسور عليه فقال: يا عدو الله، أظننت أن الله يسترك وأنت في معصيته؟ فقال: وأنت يا
أمير المؤمنين لا تعجل على، إن أكن عصيت الله واحدة فقد عصيت الله في ثلاث: قال:
" ولا تجسسوا " وقد تجسست، وقال: " وأتوا البيوت من أبوابها " وقد تسورت على، و
قد دخلت على بغير إذن وقال الله - تعالى -: " لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى
تستأنسوا وتسلموا على أهلها. " قال عمر: فهل عندك من خير إن عفوت عنك؟ قال: نعم،
فعفا عنه وخرج وتركه. " (1)
الجهة الثانية:
في لزوم الاستخبارات العامة وضرورتها إجمالا:
قد ظهر لك مما مر أن اطمينان الناس وإحساسهم بالأمن في دخائلهم أمر اهتم به
الشرع المبين ولأجل ذلك أوجبت حفظ حريم الناس والتحفظ على أسرارهم، وحرم
التفتيش والتجسس عن دخائل الناس وخفاياهم.
ولكن المتأمل في الآيات والروايات الواردة في هذا المجال يظهر له أن محط هذا
التحريم وموضوعه هي الأسرار الفردية والعائلية التي لا تمس مصالح المجتمع.
وأما التي ترتبط بمصالح المجتمع وحفظ النظام فلا محيص فيها عن التفتيش و
المراقبة، إذ على الدولة الاسلامية الحافظة لنظام المسلمين أن تحصل على الاطلاعات
الكافية حول أوضاع الدول والأمم الأجنبية وقراراتهم ضد الإسلام

1 - كنز العمال 3 / 808، الباب 2 من كتاب الأخلاق من قسم الأفعال، الحديث 8827.
546

والمسلمين، وتجمع الأخبار حول تحركاتهم وتحركات عملائهم وجواسيسهم، و
مؤامرات الكفار وأهل النفاق والبغي والطغيان، وأن تراقب رجال الدولة والموظفين و
أحوال الناس وحوائجهم العامة، والعقل السليم والشرع القويم يحكمان بترجيح
المصالح العامة على الحريات الفردية ووجوب الاهتمام بنظام المسلمين وكيانهم.
وهذه المسؤولية المهمة الواسعة النطاق تفوض لا محالة من قبل الدولة الإسلامية إلى
مؤسسة عادلة صالحة لها من جميع الجهات، ويطلق على هذه المؤسسة في اصطلاح
عصرنا: " إدارة الأمن والاستخبارات. ".
ولا يتبادر إلى ذهنك من هذه الكلمة ما يشابه ويسانخ الأجهزة الجهنمية المخيفة
الموضوعة في أكثر البلاد لقمع الشعوب وخنقها وإخضاعها لسياسة الطواغيت و
الجبابرة المستبدين، وتحطيم الحركات العادلة وإعاقة نمو الأمة ورشدها في العقل و
السياسة والعلوم والصناعات.
وإنما نقصد بذلك مؤسسة عادلة صالحة تهدف إلى الدفاع عن شؤون الأمة ومصالحها
والحفاظ على كيانها في قبال خطط الأعداء والشياطين والتحركات الداخلية و
الخارجية المشكوكة.
وعلى هذا فيجب أن تفوض هذه المسؤولية كغيرها من المسؤوليات العامة إلى أهلها
وأن يدقق في انتخاب الأعضاء لها واختيارهم من بين العقلاء الأذكياء الملتزمين
بالموازين الشرعية المهتمين بمصالح الأفراد والمجتمع، ويجب أن يتعرف كل منهم على
ما يجب الاطلاع عليه وما يحرم، ويميز الخط الدقيق الفاصل بينهما، فإن الأمر في كثير
من الموارد دائر بين الواجب المهم والحرام المؤكد.
وكما يضر قطعا اختيار من لا التزام له ولا تقوى لهذه المسؤولية المهمة الماسة
بدخائل الناس وحرماتهم، فكذلك يضر اختيار من لا يشخص الموارد التي يجب تعرفها
والتحقيق فيها من الموارد الشخصية المحرمة، أو من تغلب عليه الأحاسيس الآنية
الخشنة فيزاحم الناس ويواجههم بوجه عبوس مكفهر، ولا محالة ينبت بذلك في قلوبهم
البغضاء والشقاق.
547

ولو كان الفرد المسؤول للتحقيق والاستخبار عاقلا ذكيا حليما لينا رؤوفا بالناس
عارفا بحدود وظيفته المهمة لساعده الناس في جميع مراحل عمله، ولصار أكثر الناس
عمالا متطوعين للأمن العام وبذلك تتشابك الدولة والأمة وتحصل المعاضدة بينهما في
جميع المراحل، فتدبر. هذا.
ويدل على وجوب الاستخبارات وضرورتها إجمالا مضافا إلى ما يأتي بالتفصيل
من الروايات الخاصة أن حفظ نظام المسلمين وكيانهم يتوقف على الحذر من الأعداء
بمراقبتهم والتجسس على القرارات والتحركات الصادرة عنهم، وحيث إن حفظ النظام
من أهم ما اهتم به الشرع وأوجبه على الدولة والأمة فلا محالة وجبت مقدماته بحكم
العقل والفطرة. ويستفاد وجوب حفظ النظام - مضافا إلى كونه ضروريا وبديهيا - من
أخبار كثيرة مضى أكثرها في الأبواب والفصول السابقة ونلفت هنا النظر إلى بعضها:
1 - ففي نهج البلاغة: " إن هؤلاء قد تمالؤوا على سخطة إمارتي، وسأصبر ما لم أخف
على جماعتكم، فإنهم إن تمموا على فيالة هذا الرأي انقطع نظام المسلمين. " (1)
قال (عليه السلام) ذلك في خطبة له عند مسير أصحاب الجمل إلى البصرة. وفيالة الرأي: ضعفه.
2 - وفيه أيضا في كلام له (عليه السلام) لعمر بن الخطاب حين استشاره في غزو الفرس بنفسه،
قال: " ومكان القيم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه ويضمه، فإذا انقطع النظام تفرق
الخرز وذهب ثم لم يجتمع بحذافيره أبدا. " (2)
3 - وفيه أيضا: " فرض الله الإيمان تطهيرا من الشرك... والإمامة نظاما للأمة و
الطاعة تعظيما للإمامة. " (3)

1 - نهج البلاغة، فيض / 549; عبده 2 / 100; لح / 244، الخطبة 169.
2 - نهج البلاغة، فيض / 442; عبده 2 / 39; لح / 203، الخطبة 146.
3 - نهج البلاغة، فيض / 1197; عبده 3 / 208; لح / 512، الحكمة 252.
548

وقد مر شرح اختلاف نسخ الحديث في الدليل السابع من أدلة وجوب الإمامة، في
الفصل الثالث من الباب الثالث، فراجع.
4 - وفي أصول الكافي عن الرضا (عليه السلام) في حديث طويل: " إن الإمامة زمام الدين و
نظام المسلمين وصلاح الدنيا وعز المؤمنين. " (1)
5 - وفي كشف الغمة في خطبة الزهراء - سلام الله عليها -: " وطاعتنا نظاما للملة، و
إمامتنا لما للفرقة. " (2)
6 - وفي أمالي المفيد بسنده عن ابن عباس، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " اسمعوا و
أطيعوا لمن ولاه الله الأمر، فإنه نظام الإسلام. " (3)
7 - وفي الوسائل في صحيحة يونس، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فيمن أخذ السلاح من
قبل الحكومة وذهب إلى الثغور قال: " فإن جاء العدو إلى الموضع الذي هو فيه مرابط
كيف يصنع؟ قال: يقاتل عن بيضة الإسلام. قال: يجاهد؟ قال: لا، إلا أن يخاف على دار
المسلمين. أرأيتك لو أن الروم دخلوا على المسلمين لم ينبغ (لم يسع خ. ل) لهم أن
يمنعوهم. قال: يرابط ولا يقاتل، وإن خاف على بيضة الإسلام والمسلمين قاتل فيكون
قتاله لنفسه ليس للسلطان، لأن في دروس الإسلام دروس ذكر محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). " (4)
إلى غير ذلك من الأخبار التي يستفاد منها وجوب حفظ النظام وأنه من أهم الفرائض
الإسلامية فيجب تمهيد مقدماته ومنها مراقبة الأعداء والتجسس عليهم.

1 - الكافي 1 / 200، كتاب الحجة، باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته، الحديث 1.
2 - كشف الغمة 2 / 109.
3 - أمالي المفيد / 14، المجلس 2، الحديث 2.
4 - الوسائل 11 / 20، الباب 6 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
549

الجهة الثالثة:
في بيان شعب الاستخبار وأهدافه وذكر الأخبار والروايات الواردة فيها:
فنقول: هي أربع شعب:
1 - مراقبة العمال والموظفين، وأنهم هل يقومون بمسؤولياتهم الإدارية بالصدق و
الأمانة أم لا؟ وكيف يواجهون الناس ويتصرفون في بيت المال؟
2 - مراقبة التحركات العسكرية من قبل الأعداء.
3 - مراقبة نشاطات المخالفين والجواسيس وأهل النفاق والأحزاب الداخلية
السرية المعادية للإسلام والحكومة والأمة.
4 - مراقبة الأمة وأحوال الناس في حاجاتهم وخلاتهم وبعض شكاياتهم و
الارتباط الدائم بينهم وبين الحكومة المركزية.
ولا نأبى تصدي بعض الموظفين لوظائف جميع الشعب المتقدمة أو الأكثر من واحدة
منها، وإنما المقصود بيان كون كل منها وظيفة خاصة مهمة يترتب عليها غرض مخصوص
مهم.
فلنتعرض للشعب الأربع في أربعة فصول:
الفصل الأول:
في مراقبة العمال والموظفين:
لا يخفى أن مجرد تعيين الوزراء والعمال والأمراء للمناصب والوظائف الإدارية و
إدارة الجنود وتفويض المسؤولية إليهم لا يكفي في إدارة الملك وسياسة الأمة بنحو
550

يرضى به العقل والشرع، بل اللازم مضافا إلى إحراز الأهلية والشروط المعتبرة فيهم
نصب من يراقبهم ويرصد أعمالهم ومعاملاتهم مع المراجعين في شتى المؤسسات و
لا سيما في المناطق البعيدة عن مقر الحكومة المركزية، إذ النفس أمارة بالسوء، و
الأطماع ربما تغلب على النفوس، والإنسان محل الخطأ والنسيان، والأقوياء يغلب
على طباعهم الإعجاب بالنفس والاستبداد في الرأي، وتحقير الضعفاء والمستضعفين و
عدم الاعتناء بهم، فلا بد من المراقبة والتفتيش عنهم في نشاطاتهم وبعث عيون خفية
ترصدهم كما كان يصنعه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين:
1 - ففي قرب الإسناد عن الريان بن الصلت، قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: " كان
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا وجه جيشا فأمهم أمير بعث معه من ثقاته من يتجسس له خبره. " (1)
ورواه عنه في الوسائل هكذا: " إذا بعث جيشا فاتهم أميرا بعث معه... " (2)
2 - وفي نهج البلاغة في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى مالك بعد ذكر العمال واختيارهم
من أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام المتقدمة، قال:
" ثم تفقد أعمالهم، وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم، فإن تعاهدك في السر
لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية. وتحفظ من الأعوان، فإن أحد
منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدا
فبسطت عليه العقوبة في بدنه، وأخذته بما أصاب من عمله، ثم نصبته بمقام المذلة و
وسمته بالخيانة وقلدته عار التهمة. " (3)
وروى نحو ذلك في تحف العقول ودعائم الإسلام. (4)
فأمير المؤمنين (عليه السلام) لم يكتف بالأمر بانتخاب العمال من أهل التجربة والحياء والتقدم
في الإسلام، بل أوجب مع ذلك أن تبعث عليهم عيون تبلغ في الصدق

1 - قرب الإسناد / 148.
2 - الوسائل 11 / 44، الباب 15 من أبواب جهاد العدو، الحديث 4.
3 - نهج البلاغة، فيض / 1011; عبده 3 / 106; لح / 435، الكتاب 53.
4 - تحف العقول / 137; ودعائم الإسلام 1 / 361، كتاب الجهاد.
551

والوفاء حدا يوثق بهم ثقة مطلقة بحيث يكتفي بأخبارهم في خيانة العمال، وأوجب
عقوبة الخائن وتذليله حتى يعتبر بذلك كل من سمع ولا يحوم أحد حول الخيانة. فهذا
الذي يحكم أساس الملك والحكومة ويوجب انجذاب الأمة إلى الدولة ودفاعها عنها،
لا ما قد يتوهم من الإغماض والتغاضي عن تقصيرات المسؤولين وخياناتهم باسم
الدفاع عن الدولة.
3 - وفي تحف العقول في عهده هذا إلى مالك في وصيته للجنود وأمرائهم، قال: " ثم
لا تدع أن يكون لك عليهم عيون من أهل الأمانة والقول بالحق عند الناس فيثبتون بلاء
كل ذي بلاء منهم ليثق أولئك بعلمك ببلائهم ثم اعرف لكل امرئ منهم ما أبلى. " (1) و
روى نحوه في الدعائم فراجع. (2)
أقول: وفيه نقل بالمعنى لا محالة كما هو ظاهر.
وإذا رأينا أن أمير المؤمنين (عليه السلام) اهتم بمراقبة العمال وبعث العيون عليهم وأمر مالكا
بذلك فلا محالة كان هو بنفسه يراقب عماله بعيونه، ولعله يشعر بذلك بل يدل عليه ما ورد
في كتبه إلى عماله من بلوغ أخبارهم إليه مع بعد المسافة بين البلاد، حيث إن وسائل
الإعلام والاخبار الموجودة في عصرنا لم تكن توجد في تلك الأعصار ومع ذلك كان
يبلغه جزئيات أعمال العمال حتى مثل شركة بعضهم في مجلس ضيافة، فيظهر بذلك شدة
عنايته بذلك وبعثه عيونا ترصد أعمالهم وتخبره بها:
1 - ففي كتابه إلى عثمان بن حنيف عامله على البصرة: " أما بعد يا بن حنيف، فد بلغني
أن رجلا من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها، تستطاب لك الألوان وتنقل
إليك الجفان، وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو وغنيهم مدعو. " (3)
2 - وفي كتابه إلى ابن عباس على ما قيل: " أما بعد فقد بلغني عنك أمر إن كنت

1 - تحف العقول / 133.
2 - دعائم الإسلام 1 / 359، كتاب الجهاد.
3 - نهج البلاغة، فيض / 965; عبده 3 / 78; لح / 416، الكتاب 45.
552

فعلته فقد أسخطت ربك وعصيت إمامك وأخزيت أمانتك، بلغني أنك جردت
الأرض فأخذت ما تحت قدميك وأكلت ما تحت يديك فارفع إلى حسابك. " (1)
3 - وفي كتابه إلى مصقلة بن هبيرة عامله على أردشير خرة: " بلغني عنك أمر إن كنت
فعلته فقد أسخطت إلهك وأغضبت إمامك: إنك تقسم فيء المسلمين الذي حازته
رماحهم وخيولهم وأريقت عليه دماؤهم في من اعتامك من أعراب قومك. " (2)
أقول: الاعتيام: الاختيار.
4 - وفي كتابه إلى زياد بن أبيه لما كتب إليه معاوية يريد استلحاقه: " وقد عرفت أن
معاوية كتب إليك يستزل لبك ويستفل غربك، فاحذره. " (3)
أقول: اللب: القلب. والغرب: الحدة والنشاط. ويستفل غربك: يطلب فل غربك أي
ثلم حدتك.
5 - وفي كتابه إلى أبي موسى الأشعري عامله على الكوفة وقد بلغه عنه تثبيطه الناس
عن الخروج إليه لما ندبهم لحرب الجمل: " أما بعد، فقد بلغني عنك قول هو لك و
عليك. " (4)
6 - وفي كتابه إلى المنذر بن جارود العبدي: " أما بعد، فإن صلاح أبيك غرني منك و
ظننت أنك تتبع هديه وتسلك سبيله، فإذا أنت فيما رقى إلى عنك لا تدع لهواك
انقيادا... " (5)
7 - وفي كتابه إلى محمد بن أبي بكر عامله على مصر: " أما بعد، فقد بلغني موجدتك
من تسريح الأشتر إلى عملك... " (6)
8 - وفي كتابه إلى زياد حين كان خليفة لابن عباس عامله على البصرة:

1 - نهج البلاغة، فيض / 955; عبده 3 / 72; لح / 412، الكتاب 40.
2 - نهج البلاغة، فيض / 961; عبده 3 / 76; لح / 415، الكتاب 43.
3 - نهج البلاغة، فيض / 962; عبده 3 / 76; لح / 415، الكتاب 44.
4 - نهج البلاغة، فيض / 1052; عبده 3 / 133; لح / 453، الكتاب 63.
5 - نهج البلاغة، فيض / 1073; عبده 3 / 145; لح / 461، الكتاب 71.
6 - نهج البلاغة، فيض / 944; عبده 3 / 66; لح / 407، الكتاب 34.
553

" وإني أقسم بالله قسما صادقا لئن بلغني أنك خنت من فيء المسلمين شيئا صغيرا أو
كبيرا لأشدن عليك. " (1) إلى غير ذلك من الموارد التي يعثر عليها المتتبع. هذا.
وفي كتاب الخراج الذي كتبه أبو يوسف القاضي لهارون:
" قال أبو يوسف: وأنا أرى أن تبعث قوم من أهل الصلاح والعفاف ممن يوثق بدينه و
أمانته يسألون عن سيرة العمال وما عملوا به في البلاد وكيف جبوا الخراج على ما أمروا
به وعلى ما وظف على أهل الخراج واستقر،...
وإن أحللت بواحد منهم العقوبة الموجعة انتهى غيره واتقى وخاف، وإن لم تفعل هذا
بهم تعدوا على أهل الخراج واجترؤوا على ظلمهم وتعسفهم وأخذهم بما لا يجب
عليهم. وإذا صح عندك من العامل والوالي تعد بظلم وعسف وخيانة لك في رعيتك
واحتجان شيء من الفيء أو خبث طعمته أو سوء سيرته فحرام عليك استعماله والاستعانة
به وأن تقلده شيئا من أمور رعيتك. " (2)
وفيه أيضا:
" وحدثني بعض علماء أهل الكوفة: أن على بن أبي طالب كتب إلى كعب بن مالك و
هو عامله: أما بعد فاستخلف على عملك واخرج في طائفة من أصحابك حتى تمر بأرض
السواد كورة كورة فتسألهم عن عمالهم وتنظر في سيرتهم حتى تمر بمن كان منهم فيما
بين دجلة والفرات... " (3)
الفصل الثاني:
في مراقبة التحركات العسكرية للسلطات الخارجية:
لا يخفى أن مراقبة التحركات العسكرية وغيرها للعدو، والتعرف على مواقعه

1 - نهج البلاغة، فيض / 870; عبده 3 / 22; لح / 377، الكتاب 20.
2 - الخراج / 111.
3 - الخراج / 118.
554

وأسراره النظامية والاقتصادية وعن عدته وعدته من أهم الأسباب للانتصار عليه و
الظفر به.
وقد أصبحت فنون التجسس وطرق التعرف على قوى الخصم وإمكانياته من
المسائل المهمة التي تدرس اليوم في الجامعات ويربى فيها طلاب متخصصون، إذ صار
النجاح والتفوق على الخصم مرهونا بالإشراف والاطلاع على قواه وإمكاناته، وقد أبى
الله أن يجري الأمور إلا بأسبابها.
وقد حكى عن نابلئون أنه قال:
" رجل واحد ذكى من الاستخبارات خير من ألف مقاتل في ميدان الحرب. "
فلا محيص للحكومة الإسلامية من العناية والاهتمام بهذه المسألة المهمة الحياتية في
تقوية الملك والدولة. وقد كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكذا أمير المؤمنين (عليه السلام) يهتمان بهذه المسألة في
الغزوات والسرايا.
ولو لم يكن لنا في هذا المجال إلا قوله - تعالى -: " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة و
من رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم. " (1) لكفى في الدلالة على شرعيته و
وجوب الاهتمام به.
كيف؟! وعمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) في حروبهما، والأخبار الواردة
المستفيضة بل المتواترة إجمالا تدلنا على أهمية هذا الأمر، ولا يضرنا عدم ثبوت صحة
السند في كل واحد واحد من الأخبار بعد العلم إجمالا بصدور بعضها لا محالة:
1 - ففي سيرة ابن هشام في سرية عبد الله بن جحش:
" وبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عبد الله بن جحش... وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين،
ليس فيهم من الأنصار أحد، وكتب له كتابا، وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم
ينظر فيه فيمضي لما أمره به ولا يستكره من أصحابه أحدا... فلما سار عبد الله بن جحش
يومين فتح الكتاب فنظر فيه، فإذا فيه: إذا نظرت في

1 - سورة الأنفال (8)، الآية 60.
555

كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصد بها قريشا وتعلم لنا من
أخبارهم. فلما نظر عبد الله بن جحش في الكتاب قال: سمعا وطاعة. ثم قال لأصحابه:
قد أمرني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن أمضي إلى نخلة أرصد بها قريشا حتى آتيه منهم بخبر... " (1)
2 - وفي المغازي للواقدي في غزوة بدر الكبرى ما ملخصه:
" قالوا: ولما تحين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انصراف العير من الشام ندب أصحابه للعير، وبعث
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد قبل خروجه من المدينة بعشر ليال
يتحسسان خبر العير حتى نزلا على كشد الجهني بالنخبار فأجارهما وأنزلهما ولم يزالا
مقيمين عنده في خباء حتى مرت العير فنظر إلى القوم وإلى ما تحمل العير، وجعل أهل
العير يقولون: يا كشد، هل رأيت أحدا من عيون محمد؟ فيقول: أعوذ بالله وأنى عيون
محمد بالنخبار؟ فلما راحت العير باتا حتى أصبحا ثم خرجا وخرج معهما كشد خفيرا
فخرجا يعترضان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلقياه بتربان، وقدم كشد بعد ذلك فأخبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سعيد و
طلحة إجارته إياهما فحياه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الخبر. " (2)
3 - وفي سيرة ابن هشام في غزوة بدر أيضا ما ملخصه:
" ثم ارتحل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من ذفران ثم نزل قريبا من بدر فركب هو ورجل من
أصحابه حتى وقف على شيخ من العرب فسأله عن قريش وعن محمد وأصحابه و
ما بلغه عنهم ثم رجع إلى أصحابه، فلما أمسى بعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام و
سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون الخبر له عليه فأصابوا راوية
لقريش فيها أسلم، غلام بني الحجاج، وعريض أبو يسار، غلام بني العاص فأتوا بهما
فسألوهما ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قائم يصلي، فقالا: نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء،
فكره القوم خبرهما ورجوا أن يكونا لأبي سفيان، فضربوهما

1 - سيرة ابن هشام 2 / 252; وروى نحوه الواقدي في المغازي 1 / 13.
2 - المغازي 1 / 19.
556

فلما أذلقوهما قالا: نحن لأبي سفيان فتركوهما، وركع رسول الله وسجد سجدتيه ثم
سلم وقال: إذا صدقاكم ضربتموهما وإذا كذباكم تركتموهما، صدقا والله إنهما لقريش!
أخبراني عن قريش قالا: هم والله وراء هذا الكثيب. فقال لهما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كم القوم؟
قالا: كثير. قال: ما عدتهم؟ قالا: لا ندري. قال: كم ينحرون كل يوم؟ قالا: يوما تسعا و
يوما عشرا. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): القوم فيما بين التسعمأة والألف. ثم قال لهما: فمن
فيهم من أشراف قريش؟ قالا: عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو البختري بن هشام...
فأقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على الناس فقال: هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها. " (1)
4 - وفي صحيح مسلم بسنده عن أنس بن مالك، قال:
" بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بسيسة عينا ينظر ما صنعت عير أبي سفيان " (2)
ورواه البيهقي عن مسلم، ورواه أبو داود في السنن أيضا بسنده عن أنس. (3)
وفي سيرة ابن هشام وردت الرواية هكذا:
" حتى إذا كان (صلى الله عليه وآله وسلم) قريبا من الصفراء بعث بسبس بن الجهني حليف بني ساعدة و
عدى بن أبي الزغباء الجهني حليف بني النجار إلى بدر يتجسسان له الأخبار عن أبي
سفيان بن حرب وغيره. " (4) (إلى أن قال): " وكان بسبس بن عمرو وعدي بن أبي
الزغباء قد مضيا حتى نزلا بدرا فأناخا إلى تل قريب من الماء ثم أخذا شنا لهما يستقيان
فيه، ومجدي بن عمرو الجهني على الماء فسمع عدى وبسبس جاريتين من جواري
الحاضر وهما يتلازمان على الماء، والملزومة تقول لصاحبتها: إنما تأتي العير غدا أو
بعد غد فاعمل لهم ثم أقضيك الذي لك. قال مجدي: صدقت، ثم خلص بينهما وسمع ذلك
عدى وبسبس فجلسا على بعيريهما ثم انطلقا حتى أتيا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبراه بما
سمعا. " (5)

1 - سيرة ابن هشام 2 / 267.
2 - صحيح مسلم 3 / 1510، كتاب الإمارة، الباب 41 (باب ثبوت الجنة للشهيد)، الحديث 1901.
3 - سنن البيهقي 9 / 148، كتاب السير، باب بعث العيون; وسنن أبي داود 2 / 37، كتاب الجهاد،
باب في بعث العيون.
4 - سيرة ابن هشام 2 / 265.
5 - سيرة ابن هشام 2 / 269.
557

أقول: في مسلم والبيهقي وأبي داود: بسيسة كفعيلة مصغرة، وفي السيرة: بسبس
كفعلل وروى بسبسة كفعللة وبسيبسة كفعيللة مصغرة، وراجع في ذلك الإصابة لابن
حجر. (1) والتلازم: تعلق الغريم بغريمه. والملزومة: المدينة.
5 - وفي التراتيب الإدارية قال:
" وفي ترجمة أبي تميم الأسلمي من طبقات ابن سعد: هو أرسل غلامه مسعود بن
هنيدة من العرج على قدميه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يخبره بقدوم قريش عليه وما معهم من
العدد والعدد والخيل والسلاح ليوم أحد. " (2)
أقول: فهو كان متطوعا في الاستخبارات، ونظائره كانت كثيرة في صدر الإسلام.
6 - وفي المغازي للواقدي في غزوة أحد:
" وبعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عينين له أنسا ومونسا ابني فضالة ليلة الخميس، فاعترضا
لقريش، بالعقيق فسارا معهم حتى نزلوا بالوطاء فأتيا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبراه. " (3)
7 - وفيه أيضا في غزوة أحد:
" فلما نزلوا وحلوا العقد واطمأنوا بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الحباب بن منذر بن الجموح
إلى القوم فدخل فيهم وحزر ونظر إلى جميع ما يريد وبعثه سرا وقال للحباب:
لا تخبرني بين أحد من المسلمين إلا أن ترى في القوم قلة فرجع اليه فأخبره خاليا... " (4)
أقول: حزر: قدر وخمن.
8 - وفي سيرة ابن هشام في غزوة أحد بعد ما انصرف قريش:
" ثم بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علي بن أبي طالب فقال: اخرج في آثار القوم فانظر ماذا

1 - الإصابة لابن حجر 1 / 147.
2 - التراتيب الإدارية 1 / 362.
3 - المغازي 1 / 206.
4 - المغازي 1 / 207.
558

يصنعون وما يريدون: فإن كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، و
إن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة. والذي نفسي بيده لئن أرادوها
لأسيرن إليهم فيها ثم لأنا جزنهم. قال على: فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون،
فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل ووجهوا إلى مكة. " (1)
9 - وفي طبقات ابن سعد في غزوة أحد:
" وكتب العباس بن عبد المطلب خبرهم كله إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأخبر
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سعد بن الربيع بكتاب العباس. " (2)
10 - وفي التراتيب الإدارية عن الاستيعاب في أخبار العباس بن عبد المطلب عم
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال:
" أسلم العباس قبل فتح خيبر وكان يكتم إسلامه، وكان يكتب بأخبار المشركين إلى
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكتب إليه: أن مقامك بمكة خير. " (3)
11 - وفي سيرة ابن هشام في غزوة الخندق ما ملخصه:
" ثم إن نعيم بن مسعود أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله، إني قد أسلمت وإن
قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنما أنت فينا رجل واحد
فخذل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة.
فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة وكان لهم نديما في الجاهلية، فقال: يا
بني قريظة، قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم. قالوا: صدقت، لست عندنا
بمتهم، فقال لهم: إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم، فبه أموالكم وأبناؤكم و
نساؤكم لا تقدرون على أن تحولوا منه إلى غيره، وإن قريشا وغطفان قد جاؤوا لحرب
محمد وأصحابه وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره فليسوا كأنتم،
فإن رأوا نهزة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل و
لا طاقة لكم به فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم

1 - سيرة ابن هشام 3 / 100.
2 - طبقات ابن سعد، القسم الأول من الجزء الثاني / 25.
3 - التراتيب الإدارية 1 / 363.
559

رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمدا حتى
تناجزوه، فقالوا له: قد أشرت بالرأي.
ثم خرج حتى أتى قريشا فقال لأبي سفيان: قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمدا وإنه
قد بلغني أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه أنا
قد ندمنا فهل يرضيك أن نأخذ من القبيلتين - من قريش وغطفان - رجالا من أشرافهم
فنعطيكهم فتضرب أعناقهم ثم نكون معك.
ثم خرج إلى غطفان وقال لهم مثل ما قال لقريش.
فلما كانت ليلة السبت أرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بني قريظة أن اغدوا
للقتال حتى نناجز محمدا، فأرسلوا إليهم أن اليوم يوم السبت ولا نعمل فيه شيئا، ولسنا
مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا.
فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة، قالت قريش وغطفان: والله إن الذي
حدثكم نعيم بن مسعود لحق، فأرسلوا إلى بني قريظة: إنا والله لاندفع إليكم أحدا من
رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال فأخرجوا فقاتلوا، فقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل
إليهم بهذا: إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق، ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا فإن رأوا
فرصة انتهزوها، وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل في
بلدكم، فخذل الله بينهم، وبعث الله عليهم الريح... (1)
12 - وفيه أيضا في غزوة الخندق أيضا ما ملخصه:
" فلما انتهى إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما اختلف من أمرهم وما فرق الله من جماعتهم دعا
حذيفة بن اليمان فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلا.
قال حذيفة: التفت إلينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم
يرجع؟ فما قام رجل من القوم من شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد، فلما لم يقم
أحد دعاني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا حذيفة، اذهب فادخل في القوم

1 - سيرة ابن هشام 3 / 240.
560

فانظر ماذا يصنعون ولا تحدثن شيئا حتى تأتينا.
قال: فذهبت فدخلت في القوم، والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل لا تقر لهم قدرا
ولا نارا ولا بناء، فقام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش، لينظر امرؤ من جليسه؟ قال
حذيفة: فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي فقلت: من أنت؟ قال: فلان بن فلان، ثم
قال أبو سفيان: يا معشر قريش، لقد هلك الكراع والخف وأخلفتنا بنو قريظة ولقينا من
شدة الريح ما ترون، فارتحلوا فإني مرتحل، ثم قام إلى جمله. ولولا عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
إلى: " أن لا تحدث شيئا حتى تأتيني " لقتلته بسهم.
فرجعت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو قائم يصلى في مرط لبعض نسائه، فلما رآني
أدخلني إلى رجليه وطرح على طرف المرط ثم ركع وسجد وإني لفيه فلما سلم أخبرته
الخبر. " (1)
13 - وفي المغازي للواقدي في غزوة الخندق قال:
" قال خوات بن جبير: دعاني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ونحن محاصرو الخندق، فقال: انطلق
إلى بني قريظة فانظر هل ترى لهم غرة أو خللا من موضع فتخبرني. قال: فخرجت من
عنده عند غروب الشمس فتدليت من سلع وغربت لي الشمس. " الحديث بطوله،
فراجع. (2)
14 - وفي المغازي للواقدي أيضا في غزوة دومة الجندل ما ملخصه:
" أنه قد ذكر لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن بدومة الجندل جمعا كثيرا وأنهم يظلمون من مر بهم
من الضافطة وكان بها سوق عظيم وتجار، فندب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الناس فخرج في ألف
من المسلمين فكان يسير الليل ويمكن النهار ومعه دليل له من بني عذرة. ولما دنا
رسول الله من دومة الجندل قال له الدليل يا رسول الله، إن سوائمهم ترعى فأقم حتى
اطلع لك، فخرج طليعة حتى وجد آثار النعم والشاء وهم مغربون ثم رجع إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
فأخبره وقد عرف مواضعهم فسار

1 - سيرة ابن هشام 3 / 242.
2 - المغازي 1 / 460 (الجزء 2).
561

النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)... " (1)
أقول: دومة بضم الدال وتفتح، قيل: بين دومة الجندل والمدينة خمس عشرة ليلة. و
الضافطة جمع ضافط الذي يجلب المتاع إلى المدن. والمغرب من غرب بالتشديد: بعد
ونزح عن الوطن.
15 - وفيه أيضا في غزوة بني المصطلق ويقال لها غزوة المريسيع باسم ماء لهم
يسمى بذلك، قال:
" إن سيد بني المصطلق الحارث بن أبي ضرار قد سار في قومه ومن قدر عليه من
العرب فدعاهم إلى حرب رسول الله فابتاعوا خيلا وسلاحا وتهيأوا للمسير إليه، و
جعلت الركبان تقدم من ناحيتهم فيخبرون بمسيرهم فبلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فبعث بريدة بن
الحصيب الأسلمي يعلم علم ذلك. واستأذن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول، فأذن له، فخرج حتى
ورد عليهم ماءهم فوجد قوما مغرورين قد تألبوا وجمعوا الجموع، فقالوا: من الرجل؟
قال: رجل منكم قدمت لما بلغني عن جمعكم لهذا الرجل فأسير في قومي ومن أطاعني
فتكون يدنا واحدة حتى نستأصله. قال الحارث بن أبي ضرار: فنحن على ذلك فعجل
علينا. قال بريدة: أركب الآن فآتيكم بجمع كثيف من قومي ومن أطاعني فسروا بذلك
منه ورجع إلى رسول الله فأخبره خبر القوم... " (2)
أقول: ويدل الخبر على جواز الكذب في الحرب لإغفال العدو، فإن الحرب خدعة.
16 - وفي مجمع البيان في غزوة الحديبية:
" وبعث (صلى الله عليه وآله وسلم) بين يديه عينا له من خزاعة يخبره عن قريش: وسار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
حتى إذا كان بغدير الأشطاط قريبا من عسفان أتاه عينه

1 - المغازي 1 / 403.
2 - المغازي 1 / 404.
562

الخزاعي فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد جمعوا لك الأحابيش و
جمعوا جموعا وهم قاتلوك أو مقاتلوك وصادوك عن البيت. فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): روحوا
فراحوا. " (1)
أقول: في لسان العرب:
" والأحبوش: جماعة الحبش... وقيل هم الجماعة أيا كانوا لأنهم إذا تجمعوا
اسودوا... وحبشي: جبل بأسفل مكة يقال منه سمي أحابيش قريش، وذلك أن
بني المصطلق وبني الهون بن خزيمة اجتمعوا عنده فحالفوا قريشا... فسموا أحابيش
قريش باسم الجبل. " (2)
وفي المنجد:
الحباشة والأحبوش والأحبوشة: الجماعة من الناس ليسوا من قبيلة واحدة. (3)
17 - وفي المغازي في غزوة خيبر ما ملخصه:
" وبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عباد بن بشر في فوارس طليعة، فأخذ عينا لليهود من أشجع
فقال: من أنت؟ قال: باغ أبتغي أبعرة ضلت لي، قال له عباد: ألك علم بخيبر؟ قال: عهدي
بها حديث، فيم تسألني عنه؟ قال: عن اليهود. قال: نعم، كان كنانة وهوذة في حلفائهم من
غطفان معدين مؤيدين بالكراع والسلاح، وفي حصونهم عشرة آلاف مقاتل، وهم أهل
الحصون التي لا ترام وسلاح وطعام كثير لو حصروا لسنين لكفاهم، ما أرى لأحد بهم
طاقة، فرفع عباد بن بشر السوط فضربه ضربات وقال: ما أنت إلا عين لهم، اصدقني وإلا
ضربت عنقك، فقال الأعرابي: القوم مرعوبون منكم خائفون وجلون لما قد صنعتم بمن
كان بيثرب من اليهود... " (4)
18 - وفيه أيضا في غزوة حنين ما ملخصه:

1 - مجمع البيان 5 / 117، (الجزء 9).
2 - لسان العرب 6 / 278.
3 - المنجد / 114.
4 - المغازي للواقدي 1 / 640 (الجزء 2).
563

" قالوا: ودعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي فقال: انطلق فادخل في
الناس حتى تأتي بخبر منهم وما يقول مالك فخرج عبد الله فطاف في عسكرهم ثم انتهى
إلى ابن عوف فيجد عنده رؤساء هوازن فسمعه يقول لأصحابه... إذا كان في السحر
فصفوا مواشيكم ونساءكم وأبناءكم من ورائكم ثم صفوا صفوفكم ثم تكون الحملة منكم
واكسروا جفون سيوفكم واحملوا حملة رجل واحد واعلموا أن الغلبة لمن حمل أولا.
فلما وعى ذلك عبد الله بن أبي حدرد رجع إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبره بكل ما سمع... " (1)
وروى نحوه في التراتيب الإدارية عن سيرة ابن إسحاق. (2)
19 - وفي تفسير نور الثقلين عن أمالي الشيخ بسنده عن الحلبي، قال: " سألت أبا
عبد الله (عليه السلام) عن قول الله - عز وجل -: " والعاديات ضبحا. " قال: وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
عمر بن الخطاب في سرية فرجع منهزما يجبن أصحابه ويجبنونه. فلما انتهى إلى
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعلى (عليه السلام) أنت صاحب القوم فتهيأ أنت ومن تريد من فرسان المهاجرين و
الأنصار فوجهه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال له: أكمن النهار وسر الليل ولا تفارقك العين. قال:
فانتهى على (عليه السلام) إلى ما أمره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسار إليهم. فلما كان عند وجه الصبح أغار
عليهم فأنزل الله على نبيه: " والعاديات ضبحا " إلى آخرها. " (3)
20 - وفي طبقات ابن سعد في سرية أسامة بن زيد:
" أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الناس بالتهيؤ لغزو الروم. فلما كان من الغد دعا أسامة بن زيد
فقال: سر إلى موضع مقتل أبيك فأوطئهم الخيل فقد وليتك هذا الجيش فاغر صباحا على
أهل أبنى وحرق عليهم واسرع السير تسبق الأخبار، فإن ظفرك الله فأقلل اللبث فيهم و
خذ معك الأدلاء، وقدم العيون والطلائع أمامك. " (4)

1 - المغازي 2 / 893 (الجزء 3).
2 - التراتيب الإدارية 1 / 362.
3 - نور الثقلين 5 / 651.
4 - طبقات ابن سعد، القسم الأول من الجزء الثاني / 136; وروى نحوه ابن أبي الحديد في شرح
نهج البلاغة 1 / 159.
564

21 - وفي التراتيب الإدارية قال:
" وفي البخاري في قصة الهجرة عن عائشة قالت: وكان عبد الله بن أبي بكر يأتيهما
بأخبار قريش وهو غلام شاب فطن، فكان يبيت عندهما ويخرج من السحر فيبيت مع
قريش. " (1)
22 - وفيه أيضا قال:
" وترجم في الإصابة لأمية بن خويلد فذكر أن المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) بعثه عينا وحده إلى
قريش قال: فجئت إلى خشبة خبيب وأنا أتخوف العيون فرقيت فيها فحللت خبيبا.
23 - وترجم فيها أيضا لبشر بن سفيان العتكي فذكر فيها:
أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أرسله إلى مكة يتجسس له أخبار قريش.
24 - وترجم فيها أيضا لجبلة بن عامر البلوى فذكر أنه كان عين المصطفى يوم
الأحزاب.
25 - وترجم فيها أيضا لخبيب بن عدى الأنصاري فذكر عن البخاري:
بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عشرة رهط عينا، وأمر عليهم عاصم بن ثابت. ثم نقل أيضا عن
تخريج ابن أبي شيبة أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعثه وحده عينا لقريش. " (2)
26 - وفيه أيضا قال:
" وترجم في الإصابة لأنس بن أبي مرثد الغنوي فنقل عن ابن سعد: هو كان عين
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأوطاس. " (3)
هذا ما عثرنا عليه عاجلا من عيون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وطلائعه في غزواته وسراياه. ولعل
المتتبع يقف على أكثر من هذا.
27 - وفي نهج البلاغة في كتابه (عليه السلام) إلى قثم بن العباس عامله على مكة: " أما بعد، فإن
عيني بالمغرب كتب إلى يعلمني أنه وجه إلى الموسم أناس من أهل الشام، العمي

1 - التراتيب الإدارية 1 / 361.
2 - التراتيب الإدارية 1 / 362.
3 - التراتيب الإدارية 1 / 363.
565

القلوب الصم الأسماع الكمه الأبصار الذين يلتمسون الحق بالباطل... فأقم على ما
في يديك قيام الحازم الصليب... " (1)
28 - وفي نهج البلاغة أيضا في وصية له - عليه السلام - وصى بها جيشا: " واجعلوا
لكم رقباء في صياصي الجبال ومناكب الهضاب لئلا يأتيكم العدو من مكان مخافة أو
أمن. واعلموا أن مقدمة القوم عيونهم، وعيون المقدمة طلائعهم، وإياكم والتفرق... " (2)
29 - وفي تحف العقول في وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لزياد بن النضر حين أنفذه على
مقدمته إلى صفين:
" اعلم أن مقدمة القوم عيونهم، وعيون المقدمة طلائعهم، فإذا أنت خرجت من بلادك
ودنوت من عدوك فلا تسأم من توجيه الطلائع في كل ناحية وفي بعض الشعاب و
الشجر والخمر وفي كل جانب حتى لا يغيركم عدوكم ويكون لكم كمين...
وإذا نزلتم بعدو أن نزل بكم فليكن معسكركم في أقبال الأشراف أو في سفاح الجبال
أو أثناء الأنهار كيما يكون لكم ردءا ودونكم مردا. ولتكن مقاتلتكم من وجه واحد أو
اثنين، واجعلوا رقباءكم في صياصي الجبال وبأعلى الاشراف وبمناكب الأنهار يريؤون
لكم لئلا يأتيكم عدو من مكان مخافة أو أمن. " (3)
أقول: " الخمر " بفتحتين: كل ما وراءك من جبل أو غيره. والقبل من الجبل بضمتين:
سفحه، والجمع أقبال. والشرف بفتحتين: المكان العالي، والجمع أشراف. والصياصي:
الحصون والقلاع، وصياصي الجبال: أطرافها العالية. ومناكب الأنهار: جوانبها. و
الهضاب جمع الهضبة: الجبل المنبسط.
30 - وفي دعائم الإسلام: عن على (عليه السلام) أنه رأى بعثة العيون والطلائع بين أيدي

1 - نهج البلاغة، فيض / 942; عبده 3 / 65; لح / 406، الكتاب 33.
2 - نهج البلاغة، فيض / 854; عبده 3 / 14; لح / 371، الكتاب 11.
3 - تحف العقول / 191.
566

الجيوش وقال: " إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث عام الحديبية بين يديه عينا له من
خزاعة. " (1)
31 - وفي شرح ابن أبي الحديد عن كتاب الغارات:
" أن معاوية اختلق كتابا نسبه إلى قيس بن سعد وقرأه على أهل الشام... فشاع في
الشام كلها أن قيسا صالح معاوية، وأتت عيون علي بن أبي طالب إليه بذلك فأعظمه و
أكبره وتعجب له... " (2)
إلى غير ذلك من الروايات التي يعثر عليها المتتبع.
ويظهر من الروايات أنه لا ينحصر مراقبة الأعداء بميادين القتال وحالة الحرب
الفعلية، بل يتعين مراقبتهم ولو في عقر دارهم والتجسس على قواهم وإمكاناتهم النفسية
والعسكرية والصناعية والاقتصادية بعد ما ظهر وتبين عنادهم وبغضاؤهم للإسلام و
المسلمين.
وفي أعصارنا قد كان الواجب على الدول الإسلامية أن يتجسسوا على دول الكفر
العالمي وقراراتهم وصناعاتهم الحربية وغير ذلك، ولكنهم تركوا ذلك وأغفلوا عنها
حتى واجهوا استيلاء الكفار على بلادهم وشؤونهم وإحاطة جواسيس الكفر بهم من كل
جانب، اللهم فأعز الإسلام وأهله، واخذل الكفر وأهله.
الفصل الثالث:
في مراقبة نشاطات المخالفين وأهل النفاق والجواسيس والأحزاب السرية الداخلية
المعاندة:
لا يخفى أن حفظ النظام والدولة الحقة العادلة يتوقف على دفع التحركات الداخلية
المخالفة وتفريق الجموع المعادية، وإلا خيف على الدولة والأمة أن تفاجآ

1 - دعائم الإسلام 1 / 369، كتاب الجهاد.
2 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6 / 62.
567

مواجهة قوى متجمعة معاندة ضدهما فتنفشلان وتسقط الدولة وتتحمل الأمة
خسارات كثيرة في الأموال والنفوس، ومن الواضح أن ذلك يتوقف على المراقبة
الصحيحة لتحركات أهل الريب والطابور الخامس وتجمعاتهم السرية بالاستخبارات
الدقيقة والعيون البصيرة المحدقة.
ويدل على جواز ذلك بل وجوبه مضافا إلى ما مر من الأدلة العامة على وجوب حفظ
النظام، وإلى تنقيح المناط القطعي مما مر من الروايات في الموارد الخاصة بعض ما ورد
في خصوص المقام أيضا:
1 - قال الله - تعالى - في شأن المنافقين: " هم العدو، فاحذرهم، قاتلهم الله أنى
يؤفكون؟ " (1)
قال الراغب:
" الحذر: احتراز عن مخيف. " (2)
فالله - تعالى - أوجب الاحتراز عن المنافقين. وإطلاق الحذر والاحتراز يقتضي
مراقبتهم في نشاطاتهم وتجمعاتهم، بل هي من أظهر طرق الحذر ومصاديقه، و
المسلمون في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صاروا ببركة الوعي والرشد السياسي الذي تلقوه
منه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأجمعهم إلا ما شذ عيونا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يرصدون ويراقبون قرارات المنافقين و
تحركاتهم، كما كانوا يراقبون تحركات الكفار في الغزوات والسرايا وغيرها، وكانوا
يرون ذلك وظيفة إسلامية جعلت على عاتقهم، فترى زيد بن أرقم لما سمع من عبد الله بن
أبى المنافق قوله: " لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل " (3) مريدا بالأعز
نفسه وبالأذل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عارضه زيد بذلك ثم مشى إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخبره
حتى قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في نهاية الأمر: " يا غلام، صدق فوك ووعت أذناك ووعى
قلبك، وقد أنزل الله فيما قلت قرآنا. " (4)

1 - سورة المنافقين (63)، الآية 4.
2 - مفردات الراغب / 109.
3 - سورة المنافقين (63)، الآية 8.
4 - مجمع البيان 5 / 294، (الجزء 10) في تفسير سورة المنافقين.
568

2 - ولما فارق الخريت بن راشد الناجي وأصحابه بعد واقعة صفين أمير المؤمنين (عليه السلام)
وتفرقوا في البلاد كتب أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى عماله في البلاد:
" بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله على أمير المؤمنين، إلى من قرأ كتابي هذا من
العمال. أما بعد، فإن رجالا لنا عندهم بيعة خرجوا هرابا فنظنهم وجهوا نحو بلاد البصرة
فاسأل عنهم أهل بلادك واجعل عليهم العيون في كل ناحية من أرضك ثم اكتب إلى بما
ينتهى إليك عنهم، والسلام. " (1)
ولعل المتتبع يقف على موارد أخر من هذا القبيل فتتبع.
ولا يخفى أن هذا القسم من المراقبة كأنه شعبة من القسم الثاني، أعني مراقبة
التحركات العسكرية للأعداء، فيدل عليه جميع ما أقمناه من الأدلة للقسم الثاني، ولكن
أفردناه بالبحث إشعارا بأهميته ولزوم الاهتمام بتحركات المنافقين والأحزاب الداخلية
كما يهتم بتحركات الأجانب والكفار.
3 - ولعله يكون من هذا القبيل أيضا ما رواه في نكاح الوسائل عن زرارة، عن
أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " دخل رجل على على بن الحسين (عليه السلام) فقال: إن امرأتك الشيبانية
خارجية تشتم عليا (عليه السلام) فإن سرك أن أسمعك ذلك منها اسمعتك؟ فقال: نعم. قال: فإذا كان
حين تريد أن تخرج كما كنت تخرج فعد فأكمن في جانب الدار. قال: فلما كان من الغد
كمن في جانب الدار وجاء الرجل فكلمها فتبين منها ذلك فخلى سبيلها وكانت
تعجبه. " (2)
أقول: يظهر من التواريخ أن الخوارج في تلك الأعصار كانوا ذوي تشكيلات ولجان
سياسية سرية، فلعل المرأة كانت عنصرا نفوذيا في بيته (عليه السلام) من قبل تشكيلاتهم لأغراض
سياسية، فلا يعترض بأن التفتيش عن العقائد الشخصية غير جائزة، فتدبر هذا.

1 - الغارات 1 / 337; وتاريخ الطبري 6 / 3422 (طبعة ليدن); وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد
3 / 130.
2 - الوسائل 14 / 425، الباب 10 من أبواب ما يحرم بالكفر، الحديث 7.
569

ولعل المقصود بالمريب الذي أمر أمير المؤمنين (عليه السلام) بعض عماله بالشدة عليه أيضا هو
المنافق أو محتمل النفاق المشكوك في حركاته وأفعاله، ولا يخفى أن من الشدة عليه
مراقبة قراراته وتحركاته. وعلى هذا فيدل على الحكم الروايات التالية أيضا:
4 - ففي كتابه (عليه السلام) إلى حذيفة بن اليمان عامله على المدائن: " وقد وليت أموركم
حذيفة بن اليمان، وهو ممن أرضى بهداه، وأرجو صلاحه، وقد أمرته بالإحسان إلى
محسنكم والشدة على مريبكم، والرفق بجميعكم... " (1)
5 - وفي كتابه (عليه السلام) إلى أهل مصر لما ولى عليهم قيس بن سعد: " وقد بعثت لكم قيس
بن سعد الأنصاري أميرا فوازروه وأعينوه على الحق وقد أمرته بالإحسان إلى محسنكم
والشدة إلى (على خ. ل) مريبكم، والرفق بعوامكم وخواصكم، وهو ممن أرضى هديه و
أرجو صلاحه ونصحه. " (2)
6 - وفي الغرر والدرر للآمدي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " أقم الناس على سنتهم ودينهم،
وليأمنك برئهم وليخفك مريبهم وتعاهد ثغورهم وأطرافهم. " (3)
7 - وفي نهج البلاغة: " ولكني أضرب بالمقبل إلى الحق المدبر عنه، وبالسامع المطيع
العاصي المريب أبدا. " (4)
أقول: قال ابن الأثير في النهاية:
" قد تكرر في الحديث ذكر الريب، وهو بمعنى الشك، وقيل: هو الشك مع التهمة يقال:
رابني الشيء وأرابني بمعنى شككني. " (5)

1 - نهج السعادة 4 / 24.
2 - نهج السعادة 4 / 28 عن الغارات.
3 - الغرر والدرر 2 / 215، الحديث 2419.
4 - نهج البلاغة، فيض / 59; عبده 1 / 37; لح / 53، الخطبة 6.
5 - النهاية 2 / 286.
570

الفصل الرابع:
في مراقبة الأمة في حاجاتها وخلاتها وشكاياتها وما تتوقعه من الحكومة المركزية
وفي تعهداتها للحكومة وما تتوقعه الحكومة منها:
اعلم أن تأسيس الدولة عندنا ليس لإعمال السلطة والقدرة على العباد والاستبداد
عليهم من الحاكم بما شاء وأراد، بل لإدارة أمور الأمة بالقسط والعدل على طبق موازين
الشرع ومصالح الأمة. فالغرض منها إصلاح أمر الأمة. وما هو الحافظ للدولة والضامن
لقدرتها على التنفيذ هو قوة الأمة ودفاعها، فلا محالة يتعين وجود الارتباط التام بين
الحكومة والأمة والتعرف على حاجات الطرفين وتوقعاتهما بوسائط منصوبة أو منتخبة
يراقبون الأمة ويترددون بينها وبين الحكومة.
وقد كان يطلق في الأعصار الأول للإسلام على هذه الوسائط اسم النقباء والعرفاء. و
في بعض الأخبار الواردة وإن ورد ذم العرافة، ولكنها نظير الأخبار الواردة في ذم
الإمارة لايراد بالعرافة فيها إلا ما كانت من قبل حكام الجور للتعرف على من يخالفهم
من أهل الصدق والإيمان كما يظهر ذلك بمراجعة أخبار الباب، وإلا فرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و
كذا أمير المؤمنين (عليه السلام) أمضيا في حكمهما وسياستهما لأمور الأمة أمر النقابة والعرافة، كما
سيظهر:
1 - ففي سيرة ابن هشام: " أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين ما بايعه أهل المدينة في العقبة
الثانية قال لهم: " أخرجوا إلى منكم اثنى عشر نقيبا ليكونوا على قومهم بما فيهم.
فأخرجوا منهم اثنى عشر نقيبا: تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس... إن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال للنقباء: أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى بن
مريم، وأنا كفيل على قومي - يعني المسلمين -. قالوا: نعم. " (1)

1 - سيرة ابن هشام 2 / 85.
571

وروى هذا في البحار عن علي بن إبراهيم هكذا: " فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أخرجوا
إلى منكم اثنى عشر نقيبا يكفلون عليكم بذلك كما أخذ موسى (عليه السلام) من بني إسرائيل اثني
عشر نقيبا. فقالوا: اختر من شئت. " (1)
وفيه أيضا عن المناقب هكذا: " أخرجوا إلى منكم اثني عشر نقيبا. فاختاروا، ثم قال:
أبايعكم كبيعة عيسى بن مريم للحواريين كفلاء على قومهم بما فيهم، وعلى أن تمنعوني
مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم. فبايعوه على ذلك. " (2)
أقول: قال الله - تعالى -: " ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر
نقيبا. " (3)
2 - وفي التراتيب الإدارية قال:
" ترجم في الإصابة لأسعد بن زرارة فخرج في ترجمته من طريق الحاكم أنه لما مات
جاء بنو النجار فقالوا: يا رسول الله، مات نقيبنا فنقب علينا. قال: أنا نقيبكم... ونحوه في
ترجمته من الاستبصار. " (4) هذا.
وسيأتي معنى النقيب، وكذا العريف بعد نقل الروايات.
3 - وفي سنن أبي داود بسنده عن غالب القطان، عن رجل، عن أبيه، عن جده أنهم
كانوا على منهل من المناهل فلما بلغهم الإسلام جعل صاحب الماء لقومه مأة من الإبل
على أن يسلموا، فأسلموا وقسم الإبل بينهم، وبدا له أن يرتجعها منهم فأرسل ابنه إلى
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له: إيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)... فقل له: إن أبي شيخ كبير وهو عريف الماء وإنه
يسألك أن تجعل لي العرافة بعده. فأتاه فقال... إن أبي شيخ كبير وهو عريف الماء وإنه
يسألك أن تجعل لي العرافة بعده. فقال: " إن

1 - بحار الأنوار 19 / 13، تاريخ نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، باب دخوله الشعب و...، الحديث 5.
2 - بحار الأنوار 19 / 26، تاريخ نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، باب دخوله الشعب و...، الحديث 15.
3 - سورة المائدة (5)، الآية 12.
4 - التراتيب الإدارية 1 / 236.
572

العرافة حق، ولا بد للناس من العرفاء، ولكن العرفاء في النار. " (1)
أقول: المنهل: مورد الماء للشرب والاستقاء. ويظهر من الحديث أن
العرافة للماء كان منصبا يفوض من قبل الدولة، وصريحه كونه حقا لا مناص منه،
فقوله: " لكن العرفاء في النار " محمول على الغالب من عدم رعايتهم للحق والعدالة.
4 - وفي صحيح البخاري بسنده عن عروة أن مروان والمسور بن مخرمة أخبراه أن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قام حين جاءه وفد هوازن فسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم، فقال: إن معي
من ترون... فقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الناس فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال... فمن أحب
منكم أن يطيب ذلك فليفعل... فقال الناس: طيبنا ذلك. قال: إنا لا ندري من أذن منكم ممن
لم يأذن فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم، فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم ثم
رجعوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبروه أنهم طيبوا وأذنوا. (2) هذا.
5 - وفي أصول الكافي بسنده عن حبيب بن أبي ثابت، قال: " جاء إلى
أمير المؤمنين (عليه السلام) عسل وتين من همدان وحلوان، فأمر العرفاء أن يأتوا باليتامى،
فأمكنهم من رؤوس الأزقاق يلعقونها وهو يقسمها للناس قدحا قدحا. فقيل له: يا
أمير المؤمنين، ما لهم يلعقونها؟ فقال: إن الإمام أبو اليتامى وإنما ألعقتهم هذا برعاية
الآباء. " (3)
6 - وفي الوسائل عن الصدوق بسنده، عن الصادق (عليه السلام)، عن آبائه (عليه السلام) في حديث
المناهي، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من تولى عرافة قوم أتي به يوم القيامة ويداه
مغلولتان إلى عنقه، فإن قام فيهم بأمر الله - عز وجل - أطلقه الله، وإن كان ظالما هوى به
في نار جهنم وبئس

1 - سنن أبي داود 2 / 119، كتاب الخراج والفئ والإمارة، باب في العرافة.
2 - صحيح البخاري 2 / 82، كتاب العتق، باب من ملك من العرب رقيقا...
3 - الكافي 1 / 406، كتاب الحجة، باب ما يجب من...، الحديث 5.
573

المصير. " (1)
7 - وفيه أيضا عن الصدوق في عقاب الأعمال بسنده عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث،
قال: " من تولى عرافة قوم (ولم يحسن فيهم خ. ل) حبس على شفير جهنم بكل يوم ألف
سنة، وحشر ويده مغلولة إلى عنقه، فإن كان قام فيهم بأمر الله أطلقها الله، وإن كان
ظالما هوى به في نار جهنم سبعين خريفا. " (2)
8 - وفيه أيضا عن الكشي بسنده عن عقبة بن بشير، عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث،
قال: " وأما قولك إن قومي كان لهم عريف فهلك فأرادوا أن يعرفوني عليهم، فإن كنت
تكره الجنة وتبغضها فتعرف عليهم، يأخذ سلطان جائر بامرئ مسلم فيسفك دمه
فتشرك في دمه ولعلك لا تنال من دنياهم شيئا. " (3)
أقول: وفي الحديث دلالة على ما مر منا من أن ذم العرافة في بعض الروايات كان من
جهة أن الغالب فيها كان هو العرافة من قبل حكام الجور، فكان العريف يعرفهم أهل
الصدق والإيمان فيسفكون دماءهم. فوزان هذه الروايات وزان ما ورد في ذم الإمارة،
وإلا فالاجتماع لا يتم بلا أمير وعريف، بل يجب التصدي لهما إن لم يقم بهما الغير كما هو
واضح:
9 - ففي دعائم الإسلام عن على (عليه السلام) أنه قال: " لابد من إمارة ورزق للأمير، ولا بد من
عريف ورزق للعريف، ولا بد من حاسب ورزق للحاسب، ولا بد من قاض ورزق
للقاضي. " (4)
بل المجتمع في عالم الآخرة أيضا لا يكون بلا عريف:

1 - الوسائل 12 / 136، الباب 45 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.
2 - الوسائل 12 / 137، الباب 45 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 7.
3 - الوسائل 11 / 280، الباب 50 من أبواب جهاد النفس، الحديث 10.
4 - دعائم الإسلام 2 / 538، كتاب آداب القضاة، الحديث 1912.
574

10 - ففي خبر السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " حملة القرآن
عرفاء أهل الجنة. " (1)
11 - وفي سنن الدارمي عن عطاء بن يسار، قال: " حملة القرآن عرفاء أهل
الجنة. " (2) هذا.
12 - وفي مسند أحمد بسنده عن أبي هريرة، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: " ويل للأمراء، ويل
للعرفاء، ويل للأمناء. ليتمنين أقوام يوم القيامة أن ذوائبهم كانت معلقة بالثريا يتذبذبون
بين السماء والأرض ولم يكونوا عملوا على شيء. " (3)
13 - وفيه أيضا أن أبا ذر قال لمن حضره في الربذة حين الموت:
" أنشدكم الله أن لا يكفنني رجل منكم كان أميرا أو عريفا أو بريدا. " (4)
14 - وفي سنن أبي داود بسنده عن المقدام بن معديكرب أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ضرب
على منكبه ثم قال له: " أفلحت يا قديم، إن مت ولم تكن أميرا ولا كاتبا ولا عريفا. " (5)
15 - وفي الوسائل عن الخصال بسنده عن نوف، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث
قال: " يا نوف، إياك أن تكون عشارا أو شاعرا أو شرطيا أو عريفا أو صاحب عرطبة - و
هي الطنبور -، أو صاحب كوبة - وهو الطبل -، فإن نبي الله خرج ذات ليلة فنظر إلى
السماء فقال: أما إنها الساعة التي لا ترد فيها دعوة إلا دعوة عريف أو دعوة شاعر أو
دعوة عاشر أو شرطي أو صاحب عرطبة أو صاحب كوبة. " (6)

1 - أصول الكافي 2 / 606، كتاب فضل القرآن، باب فضل حامل القرآن، الحديث 11.
2 - سنن الدارمي 2 / 470، كتاب فضائل القرآن، باب في ختم القرآن.
3 - مسند أحمد 2 / 352.
4 - مسند أحمد 5 / 166.
5 - سنن أبي داود 2 / 119، كتاب الخراج والفئ والإمارة، باب في العرافة.
6 - الوسائل 12 / 234، الباب 100 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 12.
575

16 - وفي نهج البلاغة عن نوف البكالي عنه (عليه السلام): " يا نوف، إن داود - عليه السلام - قام
في مثل هذه الساعة من الليل فقال: إنها ساعة لا يدعو فيها عبد إلا استجيب له إلا أن
يكون عشارا أو عريفا أو شرطيا أو صاحب عرطبة (وهي الطنبور) أو صاحب كوبة (و
هي الطبل). " (1)
17 - وفي شرح ابن أبي الحديد عن نصر بن مزاحم:
" وأمر على (عليه السلام) بهدم دار حنظلة فهدمت، هدمها عريفهم شبث بن ربعي وبكر بن
تميم " (2)
أقول: وكان سبب ذلك أن حنظلة خرج إلى معاوية في ثلاثة وعشرين رجلا من
قومه، كما في الكتاب.
18 - وفي التراتيب الإدارية قال:
" ترجم في الإصابة جندب بن النعمان الأزدي، فنقل عن تاريخ ابن عساكر قال: قدم
أبو عزيز على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأسلم وحسن إسلامه وجعله عريف قومه. وترجم فيها أيضا
رافع بن خديج الأنصاري، فذكر أنه كان عريف قومه بالمدينة. " (3)
إلى غير ذلك مما يقف عليه المتتبع.
ويستفاد من جميع ذلك مشروعية النقابة والعرافة وتعارفهما في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و
الأئمة - عليهم السلام - بل ضرورتهما في إدارة المجتمع على وجه صحيح وإن كان
المتصدي لهما في معرض الخطر الديني، وهذا من لوازم كل منصب ومقام إلا من عصمه
الله - تعالى -.
الكلام في معنى النقيب والعريف:
بقي الكلام في معنى اللفظين، فنقول:

1 - نهج البلاغة، فيض / 1134; عبده 3 / 174، لح / 486، الحكمة 104.
2 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3 / 177.
3 - التراتيب الإدارية 1 / 236.
576

1 - قال الراغب في المفردات:
" والنقيب: الباحث عن القوم وعن أحوالهم، وجمعه نقباء. قال: " وبعثنا منهم اثني
عشر نقيبا. " (1)
2 - وفي الصحاح:
" والنقيب: العريف وهو شاهد القوم وضمينهم، والجمع النقباء. وقد نقب على قومه
ينقب نقابة. " (2)
3 - وفيه أيضا:
" بعثوا إلى عريفهم يتوسم، أي عارفهم. والعريف: النقيب وهو دون الرئيس، والجمع
عرفاء. " (3)
4 - وفي نهاية ابن الأثير:
" في حديث عبادة بن الصامت " وكان من النقباء ". النقباء جمع نقيب وهو كالعريف
على القوم: المقدم عليهم الذي يتعرف أخبارهم وينقب عن أحوالهم، أي يفتش. " (4)
5 - وفيه أيضا:
" وفيه: العرافة حق، والعرفاء في النار. العرفاء جمع عريف وهو القيم بأمور القبيلة أو
الجماعة من الناس، يلي أمورهم ويتعرف الأمير منه أحوالهم، فعيل بمعنى فاعل، و
العرافة عمله. وقوله: العرافة حق، أي فيها مصلحة للناس ورفق في أمورهم وأحوالهم. و
قوله: العرفاء في النار، تحذير من التعرض للرياسة لما في ذلك من الفتنة وأنه إذا لم يقم
بحقه أثم واستحق العقوبة. " (5)
6 - وفي لسان العرب:

1 - مفردات الراغب / 529.
2 - الصحاح للجوهري 1 / 227.
3 - الصحاح 4 / 1402.
4 - النهاية 5 / 101.
5 - النهاية 3 / 218.
577

" والنقيب: عريف القوم، والجمع نقباء. والنقيب: العريف وهو شاهد القوم و
ضمينهم. " (1)
7 - وفيه أيضا:
" عريف القوم: سيدهم. والعريف: القيم والسيد لمعرفته بسياسة القوم... والعريف:
النقيب وهو دون الرئيس. " (2)
أقول: فظاهر كلمات أهل اللغة كونهما بمعنى واحد أو متقاربين. وقد كان النقيب و
العريف رابطا بين القبيلة أو العشيرة، وبين الإمام أو الأمير يتعرف منه حالاتهم، وكان
المتعارف انتخابه من أفراد القبيلة لكونه أعرف بهم من غيره. ولم يؤخذ في مفهومهما
تعرف خصوص الحالات المتعلقة بالحرب والقتال، نعم لما كانت عمدة نظر الحكام في
تعيين النقباء والعرفاء معرفة القوى المستعدة للحرب والنضال خصهما بعض بالجنود:
قال الكتاني في التراتيب الإدارية في تعريف العرفاء:
" هم رؤساء الأجناد وقوادهم، ولعلهم سموا بذلك لأن بهم يتعرف أحوال الجيش.
قاله الباجي في المنتقى. " (3)
وفي آخر كتاب الفيء وقسمة الغنائم من المبسوط:
" ويستحب للامام أن يجعل العسكر قبائل وطوائف وحزبا حزبا، ويجعل على كل
قوم عريفا عريفا، لقوله - تعالى -: وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا. والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عرف
عام خيبر على كل عشرة عريفا. " (4)
وقال العلامة في التذكرة:
" ينبغي للإمام أن يتخذ الديوان، وهو الدفتر الذي فيه أسماء القبائل قبيلة قبيلة و
يكتب عطاياهم، ويجعل لكل قبيلة عريفا ويجعل لهم علامة بينهم ويعقد لهم

1 - لسان العرب 1 / 769.
2 - لسان العرب 9 / 238.
3 - التراتيب الإدارية 1 / 235.
4 - المبسوط 2 / 75.
578

ألوية لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عرف عام خيبر على كل عشرة عريفا. " (1)
وكيف كان فعلى إمام الأمة ورئيسها أن يشرف عليها ويعرف حالات الناس و
احتياجاتهم وتوقعاتهم من الحكومة ليسعى في تنظيم أمورهم ورفع حاجاتهم و
توقعاتهم إلى الإمام، ويكون في هذا الأمر ضمانة لبقاء الملك وانتظام الأمور، ولولا
ذلك لخيف الفشل وسقوط الملك.
فهذه شعبة رابعة من شعب التجسس والاستخبارات.
قال الكتاني في التراتيب الإدارية:
" باب في جعل الإمام العين على الناس في بلده: في شمائل الترمذي من حديث ابن
أبي هالة الطويل: كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يسأل الناس عما في الناس. قال ابن التلمساني في شرح
الشفاء: ليس من باب التجسس المنهى عنه، وإنما هو ليعرف به الفاضل من المفضول
فيكونون عنده في طبقاتهم، وليس هو من الغيبة المنهى عنها: وإنما هو من باب النصيحة
المأمور بها. وقال المناوي على الشمائل: وهذا إرشاد للحكام إلى أن يكشفوا و
يتفحصوا، بل ولغيرهم ممن كثر أتباعه كالفقهاء والصالحين والأكابر فلا يغفلوا عن ذلك
لئلا يترتب عليه ما هو معروف من الضرر الذي قد لا يمكن تدارك رفعه. " (2)
أقول: ويجب أن يكون المنصوب لهذا الشأن عاقلا ذكيا فطنا ثقة عدلا صدوقا ذا
صرامة وصراحة لا يمنعه أبهة الإمام من بيان جميع ما عاينه وشاهده، وأن يكون
معاشرا للناس حاضرا في أسواقهم ومجامعهم بحيث يطلع على أهوائهم وأفكارهم و
توقعاتهم، وأن يكون عمدة همه الدفاع عن الناس ولا سيما الضعفاء والمحرومين منهم
فيرفع حاجاتهم وتوقعاتهم إلى الإمام ويصر في انجاح طلباتهم بقدر الإمكان، لا أن
يفكر فقط في فرض سياسة الدولة وآرائها كيف ما كانت عليهم، وفي ترضية

1 - التذكرة 1 / 437.
2 - التراتيب الإدارية 1 / 363.
579

خاطر السلطان والأمراء والعمال فقط.
فإلى هنا تعرضنا لنبذة يسيرة من مسائل التجسس والاستخبارات العامة، وقد
قسمناها إلى أربع شعب كما عرفت. ويبقى هنا بحث في حكم جاسوس العدو الأجنبي
نتعرض له إن شاء الله في فصل السياسة الخارجية للإسلام، فانتظر.
الجهة الرابعة:
في أمور أخر في الاستخبارات ينبغي التنبيه عليها:
الأول:
قد مر أن عمل المراقبة والتجسس عمل خطير له مساس تام بحريم الناس وحرياتهم
المشروعة فلا يجوز أن يستخدم لهذا العمل إلا من يكون عاقلا، ذكيا، ثقة، ملتزما بالشرع،
عالما بموازينه وبما يجب ويحرم، رؤوفا بالناس، حافظا لأسرارهم، لا يحقر الناس و
لا يريد تذليلهم ولا سيما بالنسبة إلى ذوي الهيئات والسوابق الحسنة في المجتمع، و
لا يكون فيه حقد أو حسد أو بغضاء بالنسبة إلى أحد.
الثاني:
لا يخفى أن سنخ المراقبة للأعداء من الكفار وأهل النفاق المعاندين للإسلام والدولة
الإسلامية يختلف عن سنخ المراقبة للعمال وللأمة، حيث إن الشعبتين الأوليين تلازمان
بحسب العادة نوعا من الغلظة والخشونة ويوجد للمسؤولين لهما بسبب ذلك ذهنية
خاصة توقعهم غالبا في سوء الظن وعدم الاعتماد، فلا تناسب
580

هذه الحالة لمراقبة الأمة وكذا العمال البرءاء غالبا، إذ المراقبة لهما ولا سيما للأمة
تقتضي رعاية اللطف والرحمة غالبا، واجتماع الخصلتين المتضادتين في شخص واحد
نادر جدا، فلأجل ذلك يترجح بل يتعين تفكيك الشعب بحسب المسؤولين ولا يفوض
الجميع إلى شخص واحد.
ومثله أمر السؤال والتحقيق في أجهزة القضاء أيضا، فيجب أن يكون المحقق و
السائل عن الفرد المؤمن ولا سيما ذي الهيئة وأهل الفضل غير من شغله التحقيق عن
الأعداء من الكفار وأهل النفاق، فتدبر.
الثالث:
قد عرفت في الجهة الأولى من البحث أن التجسس على دخائل الناس فيما يرتبط
بحياتهم الفردية أو العائلية والتفتيش عنها حرام مؤكد، كما أنه لا يجوز إذاعة أسرار
الناس وعيوبهم الخفية الشخصية وتحطيم شخصياتهم في المجتمع. وكذلك لا يجوز منع
الناس ولا سيما أهل العلم والفضل من الوعظ والنصيحة لأئمة المسلمين والعمال و
الأمراء، والنقد والاعتراض الصحيح على التخلفات الشرعية والقانونية التي تصدر عن
بعض المسؤولين في إطار الالتزام بالإسلام وبالنظام العدل، ولا يجوز مزاحمتهم لذلك،
وإنما الذي يجوز بل يجب مؤكدا التجسس عليه والتفتيش عنه تحركات الناس ضد
الإسلام والنظام والمصالح العامة.
وحيث إن الأمر في كثير من الموارد يشتبه على الموظفين وربما يدور الأمر بين
الواجب المهم والحرام المؤكد، والأمر خطير وحساس جدا، والنفس أمارة بالسوء إلا
ما رحم الله والقدرة تبعث النفس على الطغيان والتعدي غالبا، فلا محالة يتعين:
أولا: تعيين الخط الفاصل بين ما يجوز وما لا يجوز بتشريع حدود وقوانين يبين فيها
بالتفصيل الموارد التي يجوز فيها مراقبة الناس والقبض عليهم والتحقيق منهم، وكيفية
معاملتهم في التحقيقات، وتنظيم البرامج الصحيحة الدقيقة لذلك، ويبين كيفية
581

ارتباط المستخبرين بجهاز القضاء وغيره من أجهزة الحكومة، ويميز وظيفة كل منها
لئلا يتدخل أحد منهم فيما ليس من شأنه ومسؤوليته. ولا يجوز أن يفوض الأمر بنحو
الإطلاق إلى الموظف في الاستخبارات بحيث يصنع كل ما شاء وأراد، كما هو الرائج في
الحكومات الاستبدادية.
وثانيا: إعمال الدقة والتعمق في انتخاب الموظفين من بين أهل العقل والتجربة و
الصدق والأمانة والفطنة والصرامة والرحمة والشفقة بالعباد والالتزام بموازين
الإسلام، كما مر. وقد مر في الفصل الرابع من الباب السادس عند البحث عن السلطة
التنفيذية روايات كثيرة تدل على مواصفات الوزراء والعمال، فراجع.
وثالثا: مراقبتهم حينا بعد حين بعيون بصيرة نافذة تراقبهم في أعمالهم وعشرتهم، ثم
مجازاة المتخلفين منهم بأشد المجازاة، وليس كل ذلك إلا لخطورة هذه الوظيفة و
حساسيتها.
ولو فرض انحراف هذه المؤسسة الخطيرة الدقيقة عن برامجها وأهدافها ولو بنقطة
صارت في المآل فاجعة على الدولة والأمة معا، كما شوهد نظيره في كثير من الدول.
ألا ترى أن وقوع انفراج ما في رأس الزاوية يوجب تزايد الانفراج وتباعد الخطين
بازدياد البعد عن نقطة الرأس، فتدبر.
وبما ذكرنا يظهر أن جهاز الاستخبارات أيضا يحتاج إلى جهاز استخبار فوقه يراقب
موظفيه ويتجسس على أعضائه وموظفيه ولا سيما إذا اتسع الجهاز وتكثرت شعبه و
أعضاؤه كما في عصرنا.
كيف؟! ويمكن أن يبلغ جهاز الاستخبارات بسعته وكثرة شعبه وقدرته المخوفة و
خفاء قراراته ونشاطاته حدا يتدخل سرا في جميع الشؤون وفي نصب المقامات و
عزلها وإسقاط الحكومات والدول، بل ربما يتدخل في شؤون سائر البلاد حتى في
582

تحكيم حكوماتها أو إسقاطها، كما نراه من جهاز C. I. A في الولايات المتحدة. فعلى
الإمام مراقبة جهاز الأمن والاستخبارات أشد المراقبة.
الرابع:
ربما يتوهم من إجازة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لبريدة بن الحصيب الأسلمي - الذي أرسله
للاستخبار عن بني المصطلق - للكذب والتمويه كما مر أن للمستخبر أن يتصدى في
طريق استخباراته للكذب، بل ولسائر المحرمات الشرعية من شرب الخمر وأكل لحم
الخنزير وترك الصلاة والصيام ومصافحة الأجنبية بل والروابط الجنسية المحرمة ونحو
ذلك مطلقا كما هو المتعارف بين جواسيس بلاد الكفر وقد يعبرون عن ذلك بأن الهدف
يبرر الوسيلة.
أقول: هذا بكليته ممنوع جدا، إذ الحكومة بنفسها ليست عندنا هدفا بل الهدف ليس
إلا تثبيت موازين الإسلام وتنفيذ أحكامه في المجتمع، ولا تشرع الحكومة والدولة و
الاستخبارات إلا ما دامت واقعة في طريق ذلك، ويجب أن يفدى الجميع في هذا
الطريق. نعم، ربما يتوقف حفظ النظام أو المصالح العامة أو تثبيت واجب مهم على
ارتكاب محرم ليس بهذه الأهمية كالكذب والتورية مثلا لحفظ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو نظام العدل
مثلا، فيجري هنا موازين باب التزاحم، فالواجب رعاية مرجحات باب التزاحم، وهذا
يختلف بحسب اختلاف الأحكام والأشخاص والأصقاع والأزمنة، كما لا يخفى على
أهل الفن. فالقول بتبرير الهدف للوسيلة مطلقا باطل جدا بحكم العقل والشرع.
وهذه نكتة مهمة يجب أن يلتفت إليها الموظفون في الاستخبارات وفي أجهزة
التحقيق، إذ قد يشتبه الأمر عليهم بما رأوه أو سمعوه من أعمال الجواسيس و
المستخبرين في بلاد الكفر في استخباراتهم حيث يستحلون كل جناية وجريمة في
طريق عملهم.
583

وهل يجوز الانتحار عمدا لأجل التخلص من العدو، كما إذا تيقنت المرأة المسلمة
بأنها تهتك في عرضها أو علم المسلم بأنه يعذب عذابا لا طاقة له به فيعترف بما يضر
المسلمين؟
في المسألة وجهان. والظاهر أن الواجب رعاية موازين التزاحم ومرجحاته، ولكن
تشخيص المهم والأهم يحتاج إلى اطلاع وسيع على أحكام الشرع وموازينه وليس هذا
شأن كل أحد.
الخامس:
قد مر منا في الجهة التاسعة من فصل التعزيرات بحث في تعزير المتهم للكشف و
الاعتراف نذكر ملخصا منه هنا، ومن أراد التفصيل فليراجع هناك.
ومحصل ما ذكرناه أن تعزير المتهم بمجرد الاتهام لكشف ما يحتمل أن يطلع عليه من
فعله أو فعل غيره أو الحوادث والوقائع الأخر ظلم في حقه ويخالف حكم الوجدان و
سلطة الناس على أنفسهم وبراءتهم عن التهم ما لم تثبت، وقد وردت روايات مستفيضة
في حرمة ضرب الناس وتعذيبهم. كما أن الاعتراف مع التعذيب لا اعتبار به شرعا كما
يدل عليه أخبار مستفيضة:
ومنها خبر أبي البختري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: " من أقر عند
تجريد أو تخويف أو حبس أو تهديد فلا حد عليه. " (1)
نعم، يجوز حبس المتهم لكشف الحق أو أدائه في حقوق الناس ولا سيما في الدم مع
احتمال فراره وعدم التمكن منه:
ففي الوسائل بسند لا بأس به، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " إن

1 - الوسائل 18 / 497، الباب 7 من أبواب حد السرقة، الحديث 2.
584

النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يحبس في تهمة الدم ستة أيام، فإن جاء أولياء المقتول بثبت وإلا
خلى سبيله. " (1)
وقد مر في فصل الحبس والسجن أخبار مستفيضة في هذا المجال، فراجع. وإن كان
الحكم في غير الدم لا يخلو من إشكال كما مر، فراجع. هذا مع التهمة والاحتمال.
وأما إذا علم الحاكم أنه يوجد عند الشخص اطلاعات نافعة في حفظ النظام ورفع
الفتنة أو في تقوية الإسلام أو في إحقاق حقوق المسلمين بحيث يحكم العقل والشرع
بوجوب الإعلام عليه وكان وجوبه واضحا بينا له أيضا وهو مع ذلك يكتم الشهادة عنادا
جاز حينئذ تعزير المتهم للكشف والإعلام فقط من دون أن يترتب على اعترافه
المجازاة، لما عرفت من جواز التعزير على ترك الواجب مطلقا، والمفروض أن الإعلام
واجب عليه.
وأما في مثل الزنا واللواط وشرب الخمر ونحو ذلك من حقوق الله المحضة
فلا يجب على المرتكب إظهارها، وليس للحاكم أيضا تهديده أو تعزيره لذلك، بل اللازم
في مثلها هو الستر والتوبة إلى الله - عز وجل -.
فهذا ملخص ما ذكرناه هناك، والتفصيل يطلب من ذلك المقام فقد عقدنا هناك خمس
مسائل في هذا المجال، فراجع.
ولا يخفى أن تشخيص موارد وجوب الإخبار والإعلام بحيث يصح تعزير الشخص
لذلك، وكيفية التعزير ونوعه المناسب لهذا الشخص ومقداره اللازم أمور دقيقة لا يجوز
تفويضها إلا إلى من يكون أهلا للتشخيص وواجدا للشرائط التي مرت من العقل والفطنة
والصدق والأمانة مع نوع من الشفقة والرحمة، وإلا حصل الطغيان والتعدي وصار في
المآل فاجعة على الدولة والأمة، فتدبر.

1 - الوسائل 19 / 121، الباب 12 من أبواب دعوى القتل، الحديث 1.
585

السادس:
لا يتوقف اتخاذ الشخص عينا ومراقبا على كونه فارغا لا شغل له، بل الملاك كونه
خبيرا أهلا لذلك واجدا للشرائط التي أشرنا إليها، فيمكن أن يستفاد لهذه المسؤولية من
نواب مجلس الشورى الواقفين على حالات الناخبين لهم وكذلك بعض المسؤولين و
أئمة الجمعة والجماعات والخطباء والأساتذة والمحصلين وبعض الكسبة والسائقين و
نحو ذلك فضلا عن مثل رؤساء العشائر والقبائل.
بل الأولى والأحوط لبيت المال أن يستفاد لذلك من بعض المتطوعين المخلصين، فإن
استخدام أفراد كثيرين من بيت المال وتحميل ميزانية كثيرة على عاتق المسلمين خسارة
عظيمة عليهم، فمهما أمكن تحصيل المطلوب بأقل ما يتوقف عليه من صرف المال و
الوقت وجب ذلك. والناس إذا آمنوا بدولتهم صاروا عمالا متطوعين لها مع الإيمان و
الإخلاص وتعاضدت الدولة والأمة واشتد أمر الملك، فالعمدة تحصيل رضا الناس و
إيمانهم بالحكومة وخططها، وهذه نكتة مهمة يجب أن يلتفت إليها كل من يريد بقاء
الملك والدولة.
السابع:
هل يرتبط جهاز الاستخبارات الإسلامي بالسلطة التنفيذية ويكون جزء منها، أو
بالسلطة القضائية، أو بالإمام مباشرة؟ في المسألة وجوه:
وربما يؤيد الاحتمال الأول، بأن إدارة الملك تكون على عهدة رئيس الدولة و
وزرائه، والوزارات المختلفة تحتاج إلى الاستخبارات لمراقبة العدو الخارجي و
الداخلي والموظفين من قبلها وأوضاع الناس وشكاياتهم.
586

فإن قلت: الإمام هو المسؤول الأعظم كما مر بيانه في الفصل الثالث من الباب، و
السلطات الثلاث أعوانه وأعضاده، فيجب أن يكون جهاز الاستخبارات في خدمته
ليراقب بسببه السلطات الثلاث بفروعها ويراقب الأمة أيضا.
قلت: كونه جزء من السلطة التنفيذية لا يمنع عن مباشرة الإمام بمسؤوله وأن يأمره
بأوامره، أو يأمره بتشكيل شعبة خاصة تكون تحت اختيار الإمام مباشرة فإن الكل عمال
له ويكونون تحت سلطته وأمره.
ويؤيد الاحتمال الثاني: أن للاستخبارات مساسا خاصا بأعمال السلطة القضائية، و
كأن جهاز الاستخبارات ضابط من ضباطها، فإن المتخلفين في جميع الشعب يرجع
أمرهم في النهاية إلى جهاز القضاء وليس لجهاز الاستخبار أيضا القبض على المتهمين و
التحقيق منهم إلا بإجازة السلطة القضائية.
ويؤيد الاحتمال الثالث، إن مراقبة رئيس الدولة ووزرائه بفروعها المختلفة من أهم
شعب الاستخبار، والمناسب أن تكون العين المراقبة غير من يراقب بل أعلى منه و
مستولية عليه، ولعل السلطة التنفيذية تأبى غالبا من انكشاف أخطائها وانحرافاتها، أو
حاجات الناس وشكاياتهم عنها فلا يظهرون الواقعيات للإمام ويجعلونه في اشتباه و
غفلة عما يقع في الدوائر وفي المجتمعات، وربما يقلبون الحقائق عنده لئلا يظهر
تقصيرهم أو ضعفهم، وفي ذلك خسارة عظيمة على الدولة والأمة معا، بل ربما يخاف
منه ثورة الناس وسقوط الدولة.
أقول: والأنسب الأولى هو اختيار الثالث، لأن الإمام هو الأصل في الحكومة
الإسلامية وهو الحاكم والمسؤول حقيقة، ومسؤولية البقية من فروع مسؤوليته، فيكون
هو إلى الاستخبارات أحوج، فالأنسب أن تكون الاستخبارات مرتبطة به مباشرة وهو
يأمر جهاز الاستخبار بالتفاهم مع سائر الأجهزة.
587

ويحتمل أيضا تعدد أجهزة الاستخبار، فما يختص بمراقبة الأعداء بشعبتيه يشترك
بين الإمام والدولة ويجعل للإمام أيضا جهاز استخباري مستقل يراقب به المسؤولين و
الأمة، ولرئيس الدولة ووزرائه أيضا جهاز يخصه.
ويؤيد ذلك ما مر من أمر أمير المؤمنين (عليه السلام) مالكا ببعث العيون على عماله مع ما ظهر
من أن الإمام بنفسه أيضا كان له عيون تخبره.
وكيف كان فالإمام الذي هو الأصل والمسؤول في الحكومة لا مناص له عن الاطلاع
التام على عماله وأمته.
قال المسعودي في مروج الذهب:
" ذكر المقري قال: سئل بعض شيوخ بني أمية ومحصليها عقيب زوال الملك عنهم إلى
بني العباس: ما كان سبب زوال ملككم؟ قال: إنا شغلنا بلذاتنا عن تفقد ما كان تفقده
يلزمنا، فظلمنا رعيتنا فيئسوا من إنصافنا وتمنوا الراحة منا، وتحومل على أهل خراجنا
فتخلوا عنا، وخربت ضياعنا فخلت بيوت أموالنا، ووثقنا بوزرائنا فآثروا مرافقهم على
منافعنا، وامضوا أمورا دوننا، أخفوا علمها عنا، وتأخر عطاء جندنا فزالت طاعتهم لنا، و
استدعاهم أعادينا فتظافروا معهم على حربنا، وطلبنا أعداءنا فعجزنا عنهم لقلة أنصارنا،
وكان استتار الأخبار عنا من أوكد أسباب زوال ملكنا. " (1)
أقول: فتأمل في هذه الجملات ولا سيما الجملة الأخيرة، وعليك بتطبيقها على جميع
الأصقاع والأزمنة.
الثامن:
في آخر فصل الاستخبارات نلفت نظر القارئ الكريم إلى ما لوحنا إليه أولا

1 - مروج الذهب 2 / 194.
588

من أن الهدف من جهاز الاستخبارات في الدولة الإسلامية ليس إلا حفظ مصالح
الإسلام والمسلمين وتحكيم نظام العدل وتطمين النفوس وحفظ الحقوق، لا الحفاظ
على منافع الرؤساء والزعماء وتحكيم سلطتهم كيف ما كانوا وأرادوا ولو بإخماد
أصوات الأمة المظلومة وخنقهم وكبت حرياتهم المشروعة، كما قد يتوهم ذلك من
سماع هذا اللفظ بقياسه على أجهزة الأمن والاستخبارات الرائجة فعلا في أكثر البلاد
الإسلامية وغيرها من بلاد العالم الثالث.
وعمدة ما أوجب الفساد في أجهزة الأمن الرائجة هي الأمور التالية:
1 - فساد نفس الحاكم، حيث يعتمد في حكمه على إرادة القوى الأجنبية الكافرة،
لاعلى إرادة الشعب المسلم واختياره طبقا للضوابط الإسلامية. فيكون مصدرا للفساد و
تضييع الحقوق وتضعيف الإسلام والمسلمين وتقوية خطط الكفر، وينعكس ذلك في
جميع أجهزة حكمه ولا سيما جهاز أمنه واستخباراته، فيأخذون الناس بالتهمة والظنة و
يعذبونهم بأنواع العذاب يهتكون حرمات المسلمين ويقتلون النفوس المحترمة، ويوجد
كل ذلك على أساس خطط الكفر والضلال وإن تسموا باسم الإسلام.
وأما الحاكم الذي يقوم حكمه على أساس الإسلام وإرادة المسلمين فلا محالة يجب
أن يكون جهاز أمنه واستخباراته جهاز أمن وتطمين للمسلمين الملتزمين بموازين
الإسلام بلا تخويف وإرهاب، وأن يكون الأصل المحكم عند مسؤوله وموظفيه حب
المسلمين وحسن الظن بهم وحمل أعمالهم على الصحة إلى أن يثبت العكس بدليل
شرعي صحيح. كما أمر الله - تعالى - في الكتاب الكريم بقوله: " يا أيها الذين آمنوا،
اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم. ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا. " (1)
وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث. ولا تحسسوا و
لا تجسسوا ولا تناجشوا. " (2)

1 - سورة الحجرات (49)، الآية 12.
2 - تفسير القرطبي 16 / 331.
589

وقد مر كثير من الأحاديث في هذا المجال في أول الفصل فراجع.
كيف؟! وسيرة إمام المسلمين سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد قال الله - تعالى - في حقه:
" لقد جاءكم رسول من أنفسكم، عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم، بالمؤمنين رؤوف
رحيم. " (1)
فكذلك يجب أن تكون سيرة عماله والموظفين من قبله.
2 - إن أجهزة الأمن والاستخبارات الموجودة فعلا في البلاد الإسلامية والعالم
الثالث مقلدة لأجهزة الاستخبارات الغربية والشرقية في ثقافتها وتشكيلاتها وأعمالها.
ولما كان الجو الحاكم عند هؤلاء هو معاداة الشعوب الإسلامية والمستضعفين و
استخدام أجهزتهم لخنق أصواتها سرى ذلك إلى الحكام المقلدين لهم وإلى أجهزة
استخباراتهم.
بينما يتعين على الجهاز الإسلامي أن يكون إسلاميا في ثقافته وأساليب عمله و
تشكيلاته، وأن يحذر عن تقليد أعداء الإسلام حتى في تسمياته، حيث إن الأسامي
تكون مرايا للمسميات قهرا.
3 - إن الموظفين في جهاز الأمن والاستخبارات في أكثر البلاد ينتخبون غالبا من بين
الأشخاص الفاسدين المفسدين البعيدين عن موازين الشرع والأخلاق، فيصير الجو
الحاكم على الاستخبارات هو الفساد والخديعة والغدر والكذب والإرهاب والتعذيب
وغيرها من الأخلاق والأعمال الفاسدة.
بينما يجب أن يكون مسؤول الجهاز الإسلامي وجميع موظفيه من خواص المتدينين
المتعبدين من أهل الصدق والوفاء والأمانة والعقل والفطنة، المتخلقين بالأخلاق
الفاضلة الإسلامية، كما مر.
4 - إن هدف أجهزة الأمن والاستخبارات في البلاد ومحور عملها هو حفظ الحكام و
شخص الحاكم الأعظم وتحكيم سلطته كيف ما كان، فكل الأمور توزن عندهم بهذا
الميزان فقط، ولا عبرة عندهم بغير ذلك من الموازين الشرعية

1 - سورة التوبة (9)، الآية 128.
590

والأخلاقية.
ولكن جهاز الاستخبارات في الدولة الإسلامية يجب أن يتقيد بالموازين الشرعية و
المعايير الأخلاقية. والهدف منه كما مر ليس إلا حفظ مصالح الإسلام والمسلمين و
تحكيم نظام العدل والإنصاف. وإن كان من أهم المصالح أيضا حفظ حريم الإمام في
إطار حفظ الإسلام ومقرراته، فتدبر.
591

الفصل التاسع
هل يثبت الهلال بحكم الإمام والوالي أم لا؟
أقول: يثبت الهلال عندنا بالرؤية، وبالشياع المفيد للعلم أو الاطمينان، بل بالعلم من
أي طريق حصل، وبشهادة عدلين إجمالا وإن لم تكن عند الحاكم، وبمضي ثلاثين من
الشهر السابق، وكذا بحكم الإمام المعصوم بلا إشكال.
وهل يثبت بحكم الحاكم الشرعي غير المعصوم مطلقا، أو لا يثبت مطلقا، أو يفصل
بين ما إذا ثبت له بشاهدين وبين ما إذا ثبت له برؤيته أو بعلمه؟
وعلى فرض الثبوت فهل يقتصر فيه على الإمام والوالي الأعظم أو يكفي الفقيه
المنصوب من قبله لعمل أو قضاء، أو يكفي في ذلك أي فقيه كان وإن لم يكن متصديا
لعمل أو قضاء؟ في المسألة وجوه.
قال في الحدائق ما ملخصه:
" قد صرح جملة من الأصحاب منهم العلامة وغيره بأنه لا يعتبر في ثبوت الهلال
بالشاهدين في الصوم والفطر حكم الحاكم; بل لو رآه عدلان ولم يشهدا عند الحاكم
وجب على من سمع شهادتهما وعرف عدالتهما الصوم أو الفطر...
والظاهر أن هذا الحكم لا ريب فيه ولا إشكال. وإنما الإشكال في أنه هل يجب
593

على المكلف العمل بحكم الحاكم الشرعي متى ثبت ذلك عنده وحكم به أم لابد من
سماعه بنفسه من الشاهدين؟
ظاهر الأصحاب الأول بل زاد بعضهم كما سيأتي الاكتفاء برؤية الحاكم الشرعي. و
يظهر من بعض أفاضل متأخري المتأخرين العدم، قال: إنه لا يجب على المكلف العمل
بما ثبت عند الحاكم الشرعي هنا، بل إن حصل الثبوت عنده وجب عليه العمل بمقتضى
ذلك وإلا فلا. وظاهر كلامه إجراء البحث في غير مسألة الرؤية أيضا، حيث قال: فلو
ثبت عند الحاكم غصبية الماء فلا دليل على أنه يجب على المكلف الاجتناب عنه، وكذا
لو حكم بأنه دخل الوقت في زمان معين. " (1) انتهى كلام الحدائق.
أقول: ظاهر إسناده القول الأول إلى ظاهر الأصحاب كونه مشهورا عندهم، ولكنه -
قدس سره - بعد التعرض لأدلته والمناقشة فيها قال: " المسألة عندي موضع توقف و
إشكال. "
والفاضل النراقي أيضا تعرض للمسألة في المستند وتبع الحدائق في الإشكال فيها
بل قوى العدم. (2)
وقال الشهيد في الدروس:
" وهل يكفي قول الحاكم وحده في ثبوت الهلال؟ الأقرب نعم. " (3)
وظاهر كلامه عدم الفرق بين أنحاء مستند الحكم فيشمل رؤية الحاكم وعلمه أيضا.
وفي المدارك:
" هل يكفي قول الحاكم الشرعي وحده في ثبوت الهلال؟ فيه وجهان: أحدهما نعم، و
هو خيرة الدروس لعموم ما دل على أن للحاكم أن يحكم بعلمه، وبأنه

1 - الحدائق الناضرة 13 / 258.
2 - مستند الشيعة 2 / 132.
3 - الدروس / 77.
594

لو قامت عنده البينة فحكم بذلك وجب الرجوع إلى حكمه كغيره من الأحكام، والعلم
أقوى من البينة، ولأن المرجع في الاكتفاء بشهادة العدلين وما يتحقق به العدل
(العمل. ظ) إلى قوله فيكون مقبولا في جميع الموارد. ويحتمل العدم لإطلاق قوله (عليه السلام):
" لا أجيز في رؤية الهلال إلا شهادة رجلين عدلين. " (1)
وظاهر كلامه المفروغية من الثبوت بحكمه المستند إلى شهادة العدلين.
وفي كفاية السبزواري:
" وفي قبول قول الحاكم الشرعي وحده في ثبوت الهلال وجهان: أحدهما نعم وهو
خيرة الدروس وهو غير بعيد. " (2)
وفي كشف الغطاء:
" سادسها: حكم الفقيه المجتهد المأمون بالنسبة إلى مقلديه سواء حكم برؤية أو بينة أو
غيرهما. " (3)
وفي الجواهر:
" كما أن الظاهر ثبوته بحكم الحاكم المستند إلى علمه، لإطلاق ما دل على نفوذه وأن
الراد عليه كالراد عليهم (عليهم السلام) من غير فرق بين موضوعات المخاصمات وغيرها كالعدالة
والفسق والاجتهاد والنسب ونحوها. " (4)
وفي العروة الوثقى في بيان طرق ثبوت هلال رمضان وشوال قال:
" السادس: حكم الحاكم الذي لم يعلم خطأه ولا خطأ مستنده. " (5)
ولم يفرق بين كون مستند حكمه البينة أو الرؤية أو غيرهما.
وفي الفقه على المذاهب الأربعة:
" لا يشترط في ثبوت الهلال ووجوب الصوم بمقتضاه على الناس حكم الحاكم،

1 - مدارك الاحكام / 370.
2 - كفاية الأحكام / 52.
3 - كشف الغطاء / 325.
4 - جواهر الكلام 16 / 359.
5 - العروة الوثقى، كتاب الصوم، فصل في طرق ثبوت هلال رمضان وشوال.
595

ولكن لو حكم بثبوت الهلال بناء على أي طريق في مذهبه وجب الصوم على عموم
المسلمين ولو خالف مذهب البعض منهم، لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف، وهذا متفق
عليه إلا عند الشافعية. "
وفي ذيل الخط:
" الشافعية قالوا: يشترط في تحقيق الهلال ووجوب الصوم بمقتضاه على الناس أن
يحكم به الحاكم، فمتى حكم به وجب الصوم على الناس ولو وقع حكمه عن شهادة عدل
واحد. " (1)
أقول: ظاهر الصدر رجوع استثناء الشافعية إلى الحكم الثاني، أعني حجية حكم
الحاكم، ومقتضاه عدم حجيته عندهم ولكن بملاحظة الذيل يظهر رجوع الاستثناء إلى
الحكم الأول، أعني عدم اشتراط حكم الحاكم في الشهادة ونحوها من الأمارات. وعلى
هذا فحجية الحكم متفق عليه عندهم.
فهذه بعض كلمات المتأخرين ولكن بعد الرجوع إلى عدة من كتب الفقه من الشيعة و
السنة في باب الصوم نرى أن مسألة حجية حكم الحاكم ووجوب العمل بحكمه في
الهلال غير معنونة في كثير من الكتب ولم يتعرضوا لها في عرض سائر الأمارات مع كثرة
الابتلاء بها في الصوم والفطر والحج في جميع الأعصار.
نعم، يظهر من فحوى كلماتهم في باب ما يثبت به الهلال أن حجيته كأنها كانت مفروغا
عنها عندهم، حيث ذكروا أن البينة أو العدل الواحد على القول باعتباره هل يعتبران مطلقا
لكل أحد أو يتوقف اعتبارهما على حكم الحاكم؟ فأصحابنا وأكثر علماء السنة اعتبروا
البينة لكل أحد وقالوا إنه لا يشترط حكم الحاكم في حق من قامت عنده، وحكى عن
الشافعية اعتبار حكمه. ولكن كان المناسب البحث في أصل المسألة أيضا، وكأنهم تركوا
البحث فيها هنا لعدم كون حكم الحاكم في عرض سائر الأمارات بل في طولها ومستندا
إلى أحدها أو أن محل

1 - الفقه على المذاهب الأربعة 1 / 551.
596

البحث في اختيارات الحاكم وحجية حكمه وموارد نفوذه كتاب الإمارة أو القضاء.
هذا.
ولكن لا أظن كون الاعتذارين مبررين لترك عنوان المسألة في باب الصوم من الفقه،
فتدبر.
وكيف كان فهل ينفذ حكم الحاكم في الهلال أم لا؟ ذكروا في المسألة أقوالا ثالثها
التفصيل بين ما إذا استند إلى البينة، وبين ما إذا استند إلى رؤية الحاكم وعلمه كما مر من
المدارك.
واستدل القائل بعدم الحجية كما في المستند (1) بالأصل، وبالأخبار الكثيرة المعلقة
للصوم والفطر على الرؤية أو الشاهدين أو مضى ثلاثين الظاهرة في الحصر، وبالأخبار
الناهية عن اتباع الشك والظن في أمر الهلال، ومعلوم أن حكم الحاكم لا يفيد أزيد من
الظن.
ويرد على ما ذكر أن الأصل لا يقاوم الدليل إن ثبت. وظهور الأخبار في الحصر
ممنوع، ومفهومها من قبيل مفهوم اللقب، والحصر الظاهر في قول الصادق (عليه السلام): " إن عليا
كان يقول: لا أجيز في الهلال إلا شهادة رجلين عدلين " (2)، حصر إضافي في قبال شهادة
النساء وشهادة العدل الواحد، كما هو واضح.
ومع قيام الدليل على اعتبار الحكم صارت حجيته قطعية كسائر الأمارات المعتبرة،
فلا يشمله ما دل على النهي عن اتباع الظن.
ولعل عدم تعرض الأخبار هنا له لكونه في طول سائر الأمارات ومستندا إليها.
فالعمدة إقامة الدليل على اعتبار الحكم في المقام وأمثاله.
واستدل القائل بالحجية بإطلاق الأخبار الدالة على وجوب الرجوع

1 - مستند الشيعة 2 / 132.
2 - الوسائل 7 / 207، الباب 11 من أبواب أحكام شهر رمضان، الحديث 1.
597

إلى الفقهاء المستند فقههم إلى أحاديث أهل البيت وقبول حكمهم، كقول الصادق (عليه السلام)
على ما في المقبولة: " فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا رد،
والراد علينا الراد على الله. " (1)
وقول صاحب الزمان - عجل الله فرجه - على ما في التوقيع: " وأما الحوادث الواقعة
فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم. " (2)
وأمر الهلال من أظهر الحوادث العامة الواقعة في جميع الأعصار.
إلى غير ذلك مما دل على وجوب الرجوع إلى نوابهم (عليهم السلام).
وبصحيحة محمد بن قيس، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " إذا شهد عند الإمام شاهدان أنهما
رأيا الهلال منذ ثلاثين يوما أمر الإمام بإفطار ذلك اليوم إذا كانا شهدا قبل زوال الشمس،
وإن شهدا بعد زوال الشمس أمر الإمام بإفطار ذلك اليوم وأخر الصلاة إلى الغد فصلى
بهم. " (3)
قال في الحدائق بعد التعرض لهذين الدليلين ما ملخصه:
" وأنت خبير بأن للمناقشة في ذلك مجالا، أما المقبولة ونحوها فإن المتبادر منها إنما
هو الرجوع فيما يتعلق بالدعاوى والقضاء بين الخصوم أو الفتوى في الأحكام الشرعية.
وأما صحيحة محمد بن قيس فالظاهر من لفظ الإمام فيها إنما هو إمام الأصل أو ما هو
الأعم منه ومن أئمة الجور وخلفاء العامة المتولين لأمور المسلمين.
نعم، للقائل أن يقول: إذا ثبت ذلك لإمام الأصل ثبت لنائبه لحق النيابة، إلا أنه لا يخلو
أيضا من شوب الإشكال لعدم الوقوف على دليل لهذه الكلية، وظهور أفراد كثيرة يختص
بها الإمام دون نائبه.
وبالجملة فالمسألة عندي موضع توقف وإشكال لعدم الدليل الواضح في وجوب

1 - الوسائل 18 / 99، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.
2 - الوسائل 18 / 101، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 9. كذا في كمال الدين ص
484 ط. قم، ولكن لم أجد في الوسائل المطبوع لفظة " عليهم ".
3 - الوسائل 7 / 199، الباب 6 من أبواب أحكام شهر رمضان، الحديث 1.
598

الأخذ بحكم الحاكم بحيث يشمل موضع النزاع.
ثم أنت خبير أيضا بأن ما ذكروه من العموم أنه لو ثبت عند الحاكم بالبينة نجاسة الماء
وحرمة اللحم ولم يثبت عند المكلف لعدم سماعه من البينة مثلا فإن تنجيس الأول و
تحريم الثاني بالنسبة إليه بناء على وجوب الأخذ عليه بحكم الحاكم ينافي الأخبار الدالة
على أن كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر، وكل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال
حتى تعلم الحرام بعينه فتدعه، حيث إنهم لم يجعلوا من طرق العلم في القاعدتين
المذكورتين حكم الحاكم بذلك وإنما ذكروا اخبار المالك وشهادة الشاهدين، وعلى
ذلك تدل الأخبار أيضا. " (1)
أقول: ما ذكره أخيرا من النقض بمثل نجاسة ماء أو حرمة لحم خاص ونحوهما من
الموضوعات الجزئية الشخصية غير وارد، فإن أمر الهلال المتوقف عليه صوم المسلمين
وعيدهم وحجهم ونحو ذلك يكون من الأمور المهمة العامة للمسلمين، وليس أمرا
جزئيا شخصيا بل هو أمر يبتلى به مجتمع المسلمين حينا بعد حين، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
وأمير المؤمنين (عليه السلام) والحكام والقضاة في جميع الأعصار يهتمون به وكان تحقيقه و
إثباته من وظائفهم التي يتولونها، ولم يكن بناء المسلمين على اعتزال كل شخص و
انفراده بصومه وفطره ووقوفه وإفاضته، بل كانوا يرجعون فيها إلى ولاة الأمر من
الحكام ونوابهم، كما يشهد بذلك السيرة المستمرة الباقية إلى أعصارنا والروايات
الكثيرة التي يأتي بعضها.
فأمور الحج مثلا كانت مفوضة إلى أمير الحاج المنصوب من قبل الخلفاء لذلك، وربما
كانوا هم بأنفسهم يتصدون لها والناس كانوا متابعين لهم، ولم يعهد أن يتخلف مسلم عن
أمير الحاج أو يسأل المسلمون حاكما عن مستند حكمه وأنه البينة أو العلم الشخصي
مثلا، وقد تحقق في محله جواز حكم الحاكم بعلمه.
فإذا منع الإمام الصادق (عليه السلام) في المقبولة عن الرجوع إلى قضاة الجور لكونهم

1 - الحدائق الناضرة 13 / 259.
599

طواغيت وجعل الفقيه من شيعته حاكما بدلهم لرفع حاجات الشيعة فيمكن أن يقال
بنفوذ حكمه في كل ما كان يرجع فيه إلى القضاة في تلك الأعصار والظروف ومنها كان
أمر الهلال قطعا كما هو كذلك في أعصارنا. وإذا أرجع صاحب العصر - عجل الله فرجه -
شيعته في الحوادث الواقعة لهم إلى رواة حديثهم فأي حادثة واقعة أهم وأشد ابتلاء من
أمر الهلال الذي يبتلى به في يوم واحد مجتمع المسلمين؟
اللهم إلا أن يقال: إن مورد السؤال في المقبولة هو المنازعات في مثل الدين و
الميراث فلا يعم مثل الهلال، وقال (عليه السلام): " فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه. " وكون حكمه
في الهلال هو حكمهم (عليهم السلام) أول الكلام، ولا يمكن إثباته بهذه الرواية، فإن الحكم لا يثبت
موضوع نفسه، فتأمل.
كما أن إرادة العموم في الحوادث الواقعة في التوقيع غير معلومة بعد كون الجواب
مسبوقا بسؤال غير مذكور، ولعل المسؤول عنه كان حوادث خاصة. والجواب أيضا
مجمل، حيث لا يعلم أن الإرجاع هل هو في حكم الحوادث فيدل على حجية الفتوى أو
فصلها وحسمها فيدل على نفوذ القضاء أو رفع إجمالها ليشمل المقام.
ويمكن دعوى انصرافها إلى خصوص الحوادث المهمة التي لا مخلص فيها إلا حكم
الحاكم وليس المقام منه لإمكان معرفة الهلال بغيره من الرؤية والشهود ونحوهما. هذا.
وأما ما ذكره في الحدائق من حمل لفظ الإمام في الصحيحة على إمام الأصل فهو
خلاف الظاهر جدا يظهر ذلك لمن تتبع موارد استعمال اللفظ في الأبواب المختلفة من
الفقه والحديث، كما مر كثير منها في الباب الثالث من هذا الكتاب، فراجع.
وقد عرفت سابقا أن أنس أذهان أصحابنا بإمامة الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) صار موجبا
لتوهم كون اللفظ موضوعا لهم أو منصرفا إليهم، مع أن لفظ الإمام وضع للقائد الذي يؤتم
به في الصلاة أو الجهاد أو الحج أو جميع الشؤون العامة بحق كان أو بباطل.
فقد أطلق الإمام الصادق (عليه السلام) اللفظ على أمير الحاج إسماعيل بن على حين
600

سقط هو (عليه السلام) من بغلته حين الإفاضة من عرفات فوقف عليه إسماعيل فقال له أبو
عبد الله (عليه السلام): " سر، فإن الإمام لا يقف. " (1)
وفي رسالة الحقوق لعلى بن الحسين (عليه السلام): " وكل سائس إمام. " (2)
وبالجملة فالإمام هو القائد في شأن عام أو جميع الشؤون العامة. والمراد به هنا
الحاكم العدل وإن لم يكن معصوما كما يقتضيه إطلاق اللفظ، وإن كانت الأئمة الاثنا عشر
مع ظهورهم أحق بهذا المنصب الشريف عندنا.
وقد عرفت بالتفصيل أن الإمامة وشؤونها داخلة في نسج الإسلام ونظامه وأنها
لا تتعطل في عصر من الأعصار. وتحقيق الهلال وإثباته وتعيين تكليف المسلمين في
صيامهم وعيدهم ووقوفهم من أهم الوظائف العامة.
وقد تصدى لأمر الهلال وتعيين تكليف المسلمين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في عصره بما أنه كان
حاكما عليهم وكذلك أمير المؤمنين وجميع الخلفاء:
1 - ففي سنن أبي داود بسنده عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: " جاء أعرابي إلى
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: إني رأيت الهلال - قال الحسن في حديثه: يعني رمضان - فقال (صلى الله عليه وآله وسلم):
أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم. قال: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم. قال (صلى الله عليه وآله وسلم):
يا بلال، أذن في الناس فليصوموا غدا. " (3)
2 - وعن عكرمة:
" أنهم شكوا في هلال رمضان مرة فأرادوا أن لا يقوموا ولا يصوموا، فجاء أعرابي من
الحرة فشهد أنه رأى الهلال، فأتي به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: " أتشهد أن لا إله إلا الله وأني
رسول الله؟ " قال: نعم، وشهد أنه رأى الهلال، فأمر بلالا فنادى في الناس أن يقوموا وأن
يصوموا. " (4)

1 - الوسائل 8 / 290، الباب 26 من أبواب آداب السفر.
2 - الخصال للصدوق / 565 (الجزء 2)، أبواب الخمسين، الحديث 1.
3 - سنن أبي داود 1 / 547، كتاب الصيام، باب في شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان.
4 - سنن أبي داود 1 / 547، كتاب الصيام، باب في شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان.
601

والخبران يرجعان إلى خبر واحد، ولعل ابن عباس سقط من الثاني.
3 - وعن ابن عمر، قال:
" ترائى الناس الهلال فأخبرت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أني رأيته " فصام وأمر الناس
بصيامه. " (1)
ولعل شهادة الأعرابي أو ابن عمر كانت محفوفة بقرائن خارجية توجب الوثوق أو
الاطمينان، مضافا إلى ما للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من العلم والإحاطة، فلا تنافي هذه الروايات لما
دل على اعتبار التعدد في الشاهد.
والتفصيل بين هلال رمضان وهلال شوال بكفاية الواحد في الأول دون الثاني كما
عن بعض فقهاء السنة ممنوع عند المشهور من أصحابنا. والتحقيق موكول إلى محله.
4 - وعن رجل من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
" اختلف الناس في آخر يوم من رمضان فقدم أعرابيان فشهدا عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالله
لأهلا الهلال أمس عشية، فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الناس أن يفطروا وأن يغدوا إلى
مصلاهم. " (2)
5 - وفي المحلى لابن حزم: " روينا من طريق أبي عثمان النهدي، قال: قدم على
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أعرابيان، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) " أمسلمان أنتما؟ قالا: نعم. فأمر الناس
فأفطروا أو صاموا. " (3)
6 - وروى ابن ماجة بسنده عن أبي عمير بن أنس بن مالك، قال:
" حدثني عمومتي من الأنصار من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قالوا: " أغمي علينا هلال
شوال فأصبحنا صياما فجاء ركب من آخر النهار فشهدوا عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنهم رأوا الهلال
بالأمس، فأمرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يفطروا وأن يخرجوا إلى

1 - سنن أبي داود 1 / 547، كتاب الصيام، باب في شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان.
2 - سنن أبي داود 1 / 546، كتاب الصيام، باب شهادة رجلين...
3 - المحلى لابن حزم 3 / 237 (الجزء 6)، المسألة 757.
602

عيدهم من الغد. " (1)
وروى هذا الخبر بعينه في المصنف، وفيه:
" فأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الناس أن يفطروا من يومهم وأن يخرجوا لعيدهم من الغد. " (2)
7 - وفي الجواهر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" أن ليلة الشك أصبح الناس فجاء أعرابي إليه فشهد برؤية الهلال فأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
مناديا ينادي من لم يأكل فليصم، ومن أكل فليمسك. " (3)
ولم أجد الرواية كذلك في كتب السنة ولكن في صحيح مسلم:
" بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رجلا من أسلم يوم عاشوراء فأمره أن يؤذن في الناس من كان
لم يصم فليصم ومن كان أكل فليتم صيامه إلى الليل. " (4)
8 - وفي الوسائل عن حماد بن عيسى، عن عبد الله بن سنان، عن رجل، قال: " صام
على (عليه السلام) بالكوفة ثمانية وعشرين يوما شهر رمضان فرأوا الهلال فأمر مناديا ينادي
اقضوا يوما فإن الشهر تسعة وعشرون يوما. " (5)
9 - وفي أم الشافعي بسنده عن فاطمة بنت الحسين:
" أن رجلا شهد عند على (عليه السلام) على رؤية هلال رمضان فصام، وأحسبه قال: وأمر
الناس أن يصوموا. " (6)
فيظهر من هذه الروايات أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) كانا يتصديان لأمر
الهلال وصوم المسلمين وعيدهم، ويحكمان عليهم بالصوم والفطر بعد ما ثبت الهلال
عندهما. واحتمال كون ذلك من خصائص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين (عليه السلام) واضح
البطلان لمن ثبت له عدم تعطيل الإمامة وشؤونهما في عصر

1 - سنن ابن ماجة 1 / 529، كتاب الصيام الباب 6، الحديث 1653.
2 - المصنف لعبد الرزاق 4 / 165، كتاب الصيام، باب أصبح الناس صياما وقد رئي الهلال،
الحديث 7339.
3 - الجواهر 16 / 197.
4 - صحيح مسلم 2 / 798، كتاب الصيام، باب أكل في عاشوراء...، الحديث 1135.
5 - الوسائل 7 / 214، الباب 14 من أبواب أحكام شهر رمضان، الحديث 1.
6 - الأم للشافعي 2 / 80.
603

الغيبة وعدم جواز إهمال الشرع لهذا الأمر الخطير المبتلى به في جميع الأعصار. ولنا
في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أسوة حسنة فيجب التأسي به فيما لم يثبت اختصاصه به وكذلك
الأئمة (عليهم السلام).
10 - ومضت صحيحة محمد بن قيس، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " إذا شهد عند الإمام
شاهدان أنهما رأيا الهلال منذ ثلاثين يوما أمر الإمام بإفطار ذلك اليوم. " (1)
11 - وفي رواية رفاعة، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " دخلت على أبي
العباس بالحيرة فقال: يا أبا عبد الله، ما تقول في الصيام اليوم؟ فقلت: ذاك إلى الإمام إن
صمت صمنا، وإن أفطرت أفطرنا. فقال: يا غلام، على بالمائدة فأكلت معه وأنا أعلم
والله أنه يوم من شهر رمضان، فكان إفطاري يوما وقضاؤه أيسر على من أن يضرب
عنقي ولا يعبد الله. " (2)
وكون الإمام - عليه السلام - في ظرف التقية لا يوجب حمل قوله (عليه السلام): " ذاك إلى
الإمام " على التقية، فإنه كبرى كلية لم يكن ضرورة في بيانها لو لم تكن حقا، والضرورات
تتقدر بقدرها. وقضاؤه (عليه السلام) لا ينافي صحة العبادة المأتي بها عن تقية، فإن ترك الصوم
ليس عملا وجوديا حتى يجزي عن الصوم الواجب.
12 - وفي رواية أخرى قال (عليه السلام): " فدنوت فأكلت، وقلت: الصوم معك والفطر
معك. " (3)
13 - وفي رواية ثالثة: " ما صومي إلا بصومك ولا إفطاري إلا بإفطارك. " (4)
14 - وعن الصدوق بإسناده عن عيسى بن أبي منصور أنه قال: " كنت عند أبي
عبد الله (عليه السلام) في اليوم الذي يشك فيه، فقال (عليه السلام): يا غلام، اذهب فانظر أصام

1 - الوسائل 7 / 199، الباب 6 من أبواب أحكام شهر رمضان، الحديث 1.
2 - الوسائل 7 / 95، الباب 57 من أبواب ما يمسك عنه الصائم...، الحديث 5.
3 - الوسائل 7 / 95، الباب 57 من أبواب ما يمسك عنه الصائم...، الحديث 4.
4 - الوسائل 7 / 95، الباب 57 من أبواب ما يمسك عنه الصائم...، الحديث 6.
604

السلطان أم لا. فذهب ثم عاد فقال: لا، فدعا بالغداء فتغدينا معه. " (1)
وسند الصدوق إلى ابن أبي منصور صحيح وهو أيضا ثقة.
ودلالة هذه الأخبار الكثيرة على أن أمر الهلال كان بيد الحاكم الإسلامي وأنه كان
من شؤون الحكومة واضحة. والناس كانوا متابعين لها في الصوم والفطر والحج، فكان
للناس رمضان واحد وعيد واحد وموقف واحد وكان نظامها بيد الحاكم دفعا للاختلاف
والهرج والمرج.
وفي الجواهر:
" إن احتمال العدم مناف لإطلاق الأدلة وتشكيك فيما يمكن تحصيل الإجماع عليه
خصوصا في أمثال هذه الموضوعات العامة التي هي من المعلوم الرجوع فيها إلى
الحكام، كما لا يخفى على من له خبرة بالشرع وسياسته وبكلمات الأصحاب في
المقامات المختلفة. " (2)
15 - وفي رواية أبي الجارود قال: " سألت أبا جعفر (عليه السلام): أنا شككنا سنة في عام من
تلك الأعوام في الأضحى فلما دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) وكان بعض أصحابنا يضحي
فقال (عليه السلام): الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحي الناس، والصوم يوم يصوم
الناس. " (3)
16 - وفي كنز العمال عن الترمذي، عن عائشة:
" الفطر يوم يفطر الناس والأضحى يوم يضحي الناس. " (4)
17 - وروى الترمذي بسنده عن أبي هريرة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " الصوم يوم تصومون
والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون. "
قال الترمذي:

1 - الوسائل 7 / 94، الباب 57 من أبواب ما يمسك عنه الصائم...، الحديث 1.
2 - الجواهر 16 / 360.
3 - الوسائل 7 / 95، الباب 57 من أبواب ما يمسك عنه الصائم...، الحديث 7.
4 - كنز العمال 8 / 489، الباب 1 من كتاب الصوم من قسم الأقوال، الحديث 23763.
605

" فسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال: إنما معنى هذا: الصوم والفطر مع الجماعة و
عظم الناس. " (1)
وهذه الروايات وإن ضعف أكثرها من جهة السند ولكن الوثوق والاطمينان بصدور
بعضها مضافا إلى صحة البعض يكفي لإثبات أن أمر الهلال لم يكن أمرا فرديا بل كان من
الأمور العامة التي كان الحاكم الإسلامي مصدرا لها وأمرا جماعيا كان الحاكم نظاما له.
والسيرة المستمرة أيضا شاهدة على ذلك فكان الحاكم في جميع الأعصار مرجعا
للناس في صومهم وفطرهم، وكان أمير الحاج المنصوب من قبل الإمام يأمر بالوقوف و
الإفاضة، والناس يتبعونه.
وقد عد الماوردي خمسة تكاليف لأمير الحاج فقال:
" أحدها: إشعار الناس بوقت إحرامهم والخروج إلى مشاعرهم ليكونوا له متبعين و
بأفعاله مقتدين. " وذكر مثله أبو يعلى. (2)
وكان أئمتنا المعصومون - عليهم السلام - وأصحابهم أيضا في مدة أكثر من مأتي سنة
يحجون في جماعة الناس، ولم يعهد ولم ينقل تخلفهم عن الناس في الوقوف والإفاضة
والنحر وسائر الأعمال، ولو كان لبان ونقله المؤرخون والأصحاب.
واحتمال اتفاقهم مع الناس ومع أمير الحاج في رؤية الهلال بأنفسهم في جميع هذه
السنين بعيد جدا.
وبذلك يظهر اجتزاء العمل بحكم الحاكم من أهل الخلاف أيضا ولا أقل في صورة
عدم العلم بالخلاف.
وقد مر سابقا أن الحج لم يكن بدون أمير الحاج المنصوب لذلك، المتبوع في جميع
المواقف.
وقد عقد المسعودي في آخر مروج الذهب بابا لتسمية من حج بالناس من سنة

1 - سنن الترمذي 2 / 102، أبواب الصوم، الباب 11، الحديث 693.
2 - الأحكام السلطانية / 110، باب ولاية الحج. والأحكام السلطانية لأبي يعلى / 112، فصل
ولاية الحج.
606

ثمان من الهجرة إلى سنة خمس وثلاثين وثلثمأة، فراجع. (1)
فروع:
الأول: لا يخفى أن الدليل على حجية حكم الحاكم في باب الهلال إن كان هو المقبولة
أو التوقيع الشريف ونحوهما من العمومات فالموضوع فيها هو الفقيه من الشيعة المبتني
فقهه على الكتاب والسنة وأحاديث الأئمة (عليهم السلام)، فيعم كل فقيه واجد للشرائط سواء
تصدى للإمامة أو القضاء فعلا أ وكان منعزلا عنهما.
وأما إذا كان الدليل هو الأخبار الخاصة التي مرت فالموضوع فيها هو الإمام، و
الظاهر منه هو المتصدي فعلا لمقام الإمامة وزعامة المسلمين. فشمول الحكم لعماله في
البلاد وللقضاة المنصوبين من قبله محل إشكال.
وأشكل من ذلك الفقيه المنعزل عنهما فعلا وإن صلح لهما. اللهم أن يدعى ثبوت
الولاية الفعلية لكل فقيه وأن له كل ما كان للإمام بمقتضى أدلة ولاية الفقيه، ولكن نحن
ناقشنا في ذلك كما مر.
ولكن يمكن أن يقال: نحن نعلم أن إبلاغ حكم الخليفة والإمام الأعظم إلى سائر
الأمصار والبلاد في تلك الأعصار لم يكن يتيسر عادة، فإذا استنبطنا من هذه الروايات و
من السيرة المستمرة إلى اليوم أن بناء الشرع كان على توحيد كلمة المسلمين في أمر
الهلال وصومهم وعيدهم ومواقف حجهم فلا محالة يجب أن يتصدى لذلك في كل بلد
من ينوب عنه من العمال والقضاة كما هو المتعارف في أعصارنا في البلاد الإسلامية،
حيث يتصدى لأمر الهلال قاضي القضاة في كل بلد، ولا سيما إذا قلنا بأنه مع اختلاف
الآفاق يكون لكل بلد حكم نفسه كما هو المشهور والأقوى في المسألة.

1 - مروج الذهب 2 / 566.
607

والمناسب في باب الحج تصدي أمير الحجاج له وإن لم يكن نفس الإمام، فيجوز بل
يجب تصديهما له ولا سيما إذا فوض الإمام إليهما ذلك بالصراحة.
نعم، في النفس شيء بالنسبة إلى القضاة وهو أن الماوردي وأبا يعلى لم يذكرا ذلك في
عداد ما ذكراه من اختيارات القضاة، ولو كان الهلال أمرا مرتبطا بهم في تلك الأعصار
كان المناسب تعرضهما له كما تعرضا له في ولاية الحج كما مر. هذا.
وقد يقال: إنه يجب على الفقيه كفاية التصدي له إذا لم يكن الهلال واضحا للناس و
اختلفوا فيه، لأنه من الأمور الحسبية التي لا يجوز إهمالها، ولأنه باب من أبواب الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر ودفع الهرج والمرج. ويجب على الناس أيضا الرجوع
إليهم في ذلك، لأنه من الحوادث الواقعة التي أمروا بالرجوع فيها إلى رواة حديثهم.
أقول: مقتضى ذلك أن يجب مع عدم الفقيه تصدي عدول المؤمنين له ونفوذ حكمهم
فيه، والظاهر أنه لا يقول بذلك أحد، فتدبر.
الثاني: الحكم عبارة عن إنشاء الإلزام بشيء أو ثبوت أمر، ولا يتعين أن يقع بلفظ:
" حكمت " أو غيره من مشتقات هذه المادة أو ما يرادفه، بل يكفي فيه قوله: " اليوم من
رمضان أو شوال، أو يجب عليكم صوم اليوم أو الفطر فيه " ونحو ذلك مما هو حكم واقعا
وبالحمل الشائع، فاللازم واقع الحكم لا مفهومه. وفي كفاية قوله: " ثبت عندي " اشكال
إذ ظاهره الخبر لا الانشاء كما لا يخفى.
الثالث: ليس حكم الحاكم في الهلال وفي سائر الموضوعات على القول به ملحوظا
بنحو السببية في عرض الواقع ومغيرا له، بل هو طريق شرعي إلى الواقع وحجة عليه
كسائر الأمارات والطرق، فلا مجال له مع العلم بالواقع سواء أصابه أم أخطأه. نعم، في
باب المنازعات يجب التسليم لحكمه ظاهرا على المترافعين حسما
608

لمادة النزاع كما هو واضح.
وكذلك لا مجال للعمل به إذا علم بتقصير الحاكم في مقدمات حكمه، لسقوطه
بالتقصير عن أهلية الحكم، ولقول الصادق (عليه السلام) في المقبولة: " فإذا حكم بحكمنا. " إذ ليس
المراد به العلم بكون حكمه حكمهم - عليهم السلام - وإلا كان وجوب القبول لذلك لا لأنه
حكمه. بل المراد كون حكمه على أساس حكمهم وموازينه بأن يستند إلى الكتاب و
السنة الصحيحة في قبال من يستند إلى الأقيسة والاستحسانات الظنية فلا يصدق ذلك
على من قصر في مبادي حكمه، بل من غفل عنها ولو كان عن قصور، فتدبر.
الرابع: أن فتوى المجتهد حجة في حقه وحق مقلديه دون سائر المجتهدين. وأما
حكمه في الهلال ونحوه على فرض حجيته فلا ينحصر في حق مقلديه بل يعم المجتهدين
أيضا إذا أذعنوا باجتهاده وجامعيته لشرائط الحكم وعدم تقصيره في مباديه. وكذلك
حكمه في المرافعات ولو كانت الشبهة حكمية مختلفا فيها بين الفقهاء كما إذا اختلفا في
منجزات المريض مثلا وأنها من الأصل أو من الثلث فترافعا إليه فحكم بالأصل مثلا
فيكون حكمه نافذا حتى في حق من يرى أنها من الثلث، إذ حسم النزاع يقتضي وجوب
الأخذ بحكم الحاكم للمترافعين وإن خالف نظر أحدهما اجتهادا أو تقليدا.
وبالجملة فحكم الحاكم نافذ حتى في حق سائر المجتهدين إذ الإمام (عليه السلام) حكم في
التوقيع الشريف بكونهم حجة له - عليه السلام -، ومن الواضح أنه لا يجوز لأحد مخالفة
حجة الإمام - عليه السلام -.
ولدلالة المقبولة على وجوب قبوله وحرمة رده وأن رده ردهم - عليهم السلام -، و
إطلاقه يشمل المجتهد أيضا. ومورد المقبولة هو الشبهة الحكمية أو الأعم، كما لا يخفى
على من راجعها.
ولا ينتقض هذا بالفتوى، فإن الفتوى ليس إنشاء لحكم بل هو إخبار عما فهمه من
الكتاب والسنة فلا يكون حجة في حق من يقدر على الاستنباط منهما، فتدبر.
609

هذا كله مضافا إلى أن امام المسلمين والمنصوب من قبله إذا حكم بحكم لتوحيد كلمة
المسلمين وحفظ نظامهم كما هو كذلك في أمر الهلال فليس لأحد أن يفارق جماعتهم و
يخالف الإمام والوالي قيد شبر، مجتهدا كان أو مقلدا، كما كان كذلك في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وفي عصر أمير المؤمنين (عليه السلام) وإلا لزم اختلال النظام والهرج والمرج، ولتفصيل المسألة
محل آخر.
610

الفصل العاشر
في الاحتكار والتسعير
لما صارت مسألة احتكار الأمتعة والسلع الضرورية وتسعيرها من أهم مشاكل
عصرنا الحاضر ومما بليت بها وبلوازمها وآثارها الحكومات الدارجة، بحيث ربما
توشك بسببها على التزلزل والسقوط، وصارت الناحية السياسية فيها تغلب على الناحية
الاقتصادية البحتة، كان من المناسب في البحث حول الحكومة الإسلامية التعرض لها، و
إن كان محل البحث فيها كتاب التجارة من الفقه، فنقول: فيه جهات من البحث.
الاحتكار
] 1 [- الاحتكار والحصار التجاري مشكلة حضارة العصر:
لا يخفى أن الاحتكار ليس أمرا مستحدثا غير معروف في القرون السالفة، بل كان هو
في جميع الأعصار مشكلة اجتماعية كبيرة ولا سيما طوال الحروب الواسع
611

النطاق، فإنه وليد الحرص والطمع المجبول عليهما نوع الإنسان. نعم، قد كانت
الحكمة في تخمير الإنسان بغريزة الحرص هي أن لا يجمد الإنسان في كسب المعارف و
الفضائل والعلوم، ولا يقف فيها عند حد خاص، بل يجهد دائما في تحصيل العلوم و
الفضائل النفسانية والأعمال الصالحة والاعتلاء بروحه ونفسه. ولكن الغرائز الأصيلة
المقدسة في ذاتها ربما انحرفت عن مسيرها وأهدافها، فأوجب ذلك سقوط الإنسان في
المهالك المادية.
وكيف كان، فعملية الاحتكار للسلع والأمتعة مما يعود تاريخها إلى أولى أعصار
حياة الإنسان الاجتماعية والتي كان التبادل التجاري يسود فيها دائما بين أفراد البشر.
وكلما اتسعت مجالات التبادل التجاري وتكاملت فنونها كثرت الحكرة والحصارات
الاقتصادية وسرت إلى جميع ما يحتاج إليه الإنسان في نفقاته وصناعاته وانتاجاته،
فعمت شرورها وكثرت أضرارها.
وقد بلغت سعة مجالاتها في أعصارنا حدا صارت أكبر وسيلة استعمارية تستخدمها
الدول الكبرى المستكبرة ضد الدول والأمم المستضعفة، للضغط عليها والتسلط على
سياستها وثقافتها وثرواتها.
فيفرض على الرجال العقلاء الملتزمين من العالم الثالث أن يفكروا في حل هذه
المشكلة التي بليت بها دولهم وأممهم.
ونقول: إجمالا: إن الوسيلة الوحيدة لذلك هي التمسك بالإسلام وشرائعه، وتوحيد
الكلمة تحت لوائه، وقطع العلاقات مع الدول الكبرى الظالمة إلا بقدر الضرورة. و
للتفصيل في ذلك محل آخر.
] 2 [- مفهوم الاحتكار في اللغة:
قال ابن الأثير في النهاية:
" فيه: " من احتكر طعاما فهو كذا "، أي اشتراه وحبسه ليقل فيغلو. والحكر
612

والحكرة: الاسم منه، ومنه الحديث: " انه نهى عن الحكرة "، ومنه حديث عثمان: " انه
كان يشتري العير حكرة "، أي جملة، وقيل: جزافا. وأصل الحكر: الجمع والإمساك...
الحكر بالتحريك: الماء القليل المجتمع، وكذلك القليل من الطعام واللبن. " (1)
وفي لسان العرب:
" الحكر: ادخار الطعام للتربص. وصاحبه محتكر. ابن سيده: الاحتكار: جمع الطعام و
نحوه مما يؤكل واحتباسه انتظار وقت الغلاء به... وفي الحديث: " من احتكر طعاما فهو
كذا "، أي اشتراه وحبسه ليقل فيغلو. والحكر والحكرة: الاسم منه... وحكره يحكره
حكرا: ظلمه وتنقصه وأساء معاشرته. قال الأزهري: الحكر: الظلم والتنقص وسوء
العشرة. ويقال: فلان يحكر فلانا: إذا أدخل عليه مشقة ومضرة في معاشرته ومعايشته...
والحكر: اللجاجة. " (2)
وفي القاموس:
" الحكر: الظلم وإساءة المعاشرة، والفعل كضرب... وبالتحريك: ما احتكر، أي
احتبس انتظارا لغلائه... واللجاجة والاستبداد بالشيء... والماء المجتمع. " (3)
وفي الصحاح:
" احتكار الطعام: جمعه وحبسه يتربص به الغلاء وهو الحكرة بالضم. " (4)
وفى المنجد:
" حكره: أساء عشرته. أدخل عليه مشقة ومضرة في معايشته. ظلمه. تنقصه. حكر
حكرا: لج... حكر بالأمر: استبد، ومنه الاستبداد بحبس البضاعة كي تباع بالكثير. تحكر
واحتكر الشيء: جمعه واحتبسه انتظارا لغلائه فيبيعه بالكثير. " (5)

1 - النهاية 1 / 417.
2 - لسان العرب 4 / 208.
3 - القاموس المحيط / 239.
4 - الصحاح 2 / 635.
5 - المنجد / 146.
613

أقول: لا يخفى أن المفهوم من كلمات أهل اللغة، أن مفاد الكلمة بحسب أصلها و
وضعها هو جمع الشئ الذي يحتاج إليه الناس، والاستبداد به وحبسه ومنعهم منه، و
يلازم ذلك اللجاجة والظلم وسوء العشرة; أو لعل الأصل فيه هو الظلم وسوء العشرة، ثم
استعمل في حبس ما يحتاج إليه الناس، لكونه من أظهر مصاديق الظلم.
وكيف كان، فهو بحسب المفهوم، عام لكل ما يحتاج إليه الناس ويكون منعهم منه
موجبا للظلم والتنقص، فلا يختص بالطعام. وإضافته إليه في الكلمات من باب المثال
لكون الطعام من أظهر الحاجات. هذا.
] 3 [- مفهوم الاحتكار في كلمات الفقهاء:
والمذكور في كلمات الفقهاء غالبا هو الطعام، أو الأقوات، أو أشياء خاصة، ففي
المقنعة:
" والحكرة: احتباس الأطعمة مع حاجة أهل البلد إليها وضيق الأمر عليهم فيها، و
ذلك مكروه. " (1)
وفي النهاية:
" الاحتكار: هو حبس الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن من البيع. " (2)
وفي المختصر النافع - في عداد المعاملات المكروهة -:
" والاحتكار وهو حبس الأقوات، وقيل: يحرم " (3)
وفي الدروس - في عداد المناهي -:

1 - المقنعة / 96.
2 - النهاية للشيخ / 374.
3 - المختصر النافع / 120.
614

" ومنه الاحتكار، وهو حبس الغلات الأربع والسمن والزيت والملح على الأقرب
فيهما توقعا للغلاء، والأظهر تحريمه مع حاجة الناس إليه. " (1)
وفي القواعد:
" ويحرم الاحتكار على رأي، وهو حبس الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن
والملح بشرطين: الاستبقاء للزيادة، وتعذر غيره. " (2)
إلى غير ذلك من كلماتهم الواردة بلسان التعريف للاحتكار.
ولكن الظاهر أن الفقهاء لم يكونوا بصدد تعريف اللفظ بحسب وضعه ومفهومه، بل
بصدد تعريف ما ثبت عندهم حرمته أو كراهته بالروايات الواردة، حيث إن المذكور في
كثير منها - كما سيأتي - أشياء خاصة، أعني الغلات الأربع والسمن والزيت.
والحاصل أن كون اللفظ بحسب الوضع اللغوي مختصا بالأشياء الخاصة وكونها
مأخوذة في مفهومه بعيد جدا، وكذلك كونه حقيقة شرعية أو متشرعة لها خاصة. فهو
بحسب المفهوم عام وإن فرض كون المحرم منه بحسب الأدلة خصوص الأشياء الستة أو
السبعة. وسنعود إلى هذا البحث ثانيا، فانتظر.
] 4 [- هل الاحتكار محرم أو مكروه؟ وذكر بعض الكلمات من الفقهاء:
قال العلامة في المختلف:
" اختلف علماؤنا في الاحتكار هل هو محرم أو مكروه; قال الصدوق في مقنعه إنه
حرام، وبه قال ابن البراج والظاهر من كلام ابن إدريس. وقال الشيخ في

1 - الدروس / 332، كتاب المكاسب.
2 - القواعد 1 / 122.
615

المبسوط والمفيد إنه مكروه، وبه قال أبو الصلاح في المكاسب من كتاب الكافي. و
قال في فصل البيع: إنه حرام. والأقرب الكراهة. لنا الأصل عدم التحريم، وما رواه
الحلبي... " (1)
وفي مفتاح الكرامة:
" والاحتكار منهي عنه إجماعا، كما في نهاية الاحكام. ومراده ما هو أعم من
المكروه بقرينة ما بعده، وقد حكم المصنف بأنه حرام وفاقا للمقنع والفقيه في ظاهره و
الهداية للصدوق على ما نسب إليها والاستبصار والسرائر والتحرير والتذكرة و
الدروس وجامع المقاصد والمسالك والروضة، وهو قوى كما في التنقيح والميسية، و
هو المنقول عن القاضي والحلبي في أحد قوليه والمنتهى... والقول بالكراهة خيرة
المقنعة والنهاية والمبسوط والمراسم والشرائع والنافع والإرشاد والمختلف وإيضاح
النافع، وهو المنقول عن التقي في القول الآخر. " (2)
أقول: لم أجد كلاما في هذا الباب عن الصدوق في الهداية، ولا تصريحا بالكراهة في
النهاية.
نعم، قال في النهاية:
" ويكره بيع الطعام لأنه لا يسلم معه من الاحتكار. " (3) ولكن ليس هذا حكما
للاحتكار. هذا.
ولا يتوهم أن مورد القول بالحرمة هو صورة احتياج الناس إلى الطعام ووجود
الضرورة، ومورد القول بالكراهة صورة كثرة المتاع وعدم الضرورة، بل الظاهر أن محط
القولين معا هو صورة حاجة الناس إلى المتاع وكون الحبس له من ناحية هذا الشخص
موجبا للضيق والشدة عليهم. وأما مع وجود ما يرفع به حاجتهم وعدم وقوعهم في
الضيق من ناحية حبس هذا الشخص، فخارج عن مورد القولين هنا

1 - المختلف / 345.
2 - مفتاح الكرامة، ج 4، كتاب المتاجر / 107.
3 - النهاية للشيخ / 368.
616

ولو قيل بالكراهة لوجه آخر، بل ظاهر بعض الكلمات عدم صدق عنوان الاحتكار
حينئذ. فكأن اللفظ عندهم أخذ في مفهومه الضيق والشدة، وقد عرفت أنه المستفاد من
كلمات أهل اللغة أيضا. هذا.
ففي مقنع الصدوق:
" ولا بأس أن يشتري الرجل طعاما فلا يبيعه; يلتمس به الفضل إذا كان بالمصر طعام
غيره. وإذا لم يكن بالمصر طعام غيره، فليس له إمساكه وعليه بيعه وهو محتكر. " (1)
وفي نهاية الشيخ:
" وإنما يكون الاحتكار إذا كان بالناس حاجة شديدة إلى شيء منها ولا يوجد في
البلد غيره، فأما مع وجود أمثاله فلا بأس أن يحبسه صاحبه ويطلب بذلك الفضل. " (2)
وفي بيع الكافي لأبي الصلاح:
" ولا يحل لأحد أن يحتكر شيئا من أقوات الناس مع الحاجة الظاهرة إليها. " (3)
وفي مهذب ابن البراج - في عداد المكاسب المحظورة - قال:
" واحتكار الغلات عند عدم الناس لها وحاجتهم الشديدة إليها. " (4)
وفي الغنية:
" ولا يجوز الاحتكار في الأقوات مع الحاجة الظاهرة إليها. " (5)
وفي السرائر:
" وإنما يكون الاحتكار منهيا عنه إذا كان بالناس حاجة شديدة إلى شيء منها
(الغلات الأربع والسمن) ولا يوجد في البلد غيره. " (6)

1 - الجوامع الفقهية / 31.
2 - النهاية / 374.
3 - الكافي / 360.
4 - المهذب 1 / 346.
5 - الجوامع الفقهية / 528.
6 - السرائر / 212.
617

وقد مر عن الدروس قوله:
" والأظهر تحريمه مع حاجة الناس اليه. " (1)
وعن القواعد قوله:
" بشرطين: الاستبقاء للزيادة، وتعذر غيره. " (2)
هذه بعض الكلمات ممن ظاهره الحرمة.
وقال في المقنعة:
" والحكرة احتباس الأطعمة مع حاجة أهل البلد إليها وضيق الأمر عليهم فيها، وذلك
مكروه. " (3)
وفي المبسوط:
" وأما الاحتكار فمكروه في الأقوات إذا أضر ذلك بالمسلمين ولا يكون موجودا إلا
عند إنسان بعينه. " (4)
وبالجملة فالظاهر أن محط القولين للأصحاب كان صورة الحاجة والشدة، فراجع و
تتبع كلماتهم.
وفي الشرح الكبير المطبوع في ذيل المغني لابن قدامة الحنبلي:
" والاحتكار حرام لما روى أبو أمامة... والاحتكار المحرم ما جمع ثلاثة شروط:
أحدها: أن يشتري. فلو جلب شيئا أو أدخل عليه من غلته شيئا فادخره لم يكن
محتكرا. روي ذلك عن الحسن ومالك... الثاني: أن يكون قوتا. فأما الإدام والعسل و
الزيت وعلف البهائم فليس احتكاره بمحرم... الثالث: أن يضيق على الناس بشرائه، و
لا يحصل ذلك إلا بأمرين:
أحدهما: أن يكون في بلد يضيق بأهله الاحتكار، كالحرمين والثغور، قاله أحمد.
فظاهر هذا أن البلاد الواسعة الكبيرة كبغداد والبصرة ومصر ونحوها لا يحرم فيها

1 - الدروس / 332، كتاب المكاسب.
2 - القواعد 1 / 122.
3 - المقنعة / 96.
4 - المبسوط 2 / 195.
618

الاحتكار، لان ذلك لا يؤثر فيها غالبا.
الثاني: أن يكون في حال الضيق، بأن يدخل البلد قافلة فيتبادر ذووا الأموال
فيشترونها ويضيقون على الناس، وأما إن اشتراه في حال الاتساع والرخص على وجه
لا يضيق على أحد لم يحرم. " (1)
أقول: ما قاله من عدم تأثير الاحتكار في البلاد الكبيرة إنما كان من جهة أنه لم يكن
يوجد في تلك الأعصار الشركات الواسعة والحصارات الاقتصادية العظيمة التي ربما
تقبض بأياديها وبراثنها الخبيثة جميع المنابع المادية لمنطقة كبيرة بل لمناطق كثيرة و
تحكم فيها بما تريد وتستخدمها للضغط على الدول فضلا عن الأمم كما توجد في
أعصارنا.
وفي بدائع الصنائع في فقه الحنفية في تفسير الاحتكار:
" هو أن يشتري طعاما في مصر ويمتنع عن بيعه وذلك يضر بالناس. وكذلك لو اشتراه
من مكان قريب يحمل طعامه إلى المصر وذلك المصر صغير وهذا يضر به يكون
محتكرا. وإن كان مصرا كبيرا لا يضر به لا يكون محتكرا. " (2)
وفي موسوعة الفقه الاسلامي - عن الرملي الشافعي، وكذا النووي الشافعي في
شرحه لصحيح مسلم -:
" أنه اشتراء القوت وقت الغلاء ليمسكه ويبيعه بعد ذلك بأكثر من ثمنه للتضييق. " (3)
فأنت ترى أن الضرر والضيق مأخوذ في الاحتكار المحرم في كلمات فقهاء السنة
أيضا.

1 - المغني 4 / 46، كتاب البيع.
2 - بدائع الصنائع 5 / 129.
3 - موسوعة الفقه الإسلامي 3 / 195، في الاحتكار.
619

] 5 [- أدلة الطرفين:
استدل القائل بالكراهة وعدم الحرمة بالأصل، وبقاعدة تسلط الناس على أموالهم،
المعتضدة بنصوص الاتجار وحسن التعيش والحزم والتدبير كما في الجواهر، وبالتعبير
بالكراهة في صحيحة الحلبي الآتية.
أقول: الأصل والقاعدة لا يقاومان الروايات الآتية، وصحيحة الحلبي يظهر الجواب
عنها في محله.
واحتج القائلون بالحرمة بالأخبار الكثيرة الواردة من طرق الفريقين الظاهرة في
الحرمة بل في شدتها وكونه موجبا للدخول في النار وفي عرض بعض المحرمات
الكبيرة كالإدمان على الخمر والقيادة وأكل الربا ونحو ذلك، وبما ورد في إجبار
المحتكر على البيع وتنكيله وعقوبته.
والأقوى هو القول الثاني في مفروض البحث، أعني فيما إذا كان الاحتكار موجبا
للضيق والضرر على الناس، بل لعله على ما عرفت لا يصدق في غير هذه الصورة إلا
مجازا.
6 - أخبار الاحتكار على خمس طوائف:
فلنتعرض لأخبار المسألة، وهي بأجمعها خمس طوائف وإن كان بعضها متداخلا كما
سيظهر:
الأولى: ما دلت على منعه مطلقا.
الثانية: ما دلت على المنع مطلقا في خصوص الطعام.
الثالثة: ما دلت على المنع بعد الثلاثة أيام في الشدة، والأربعين في الخصب.
620

الرابعة: ما دلت على التفصيل بين انحصار الطعام في البلد أو قلته، وبين غيره;
فيختص المنع بالأول.
الخامسة: ما دلت على المنع في أشياء خاصة.
الطائفة الأولى - ما دلت على المنع مطلقا:
1 - خبر ابن القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " الجالب مرزوق، و
المحتكر ملعون. " (1)
وفي السند سهل بن زياد، والأمر فيه سهل.
2 - ما رواه ورام بن أبي فراس في كتابه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن جبرئيل، قال: " اطلعت في
النار فرأيت واديا في جهنم يغلي، فقلت يا مالك، لمن هذا؟ فقال لثلاثة: المحتكرين، و
المدمنين الخمر، والقوادين. " (2)
3 - وعن الفقيه، قال:
" ونهى أمير المؤمنين (عليه السلام) عن الحكرة في الأمصار. " (3)
وإسناد النهي إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) بنحو البت والجزم، يدل على ثبوت الرواية عند
الصدوق، إذ فرق بين هذا التعبير وبين أن يقول مثلا: " روي عن أمير المؤمنين ". وظاهر
النهي مادة وصيغة هو الحرمة.
4 - وفي نهج البلاغة في كتابه (عليه السلام) إلى مالك الأشتر، قال في شأن التجار: " واعلم - مع
ذلك - أن في كثير منهم ضيقا فاحشا، وشحا قبيحا، واحتكارا للمنافع، وتحكما في
البياعات، وذلك باب مضرة للعامة وعيب على الولاة، فامنع من الاحتكار فإن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)

1 - الوسائل 12 / 313، الباب 27 من أبواب آداب التجارة، الحديث 3.
2 - الوسائل 12 / 314، الباب 27 من أبواب آداب التجارة، الحديث 11.
3 - الوسائل 12 / 314، الباب 27 من أبواب آداب التجارة، الحديث 9.
621

منع منه. وليكن البيع بيعا سمحا بموازين عدل وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع
والمبتاع، فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكل به وعاقبه في غير إسراف. " (1)
وتقريب الاستدلال أن أمره (عليه السلام) بالتنكيل والمعاقبة دليل واضح على الحرمة، لعدم
جواز العقوبة على المكروه.
فإن قلت: ظاهر الرواية أن ممنوعية الحكرة ليست بالذات ومن قبل الله - تعالى -
لتكون حرمة فقهية، بل هي من قبل الوالي ومن شؤون الولاية; فهو (عليه السلام) أمر مالكا بالمنع
منه بولايته كما منع منه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كذلك. وبعد منع الوالي تصير حراما ولائيا، ولذا
قال: " فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه. " وهذا البيان يجري في الرواية السابقة، وكذا
اللاحقة أيضا.
قلت: الظاهر أن الحكم الولائي الصادر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكذا عن الأئمة (عليهم السلام) أيضا يعم
جميع الأمة لعموم ولايتهم، اللهم إلا أن تكون هنا قرينة على الاختصاص. ألا ترى أن
أمير المؤمنين (عليه السلام) علل منعه بمنع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
ويظهر للمتتبع في الروايات، أن الأئمة - عليهم السلام - كانوا كثيرا ما يستدلون في
المسائل المختلفة بالأحكام الولائية الصادرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فولاية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على
المؤمنين الثابتة بالآية الشريفة لا تختص بالمؤمنين في عصره فقط. وقوله - تعالى -: " ما
آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " (2) يعم الأمر والنهي الولائيين أيضا، كما
أن جعل الإمام الصادق (عليه السلام) الحكومة للفقيه في مقبولة عمر بن حنظلة (3) مع كونه حكما
ولائيا لا يختص بعصر الإمام الصادق (عليه السلام)، فتأمل.
5 - وفي دعائم الإسلام عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه كتب إلى رفاعة: " إنه

1 - نهج البلاغة، فيض / 1017، عبده 3 / 110; لح / 438، الكتاب / 53.
2 - سورة الحشر (59)، الآية 7.
3 - الوسائل 18 / 99، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.
622

الحكرة، فمن ركب النهي فأوجعه ثم عاقبه بإظهار ما احتكر. " (1)
ورفاعة هذا قالوا في حقه إنه كان قاضيا من قبل أمير المؤمنين (عليه السلام) على الأهواز.
6 - وفيه أيضا عنه (عليه السلام): " المحتكر آثم عاص. " (2)
7 - وفيه أيضا عن جعفر بن محمد (عليه السلام): " وكل حكرة تضر بالناس وتغلي السعر عليهم
فلا خير فيها ". (1686)
8 - وفي الغرر والدرر للآمدي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " الاحتكار رذيلة. " (3)
9 - وفيه أيضا عنه (عليه السلام): الاحتكار داعية الحرمان. " (4)
10 - وفيه أيضا عنه (عليه السلام): " الاحتكار شيمة الفجار. " (5)
11 - وفيه أيضا عنه (عليه السلام): " المحتكر محروم من نعمته " (6)
12 - وفيه أيضا عنه (عليه السلام): " كن مقتدرا ولا تكن محتكرا. " (7)
13 - وفيه أيضا عنه (عليه السلام): " من طبائع الاغمار إتعاب النفوس في الاحتكار. " (8)
14 - وفي مستدرك الوسائل، عن الآمدي، عنه (عليه السلام): " المحتكر البخيل جامع لمن
لا يشكره، وقادم على من لا يعذره. " (9)

1 - دعائم الإسلام 2 / 36، كتاب البيوع، الفصل 6، الحديث 80.
1685 و 1686 - دعائم الإسلام 2 / 35، كتاب البيوع، الفصل 6، الحديث 77 و 78.
3 - الغرر والدرر 1 / 39، الحديث 111.
4 - الغرر والدرر 1 / 66، الحديث 255.
5 - الغرر والدرر 1 / 160، الحديث 606.
6 - الغرر والدرر 1 / 127، الحديث 464.
7 - الغرر والدرر 4 / 601، الحديث 7139.
8 - الغرر والدرر 6 / 28، الحديث 9349.
9 - مستدرك الوسائل 2 / 468، الباب 21 من أبواب آداب التجارة، الحديث 10.
623

15 - وفي صحيح مسلم بسنده عن معمر، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من احتكر فهو
خاطئ. " (1)
وفي رواية أخرى عن معمر، عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا يحتكر إلا خاطئ " (2)
ورواها الترمذي أيضا بهذا اللفظ، وقال:
" وفي الباب عن عمر وعلي وأبي أمامة وابن عمر. حديث معمر حديث حسن
صحيح. والعمل على هذا عند أهل العلم، كرهوا احتكار الطعام، ورخص بعضهم في
الاحتكار في غير الطعام. " (3)
ورواها ابن ماجة أيضا بهذا اللفظ، وقال محشي الكتاب في ذيل الحديث:
" إلا خاطئ: بمعنى آثم. والمعنى: لا يجتري على هذا الفعل الشنيع إلا من اعتاد
المعصية. ففيه دلالة على أنها معصية عظيمة لا يرتكبها الإنسان أولا، وإنما يرتكبها بعد
الاعتياد وبالتدريج. " (4)
16 - وفي مستدرك الحاكم النيسابوري بسنده عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): " من احتكر يريد أن يتغالى
بها على المسلمين فهو خاطئ وقد برئ منه ذمة الله. " (5)
17 - وفيه أيضا بسنده عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): " المحتكر ملعون. " (6)
18 - وفيه أيضا بسنده عن اليسع بن المغيرة، قال: " مر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) برجل بالسوق
يبيع طعاما بسعر هو أرخص من سعر السوق فقال: تبيع في سوقنا بسعر هو أرخص من
سعرنا؟ قال: نعم. قال: صبرا واحتسابا؟ قال: نعم. قال: أبشر، فإن الجالب إلى سوقنا
كالمجاهد في سبيل الله، والمحتكر في

1 - صحيح مسلم 3 / 1227، كتاب المساقاة، باب تحريم الاحتكار في الأقوات، الحديث 1605.
2 - صحيح مسلم 3 / 1228، كتاب المساقاة، باب تحريم الاحتكار في الأقوات.
3 - سنن الترمذي 2 / 369، كتاب البيوع، باب ما جاء في الاحتكار، الحديث 1285.
4 - سنن ابن ماجة 2 / 728، كتاب التجارات، باب الحكرة، الحديث 2154.
5 - مستدرك الحاكم 2 / 12، كتاب البيوع.
6 - مستدرك الحاكم 2 / 11، كتاب البيوع.
624

سوقنا كالملحد في كتاب الله. " (1)
والمورد وإن كان هو الطعام، ولكن كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عام يعم الطعام وغيره.
19 - وفيه أيضا بسنده عن معقل بن يسار، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " من
دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغلي عليهم كان حقا على الله أن يقذفه في معظم
جهنم رأسه أسفله. "
20 - وفي كنز العمال عن معاذ:
" بئس العبد المحتكر: إن أرخص الله - تعالى - الأسعار حزن، وإن أغلاها الله
فرح. " (2)
21 - وفيه أيضا عن ابن عمر: " من تمنى على أمتي الغلاء ليلة واحدة أحبط الله عمله
أربعين سنة. " (3)
22 - وفيه أيضا عن علي (عليه السلام): " نهى عن الحكرة بالبلد. " (4)
23 - وفيه أيضا عن صفوان بن سليم: " لا يحتكر إلا الخوانون. " (5)
24 - وفيه أيضا عن أبي هريرة: " يحشر الحكارون وقتلة الأنفس إلى جهنم في
درجة. " (6)
25 - وفيه أيضا: " أيها الناس، احفظوا: لا تحتكروا ولا تناجشوا ولا تلقوا
السلعة... " (7)

1700 و 1701 - مستدرك الحاكم 2 / 12، كتاب البيوع.
2 - كنز العمال 4 / 97، الباب 3 من كتاب البيوع من قسم الأقوال، الحديث 9715.
3 - كنز العمال 4 / 98، الباب 3 من كتاب البيوع من قسم الأقوال، الحديث 9721.
4 - كنز العمال 4 / 98، الباب 3 من كتاب البيوع من قسم الأقوال، الحديث 9724.
5 - كنز العمال 4 / 101، الباب 3 من كتاب البيوع من قسم الأقوال، الحديث 9738.
6 - كنز العمال 4 / 101، الباب 3 من كتاب البيوع من قسم الأقوال، الحديث 9739.
7 - كنز العمال 4 / 178، الباب 2 من كتاب البيوع من قسم الأفعال، (باب في أحكام البيع وآدابه و
محظوراته)، الحديث 10056.
625

26 - وفيه أيضا عن ابن مسعود: " ويقوم المحتكر مكتوب بين عينيه: يا كافر، تبوأ
مقعدك من النار. " (1)
وظهور هذه الأخبار الكثيرة في حرمة الاحتكار واضح، بل أكثرها يدل على
التشديد فيها. والتشكيك في ذلك تشكيك في أمر بين.
الطائفة الثانية - ما دلت على المنع مطلقا في خصوص الطعام:
1 - ما رواه الشيخ بسنده عن إسماعيل بن أبي زياد، عن أبي عبد الله، عن أبيه (عليه السلام)، قال:
لا يحتكر الطعام إلا خاطئ " (2)
وإسماعيل بن أبي زياد هو السكوني. والسند لا بأس به ظاهرا.
2 - وروى الصدوق، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا يحتكر الطعام إلا خاطئ. " (3)
وقد مضت الرواية بدون لفظ الطعام عن مسلم والترمذي وابن ماجة. وإسناد
الصدوق بنحو الجزم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يدل على ثبوت الرواية عنده.
3 - وفي مستدرك الوسائل عن دعائم الإسلام، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه نهى عن
الحكرة، وقال: " لا يحتكر الطعام إلا خاطئ. " (4)
4 - وفي مستدرك الحاكم بسنده عن أبي أمامة قال:
" نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يحتكر الطعام. " (5)

1 - كنز العمال 16 / 65، الباب 2 من كتاب المواعظ والحكم من قسم الأقوال، الحديث 43958.
2 - الوسائل 12 / 315، الباب 27 من أبواب آداب التجارة، الحديث 12.
3 - الوسائل 12 / 314، الباب 27 من أبواب آداب التجارة، الحديث 8.
4 - مستدرك الوسائل 2 / 468، الباب 21 من أبواب آداب التجارة، الحديث 4.
5 - مستدرك الحاكم 2 / 11، كتاب البيوع.
626

5 - وفي مستدرك الوسائل، عن طب النبي، عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): " من احتكر على المسلمين
طعاما ضربه الله بالجذام والإفلاس. " (1)
6 - وفي البحار بسنده عن السكوني، عن جعفر بن محمد، عن أبيه عن آبائه -
عليهم السلام - قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " طرق طائفة من بني إسرائيل ليلا عذاب
فأصبحوا وقد فقدوا أربعة أصناف: الطبالين، والمغنين، والمحتكرين للطعام، والصيارفة
آكلة الربا منهم. " (2)
ورواه المستدرك عن البحار والجعفريات مثله. (3)
7 - وفيه أيضا عن الخصال بسنده عن الثمالي، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): " إن الله -
عز وجل - تطول على عباده بالحبة فسلط عليها القملة، ولولا ذلك لخزنتها الملوك كما
يخزنون الذهب والفضة. " (4)
8 - وروى ابن حزم في المحلى بسنده عن أبي الحكم:
" أن على ي بن أبي طالب أحرق طعاما احتكر بمأة ألف. " (5)
9 - وروى فيه أيضا عن حبيش، قال:
" أحرق لي علي بن أبي طالب (عليه السلام) يبادر بالسواد كنت احتكرتها لو تركها لربحت فيها
مثل عطاء الكوفة. " (6)
10 - وفي كنز العمال عن أبي أمامة: " أهل المدائن الحبساء في سبيل الله، فلا تحتكروا
عليهم الطعام ولا تغلوا عليهم الأسعار... " (7)

1 - مستدرك الوسائل 2 / 468، الباب 21 من أبواب آداب التجارة، الحديث 9.
2 - بحار الأنوار 100 / 89 (= طبعة إيران 103 / 89)، كتاب العقود والإيقاعات، باب الاحتكار،
الحديث 12.
3 - مستدرك الوسائل 2 / 468، الباب 21 من أبواب آداب التجارة، الحديث 2.
4 - بحار الأنوار 100 / 87 (= طبعة إيران 103 / 87)، كتاب العقود والإيقاعات، باب الاحتكار،
الحديث 3.
5 - المحلى 6 / 65 (الجزء 9)، المسألة 1567.
6 - المحلى 6 / 65 (الجزء 9)، المسألة 1567.
7 - كنز العمال 4 / 100، الباب 3 من كتاب البيوع من قسم الأقوال، الحديث 9734.
627

وظهور هذه الأخبار في الحرمة أيضا واضح.
وهل تعارض هذه الروايات للطائفة الأولى المطلقة فتحمل الأولى عليها حمل
المطلق على المقيد، أو يكون ذكر الطعام في هذه الروايات من باب الغلبة، حيث إن
الطعام من أظهر ما يحتاج إليه الإنسان ومن أظهر ما شاع فيه الحبس ويكون حبسه
موجبا للضيق والشدة المأخوذين في مفهوم الحكرة؟ وإن شئت قلت: إن المفهوم في
هذه الروايات من قبيل مفهوم اللقب ولا حجية له؟ وجهان. ولعل الثاني هو الأظهر.
وحمل المطلق على المقيد إنما يكون مع إحراز وحدة الحكم; كما في قوله: " إن
ظاهرت فأعتق رقبة "، وقوله: " إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة. "، حيث إنه بسبب وحدة
السبب يحرز وحدة الحكم، وليس المقام كذلك لاحتمال حرمة الاحتكار مطلقا، وشدة
الحرمة في مثل الطعام لكون الاحتياج فيه أظهر. هذا مع قطع النظر عن سائر الطوائف من
الأخبار الناهية الآتية.
ثم إنه هل يراد بالطعام مطلق ما يطعم من الأقوات والأغذية، فيعم جميع الغلات
الأربع وغيرها من الأرز والذرة ونحوهما، أو يراد به خصوص الحنطة، لعدها من معانيه
في اللغة ولاستعماله فيها في بعض الأخبار؟ وجهان:
قال ابن الأثير في النهاية:
" الطعام عام في كل ما يقتات من الحنطة والشعير والتمر وغير ذلك... وفي حديث
أبي سعيد: كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام أو صاعا من شعير، قيل: أراد به البر... و
قال الخليل: إن العالي في كلام العرب أن الطعام هو البر خاصة. " (1)
أقول: وفسر الطعام المذكور في قوله - تعالى -: " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل
لكم " (2) في أخبارنا بالحبوب والبقول وبالعدس والحمص وغير ذلك، فراجع

1 - النهاية 3 / 126.
2 - سورة المائدة (5)، الآية 5.
628

الوسائل. (1)
الطائفة الثالثة - ما دلت على المنع بعد الثلاثة، أو بعد الأربعين يوما:
1 - ما رواه السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " الحكرة في الخصب أربعون يوما، و
في الشدة والبلاء ثلاثة أيام. فما زاد على الأربعين يوما في الخصب فصاحبه ملعون، و
ما زاد على ثلاثة أيام في العسرة فصاحبه ملعون. " (2)
والسند لا بأس به. وظاهر الحديث جواز الحكرة في الأربعين وفي الثلاثة والمنع
بعدهما، فيكون للعددين موضوعية وبظاهره أفتى الشيخ:
قال في النهاية:
" وحد الاحتكار في الغلاء وقلة الأطعمة ثلاثة أيام، وفي الرخص وحال السعة
أربعون يوما. " (3)
وقال في المختلف:
" قال الشيخ: حد الاحتكار في الغلاء وقلة الأطعمة ثلاثة أيام، وفي الرخص وحال
السعة أربعون يوما. وتبعه ابن البراج. " (4)
أقول: يشكل الالتزام بموضوعية الأربعين والثلاثة شرعا ولو بنحو الأمارة الشرعية
المجعولة، بل الظاهر أن التحديد بهما كان بلحاظ الأعم الأغلب. فإن الإنسان ولو في
الشدة يتمكن غالبا من تهيئة القوت لثلاثة أيام، فلا يصدق الاحتكار المضر إلا بعد هذه
المدة. كما أنه لو

1 - الوسائل 16 / 380 - 382، الباب 51 من أبواب الأطعمة المحرمة من كتاب الأطعمة والأشربة.
2 - الوسائل 12 / 312، الباب 27 من أبواب آداب التجارة، الحديث 1.
3 - النهاية للشيخ / 374.
4 - المختلف / 346.
629

تحقق حبس الأقوات أربعين يوما فلا محالة يتحقق الضيق والغلاء للأكثر ولو في
حال الخصب. فالملاك في الاحتكار المحرم هو وقوع الناس بسببه في الضيق والشدة.
قال الشهيد في شرح اللمعة:
" ولا يتقيد بثلاثة أيام في الغلاء، وأربعين في الرخص. وما روي من التحديد بذلك
محمول على حصول الحاجة في ذلك الوقت، لأنه مظنتها. " (1) هذا.
وبهذا البيان يجاب عما قد يراد من التمسك بهذه الرواية وأمثالها لنفي حرمة
الاحتكار بتقريب أن الزائد على أربعين في الخصب لا يكون حراما قطعا لعدم الضيق و
الشدة ومع ذلك وقع اللعن فيه، فيعلم بذلك اجتماع اللعن مع الكراهة أيضا; فلا يكون
اللعن لما بعد الثلاثة أيضا دليلا على الحرمة.
2 - ما رواه إبراهيم بن عبد الحميد، عن موسى بن جعفر (عليه السلام)، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفيه: " و
أما الحناط فإنه يحتكر الطعام على أمتي. ولأن يلقى الله العبد سارقا أحب إلى من أن
يلقاه قد احتكر الطعام أربعين يوما. " (2)
3 - رواية أبي مريم، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أيما رجل اشترى
طعاما فكبسه أربعين صباحا يريد به غلاء المسلمين ثم باعه فتصدق بثمنه لم يكن كفارة
لما صنع. " (3)
4 - وفي البحار من كتاب الأعمال المانعة من الجنة بسنده، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" من احتكر فوق أربعين يوما فإن الجنة توجد ريحها من مسيرة خمسمأة عام وإنه
لحرام عليه. " (4)
5 - وفي مستدرك الوسائل عن طب النبي، عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من حبس طعاما يتربص
به الغلاء أربعين يوما فقد برئ من الله وبرئ منه. " (5)

1 - الروضة البهية 3 / 299.
2 - الوسائل 12 / 98، الباب 21 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.
3 - الوسائل 12 / 314، الباب 27 من أبواب آداب التجارة، الحديث 6.
4 - بحار الأنوار 100 / 89 (= طبعة إيران 103 / 89)، كتاب العقود والإيقاعات، باب الاحتكار،
الحديث 11.
5 - مستدرك الوسائل 2 / 468، الباب 21 من أبواب آداب التجارة، الحديث 9.
630

6 - وفي مستدرك الحاكم النيسابوري بسنده، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" من احتكر طعاما أربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ الله منه. وأيما أهل عرصة
أصبح فيهم امرؤ جائعا فقد برئت منهم ذمة الله. " (1)
7 - وفي كنز العمال عن معاذ: " من احتكر طعاما على أمتي أربعين يوما وتصدق به
لم تقبل منه. " (2) وروى نحوه عن أنس. (3)
وقد عرفت وجه التقييد بالأربعين وأنه بحسب الأغلبية.
وظهور هذه الأخبار في الحرمة أيضا واضح. واستفاضتها توجب الوثوق بصدور
بعضها، مضافا إلى اعتبار خبر السكوني عندنا.
الطائفة الرابعة - ما دلت على التفصيل بين وجود الطعام في البلد وعدمه:
1 - صحيحة سالم الحناط، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): ما عملك؟ قلت: حناط، وربما
قدمت على نفاق، وربما قدمت على كساد فحبست. قال: فما يقول من قبلك فيه؟ قلت:
يقولون: محتكر. فقال (عليه السلام): يبيعه أحد غيرك؟ قلت: ما أبيع أنا من ألف جزء جزء. قال:
لا بأس، إنما كان ذلك رجل من قريش يقال له: حكيم بن حزام، وكان إذا دخل الطعام
المدينة اشتراه كله، فمر عليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: " يا حكيم بن حزام، إياك أن تحتكر. " (4)
والسند صحيح، وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إياك أن تحتكر " ظاهر في التحذير بوجه شديد،
فيلازم الحرمة. ومجرد وجود هذا النحو من التعبير في المكروهات المؤكدة أيضا
لا يجوز

1 - مستدرك الحاكم 12 / 11، كتاب البيوع.
2 - كنز العمال 4 / 97، الباب 3 من كتاب البيوع من قسم الأقوال، الحديث 9720.
3 - كنز العمال 4 / 99 - 100، الباب 3 من كتاب البيوع من قسم الأقوال، الحديث 9733 و 9735.
4 - الوسائل 12 / 316، الباب 28 من أبواب آداب التجارة، الحديث 3.
631

رفع اليد عن ظاهره ما لم يثبت الترخيص. نظير ما ذكروه في باب الأوامر والنواهي
من وجوب حملهما على الوجوب والحرمة وإن شاع استعمالهما في الندب والكراهة
أيضا. وقوله (عليه السلام): " يبيعه أحد غيرك "، لايراد به بيع واحد ولو لم يكن بقدر الكفاية، بل
المراد أن يبيع غيره بقدر الكفاية بحيث لا يكون حبسه موجبا للضيق والشدة.
وقوله (عليه السلام): " لا بأس "، ظاهره نفي الكراهة أيضا، فيحمل على نفيها من حيث
الاحتكار، وإلا فكون الكسب بيع الطعام عد بنفسه من المكروهات، لكونه مظنة
للاحتكار، فراجع. (1)
ويظهر من هذه الصحيحة أن الاحتكار المضر المنهي عنه هو الذي يصدر من قبل
الأفراد أو الشركات التجارية التي تقدم على الحصار الاقتصادي بحيث يستقر جميع
المتاع في قبضتهم ويعاملون معه كيف ما شاؤوا كما هو المعمول في عصرنا في الدول
الكبرى الرأسمالية. وأما بائع الجزء الذي لا يوجب حبسه تأثيرا عميقا في السوق بحيث
يستعقب فقد المتاع فلا يكون محتكرا.
2 - ما رواه الكليني بسنده عن حذيفة بن منصور، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " نفد
الطعام على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأتاه المسلمون فقالوا: يا رسول الله، قد نفد الطعام و
لم يبق منه شيء إلا عند فلان، فمره ببيعه. قال: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا فلان، إن
المسلمين ذكروا أن الطعام قد نفد إلا شيء عندك، فأخرجه وبعه كيف شئت ولا تحبسه ".
ورواه الشيخ أيضا إلا أنه قال: " فقد "، مكان " نفد " في المواضع الثلاثة. (2)
ولا كلام في رجال السند إلا في حذيفة ومحمد بن سنان. والظاهر أن الأمر فيهما
سهل وليسا في حد الضعف الموجب لطرح الرواية بالكلية. ولعل فلان في الحديث كان
هو حكيم بن حزام المذكور في الصحيحة السابقة.
وأمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بإخراج الطعام وبيعه، ونهيه عن حبسه يحتمل أن يكون حكما إلهيا فقهيا
والأمر والنهي منه (صلى الله عليه وآله وسلم) إرشاديا، وأن يكون حكما ولائيا مولويا صدر

1 - الوسائل 12 / 97، الباب 21 من أبواب ما يكتسب به.
2 - الوسائل 12 / 316، الباب 29 من أبواب آداب التجارة، الحديث 1.
632

عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بما أنه كان واليا على الأمة.
وكيف كان، فظاهر الأمر الوجوب، ويجب على الأمة الأخذ به، ولا يختص
بزمانه (صلى الله عليه وآله وسلم) ولو على الاحتمال الثاني، فإنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ولى المؤمنين وأولى بهم إلى يوم
القيامة. ومقتضى وجوب البيع حرمة الحبس والاحتكار، مضافا إلى التصريح به.
3 - وروى الكليني بسند صحيح عن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سألته عن
الرجل يحتكر الطعام ويتربص به، هل يصلح ذلك؟ قال: " إن كان الطعام كثيرا يسع الناس
فلا بأس به. وإن كان الطعام قليلا لا يسع الناس فإنه يكره أن يحتكر الطعام ويترك الناس
ليس لهم طعام. " ورواه الشيخ أيضا عنه. (1)
ولفظ الكراهة بحسب اللغة، واصطلاح الكتاب والسنة أعم من الحرمة والكراهة
المصطلحة عند الفقهاء. بل لعل ظهورها في الحرمة كان أقوى، كما هو ظاهر لمن تتبع
موارد استعمال اللفظ في الكتاب والسنة، كقوله - تعالى -: " وكره إليكم الكفر والفسوق
والعصيان، " (2) وقوله في سورة الإسراء - بعد النهي عن مثل الزنا، وقتل الأولاد، وأكل
مال اليتيم ونحو ذلك -: " كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها. " (3) ونحو ذلك.
وحينئذ فإذا دل دليل على كون عمل مكروها للشارع المقدس فلا يجوز ارتكابه إلا
إذا ورد دليل على الترخيص فيه. نظير ما ذكروه في باب النهي. وحيث إنه (عليه السلام) نفى البأس
في الجملة الأولى، والجملة الثانية تكون بيانا لمفهوم الأولى، صار قوله: " فإنه يكره "
بمنزلة أن يقول: " فيه بأس " وظاهره الحرمة أيضا، فتأمل.
هذا، مضافا إلى أن ترك الناس بلا طعام مما يحكم العقل بقبحه، والحكم بجوازه بعيد
من مذاق الشرع جدا. فكأن الإمام (عليه السلام) ذكر الجملة للتعليل بأمر ارتكازي يدركه العقل،
فتدبر.

1 - الوسائل 12 / 313، الباب 27 من أبواب آداب التجارة، الحديث 2.
2 - سورة الحجرات (49)، الآية 7.
3 - سورة الإسراء (17)، الآية 38.
633

وكيف كان، فلا ظهور للصحيحة في الكراهة المصطلحة بنحو يرفع به اليد عن ظهور
الروايات الكثيرة التي مرت في الحرمة الشديدة.
4 - وروى الصدوق بسنده عن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سئل عن الحكرة
فقال: " إنما الحكرة أن تشتري طعاما ليس في المصر غيره فتحتكره. فإن كان في المصر
طعام أو متاع (أو بياع - كا.) غيره فلا بأس أن تلتمس بسلعتك الفضل. " (1)
وروى الكليني نحوه وزاد: " قال: وسألته عن الزبيب فقال: إذا كان عند غيرك
فلا بأس بإمساكه " ورواه الشيخ أيضا مع الزيادة. (2)
والسند صحيح لا ريب فيه. ويشبه كون هذا الحديث عين الصحيحة السابقة نقلت
بالمعنى بتقديم وتأخير، كما يشهد بذلك اتحاد الراوي، والمروي عنه، والمضمون.
5 - وفي المستدرك عن دعائم الاسلام، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنه قال: " إنما الحكرة أن
يشتري طعاما ليس في المصر غيره فيحتكره. فإن كان في المصر طعام أو متاع غيره، أو
كان كثيرا يجد الناس ما يشترون فلا بأس به. وإن لم يوجد فإنه يكره أن يحتكر. وإنما
النهي من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الحكرة أن رجلا من قريش يقال له حكيم بن حزام كان إذا
دخل المدينة طعام، اشتراه كله فمر عليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له: " يا حكيم، إياك وأن
تحتكر. " (3)
أقول: قوله: " وإنما النهي " عقيب قوله: " فإنه يكره " يمكن أن يستشهد به على إرادة
الحرمة من قوله: " يكره "، كما لا يخفى.
فإلى هنا ذكرنا أربع طوائف من أخبار الباب، وبعضها وإن كان قاصرا سندا أو دلالة
إلا أنه يوجد فيها ما يتم فيهما. مضافا إلى أن كثرتها توجب العلم بصدور

1 - الوسائل 12 / 315، الباب 28 من أبواب آداب التجارة، الحديث 1.
2 - الوسائل 12 / 315، الباب 28 من أبواب آداب التجارة، الحديث 2، الكافي 5 / 165، كتاب
المعيشة، باب الحكرة، الحديث 3.
3 - مستدرك الوسائل 2 / 468، الباب 22 من أبواب آداب التجارة، الحديث 2; عن الدعائم
2 / 35.
634

بعضها إجمالا، ودلالة الأكثر بل الجميع على الحرمة تامة.
الجمع بين الطوائف الأربع:
لا يخفى أن المستفاد من الطائفة الرابعة من أخبار الباب هو أن الحكرة المنهي عنها
إنما هي فيما إذا لم يكن في البلد طعام أو متاع بقدر الكفاية بحيث يكون حبسه موجبا
لأن يبقى الناس بلا طعام. بل الظاهر من بعضها أن الحكرة لاتصدق إلا في هذه الصورة. و
يشهد لذلك ما مرت إليه الإشارة من كون الأصل في الكلمة هو الضرر والظلم والتنقيص
وسوء العشرة ونحو ذلك.
وبهذه الطائفة من الأخبار المصرحة بالتفصيل تفسر الأخبار السابقة من الطوائف
الثلاث وإن كانت بصورة الإطلاق.
قال الشيخ في الاستبصار بعد نقل الأخبار العامة:
" هذه الأخبار عامة في النهي عن الاحتكار على كل حال، وقد روي أن المحظور من
ذلك هو أنه إذا لم يكن في البلد طعام غير الذي عند المحتكر ويكون واحدا فإنه يلزمه
إخراجه وبيعه بما يرزقه الله، كما فعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). وينبغي أن نحمل هذه الأخبار المطلقة
على هذه المقيدة. " ثم ذكر صحيحتي الحلبي وصحيحة الحناط (1). هذا.
وقد عرفت منا أن محط القولين من الحرمة والكراهة أيضا هو هذه الصورة.
وعرفت أيضا أن ظاهر الأخبار هو الحرمة بل ظاهر كثير منها التشديد فيها وكونه
موجبا للدخول في النار وفي عرض المحرمات الكبيرة من قبيل الإدمان على الخمر و
القيادة ونحوهما.
هذا، مضافا إلى أنه لو لم يكن محرما لم يكن وجه لعقوبة فاعله وإجباره على البيع

1 - الاستبصار 3 / 115، باب النهي عن الاحتكار.
635

من قبل الحاكم.
كيف؟! وهل يمكن القول برضا الشارع بعمل يوجب الضرر والضيق على الناس؟
فمناسبة الحكم والموضوع أيضا تقتضي القول بالحرمة. هذا.
كلام صاحب الجواهر:
ولكن صاحب الجواهر أفتى بالكراهة وفاقا للمحقق في الشرائع، وذكر الأخبار و
حملها على الكراهة، بل قال ما حاصله:
" أنها كادت تكون صريحة في الكراهة، ضرورة كون اللسان لسانها والتأدية تأديتها،
ولذا صرح بها في صحيحة الحلبي، بل ربما أشعر بذلك أيضا التقييد بالأمصار، إذا لافرق
على الحرمة بين المصر وغيره، وإنما يختلف بذلك شدة وضعفا على الكراهة. وكذلك
التفصيل بالأربعين والثلاثة وغير ذلك من أمارات الكراهة.
وموضوع البحث حبس الطعام انتظارا لعلو السعر على حسب غيره من أجناس
التجارة، لامع قصد الإضرار بالمسلمين، ولو شراء جميع الطعام فيسعره عليهم بما يشاء،
أو لأجل صيرورة الغلاء بالناس بسبب ما يفعله، أو لإطباق المعظم على الاحتكار على
وجه يحصل الغلاء والإضرار على وجه ينافي سياسة الناس، أو لغير ذلك من المقاصد
التي لا مدخلية لها فيما نحن فيه، مما هو معلوم الحرمة لأمر خارجي. " (1)
أقول: لم يظهر لي أن ما دل على كون المحتكرين والمدمنين على الخمر والقوادين
في واد من جهنم يغلي، وما دل على حرمة ريح الجنة على المحتكر، وما ورد في لعنه و
الأمر بتنكيله وعقوبته وإجباره على البيع وكونه أبغض عند الله من السارق ونحو

1 - الجواهر 22 / 480.
636

ذلك كيف يكون لسانها لسان الكراهة وصريحا فيها؟ والتعبير بالكراهة في صحيح
الحلبي مر الجواب عنه.
وكأنه صاحب الجواهر جعل محط البحث غير ما هو مورده عند الأصحاب وفي
أخبار الباب بعد حمل بعضها على بعض.
إذ قد عرفت أن محط بحث الفقهاء في المسألة، ومورد القولين فيها هو صورة كون
الاحتكار موجبا للضرر والضيق، بل لعل اللفظ لا يصدق بحسب مفهومه - على ما
استفدناه من اللغة - في غير هذه الصورة. والمستفاد من الأخبار أيضا بعد جمعها وحمل
بعضها على بعض حرمة هذه الصورة، كما عرفت.
والتحديد بالثلاثة وبالأربعين يكون بحسب الأعم الأغلب، فإن الشدة والضيق
يحصلان غالبا بعدهما. وذكر الأمصار أيضا يكون بهذا اللحاظ، فان الفقدان للأقوات و
القحط كانا في الأمصار غالبا.
نعم، لقائل أن يقول: إن النزاع بيننا وبين صاحب الجواهر نزاع لفظي، فإن الصورة
التي تحكم فيها بالحرمة، هو أيضا يقول فيها بالحرمة ولكن لا بعنوان الاحتكار بل بعنوان
الظلم والإضرار ونحوهما، فتدبر.
أقسام حبس المتاع:
لا يخفى أن حبس المتاع على أقسام:
الأول: أن يكون حبس هذا الشخص، أو حبسه وحبس أمثاله موجبا لفقد المتاع أو
قلته في السوق، بحيث يقع الناس في ضيق وشدة.
وهذا هو القدر المتيقن من الحكرة ويكون موردا للنهي في صحيحتي الحلبي و
الحناط وغيرهما من الأخبار. والظاهر حرمته بمقتضى الأخبار بل بحكم العقل. سواء
وقع الحبس بقصد الإضرار والتضييق أم لا. فالملاك نفس تحقق الضيق.
637

ولعل تشخيص كون الحبس من هذا القبيل يكون من وظائف الحاكم المحيط بأوضاع
البلد واحتياجات أهله، ولذا أمر أمير المؤمنين (عليه السلام) مالكا ورفاعة بالمنع والنهي عنه و
تنكيل المرتكب ومعاقبته.
الثاني: أن يحصل بحبسه وحبس أمثاله ترقي القيمة السوقية للمتاع ولكن لا بنحو يقع
الناس في الضيق والشدة، إذ يوجد من يعرض المتاع كثيرا بقدر الحاجة، ويكون الترقي
بنحو يتحمل عادة.
وشمول أدلة النهي لهذه الصورة مشكل بل ممنوع، ولا سيما إذا لم نقل بجواز التسعير
على المالك، بل لعل المستفاد من إطلاق الصحيحتين ونحوهما عدم الحرمة في هذه
الصورة.
نعم، قد يقال: إن ما دل على اللعن بعد الأربعين في الخصب يدل على الحرمة بعد
الأربعين مطلقا، فيشمل المقام أيضا، ولكنه مشكل لقوة احتمال كون ذكر الثلاثة و
الأربعين بلحاظ الأعم الأغلب، كما مر.
الثالث: أن يكون الحبس لانتظار النفاق والرواج. فإن الأمتعة حين حصادها و
ورودها في السوق من جميع النواحي ربما تواجه الكساد ونزول القيمة، فربما تحبس
للأزمنة الآتية فرارا من الكساد. والتجار كما يراعون في تجاراتهم أسعار الأمكنة و
البلدان المختلفة ورغباتها يراعون أسعار الأزمنة ورغباتها أيضا، وكلما احتاج الناس
إلى الأمتعة عرضوها بأسعار عادلة.
ولا يخفى أن هذه تجارة مربحة مرغب فيها شرعا، ولا يصدق على هذا النحو من
الحبس مفهوم الحكرة أصلا.
الرابع: أن يكون حبسه لادخار قوت سنته; له ولعياله، لا للبيع والتجارة.
وقد تعارف ادخار الناس لقوت سنتهم وإن صار إقدام الكثير منهم لهذا الأمر موجبا
لرواج المتاع وترقي قيمته قهرا.
638

وهذا أيضا مما لا إشكال فيه، بل يظهر من الروايات استحبابه:
ففي رواية ابن بكير، عن أبي الحسن (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) " إن النفس إذا
أحرزت قوتها استقرت. "
وفي رواية معمر بن خلاد أنه سأل أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن حبس الطعام سنة فقال:
أنا أفعله. يعني بذلك إحراز القوت.
وفي رواية أخرى عن الرضا (عليه السلام) أنه سمعه يقول: كان أبو جعفر وأبو عبد الله (عليه السلام)
لا يشتريان عقدة حتى يدخلا طعام السنة، وقالا: " إن الإنسان إذا أدخل طعام سنة خف
ظهره واستراح. " إلى غير ذلك من الأخبار، فراجع (1)
الطائفة الخامسة - ما دلت على أن الحكرة المنهي عنها إنما هي في أمور خاصة:
1 - ما رواه المشايخ الثلاثة عن غياث، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " ليس الحكرة إلا في
الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن. " ورواه الصدوق بإسناده عن غياث بن
إبراهيم، عن جعفر بن محمد، عن أبيه إلا أنه قال: " والزبيب والسمن والزيت. " (2)
وسند الكليني والشيخ إلى غياث، صحيح. وغياث بن إبراهيم وثقه النجاشي (3) و
بعض آخر وإن اختلف في مذهبه، والأكثر على أنه بتري. (1748)
2 - ما رواه في الخصال بسنده عن السكوني، عن جعفر بن محمد، عن آبائه (عليه السلام) عن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: " الحكرة في ستة أشياء: في الحنطة والشعير والتمر والزيت والسمن

1 - الوسائل 12 / 320، الباب 31 من أبواب آداب التجارة.
2 - الوسائل 12 / 313، الباب 27 من أبواب آداب التجارة، الحديث 4.
1747 و 1748 - رجال النجاشي / 215 (= طبعة أخرى 305) وتنقيح المقال 2 / 366.
639

والزبيب. " (1)
وسند الرواية هكذا: " حمزة بن محمد العلوي، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن
النوفلي، عن السكوني ". وحمزة بن محمد وإن لم يوثق في كتب الرجال ولكن ربما
يقال إن كثرة رواية الصدوق عنه مترضيا عليه تدل على مدحه، وبقية السند لا بأس بها.
3 - ما رواه الحميري في قرب الإسناد عن السندي بن محمد، عن أبي البختري، عن
جعفر بن محمد، عن أبيه، أن عليا (عليه السلام) كان ينهى عن الحكرة في الأمصار، فقال: " ليس
الحكرة إلا في الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن. " (2)
وأبو البختري، هو وهب بن وهب. وقالوا في حقه:
" إنه ضعيف عامي المذهب وكان كذابا. " (3)
4 - وفي مستدرك الوسائل عن دعائم الإسلام عن على (عليه السلام): " ليس الحكرة إلا في
الحنطة والشعير والزبيب والزيت والتمر. " (4)
5 - وفيه أيضا عن طب النبي، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " الاحتكار في عشرة، والمحتكر ملعون: البر
والشعير والتمر والزبيب والذرة والسمن والعسل والجبن والجوز والزيت. " (5)
هذه هي الأخبار الحاصرة للحكرة المنهي عنها في أشياء خاصة.
ولا يوجد في هذه الروايات الخمس صحيح أعلائي أصلا، ولا يوجد في الكتب
الأربعة إلا واحدة منها. فمن حصر الحجية بالصحيح الأعلائي كصاحبي المعالم و
المدارك يشكل له الأخذ بها. ومن حصرها على الكتب الأربعة يشكل له الأخذ بغير خبر
غياث.

1 - الوسائل 12 / 314، الباب 27 من أبواب آداب التجارة، الحديث 10.
2 - الوسائل 12 / 314، الباب 27 من أبواب آداب التجارة، الحديث 7.
3 - راجع تنقيح المقال 3 / 281.
4 - مستدرك الوسائل 2 / 468، الباب 21 من أبواب آداب التجارة، الحديث 5.
5 - مستدرك الوسائل 2 / 468، الباب 21 من أبواب آداب التجارة، الحديث 8.
640

وكيف كان، بعد الأخذ بهذه الروايات فالذي تقتضيه الصناعة الفقهية في بادئ الأمر
هو تحكيمها على المطلقات السابقة وحمل المطلقات السابقة عليها.
والذي عليه مدار الفتوى لأكثر أصحابنا أيضا، هو الحصر في الأشياء الخاصة أو في
الأطعمة أو الأقوات. وصرح كثير منهم بعدم جريان الحكرة في غيرها:
ففي النهاية:
" الاحتكار هو حبس الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن من البيع. ولا يكون
الاحتكار في شيء سوى هذه الأجناس. " (1)
وفي المبسوط:
" وأما الاحتكار فمكروه في الأقوات إذا أضر ذلك بالمسلمين... والأقوات التي
يكون فيها الاحتكار: الحنطة والشعير والتمر والزبيب والملح والسمن. " (2)
وفي الوسيلة لابن حمزة:
" الاحتكار يدخل في ستة أشياء: الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن والملح.
ولا احتكار مع فقد الحاجة. " (3)
وفي السرائر:
" ونهى عن الاحتكار. والاحتكار عند أصحابنا هو حبس الحنطة والشعير والتمر. و
الزبيب والسمن من البيع ولا يكون الاحتكار المنهي عنه في شيء من الأقوات سوى
هذه الأجناس. " (4)
وفي الشرائع:
" وإنما يكون في الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن، وقيل: وفي الملح. " (5)
ومثله في

1 - النهاية للشيخ / 374.
2 - المبسوط 2 / 195.
3 - الجوامع الفقهية / 745.
4 - السرائر / 212.
5 - الشرائع 2 / 21.
641

المختصر النافع. (1)
وفي القواعد:
" وهو حبس الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن والملح. " (2)
ومثله في المنتهى إلا أنه قال: " وقيل: والملح. " (3)
وفي التذكرة مثل ما في القواعد، ثم قال:
" وتحريم الاحتكار مختص بالأقوات، منها التمر والزبيب، ولا يعم جميع الأطعمة،
قاله الشافعي. " (4)
وفي الدروس:
" وهو حبس الغلات الأربع والسمن والزيت والملح على الأقرب فيهما. " (5)
وفي اللمعة:
" ترك الحكرة في سبعة: الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن والزيت و
الملح. " (6) هذا.
وفي المقنعة:
" والحكرة: احتباس الأطعمة مع حاجة أهل البلد إليها وضيق الأمر عليهم فيها. " (7)
وفي الكافي لأبي الصلاح:
" ولا يحل لأحد أن يحتكر شيئا من أقوات الناس مع الحاجة الظاهرة إليها. " (8) و
في الغنية:
" ولا يجوز الاحتكار في الأقوات مع الحاجة الظاهرة إليها. " (9)

1 - المختصر النافع / 120.
2 - القواعد 1 / 122.
3 - المنتهى 2 / 1007.
4 - التذكرة 1 / 585.
5 - الدروس / 332، كتاب المكاسب.
6 - اللمعة الدمشقية 3 / 298.
7 - المقنعة / 96.
8 - الكافي / 360.
9 - الجوامع الفقهية / 528.
642

وفي المقنع للصدوق:
" وإذا لم يكن بالمصر طعام غيره فليس له إمساكه وعليه بيعه وهو محتكر. " (1)
إلى غير ذلك من كلمات الأصحاب في المسألة. وقد رأيت أن الأشياء الخاصة
المذكورة في كلماتهم متخذة من الأخبار، غير الملح، فإنه غير مذكور فيها ولكن الشيخ
ذكره في المبسوط وتبعه آخرون. ولعله لشدة الحاجة اليه.
وبالجملة، فالحكرة المنهي عنها عند أصحابنا على ما عرفت، كانت منحصرة في
الأطعمة، أو الأقوات، أو الأشياء الخمسة أو الستة أو السبعة المذكورة. ومستندهم
الأخبار المذكورة بعد حمل مطلقاتها على المقيدات منها.
وأما فقهاء السنة، فعن الرملي من فقهاء الشافعية والنووي في شرحه لصحيح مسلم
في تعريف الاحتكار:
" أنه اشتراء القوت وقت الغلاء ليمسكه ويبيعه بعد ذلك بأكثر من ثمنه للتضييق. " (2)
وقد عرفت نقل التذكرة أيضا عن الشافعي.
وقد مرت عبارة الشرح الكبير في فقه الحنابلة، حيث اشترط في الاحتكار المحرم
ثلاثة شروط، وقال:
" الثاني: أن يكون قوتا. فأما الإدام والعسل والزيت وعلف البهائم فليس احتكاره
بمحرم. " (3)
فعند الشافعي وأحمد يختص الاحتكار بقوت الانسان.
نعم في سنن أبي داود قال:
" سألت أحمد ما الحكرة؟ قال: ما فيه عيش الناس. " (4) ولعله أعم من القوت. وفي
بدائع الصنائع للكاشاني في فقه الحنفية:

1 - الجوامع الفقهية / 31.
2 - موسوعة الفقه الإسلامي 3 / 195، في الاحتكار.
3 - المغني 4 / 47، كتاب البيع.
4 - سنن أبي داود 2 / 243، كتاب الإجارة، باب في النهي عن الحكرة.
643

" ثم الاحتكار يجرى في كل ما يضر بالعامة عند أبي يوسف، قوتا كان أو لا. وعند
محمد لا يجري الاحتكار إلا في قوت الناس وعلف الدواب من الحنطة والشعير والتبن
والقت. " (1)
وفي المدونة الكبرى في فقه مالك:
" وسمعت مالكا يقول: الحكرة في كل شيء في السوق من الطعام والكتاب والزيت
وجميع الأشياء والصوف وكل ما يضر بالسوق. " قال: " والسمن والعسل والعصفر وكل
شيء؟ " قال مالك: " يمنع من يحتكره، كما يمنع من الحب ". قلت: " فإن كان ذلك لا يضر
بالسوق؟ " قال مالك: " فلا بأس بذلك إذا كان لا يضر بالسوق. " (2) هذا.
] 7 [- هل تختص الحكرة المنهي عنها بأقوات الإنسان، أو الأشياء الخاصة أم لا؟
قد ظهر لك أن ظاهر كلمات أصحابنا الإمامية حصر الحكرة المنهي عنها في أقوات
الإنسان، أو الأشياء الخاصة المذكورة في الروايات. وهو الذي تقتضيه الأخبار في
بادئ النظر بعد جمعها وحمل بعضها على بعض. وهو المنسوب إلى الشافعي وأحمد
أيضا، ولكن الحنفية والمالكية يكون الموضوع عندهم أعم من ذلك، فيشمل كل ما
يحتاج إليه الإنسان في حياته وعيشه. فما هو الحق في المسألة؟
أقول: الظاهر أن حرمة الاحتكار أو كراهته ليس حكما تعبديا بلا ملاك أو بملاك غيبي
لا يعرفه أبناء نوع الإنسان. بل الملاك له على ما هو المستفاد من أخبار

1 - بدائع الصنائع 5 / 129.
2 - المدونة الكبرى 3 / 290، باب ما جاء في الحكرة.
644

الباب أيضا هو حاجة الناس إلى المتاع وورود الضيق والضرر عليهم من فقده.
ففي صحيح الحلبي: " إن كان الطعام كثيرا يسع الناس فلا بأس به. وإن كان قليلا
لا يسع الناس فإنه يكره أن يحتكر الطعام ويترك الناس ليس لهم طعام. " (1)
يظهر من هذه الصحيحة علة الحكم وملاكه، وأن نظر الشارع الحكيم في تشريعه إلى
كون الناس في سعة وأن لا يتركوا بلا طعام يتوقف عليه حياتهم.
وفي ذيل صحيحته الأخرى بنقل الكليني: " وسألته عن الزبيب فقال: إذا كان عند
غيرك فلا بأس بإمساكه. " (2)
واتفقت الروايات والفتاوى في الزبيب، مع أنه كثيرا ما تكون حاجة الناس إلى كثير
من الأمتعة أكثر بمراتب من حاجتهم إلى مثل الزبيب.
وقد ذكر الزيت أيضا في بعض الروايات الحاصرة وأفتى به الفقهاء، وأنت تعلم أن
الزيت ليس مما تحتاج إليه عامة الناس، بل كان إداما في بعض المناطق، كالشامات و
أمثالها.
وقد كثرت البلاد التي تنحصر أقوات أهلها في الأرز أو الذرة مثلا، ويصير
إحتكارهما موجبا لصيرورتهم بلا طعام. فهل يجوز احتكارهما في هذه البلاد، ولا يجوز
احتكار مثل الزبيب أو الزيت فيها؟ وهل تكون حاجتهم إلى الأرز أو الذرة أقل من
حاجتهم إلى الزبيب؟!
بل وربما تكون حاجة الناس إلى بعض الأشياء من غير الأقوات أيضا في زمان أو
بلد خاص أشد بمراتب من حاجتهم إلى مثل الزيت والزبيب. كما إذا شاع مرض في
منطقة خاصة واشتدت حاجة الناس إلى دواء خاص يتوقف عليه حفظ حياتهم أو
سلامتهم فإحتكره بعض الصيادلة، أو وقعت الحكرة في جميع الألبسة الصيفية والشتوية
وموادها الأولية، أو في مثل الوقود والمياه والأراضي ونحوها ووقع

1 - الوسائل 12 / 313، الباب 27 من أبواب آداب التجارة، الحديث 2.
2 - الوسائل 12 / 315، الباب 28 من أبواب آداب التجارة، الحديث 2; عن الكافي 5 / 165، كتاب
المعيشة، باب الحكرة، الحديث 3.
645

الناس في ضيق شديد لذلك.
وقد أوضح أمير المؤمنين (عليه السلام) في كتابه إلى مالك ما هو الملاك في المنع من الاحتكار،
فقال في شأن التجار:
" واعلم - مع ذلك - أن في كثير منهم ضيقا فاحشا، وشحا قبيحا، واحتكارا للمنافع،
وتحكما في البياعات، وذلك باب مضرة للعامة وعيب على الولاة; فامنع من
الاحتكار. " (1)
ولم يذكر (عليه السلام) الأشياء الخاصة، ولا الأقوات مع كونه في مقام البيان.
وبالجملة، ليست أحكام الشريعة الإسلامية جزافية بلا ملاك، بل شرعت على أساس
المصالح والمفاسد. وليست أيضا لزمان خاص أو مكان خاص، بل شرعت لكافة الناس
في جميع البلدان إلى يوم القيامة. وحاجات الناس وضروريات معاشهم تختلف بحسب
الأزمنة والحالات والظروف. وإطلاقات الروايات الكثيرة الناهية عن مطلق الحكرة
تشمل الجميع. ومناسبة الحكم والموضوع، وملاحظة الملاك أيضا تقتضيان الأخذ
بالاطلاق. والأخبار الحاصرة أيضا بنفسها مختلفة; فترى الزيت مذكورا فيما روي عن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يذكر فيما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، وترى الملح مذكورا في كلام
الشيخ ومن بعده ولم يذكر في كلام من قبله ولا في الروايات، فاحدس من جميع ذلك
عدم انحصار الاحتكار المحرم في أشياء خاصة.
] 8 [- وجوه الحمل في الأخبار الحاصرة:
فإن قلت: فعلى أي محمل تحمل الأخبار الحاصرة؟
قلت: يحتمل فيها وجوه:

1 - نهج البلاغة، فيض / 1017; عبده 3 / 110; لح / 438، الكتاب 53.
646

الأول: أن تكون القضية فيها خارجية لا حقيقية بتقريب أن الأشياء الخاصة كانت
عمدة ما يحتاج إليه الناس في عصر صدور الخبر وفي تلك الظروف، ولا محالة كانت
هي التي تقع موردا للحكرة والحبس ولم يكن غيرها من الأمتعة قليلة بحيث تحتكر أو
كثيرة المصرف بحيث يرغب في حبسها وحكرتها، أو يضرهم فقدها على فرض الحبس.
وبهذا يوجه أيضا ذكر الزيت فيما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتركه فيما روي عن
أمير المؤمنين (عليه السلام).
الثاني: ما ربما ينسبق إلى الخاطر من أن فتوى أبي حنيفة ومالك فقيهي العراق و
الحجاز لعله كان موردا لعمل الخلفاء وعمالهم في البلاد في عصر الإمام الصادق (عليه السلام)، و
كانوا باستناد ذلك يتعرضون لأموال الناس باسم المنع عن الحكرة مع أن غير الأشياء
الخاصة لم يكن في ذلك العصر في معرض الحاجة الشديدة بحيث يدخل في عنوان
الحكرة ويكون مجوزا لتدخل الحكومة، نظير ما هو المشاهد في عصرنا من الأعمال
الحادة الصادرة من بعض المحاكم الإفراطية، فأراد الإمام الصادق (عليه السلام) ردعهم عن ذلك
ببيان أن عملهم على خلاف الموازين.
والظاهر أن لحن التعبير في الروايات الحاصرة يشعر بأنه كان في تلك الأعصار من
يصر على عموم الحكرة وسعتها لسائر الأشياء، فحكى (عليه السلام) قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقول
أمير المؤمنين (عليه السلام) لإلزامهم، وفي الحقيقة هذا بيان آخر لكون القضية خارجية لا حقيقية.
تعيين موضوعات الحكرة من شؤون الوالي:
الثالث: أن الحصر في الروايات الحاصرة لم يكن حكما فقهيا كليا لجميع الأزمنة و
الظروف، بل حكما ولائيا لعصر خاص ومكان خاص، فيكون تعيين الموضوع من
647

شؤون الحاكم بحسب ما يراه من احتياجات الناس في عصره ومجال حكمه.
والمناسب للشريعة السمحة السهلة المشرعة لجميع الأعصار والظروف أن يشرع
فيها الكليات القابلة للانطباق في كل عصر ومكان، ويفوض تعيين الموضوعات الجزئية
لها إلى الحكام والولاة.
نظير ما احتملناه في باب الزكاة من أن المشرع في الكتاب الكريم كان أصل وجوب
الزكاة وأخذ الصدقات من أموال الناس، وتعيين الموضوع لها فوض إلى الولاة و
الحكام على حسب تشخيصهم للثروات العمومية. وتعيين الموضوعات التسعة من قبل
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان حكما ولائيا صدر عنه بما أنه كان واليا على المسلمين في عصره وكان
عمدة ثروة العرب الموضوعات التسعة، كما ربما يشعر بذلك بعض التعبيرات الواردة في
الروايات كقوله (عليه السلام): " وضع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الزكاة على تسعة أشياء وعفا عما سوى
ذلك. " (1)
وبالجملة، تعيين موضوعات الحكرة من شؤون الوالي في كل عصر. وتعيينها في
الأخبار الحاصرة كان من هذا القبيل فلا يعم جميع الأعصار، فتدبر.
ومما يشهد لكون أمر الحكرة والنهي عنها من شؤون الولاة والحكام أمر
أمير المؤمنين (عليه السلام) مالكا ورفاعة بالنهي عن الحكرة ومعاقبة من تخلف، بل أمر
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالإخراج والبيع في خبر حذيفة، فتدبر.
فإن قلت: قد مر منكم أن الاحكام الولائية الصادرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة -
عليهم السلام - أيضا مثل الأحكام الإلهية تعم جميع المسلمين إلى يوم القيامة.
قلت: نعم ولكن إذا لم تكن قرينة على الاختصاص. فمنعه (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الاحتكار يعم
جميع الأعصار، كنفيه الضرر والضرار. وأما حصر الحكرة في الأشياء الخاصة فيفهم من
الدقة في ملاك الحكم كونه مختصا بعصر خاص، فتدبر.

1 - الوسائل 6 / 32، الباب 8 من أبواب ما تجب فيه الزكاة.
648

] 9 [- نقل كلام بعض الفقهاء:
وصاحب الجواهر بعد ما أفتى بكراهة الاحتكار بذاته وحرمته مع قصد الإضرار، أو
حصول الغلاء والإضرار بفعله، أو بإطباق المعظم عليه قال:
" بل هو كذلك في كل حبس لكل ما تحتاجه النفوس المحترمة ويضطرون اليه و
لا مندوحة لهم عنه من مأكول أو مشروب أو ملبوس أو غيرها، من غير تقييد بزمان دون
زمان، ولا أعيان دون أعيان، ولا انتقال بعقد، ولا تحديد بحد، بعد فرض حصول
الاضطرار. بل الظاهر تسعيره حينئذ بما يكون مقدورا للطالبين إذا تجاوز الحد في الثمن.
بل لا يبعد حرمة قصد الاضطرار بحصول الغلاء ولو مع عدم حاجة الناس ووفور
الأشياء. بل قد يقال بالتحريم بمجرد قصد الغلاء وحبه وإن لم يقصد الإضرار. ويمكن
تنزيل القول بالتحريم على بعض ذلك. " (1)
وفيه أيضا:
" ولو اعتاد الناس طعاما في أيام القحط مبتدعا جرى فيه الحكم لو بني فيه على العلة.
وفي الأخبار ما ينادي بأن المدار على الاحتياج، وهو مؤيد للتنزيل على المثال، وإن
كان فيه ما لا يخفى. " (2)
فهو - قدس سره - قائل بالتعميم ولكن بملاك الحاجة والاضطرار.
وممن أفتى بالتعميم من الفقهاء المتأخرين آية الله الإصفهاني - طاب ثراه - فإنه قال
في كتابه وسيلة النجاة:
" الاحتكار وهو حبس الطعام وجمعه يتربص به الغلاء حرام مع ضرورة المسلمين و
حاجتهم وعدم وجود من يبذلهم قدر كفايتهم... وإنما يتحقق الاحتكار بحبس

1 - الجواهر 22 / 481.
2 - الجواهر 22 / 483.
649

الحنطة والشعير والتمر والزبيب والدهن، وكذا الزيت والملح على الأحوط لو
لم يكن أقوى، بل لا يبعد تحققه في كل ما يحتاج إليه عامة أهالي البلد من الأطعمة،
كالأرز والذرة بالنسبة إلى بعض البلاد. " (1)
أقول: الأرز والذرة لم يذكر في الروايات الحاصرة. فمن تعديه إليهما يظهر أنه - طاب
ثراه - حمل الأشياء المذكورة في الروايات على كونها من باب المثال الظاهر للأشياء
الضرورية التي يحتاج إليها الإنسان. وحينئذ فيمكن أن يقال بأنه لا خصوصية للأرز و
الذرة.
اللهم إلا أن يقال: إن المستفاد من الروايات وكلمات الفقهاء كون الموضوع خصوص
القوت والطعام، فلا يتعدى إلى غير الأقوات، فتدبر.
وقال المحقق الحائري - طاب ثراه - في كتابه ابتغاء الفضيلة في شرح الوسيلة:
" إذا فرض الاحتياج إلى غير الطعام من الأمور الضرورية للمسلمين كالدواء والوقود
في الشتاء بحيث استلزم من احتكارها الحرج والضرر على المسلمين فمقتضى ما تقدم
من دلالة دليل الحرج والضرر حرمته وإن لم تصدق عليه لغة الاحتكار.
ويمكن التمسك بالتذييل الذي هو في مقام التعليل بحسب الظاهر المتقدم في معتبر
الحلبي، بناء على أنه إذا كان الظاهر أن التعليل بأمر ارتكازي فيحكم بإلغاء قيد الطعام،
لأنه ليس بحسب الارتكاز إلا من جهة توقف حفظ النفس عليه. فإذا وجد الملاك
المذكور في الدواء مثلا فلا ريب أنه بحكمه عرفا، وهذا يوجب الغاء الخصوصية
المأخوذة في التعليل. " (2)
أقول: استدلاله للتعميم بذيل صحيحة الحلبي حسن جدا. واحتماله عدم صدق لغة
الاحتكار عليه في غاية الضعف، لما مر منا من أن اللفظ بحسب اللغة لم يؤخذ

1 - وسيلة النجاة 2 / 8.
2 - ابتغاء الفضيلة 1 / 197.
650

فيه العناوين والأشياء الخاصة، وإنما ذكرها الفقهاء في تعريفهم له إذ كانوا بصدد
تحديد ما هو الموضوع عندهم للحرمة أو الكراهة بحسب الأدلة. هذا.
والسيد الأستاذ الامام - مد ظله - في تحرير الوسيلة منع التعميم فقال:
" والأقوى عدم تحققه إلا في الغلات الأربع والسمن والزيت، نعم هو أمر مرغوب
عنه في مطلق ما يحتاج إليه الناس، لكن لا يثبت لغير ما ذكر أحكام الاحتكار. " (1)
] 10 [- هل يشترط فيه الاشتراء أم لا؟
قال العلامة في المنتهى:
" قال مالك والأوزاعي إنما يثبت الاحتكار بشرط أن يشتري. ولو جلب شيئا أو
دخل من غلته شيء فادخره لم يكن محتكرا. " (2) وظاهره ارتضاء هذا القول.
وفي مفتاح الكرامة - في شرائط الاحتكار -:
" وزاد في نهاية الإحكام أن يكون قد اشتراه. فلو جلب أو ادخر من غلته فلا بأس. و
هو المحكي عن ظاهر المنتهى، ومال إليه في جامع المقاصد أو قال به. " (3)
وقد مر عن الشرح الكبير لابن قدامة أنه قال في شروط الاحتكار:
" أحدها: أن يشتري. فلو جلب شيئا أو أدخل عليه من غلته شيئا فادخره لم يكن
محتكرا، روي ذلك عن الحسن ومالك. " (4)
وفي بدائع الصنائع في تفسير الاحتكار:
" هو أن يشتري طعاما في مصر ويمتنع عن بيعه وذلك يضر بالناس. وكذلك

1 - تحرير الوسيلة 1 / 502، المسألة 23 من المكاسب المحرمة.
2 - المنتهى 2 / 1007.
3 - مفتاح الكرامة ج 4، كتاب المتاجر / 108.
4 - المغني 4 / 46.
651

لو اشتراه من مكان قريب يحمل طعامه إلى المصر. " (1)
وفي موسوعة الفقه الإسلامي عن الشافعية:
" أنه اشتراء القوت وقت الغلات ليمسكه ويبيعه بعد ذلك بأكثر من ثمنه للتضييق. " (2)
هذا.
ولكن كلمات أكثر أصحابنا الإمامية ولا سيما المتقدمين منهم مطلقة تشمل صورة
الاشتراء وغيره. كما أن أكثر أخبار الباب أيضا مطلقة. نعم، في إحدى صحيحتي الحلبي،
عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " إنما الحكرة أن تشتري طعاما وليس في المصر غيره
فتحتكره. " (3)
وظاهر كلمة " إنما " هو الحصر. كما أن المذكور في صحيحة الحناط أن حكيم بن
حزام كان إذا دخل الطعام المدينة اشتراه كله، الحديث (4). والموضوع في خبر أبي مريم
أيضا اشتراء الطعام. (5)
أقول: الظاهر أن الحصر في صحيحة الحلبي إنما يكون في قبال الفقرة الثانية، أعني
قوله: " فإن كان في المصر طعام أو متاع غيره فلا بأس أن تلتمس بسلعتك الفصل "، لا في
قبال كون الملكية بغير الاشتراء. فيكون ذكر الاشتراء من باب المثال والغلبة، ويشهد
لذلك عدم ذكره في الصحيحة الأخرى للحلبي (6). وقد عرفت استظهار كونهما رواية
واحدة لوحدة الراوي، والمروي عنه، والمضمون.
وكون المورد في صحيح الحناط وخبر أبي مريم خصوص الاشتراء لا يدل على
الاختصاص ونفي الغير.
والنهي عن الاحتكار إنما هو لرفع الضيق والحاجة عن الناس، كما أشار إلى

1 - بدائع الصنائع 5 / 129.
2 - موسوعة الفقه الإسلامي 3 / 195، في الاحتكار.
3 - الوسائل 12 / 315، الباب 28 من أبواب آداب التجارة، الحديث 1.
4 - الوسائل 12 / 316، الباب 28 من أبواب آداب التجارة، الحديث 3.
5 - الوسائل 12 / 314، الباب 27 من أبواب آداب التجارة، الحديث 6.
6 - الوسائل 12 / 313، الباب 27 من أبواب آداب التجارة، الحديث 2.
652

ذلك في الصحيحة بقوله (عليه السلام): " ويترك الناس ليس لهم طعام. " فلا دخالة لخصوصية
الاشتراء في ذلك.
قال الشيخ الأعظم - قدس سره - في المكاسب بعد الاستدلال بذلك:
" وعليه فلا فرق بين أن يكون ذلك من زرعه، أو من ميراث، أو يكون موهوبا له، أو
كان قد اشتراه لحاجة فانقضت الحاجة وبقي الطعام لا يحتاج إليه المالك فحبسه متربصا
للغلاء. " (1)
] 11 [- اشتراط كون الاستبقاء للزيادة:
الظاهر أن مورد البحث هو صورة كون الاستبقاء للزيادة في الثمن. فلو استبقاه لحاجة
نفسه وعائلته، أو للبذر لم يكن محتكرا ولم يحرم، اللهم إلا في بعض الفروض.
ففي الوسيلة لابن حمزة:
" وإذا احتبس لقوته وقوت عياله لم يكن ذلك احتكارا. " (2)
وقال في الشرائع:
" بشرط أن يستبقيها للزيادة في الثمن. " (3)
وفي الجواهر في شرح العبارة:
" لا إشكال نصا وفتوى بل ولا خلاف كذلك في أن الاحتكار يكره أو يحرم (بشرط
ان يستبقيها للزيادة في الثمن)، فلو استبقاها لحاجة إليها للبذر أو نحوه لم يكن به بأس.
بل الظاهر عدم كونه احتكارا كما دل عليه النص والفتوى. " (4)
وفي المختصر النافع:

1 - المكاسب / 213.
2 - الجوامع الفقهية / 745.
3 - الشرائع 2 / 21.
4 - الجواهر 22 / 483.
653

" وتحقق الكراهية إذا استبقاه لزيادة الثمن ولم يوجد باذل (بائع خ. ل) غيره. " (1)
وفي القواعد:
" بشرطين: الاستبقاء للزيادة، وتعذر غيره. " (2)
إلى غير ذلك من الكلمات الدالة على كون مورد البحث صورة إرادة الزيادة في القيمة
والغلاء.
وفي رواية أبي مريم: " يريد به غلاء المسلمين. " (3)
وفي صحيحة الحلبي: " فلا بأس أن تلتمس بسلعتك الفضل. " (4)
وفي رواية الحاكم النيسابوري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " من احتكر يريد أن يتغالى بها على
المسلمين فهو خاطئ. " (5)
إلى غير ذلك من الروايات. وكيف كان فالظاهر وضوح المسألة.
نعم، يستحب مساواة الناس حالة الغلاء ولو ببيع ما عنده من الجيد إذا لم يقدر الناس
إلا على الردى:
1 - ففي خبر حماد قال: " أصاب أهل المدينة قحط حتى أقبل الرجل الموسر يخلط
الحنطة بالشعير ويأكله ويشتري ببعض الطعام. وكان عند أبي عبد الله (عليه السلام) طعام جيد قد
اشتراه أول السنة فقال لبعض مواليه: اشتر لنا شعيرا فاخلطه بهذا الطعام، أو بعه. فإنا نكره
أن نأكل جيدا ويأكل الناس رديا. " (6)
2 - وفي خبر معتب، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) - وقد يزيد السعر بالمدينة -: كم

1 - المختصر النافع / 120.
2 - القواعد 1 / 122.
3 - الوسائل 12 / 314، الباب 27 من أبواب آداب التجارة، الحديث 6.
4 - الوسائل 12 / 315، الباب 28 من أبواب آداب التجارة، الحديث 1.
5 - مستدرك الحاكم 2 / 12، كتاب البيوع.
6 - الوسائل 12 / 321، الباب 32 من أبواب آداب التجارة، الحديث 1.
654

عندنا من طعام؟ قال: قلت: عندنا ما يكفينا أشهرا كثيرة. قال: أخرجه وبعه. قال: قلت
له: وليس بالمدينة طعام. قال: بعه. فلما بعته قال: اشتر مع الناس يوما بيوم. وقال: يا
معتب، اجعل قوت عيالي نصفا شعيرا ونصفا حنطة، فإن الله يعلم أني واجد أن أطعمهم
الحنطة على وجهها، ولكني أحببت أن يراني الله قد أحسنت تقدير المعيشة. (1)
] 12 [- إجبار المحتكر على البيع:
1 - قال المفيد في المقنعة:
" وللسلطان أن يكره المحتكر على إخراج غلته وبيعها في أسواق المسلمين إذا كانت
بالناس حاجة ظاهرة إليها. " (2)
2 - وقال الشيخ في النهاية:
" ومتى ضاق على الناس الطعام ولم يوجد إلا عند من احتكره كان على السلطان أن
يجبره على بيعه ويكرهه عليه. " (3)
3 - وفي المبسوط:
" فمتى احتكر والحال على ما وصفناه أجبره السلطان على البيع دون سعر بعينه. " (4)
4 - وفي الكافي لأبي الصلاح:
" وإذا فعل، خوطب في إخراجها إلى أسواق المسلمين. فإن امتنع، أكره على
ذلك. " (5)
5 - وفي الوسيلة:

1 - الوسائل 12 / 321، الباب 32 من أبواب آداب التجارة، الحديث 2.
2 - المقنعة / 96.
3 - النهاية / 374.
4 - المبسوط 2 / 195.
5 - الكافي / 360.
655

" فإذا احتبس المبيع ومست الحاجة إليه من الناس ولم يبعه أجبر على البيع دون
السعر. " (1)
6 - وفي السرائر:
" ومتى ضاق على الناس الطعام ولم يوجد إلا عند من احتكره كان على السلطان و
الحكام من قبله أن يجبره على بيعه ويكرهه عليه. " (2)
7 - وفي الشرائع:
" ويجبر المحتكر على البيع. " (3) ومثله في المختصر. (4)
8 - وفي القواعد:
" ويجبر على البيع لا التسعير على رأي. " (5)
9 - وفي الدروس:
" فيجبر على البيع حينئذ. " (6)
إلى غير ذلك من كلمات الأصحاب.
10 - وفي الحدائق:
" لا خلاف بين الأصحاب في أن الإمام يجبر المحتكرين على البيع، وعليه تدل جملة
من الأخبار المتقدمة. " (7)
11 - وفي الجواهر:
" وكيف كان فقد قيل: لا خلاف بين الأصحاب في أن الإمام ومن يقوم مقامه ولو
عدول المسلمين] يجبر المحتكر على البيع [، بل عن جماعة الإجماع عليه على
القولين. " (8)

1 - الجوامع الفقهية / 745.
2 - السرائر / 212.
3 - الشرائع 2 / 21.
4 - المختصر النافع / 120.
5 - القواعد 1 / 122.
6 - الدروس / 332، كتاب المكاسب.
7 - الحدائق 18 / 64.
8 - الجواهر 22 / 485.
656

12 - وفي مكاسب الشيخ الأعظم:
" الظاهر عدم الخلاف كما قيل في إجبار المحتكر على البيع حتى على القول
بالكراهة، بل عن المهذب البارع الإجماع، وعن التنقيح كما في الحدائق عدم الخلاف
فيه. وهو الدليل المخرج عن قاعدة عدم الإجبار لغير الواجب، ولذا ذكرنا أن ظاهر أدلة
الإجبار تدل على التحريم لأن إلزام غير اللازم خلاف القاعدة. " (1)
أقول: ويدل على الحكم، بعد وضوحه والإجماع وعدم الخلاف المدعى، أمر
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالبيع وعدم الحبس في خبر حذيفة السابق، وإخراج الحكرة إلى بطون
الأسواق في خبر ضمرة الآتي، وأمر أمير المؤمنين (عليه السلام) مالكا ورفاعة بالمنع من
الاحتكار والنهي عنه وعقاب من تخلف، كما مر. هذا.
وفي الجواهر:
" ولو تعذر الإجبار قام الحاكم مقامه، بل ظاهر بعض قيامه مقامه مع عدم تعذر
الإجبار خصوصا الإمام، وإن كان قد يناقش بأنه خلاف المأثور. " (2)

1 - المكاسب / 213.
2 - الجواهر 22 / 485.
657

التسعير
] 13 [- هل يجوز التسعير أم لا؟ وذكر بعض كلمات الفقهاء فيه:
اختلفت كلماتهم في ذلك، والأكثر على المنع بل في مفتاح الكرامة:
" إجماعا وأخبارا متواترة كما في السرائر، وبلا خلاف كما في المبسوط، وعندنا كما
في التذكرة. " (1)
أقول: 1 - في نهاية الشيخ:
" ولا يجوز له أن يجبره على سعر بعينه، بل يبيعه بما يرزقه الله - تعالى - ولا يمكنه
من حبسه أكثر من ذلك. " (2)
2 - وفي المبسوط:
" فصل في حكم التسعير: لا يجوز للإمام ولا النائب عنه أن يسعر على أهل الأسواق
متاعهم من الطعام وغيره، سواء كان في حال الغلاء أو في حال الرخص، بلا خلاف. و
روى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن رجلا أتاه فقال: سعر على أصحاب الطعام، فقال: بل أدعو الله.
ثم جاء آخر فقال: يا رسول الله، سعر على أصحاب الطعام، فقال: بل الله يرفع ويخفض.
وإني لأرجو أن ألقى الله وليست لأحد عندي مظلمة. فإذا ثبت ذلك، فإذا خالف إنسان
من أهل السوق بزيادة سعر أو نقصانه

1 - مفتاح الكرامة، ج 4، كتاب المتاجر / 109.
2 - النهاية / 374.
658

فلا اعتراض لأحد عليه. " (1)
3 - وفيه أيضا:
" فمتى احتكر والحال على ما وصفناه أجبره السلطان على البيع دون سعر بعينه. " (2)
4 - وفي الغنية:
" ولا يجوز إكراه الناس على سعر مخصوص. " (3)
5 - وفي الشرائع:
" ولا يسعر عليه. وقيل: يسعر. والأول أظهر. " (4)
6 - وفي المختصر:
" وهل يسعر عليه؟ الأصح، لا. " (5)
7 - وفي القواعد:
" ويجبر على البيع، لا التسعير على رأي. " (6)
8 - ولكن في المقنعة:
" وله أن يسعرها على ما يراه من المصلحة ولا يسعرها بما يخسر أربابها فيها. " (7)
9 - وفي وسيلة ابن حمزة:
" أجبر على البيع دون السعر إلا إذا تشدد. وإن خالف أحد في السوق بزيادة أو
نقصان لم يعترض عليه. " (8)
10 - وفي الدروس:

1 - المبسوط 2 / 195.
2 - المبسوط 2 / 195.
3 - الجوامع الفقهية / 528.
4 - الشرائع 2 / 21.
5 - المختصر النافع / 120.
6 - القواعد 1 / 122.
7 - المقنعة / 96.
8 - الجوامع الفقهية / 745.
659

" ولا يسعر عليه إلا مع التشدد. " (1)
ولعل المراد بالتشدد هو الإجحاف، كما في كلام آخرين:
11 - ففي مفتاح الكرامة هكذا:
" وفي الوسيلة والمختلف والايضاح والدروس واللمعة والمقتصر والتنقيح أنه
يسعر عليه إن أجحف في الثمن، لما فيه من الإضرار المنفي. " (2)
هذه بعض كلمات الفقهاء من أصحابنا.
وأما فقهاء السنة:
12 - فقال العلامة في المنتهى:
" على الإمام أن يجبر المحتكرين على البيع، وليس له أن يجبرهم على التسعير بل
يتركهم يبيعوا كيف شاؤوا. به قال أكثر علمائنا وهو مذهب الشافعي. وقال المفيد و
سلار (قدس سره): للإمام أن يسعر عليهم فيسعر بسعر البلد. وبه قال مالك. " (3)
13 - وفي موسوعة الفقه الإسلامي:
" نص المالكية على أن من اشترى الطعام من الأسواق واحتكره وأضر بالناس فإن
الناس يشتركون فيه بالثمن الذي اشتراه به. " (4)
14 - وفيه أيضا:
" صرح الحنابلة بأن لولي الأمر أن يكره المحتكرين على بيع ما عندهم بقيمة المثل
عند ضرورة الناس إليه. مثل من عنده طعام يحتاج إليه الناس في مخمصة، فإن من اضطر
إلى طعام غيره أخذه منه بغير اختياره بقيمة المثل. ولو امتنع عن بيعه إلا بأكثر من سعره
أخذه منه بقيمة المثل... ومن هنا ذهب كثير من الفقهاء إلى القول بأن من حق الإمام، بل
من واجبه، أن يسعر السلع وأن يمنع الناس أن

1 - الدروس / 332، كتاب المكاسب.
2 - مفتاح الكرامة، ج 4، كتاب المتاجر / 109.
3 - المنتهى 2 / 1007.
4 - موسوعة الفقه الإسلامي 3 / 198، في الاحتكار.
660

يبيعوا إلا بقيمة المثل ولا يشتروا إلا بها بلا تردد في ذلك عند أحد من العلماء. " (1)
فقد ظهر بما حكيناه من الكلمات أن المسألة خلافية بين فقهاء الفريقين، ولكن الأكثر
من فقهائنا على منع التسعير اللهم إلا مع إجحاف المالك.
واستدل العلامة - طاب ثراه - في المنتهى على المنع بالأخبار المروية من الفريقين و
ستأتي، وبأن الأصل تحريم نقل مال الغير عنه بغير اذنه، ولأنه مال فلم يجز منعه من بيعه
بما تراضيا عليه، ولان فيه مفسدة لأنه ربما سمع الجالب بذلك فلا يقدم بسلعته وربما
سمع صاحب البضاعة بالإكراه فحبس ماله عنده فيحصل الإضرار بالجانبين: جانب
المالك في منع بيع سلعته، وجانب أهل البلد في منع الجلب إليهم. (2)
] 14 [- أخبار التسعير:
1 - ما رواه الكليني بسنده عن حذيفة بن منصور، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " نفد الطعام
على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأتاه المسلمون فقالوا: يا رسول الله، قد نفد الطعام ولم يبق منه
شيء إلا عند فلان، فمره ببيعه. قال: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: " يا فلان، إن
المسلمين ذكروا أن الطعام قد نفد إلا شيء عندك، فأخرجه وبعه كيف شئت ولا تحبسه. "
ورواه الشيخ أيضا بسنده إلا أنه قال " فقد "، مكان " نفد " في المواضع الثلاثة. (3)
وقد مر الحديث وأنه لا كلام في رجاله إلا في حذيفة ومحمد بن سنان. والظاهر أن
الأمر فيهما سهل.
فرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رخصه في البيع كيف شاء ولم يسعر عليه.

1 - موسوعة الفقه الإسلامي 3 / 198، في الاحتكار.
2 - المنتهى 2 / 1007.
3 - الوسائل 12 / 316، الباب 29 من أبواب آداب التجارة، الحديث 1.
661

2 - ما رواه الشيخ بسنده عن الحسين بن عبيد الله بن ضمرة، عن أبيه، عن جده، عن
علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنه قال: رفع الحديث إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه مر بالمحتكرين فأمر
بحكرتهم أن تخرج إلى بطون الأسواق، وحيث تنظر الأبصار إليها. فقيل
لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لو قومت عليهم، فغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى عرف الغضب في وجهه
فقال: " أنا أقوم عليهم؟! إنما السعر إلى الله; يرفعه إذا شاء ويخفضه إذا شاء. " (1) ورواه
الصدوق أيضا في الفقيه مرسلا، وفي التوحيد بسند موثوق به. (2)
3 - ما رواه الصدوق في الفقيه، قال: قيل للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لو سعرت لنا سعرا، فإن الأسعار
تزيد وتنقص. فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما كنت لألقى الله ببدعة لم يحدث إلى فيها شيئا، فدعوا عباد
الله يأكل بعضهم من بعض، وإذا استنصحتم فانصحوا " ورواه في التوحيد أيضا إلى قوله:
من بعض. (3)
4 - ما رواه أيضا بإسناده عن أبي حمزة الثمالي، عن علي بن الحسين (عليه السلام)، قال: " إن
الله - عز وجل - وكل بالسعر ملكا يدبره بأمره. " ورواه في التوحيد أيضا بسند
صحيح. (4)
5 - ما رواه أيضا عن أبي حمزة الثمالي، قال: ذكر عند علي بن الحسين (عليه السلام) غلاء السعر
فقال: " وما على من غلائه، إن غلا فهو عليه، ان رخص فهو عليه. " ورواه في التوحيد
كالذي قبله. (5)
6 - ما رواه الكليني بسنده عن محمد بن أسلم، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:
" إن الله - عز وجل - وكل بالسعر ملكا فلن يغلو من قلة ولن يرخص من كثرة. " (6)

1 - الوسائل 12 / 317، الباب 30 من أبواب آداب التجارة، الحديث 1. الفقيه 3 / 265، الحديث
3955. التوحيد / 388، باب القضاء والقدر، الحديث 33.
2 - الوسائل 12 / 317، الباب 30 من أبواب آداب التجارة، الحديث 1. الفقيه 3 / 265، الحديث
3955. التوحيد / 388، باب القضاء والقدر، الحديث 33.
3 - الوسائل 12 / 318، الباب 30 من أبواب آداب التجارة، الحديث 2.
4 - الوسائل 12 / 318، الباب 30 من أبواب آداب التجارة، الحديث 3.
5 - الوسائل 12 / 318، الباب 30 من أبواب آداب التجارة، الحديث 4.
6 - الوسائل 12 / 318، الباب 30 من أبواب آداب التجارة، الحديث 5.
662

7 - ماه رواه أيضا بسنده عن يعقوب بن يزيد، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:
" إن الله وكل بالأسعار ملكا يدبرها. " (1)
8 - وفي سنن أبي داود بسنده عن أبي هريرة أن رجلا جاء فقال: يا رسول الله، سعر.
فقال: " بل أدعو "، ثم جاء رجل فقال: يا رسول الله، سعر. فقال: " بل الله يخفض ويرفع.
وإني لأرجو أن ألقى الله وليس لأحد عندي مظلمة. " (2)
9 - وفيه أيضا بسنده عن انس بن مالك، قال، قال الناس: يا رسول الله، غلا السعر
فسعر لنا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ان الله هو المسعر القابض الباسط الرازق. وانى لأرجو
ان القى الله وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم ولا مال. " (3)
ورواه ابن ماجة أيضا (4). وأحمد في المسند. (5)
وروى نحوه عبد الرزاق في المصنف عن الحسن، قال: " غلا السعر مرة بالمدينة فقال
الناس. الحديث ". (6)
10 - وروى ابن ماجة بسنده عن أبي سعيد، قال: غلا السعر على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
فقالوا: لو قومت يا رسول الله، قال: " إني لأرجو أن أفارقكم ولا يطلبني أحد منكم
بمظلمة ظلمته. " (7)
11 - وروى عبد الرزاق في المصنف بسنده عن سالم بن أبي الجعد، قال: قيل
للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سعر لنا الطعام، فقال: " إن غلاء السعر ورخصه بيد الله. وإني أريد أن ألقى

1 - الوسائل 12 / 318، الباب 30 من أبواب آداب التجارة، الحديث 6.
2 - سنن أبي داود 2 / 244، كتاب الإجارة، باب في التسعير.
3 - سنن أبي داود 2 / 244، كتاب الإجارة، باب في التسعير.
4 - سنن أبن ماجة 2 / 741، كتاب التجارات، الباب 27، الحديث 2200.
5 - مسند أحمد 3 / 156.
6 - المصنف 8 / 205 باب هل يسعر، الحديث 14897.
7 - سنن ابن ماجة، 2 / 742، كتاب التجارات، الباب 27، الحديث 2201.
663

الله لا يطلبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في مال ولا دم. " (1)
إلى غير ذلك من الروايات في هذا الباب. وروى بعضها أبو يوسف في كتاب الخراج،
فراجع (2)
] 15 [- متى يجوز التسعير؟
أقول: السعر العادي الطبيعي دائر مدار الظروف والشرائط الطبيعية، من كثرة المتاع و
قلته، وكثرة الرغبات وقلتها، ومصارف الإنتاج والتوزيع، وأجرة الحمل والنقل و
الحفظ وغير ذلك من الجهات الطبيعية.
وبعبارة أخرى: السعر المتعارف معلول لمسألة العرض والطلب والظروف الطبيعية و
الاجتماعية. وأمر الجميع ينتهي إلى مشية الله وإرادته الحاكمة على نظام الوجود.
والظاهر أن قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إنما السعر إلى الله يرفعه إذا شاء ويخفضه إذا
شاء " (3)، وما مر من الأئمة (عليهم السلام) في أمر السعر أيضا لايراد به إلا هذا السعر الطبيعي
المتعارف أو ما يقرب منه، فإنه الذي يكون إلى الله لا ما يقع إجحافا وظلما من المالك
بعد الحصار الاقتصادي.
فكأن القوم أرادوا من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) التصرف في السعر الطبيعي والتسعير بما دون
المتعارف، فغضب (صلى الله عليه وآله وسلم) عليهم لذلك وأحال السعر إلى ما يقتضيه العرض والطلب و
نحوهما من العوامل الطبيعية.
وأما إذا فرض إيجاد الحصار الاقتصادي فلا محالة يحتاج إلى تدخل الحكومة و
الإلزام من قبلها بمقدار الضرورة. ولا يجوز التجاوز عنه، فإن حرمة مال المؤمن

1 - المصنف 8 / 205، باب هل يسعر، الحديث 14899.
2 - كتاب الخراج / 49.
3 - الوسائل 12 / 317، الباب 30 من أبواب آداب التجارة، الحديث 1.
664

كحرمة دمه، والناس مسلطون على أموالهم بحكم الشرع والعقل، ولا يتصرف في
مال الغير إلا بإذنه أو بتجارة عن تراض. فلا يجوز الإجبار بأكثر من الضرورة
الاجتماعية التي يحكم برعايتها العقل والشرع، فقد ترتفع الضرورة بالأمر بإخراج
المتاع وعرضه على الناس فقط. وقد يواجه الحاكم إجحاف المالك بما يعسر على
المجتمع تحمله فيمنعه عن الإجحاف والإضرار. وقد لا تعالج المشكلة إلا بالتسعير. و
قد يواجه الحاكم تعنت المالك واستبداده وعصيانه لأوامر الحاكم بالكلية فيتدخل بنفسه
في بيع الأمتعة المحتكرة بثمن المثل.
وبالجملة، فروايات المنع من التسعير بكثرتها ناظرة إلى الموارد الغالبة التي لا تصل
فيها النوبة إلى تسعير الحاكم بل تنحل المشكلة بمجرد عرض المتاع وكثرته في السوق.
قال الصدوق في كتاب التوحيد:
" فما كان من الرخص والغلاء عن سعة الأشياء وقلتها فإن ذلك من الله - عز وجل - و
يجب الرضا بذلك والتسليم له. وما كان من الغلاء والرخص بما يؤخذ الناس به لغير قلة
الأشياء وكثرتها من غير رضا منهم به، أو كان من جهة شراء واحد من الناس جميع طعام
بلد فيغلو الطعام لذلك، فذلك من المسعر والمتعدي بشرى طعام المصر كله، كما فعله
حكيم بن حزام: كان إذا دخل الطعام المدينة اشتراه كله فمر عليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا
حكيم بن حزام، إياك أن تحتكر. " (1)
وفي المسالك - بعد استظهار المصنف عدم التسعير - قال:
" إلا مع الإجحاف وإلا لانتفت فائدة الإجبار، إذ يجوز أن يطلب في ماله ما لا يقدر
على بذله أو يضر بحال الناس، والغرض دفع الضرر. " (2)
وفي الروضة:
" ولا يجوز التسعير في الرخص مع عدم الحاجة قطعا. والأقوى أنه مع الإجحاف

1 - التوحيد / 389.
2 - المسالك 1 / 177.
665

حيث يؤمر به لا يسعر عليه أيضا بل يؤمر بالنزول عن المجحف وإن كان في معنى
التسعير إلا أنه لا ينحصر في قدر خاص. " (1)
وفي الجواهر:
" نعم لا يبعد رده مع الإجحاف، كما عن أبي حمزة والفاضل في المختلف وثاني
الشهيدين وغيرهم لنفي الضرر والضرار. ولأنه لولا ذلك لانتفت فائدة الإجبار، إذ يجوز
أن يطلب في ماله ما لا يقدر على بذله ويضر بحال الناس. والغرض دفع الضرر. وليس
ذلك من التسعير ولذا تركه الأكثر. فما عن بعضهم من عدم جواز ذلك أيضا للإطلاق، و
صحيح ابن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال في تجار قدموا أرضا اشتركوا على أن
لا يبيعوا بيعهم إلا بما أحبوا، قال: " لا بأس "، وقوله (عليه السلام) في خبر حذيفة: " بعه كيف شئت "
واضح الضعف. ضرورة تقييد الإطلاق بما عرفت مما هو أقوى منه. وخروج الصحيح
عما نحن فيه. والاذن بالبيع كيف يشاء محمول على ما هو الغالب من عدم اقتراح
المجحف. " (2)
ويدل على كون المنع من الإجحاف من وظائف الحاكم، مضافا إلى وضوحه، ما مر
من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في كتابه إلى مالك الأشتر، حيث قال: " فامنع من الاحتكار،
فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منع منه. وليكن البيع بيعا سمحا بموازين عدل وأسعار لا تجحف
بالفريقين من البائع والمبتاع. "
وقد روى هذا العهد قبل الشريف الرضي - قدس سره - الحسن بن علي بن شعبة في
تحف العقول بتفاوت، وفي الدعائم باختلاف كثير.
والنص نفسه يوكد صحته إجمالا، مضافا إلى اشتهاره بين الأصحاب. وذكر النجاشي
والشيخ في الفهرست في اصبغ بن نباتة سندهما إليه، ولا بأس بالسند إجمالا.

1 - الروضة البهية 3 / 299.
2 - الجواهر 22 / 486.
666

خاتمة
صحيح ابن سنان الذي حكاه صاحب الجواهر آنفا وإن دل على جواز تحالف أرباب
المتاع جميعا على سعر خاص لاستزادة في الربح، ولكن هذا فيما إذا لم يوجب التحالف
المذكور إجحافا بالناس وإلا فهو مرجوح عند العقل والشرع.
وبالجملة، فمجرد التحالف على سعر خاص مما لا بأس به بل قد يكون ضرورة ليمنع
من تنزل قيمة المتاع وتضرر أهله، ولكن اللازم رعاية الإنصاف وعدم الإجحاف في
التسعير.
فروى الكليني بسنده عن أبي جعفر الفزاري، قال: " دعا أبو عبد الله (عليه السلام) مولى يقال له:
مصادف، فأعطاه ألف دينار، وقال له: تجهز حتى تخرج إلى مصر، فإن عيالي قد كثروا.
قال: فتجهز بمتاع وخرج مع التجار إلى مصر، فلما دنوا من مصر استقبلهم قافلة خارجة
من مصر فسألوهم عن المتاع الذي معهم ما حاله في المدينة - وكان متاع العامة -
فأخبروهم أنه ليس بمصر منه شيء، فتحالفوا وتعاقدوا على أن لا ينقصوا متاعهم من ربح
الدينار دينارا، فلما قبضوا أموالهم انصرفوا إلى المدينة، فدخل مصادف على أبي
عبد الله (عليه السلام) ومعه كيسان; كل واحد ألف دينار. فقال: جعلت فداك هذا رأس المال، وهذا
الآخر ربح. فقال: إن هذا الربح كثير، ولكن ما صنعتم في المتاع؟ فحدثه كيف صنعوا و
كيف تحالفوا، فقال: سبحان الله، تحلفون على قوم مسلمين أن لا تبيعوهم إلا بربح الدينار
دينارا؟! ثم أخذ أحد الكيسين وقال: هذا رأس مالي، ولا حاجة لنا في هذا الربح. ثم
قال: يا مصادف: مجالدة السيوف أهون من طلب الحلال. " (1)
فالإمام (عليه السلام) في هذه الرواية لم يخطئ أصل التحالف على السعر، وإنما خطأ التحالف
على ربح الدينار دينارا الذي كان يعد إجحافا، فتدبر.

1 - الوسائل 12 / 311، الباب 26 من أبواب آداب التجارة، الحديث 1.
667

الفصل الحادي عشر
في وجوب اهتمام الإمام وعماله بالأموال العامة للمسلمين وحفظها، وصرفها في
مصارفها المقررة، ورعاية العدل في قسمها، والتسوية فيها، وإعطاء كل ذي حق حقه،
وقطع أيادي الغاصبين عنها بمصادرتها
1 - ففي روضة الكافي بسند صحيح، عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:
" لما ولي على (عليه السلام) صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إني والله لا أرزؤكم من
فيئكم درهما ما قام لي عذق بيثرب، فليصدقكم أنفسكم، أفتروني مانعا نفسي و
معطيكم؟ قال: فقام إليه عقيل - كرم الله وجهه - فقال له: والله لتجعلني وأسود بالمدينة
سواء؟! فقال: اجلس أما كان هيهنا أحد يتكلم غيرك؟! وما فضلك عليه إلا بسابقة أو
بتقوى؟ " (1)
أقول: قوله: " لا أرزؤكم "، أي لا أنقصكم. قوله: " فليصدقكم أنفسكم "، أي ليقل
أنفسكم لكم صدقا في ذلك ويؤمن أنفسكم به.
2 - وفيه أيضا: خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: " أيها

1 - الكافي 8 / 182 (الروضة)، الحديث 204. ورواه عنه في الوسائل 11 / 79، الباب 39 من
أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
669

الناس، إن آدم لم يلد عبدا ولا أمة، وإن الناس كلهم أحرار، ولكن الله خول بعضكم
بعضا، فمن كان له بلاء فصبر في الخير فلا يمن به على الله - عز وجل -. ألا وقد حضر
شيء ونحن مسوون فيه بين الأسود والأحمر. فقال مروان لطلحة والزبير: ما أراد بهذا
غيركما. قال: فأعطى كل واحد ثلاثة دنانير، وأعطى رجلا من الأنصار ثلاثة دنانير، و
جاء بعد غلام أسود فأعطاه ثلاثة دنانير، فقال الأنصاري: يا أمير المؤمنين، هذا غلام
أعتقته بالأمس تجعلني وإياه سواء؟! فقال: إني نظرت في كتاب الله فلم أجد لولد
إسماعيل على ولد إسحاق فضلا. " (1)
أقول: قوله: " فمن كان له بلاء فصبر... " لعله لبيان أن من له بلاء وصبر فقد وقع أجره
على الله والله - تعالى - يوجره لا محالة، فليس له أن يتوقع التفضيل في العطايا لذلك.
فإن العطايا على أساس الحاجات لا الفضائل، كما يأتي بيانه.
3 - وفي فروع الكافي بسند فيه إرسال، عن أبي مخنف الأزدي، قال: أتى
أمير المؤمنين (عليه السلام) رهط من الشيعة فقالوا: يا أمير المؤمنين، لو أخرجت هذه الأموال
ففرقتها في هؤلاء الرؤساء والأشراف وفضلتهم علينا حتى إذا استوسقت الأمور عدت
إلى أفضل ما عودك الله من القسم بالسوية والعدل في الرعية. فقال أمير المؤمنين (عليه السلام):
" أتامروني - ويحكم - أن أطلب النصر بالظلم والجور فيمن وليت عليه من أهل
الإسلام؟! لا والله لا يكون ذلك ما سمر السمير وما رأيت في السماء نجما، والله لو كانت
أموالهم مالي لساويت بينهم فكيف وإنما هي أموالهم؟ "
قال: ثم أزم ساكتا طويلا ثم رفع رأسه: فقال:
" من كان فيكم له مال فإياه والفساد، فإن إعطاءه في غير حقه تبذير وإسراف وهو
يرفع ذكر صاحبه في الناس ويضعه عند الله، ولم يضع امرؤ ماله في غير حقه وعند غير
أهله إلا حرمه الله شكرهم وكان لغيره ودهم، فإن بقي معه منهم بقية ممن يظهر الشكر له
ويريه النصح فإنما ذلك ملق منه وكذب، فإن زلت بصاحبهم النعل ثم احتاج إلى معونتهم
ومكافأتهم فألام خليل وشر

1 - الكافي 8 / 69 (الروضة)، الحديث 26.
670

خدين، ولم يضع امرؤ ماله في غير حقه وعند غير أهله إلا لم يكن له من الحظ فيما
أتى إلا محمدة اللئام وثناء الأشرار ما دام عليه منعما مفضلا، ومقالة الجاهل ما أجوده و
هو عند الله بخيل، فأي حظ أبور وأخس (أخسرخ. ل) من هذا الحظ؟ وأي فائدة
معروف أقل من هذا المعروف، فمن كان منكم له مال فليصل به القرابة وليحسن منه
الضيافة وليفك به العاني والأسير وابن السبيل، فإن الفوز بهذه الخصال مكارم الدنيا و
شرف الآخرة. " (1)
وروى صدر الرواية في الوسائل عن الكافي، وكذا عن السرائر نحوه. (2)
أقول: أزم عن الكلام من باب ضرب: أمسك عنه.
4 - وفي كتاب الغارات بسنده: " أن طائفة من أصحاب على (عليه السلام) مشوا إليه فقالوا: يا
أمير المؤمنين، أعط هذه الأموال وفضل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على
الموالي والعجم ومن تخاف خلافه من الناس وفراره، قال: وإنما قالوا له ذلك للذي كان
معاوية يصنع من أتاه، فقال لهم على (عليه السلام): " أتأمروني أن أطلب النصر بالجور إلخ " وذكر
قريبا مما في الكافي، فراجع. (3)
وروى نحوه في الوسائل عن أمالي ابن الشيخ (قدس سره). وفي المستدرك عن أمالي المفيد،
فراجع. (4)
5 - وفي نهج البلاغة: ومن كلام له (عليه السلام) لما عوتب على التسوية في العطاء: " أتأمروني
أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه؟ والله ما أطور به ما سمر سمير وما أم نجم في
السماء نجما، لو كان المال لي لسويت بينهم، فكيف وإنما المال مال الله؟! ألا وإن إعطاء
المال في غير حقه تبذير وإسراف، وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في الآخرة، و
يكرمه في الناس ويهينه عند الله. ولم يضع امرؤ ماله في غير حقه ولا عند غير أهله إلا
حرمه الله شكرهم وكان لغيره ودهم، فإن

1 - فروع الكافي 4 / 31، (= ط. القديم 1 / 170)، كتاب الزكاة، باب وضع المعروف موضعه،
الحديث 3.
2 - الوسائل 11 / 80، الباب 39 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
3 - الغارات 1 / 75.
4 - الوسائل 11 / 81، الباب 39 من أبواب جهاد العدو، الحديث 6; والمستدرك 2 / 260، الباب
35 من أبواب جهاد العدو، الحديث 3.
671

زلت به النعل يوما فاحتاج إلى معونتهم فشر خدين وألام خليل. " (1)
أقول: طاربه: قرب منه. والسمر محركة: الليل وحديثه. والسمير: الدهر والمسامر. وماسمر سمير، أي
ما اختلف الليل والنهار. والمقصود أني لا أقرب منه ولا أفعله مدى
الدهر. والخدين: الصديق.
وفي شرح ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح الخطبة، قال:
" واعلم أن هذه مسألة فقهية، ورأي على (عليه السلام) وأبي بكر فيها واحد وهو التسوية بين
المسلمين في قسمة الفيء والصدقات، وإلى هذا ذهب الشافعي. وأما عمر فإنه لما ولى
الخلافة فضل بعض الناس على بعض: ففضل السابقين على غيرهم، وفضل المهاجرين
من قريش على غيرهم من المهاجرين، وفضل المهاجرين كافة على الأنصار كافة، و
فضل العرب على العجم، وفضل الصريح على المولى. وقد كان أشار على أبي بكر أيام
خلافته بذلك فلم يقبل، وقال: إن الله لم يفضل أحدا على أحد ولكنه قال: " إنما الصدقات
للفقراء والمساكين " ولم يخص قوما دون قوم، فلما أفضت إليه الخلافة عمل بما كان
أشار به أولا. وقد ذهب كثير من فقهاء المسلمين إلى قوله، والمسألة محل اجتهاد، و
للإمام أن يعمل بما يؤديه إليه اجتهاده، وإن كان اتباع على (عليه السلام) عندنا أولى، ولا سيما إذا
عضده موافقة أبي بكر على المسألة. وإن صح الخبر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سوى فقد صارت
المسألة منصوصا عليها لأن فعله (عليه السلام) كقوله. " (2) انتهى كلام ابن أبي الحديد.
أقول: لا يخفى أن محل البحث في التسوية والتفضيل هو العطايا المعطاة مجانا من
الفيء والصدقات في غير المؤلفة قلوبهم لحاجة الأشخاص، وواضح أنه لاوجه
للتفضيلات التي ذكروها في ذلك كتفضيل الأسود على الأحمر، أو العرب على

1 - نهج البلاغة، فيض / 389; عبده 2 / 10; لح / 183، الخطبة 126. وفي الصالح والفيض:
" لا أطور "، وفي الصالح: " فشر خليل وألأم خدين ".
2 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 8 / 111.
672

العجم ونحو ذلك. بل والسوابق الحسنة والفضائل العلمية والقربات عند الله - تعالى
- أيضا لا توجب التفضيل في العطايا الملحوظ فيها رفع الحاجة في المعيشة، بل فضائلهم
بينهم وبين الله كما في الخبر الآتي. نعم، كثرة الحاجة والعائلة تكون ملاكا للتفضيل في
ذلك.
وأما استخدام الأشخاص وإستيجارهم لأعمال خاصة فهو تابع لقيمة العمل في
المجتمع. وقيمة الأعمال والتخصصات لا محالة تختلف حسب الأصقاع والأزمنة كما
هو واضح. فاللازم فيه إعطاء كل ذي حق حقه حتى تنتظم الأمور.
6 - وفي الوسائل عن الشيخ بسنده، عن حفص بن غياث، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام)
يقول - وسئل عن قسم بيت المال - فقال: " أهل الإسلام هم أبناء الإسلام أسوي بينهم في
العطاء وفضائلهم بينهم وبين الله، أجعلهم كبني رجل واحد، لا يفضل أحد منهم لفضله و
صلاحه في الميراث على آخر ضعيف منقوص. قال: وهذا هو فعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في
بدو أمره. وقد قال غيرنا: أقدمهم في العطاء بما قد فضلهم الله بسوابقهم في الإسلام إذا
كان بالإسلام قد أصابوا ذلك فأنزلهم على مواريث ذوي الأرحام بعضهم أقرب من بعض
وأوفر نصيبا لقربه من الميت، وإنما ورثوا برحمهم، وكذلك كان عمر يفعله. " (1)
7 - وفي نهج البلاغة من كلام له (عليه السلام) كلم به عبد الله بن زمعة وهو من شيعته، وذلك أنه
قدم عليه في خلافته يطلب منه مالا فقال (عليه السلام): " إن هذا المال ليس لي ولا لك، وإنما هو
فيء للمسلمين وجلب أسيافهم، فإن شركتهم في حربهم كان لك مثل حظهم، وإلا فجناة
أيديهم لا تكون لغير أفواههم. " (2)
8 - وفيه أيضا من كتاب له (عليه السلام) إلى زياد بن أبيه، وهو خليفة عامله: عبد الله بن عباس
على البصرة - وعبد الله عامل أمير المؤمنين (عليه السلام) يومئذ عليها وعلى كور الأهواز وفارس
وكرمان -: " وإني أقسم بالله قسما صادقا لئن بلغني أنك خنت من فيء

1 - الوسائل 11 / 81، الباب 39 من أبواب جهاد العدو، الحديث 3.
2 - نهج البلاغة، فيض / 728; عبده 2 / 253; لح / 353، الخطبة 232.
673

المسلمين شيئا صغيرا أو كبيرا لأشدن عليك شدة تدعك قليل الوفر ثقيل الظهر ضئيل
الأمر، والسلام. " (1)
أقول: فيء المسلمين مالهم من غنيمة أو خراج. والوفر: المال الواسع. والضئيل:
الضعيف النحيف. فهو (عليه السلام) هدده بأخذ المال ومصادرته ليرجع إلى أهله.
9 - وفيه أيضا من كتاب له (عليه السلام) إلى مصقلة بن هبيرة الشيباني، وهو عامله على أردشير
خرة: " بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت إلهك، وأغضبت إمامك: أنك تقسم فيء
المسلمين الذي حازته رماحهم وخيولهم، وأريقت عليه دماؤهم، فيمن اعتامك من
أعراب قومك، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لئن كان ذلك حقا لتجدن بك على هوانا، و
لتخفن عندي ميزانا، فلا تستهن بحق ربك، ولا تصلح دنياك بمحق دينك، فتكون من
الأخسرين أعمالا. ألا وإن حق من قبلك وقبلنا من المسلمين في قسمة هذا الفيء سواء،
يردون عندي عليه، ويصدرون عنه. " (2)
أقول: أردشير خرة بضم الخاء وتشديد الراء: كورة من كور فارس، والظاهر أنه ما
يسمى في عصرنا " فيروز آباد ". وأردشير خرة أصله: فره أردشير. اعتام: اختار العيمة،
أي خيار المال. واعتامك: اختارك. والقبل بكسر ففتح: ظرف بمعنى عند.
10 - وفيه أيضا ومن كتاب له (عليه السلام) إلى بعض عماله: " أما بعد، فقد بلغني عنك أمر إن
كنت فعلته فقد أسخطت ربك، وعصيت إمامك، وأخزيت أمانتك. بلغني أنك جردت
الأرض فأخذت ما تحت قدميك، وأكلت ما تحت يديك فارفع إلى حسابك، واعلم أن
حساب الله أعظم من حساب الناس، والسلام. " (3)
ولعل المخاطب في الكتاب هو ابن عباس، كما يأتي بيانه في الكتاب التالي.

1 - نهج البلاغة، فيض / 870; عبده 3 / 22; لح / 377، الكتاب 20.
2 - نهج البلاغة، فيض / 961; عبده 3 / 76; لح / 415، الكتاب 43.
3 - نهج البلاغة، فيض / 955; عبده 3 / 72; لح / 412، الكتاب 40.
674

11 - وفيه أيضا من كتاب له (عليه السلام) إلى بعض عماله: " أما بعد، فإني كنت أشركتك في
أمانتي، وجعلتك شعاري وبطانتي، ولم يكن رجل من أهلي أوثق منك في نفسي
لمواساتي وموازرتي وأداء الأمانة إلى، فلما رأيت الزمان على ابن عمك قد كلب، و
العدو قد حرب، وأمانة الناس قد خزيت، وهذه الأمة قد فنكت وشغرت، قلبت لابن
عمك ظهر المجن ففارقته مع المفارقين وخذلته مع الخاذلين، وخنته مع الخائنين، فلا
ابن عمك آسيت، ولا الأمانة أديت، وكأنك لم تكن الله تريد بجهادك، وكأنك لم تكن
على بينة من ربك، وكأنك إنما كنت تكيد هذه الأمة عن دنياهم، وتنوي غرتهم عن
فيئهم، فلما أمكنتك الشدة في خيانة الأمة أسرعت الكرة وعاجلت الوثبة، واختطفت ما
قدرت عليه من أموالهم المصونة لأراملهم وأيتامهم اختطاف الذئب الأزل دامية المعزى
الكسيرة، فحملته إلى الحجاز رحيب الصدر بحمله غير متأثم من أخذه كأنك - لا أبا
لغيرك - صدرت إلى أهلك تراثا من أبيك وأمك. فسبحان الله! أما تؤمن بالمعاد؟ أو ما
تخاف نقاش الحساب؟
أيها المعدود - كان - عندنا من ذوي الألباب كيف تسيغ شرابا وطعاما وأنت تعلم أنك
تأكل حراما وتشرب حراما؟ وتبتاع الإماء وتنكح النساء من مال اليتامى والمساكين
والمؤمنين والمجاهدين الذين أفاء الله عليهم هذه الأموال وأحرز بهم هذه البلاد؟!!
فاتق الله واردد إلى هؤلاء القوم أموالهم، فإنك إن لم تفعل ثم أمكنني الله منك
لأعذرن إلى الله فيك، ولأضربنك بسيفي الذي ما ضربت به أحدا إلا دخل النار!
والله لو أن الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلت ما كانت لهما عندي هوادة، ولا
ظفرا منى بإرادة حتى آخذ الحق منهما وأزيل الباطل عن مظلمتهما. وأقسم بالله رب
العالمين: ما يسرني أن ما أخذته من أموالهم حلال لي أتركه ميراثا لمن بعدي، فضح
رويدا فكأنك قد بلغت المدى، ودفنت تحت الثرى، وعرضت عليك أعمالك بالمحل
الذي ينادي الظالم فيه بالحسرة، ويتمنى المضيع فيه الرجعة، ولات حين مناص. " (1)
أقول: أشركتك في أمانتي، المراد بها بيت المال الذي في يده، أو أمر الولاية،

1 - نهج البلاغة، فيض / 956; عبده 3 / 72; لح / 412، الكتاب 41.
675

وقد كتب هو (عليه السلام) إلى أشعث بن قيس عامله على آذربيجان: " إن عملك ليس لك بطعمة
ولكنه في عنقك أمانة. " (1) والشعار بالفتح والكسر: ما يلي الشعر من الثياب. وبطانة
الرجل: خاصته. وكلب الرجل: اشتد. وحرب العدو: استأسد واشتد غضبه. وخزيت
أمانة الناس: هانت. والفنك: التعدي والغلبة بلاحق. وشغرت الأمة: خلت من الخير و
قيل: تفرقت. وظهر المجن في الحرب يكون إلى طرف العدو فإذا قلبه فكأنه صار مع
العدو. وأسرعت الكرة: أي حملت على أموال الناس. والذئب الأزل: خفيف الوركين،
فإنها أسرع لو ثبته. والدامية: المجروحة المدمية. والتأثم: التحرز من الإثم. والهوادة:
المصالحة والمصانعة. فضح رويدا: أمر بالأناة والسكون. قالوا أصلها الرجل يطعم إبله
ضحى ويسيرها مسرعا ليسير فلا يشبعها، فيقال له: ضح رويدا. هذا.
ولعل المخاطب في هذا الكتاب والذي قبله شخص واحد.
واختلف في المراد منه: فقيل إنه عبيد الله بن عباس عامله (عليه السلام) على اليمن والذي لحق
في نهاية الأمر بمعاوية. وقيل إنه عبد الله بن عباس عامله على البصرة والأهواز و
فارس وملازمه في أكثر ملاحمه وحروبه.
وربما يشهد لهذا القول التعبيرات الواردة في الكتاب من قوله (عليه السلام): " أشركتك في
أمانتي وجعلتك شعاري وبطانتي ولم يكن في أهلي رجل أوثق منك في نفسي "، وقوله:
" قلبت لابن عمك "، وقوله: " فلا ابن عمك آسيت "، وقوله: " أيها المعدود - كان - عندنا
من ذوي الألباب " إلى غير ذلك من تعبيرات الكتاب.
وروى الكشي في عبد الله بن عباس بسنده عن الزهري، قال:
" سمعت الحارث يقول: استعمل على (عليه السلام) على البصرة عبد الله بن عباس، فحمل كل
مال في بيت المال بالبصرة ولحق بمكة وترك عليا (عليه السلام)، وكان مبلغه ألفي ألف درهم،
فصعد على (عليه السلام) المنبر حين بلغه ذلك فبكى فقال: " هذا ابن عم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في علمه و
قدره يفعل مثل هذا فكيف يؤمن من كأنه دونه، اللهم إني

1 - نهج البلاغة، فيض / 839; عبده 3 / 7; لح / 366، الكتاب 5.
676

قد مللتهم فأرحني منهم واقبضني إليك غير عاجز ولا ملول. "
قال الكشي:
قال شيخ من أهل اليمامة يذكر عن معلى بن هلال، عن الشعبي قال: لما احتمل
عبد الله بن عباس بيت مال البصرة وذهب به إلى الحجاز كتب إليه علي بن أبي طالب - و
ذكر قريبا من الكتاب الذي مر من نهج البلاغة. ثم قال -:
فكتب إليه عبد الله بن عباس: " أما بعد، فقد أتاني كتابك تعظم على إصابة المال الذي
أخذته من بيت مال البصرة، ولعمري إن لي في بيت مال الله أكثر مما أخذت، والسلام. "
قال: فكتب إليه على بن أبي طالب (عليه السلام): " أما بعد، فالعجب كل العجب من تزيين نفسك
أن لك في بيت مال الله أكثر مما أخذت وأكثر مما لرجل من المسلمين، فقد أفلحت إن
كان تمنيك الباطل وادعاؤك ما لا يكون، ينجيك من الإثم ويحل لك ما حرم الله عليك،
عمرك الله إنك لأنت العبد المهتدى إذن، فقد بلغني أنك اتخذت مكة وطنا، وضربت بها
عطنا تشتري مولدات مكة والطائف، تختارهن على عينك وتعطي فيهن مال غيرك. و
إني لأقسم بالله ربي وربك رب العزة ما يسرني أن ما أخذت من أموالهم لي حلال أدعه
لعقب ميراثا، فلا غرور أشد باغتباطك بأكله رويدا رويدا، فكأن قد بلغت المدى و
عرضت على ربك والمحل الذي تتمنى الرجعة، والمضيع للتوبة كذلك، وما ذلك ولات
حين مناص. والسلام. "
قال: فكتب إليه عبد الله بن عباس: " أما بعد، فقد أكثرت على، فوالله لأن ألقى الله
بجميع ما في الأرض من ذهبها وعقيانها أحب إلى من أن ألقى الله بدم رجل مسلم. " (1)
انتهى كلام الكشي.
وروى قريبا من ذلك ابن أبي الحديد في الشرح، فراجع. (2)
أقول: ليس المقام مقام تحقيق هذه المسألة التاريخية وبيان صحتها وسقمها،

1 - اختيار معرفة الرجال / 60 - 62.
2 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16 / 170.
677

وربما يخطر ببعض الأذهان أن حبر الأمة وعالمها ومن روي أنه دعا له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
بالفقه والحكمة والتأويل، وعرف حاله في المحبة والإخلاص لأمير المؤمنين (عليه السلام) و
النصر له والذب عنه في المواقف الخطيرة كيف يمكن أن يصدر عنه هذه الخيانة!! وكل
من يقرأ التواريخ والسير يظهر له ثناؤه الدائم لأمير المؤمنين (عليه السلام) وذكره لفضائله ومناقبه،
وخصامه ومشاقته لمعاوية حتى بعد شهادة أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد كان معاوية يستميل
الأشخاص ويجتذبهم بالأموال كما اجتذب عبيد الله أخاه ولم يسمع ميل عبد الله إلى
ساحته أبدا، فيعلم بذلك طهارة ذيله وكذب القصة. هذا.
ولكن نقول: الروايات التي نقلنا بعضها من الكشي أخبار ضعاف بل ويعلم عداوة
بعض رواتها لأهل البيت فلا يعتمد عليها، ولكن ما حكاه السيد الرضي (قدس سره) في نهج البلاغة
قد أطبقت الرواة على روايته وذكر في أكثر كتب السير كما في شرح ابن أبي الحديد، و
يشكل حمله على أخيه عبيد الله مع ما فيه من القرائن التي مرت.
والذي يسهل الخطب أن ابن عباس مع جلالته وعظم قدره لم يكن عندنا معصوما، و
لعله بعد ما أيس من دوام الحكومة العادلة الحقة واطمأن بأن الحكومة سوف تقع في
أيدي الأعداء وقد علم سجية بني أمية وشيمتهم وأنهم لا محالة ينتقمون يوما من
بني هاشم ويمنعونهم حقوقهم ويضيقون الأمر عليهم قد فكر في ادخار بيت المال ليوم
الشدة والمآل، والنفس أمارة بالسوء إلا ما رحم الله ومن شأنها دائما التوجيه والتبرير،
وقد كفى المرء نبلا أن تعد معايبه كما قيل.
وهل لم نر في جميع الأعصار من رجال العلم والدين رجالا كانوا مخلصين ملتزمين
ولكن بعد ما أقبلت الدنيا إليهم وصاروا مراجع للأموال العامة وقع منهم أو من بعض
حواشيهم وأولادهم ما لم يكن يترقب من الإسراف والتبذير وادخار الأموال العامة و
الاستبداد بها في ضوء بعض التوجيهات؟ فنعوذ بالله من وساوس النفس وهواجسها.
هذا.
ولكن بعد اللتيا والتي يشكل الجزم بكون المخاطب في الخطبتين هو عبد الله بن
678

عباس، وليس لتعقيب الموضوع أثر عملي شرعي، والله العالم بالأمور.
12 - وفي نهج البلاغة أيضا: " والله لأن أبيت على حسك السعدان مسهدا وأجر في
الأغلال مصفدا، أحب إلى من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد و
غاصبا لشيء من الحطام، وكيف أظلم أحدا لنفس يسرع إلى البلى قفولها ويطول في
الثرى حلولها؟! والله لقد رأيت عقيلا وقد أملق حتى استماحني من بركم صاعا، ورأيت
صبيانه شعث الشعور غبر الألوان من فقرهم كأنما سودت وجوههم بالعظلم، وعاودني
مؤكدا وكرر على القول مرددا، فأصغيت إليه سمعي فظن أني أبيعه ديني وأتبع قياده
مفارقا طريقتي، فأحميت له حديدة ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر بها، فضج ضجيج ذي
دنف من ألمها، وكاد أن يحترق من ميسمها، فقلت له: ثكلتك الثواكل يا عقيل، أتئن من
حديدة أحماها إنسانها للعبه، وتجرني إلى نار سجرها جبارها لغضبه؟! أتئن من الأذى و
لا أئن من لظى؟!
وأعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة في وعائها ومعجونة شنئتها كأنما عجنت بريق
حية أو قيئها، فقلت: أصلة أم زكاة أم صدقة؟ فذلك محرم علينا أهل البيت فقال: لاذا و
لا ذاك ولكنها هدية، فقلت هبلتك الهبول، أعن دين الله أتيتني لتخدعني؟ أمختبط أم ذو
جنة أم تهجر؟ والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في
نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت (ما فعلته خ. ل)، وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في
فم جرادة تقضمها، ما لعلى ولنعيم يفنى، ولذة لا تبقى؟! نعوذ بالله من سبات العقل وقبح
الزلل وبه نستعين. " (1)
أقول: وإنما ذكرنا الخطبة بتمامها، لاشتمالها على ما ينبغي لكل من يتصدى للولاية
العامة ويتسلط على الأموال العامة وبيت مال المسلمين أن يلاحظها ويطالعها ويجعلها
نصب عينيه ويعتبر بها.
والسعدان بالفتح: نبت له شوك ويقال له: حسك السعدان، وتشبه به حلمة الثدي. و
المسهد: الأرق والقليل النوم. والمصفد: المقيد. والقفول: الرجوع. والاستماحة: طلب
العطية. والعظلم كزبرج: نبت يصبغ به ما يراد اسوداده.

1 - نهج البلاغة، فيض / 713; عبده 2 / 243; لح / 346، الخطبة 224.
679

وسجرها: أوقدها. والظاهر أن قوله: فذلك محرم إشارة إلى الزكاة والصدقة. وكذلك
قول الأشعث: لاذا ولا ذاك، وعلى هذا فالمراد بالهدية والصلة واحد. والهبول بالفتح:
المرأة التي اعتادت بثكل الولد. وجلب الشعيرة بالضم وقيل بالكسر: قشرها.
وفي شرح ابن أبي الحديد:
" قوله: " بملفوفة في وعائها " كان أهدى له الأشعث بن قيس نوعا من الحلواء تأنق
فيه. وكان - عليه السلام - يبغض الأشعث، لأن الأشعث كان يبغضه، وظن الأشعث أنه
يستميله بالمهاداة لغرض دنيوي كان في نفس الأشعث. وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) يفطن
لذلك ويعلمه، ولذلك رد هدية الأشعث، ولولا ذلك لقبلها، لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل الهدية، و
قد قبل على (عليه السلام) هدايا جماعة من أصحابه. ودعاه بعض من كان يأنس إليه إلى حلواء
عملها يوم نوروز فأكل وقال: لم عملت هذا؟ فقال: لأنه يوم نوروز: فضحك وقال:
نورزوا لنا في كل يوم إن استطعتم. " (1)
13 - وفي شرح ابن أبي الحديد: " سأل معاوية عقيلا عن قصة الحديدة المحماة
المذكورة. فبكى وقال: أنا أحدثك يا معاوية عنه (عليه السلام)، ثم أحدثك عما سألت: نزل
بالحسين ابنه ضيف فاستسلف درهما اشترى به خبزا، واحتاج إلى الإدام فطلب من قنبر
خادمهم أن يفتح له زقا من زقاق عسل جاءتهم من اليمن فأخذ منه رطلا، فلما طلبها -
عليه السلام - ليقسمها، قال: يا قنبر، أظن أنه حدث بهذا الزق حدث، فأخبره، فغضب -
عليه السلام - وقال: على بحسين! فرفع عليه الدرة فقال: بحق عمي جعفر - وكان إذا
سئل بحق جعفر سكن - فقال له: ما حملك أن أخذت منه قبل القسمة؟ قال: إن لنا فيه حقا،
فإذا أعطيناه رددناه. قال: فداك أبوك! وإن كان لك فيه حق فليس لك أن تنتفع بحقك قبل
أن ينتفع المسلمون بحقوقهم! أما لولا أني رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقبل ثنيتك لأوجعتك
ضربا. ثم دفع إلى قنبر درهما كان مصرورا في ردائه وقال: اشتر به خير عسل تقدر
عليه.

1 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11 / 247.
680

قال عقيل: والله لكأني أنظر إلى يدي على، وهي على فم الزق، وقنبر يقلب العسل
فيه، ثم شده وجعل يبكي، ويقول: اللهم اغفر لحسين فإنه لم يعلم!
فقال: معاوية: ذكرت من لا ينكر فضله، رحم الله أبا حسن، فلقد سبق من كان قبله، و
أعجز من يأتي بعده! هلم حديث الحديدة.
قال: نعم، أقويت وأصابتني مخمصة شديدة، فسألته فلم تند صفاته فجمعت صبياني و
جئته بهم، والبؤس والضر ظاهران عليهم، فقال: ايتني عشية لأدفع إليك شيئا. فجئته
يقودني أحد ولدى، فأمره بالتنحي، ثم قال: ألا فدونك. فأهويت حريصا قد غلبني الجشع
- أظنها صرة - فوضعت يدي على حديدة تلتهب نارا، فلما قبضتها نبذتها وخرت كما
يخور الثور تحت يد جازره، فقال لي: ثكلتك أمك! هذا من حديدة أوقدت لها نار الدنيا،
فكيف بك وبي غدا إن سلكنا في سلاسل جهنم. ثم قرأ: " إذ الأغلال في أعناقهم و
السلاسل يسحبون. "
ثم قال: ليس لك عندي فوق حقك الذي فرضه الله لك إلا ما ترى، فانصرف إلى
أهلك. فجعل معاوية يتعجب ويقول: هيهات هيهات! عقمت النساء أن يلدن مثله. " (1)
أقول: وروى نظير قصة الحسين والعسل في المناقب (2) عن الفائق في شأن الحسن
بن علي (عليه السلام)، ولعلهما واحدة وقع في إحداهما تصحيف.
ورواه في البحار عن المناقب، فراجع. (3)
14 - وفي المناقب عن جمل أنساب الأشراف: " وقدم عليه عقيل فقال للحسن:
اكس عمك. فكساه قميصا من قمصه ورداء من أرديته، فلما حضر العشاء فإذا هو خبز و
ملح فقال عقيل: ليس إلا ما أرى؟ فقال: أوليس هذا من نعمة الله فله الحمد كثيرا. فقال:
أعطني ما أقضى به ديني وعجل سراحي حتى أرحل عنك،

1 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11 / 253.
2 - المناقب لابن شهرآشوب 1 / 375.
3 - بحار الأنوار 41 / 112، تاريخ أمير المؤمنين (عليه السلام)، الباب 107 (باب جوامع مكارم أخلاقه)،
الحديث 22.
681

قال: فكم دينك يا أبا يزيد؟ قال: مأة ألف درهم. قال: والله ما هي عندي ولا أملكها و
لكن اصبر حتى يخرج عطائي فأواسيكه، ولولا أنه لابد للعيال من شيء لأعطيتك كله،
فقال عقيل: بيت المال في يدك وأنت تسوفني إلى عطائك! وكم عطاؤك وما عسى يكون
ولو أعطيتنيه كله؟! فقال: ما أنا وأنت فيه إلا بمنزلة رجل من المسلمين. وكانا يتكلمان
فوق قصر الإمارة مشرفين على صناديق أهل السوق. فقال له على (عليه السلام): إن أبيت يا
أبا يزيد ما أقول فانزل إلى بعض هذه الصناديق فاكسر أقفاله وخذ ما فيه. فقال: وما في
هذه الصناديق؟ قال: فيها أموال التجار.
قال: أتأمرني ان أكسر صناديق قوم قد توكلوا على الله وجعلوا فيها أموالهم؟ فقال
أمير المؤمنين (عليه السلام): أتأمرني أن أفتح بيت مال المسلمين فأعطيك أموالهم وقد توكلوا على
الله وأقفلوا عليها؟ وإن شئت أخذت سيفك وأخذت سيفي وخرجنا جميعا إلى الحيرة
فإن بها تجارا مياسير فدخلنا على بعضهم فأخذنا ماله. فقال: أو سارقا جئت؟! قال:
تسرق من واحد خير من أن تسرق من المسلمين جميعا. قال له: أفتأذن لي أن أخرج إلى
معاوية؟ فقال له: قد أذنت لك. قال: فأعني على سفري هذا. قال: يا حسن أعط عمك
أربعمأة درهم فخرج عقيل وهو يقول:
سيغنيني الذي أغناك عني * ويقضي ديننا رب قريب.
وذكر عمرو بن العاص (عمرو بن العلاء - البحار) أن عقيلا لما سأل عطاءه من
بيت المال، قال له أمير المؤمنين (عليه السلام): تقيم إلى يوم الجمعة. فأقام فلما صلى
أمير المؤمنين (عليه السلام) الجمعة قال لعقيل: " ما تقول فيمن خان هؤلاء أجمعين؟ قال: بئس
الرجل ذاك. قال: فأنت تأمرني أن أخون هؤلاء وأعطيك. " ورواه عنه في البحار. (1)
15 - وفيه أيضا: " وسمعت مذاكرة أنه دخل عليه عمرو بن العاص ليلة وهو في
بيت المال، فطفئ السراج وجلس في ضوء القمر، ولم يستحل أن يجلس في الضوء من

1 - المناقب لابن شهرآشوب 1 / 376; ورواه في بحار الأنوار 41 / 113، تاريخ أمير المؤمنين (عليه السلام)،
الباب 107 (باب جوامع مكارم أخلاقه)، الحديث 23.
682

غير استحقاق. " (1)
16 - وفي تعليقات إحقاق الحق عن كتاب المناقب المرتضوية، قال: " كان
أمير المؤمنين على (عليه السلام) دخل ليلة في بيت المال يكتب قسمة الأموال فورد عليه طلحة و
زبير فأطفأ السراج الذي بين يديه وأمر بإحضار سراج آخر من بيته فسألاه عن ذلك
فقال: كان زيته من بيت المال لا ينبغي أن نصاحبكم في ضوئه. " (2)
17 - وفي المناقب أيضا عن تاريخ الطبري، وفضائل أمير المؤمنين عن ابن مردويه
أنه لما أقبل من اليمن تعجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واستخلف على جنده الذين معه رجلا من
أصحابه فعمد ذلك الرجل فكسا كل رجل من القوم حلة من البز الذي كان مع على (عليه السلام)
فلما دنى جيشه خرج على (عليه السلام) ليتلقاهم فإذا هم عليهم الحلل، فقال: ويلك ما هذا؟ قال:
كسوتهم ليتجملوا إذا قدموا في الناس. قال: ويلك، من قبل أن ينتهي إلى
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟! قال: فانتزع الحلل من الناس وردها في البز. وأظهر الجيش شكاية
لما صنع بهم.
ثم روى عن الخدري أنه قال: شكا الناس عليا فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خطيبا فقال:
" أيها الناس، لا تشكوا عليا، فوالله إنه لخشن في ذات الله. " (3)
18 - وفيه أيضا: " وفي رواية عن أبي الهيثم بن التيهان وعبد الله بن أبي رافع أن
طلحة والزبير جاءا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وقالا: ليس كذلك كان يعطينا عمر. قال: فما
كان يعطيكما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فسكتا. قال: أليس كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقسم بالسوية بين
المسلمين؟ قالا: نعم. قال: " فسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أولى بالاتباع عندكم أم سنة عمر؟ قالا:
سنة رسول الله. يا أمير المؤمنين، لنا سابقة وعناء وقرابة. قال: سابقتكما أقرب أم
سابقتي؟ قالا: سابقتك. قال: فقرابتكما أم قرابتي؟ قالا: قرابتك. قال: فعناؤكما أعظم من

1 - المناقب لابن شهرآشوب 1 / 377.
2 - إحقاق الحق 8 / 539.
3 - المناقب لابن شهرآشوب 1 / 377.
683

عنائي؟ قالا: عناؤك. قال: فوالله ما أنا وأجيري هذا إلا بمنزلة واحدة. وأومى بيده
إلى الأجير. " (1)
وروى نحوه في المستدرك عن دعائم الإسلام. وفي هذا الباب من المستدرك
روايات أخر تناسب المقام، فراجع. (2)
19 - وفي التهذيب والوسائل في حديث أن إحدى بنات أمير المؤمنين (عليه السلام) استعارت
من أمين بيت المال علي بن أبي رافع عقد لؤلؤ كان فيه عارية مضمونة، فقال له
أمير المؤمنين (عليه السلام): " أتخون المسلمين؟ " فقال: معاذ الله أن أخون المسلمين. فقال: كيف
أعرت بنت أمير المؤمنين العقد الذي في بيت مال المسلمين بغير أذني ورضاهم؟ فقال:
يا أمير المؤمنين، إنها ابنتك وسألتني أن أعيرها إياه تتزين به فأعرتها إياه عارية مضمونة
مردودة فضمنته في مالي وعلى أن أرده سليما إلى موضعه. قال: فرده من يومك، وإياك
أن تعود لمثل هذا فتنالك عقوبتي ثم أولى لابنتي لو كانت أخذت العقد على غير عارية
مضمونة مردودة لكانت إذا أول هاشمية قطعت يدها في سرقة. قال: فبلغ مقالته ابنته
فقالت له: يا أمير المؤمنين، أنا ابنتك وبضعة منك، فمن أحق بلبسه مني؟ فقال لها
أمير المؤمنين (عليه السلام): يا بنت علي بن أبي طالب، لا تذهبن بنفسك عن الحق، أكل نساء
المهاجرين تتزين في هذا العيد بمثل هذا؟! قال: فقبضته منها ورددته إلى موضعه. (3)
20 - وفي كنز العمال عن على (عليه السلام)، قال: " لا يحل للخليفة من مال الله إلا قصعتان:
قصعة يأكلها هو وأهله، وقصعة يطعمها. " (كر). (4)
21 - وفيه أيضا عن علي (عليه السلام)، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " لا يحل للخليفة من
مال الله إلا قصعتان: قصعة يأكل منها هو وأهله، وقصعة بضعها بين يدي الناس. "

1 - المناقب لابن شهرآشوب 1 / 378.
2 - مستدرك الوسائل 2 / 260، الباب 35 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
3 - تهذيب الأحكام 10 / 151، كتاب الحدود، باب الزيادات، الحديث 37; والوسائل 18 / 521،
الباب 26 من أبواب حد السرقة، الحديث 1.
4 - كنز العمال 5 / 773، الباب 2 من كتاب الخلافة مع الإمارة من قسم الأفعال، الحديث 14348.
684

(كرحم) (1). ورواهما ابن عساكر في تاريخه، فراجع. (2)
22 - وفي تاريخ ابن عساكر بسنده عن مجمع التيمي، قال: خرج على بن
أبي طالب (عليه السلام) بسيفه إلى السوق فقال: " من يشتري مني سيفي هذا؟ فلو كان عندي أربعة
دراهم أشتري بها إزارا ما بعته. " (3)
23 - وفيه أيضا بسنده عن سفيان، يقول: " ما بنى علي آجرة على آجرة ولا لبنة على
لبنة ولا قصبة على قصبة، وإن كان ليؤتى بحبوبه من المدينة في جراب. " (4)
24 - وفي كتاب الجمل للشيخ المفيد: " روى أبو مخنف لوط بن يحيى عن رجاله،
قال: لما أراد أمير المؤمنين (عليه السلام) التوجه إلى الكوفة قام في أهل البصرة فقال: ما تنقمون
على يا أهل البصرة؟ وأشار إلى قميصه وردائه فقال: والله إنهما لن غزل أهلي، ما
تنقمون مني يا أهل البصرة؟ وأشار إلى صرة في يده فيها نفقته فقال: والله ما هي إلا من
غلتي بالمدينة فإن أنا خرجت من عندكم بأكثر مما ترون فأنا عند الله من الخائنين. " (5)
25 - وفي كتاب الغارات بإسناده عن بكر بن عيسى، قال: كان على (عليه السلام) يقول: " يا
أهل الكوفة، إذا أنا خرجت من عندكم بغير رحلي وراحلتي وغلامي فأنا خائن. وكانت
نفقته تأتيه من غلته بالمدينة من ينبع. وكان يطعم الناس الخبز واللحم ويأكل من الثريد
بالزيت. الحديث. " ورواه ابن أبي الحديد في الشرح. (6)
26 - وفي الغارات أيضا بسنده عن حبيب بن أبي ثابت، قال: قال عبد الله بن جعفر بن
أبي طالب لعلى (عليه السلام): يا أمير المؤمنين، لو أمرت لي بمعونة أو نفقة، فوالله

1 - كنز العمال 5 / 773، الباب 2 من كتاب الخلافة مع الإمارة من قسم الأفعال، الحديث 14349.
2 - تاريخ ابن عساكر، ترجمة الإمام علي بن أبي طالب 3 / 187.
3 - تاريخ ابن عساكر، ترجمة الإمام علي بن أبي طالب 3 / 189.
4 - تاريخ ابن عساكر، ترجمة الإمام علي بن أبي طالب 3 / 188.
5 - الجمل / 224.
6 - الغارات 1 / 68; وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2 / 200.
685

ما عندي إلا أن أبيع بعض علوفتي، قال له: لا والله، ما أجد لك شيئا إلا أن تأمر عمك
أن يسرق فيعطيك. " (1)
أقول: عن المجلسي (قدس سره) أن العلوفة: الناقة أو الشاة تعلفها ولا ترسلها فترعى. (2)
وروى الرواية ابن أبي الحديد، إلا أنه قال: " إلا أن أبيع دابتي. " (3)
27 - وفي الغارات أيضا بسنده عن أبي إسحاق الهمداني: " أن امرأتين أتتا عليا (عليه السلام)
عند القسمة إحداهما من العرب والأخرى من الموالي، فأعطى كل واحدة خمسة و
عشرين درهما وكرا من الطعام، فقالت العربية: يا أمير المؤمنين، إني امرأة من العرب، و
هذه امرأة من العجم؟! فقال على (عليه السلام): إني والله لا أجد لبني إسماعيل في هذا الفيء فضلا
على بني إسحاق. " ورواه عنه في الوسائل. وروى نحوه ابن أبي الحديد. (4)
28 - وفي شرح ابن أبي الحديد:
" روى على بن محمد بن أبي يوسف المدائني عن فضيل بن الجعد قال: آكد الأسباب
في تقاعد العرب عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أمر المال، فإنه لم يكن يفضل شريفا على
مشروف، ولا عربيا على عجمي، ولا يصانع الرؤساء وأمراء القبائل كما يصنع الملوك و
لا يستميل أحدا إلى نفسه. وكان معاوية بخلاف ذلك فترك الناس عليا والتحقوا
بمعاوية. " (5) هذا.
29 - وفي نهج البلاغة فيما رده (عليه السلام) على المسلمين من قطائع عثمان: " والله لو وجدته
قد تزوج به النساء وملك به الإماء لرددته، فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل

1 - الغارات 1 / 66.
2 - الغارات ج 1 في ذيل ص 67.
3 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2 / 200.
4 - الغارات 1 / 69; والوسائل 11 / 81، الباب 39 من أبواب جهاد العدو، الحديث 4; وشرح
نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2 / 200.
5 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2 / 197.
686

فالجور عليه أضيق. " (1)
أقول: ولعل المقصود أن في العدل سعة الإمام والأمة معا، فإن الأمة تطمئن نفوسها
تحت لواء العدل فتنقاد قهرا للحكومة العادلة الحافظة لحقوقها، وبذلك يرى الحاكم أيضا
سعة وراحة، وأما جور الحاكم فيوجب في المآل مخالفة الأمة له وثورتها عليه فيضيق
الأمر على الإمام والأمة معا، فتدبر.
وفي شرح ابن أبي الحديد المعتزلي:
" القطائع ما يقطعه الإمام بعض الرعية من أرض بيت المال ذات الخراج ويسقط عنه
خراجه، ويجعل عليه ضريبة يسيرة عوضا عن الخراج، وقد كان عثمان أقطع كثيرا من
بني أمية وغيرهم من أوليائه وأصحابه قطائع من أرض الخراج على هذه الصورة...
وهذه الخطبة ذكرها الكلبي مروية مرفوعة إلى أبي صالح، عن ابن عباس " رض ": أن
عليا - عليه السلام - خطب في اليوم الثاني من بيعته بالمدينة فقال: " ألا إن كل قطيعة
أقطعها عثمان وكل ما أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال، فإن الحق القديم
لا يبطله شيء، ولو وجدته وقد تزوج به النساء وفرق في البلدان لرددته إلى حاله، فإن
في العدل سعة، ومن ضاق عليه الحق فالجور عليه أضيق. "...
قال الكلبي: " ثم أمر - عليه السلام - بكل سلاح وجد لعثمان في داره مما تقوى به
على المسلمين فقبض، وأمر بقبض نجائب كانت في داره من إبل الصدقة فقبضت، وأمر
بقبض سيفه ودرعه، وأمر أن لا يعرض لسلاح وجد له لم يقاتل به المسلمين، وبالكف
عن جميع أمواله التي وجدت في دراه وفي غير داره، وأمر أن ترتجع الأموال التي أجاز
بها عثمان حيث أصيبت أو أصيب أصحابها. فبلغ ذلك عمرو بن العاص - وكان بأيلة من
أرض الشام، أتاها حيث وثب الناس على عثمان فنزلها - فكتب إلى معاوية: ما كنت
صانعا فاصنع إذ قشرك ابن أبي طالب من كل مال تملكه

1 - نهج البلاغة، فيض / 66; عبده 1 / 42; لح / 57، الخطبة 15.
687

كما تقشر عن العصا لحاها. " (1)
30 - وقال المسعودي في مروج الذهب:
" وانتزع على (عليه السلام) أملاكا كانت لعثمان أقطعها جماعة من المسلمين، وقسم ما في
بيت المال على الناس ولم يفضل أحدا على أحد. " (2)
31 - وفي دعائم الإسلام:
" روينا عن على (عليه السلام) أنه لما بايعه الناس أمر بكل ما كان في دار عثمان من مال و
سلاح وكل ما كان من أموال المسلمين فقبضه، وترك ما كان لعثمان ميراثا لورثته. " (3)
32 - وفيه أيضا: " روينا عنه (عليه السلام) أنه خطب الناس بعد أن بايعوه فقال في خطبته: " ألا
وكل قطعة أقطعها عثمان أو مال أعطاه من مال الله فهو رد على المسلمين في بيت مالهم،
فإن الحق لا يذهبه الباطل، والذي فلق الحبة وبرئ النسمة لو وجدته قد تزوج به النساء
وتفرق في البلدان لرددته على أهله، فإن في الحق والعدل لكم سعة ومن ضاق به العدل
فالجور به أضيق. " (4)
أقول: يظهر من الحديث الشريف برواياته المختلفة المتقاربة أن من التكاليف و
الوظائف المهمة الموضوعة على عاتق الحاكم الإسلامي مضافا إلى إحقاق حقوق
الضعفاء من الأقوياء، هو رد الأموال العامة المغصوبة المتعلقة بالمجتمع، إلى بيت مال
المسلمين، ويعبر عن هذا بالمصادرة. ومرور الزمان والتداول بالأيدي المتعاقبة و
التفرق في البلدان لا يوجب ذلك كله بطلان الحق وعدم رده، اللهم إلا أن يرى الإمام من
وجد عنده المال مصرفا شرعيا له فيحسبه عليه.

1 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 / 269.
2 - مروج الذهب 2 / 4.
3 - دعائم الإسلام 1 / 396، كتاب الجهاد.
4 - دعائم الإسلام 1 / 396، كتاب الجهاد.
688

وقد ترى الناس في هذه المسألة غالبا مفرطا أو مفرطا. فقد يتوهم أن ما مضى مضى
فلا يتعرض له أصلا، وقد يتوهم أن الغاصب يؤخذ بأشق الأحوال فيصادر حتى أمواله
المحللة الشخصية، وكلاهما باطلان. فأموال بيت المال ترد إلى بيت المال، وأمواله
الشخصية المحللة لا يجوز التصرف فيها بغير إذنه، فتدبر.
33 - ويحتمل أن يكون من هذا القبيل أيضا ما حكم به أمير المؤمنين (عليه السلام) بالنسبة إلى
منذر بن الجارود عامله على إصطخر، حيث كتب إليه: " أما بعد، فإن صلاح أبيك غرني
منك فإذا أنت لا تدع انقيادا لهواك... فاقبل إلى حين تنظر في كتابي، والسلام. " فأقبل
فعزله وأغرمه ثلاثين ألفا. (1) والكتاب مذكور في نهج البلاغة بتفاوت. (2)
ولعل المتتبع يعثر على أكثر من هذا، فتتبع.
خاتمة
من المناسب أن نذكر في هذا المجال بعض ما حكي عن الخليفة الثاني نذكرها من
شرح ابن أبي الحديد المعتزلي على نهج البلاغة:
1 - وفد على عمر وفد فيه رجال الناس من الآفاق، فوضع لهم بسطا من عباء، وقدم
إليهم طعاما غليظا، فقالت له ابنته حفصة أم المؤمنين: إنهم وجوه الناس وكرام العرب،
فأحسن كرامتهم.
فقال: يا حفصة، أخبريني بألين فراش فرشته لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأطيب طعام أكله
عندك؟
قالت: أصبنا كساء ملبدا عام خيبر فكنت أفرشه له فينام عليه، وإني رفعته ليلة،

1 - تاريخ اليعقوبي 2 / 179.
2 - نهج البلاغة، فيض / 1073; عبده 3 / 145; لح / 461، الكتاب 71.
689

فلما أصبح قال: ما كان فراشي الليلة؟ قلت: فراشك كل ليلة، إلا أني الليلة رفعته لك
ليكون أوطأ، فقال: أعيديه لحالته الأولى، فإن وطأته منعتني الليلة من الصلاة.
وكان لنا صاع من دقيق سلت فنخلته يوما وطبخته له، وكان لنا قعب من سمن
فصببته عليه، فبينا هو - عليه السلام - يأكل إذ دخل أبو الدرداء، فقال: أرى سمنكم قليلا،
وإن لنا لقعبا من سمن. قال: - عليه السلام -: فأرسل فأت به. فجاء به فصبه عليه فأكل،
فهذا أطيب طعام أكله عندي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
فأرسل عمر عينيه بالبكاء، وقال لها: والله لا أزيدهم على ذلك العباء وذلك الطعام
شيئا، وهذا فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذا طعامه. (1)
2 - لما قدم عتبة بن فرقد آذربيجان اتي بالخبيص، فلما أكله وجد شيئا حلوا طيبا
فقال: لو صنعت من هذا لأمير المؤمنين! فجعل له خبيصا في منقلين عظيمين، وحملهما
على بعيرين إلى المدينة. فقال عمر: ما هذا؟ قالوا: الخبيص فذاقه فوجده حلوا، فقال
للرسول: ويحك، أكل المسلمين عندكم يشبع من هذا؟ قال: لا.
قال: فارددهما. ثم كتب إلى عتبة: أما بعد، فإن خبيصك الذي بعثته ليس من كد أبيك و
لا من كد أمك أشبع المسلمين مما تشبع منه في رحلك، ولا تستأثر فإن الأثرة شر،
والسلام. (2)
أقول: الخبيص: ضرب من الحلواء، هذا.
فليتنبه وليعتبر شيعة الخليفة الثاني الناسبون أنفسهم إليه من الرؤساء والشيوخ
المترفين المتسلطين على منابع ثروة المسلمين وذخائرهم الذين يصرفون الأموال
العامة في مصالح أنفسهم فيسرفون ويبذرون ويقامرون ويشترون القاعات و
المستغلات بأثمان غالية في أروبا وأمريكا ويهيؤن لأنفسهم وسائل الفحشاء والترف،

1 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 12 / 34.
2 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 12 / 35.
690

والمسلمون في شتى البلاد يكابدون أنواع الفقر المالي والصحي والإعلامي و
الثقافي، فعليهم إن لم يكن لهم دين أن يكونوا لا محالة أحرارا في دنياهم.
3 - وروى عتبة بن فرقد أيضا، قال: قدمت على عمر بحلواء من بلاد فارس في سلال
عظام. فقال: ما هذه؟ قلت: طعام طيب أتيتك به. قال: ويحك! ولم خصصتني به؟ قلت:
أنت رجل تقضي حاجات الناس أول النهار فأحببت إذا رجعت إلى منزلك أن ترجع إلى
طعام طيب فتصيب منه فتقوى على القيام بأمرك. فكشف عن سلة منها فذاق فاستطاب،
فقال: عزمت عليك يا عتبة إذا رجعت إلا رزقت كل رجل من المسلمين مثله! قلت: و
الذي يصلحك يا أمير المؤمنين لو أنفقت عليه أموال قيس كله لما وسع ذلك. قال:
فلا حاجة لي فيه إذا. (1)
4 - كان عمر يصادر خونة العمال، فصادر أبا موسى الأشعري، وكان عامله على
البصرة وقال له: بلغني أن لك جاريتين، وأنك تطعم الناس من جفنتين، وأعاده بعد
المصادرة إلى عمله. (2)
5 - وصادر أبا هريرة، وأغلظ عليه وكان عامله على البحرين، فقال له: ألا تعلم أني
استعملتك على البحرين وأنت حاف لا نعل في رجلك! وقد بلغني إنك بعت أفراسا بألف
وستمأة دينار. قال أبو هريرة: كانت لنا أفراس فتناتجت. فقال: قد حبست لك رزقك و
مؤونتك، وهذا فضل. قال أبو هريرة: ليس ذلك لك. قال: بلى، والله وأوجع ظهرك! ثم
قام إليه بالدرة فضرب ظهره حتى أدماه، ثم قال: ايت بها، فلما أحضرها، قال أبو هريرة:
سوف أحتسبها عند الله. قال عمر: ذاك لو أخذتها من حل وأديتها طائعا، أما والله
ما رجت فيك أميمة أن تجبى أموال هجر واليمامة وأقصى البحرين لنفسك، لا لله ولا
للمسلمين، ولم ترج فيك أكثر من رعية الحمر. وعزله. (3)
6 - وصادر الحارث بن وهب أحد بني ليث بكر بن كنانة، وقال له: ما قلاص وأعبد

1 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، 12 / 35.
2 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، 12 / 42.
3 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، 12 / 42.
691

بعتها بمأة دينار؟ قال: خرجت بنفقة لي فاتجرت فيها. قال: وإنا والله ما بعثناك
للتجارة، أدها. قال: أما والله لا أعمل لك بعدها. قال: انا والله لا أستعملك بعدها. ثم صعد
المنبر، فقال: يا معشر الأمراء، إن هذا المال لو رأينا أنه يحل لنا لأحللناه لكم، فأما إذ
لم نره يحل لنا وظلفنا أنفسنا عنه فاظلفوا عنه أنفسكم، فإني والله ما وجدت لكم مثلا إلا
عطشان ورد اللجة، ولم ينظر الماتح، فلما روى غرق. (1)
7 - وكتب عمر إلى عمرو بن العاص وهو عامله في مصر: " أما بعد، فقد بلغني أنه قد
ظهر لك مال من إبل وغنم وخدم وغلمان، ولم يكن لك قبله مال، ولا ذلك من رزقك،
فأنى لك هذا؟! ولقد كان لي من السابقين الأولين من هو خير منك، ولكني استعملتك
لغنائك، فإذا كان عملك لك وعلينا، بم نؤثرك على أنفسنا؟! فاكتب إلى من أين مالك؟ و
عجل، والسلام. "
فكتب إليه عمرو بن العاص: " قرأت كتاب أمير المؤمنين، ولقد صدق، فأما ما ذكره
من مالي، فإني قدمت بلدة، الأسعار فيها رخيصة والغزو فيها كثير، فجعلت فضول ما
حصل لي من ذلك فيما ذكره أمير المؤمنين. والله يا أمير المؤمنين، لو كانت خيانتك لنا
حلالا ما خناك حيث ائتمنتنا فاقصر عنا عناك، فإن لنا أحسابا إذا رجعنا إليها أغنتنا عن
العمل لك، وأما من كان لك من السابقين الأولين فهلا استعملتهم! فوالله ما دققت لك
بابا. "
فكتب إليه عمر: " أما بعد، فإني لست من - تسطيرك وتشقيقك الكلام في شيء، إنكم
معشر الأمراء أكلتم الأموال، وأخلدتم إلى الأغدار، فإنما تأكلون النار وتورثون العار، و
قد وجهت إليك محمد بن مسلمة ليشاطرك على ما في يديك. والسلام. "
فلما قدم إليه محمد اتخذ له طعاما وقدمه إليه، فأبى أن يأكل، فقال: مالك لا تأكل
طعامنا؟ قال: إنك عملت لي طعاما هو تقدمة للشر، ولو كنت عملت لي طعام الضيف
لأكلته، فابعد عني طعامك

1 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 12 / 42.
692

واحضر لي مالك، فلما كان الغد وأحضر ماله جعل محمد يأخذ شطرا ويعطي عمروا
شطرا فلما رأى عمرو ما حاز محمد من المال قال: يا محمد، أقول؟ قال: قل ما تشاء.
قال: لعن الله يوما كنت فيه واليا لابن الخطاب... " (1)

1 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 12 / 43.
693

الفصل الثاني عشر
في وجوب اهتمام الإمام وعماله بأمر الضعفاء والأرامل والأيتام ومن لا حيلة له:
1 - ففي أصول الكافي بسنده عن سفيان بن عيينة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن النبي (عليه السلام)
قال: " أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، وعلى أولى به من بعدي. " فقيل له: ما معنى ذلك؟
فقال: " قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): من ترك دينا أو ضياعا فعلى، ومن ترك مالا فلورثته، فالرجل
ليست له على نفسه ولاية إذا لم يكن له مال، وليس له على عياله أمر ولا نهي إذا لم يجر
عليهم النفقة، والنبي وأمير المؤمنين - عليهما السلام - ومن بعدهما ألزمهم هذا، فمن
هناك صاروا أولى بهم من أنفسهم. وما كان سبب إسلام عامة اليهود إلا من بعد هذا القول
من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنهم آمنوا على أنفسهم وعلى عيالاتهم. " (1)
أقول: الضياع بالفتح: العيال كما في النهاية، وبالكسر جمع ضائع. (2)
وقوله: ألزمهم هذا، قال في مرآة العقول:

1 - أصول الكافي 1 / 406، كتاب الحجة، باب ما يجب من حق الإمام...، الحديث 6.
2 - النهاية لابن الأثير 3 / 107.
695

" لعل الضمير المستتر راجع إلى الله - تعالى -، والضمير البارز إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة
- عليهم السلام -، والإشارة إلى الإنفاق وأداء الديون. " (1)
2 - وفي البحار عن الصدوق في معاني الأخبار بسنده عن الرضا (عليه السلام)، قال: " صعد
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المنبر فقال: من ترك دينا أو ضياعا فعلى والى، ومن ترك مالا فلورثته. فصار
بذلك أولى بهم من آبائهم وأمهاتهم، وصار أولى بهم منهم بأنفسهم. وكذلك
أمير المؤمنين (عليه السلام) بعده جرى ذلك له مثل ما جرى لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). " (2)
3 - وفي مسند أحمد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، فمن ترك دينا أو
ضياعا فإلى، ومن ترك مالا فللوارث. " (3)
أقول: وهذا المضمون مستفيض بل متواتر في كتب الفريقين ولا سيما في كتب السنة،
فراجع.
4 - وفي أصول الكافي بسنده عن صباح بن سيابة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أيما مؤمن أو مسلم مات وترك دينا لم يكن في فساد ولا إسراف فعلى
الإمام أن يقضيه، فإن لم يقضه فعليه إثم ذلك. إن الله - تبارك وتعالى - يقول: " إنما
الصدقات للفقراء والمساكين. الآية. " فهو من الغارمين وله سهم عند الإمام، فإن حبسه
فإثمه عليه. " (4)
5 - وفيه أيضا بسنده عن علي بن موسى الرضا (عليه السلام): " المغرم إذا تدين أو استدان في
حق أجل سنة، فإن اتسع وإلا قضى عنه الإمام من بيت المال. " (5)
6 - وفي خبر موسى بن بكر، قال: قال لي أبو الحسن (عليه السلام): " من طلب هذا الرزق من
حله ليعود به على نفسه وعياله كان كالمجاهد في سبيل الله، فإن غلب عليه فليستدن
على الله

1 - مرآة العقول 4 / 342 (= ط. القديم 1 / 306)، كتاب الحجة، باب ما يجب من حق الإمام...،
الحديث 6.
2 - بحار الأنوار 27 / 242، كتاب الإمامة، باب حق الإمام على الرعية و...، الحديث 1.
3 - مسند أحمد 2 / 464.
4 - أصول الكافي 1 / 407، كتاب الحجة، باب ما يجب من حق الإمام...، الحديث 7.
5 - أصول الكافي 1 / 407، كتاب الحجة، باب ما يجب من حق الإمام...، الحديث 9.
696

وعلى رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما يقوت به عياله. فإن مات ولم يقضه كان على الإمام قضاؤه، فإن
لم يقضه كان عليه وزره. إن الله - عز وجل - يقول: " إنما الصدقات للفقراء والمساكين و
العاملين عليها " إلى قوله: " والغارمين. " فهو فقير مسكين مغرم. " (1)
إلى غير ذلك من الروايات الواردة بهذا المضمون، وقد مر بعضها في الباب الثالث في
فصل الزكاة، فراجع.
7 - وفي نهج البلاغة في كتابه (عليه السلام) لمالك حين ولاه مصر: " ثم الله الله في الطبقة
السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين وأهل البؤسى والزمنى، فإن في
هذه الطبقة قانعا ومعترا، واحفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قسما من
بيت مالك، وقسما من غلات صوافي الإسلام في كل بلد، فإن للأقصى منهم مثل الذي
للأدنى. وكل قد استرعيت حقه فلا يشغلنك عنهم بطر، فإنك لا تعذر بتضييعك التافه
لإحكامك الكثير المهم، فلا تشخص همك عنهم، ولا تصعر خدك لهم. وتفقد أمور من
لا يصل إليك منهم ممن تقتحمه العيون وتحقره الرجال، ففرغ لأولئك ثقتك من أهل
الخشية والتواضع، فليرفع إليك أمورهم. ثم اعمل فيهم بالإعذار إلى الله يوم تلقاه، فإن
هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم، وكل فأعذر إلى الله في تأدية حقه
إليه. وتعهد أهل اليتيم وذوي الرقة في السن ممن لا حيلة له، ولا ينصب للمسألة نفسه، و
ذلك على الولاة ثقيل] والحق كله ثقيل [وقد يخففه الله على أقوام طلبوا العاقبة فصبروا
أنفسهم ووثقوا بصدق موعود الله لهم.
واجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلسا عاما
فتتواضع فيه لله الذي خلقك، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك حتى
يكلمك متكلمهم غير متتعتع، فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول في غير موطن: " لن
تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوى غير متتعتع. " ثم احتمل الخرق منهم والعي، ونح عنهم الضيق والأنف، يبسط الله عليك بذلك أكناف رحمته، ويوجب لك
ثواب طاعته، وأعط ما أعطيت هنيئا، وامنع في إجمال وإعذار. " (2)

1 - الوسائل 13 / 91، الباب 9 من أبواب الدين، الحديث 2.
2 - نهج البلاغة، فيض / 1019; عبده 3 / 111; لح / 438، الكتاب 53.
697

أقول: البؤسى بضم الباء: شدة الفقر. والزمنى جمع زمين: المصاب بالزمانة. والقانع:
السائل المتذلل. والمعتر بتشديد الراء: المتعرض للعطاء بلا سؤال. والصوافي جمع
صافية: أرض الغنيمة. والبطر: الطغيان بالنعمة. والتافه: القليل. وصعر خده: أماله تهاونا
وكبرا. تقتحمه العيون: تكره النظر إليه احتقارا. والتعتعة في الكلام: التردد فيه من عجز
وعى. والخرق بالضم: العنف. والعي بالكسر: العجز عن النطق. والأنف محركة:
الاستكبار والاستنكاف. والأكناف: الأجنحة.
8 - وفي نهج البلاغة أيضا من عهد له - عليه السلام - إلى بعض عماله، وقد بعثه على
الصدقة: " آمره بتقوى الله في سرائر أمره وخفيات عمله، حيث لا شاهد غيره ولا وكيل
دونه.
وآمره أن لا يعمل بشيء من طاعة الله فيما ظهر فيخالف إلى غيره فيما أسر. ومن
لم يختلف سره وعلانيته، وفعله ومقالته فقد أدى الأمانة وأخلص العبادة.
وآمره أن لا يجبههم ولا يعضههم ولا يرغب عنهم تفضلا بالإمارة عليهم، فإنهم
الإخوان في الدين، والأعوان على استخراج الحقوق.
وإن لك في هذه الصدقة نصيبا مفروضا وحقا معلوما وشركاء أهل مسكنة، وضعفاء
ذوي فاقة، وإنا موفوك حقك فوفهم حقوقهم، وإلا فإنك من أكثر الناس خصوصا يوم
القيامة، وبؤسا لمن خصمه عند الله الفقراء والمساكين والسائلون والمدفعون والغارم و
ابن السبيل. ومن استهان بالأمانة ورتع في الخيانة ولم ينزه نفسه ودينه عنها فقد أحل
بنفسه في الدنيا الذل والخزي وهو في الآخرة أذل وأخزى. وإن أعظم الخيانة خيانة
الأمة وأفظع الغش غش الأئمة. " (1)
أقول: قوله: " فيخالف إلى غيره " هو مصب النهي كما لا يخفى. وجبهه: ضرب جبهته.
وعضهه: بهته وشتمه. والبؤس: شدة الحاجة. وقوله: " وبؤسا " دعاء. والخزي جمع
الخزية، أي البلية.
9 - وفي نهج البلاغة أيضا في وصية له بعد ما ضربه ابن ملجم: " الله الله في

1 - نهج البلاغة، فيض / 884; عبده 3 / 30; لح / 382، الكتاب 26.
698

الأيتام، فلا تغبوا أفواههم ولا يضيعوا بحضرتكم. " (1)
10 - وفي أصول الكافي بسنده عن حبيب بن أبي ثابت، قال: " جاء إلى أمير المؤمنين
(عليه السلام) عسل وتين من همدان وحلوان، فأمر العرفاء أن يأتوا باليتامى فأمكنهم من رؤوس
الأزقاق يلعقونها، وهو يقسمها للناس قدحا قدحا. فقيل له: يا أمير المؤمنين، ما لهم
يلعقونها؟ فقال: إن الإمام أبو اليتامى وإنما ألعقتهم هذا برعاية الآباء. " (2)
11 - وفي مناقب ابن شهرآشوب في مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) عن أبي نعيم:
" وكان (عليه السلام) بشره دائم وثغره باسم، غيث لمن رغب، وغياث لمن وهب (رهب. ظ)
مآل الآمل وثمال الأرامل، يتعطف على رعيته ويتصرف على مشيته ويكلأه بحجته، و
يكفيه بمهجته.
ونظر على إلى امرأة على كتفها قربة ماء فأخذ منها القربة فحملها إلى موضعها وسألها
عن حالها فقالت: بعث على بن أبي طالب صاحبي إلى بعض الثغور فقتل وترك على
صبيانا يتامى وليس عندي شيء، فقد ألجأتني الضرورة إلى خدمة الناس.
فانصرف وبات ليلته قلقا، فلما أصبح حمل زنبيلا فيه طعام فقال بعضهم: أعطني
أحمله عنك، فقال: من يحمل وزري عني يوم القيامة؟
فأتى وقرع الباب، فقالت: من هذا؟ قال: أنا ذلك العبد الذي حمل معك القربة،
فافتحي فإن معي شيئا للصبيان. فقالت: رضي الله عنك، وحكم بيني وبين على بين
أبي طالب.
فدخل وقال: إني أحببت اكتساب الثواب فاختاري بين أن تعجنين وتخبزين، وبين
أن تعللين الصبيان لأخبز أنا. فقالت: أنا بالخبز أبصر وعليه أقدر ولكن شأنك

1 - نهج البلاغة، فيض / 977، عبده 3 / 86; لح / 421، الكتاب 47.
2 - أصول الكافي 1 / 406; كتاب الحجة، باب ما يجب من حق الإمام...، الحديث 5.
699

والصبيان، فعللهم حتى أفرغ من الخبز.
فعمدت إلى الدقيق فعجنته وعمد على (عليه السلام) إلى اللحم فطبخه وجعل يلقم الصبيان من
اللحم والتمر وغيره، فكلما ناول الصبيان من ذلك شيئا قال: يا بنى اجعل على بن
أبي طالب في حل مما مر في أمرك. فلما اختمر العجين قالت: يا عبد الله، سجر التنور.
فبادر لسجره، فلما أشعله ولفح في وجهه جعل يقول: ذق يا على، هذا جزاء من ضيع
الأرامل واليتامى.
فرأته امرأة تعرفه فقالت: ويحك، هذا أمير المؤمنين!
قال: فبادرت المرأة وهي تقول: وا حيائي منك يا أمير المؤمنين!
فقال: بل وا حيائي منك يا أمة الله فيما قصرت في أمرك! " (1) ورواه في البحار أيضا
عن المناقب (2)، هذا.
ولا يخفى أنه في هذه الأعصار التي اتسعت فيها مجالات الحيات وكثرت الضعفاء و
الزمني والأيتام ومن لا حيلة له، ويتصور أعمال يمكن أن يتصدى لها بعض هذه
الصنوف فالواجب على الإمام وعماله تنظيم برامج واسعة لإحداث أشغال مناسبة لهذه
الصنوف حتى لا يحسوا بالفقر والاحتياج ولا تحطم شخصياتهم مهما أمكن، ويتسع
الأعمال والإنتاجات أيضا. فهذا أولى وأحوط لهم من التصدق عليهم مجانا الملازم
غالبا لتحقيرهم وإحساسهم للحقارة والاحتياج.

1 - المناقب لابن شهرآشوب 1 / 382.
2 - بحار الأنوار 41 / 51، تاريخ أمير المؤمنين، الباب 104 (باب حسن خلقه وحلمه وعفوه)،
الحديث 3.
700

الفصل الثالث عشر
في السياسة الخارجية للإسلام ومعاملته مع الأقليات غير المسلمة
وفيها جهات من البحث نتعرض لها إجمالا:
الجهة الأولى:
في أن الإسلام دين وسياسة، وتشريع وحكومة:
قد مر منا في الباب الثالث من الكتاب أنه بالمداقة في الكتاب العزيز، وبالتتبع في
أحاديث الفريقين من الشيعة والسنة، وفتاوى فقهائهم في الأبواب المختلفة من الطهارة
إلى الديات يظهر أن الإسلام ليس - كما يزعمه بعض بسطاء المسلمين، بل وبعض علماء
الدين، نتيجة لإلقاءات المستعمرين وأياديهم الخبيثة - ليس منحصرا في أعمال عبادية و
آداب ومراسيم شخصية فقط من دون التفات إلى المسائل الاجتماعية والسياسية و
الاقتصادية، بل هو نظام جامع كافل لجميع ما يحتاج إليه الإنسان في معاشه ومعاده، من
بدو تكونه إلى آخر مراحل حياته من الشؤون الفردية والاجتماعية، وما يجب أو ينبغي
أن يكون عليه الإنسان في علاقته بخالقه وحاكمه وعائلته وأمته وسائر الأمم ممن
أسلم أو لم يسلم. وانه بحسب
701

المحتوى غنى قوى معتمد على الوحي الإلهي قابل للانطباق على جميع الأمكنة و
الأزمنة، وإنه يحقق لتابعيه الاستقلال والحرية والرقى والتكامل في جميع المجالات.
وليس الإسلام منحصرا بمجرد التقنين والتشريع فقط، بل شرعت أحكامه ومقرراته
على أساس الحكومة الصالحة المنفذة لقوانينه العادلة. فهو دين وسياسة، وتشريع و
حكومة، فراجع ما حررناه بالتفصيل.
الجهة الثانية:
في أن الحاكم هو الله - تعالى -:
قد مر في أول الباب السادس أن الحكومة الإسلامية ليس يراد بها السلطة على
المسلمين والحكم عليهم وعلى بلادهم بما يريده الحاكم ويهواه كما هو دأب الملوك
المستبدة، بل يراد بها تنفيذ مقررات الإسلام وحدوده وإدارة شؤون الأمة على أساس
ما شرعه الله - تعالى - وأنزله على رسوله في شتى مجالات الحياة من العبادة والسياسة
والاقتصاد والآداب والأحكام.
ففي الحقيقة الحاكم هو الله - تعالى - مالك البلاد والعباد، العالم بما ينفعهم أو يضرهم.
والنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) هو المبلغ لأحكامه - تعالى -، والمنفذ لها. ويخلفه في ذلك الأئمة
الهداة، والخلفاء الصالحون في جميع الأعصار إلى يوم القيامة; فلا يجوز تعطيل برامج
الإسلام ولا الحكومة المنفذة لها في عصر من الأعصار.
الجهة الثالثة:
في أن الإسلام دين عام عالمي أبدى:
ليس الإسلام على ما يرى في بعض المنشورات المعاندة دينا لجزيرة العرب أو
702

شريعة للعرب فقط. بل هو دين عالمي أتى به النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لجميع البشر إلى يوم
القيامة. فهو خاتم الأديان، والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خاتم النبيين ولا نبي بعده إلى يوم القيامة، كما
نطقت بذلك آيات الكتاب العزيز والأخبار المتواترة:
1 - قال الله - تعالى -: " وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس
لا يعلمون. " (1)
2 - وقال: " يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا، الذي له ملك السماوات و
الأرض، لا إله إلا هو، يحيي ويميت; فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله و
كلماته، واتبعوه لعلكم تهتدون. " (2)
3 - وقال: " هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره
المشركون. " (3)
4 - وقال: " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض
كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد
خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا، ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون. " (4)
5 - وقال: " ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان
الله بكل شيء عليما. " (5)
6 - وفي مجمع البيان - في تفسير سورة الجمعة في ذيل قوله تعالى: " وآخرين منهم
لما يلحقوا بهم " (6) -:

1 - سورة السبأ (34)، الآية 28.
2 - سورة الأعراف (7)، الآية 158.
3 - سورة التوبة (9)، الآية 33.
4 - سورة النور (24)، الآية 55.
5 - سورة الأحزاب (33)، الآية 40.
6 - سورة الجمعة (62)، الآية 3.
703

" قيل: هم الأعاجم ومن لا يتكلم بلغة العرب; فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مبعوث إلى من شاهده و
إلى كل من بعدهم من العرب والعجم. عن ابن عمر وسعيد بن جبير، وروى ذلك عن
أبي جعفر (عليه السلام).
وروى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قرأ هذه الآية، فقيل له من هؤلاء؟ فوضع يده على كتف سلمان و
قال: لو كان الإيمان في الثريا لنالته رجال من هؤلاء. " (1)
7 - وفيه أيضا في تفسير سورة الأحزاب: " وصح الحديث عن جابر بن عبد الله، عن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: إنما مثلي في الأنبياء كمثل رجل بنى دارا فأكملها وحسنها إلا موضع
لبنة، فكان من دخل فيها فنظر إليها قال: ما أحسنها إلا موضع هذه اللبنة، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): فأنا
موضع اللبنة، ختم بي الأنبياء. وأورده البخاري ومسلم في صحيحيهما. " (2)
8 - وفي نهج البلاغة: " ثم إن هذا الإسلام دين الله الذي اصطفاه لنفسه... ثم جعله
لا انفصام لعروته، ولا فك لحلقته، ولا انهدام لأساسه، ولا زوال لدعائمه، ولا انقلاع
لشجرته، ولا انقطاع لمدته، ولا عفاء لشرائعه، ولا جذ لفروعه. " (3)
والأخبار في خاتمية الإسلام، وأن حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه
حرام إلى يوم القيامة كثيرة جدا من طرق الفريقين:
9 - ومن ذلك صحيحة زرارة، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الحلال والحرام فقال:
" حلال محمد حلال أبدا إلى يوم القيامة وحرامه حرام أبدا إلى يوم القيامة لا يكون غيره
ولا يجيء غيره. " (4)
وقد راسل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الملوك من غير العرب وفي خارج الجزيرة ودعاهم إلى قبول
الإسلام والتسليم له (صلى الله عليه وآله وسلم) هم وأممهم، كما ضبطها المحدثون والمورخون، فلنذكر بعضها
تيمنا وتأييدا - لما ذكر - نذكرها من كتاب مجموعة الوثائق السياسية.

1 - مجمع البيان 5 / 284 (الجزء 10).
2 - مجمع البيان 4 / 362 (الجزء 8).
3 - نهج البلاغة، فيض / 638; عبده 2 / 200; / لح 313 - 314، الخطبة 198.
4 - الكافي 1 / 58، كتاب فضل العلم، باب البدع و...، الحديث 19.
704

ومن أراد التفصيل والاطلاع على منابع النقل وأسنادها فليرجع إليه وإلى سائر
الكتب المؤلفة في هذا الموضوع:
1 - كتابه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى النجاشي ملك الحبشة:
" بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد رسول الله إلى النجاشي: الأصحم ملك الحبشة.
سلم أنت. فإني أحمد إليك الله (الذي لا إله إلا هو)، الملك القدوس السلام المؤمن
المهيمن، وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته، ألقاها إلى مريم البتول الطيبة
الحصينة، فحملت بعيسى، فخلقه الله من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده ونفخه.
وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني وتؤمن
بالذي جاءني، فإني رسول الله.
وقد بعثت إليك ابن عمي جعفرا ونفرا معه من المسلمين، فإذا جاءك فاقرهم ودع
التجبر، فإني أدعوك وجنودك إلى الله، فقد بلغت ونصحت، فاقبلوا نصحي، والسلام
على من اتبع الهدى. "
وفي رواية أخرى لهذا الكتاب وجدت بخاتم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هكذا:
" بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد رسول الله إلى النجاشي عظيم الحبشة.
سلام على من اتبع الهدى.
أما بعد، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، الملك القدوس السلام المؤمن
المهيمن.
وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته، ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة،
فحملت بعيسى من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده.
وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني وتوقن
بالذي جاءني، فإني رسول الله. وإني أدعوك وجنودك إلى الله - عز وجل -، وقد بلغت و
نصحت فاقبلوا نصيحتي، والسلام على من اتبع الهدى. محمد رسول الله. " (1)

1 - الوثائق السياسية / 100 - 103، الرقم 21.
705

2 - كتاب آخر له (صلى الله عليه وآله وسلم) إليه:
بسم الله الرحمن الرحيم
" هذا كتاب من محمد النبي إلى النجاشي الأصحم عظيم الحبشة.
سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك
له، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأن محمدا عبده ورسوله.
وأدعوك بدعاية الإسلام، فإني أنا رسوله فأسلم تسلم و " يا أهل الكتاب تعالوا إلى
كلمة سواء بيننا وبينكم: ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا
من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون. " فإن أبيت فعليك إثم النصارى من
قومك. " (1)
أقول: ولعله (صلى الله عليه وآله وسلم) كتب إليه كتابين في وقتين.
3 - كتابه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى هرقل عظيم الروم:
" بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم.
سلام على من اتبع الهدى.
أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن
توليت فعليك إثم الأريسيين. و " يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم: ألا
نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولوا فقولوا
اشهدوا بأنا مسلمون. " (2)
4 - كتاب آخر له (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى قيصر الروم:
" من محمد رسول الله إلى صاحب الروم.
إني أدعوك إلى الإسلام، فإن أسلمت فلك ما للمسلمين وعليك ما عليهم. فإن
لم تدخل في الإسلام فأعط الجزية، فإن الله - تبارك وتعالى - يقول: " قاتلوا الذين
لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر،

1 - الوثائق السياسية / 103، الرقم 22.
2 - الوثائق السياسية / 109، الرقم 26.
706

ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى
يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. " وإلا فلا تحل بين الفلاحين وبين الإسلام أن
يدخلوا فيه، أو يعطوا الجزية. " (1)
5 - كتابه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المقوقس عظيم القبط:
" بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد عبد الله ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط.
سلام على من اتبع الهدى.
أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت
فعليك إثم القبط: " يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم: ألا نعبد إلا الله و
لا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا
مسلمون. " (2)
6 - رواية أخرى عن نص كتابه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المقوقس:
" من محمد رسول الله إلى صاحب مصر والإسكندرية.
أما بعد فإن الله - تعالى - أرسلني رسولا وأنزل على قرآنا، وأمرني بالإعذار و
الإنذار ومقاتلة الكفار حتى يدينوا بديني، ويدخل الناس في ملتي. وقد دعوتك إلى
الإقرار بوحدانية الله - تعالى -، فإن فعلت سعدت وإن أبيت شقيت، والسلام. " (3)
7 - كتابه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أبرويز عظيم فارس:
" بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس.
سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك
له وأن محمدا عبده ورسوله.

1 - الوثائق السياسية / 110، الرقم 27.
2 - الوثاق السياسية / 135، الرقم 49.
3 - الوثائق السياسية / 138، الرقم 51.
707

وأدعوك بدعاء الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيا ويحق
القول على الكافرين. فأسلم تسلم، فإن أبيت فإن إثم المجوس عليك. " (1)
8 - كتابه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى كسرى أيضا:
" من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، أن أسلم تسلم. من شهد شهادتنا و
استقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فله ذمة الله وذمة رسوله. " (2)
9 - كتابه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الهرمزان عامل لكسرى:
" من محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الهرمزان.
إني أدعوك إلى الإسلام أسلم تسلم. " (3)
إلى غير ذلك من الروايات، فراجع محالها. وقد مر في بحث القوة التنفيذية عن
الكتاني أسامي رسله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الملوك.
الجهة الرابعة:
في أن الإسلام يدعوا إلى الحق والعدالة:
قد فطر الله - تعالى - آدم وذريته على الحق والعدل وأودع فيهم العقول الحاكمة
بهما، ولكن النفس أمارة بالسوء وشياطين الجن والإنس حرصاء على إغوائهم،
فاحتاجوا إلى عقول منفصلة، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ليستأدوهم ميثاق
الفطرة ويثيروا لهم دفائن العقول:
1 - قال الله - تعالى - " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم

1 - الوثائق السياسية / 140، الرقم 53.
2 - الوثائق السياسية / 143، الرقم 53 / ألف.
3 - الوثائق السياسية / 144، الرقم 54.
708

الناس بالقسط. " (1)
2 - وقال: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء و
المنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون. " (2)
3 - وقال: " قل أمر ربي بالقسط. " (3)
4 - وقد أمر الله - تعالى - نبينا بالدعوة إلى الحق والتبليغ له فقال: " ادع إلى سبيل ربك
بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن
سبيله وهو أعلم بالمهتدين. " (4)
وقد ذكر ثلاث مراتب للدعوة حسب اختلاف الناس في التعقل وفي الانقياد.
5 - وقال: " فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم. " (5)
6 - وقال: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته
والله يعصمك من الناس. " (6)
وقد صرف هو (صلى الله عليه وآله وسلم) ليله ونهاره وجميع قواه وطاقاته في دعوة الأمة وهدايتهم
حتى كاد أن يبخع نفسه على آثارهم، وبعث رسله وسفراءه إلى القبائل وإلى الملوك
يدعوهم إلى الإسلام. وقد اتبعته الأمة أيضا في الدعوة وبسط العدل وإقامة المعروف،
كما هو واضح.
7 - وفي الكتاب الكريم: " قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني،

1 - سورة الحديد (57)، الآية 25.
2 - سورة النحل (16)، الآية 90.
3 - سورة الأعراف (7)، الآية 29.
4 - سورة النحل (16)، الآية 125.
5 - سورة الشورى (42)، الآية 15.
6 - سورة المائدة (5)، الآية 67.
709

وسبحان الله وما أنا من المشركين. " (1)
والآيات والروايات من طرق الفريقين في وجوب الدعوة إلى الحق وإرشاد
الجاهل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحق والعدل كثيرة فوق حد
الإحصاء. وقد مر في بحث القضاء آيات وروايات كثيرة دالة على اهتمام الإسلام
بالقسط والعدل وإقامة الحق.
فلا يسمح لأحد من المسلمين بالسكوت في قبال الطغاة والظالمين، بل إن الجهاد
الذي حث عليه العقل والشرع ليس إلا الدفاع عن الحق والعدالة كما مر تفصيل ذلك في
فصل الجهاد.
فقوله - تعالى -: " وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال و
النساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها، واجعل لنا من
لدنك وليا، واجعل لنا من لدنك نصيرا " (2) مشعر بأن لزوم القتال في سبيل بسط التوحيد
والدفاع عن المستضعفين أمر يحكم به العقل والفطرة، فوبخهم الله - تعالى - على تركه.
وكثير من الناس يغلب عليهم الهوى وعلى طبعهم التجاوز والاعتداء ولا يقيمهم على
الحق والعدالة إلا القوة والسيف، كما قال رسول الله على ما في الكافي عن الإمام
الصادق (عليه السلام): " الخير كله في السيف وتحت ظل السيف ولا يقيم الناس إلا السيف. " (3) و
عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " إن الله فرض الجهاد وعظمه وجعله نصره وناصره، والله ما
صلحت دنيا ولا دين إلا به. " (4)
ولا يجوز قتال أحد من الكفار إلا بعد دعائهم إلى الإسلام والالتزام بشرائعه، فإن
لم يجيبوا حل قتالهم:
فعن الكافي بسند لا بأس به عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: " بعثني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)

1 - سورة يوسف (12)، الآية 108.
2 - سورة النساء (4)، الآية 75.
3 - الوسائل 11 / 5، الباب 1 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
4 - الوسائل 11 / 9، الباب 1 من أبواب جهاد العدو، الحديث 15.
710

إلى اليمن فقال: يا على، لا تقاتلن أحدا حتى تدعوه إلى الإسلام، وأيم الله لأن يهدي
الله - عز وجل - على يديك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت... " (1)
والالتزام بالدين أمر اختياري للبشر ولا إكراه في الدين، ولكن أكثر الناس بفطرتهم
التي فطر الله الناس عليها متمايلون إلى دين الحق إذا عرض عليهم صحيحا. فلو وقفت
أمام عرضه عليهم وطرحه لهم السلطات الكافرة أو الظالمة التي اتخذت مال الله دولا و
عباده خولا، كما هو المشاهد غالبا في المجتمعات، وجب من باب اللطف قتالها ورفع
شرها عن الأمم.
وقد قال الله - تعالى -: " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله. " (2)
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها
منعوا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله - عز وجل -. " (3)
وبالجملة، فالجهاد في الإسلام للدفاع عن التوحيد الذي هو حق الله على عباده و
عن حقوق المستضعفين، لا السلطة على البلاد والعباد على ما هو دأب المستعمرين:
فعن أبي جعفر (عليه السلام) في بيان حدود الجهاد: " وأول ذلك الدعاء إلى طاعة الله من طاعة
العباد، وإلى عبادة الله من عبادة العباد، وإلى ولاية الله من ولاية العباد... وليس الدعاء
من طاعة عبد إلى طاعة عبد مثله. " (4)
وكيف كان، فالواجب على الأمة الإسلامية بشعوبها إدامة خط النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتعقيب
أهدافه القيمة وأن يصرفوا جميع طاقاتهم وإمكاناتهم البدنية والمالية والسياسية و
الثقافية في بسط التوحيد والعدالة ورفع الظلم والفساد والعمل على تحقيق شرائط ذلك
وظروفه وتقوية المجاهدين في سبيل الله والمدافعين عن حقوق المستضعفين في
جميع البلاد الإسلامية، قاصيها ودانيها، وإن اختلفوا في العنصر

1 - الوسائل 11 / 30، الباب 10 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
2 - سورة الأنفال (8)، الآية 39.
3 - سنن أبي داود 2 / 41، كتاب الجهاد، باب على ما يقاتل المشركون؟
4 - الوسائل 11 / 7، الباب 1 من أبواب جهاد العدو، الحديث 8.
711

واللون واللغة، فإن المسلمين جميعا أمة واحدة لا تفرقهم ولا تحكم عليهم الفروقات
المادية من العنصرية واللون واللغة والوطن، كما سيأتي في البند الآتي.
الجهة الخامسة:
في أن المسلمين بأجمعهم أمة واحدة ولا فضل لأحد منهم على أحد إلا بالتقوى:
العناصر التي تحقق مفهوم الأمة الواحدة خارجا هي الأرض والجنسية واللغة و
اللون والمصلحة المشتركة والفكر والعقيدة، ولا شك أن لكل من هذه تأثيرا في تحقيق
الوحدة بين الأفراد وفي نشوء الإنسان وتربيته، فإن الإنسان ليس منعزلا في حياته عن
الشؤون المادية وخواصها وآثارها.
ولكنه من الواضح لكل أحد أن إنسانية الإنسان وكرامته ليس ببدنه ومزاجه وقواه
المادية، بل بعقله وفكره وآرائه، والذي يحكم على قلبه وروحه هو فكره وإيمانه الذي
يعتبره أعز الأشياء لديه بحيث يضحي نفسه في طريقه. فلو فرضنا مواطنين ولدا على
أرض واحدة واشتركا في جميع العناصر المادية ولكنهما اختلفا في العقيدة والفكر،
نراهما كل يوم يتناحران ويتشاجران ولا يوجد بينهما العلاقة والمحبة.
وبالعكس; لو فرضنا إنسانين اختلفا في الوطن والعناصر المادية ولكنهما اتفقا في
العلاقات الروحية والأفكار والآراء، نراهما متحابين متجاذبين كأنهما روح واحد في
جسدين. ولا يمتاز الإنسان عن سائر أنواع الحيوان إلا بروحه وفكره وعقائده.
فالوحدة في الفكر والإيمان هي القادرة على جمع أفراد الإنسان وإيجاد العلاقة
بينهم، لا وحدة الوطن والعنصر.
ولأجل ذلك ترى الإسلام يحكم بوحدة الأمة الإسلامية وأخوة المؤمنين بما هم
مؤمنون، ولا يرى للامتيازات المادية من الجنس واللغة واللون شأنا بحيث توجب
فضيلة للإنسان في قبال الفضائل الروحية وفضيلة الإيمان والتقوى:
712

1 - قال الله - تعالى -: " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا و
قبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم. " (1)
2 - وقال: " إنما المؤمنون إخوة. " (2)
3 - وقال: " فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين. " (3)
4 - وقال: " إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فأعبدون. " (4)
5 - وقال: " وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون. " (5)
بناء على كون الأمة في الآيتين بمعنى الجماعة، لا بمعنى الدين والملة كما قيل.
فالمسلمون كلهم أمة واحدة وربهم واحد ودينهم واحد ونبيهم واحد وكتابهم واحد،
ولا ميز لأحد منهم إلا بالتقوى والتسليم لأوامر الله، الموجبة لكمال روحه ورقية والتي
بها تحصل كرامة الإنسان وشرفه.
6 - وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد. ألا
لافضل لعربي على عجمي، ولا عجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر
على أسود إلا بالتقوى. " (6)
7 - وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجة الوداع: " أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد. كلكم
لآدم، وآدم من تراب. " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " وليس لعربي على عجمي فضل إلا

1 - سورة الحجرات (49)، الآية 13.
2 - سورة الحجرات (49)، الآية 10.
3 - سورة التوبة (9)، الآية 11.
4 - سورة الأنبياء (21)، الآية 92.
5 - سورة المؤمنين (23)، الآية 52.
6 - تفسير القرطبي 16 / 342، ذيل الآية 13 من سورة الحجرات.
713

بالتقوى. ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: فليبلغ الشاهد الغائب. " (1)
8 - وعن أبي جعفر الباقر (عليه السلام)، قال: صعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المنبر يوم فتح مكة فقال:
" أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتفاخرها بآبائها. ألا إنكم من
آدم (عليه السلام)، وآدم من طين. ألا إن خير عباد الله عبد اتقاه. إن العربية ليست بأب والد، و
لكنها لسان ناطق; فمن قصر به عمله لم يبلغه حسبه. ألا إن كل دم كان في الجاهلية أو
إحنة - والإحنة: الشحناء - فهي تحت قدمي هذه إلى يوم القيامة. " (2)
9 - وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبته في مجسد الخيف: " المسلمون إخوة; تتكافى دماؤهم و
يسعى بذمتهم أدناهم. " (3)
10 - وفي رواية أخرى عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): " المؤمنون إخوة تتكافئ دماؤهم، وهم يد على
من سواهم; يسعى بذمتهم أدناهم. " (4)
11 - وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا في حجة الوداع: " أيها الناس، اسمعوا قولي واعقلوه، تعلمن أن
كل مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين إخوة فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن
طيب نفس منه، فلا تظلمن أنفسكم، اللهم هل بلغت؟ " (5)
12 - وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا: " إن الله - تعالى - جعل الإسلام دينه، وجعل كلمة الإخلاص
حسنا له، فمن استقبل قبلتنا، وشهد شهادتنا، وأحل ذبيحتنا فهو مسلم، له مالنا وعليه ما
علينا. " (6)
13 - وعن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: " من استقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، وآمن بنبينا،

1 - تحف العقول / 34.
2 - الكافي 8 / 246 (الروضة)، الحديث 342.
3 - الكافي 1 / 403، كتاب الحجة، باب ما أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنصيحة لأئمة المسلمين...، الحديث
1.
4 - الكافي 1 / 404، كتاب الحجة، باب ما أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنصيحة لأئمة المسلمين...، الحديث
2.
5 - سيرة ابن هشام 4 / 251.
6 - بحار الأنوار 65 / 288 (= طبعة إيران 68 / 288)، كتاب الإيمان والكفر، الباب 24 (باب الفرق
بين الإيمان والاسلام)، الحديث 47; عن " نوادر الراوندي "، عن موسى بن جعفر (عليه السلام) عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).
714

وشهد شهادتنا دخل في ديننا; أجرينا عليه حكم القرآن، وحدود الإسلام، ليس
لأحد على أحد فضل إلا بالتقوى. ألا وإن للمتقين عند الله أفضل الثواب، وأحسن
الجزاء والمآب. " (1)
14 - وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل
الجسد، إذا اشتكى منه شيء تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. " (2)
15 - وفي صحيحة أبي بصير، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " المؤمن أخو المؤمن
كالجسد الواحد، إن اشتكى شيئا منه وجد ألم ذلك في سائر جسده، وأرواحهما من روح
واحدة. وإن روح المؤمن لأشد اتصالا بروح الله من اتصال شعاع الشمس بها. " (3)
16 - وفي خبر مفضل بن عمر، قال أبو عبد الله (عليه السلام): " إنما المؤمنون إخوة بنو أب وأم،
وإذا ضرب على رجل منهم عرق سهر له الآخرون. " (4)
17 - وفي خبر علي بن عقبة، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " المؤمن أخو المؤمن، عينه ودليله،
لا يخونه ولا يظلمه ولا يغشه ولا يعده عدة فيخلفه. " (5)
18 - وفي رواية الفضل بن يسار، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " المسلم أخو
المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يغتابه ولا يخونه ولا يحرمه. " (6)
19 - وفي خبر الحارث بن المغيرة، قال أبو عبد الله (عليه السلام): " المسلم أخو المسلم، هو
عينه ومرآته، ودليله لا يخونه ولا يخدعه ولا يظلمه ولا يكذبه ولا يغتابه. " (7)
20 - وعن الصادق (عليه السلام): " المسلم أخو المسلم. وحق المسلم على أخيه المسلم أن
لا يشبع

1 - بحار الأنوار 65 / 292 (= طبعة إيران 68 / 292)، كتاب الإيمان والكفر، الباب 24، الحديث
52.
2 - مسند أحمد 4 / 270.
3 - الكافي 2 / 166، كتاب الإيمان والكفر، باب أخوة المؤمنين بعضهم لبعض، الحديث 4.
4 - الكافي 2 / 165، كتاب الإيمان والكفر، باب أخوة المؤمنين بعضهم لبعض، الحديث 1.
5 - الكافي 2 / 166، كتاب الإيمان والكفر، باب أخوة المؤمنين بعضهم لبعض، الحديث 3.
6 - الكافي 2 / 167، كتاب الإيمان والكفر، باب أخوة المؤمنين بعضهم لبعض، الحديث 11.
7 - الكافي 2 / 166، كتاب الإيمان والكفر، باب أخوة المؤمنين بعضهم لبعض، الحديث 5.
715

ويجوع أخوه، ولا يروى ويعطش أخوه، ولا يكتسي ويعرى أخوه، فما أعظم حق
المسلم على أخيه المسلم. " (1)
21 - وعن أبي عبد الله (عليه السلام) أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): قال: " من أصبح لا يتهم بأمور المسلمين
فليس منهم. ومن سمع رجلا ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم. " (2)
22 - وفي خبر أبي المعزا، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " يحق على المسلمين الاجتهاد
في التواصل والتعاون على التعاطف والمواساة لأهل الحاجة وتعاطف بعضهم على
بعض حتى تكونوا كما أمركم الله - عز وجل -: " رحماء بينهم " متراحمين، مغتمين لما
غاب عنكم من أمرهم، على ما مضى عليه معشر الأنصار على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). " (3)
إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الواردة من طرق الفريقين في هذا المجال.
وأوصيك أن تراجع في هذا الباب أيضا القصص المحكية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة
المعصومين، الحاكية عن روح المؤاخاة والمواساة بين طبقات المسلمين وإلغاء
الامتيازات المادية والعنصرية التي يهتم بها أبناء الدنيا.
ومن هذا القبيل الروايات الواردة في تزويج النبي زينب بنت جحش لزيد بن حارثة،
وتزويجه ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب لمقداد، وخطبته للذلفاء بنت زياد بن لبيد من
شرفاء الأنصار لجويبر الأسود المحتاج، وخطبة محمد بن علي بن الحسين ابنة رجل من
الأشراف لمنجح بن رباح، وتزوج علي بن الحسين بموالاة له أعتقها وتزوجها. إلى غير
ذلك من القصص، راجع فروع الكافي. (4) وقصة جويبر قصة عجيبة جدا.
وبالجملة، فالمسلمون لو خلوا وفطرتهم ووظيفتهم الإسلامية فكلهم أمة واحدة و

1 - سفينة البحار 1 / 12، في كلمة الأخ; عن البحار 71 / 221 (= طبعة إيران 74 / 221); عن
" الاختصاص ".
2 - الكافي 2 / 164، كتاب الإيمان والكفر، باب الاهتمام بأمور المسلمين...، الحديث 5.
3 - الكافي 2 / 175، كتاب الإيمان والكفر، باب التراحم والتعاطف، الحديث 4.
4 - الكافي 5 / 339 - 347، كتاب النكاح، باب أن المؤمن كفو المؤمنة، وما بعده.
716

دينهم واحد وإلههم واحد ونبيهم وكتابهم واحد. ومن الواجب أن يحكم عليهم و
على بلادهم حكم واحد وتسوسهم سياسة واحدة، كما كان كذلك في صدر الإسلام، و
لكن أعداء الإسلام ألقوا بينهم التعصبات الباطلة والخلافات العنصرية المادية، ومزقوهم
بذلك كل ممزق وأشعلوا بينهم نيران الفتنة وسلطوا عليهم أياديهم الخبيثة وعملاءهم
الظلمة المتأيدين بعلماء السوء، وبذلك تسلطوا على بلادهم وثقافتهم وذخائرهم. فيا
مصيبة للإسلام والمسلمين من هاتين الشجرتين الخبيثتين، وقى الله المسلمين شرهما
بحق محمد وآله.
فليتنبه المسلمون وليستيقظوا من نوم الغفلة العميقة ويلتفتوا إلى أن العدو الإسرائيلي
جمع أبناءه من شتى أرجاء العالم باسم الدين وتحت لواء الدين، من دون أن يفرق بينهم
باللغة واللون والوطن، وشكل بذلك قوة وقدرة ضد الإسلام والمسلمين، بينما راح
المسلمون مع كثرة عددهم وسعة بلادهم وذخائرهم يعنونون القوميات: العربية و
الفارسية والتركية ونحوها فخسروا بذلك أمام إسرائيل الغاصبة المعادية. فهذه نتيجة
الافتراق وذلك ثمرة الاتفاق.
وعلى هذا فيفرض على الحكومة الإسلامية وأمتها أن لا تحصر نظرها وإمكاناتها
على منطقة خاصة ومجتمع خاص، بل تلتفت إلى جميع المسلمين في شتى البلاد
أقاصيها وأدانيها، فتوجد لهم بقدر الوسع وسائل التعلم والثقافة والدفاع، ويسعى في
توحيد كلمتهم ورفع الفقر والاستضعاف والظلم عنهم ورفع شر الأعداء الخارجيين و
الداخليين عنهم وعن بلادهم، والميسور من ذلك كله لا يترك بالمعسور، وما لا يدرك
كله لا يترك كله كما هو واضح بالعقل والشرع، فتنبه.
الجهة السادسة:
في النهي عن تولي الكفار واتخاذهم بطانة:
قد اهتم الإسلام باستقلال المسلمين ومجدهم وعزهم وأن لا يستولي عليهم الكفار
717

أو يستغلوهم أو يجدوا عليهم سبيلا.
ولعلك لا تجد في الكتاب الكريم بعد مسألة الجهاد مسألة سياسية عنى بها القرآن
الكريم بمثل هذه المسألة المهمة التي هي أساس السياسة الخارجية للإسلام، حيث إن
الكفر ملة واحدة يعاند بتمام وجوده الإسلام، والكافرون بأجمعهم أعداء ألداء
للمسلمين. والعدو همه المعاداة والإضرار بخصيمه علنا أو سرا ولو تحت ستار التظاهر
بالصداقة والتعطف وباسم العمران والحماية، كما بلي المسلمون بذلك في القرون
الأخيرة.
وقد أخبرنا الله - تعالى - بالحقد والعداوة الكامنة في قلوب الكفار والمشركين في
آيات كثيرة:
1 - كقوله - تعالى -: " ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل
عليكم من خير من ربكم. " (1)
2 - وقال: " إن تمسسكم حسنة تسؤهم، وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها، وإن تصبروا و
تتقوا لا يضركم كيدهم شيئا، إن الله بما يعملون محيط. " (2)
3 - وقال: " ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا، حسدا من
عند أنفسهم من بعدما تبين لهم الحق. " (3)
4 - وقال في حق اليهود: " فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون
الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به، ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا
منهم. " (4)
5 - وقال في حق المشركين: " كيف وإن يظهروا علكيم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة،

1 - سورة البقرة (2)، الآية 105.
2 - سورة آل عمران (3)، الآية 120.
3 - سورة البقرة (2)، الآية 109.
4 - سورة المائدة (5)، الآية 13.
718

يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون. " (1)
إلى غير ذلك من آيات الكتاب العزيز الواردة في هذا المجال.
ولأجل ذلك فرض الله - تعالى - على الأمة الإسلامية أن تتجهز دائما بأنواع أجهزة
الدفاع وأكملها وتعد لنفسها ما استطاعت من قوة وسلاح لإرهاب العدو وإخافته حتى
لا يخطر ببالهم الهجمة على بلاد المسلمين، من غير فرق بين من عرف عداوته وغيرهم
ممن يحتمل هجمته من العناصر الخارجية والداخلية، ورغب في إنفاق المال في هذا
السبيل فقال - تعالى -:
6 -: " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، ومن رباط الخيل، ترهبون به عدو الله و
عدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم، الله يعلمهم. وما تنفقوا من شيء في سبيل الله
يوف إليكم وأنتم لا تظلمون. " (2)
كما بالغ وشدد في النهي عن تولي الكفار واتخاذهم بطانة بحيث يطلعون على أسرار
المسلمين ودواخلهم:
7 - قال الله - تعالى -: " يا أيها الذين آمنوا، لا تتخذوا بطانة من دونكم، لا يألونكم
خبالا، ودوا ما عنتم، قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر، قد بينا لكم
الآيات إن كنتم تعقلون * ها أنتم هؤلاء تحبونهم ولا يحبونكم، وتؤمنون بالكتاب كله، و
إذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ، قل موتوا بغيظكم إن الله
عليم بذات الصدور. " (3)
8 - وقال: " يا أيها الذين آمنوا، لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين
أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء، واتقوا الله إن كنتم مؤمنين. " (4)
9 - وقال: " يا أيها الذين آمنوا، لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين،
أتريدون أن

1 - سورة التوبة (9)، الآية 8.
2 - سورة الأنفال (8)، الآية 60.
3 - سورة آل عمران (3)، الآية 118 و 119.
4 - سورة المائدة (5)، الآية 57.
719

تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا. " (1)
10 - وقال: " يا أيها الذين آمنوا، لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم
بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق، يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم
إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما
أخفيتم وما أعلنتم، ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل. " (2)
11 - وقال: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء
بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم، إن الله لا يهدي القوم الظالمين * فترى الذين في
قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة، فعسى الله أن يأتي بالفتح
أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين. " (3)
12 - وقال: " يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا
خاسرين * بل الله مولاكم وهو خير الناصرين. " (4)
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الناهية عن موالاة الكفار وموادتهم وإطاعتهم و
الاعتماد عليهم.
فتامل في هذه الآيات الشريفة وانظر كيف بلي المسلمون في أعصارنا بولاة وحكام
مرضى القلوب ضعفاء النفوس قد حطموا شخصيات أنفسهم وقداسة أممهم وجعلوا
بلادهم وثقافتهم وذخائرهم وإمكاناتهم المتنوعة تحت سيطرة الكفار والصهاينة،
معتذرين بالخشية من أن تصيبهم دائرة!
فعسى الله أن يأتي بالفتح العاجل للمسلمين في شتى البلدان، كما أتي به في إيران
الإسلامية بإيمانهم واستقامتهم واتحادهم، ووجود القيادة الجازمة فيهم،

1 - سورة النساء (4)، الآية 144.
2 - سورة الممتحنة (60)، الآية 1.
3 - سورة المائدة (5)، الآية 51 - 52.
4 - سورة آل عمران (3)، الآية 149 و 150.
720

ويسقط هؤلاء الفسقة الخونة من عروش القدرة الشيطانية والسلطة الطاغوتية في
مزبلة التاريخ ومهملاته، كما سقط أمثالهم، وتقطع أيادي الكفر وعملائه من أصلها إن
شاء الله - تعالى -.
فانظر إلى آثار رحمة الله - تعالى - وانتظر رحمته الواسعة.
ولكن على المسلمين الهمة والثورة ضد هذه السلطات الطاغوتية، فإن الله - تعالى -
" لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. ".
الجهة السابعة:
في مداراة الكفار وحفظ حقوقهم وحرمتهم:
قد ظهر بما مر أن كيان الإسلام ومجد المسلمين يستدعيان الحفاظ على الاستقلال
في الثقافة والسياسة والاقتصاد، والحذر من وقوعهم في حبائل الكفر وشباكاته.
ولكن نقول: إن ذلك كله لا ينافي مداراة الكفار ودعوتهم إلى الحق، بل والبر و
الإحسان إليهم وتأليفهم كيما يرغبوا في الإسلام، بل والتعاهد وإيجاد العلاقات
السياسية والاقتصادية معهم إذا رآه الحاكم صلاحا للإسلام والمسلمين مع رعاية
الاحتياط والالتفات إلى جميع الجوانب والجهات كيلا يتغفلوا أحيانا:
1 - قال الله بعد الأمر بإعداد القوة في قبال الكفار: " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها، و
توكل على الله إنه هو السميع العليم. " (1)
2 - وقال بعد الأمر بقتال الكفار: " إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو
جاؤوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم، ولو شاء الله لسلطهم عليكم
فلقاتلوكم،

1 - سورة الأنفال (8)، الآية 61.
721

فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا. " (1)
3 - وقال: " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم
أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم
في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم
فأولئك هم الظالمون. " (2)
4 - وقال: " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله، ثم أبلغه
مأمنه، ذلك بأنهم قوم لا يعلمون. " (3)
5 - وقال: " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي حسن إلا الذين ظلموا منهم. " (4)
6 - وقد عاهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مشركي مكة ويهود المدينة ونصارى نجران وغيرهم،
وكان يعاشرهم ويعاملهم بالآداب والأخلاق الحسنة، وقد جعله الله - تعالى - أسوة لنا
فقال: " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر
الله كثيرا. " (5)
7 - وفي سنن أبي داود، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ألا من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه
فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة. " (6)
8 - وفي فتوح البلدان للبلاذري، عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): " من ظلم معاهدا وكلفه فوق طاقته فأنا
حجيجه. " (7)
9 - وفي كتاب أمير المؤمنين للأشتر النخعي: " وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة
لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في
الدين أو نظير لك في الخلق. " (8)
فيجب على حاكم المسلمين الرحمة لرعيته

1 - سورة النساء (4)، الآية 90.
2 - سورة الممتحنة (60)، الآية 8 و 9.
3 - سورة التوبة (9)، الآية 6.
4 - سورة العنكبوت (29)، الآية 46.
5 - سورة الأحزاب (33)، الآية 21.
6 - سنن أبي داود 2 / 152، كتاب الخراج والفئ والإمارة، باب في تعشير أهل الذمة...
7 - فتوح البلدان / 167.
8 - نهج البلاغة، فيض / 993; عبده 3 / 93; لح / 427، الكتاب 53.
722

واللطف بهم وإن لم يكونوا مسلمين. ويجب على المسلمين أن يجذبوا بسيرتهم و
أخلاقهم كل إنسان وإن كان كافرا.
10 - وفي حديث أنه مر شيخ مكفوف كبير يسأل، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): ما هذا؟
قالوا: يا أمير المؤمنين، نصراني. فقال: أمير المؤمنين (عليه السلام): استعملتموه حتى إذا كبر وعجز
منعتموه؟ أنفقوا عليه من بيت المال. " (1)
ويرى أمير المؤمنين (عليه السلام) لأعراض أهل الكتاب وأموالهم حرمة مثل ما يراه لأعراض
المسلمين وأموالهم، فقد قال (عليه السلام) - بعد ما سمع إغارة خيل معاوية على الأنبار وتعرضهم
لنساء المسلمين ولنساء أهل الذمة -
11 -: " ولقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى
المعاهدة، فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها ورعاثها، ما تمنع منه إلا بالاسترجاع و
الاسترحام، ثم انصرفوا وافرين; ما نال رجلا منهم كلم ولا أريق لهم دم، فلو أن امرأ
مسلما مات من بعد هذا أسفا ما كان به ملوما بل كان به عندي جديرا. " (2)
12 - وقال (عليه السلام) في كتاب أرسله إلى عماله على الخراج: " ولا تبيعن للناس في الخراج
كسوة شتاء ولا صيف ولا دابة يعتملون عليها ولا عبدا، ولا تضربن أحدا سوطا لمكان
درهم، ولا تمسن مال أحد من الناس: مصل ولا معاهد إلا أن تجدوا فرسا أو سلاحا
يعدى به على أهل الإسلام، فإنه لا ينبغي للمسلم أن يدع ذلك في أيدي أعداء الإسلام
فيكون شوكة عليه. " (3)
13 - وقد بلغ احترام الإسلام للذمي حدا يسمح له أن يخاصم إمام المسلمين

1 - الوسائل 11 / 49، الباب 19 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
2 - نهج البلاغة، فيض / 95; عبده 1 / 64; لح / 69 - 70، الخطبة 27.
3 - نهج البلاغة، فيض / 984; عبده 3 / 90; لح / 425، الكتاب 51.
723

ويطالبه بالبينة لدعواه، كما اتفق ذلك في قصة درع أمير المؤمنين (عليه السلام) ومخاصمته في
عصر خلافته مع رجل من اليهود عند شريح القاضي، وقد مر الحديث في مبحث
المساواة أمام القانون، فراجع. (1)
ولم يكتف الإسلام باحترام الأحياء من أهل الكتاب بل ترى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يحترم بنفسه
أمواتهم ويأمرنا بذلك أيضا:
14 - ففي صحيح البخاري بسنده، عن جابر بن عبد الله، قال: " مر بنا جنازة فقام لها
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقمنا به، فقلنا: يا رسول الله، إنها جنازة يهودي. قال: " إذا رأيتم الجنازة
فقوموا. " (2)
15 - وفيه أيضا: " كان سهل بن حنيف وقيس بن سعد قاعدين بالقادسية، فمروا
عليهما بجنازة، فقاما، فقيل لهما: إنها من أهل الأرض، أي من أهل الذمة، فقالا: إن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مرت به جنازة فقام فقيل له: إنها جنازة يهودي، فقال: أليست نفسا. " (3)
أقول: فهذا منطق الاسلام يرى للإنسان وحتى لجنازته بأي ملة ودين كان حرمة و
شأنا ما لم يتجاوز على حقوق غيره. هذا.
وقد وجد اليهود والنصارى والمجوس في ظل الحكومات الإسلامية من كرامة
العيش والحرمة في جميع مجالات الحياة: من السياسة والاقتصاد والحرية في اكتساب
العلوم والصنائع ما لم يجدوه في ظل الحكومات المسيحية وغيرها. وقد كانت الدول
المسيحية في أروبا يستعبدون اليهود ويذلونهم ويسومونهم سوء العذاب، وكانت البلاد
الإسلامية ملجأ لهم وملاذا يتمتعون فيها بأحسن ما كان يتمتع به المسلمون، كما شهدت
بذلك التواريخ. ولكنك رأيت في نهاية الأمر كيف جبروا

1 - راجع ص 193 من الكتاب.
2 - صحيح البخاري 1 / 228، في الجنائز، باب من قام لجنازة يهودي.
3 - صحيح البخاري 1 / 228، في الجنائز، باب من قام لجنازة يهودي.
724

ويجبرون إحسان المسلمين إليهم وكافؤوهم في مجازر فلسطين ولبنان، فنرجو من
الله العزيز المنتقم الجبار أن يخذلهم ويضرب عليهم الذلة والمسكنة بأيدي المسلمين
الغيارى، ويخلص القدس الشريف من براثنهم الخبيثة إن شاء الله - تعالى -.
الجهة الثامنة:
في الأمان والهدنة:
لا يخفى أنه من المناسب هنا البحث في ثلاث مسائل متقاربة متناسبة تعرض لها
الفقهاء في كتاب الجهاد، وهي مسألة إعطاء الأمان للعدو، ومسألة الجزية، ومسألة
الهدنة.
والمراد بالأول أن يعطي الإمام أو نائبه، أو فرد من المسلمين ولو كان من أدناهم
الذمام والأمان لفرد أو فئة من الكفار المقاتلين.
والمراد بالثاني الضريبة المقررة على الكفار من أهل الكتاب أو غيرهم على الخلاف
في ذلك على أن يقروا على دينهم عائشين في ظل الحكومة الإسلامية آمنين في الأموال
والأعراض والنفوس.
والمراد بالثالث ما يعقده الإمام أو نائبه مع المقاتلين من ترك القتال في مدة مع
العوض أو بلا عوض على ما يراه من مصلحة الإسلام والمسلمين.
ولكن لما كانت دائرة هذه المسائل واسعة جدا ومحل بحثها الكتب الفقهية الموسوعة
أحلنا التفصيل فيها إلى محلها، ونبحث عن الجزية بحثا بسيطا في الباب الثامن من
الكتاب المعقود للبحث عن المنابع المالية للدولة الإسلامية.
وأما الأمان والهدنة فنشير إليهما هنا بذكر بعض الآيات والروايات والكلمات
لاطلاع القارئ إجمالا:
725

1 - عقد الأمان:
1 - قال الله - تعالى -: " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله
ثم أبلغه مأمنه. " (1)
2 - وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبته في مسجد الخيف: " المسلمون إخوة، تتكافئ
دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم. " (2)
3 - وروى السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلت له: ما معنى قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
يسعى بذمتهم أدناهم؟ قال: لو أن جيشا من المسلمين حاصروا قوما من المشركين
فأشرف رجل فقال: أعطوني الأمان حتى ألقى صاحبكم وأناظره، فأعطاه أدناهم الأمان
وجب على أفضلهم الوفاء به. " (3)
4 - وروى مسعدة بن صدقة، عن أبى عبد الله (عليه السلام) أن عليا (عليه السلام) أجاز أمان عبد مملوك
لأهل حصن من الحصون، وقال: " هو من المؤمنين. " (4)
5 - وعن محمد بن الحكم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " لو أن قوما حاصروا مدينة
فسألوهم الأمان فقالوا: لا، فظنوا أنهم قالوا: نعم، فنزلوا إليهم كانوا آمنين. " (5)
6 - وقال الشيخ في المبسوط:
" عقد الأمان جائز للمشركين، لقوله - تعالى -: " وإن أحد من المشركين استجارك

1 - سورة التوبة (9)، الآية 6.
2 - الكافي 1 / 403، كتاب الحجة، باب ما أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنصيحة لأئمة المسلمين...، الحديث
1.
3 - الوسائل 11 / 49، الباب 20 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
4 - الوسائل 11 / 49، الباب 20 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
5 - الوسائل 11 / 50، الباب 20 من أبواب جهاد العدو، الحديث 4.
726

فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه. " وعقد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الأمان للمشركين عام
الحديبية.
فإذا ثبت جوازه نظر، فإن كان العاقد الإمام جاز أن يعقده لأهل الشرك كلهم في جميع
البقاع والأماكن، لأن إليه النظر في مصالح المسلمين، وهذا من ذلك. وإن كان العاقد
خليفة الإمام على إقليم فإنه يجوز أن يعقد لمن يليه من الكفار دون جميعهم، لأن إليه
النظر في ذلك دون غيرها.
وإن كان العاقد آحاد المسلمين جاز أن يعقد لآحادهم والواحد والعشرة. ولا يجوز
أن يعقد لأهل بلد عام ولا لأهل إقليم، لأنه ليس له النظر في مصالح المسلمين.
فإذا ثبت جوازه لآحاد المسلمين فإن كان العاقد حرا مكلفا جاز بلا خلاف، وإن كان
عبدا صح، سواء كان مأذونا له في القتال أو غير مأذون - وفيه خلاف - لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" يسعى بذمتهم أدناهم. " وأدناهم: عبيدهم.
وأما المرأة فيصح أمانها بلا خلاف، لأن أم هاني بنت أبي طالب أجارت رجلا من
المشركين يوم فتح مكة فأجاز النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمانها وقال: أجرنا من أجرت، وآمنا من
آمنت.
والصبي والمجنون لا يصح أمانهما لأنهما غير مكلفين. " (1)
7 - وفي الشرائع:
" ويجوز أن يذم الواحد من المسلمين لآحاد من أهل الحرب، ولا يذم عاما ولا
لأهل إقليم. وهل يذم لقرية أو حصن؟ قيل: نعم، كما أجاز على (عليه السلام) ذمام الواحد لحصن
من الحصون. وقيل: لا، وهو الأشبه. وفعل على (عليه السلام) قضية في واقعة فلا يتعدى.
والإمام يذم لأهل الحرب عموما وخصوصا. وكذا من نصبه الإمام للنظر في جهة
يذم لأهلها. ويجب الوفاء بالذمام ما لم يكن متضمنا لما يخالف الشرع. " (2)

1 - المبسوط 2 / 14.
2 - الشرائع 1 / 314.
727

8 - وفي كتاب الجهاد من بداية المجتهد لابن رشد:
" واتفقوا على جواز تأمين الإمام. وجمهور العلماء على جواز أمان الرجل الحر
المسلم إلا ما كان ابن الماجشون يرى أنه موقوف على إذن الإمام.
واختلفوا في أمان العبد وأمان المرأة فالجمهور على جوازه، وكان ابن الماجشون
وسحنون يقولان: أمان المرأة موقوف على إذن الإمام. وقال أبو حنيفة: لا يجوز أمان
العبد إلا أن يقاتل. " (1)
2 - الهدنة وترك القتال:
1 - قال الله - تعالى -: " إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقضوكم شيئا و
لم يظاهروا عليكم أحدا، فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم، إن الله يحب المتقين. " (2)
2 - وقال: " إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام، فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم،
إن الله يحب المتقين. " (3)
فجعل الله - تعالى - الوفاء بالمعاهدة من آثار التقوى ولوازمه.
3 - وقال: " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها، وتوكل على الله، إنه هو السميع العليم. " (4)
4 - وفي نهج البلاغة: " ولا تدفعن صلحا دعاك إليه عدوك] و [لله فيه رضا، فإن في
الصلح دعة لجنودك وراحة من همومك وأمنا لبلادك، ولكن الحذر كل الحذر من عدوك
بعد صلحه، فإن العدو ربما قارب ليتغفل، فخذ بالحزم واتهم في ذلك حسن الظن. " (5)

1 - بداية المجتهد 1 / 370 (= طبعة أخرى 1 / 326).
2 - سورة التوبة (9)، الآية 4.
3 - سورة التوبة (9)، الآية 7.
4 - سورة الأنفال (8)، الآية 61.
5 - نهج البلاغة، فيض / 1027; عبده 3 / 117; لح / 442، الكتاب 53.
728

5 - وقال الشيخ في المبسوط:
" الهدنة والمعاهدة واحدة، وهو وضع القتال وترك الحرب إلى مدة من غير عوض. و
ذلك جائز، لقوله - تعالى -: " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها "، ولأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صالح
قريشا عام الحديبية على ترك القتال عشر سنين...
وليس يخلو الإمام من أن يكون مستظهرا أو غير مستظهر، فإن كان مستظهرا وكان
في الهدنة مصلحة للمسلمين ونظر لهم بأن يرجو منهم الدخول في الإسلام أو بذل الجزية
فعل ذلك، وإن لم يكن فيه نظر للمسلمين بل كانت المصلحة في تركه بأن يكون العدو
قليلا ضعيفا وإذا ترك قتالهم اشتدت شوكتهم وقروا فلا تجوز الهدنة، لأن فيها ضررا على
المسلمين.
فإذا هادنهم في الموضع الذي يجوز فيجوز أن يهادنهم أربعة أشهر بنص القرآن
العزيز، وهو قوله - تعالى -: " فسيحوا في الأرض أربعة أشهر. " ولا يجوز إلى سنة و
زيادة عليها...
فأما إذا لم يكن الإمام مستظهرا على المشركين، بل كانوا مستظهرين عليه، لقوتهم و
ضعف المسلمين أو كان العدو بالبعد منهم وفي قصدهم التزام مؤن كثيرة فيجوز أن
يهادنهم إلى عشر سنين، لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هادن قريشا عام الحديبية إلى عشر سنين، ثم
نقضوها من قبل نفوسهم. " (1)
أقول: والظاهر أن قوله: " من غير عوض " يريد به عدم اشتراط كون الهدنة بعضو،
لا أن شرط العوض غير جائز.
6 - ولذا قال العلامة في التذكرة:
" المهادنة والموادعة والمعاهدة ألفاظ مترادفة، معناها وضع القتال وترك الحرب
مدة بعوض وغير عوض. وهي جائزة بالنص والإجماع. " (2)

1 - المبسوط 2 / 50 - 51.
2 - التذكرة 1 / 447.
729

7 - وفي المغني لابن قدامة الحنبلي:
" ومعنى الهدنة أن يعقد لأهل الحرب عقدا على ترك القتال مدة بعوض وبغير عوض،
وتسمى مهادنة وموادعة ومعاهدة. وذلك جائز بدليل قول الله - تعالى -: " براءة من الله
ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين. " وقال سبحانه -: " وإن جنحوا للسلم فاجنح
لها. " وروى مروان ومسور بن مخرمة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صالح سهيل بن عمرو بالحديبية
على وضع القتال عشر سنين. ولأنه قد يكون بالمسلمين ضعف، فيهادنهم حتى يقوى
المسلمون... " (1)
8 - وفي التذكرة:
" ويشترط في صحة عقد الذمة أمور أربعة:
الأول: أن يتولاه الإمام أو من يأذن له، لأنه من الأمور العظام...
الثاني: أن يكون للمسلمين إليه حاجة ومصلحة إما لضعفهم عن المقاومة فينتظر
الإمام قوتهم، وإما لرجاء إسلام المشركين، وإما لبذل الجزية منهم والتزام أحكام
الإسلام. ولو لم تكن هناك مصلحة للمسلمين، بأن يكون في المسلمين قوة وفي
المشركين ضعف ويخشى قوتهم واجتماعهم إن لم يبادرهم بالقتال، لم تجز له مهادنتهم...
والثالث: أن يخلو العقد من شرط فاسد - وهو حق كل عقد - فإن عقدها الإمام على
شرط فاسد مثل أن يشترط رد النساء أو مهورهن أو رد السلاح المأخوذ منهم أو دفع
المال إليهم مع عدم الضرورة الداعية إلى ذلك... فهذه الشروط كلها فاسدة يفسد بها عقد
الهدنة...
الرابع: المدة، ويجب ذكر المدة التي يهادنهم عليها. " (2)
أقول: فهذا بحث بسيط إجمالي عن مسألتي الأمان والهدنة، وقد عرفت أن محل
بحثهما التفصيلي كتاب الجهاد من الفقه، فراجع.

1 - المغني 10 / 517.
2 - التذكرة 1 / 447.
730

الجهة التاسعة:
في وجوب الوفاء بالعهد وحرمة الغدر ولو مع الكفار:
إذا عاهدت الحكومة الإسلامية أو أمتها دولة أو فردا من الكفار، أو مؤسسة تجارية
أو خدماتية لهم، واستحكم العقد بينهما وجب الوفاء به ولا يجوز نقضه بوجه إلا مع
تخلف الطرف ونقضه. ويدل على ذلك العقل والشرع:
1 - قال الله - تعالى - في سورة المائدة: " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود. " (1)
افتتح الله - تعالى - هذه السورة بإيجاب الوفاء بكل عهد. والتعبير فيه يشعر بكونه من
لوازم الإيمان.
وشدد في هذه السورة أمر الميثاق من المسلمين واليهود والنصارى:
2 - فقال: " واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا و
أطعنا. " (2)
3 - وقال: " ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا. " (3)
4 - وقال: " فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية. " (4)
5 - وقال: " ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به. " (5)
فسورة المائدة كأنها سورة العقد والميثاق.
وعد الله - تعالى - من صفات المؤمنين وخواصهم رعاية العهد:

1 - سورة المائدة (5)، الآية 1.
2 - سورة المائدة (5)، الآية 7.
3 - سورة المائدة (5)، الآية 12.
4 - سورة المائدة (5)، الآية 13.
5 - سورة المائدة (5)، الآية 14.
731

6 - فقال: " والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون. " (1)
7 - وقال: " وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم
الله عليكم كفيلا، إن الله يعلم ما تفعلون. " (2)
8 - وقال: " وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا. " (3)
وإطلاق الآيات يشمل معاهدات المسلمين مع الكفار أيضا، مضافا إلى التصريح بها
في بعض الآيات الشريفة:
9 - فقال: " إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم
أحدا، فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم، إن الله يحب المتقين. " (4)
10 - وقال: " كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله، إلا الذين عاهدتم عند
المسجد الحرام، فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم، إن الله يحب المتقين. " (5)
فجعل الوفاء بالعهد في الآيتين من لوازم التقوى.
11 - وعن حبة العرني، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): " من ائتمن رجلا على دمه ثم
خاس به فأنا من القاتل بريء، وإن كان المقتول في النار. " (6)
12 - وعن عبد الله بن سليمان، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: " ما من رجل أمن
رجلا على ذمة (على دمه خ. ل) ثم قتله إلا جاء يوم القيامة يحمل لواء الغدر. " (7)

1 - سورة المؤمنين (23)، الآية 8.
2 - سورة النحل (16)، الآية 91.
3 - سورة الإسراء (17)، الآية 34.
4 - سورة التوبة (9)، الآية 4.
5 - سورة التوبة (9)، الآية 7.
6 - الوسائل 11 / 51، الباب 20 من أبواب جهاد العدو، الحديث 6.
7 - الوسائل 11 / 50، الباب 20 من أبواب جهاد العدو، الحديث 3.
732

13 - وعن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلت له: ما معنى قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" يسعى بذمتهم أدناهم "؟ قال: " لو أن جيشا من المسلمين حاصروا قوما من المشركين
فأشرف رجل فقال: أعطوني الأمان حتى ألقى صاحبكم وأناظره، فأعطاه أدناهم
الأمان، وجب على أفضلهم الوفاء به. " (1)
14 - وفي الخصال بسنده، عن ابن مسعود، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: " أربع من كن فيه فهو
منافق، وإن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: من إذا حدث
كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر. " (2)
15 - وفي نهج البلاغة: " إن الوفاء توأم الصدق، ولا أعلم جنة أوقى منه. ولا يغدر من
علم كيف المرجع. ولقد أصبحنا في زمان قد اتخذ أكثر أهله الغدر كيسا، ونسبهم أهل
الجهل فيه إلى حسن الحيلة، ما لهم؟ قاتلهم الله! قد يرى الحول القلب وجه الحيلة، و
دونه مانع من أمر الله ونهيه، فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها وينتهز فرصتها من
لا حريجة (3) له في الدين. " (4)
16 - وفي سنن أبي داود بسنده، عن عمرو بن عبسة، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
يقول: " من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ
إليهم على سواء. " (5)
17 - وفيه أيضا بسنده، عن أبي بكرة: قال: قال: رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من قتل معاهدا في
غير كنهه (6) حرم الله عليه الجنة. " (7)

1 - الوسائل 11 / 49، الباب 20 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
2 - الخصال 1 / 254، باب الأربعة، الحديث 129.
3 - الحريجة: التحرز من الآثام.
4 - نهج البلاغة، فيض / 126; عبده 1 / 88; لح / 83، الخطبة 41.
5 - سنن أبي داود 2 / 76، كتاب الجهاد، باب في الإمام يكون بينه وبين العدو عهد فيسير إليه.
6 - يعني في غير وقته وغاية عهده.
7 - سنن أبي داود 2 / 76، كتاب الجهاد، باب في الوفاء للمعاهد وحرمة ذمته.
733

18 - وفيه أيضا بسنده، عن ابن عمر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " إن الغادر ينصب له لواء
يوم القيامة، فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان. " (1)
وقد أكد أمير المؤمنين (عليه السلام) على حفظ العهود والذمم ولو كانت مع العدو، وبالغ في
الحث عليه:
19 - فقال في كتابه إلى مالك: " وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة، أو ألبسته منك
ذمة فحط عهدك بالوفاء، وارع ذمتك بالأمانة، واجعل نفسك جنة دون ما أعطيت، فإنه
ليس من فرائض الله شيء الناس أشد عليه اجتماعا مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم من
تعظيم الوفاء بالعهود.
وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا من عواقب الغدر،
فلا تغدرن بذمتك ولا تخيسن بعهدك ولا تختلن عدوك، فإنه لا يجترئ على الله إلا
جاهل شقى.
وقد جعل الله عهده وذمته أمنا أفضاه بين العباد برحمته، وحريما يسكنون إلى
منعته، ويستفيضون إلى جواره، فلا إدغال ولا مدالسة ولا خداع فيه، ولا تعقد عقدا تجوز
فيه العلل، ولا تعولن على لحن قول بعد التأكيد والتوثقة، ولا يدعونك ضيق أمر لزمك فيه
عهد الله إلى طلب انفساخه بغير الحق، فإن صبرك على ضيق أمر ترجو انفراجه وفضل
عاقبته خير من غدر تخاف تبعته، وان تحيط بك من الله فيه طلبة فلا تستقيل فيها دنياك
ولا آخرتك. " (2)
20 - وفي المستدرك، عن دعائم الإسلام، عن على (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال له فيما
عهد إليه: " وإياك والغدر بعهد الله والإخفار لذمته، فإن الله جعل عهده وذمته أمانا
أمضاه بين العباد برحمته. والصبر على ضيق ترجو انفراجه خير من غدر تخاف أوزاره و
تبعاته وسوء عاقبته. " (3)

1 - سنن أبي داود 2 / 75، كتاب الجهاد، باب في الوفاء بالعهد.
2 - نهج البلاغة، فيض / 1027; عبده 3 / 117; لح / 442 - 443، الكتاب 53.
3 - مستدرك الوسائل 2 / 250، الباب 19 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
734

فهذه: سياسة الإسلام المبنية على أساس الصدق والوفاء بالعهود والذمم ولو كانت مع
الأعداء وأعقب الوفاء بها ضيقا وشدة، فلا مدالسة ولا خداع ولو مع الأعداء.
نعم، سياسة أبناء الدنيا وأهل الهوى مبنية على أساس الغدر والخدع، كما تراه. ومن
يتهم أمير المؤمنين (عليه السلام) بعدم السياسة فلا محالة يريد بها هذه السياسة المبنية على الكذب و
الغدر، وقد قال - عليه السلام -: " والله ما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويفجر، ولولا
كراهية الغدر كنت من أدهى الناس. " (1) هذا.
والوفاء بالعهد على ما ذكره أمير المؤمنين (عليه السلام) من الفضائل التي اجتمع عليه الناس مع
تفرقهم في الآراء والأهواء، ولزمه المشركون أيضا فيما بينهم مع كونهم دون المسلمين
في العقائد والأخلاق. فهو أمر فطري تستحسنه عقول جميع الناس، ويجب على كل
مسلم أن يلتزم به ولو فرض كونه بضرره وكان الطرف كافرا. ولولا ذلك لم يعتمد أحد
على أحد، واختل النظام فأعقب ذلك الضرر لجميع البشر.
21 - وقد اهتم بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في سيرته; فكان يلتزم بمعاهداته ما لم يخن
صاحبه:
فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحديبية بعد ما تم عقد الصلح بينه وبين سهيل بن عمرو من قبل
المشركين وكان في عهده معهم أنه " من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم "،
فبينا هو (صلى الله عليه وآله وسلم) يكتب الكتاب هو وسهيل إذ جاء أبو جندل، وكان ممن أسلم من قبل، فقام
سهيل وضرب وجهه وقال يا محمد، قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا. قال:
صدقت. فجعل سهيل يجره ليرده إلى قريش، وجعل أبو جندل، يصرخ بأعلى صوته يا
معشر المسلمين، أرد إلى المشركين يفتنوني في ديني؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " يا
أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله جاع لك ولمن معك من المستضعفين فرجا و
مخرجا. إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله وإنا

1 - نهج البلاغة، فيض / 648; عبده 2 / 206; لح / 318، الخطبة 200.
735

لا نغدر بهم. " (1)
ولما رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة أتاه أبو بصير عتبة بن أسيد، وكان ممن حبس
بمكة، فلما قدم على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كتب فيه الأزهر والأخنس إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و
بعثا رجلا من بني عامر ومعه مولى لهم فقدما على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بكتاب الأزهر و
الأخنس، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " يا أبا بصير، إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، و
لا يصلح لنا في ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا و
مخرجا فانطلق إلى قومك. " قال: يا رسول الله، أتردني إلى المشركين يفتنونني في ديني؟
قال: " يا أبا بصير، انطلق فإن الله - تعالى - سيجعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا
ومخرجا. " (2)
وقول سهيل: " لجت القضية "، أي تمت المعاهدة بيني وبينك.
فتدبر في اهتمام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعنايته بعهده، بحيث لا يرضى بالتخلف عنه ولو في
طريق مصلحة بعض من آمن به والتجأ إليه.
22 - وفي وقعة صفين بعد ما أصر أكثر جند أمير المؤمنين (عليه السلام) على التحكيم واختيار
أبي موسى الأشعري لذلك، واضطر أمير المؤمنين إلى قبوله، لما رجعوا عن ذلك وقالوا
له (عليه السلام): " قد كانت منا زلة حين رضينا بالحكمين، فرجعنا وتبنا، فارجع أنت يا على كما
رجعنا... "، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): " ويحكم، أبعد الرضا والميثاق والعهد نرجع؟ أوليس
الله - تعالى - قال: " أوفوا بالعهد "، وقال: " وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا
الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا. " فأبى على (عليه السلام) أن يرجع (3). هذا.
وقد تحصل لك من جميع ما ذكرناه في هذا الفصل في السياسة الخارجية للإسلام

1 - راجع سيرة ابن هشام 3 / 332 - 333.
2 - راجع سيرة ابن هشام 3 / 337.
3 - وقعة صفين / 514. والآيتان من سورتي الإسراء (17)، الرقم 34; والنحل (16)، الرقم 91.
736

ومعاملة المسلمين للكفار أن الإسلام دين وسياسة معا، وهو دين عام عالمي أبدى و
دين حق وعدالة، فيجب دعوة جميع الناس إليه والدفاع عنه وعمن أسلم في شرق
الأرض وغربها. وأن جميع المسلمين أمة واحدة لا يحكم عليهم إلا الإسلام. وأن الكفر
بشعبه أيضا ملة واحد، وهو يعاند بجميع شعبه الإسلام، فيجب أن يستعد المسلمون و
يتجهزوا ويعدوا القوى في قبال الكفار وأن يتركوا موالاتهم واتخاذهم بطانة.
كل ذلك لأداء حق الله وحق الإنسانية والدفاع عن التوحيد وعن العدالة.
ولكن مع ذلك كله لو لم يقاتلوا المسلمين ولم يظاهروا عليهم جاز معاملتهم بالبر و
القسط والتعاهد معهم إذا اقتضته مصلحة الإسلام والمسلمين. وهم ما داموا يوفون
بعهدهم ومواثيقهم وجب على الحكومة الإسلامية والأمة المسلمة رعاية عهودهم و
مواثيقهم، فهي من لوازم الإيمان والتقوى على ما ظهر من نص الكتاب العزيز.
نعم، إذا هم غدروا بالمسلمين ونقضوا العهد ارتفعت حرمتهم قهرا بما عملته أيديهم.
كما أنه لو ظهرت أمارات الغدر والخيانة فالصبر ربما يكون مخالفا للحزم والاحتياط و
موجبا لسلطتهم على المسلمين على حين غفلة منهم.
فعلى حاكم المسلمين حينئذ إعلامهم بقطع العلاقات احتياطا للإسلام والأمة، و
لا يجوز له قتالهم قبل الإبلاغ والإعلام:
قال الله - تعالى -: " الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون
* فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون * وإما تخافن من قوم
خيانة فانبذ إليهم على سواء، إن الله لا يحب الخائنين. " (1)

1 - سورة الأنفال (8)، الآية 56 - 58.
737

الجهة العاشرة:
في الحصانة السياسية للسفراء والرسل:
للسفراء والرسل حصانة سياسية واحترام خاص عند حاكم الإسلام، بحيث يجترئ
أحدهم أن يبلغ رسالته ويبرز عقائده المخالفة بجد وصراحة من دون أن يعرضه خوف
أو يلحقه ضرر:
1 - فعن قرب الإسناد، عن السندي بن محمد، عن أبي البختري، عن جعفر بن محمد،
عن أبيه، عن آبائه (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا يقتل الرسل ولا الرهن. " (1)
2 - وفي سيرة ابن هشام أن مسيلمة كتب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من مسيلمة رسول الله
إلى محمد رسول الله: سلام عليك. أما بعد فإني قد أشركت في الأمر معك، وإن لنا نصف
الأرض ولقريش نصف الأرض ولكن قريشا قوم يعتدون. "
فقدم إليه رسولان بهذا الكتاب، فقال لهما: ما تقولان أنتما؟ قالا: نقول كما قال.
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما. " ثم كتب إلى مسيلمة:
" بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب: السلام على من اتبع
الهدى، أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. " وذلك في
آخر سنة عشر. (2)
3 - وفي سنن أبي داود بسنده، عن نعيم بن مسعود، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول
لهما حين قرآن كتاب مسيلمة: " ما تقولان أنتما؟ " قالا: نقول كما

1 - الوسائل 11 / 90، الباب 44 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
2 - سيرة ابن هشام 4 / 247.
738

قال. قال: " أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما. " (1)
4 - وفيه أيضا بسنده، عن عبد الله، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " لولا أنك
رسول لضربت عنقك. " (2)
5 - وفي سنن البيهقي بسنده، عن عبد الله، قال: " مضت السنة أن لا تقتل الرسل. " (3)
6 - وفي سنن أبي داود أيضا بسنده، عن أبي رافع، قال: بعثتني قريش إلى
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ألقى في قلبي الإسلام، فقلت: يا رسول الله،
إني والله لا أرجع إليهم أبدا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إني لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد،
ولكن ارجع فإن كان في نفسك الذي في نفسك الآن فارجع. " قال: فذهبت ثم أتيت
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأسلمت. (4)
أقول: والبرد جمع البريد: وهو الرسول. ولعل كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ناظر إلى أمر
ارتكازي تحكم به الفطرة، فإن الحفاظ على الأنظمة الاجتماعية يتوقف على حفظ
الروابط الاجتماعية من حصانة الرسل والكتب والوفاء بالمعاهدات ونحو ذلك، ولذلك
ترى استقرار سيرة العقلاء على الاهتمام بأمر السفراء والرسل وحصانتهم.
7 - وفي أنساب الأشراف للبلاذري في ذكر الصحيفة التي كتبها معاوية إلى على (عليه السلام)
قال: " فلما رآها على قال: ويلك، ما وراءك؟ قال: أخاف أن تقتلني، قال: ولم أقتلك و
أنت رسول؟! " (5)

1 - سنن أبي داود 2 / 76، كتاب الجهاد، باب في الرسل.
2 - سنن أبي داود 2 / 76، كتاب الجهاد، باب في الرسل.
3 - سنن البيهقي 9 / 212، كتاب الجزية، باب السنة ان لا يقتل الرسل.
4 - سنن أبي داود 2 / 75، كتاب الجهاد، باب في الإمام يستجن به في العهود.
5 - أنساب الأشراف 2 / 211.
739

الجهة الحادية عشرة:
في حكم جاسوس العدو:
من المسائل المهمة التي تبتلى بها الأنظمة والدول استخبارات العدو الأجنبي بأياديه
وجواسيسه الداخلية والخارجية النافذة في المجتمعات والدوائر والجنود ومراكز
التصميم والقرار.
والخسارة المترتبة عليها كثيرة ولا سيما في المعارك والحروب، فيجب على الحاكم
المدبر العاقل مراقبة أعمال الأفراد وحركاتهم والتهيؤ الدائم في قبالها. إذ رب غفلة عن
ذلك توجب هزيمة فظيعة وخسارة فادحة لا يجبرها شيء، ولعل قوله - تعالى - بعد
الأمر بإعداد القوة في قبال الكفار: " وآخرين من دونهم لا تعلمونهم، الله يعلمهم " ناظر
إلى هذا الطابور الخامس والشبكة الداخلية التي يستخدمها العدو للتجسس والاطلاع
على إمكانات المسلمين وروحياتهم.
ويظهر من الآثار والروايات الإسلامية أن الجزاء المناسب لهذا الذنب العظيم هو
القتل والإعدام إلا أن يعفى عنه لجهات مبررة له، فإن عظم الجناية وجزاءها متناسبان
للشرور والخسارات المترتبة عليها. فلنذكر بعض الروايات:
1 - بعدما نقض المشركون معاهدة الحديبية ورأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنادهم للإسلام و
منعهم عن بسط الحق والعدالة، صمم (صلى الله عليه وآله وسلم) على فتح مكة ورفع شرهم وكسر شوكتهم
بمفاجأتهم والوقوع عليهم بلا تهيؤ منهم، فأعلم الناس أنه سائر إلى مكة، وأمرهم بالجد و
التهيؤ، وقال: " اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها. " فتجهز
الناس، فلما أجمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المسير إلى مكة كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابا إلى
قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم أعطاه امرأة وجعل لها جعلا على
أن تبلغه قريشا، فجعلته في رأسها ثم فتلت عليه قرونها
740

وخرجت به، وأتى رسول الله الخبر من السماء، فبعث علي بن أبي طالب والزبير بن
العوام فقال: أدركا المرأة، فخرجا حتى أدركاها فاستنزلاها فالتمسا في رحلها فلم يجدا
شيئا، فقال لها على بن أبي طالب: إني أحلف بالله ما كذب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولاكذبنا، و
لتخرجن الكتاب أو لنكشفنك، فلما رأت الجد منه قالت: أعرض، فأعرض فحلت قرون
رأسها فاستخرجت الكتاب فدفعته إليه، فأتى به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
حاطبا فقال: يا حاطب، ما حملك على هذا؟ فقال: يا رسول الله، أما والله إني لمؤمن
بالله ورسوله، ما غيرت ولا بدلت، ولكني كنت أمرا ليس لي في القوم من أصل و
لا عشيرة وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم عليهم. فقال عمر بن الخطاب: يا
رسول الله، دعني فلأضرب عنقه فإن الرجل قد نافق، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): وما يدريك
يا عمر، لعل الله قد اطلع إلى أصحاب بدر يوم بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم،
فأنزل الله - تعالى - في حاطب: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء
تلقون إليهم بالمودة. " انتهى ما في سيرة ابن هشام ملخصا. (1)
وروى نحوه أبو داود في الجهاد من سننه وفيه: " فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا
المنافق، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر
فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. " (2)
وروى قصة حاطب أيضا علي بن إبراهيم في تفسيره في تفسير سورة الممتحنة (3)، و
الطبرسي في مجمع البيان (4)، والبخاري في كتاب الجهاد (5). ويوجد في النقول
اختلافات جزئية، فراجع.
ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يردع عمر عما اعتقده من جواز قتل المنافق المتجسس، بل
لعله (صلى الله عليه وآله وسلم) قرره على ذلك ولكنه جعل سابقة حاطب في الإسلام وفي بدر مبررا

1 - سيرة ابن هشام 4 / 39 - 41.
2 - سنن أبي داود 2 / 44 - 45، كتاب الجهاد، باب في حكم الجاسوس إذا كان مسلما.
3 - تفسير علي بن إبراهيم 2 / 361.
4 - مجمع البيان 5 / 269 - 270 (الجزء 9).
5 - صحيح البخاري 2 / 170، كتاب الجهاد والسير، باب الجاسوس.
741

للعفو عنه، فلا ينافي ذلك كون جزاء العمل بطبعه هو القتل كما يظهر من الروايات
الآتية.
فما في الجهاد المبسوط (1) من عدم حل قتل الجاسوس المسلم تمسكا بعدم
استحلال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لقتل حاطب قابل للمناقشة.
2 - وفي المغازي للواقدي في غزوة المريسيع (بني المصطلق) ما ملخصه:
" فلما نزل رسول الله ببقعاء أصاب عينا للمشركين، فقالوا له: ما وراءك؟ أين الناس؟
قال: لاعلم لي بهم. قال عمر: لتصدقن أو لأضربن عنقك. قال: فأنا رجل من بلمصطلق
تركت الحارث بن أبي ضرار قد جمع لكم الجموع وتجلب إليه ناس كثير وبعثني إليكم
لآتيه بخبركم وهل تحركتم من المدينة، فأتى عمر بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبره الخبر،
فدعاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الإسلام فأبى، فقال عمر: يا رسول الله، اضرب عنقه. فقدمه
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فضرب عنقه. " (2)
3 - وفي مستدرك الوسائل عن دعائم الإسلام: " والجاسوس والعين إذا ظفر بهما
قتلا. كذلك روينا عن أهل البيت. " (3)
4 - وفي سنن أبي داود بسنده، عن سلمة بن الأكوع، قال: أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عين من
المشركين وهو في سفر، فجلس عند أصحابه ثم انسل، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " اطلبوه
فاقتلوه. " قال: فسبقتهم إليه فقتلته وأخذت سلبه فنفلني إياه. (4)
5 - وفيه أيضا عن سلمة، قال: غزوت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هوازن، قال: فبينما نحن
نتضحى وعامتنا مشاة وفينا ضعفة إذ جاء رجل على جمل أحمر، فانتزع طلقا من حقو
البعير فقيد به جمله ثم جاء يتغدى مع القوم، فلما رأى ضعفتهم ورقة ظهرهم

1 - المبسوط 2 / 15.
2 - المغازي 1 / 406.
3 - مستدرك الوسائل 3 / 249، الباب 1 من أبواب الدفاع، الحديث 1.
4 - سنن أبي داود 2 / 45، كتاب الجهاد، باب في الجاسوس المستأمن.
742

خرج يعدو إلى جمله فأطلقه ثم أناخه فقعد عليه، ثم خرج يركضه، واتبعه رجل من
أسلم على ناقة ورقاء هي أمثل ظهر القوم، قال: فخرجت أعدو فأدركته ورأس الناقة
عند ورك الجمل وكنت عند ورك الناقة، ثم تقدمت حتى كنت عند ورك الجمل ثم تقدمت
حتى أخذت بخطام الجمل فأنخته، فلما وضع ركبته بالأرض اخترطت سيفي فأضرب
رأسه فندر، فجئت براحلته وما عليها أقودها فاستقبلني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الناس مقبلا
فقال: " من قتل الرجل؟ " فقالوا: سلمة بن الأكوع. قال: " له سلبه أجمع. " (1) ورواه مسلم
أيضا في صحيحه. (2)
أقول: الطلق محركة: العقال من جلد. وحقو البعير: كشحه. والظهر: المركوب. وقوله:
فندر، أي انفصل عن جسده ومات.
6 - وفيه أيضا بسنده، عن فرات بن حيان أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر بقتله وكان عينا
لأبي سفيان وكان حليفا لرجل من الأنصار، فمر بحلقة من الأنصار فقال: إني مسلم، فقال
رجل من الأنصار: يا رسول الله إنه يقول: إني مسلم، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن منكم
رجالا نكلهم إلى إيمانهم، منهم فرات بن حيان. " (3)
7 - وفي إرشاد المفيد: " فلما بلغ معاوية بن أبي سفيان وفاة أمير المؤمنين (عليه السلام) وبيعة
الناس ابنه الحسن (عليه السلام) دس رجلا من حمير إلى الكوفة ورجلا من بني القين إلى البصرة
ليكتبا إليه بالأخبار ويفسدا على الحسن (عليه السلام) الأمور، فعرف ذلك الحسن (عليه السلام) فأمر
باستخراج الحميري من عند لحام (حجام خ. ل) بالكوفة، فأخرج وأمر بضرب عنقه، و
كتب إلى البصرة باستخراج القيني من بني سليم، فأخرج وضربت عنقه. وكتب
الحسن (عليه السلام) إلى معاوية: أما بعد فإنك دسست الرجال

1 - سنن أبي داود 2 / 45، كتاب الجهاد، باب في الجاسوس المستأمن.
2 - صحيح مسلم 3 / 1374، كتاب الجهاد والسير، الباب 13 (باب استحقاق القاتل سلب القتيل)،
الحديث 1754.
3 - سنن أبي داود 2 / 45، كتاب الجهاد، باب في الجاسوس الذمي.
743

للاحتيال والاغتيال وأرصدت العيون، كأنك تحب اللقاء، وما أوشك ذلك... " (1)
وبالجملة، فالظاهر أن استحقاق الجواسيس للقتل كان أمرا واضحا في عصر
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) وإن كان قد يعفى عنهم لجهات مبررة.
هذا مضافا إلى صدق عنوان المنافق والمفسد والمحارب والباغي على الجاسوس
غالبا، فتدبر.
وفي خراج أبي يوسف:
" وسألت يا أمير المؤمنين عن الجواسيس يوجدون وهم من أهل الذمة أو أهل
الحرب أو من المسلمين، فإن كانوا من أهل الحرب أو من أهل الذمة ممن يؤدي الجزية
من اليهود والنصارى والمجوس فاضرب أعناقهم، وإن كانوا من أهل الإسلام معروفين
فأوجعهم عقوبة وأطل حبسهم حتى يحدثوا توبة.
قال أبو يوسف: وينبغي للإمام أن تكون له مسالح على المواضع التي تنفذ إلى بلاد
أهل الشرك من الطرق، فيفتشون من مر بهم من التجار; فمن كان معه سلاح أخذ منه ورد،
ومن كان معه رقيق رد، ومن كانت معه كتب قرئت كتبه; فما كان من خبر من أخبار
المسلمين قد كتب به أخذ الذي أصيب معه الكتاب وبعث به إلى الإمام ليرى فيه
رأيه. " (2)
والحاصل أن حفظ النظام الذي هو من أهم الفرائض يتوقف على سياسة الحزم مع
المنافقين وجواسيس الأعداء، كما يتوقف على بعث العيون والمراقبين ليستخبروا
مكائد العدو وقراراته.
والفرق بين جاسوس العدو وجاسوس المسلمين أن الأول يقوي جانب الكفر و
الفساد، والثاني يقوي نظام الحق والعدل، فيجب دفع شر الأول وتقوية الثاني، فتدبر.

1 - الإرشاد للمفيد / 170 (= طبعة أخرى / 188).
2 - الخراج / 189.
744

الجهة الثانية عشرة:
في ذكر بعض معاهدات النبي " ص " مع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم:
من المناسب في هذا الفصل ذكر بعض معاهدات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع الكفار تتميما للفائدة و
التفصيل موكول إلى الكتب المفصلة:
1 - عهد كتبه " ص " بين أهل المدينة:
بعد ما ورد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يثرب - المدينة - عقد وثيقة سياسية تحدد العلاقات الإنسانية و
الحقوق المتقابلة بين أهل المدينة من المسلمين واليهود وغيرهم، وتعتبر قانونا أساسيا
للدولة الإسلامية التي أسسها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة:
ففي سيرة ابن هشام: " قال ابن إسحاق: وكتب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كتابا بين المهاجرين و
الأنصار، وادع فيه يهود وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم، واشترط
عليهم:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب من محمد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن
تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش
على ربعتهم يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين. و
بنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، كل طائفة تفدي عانيها بالمعروف و
القسط بين المؤمنين. وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم
تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو الحارث على ربعتهم يتعاقلون
معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو جشم
745

على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف و
القسط بين المؤمنين. وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم
تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم
يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة
منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وإن المؤمنين لا يتركون مفرحا بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل.
قال ابن هشام: المفرح: المثقل بالدين والكثير العيال. قال الشاعر:
إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة * وتحمل أخرى أفرحتك الودائع.
وأن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه. وإن المؤمنين المتقين (أيديهم - الأموال)
على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين، وإن
أيديهم عليه جميعا، ولو كان ولد أحدهم.
ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر. ولا ينصر كافرا على مؤمن. وإن ذمة الله واحدة،
يجير عليهم أدناهم.
وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس. وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر و
الأسوة، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم. وإن سلم المؤمنين واحد، لا يسالم مؤمن
دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم. وإن كل غازية غزت معنا
يعقب بعضها بعضا.
وإن المؤمنين يبئ بعضهم على (عن خ. ل) بعض بما نال دماءهم في سبيل الله.
وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدي وأقومه. وإنه لا يجير مشرك مالا لقريش و
لا نفسا، ولا يحول دونه على مؤمن. وإنه من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود به إلا أن
يرضى ولي المقتول، وإن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه. وإنه لا يحل
لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا ولا يؤويه، و
إنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف و
لا عدل.
وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مرده إلى الله - عز وجل -، وإلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. وإن يهود بني عوف أمة مع
المؤمنين، لليهود
746

دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه و
أهل بيته. وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف. وإن ليهود بني الحارث مثل ما
ليهود بني عوف. وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف وإن ليهود بني جشم مثل ما
ليهود بني عوف. وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف. وإن ليهود بني ثعلبة مثل
ما ليهود بني عوف، إلا من ظلم وأثم فإنه لايوتغ إلا نفسه وأهل بيته. وإن جفنة بطن من
ثعلبة كأنفسهم. وإن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف. وإن البر دون الإثم. وإن موالي
ثعلبة كأنفسهم. وإن بطانة يهود كأنفسهم. وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)
. و
إنه لا ينحجز على ثأر جرح. وإنه من فتك فبنفسه فتك، وأهل بيته إلا من ظلم. وإن الله
على أبر هذا.
وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم. وإن بينهم النصر على من حارب
أهل هذه الصحيفة. وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم. وإنه لم يأثم امرؤ
بحليفه، وإن النصر للمظلوم. وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. وإن
يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة. وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم. وإنه
لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها. وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار
يخاف فساده فإن مرده إلى الله - عز وجل، وإلى محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). وإن الله على
أتقى هذه الصحيفة وأبره. وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها. وإن بينهم النصر على من
دهم يثرب، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وإنهم
إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين، على كل أناس
حصتهم من جانبهم الذي قبلهم. وإن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل
هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة.
قال ابن هشام: ويقال: مع البر المحسن من أهل هذه الصحيفة.
قال ابن إسحاق: وإن البر دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه. وإن الله على
أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره. وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم، وإنه من
خرج آمن ومن قعد آمن إلا من ظلم أو أثم، وإن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). " (1)

1 - سيرة ابن هشام 2 / 147 - 150.
747

أقول: ورواه مع اختلاف أبو عبيد في الأموال (1) ورواه أيضا في مجموعة الوثائق
السياسية. (2)
وإنما ذكرناه بطوله لكونه أقدم عهد سياسي باق وأطوله في الإسلام والحجر
الأساسي للحكومة الإسلامية، ويكون دليلا واضحا على بعد نظر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و
عظمته السياسية، فقد ربط بهذا العهد جميع أهل المدينة من الأوس والخزرج واليهود،
مع ما كان بينهم من التنازع والتناحر، وجعل منهم حصنا منيعا في قبال الكفر والشرك، و
أسس لهم دولة عادلة تحت لوائه وحكمه.
والربعة وروى " رباعة " بالكسر والفتح: الحال والعادة التي كانوا عليها في الدماء و
الديات. والعاني: الأسير. والمعاقل جمع المعقلة: الديات. والمفرح بفتح الراء: المثقل
لدين أو دية أو فداء، فيجب على المسلمين أن يعينوه. والدسيعة: العطية العظيمة. و
الظاهر أن معنى الجملة أنه يجب على المؤمنين أن يتعاونوا على دفع كل من طلب منهم
عطية على وجه الظلم والإثم. والأسوة: العون، والتسلية، والمساواة. وفي النهاية:
" يعقب بعضها بعضا، أي يكون الغزو بينهم نوبا. " (3) ويبئ بمعنى يقر أو يرجع، ولعل
الثاني أنسب، فيرجع معناه إلى معنى ما سبقه. وقوله: " لا يجير مشرك مالا لقريش و
لا نفسا "، أي لا يجوز لمشرك من أهل يثرب أن يحمي مالا لقريش ولا نفسا. واعتبطه،
أي قتله بلا جناية منه توجب قتله. والصرف: التوبة. والعدل: الفداء. " وإن اليهود ينفقون
مع المؤمنين "، أي يؤدون حصتهم من نفقة الحرب. لايوتغ، أي لا يهلك. لا ينحجز على
ثار جرح، أي لا يمنع من طلب الجرح بقصاص أو دية. و " إن الله على أبر هذا "، أي على
الرضا به ويكون مع من يكون أطوع لهذا العهد. دهم يثرب: هاجمها.

1 - الأموال / 260 - 264، الرقم 518.
2 - الوثائق السياسية / 59 - 62، الرقم 1.
3 - النهاية لابن الأثير 3 / 267.
748

والعهد كما ترى يشتمل على أصول مهمة أهمها:
1 - جعل المسلمين على اختلاف شعوبهم وقبائلهم أمة واحدة في قبال سائر الناس.
2 - إقرار المهاجرين وقبائل الأنصار كلا منهم على عاداتهم وسنتهم في أحكام
الديات والدماء. وقد نسخ ذلك فيما بعد بما ورد في الحدود والقصاص والديات في
الإسلام.
3 - يجب على كل طائفة أن تفدي أسيرها بالمعروف والقسط.
4 - على المؤمنين إعانة المثقل منهم بفداء أودية.
5 - على المؤمنين أن يقيموا بأجمعهم على القائم بينهم بالظلم والإثم والعدوان و
الفساد ولو كان ولدا لأحدهم.
6 - لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ينصر كافر على مؤمن.
7 - يجوز لأدنى المسلمين أن يجير عليهم أي شخص أراد.
8 - لا يسمح لمشرك أن يجير مالا أو دما لمشرك من قريش.
9 - القاتل للمؤمن يقاد منه إلا أن يرضى ولى المقتول بالدية.
10 - لا يسمح لأحد أن ينصر محدثا أو يؤويه.
11 - لقبائل اليهود ومواليهم وبطانتهم حقوقهم العامة من الأمن والحرية في الدين و
سائر الشؤون بشرط أن يسايروا المسلمين، وإن عليهم مثل ما على المؤمنين من نفقة
الحرب في قبال المهاجمين.
12 - على جميع أهل هذا العهد القيام في قبال من هاجم المدينة، وإن دعا أحد
الطرفين إلى الصلح فله ذلك إلا من حارب في الدين.
13 - الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.
14 - النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مرجع لهم في المشاكل والخصومات الواقعة بين المسلمين أو بين
اليهود أو بين المسلمين وبين اليهود.
749

2 - هدنة الحديبية:
في أواخر السنة السادسة من الهجرة خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمن معه معتمرا لا يريد
حربا، وأحرم بالعمرة وسار حتى نزل الحديبية، وفيها وقعت بيعة الرضوان. وصممت
قريش على منعهم من دخول مكة. وتبادل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بينه وبينهم سفراء، ثم بعثت قريش
سهيل بن عمرو إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا له إيت محمدا فصالحه، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع
عنا عامه هذا، فوالله لا تحدث العرب عنا إنه دخلها علينا عنوة أبدا. فتراجع سهيل و
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم جرى بينهما الصلح، فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا (عليه السلام) وأمره بكتابته، و
هذه صورته:
" باسمك اللهم
هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو.
واصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم
عن بعض،
] على أنه من قدم مكة من أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حاجا أو معتمرا أو يبتغي من فضل الله
فهو آمن على دمه وماله، ومن قدم المدينة من قريش مجتازا إلى مصر أو إلى الشام
يبتغي من فضل الله فهو آمن على دمه وماله. [
على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشا ممن مع
محمد لم يردوه عليه.
وأن بيننا عيبة مكفوفة، وأنه لا إسلال ولا إغلال.
وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخله، ومن أحب أن يدخل في عقد
قريش وعهدهم دخل فيه.
وأنت ترجع عنا عامك هذا، فلا تدخل علينا مكة. وأنا إذا كان عام قابل خرجنا عنك
فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثا، معك سلاح الراكب، السيوف في القرب، ولا تدخلها
بغيرها.
750

] وعلى أن هذا الهدى حيث ما جئناه ومحله فلا تقدمه علينا. [...
أشهد على الصلح رجال من المسلمين ورجال من المشركين... (1)
أقول: الإسلال: الغارة الظاهرة أو سل السيوف، والإغلال: الخيانة.
3 - عهد أمان منه " ص " ليهود بني عاديا من تيماء:
" بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب من محمد رسول الله لبني عاديا: إن لهم الذمة وعليهم الجزية، ولا عداء و
لا جلاء، الليل مد والنهار شد، وكتب خالد بن سعيد. " (2)
أقول: العداء: الظلم والتجاوز. والجلاء: الإخراج عن الوطن. " الليل مد والنهار شد "،
يعني إنه حلف أبد لطول أمد يزيده طلوع الشمس شدا وظلام الليل مدا.
4 - معاهدته " ص " مع أهل أيلة:
" بسم الله الرحمن الرحيم
هذه أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة. سفنهم وسيارتهم
في البر والبحر، لهم ذمة الله وذمة محمد النبي، ومن كان معهم من أهل الشام وأهل
اليمن وأهل البحر.

1 - الوثائق السياسية / 77 و 80، الرقم 11; وسيرة ابن هشام 3 / 331 - 332; والأموال / 206 -
209، الرقم 440 وما بعده، باختلاف في النقل وقد نقلناه من الوثائق.
2 - الوثائق السياسية / 98، الرقم 19.
751

فمن أحدث منهم حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيب لمن أخذه من الناس.
وإنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه، ولا طريقا يريدونه من بر أو بحر. "
هذا كتاب جهيم بن الصلت وشرحبيل بن حسنة بإذن رسول الله. (1)
5 - دعوته " ص " أساقفة نجران:
" من محمد رسول الله إلى أساقفة نجران:
بسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب،
أما بعد، فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية الله من
ولاية العباد. فإن أبيتم فالجزية. وإن أبيتم آذنتكم بحرب. والسلام. " (2)
6 - كتابه " ص " لأبي الحارث بن علقمة أسقف نجران:
" بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد النبي، إلى الأسقف أبي الحارث، وأساقفة نجران وكهنتهم، ومن تبعهم، و
رهبانهم:
إن لهم ما تحت أيديهم من قليل وكثير، من بيعهم وصلواتهم ورهبانيتهم، وجوار الله
ورسوله. لا يغير أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهانته. و
لا يغير حق من حقوقهم ولا سلطانهم، ولا شئ مما كانوا عليه.] على ذلك جوار الله و
رسوله أبدا [ما نصحوا واصطلحوا فيما عليهم غير مثقلين بظلم ولا ظالمين. " (3)

1 - الوثائق السياسية / 117، الرقم 31; والأموال / 258، الرقم 514، بتفاوت بينهما.
2 - الوثائق السياسية / 174، الرقم 93.
3 - الوثائق السياسية / 179، الرقم 95.
752

7 - معاهدته " ص " مع نصارى نجران:
" بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما كتب محمد النبي رسول الله لأهل نجران... ولنجران وحاشيتها جوار الله و
ذمة محمد النبي رسول الله على أموالهم، وأنفسهم، وملتهم، وغائبهم، وشاهدهم، و
عشيرتهم، وبيعهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير. لا يغير أسقف من اسقفيته، و
لا راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهانته. وليس عليهم دنية (ربية خ. ل)، ولا دم
جاهلية، ولا يحشرون، ولا يعشرون، ولا يطأ أرضهم جيش. ومن سأل منهم حقا فبينهم
النصف غير ظالمين ولا مظلومين.
ومن أكل ربا من ذي قبل فذمتي منه بريئة. ولا يؤخذ رجل منهم بظلم آخر.
وعلى ما في هذا الكتاب جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله حتى يأتي الله بأمره،
ما نصحوا وأصلحوا ما عليهم، غير مثقلين بظلم. " (1)
أقول: قوله: " لا يحشرون "، أي لا يندبون إلى المغازي ولا تضرب عليهم البعوث.
و " لا يعشرون ": لا يؤخذ منهم العشر.
وروى في الوثائق من تاريخ النسطوريين نسختين طويلتين لمكتوب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى
نجران تشتملان على مسائل مهمة جدا، ولكن من المحتمل كونهما موضوعتين،
فراجع. (2)

1 - الوثائق السياسية / 175 - 176، الرقم 94، وراجع أيضا فتوح البلدان / 76 والأموال لأبي عبيد
/ 244، الرقم 503.
2 - الوثائق السياسية / 181 - 190، الرقم 96 و 97.
753

الفصل الرابع عشر
في إشارة إجمالية إلى اهتمام الإسلام بالقوى العسكرية:
قد مر منا في الفصل السادس من السير الإجمالي في روايات الفقه الإسلامي من
الباب الثالث بحث في الجهاد والدفاع وتعرض لبعض الآيات والروايات الواردة فيهما،
فراجع.
ونقول هنا إجمالا إن ما ذكروه من الجهاد الابتدائي للدعوة إلى الإسلام يرجع بوجه
إلى الدفاع أيضا، كما مر بيانه.
ودفاع الإنسان عن نفسه وعما يتعلق به أمر يحكم بحسنه وضرورته العقل والفطرة.
بل الحيوانات أيضا مفطورة على ذلك ومجهزة في خلقتها بأجهزة الدفاع. وكما أودع
الله - تعالى - في بناء روح الإنسان وغيره من الحيوانات شهوة الغذاء لحفظ البدن،
فكذلك أودع فيه قوة الغضب أيضا لينبعث قهرا إلى الدفاع عن نفسه وعما يتعلق به. وكما
خلق في الدم الكريات الحمر لنقل المواد النافعة إلى جميع أجزاء البدن، فكذلك خلق فيه
الكريات البيض أيضا لتدافع عن ملك البدن في قبال الجراثيم المفسدة المهاجمة.
فالدفاع في نظام الطبيعة أمر طبيعي ضروري لا محالة. وكما يحتاج الفرد إلى
755

الدفاع عن منافعه ومصالحه، فكذلك الأمة والمجتمع.
فقوام الدولة والأمة بقدرتهما العسكرية، وبقدر ما تجهزت الأمة بالعدة والعدة، و
القوى العسكرية الراقية تقدر على البقاء في مجالات الحياة والحفاظ على كيانها و
استقلالها وأمنها.
ولكن الجنود والأجهزة العسكرية يجب أن تنظم وتراقب جدا تحت قيادة صالحة
عادلة، لتجعل في خدمة الشعب والدين الحق لا في خدمة الشخص ومصالحه ومصالح
أقاربه كما في بعض البلاد، ولا وسيلة للتجاوز على حقوق الناس وأموالهم والتسلط
على البلاد والعباد بالظلم والفساد كما هو المشاهد في أكثر البلاد ولا سيما في الدول
الإمبريالية الغربية والشرقية.
وكيف كان، فلنذكر بعض الآيات والروايات الدالة على اهتمام الإسلام بالقوى
العسكرية وإعدادها وتقويتها:
1 - قال الله - تعالى -: " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل، ترهبون به
عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم، الله يعلمهم. وما تنفقوا من شيء في
سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون. " (1)
فالآية الشريفة تتضمن نكات ينبغي الإشارة إليها:
أ - ضرورة القوة العسكرية، حيث إن المجتمع الإنساني يتألف من أفراد وأقوام
مختلفين في الطباع والأفكار والأهواء، ويوجد بينهم التضاد في المنافع والسنن، فلولا
التهيؤ والتجهز وإعداد القوة لتجرأ الطرف على الهجوم والغلبة.
ب - والواجب هو إعداد القوة بمفهومها الوسيع، وهي كل ما يتقوى به على حفظ
النظام والدفاع عنه من أنواع السلاح وإحداث الجامعات والمعاهد الحربية ومصانع
الطيارات والهليوكوبترات النظامية وتربية الرجال المدربين والأخصائيين في الفنون
العسكرية ونحو ذلك، ويختلف ذلك باختلاف الأحوال والأزمان والبلاد

1 - سورة الأنفال (8)، الآية 60.
756

والشرائط. والخيل كان أقوى المراكب وأسرعها في تلك الأعصار. وكان من أهم
القوى حينئذ مرابطة الفرسان في ثغور البلاد، وفي كل عصر يكون حفظ الثغور في أعلى
مراتب الأهمية، كما لا يخفى.
ج - المخاطب في الآية هو الأمة لا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو إمام المسلمين فقط، فتشعر الآية بأن
المسؤول في هذه الوظيفة ليس هو النبي أو الحاكم بانفراده، بل على كل فرد من آحاد
المسلمين أن يقوم بذلك على حد استطاعته فيتدرب في بعض ما يتعلق بالحرب وينفق
في سبيله، وإن كان التصدي لبعض شؤونها المهمة وتنظيم برامجها من وظائف الحكومة
بما أنها ممثلة جميع الأمة، ولها أن تفرض التجنيد الإجباري وتعلم فنون الحرب إذ رأته
صلاحا للإسلام والمسلمين.
د - إن إعداد القوة ليس لإشعال نار الحرب، وليس التكليف منحصرا في مورد وجد
العدو وتحقق الهجوم فعلا، بل الغرض من إعداد القوى ورقابة الثغور إرهاب العدو
الموجود أو المفروض المحتمل وإخافته جدا، ليحصل الأمن في البلاد وتطمئن النفوس
في عقر دارهم. ويطلق على هذا السلم المسلح.
ه‍ - إن العدو لا ينحصر فيمن يعلم عداوته، بل لعل بعض من يظنه الإنسان سلما مواليا
للمسلمين ويتظاهر بالإسلام يكون بحسب الواقع من ألد الأعداء كالطابور الخامس و
المنافقين، ولعل التهيؤ في قبالهم يحتاج إلى مؤونة أكثر، كما لا يخفى.
و - إن إعداد القوة يتوقف على نفقات كثيرة لا يتمكن منها إلا بالتعاون الاجتماعي و
تطوع الجميع في سبيل الله، فرغب في ذلك بقوله: " وما تنفقوا من شيء في سبيل الله
يوف إليكم. " وإطلاقها يشمل إنفاق الأموال والنفوس وغيرهما، فتدبر.
2 - وفي مجمع البيان في تفسير الآية قال: " روى عقبة بن عامر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أن
القوة الرمي. " (1)

1 - مجمع البيان 2 / 555 (الجزء 4).
757

3 - وفي الوسائل، عن الكافي بسنده، عن عبد الله بن المغيرة، رفعه، قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في قول الله - عز وجل -: " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط
الخيل "، قال: الرمي. (1)
4 - وفيه أيضا، عن الكافي بسنده، عن طلحة بن زيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:
" الرمي سهم من سهام الإسلام. " (2)
5 - وفي تفسير نور الثقلين، عن تفسير العياشي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله: " و
أعدوا لهم ما استطعتم من قوة "، قال: سيف وترس. (3)
6 - وفيه أيضا، عن تفسير علي بن إبراهيم: قوله: " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة "،
قال: السلاح. (4)
7 - وفي الدر المنثور في تفسير الآية، عن أحمد ومسلم وأبي داود وابن ماجة و
غيرهم، عن عقبة بن عامر الجهني، قال: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول وهو على المنبر: " و
أعدوا لهم ما استطعتم من قوة، ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي. " قالها ثلاثا. (5)
8 - وفيه أيضا، عن ابن المنذر، عن مكحول، قال: ما بين الهدفين روضة من رياض
الجنة، فتعلموا الرمي، فإني سمعت الله - تعالى - يقول: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة.
قال: فالرمي من القوة. (6)
9 - وفيه أيضا، عن أبي الشيخ وابن مردويه، عن ابن عباس في قوله: وأعدوا لهم

1 - الوسائل 13 / 348، الباب 2 من كتاب السبق والرماية، الحديث 3.
2 - الوسائل 13 / 348، الباب 2 من كتاب السبق والرماية، الحديث 2.
3 - نور الثقلين 2 / 164، الحديث 139.
4 - نور الثقلين 2 / 165، الحديث 140.
5 - الدر المنثور 2 / 192.
6 - الدر المنثور 3 / 192.
758

ما استطعتم من قوة، قال: الرمي والسيوف والسلاح. (1)
10 - وفي الوسائل، عن الكافي بسنده، عن عبد الله بن المغيرة - رفعه - قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث: " كل لهو المؤمن باطل إلا في ثلاث: في تأديبه الفرس، و
رميه عن قوسه، وملاعبته امرأته، فإنهن حق. " (2)
أقول: الظاهر أن المراد بالباطل هنا هو الهدر لا الأمر المحرم، إذ لا دليل على حرمة
اللهو بلا رهان في البين وقد ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال: " الهوا والعبوا، فإني أكره أن
يرى في دينكم غلظة. " (3)
11 - وفيه أيضا، عن الصدوق في الفقيه، قال: قال الصادق (عليه السلام): " إن الملائكة لتنفر عند
الرهان وتلعن صاحبه ما خلا الحافر والخف والريش والنصل، وقد سابق
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أسامة بن زيد وأجرى الخيل. " (4)
12 - وفيه أيضا، عن الشيخ بسنده، عن العلا بن سيابة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث
أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أجرى الخيل وسابق، وكان يقول: " إن الملائكة تحضر الرهان في
الخف والحافر والريش، وما سوى ذلك فهو قمار حرام. " (5)
إلى غير ذلك مما ورد في الرهان والمسابقة في كتب الفريقين.
13 - وفيه أيضا، عن الكليني بسنده، عن على بن إسماعيل - رفعه - قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " اركبوا وارموا، وأن ترموا أحب إلى من أن تركبوا. " ثم قال: " كل لهو
المؤمن باطل إلا في ثلاث: في تأديبه الفرس، ورميه عن قوسه، وملاعبته امرأته، فإنهن
حق، ألا إن

1 - الدر المنثور 3 / 192.
2 - الوسائل 13 / 347، الباب 1 من كتاب السبق والرماية، الحديث 5.
3 - نهج الفصاحة / 105، الحديث 531.
4 - الوسائل 13 / 347، الباب 1 من كتاب السبق والرماية، الحديث 6.
5 - الوسائل 13 / 349، الباب 3 من كتاب السبق والرماية، الحديث 3.
759

الله - عز وجل - ليدخل بالسهم الواحد الثلاثة الجنة: عامل الخشبة، والمقوي به في
سبيل الله، والرامي به في سبيل الله. " وروى عن الشيخ أيضا نحوه. (1)
14 - وفي الدر المنثور، عن أبي داود والترمذي وابن ماجة والحاكم والبيهقي، عن
عقبة بن عامر الجهني، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " إن الله ليدخل بالسهم الواحد
ثلاثة نفر الجنة: صانعه الذي يحتسب في صنعته الخير، والذي يجهز به في سبيل الله، و
الذي يرمي به في سبيل الله. " وقال: " ارموا واركبوا، وأن ترموا خير من أن تركبوا. " و
قال: " كل شيء يلهو به ابن آدم فهو باطل إلا ثلاثة: رميه عن قوسه، وتأديبه فرسه، و
ملاعبته أهله، فإنهن من الحق، ومن علم الرمي ثم تركه فهي نعمة كفرها. " (2)
أقول: من تسويغ الإسلام للرهان والسبق في الخيل والخف والرمي بل ترغيبه فيه
مع تحريمه الرهان في غير ذلك يعلم مقدار اهتمام الإسلام بتدرب المسلمين في فنون
الحرب وتهيؤهم للدفاع والجهاد في سبيل الله.
والمذكور في الروايات وفتاوى الأصحاب في باب السبق وإن كان خصوص الخيل
والخف والرمي، ولكن من المحتمل إلغاء الخصوصية وتنقيح المناط، فيتعدى إلى جميع
الوسائل العسكرية الحديثة من الطائرات والهليكوبترات النظامية والأساطيل البحرية و
المدرعات والمدافع والقنابل والصواريخ ونحو ذلك، لوضوح مناط الحكم وملاكه و
ليس حكما تعبديا محضا لمصالح غيبية لا يعلمها إلا الله - تعالى -. ومحل التحقيق في
المسألة كتاب السبق والرماية من الفقه.
15 - وفي الدر المنثور أيضا، عن البيهقي، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" علموا أبناءكم السباحة والرمي، والمرأة المغزل. " (3)

1 - الوسائل 11 / 107، الباب 58 من أبواب جهاد العدو، الحديث 3.
2 - الدر المنثور 3 / 192.
3 - الدر المنثور 3 / 194.
760

16 - وفيه أيضا بسنده، عن أبي رافع، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " حق الولد على
الوالد أن يعلمه الكتابة والسباحة والرمي. " (1)
17 - وفي كنز العمال، عن أبي رافع: " حق الولد على والده أن يعلمه الكتابة والسباحة
والرماية، وأن لا يرزقه إلا طيبا. " (2)
ورواه في نهج الفصاحة وزاد في آخره: " وأن يزوجه إذا بلغ. " (3)
أقول: حيث إن الدفاع عن الإسلام وكيان المسلمين وبلادهم وثقافتهم من أهم
الفرائض الإسلامية ووجب على المسلمين أن يقوموا به في أي حال إلى أن يتصدى له
من فيه الكفاية فلأجل ذلك كان التدرب في الفروسية والرمي أمرا ضروريا ينبغي أن
يهتم به كل مسلم، ولذلك وقع الترغيب والتحريص على تعلم الرمي والتدرب فيه بنحو
عام، وواضح أن ذلك يختلف بحسب اختلاف آلات الحرب في الأعصار والبلاد.
والإسلام بإيجابه الجهاد على المسلمين جعل المسلمين بأجمعهم جندا واحدا
للإسلام.
ومن أحسن الجيوش وأنجحها الجيوش المتطوعة المقبلون إلى الجهاد والدفاع
محتسبين به إلى الله - تعالى - بالإيمان والإخلاص، حيث إن سلاح الإيمان من أقوى
الأسلحة وأقطعها. وهكذا كان الأمر في صدر الإسلام، ولأجل ذلك كان عشرون
صابرون منهم يغلبون مأتين مع قلة الوسائل والأجهزة.
ولا ينافي هذا استخدام الحكومة أيضا لجنود منظمة ثابتة مجهزة بأحدث الأسلحة و
الأجهزة ويفرض لهم العطاء المستمر احتياطا لحفظ البلاد والثغور.
وقد صرح بهذين الصنفين من الجنود الماوردي في الأحكام السلطانية، فقال:

1 - الدر المنثور 3 / 194.
2 - كنز العمال 16 / 443، الباب 7 من كتاب النكاح من قسم الأفعال، الحديث 45340.
3 - نهج الفصاحة / 293، الحديث 1394.
761

" وهم صنفان: مسترزقة، ومتطوعة. فأما المسترزقة فهم أصحاب الديوان من أهل
الفيء والجهاد، يفرض لهم العطاء من بيت المال من الفيء بحسب الغناء والحاجة. وأما
المتطوعة فهم الخارجون عن الديوان من البوادي والأعراب وسكان القرى والأمصار،
الذين خرجوا في النفير الذي ندب الله - تعالى - إليه بقوله: " انفروا خفافا وثقالا، و
جاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله. "
وفي قوله - تعالى -: " خفافا وثقالا " أربعة تأويلات: أحدها: شبانا وشيوخا; قاله
الحسن وعكرمة. والثاني أغنياء وفقراء; قاله أبو صالح. والثالث: ركبانا ومشاة; قاله
أبو عمرو. والرابع: ذا عيال وغير ذي عيال; قاله الفراء.
وهؤلاء يعطون من الصدقات دون الفيء من سهم رسول الله، المذكور في آية
الصدقات، ولا يجوز أن يعطوا من الفيء لأن حقهم في الصدقات. ولا يعطى أهل الفيء
المسترزقة من الديوان من مال الصدقات لأن حقهم في الفيء. ولكل واحد من الفريقين
مال لا يجوز ان يشارك غيره فيه. وجوز أبو حنيفة صرف كل واحد من المالين إلى كل
واحد من الفريقين بحسب الحاجة... " (1)
أقول: مراده من " سهم رسول الله " هو سهم سبيل الله، إذ كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصرفه
في الجهاد. ويحتمل التصحيف والغلط، والمذكور في أبي يعلى سهم سبيل الله،
فراجع. (2)
ثم إن الظاهر جواز إعطاء كل من الصنفين من كل من المالين، بل لعل الزكاة قسم من
أقسام الفيء العائد إلى بيت المال ولذا كان الواجب في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إيصالها إليه.
وقال الشيخ في المبسوط:
" الغزاة على ضربين: المتطوعة، وهم الذين إذا نشطوا غزوا وإذا لم ينشطوا اشتغلوا

1 - الأحكام السلطانية / 36.
2 - الأحكام السلطانية / 39.
762

بمعايشهم. فهؤلاء لهم سهم من الصدقات، فإذا غنموا في دار الحرب شاركوا الغانمين
وأسهم لهم.
والضرب الثاني هم الذين أرصدوا أنفسهم للجهاد. فهؤلاء لهم من الغنيمة الأربعة
أخماس. ويجوز عندنا أن يعطوا أيضا من الصدقة من سهم ابن السبيل لأن الاسم
يتناولهم، وتخصيصه يحتاج إلى دليل. " (1) هذا.
ولم يتغلب الكفار على بلاد المسلمين وجميع شؤونهم، وما ضعف المسلمون وما
استكانوا إلا بعد ما أغفلوا بسبب تسويلات الكفار وعملائهم وعلماء السوء المرتزقة و
العلماء السذج، عن مسائل الجهاد والدفاع، وعن التسلح بسلاح اليوم والتدرب فيه، و
هم كل يوم يقرؤون آيات الجهاد والقتال والأمر بإعداد القوة ورباط الخيل، وروايات
الفريقين الواردة في هذا المجال. فكأنهم سحروا وسخروا في الفكر والعقل والإرادة،
فلا يلتفت القارئ إلى مغزى هذه الآيات ومفادها ومفاد الأخبار الواردة بمضمونها.
18 - وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما في خبر السكوني، عن أبى عبد الله: " من ترك
الجهاد ألبسه الله ذلا وفقرا في معيشته، ومحقا في دينه. إن الله أغنى (أعز خ. ل) أمتي
بسنابك خيلها ومراكز رماحها. " (2)
فانظر كيف ذل المسلمون في قبال الكفار الأجانب، ونهبت أموالهم وذخائرهم و
استولى الفقر المالي والصحي والثقافي على بلادهم بما هادنوا الكفار المهاجمين وتركوا
الدفاع والكفاح المسلح.
19 - وفي نهج البلاغة: " أما بعد، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله خاصة
أوليائه، وهو لباس التقوى ودرع الله الحصينة وجنته الوثيقة. فمن تركه رغبة عنه ألبسه
الله ثوب الذل وشملة البلاء، وديث بالصغار والقماءة، وضرب على قلبه بالأسداد، و
أديل الحق منه بتضييع

1 - المبسوط 2 / 74.
2 - الوسائل 11 / 5، الباب 1 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
763

الجهاد، وسيم الخسف ومنع النصف... " (1)
أقول: فالجهاد جنة تقى مجتمع المسلمين من نفوذ الكفر ومظاهره من الفساد و
الفحشاء إليه، وتركه يوجب سلطة الكفار وذلة المسلمين وحقارتهم.
وقوله: " ديث " مبني للمفعول من ديثه، أي ذلله، والقماءة: الذلة. والأسداد: الحجب
التي تحول دون بصيرة الإنسان ورشاده. ومن لوازم الذلة والعبودية للغير انهدام
شخصية الإنسان وعدم إحساسه بنفسيته واستقلاله. وقوله: " أديل الحق "، لعل الهمزة
للسلب، أي سلب منه دولة الحق. وقوله: " سيم الخسف "، أي كلف الذل والمشقة. و
النصف: الإنصاف والعدل. هذا.
وقد مر كثير من آيات الجهاد ورواياته في فصل عقدناه لذلك في الباب الثالث،
فراجع. (2)
20 - ويظهر اهتمام الإسلام بأمر الجنود من وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) بهم وبرفاههم و
الرفق بهم وما ينبغي أن يراعى في انتخاب الأمراء والولاة عليهم في كتابه (عليه السلام) لمالك
الأشتر حين ولاه مصر فقال:
" فالجنود - بإذن الله - حصون الرعية، وزين الولاة، وعز الدين، وسبل الأمن، و
ليس تقوم الرعية إلا بهم.
ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به على جهاد عدوهم،
ويعتمدون عليه فيما يصلحهم، ويكون من وراء حاجتهم...
فول من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك، وأنقاهم جيبا، وأفضلهم
حلما ممن يبطئ عن الغضب ويستريح إلى العذر، ويرأف بالضعفاء وينبو على
الأقوياء، وممن لا يثيره العنف ولا يقعد به الضعف.
ثم الصق بذوي] المروءات [الأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة،
ثم أهل

1 - نهج البلاغة، فيض / 94; عبده 1 / 63; لح / 69، الخطبة 27.
2 - راجع 1 / 112 وما بعدها من الكتاب.
764

النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة فإنهم جماع من الكرم وشعب من العرف.
ثم تفقد من أمورهم ما يتفقد الوالدان من ولدهما، ولا يتفاقمن في نفسك شيء قويتهم
به، ولا تحقرن لطفا تعاهدتهم به وإن قل، فإنه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك وحسن
الظن بك، ولا تدع تفقد لطيف أمورهم اتكالا على جسيمها، فإن لليسير من لطفك موضعا
ينتفعون به، وللجسيم موقعا لا يسغنون عنه.
وليكن آثر رؤوس جندك عندك من واساهم في معونته وأفضل عليهم من جدته بما
يسعهم ويسع من وراءهم من خلوف أهليهم حتى يكون همهم هما واحدا في جهاد
العدو، فإن عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك، وإن أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل
في البلاد وظهور مودة الرعية، وإنه لا تظهر مودتهم إلا بسلامة صدورهم، ولا تصح
نصيحتهم إلا بحيطتهم على ولاة الأمور وقلة استثقال دولهم وترك استبطاء انقطاع
مدتهم.
فافسح في آمالهم وواصل في حسن الثناء عليهم وتعديد ما أبلى ذووا البلاء منهم،
فإن كثرة الذكر لحسن أفعالهم تهز الشجاع وتحرض الناكل إن شاء الله. ثم اعرف لكل
امرئ منهم ما أبلى، ولا تضيفن بلاء امرئ إلى غيره، ولا تقصرن به دون غاية بلائه، و
لا يدعونك شرف امرئ إلى أن تعظم من بلائه ما كان صغيرا، ولا ضعة امرئ إلى أن
تستصغر من بلائه ما كان عظيما. " (1)
أقول: وللماوردي في بيان حقوق الجيش على أميرهم عند تسييرهم إلى جبهات
القتال كلام نذكر ملخصه تتميما للفائدة. قال في الأحكام السلطانية:
" وعليه في السير بهم سبعة حقوق: أحدها: الرفق بهم في السير الذي يقدر عليه
أضعفهم وتحفظ به قوة أقواهم، ولا يجد السير فيهلك الضعيف ويستفرغ جلد القوى وقد
قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا
أبقى. وشر السير الحقحقة. " وروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " المضعف أمير الرفقة. " يريد
أن من ضعفت دابته كان على القوم أن يسيروا بسيره.
والثاني: أن يتفقد خيلهم التي يجاهدون عليها وظهورهم التي يمتطونها...
والثالث: أن يراعى من معه من المقاتلة، وهم صنفان: مسترزقة، و متطوعة...

1 - نهج البلاغة، فيض / 1003; عبده 3 / 432، الكتاب 53.
765

والرابع: أن يعرف على الفريقين العرفاء وينقب عليهما النقباء، ليعرف من عرفائهم و
نقبائهم أحوالهم...
والخامس: أن يجعل لكل طائفة شعارا يتداعون به، ليصيروا متميزين وبالاجتماع
متظافرين...
والسادس: أن يتصفح الجيش ومن فيه، ليخرج منهم من كان فيه تخذيل للمجاهدين
وإرجاف للمسلمين، أو عينا عليهم للمشركين...
والسابع: أن لا يمالئ من ناسبه أو وافق رأيه ومذهبه على من باينه في نسب أو
خالفه في رأي ومذهب، فيظهر من أحوال المباينة ما تفرق به الكلمة الجامعة تشاغلا
بالتقطاع والاختلاف... " (1)
أقول: المنبت: المنقطع المتفرق. والحقحقة: أرفع السير وأتعبه. وقيل: السير في أول
الليل. هذا.
وباب الدفاع والجهاد والتجنيد وإعداد القوة باب واسع يحتاج البحث فيه إلى تأليف
كتاب كبير، والغرض هنا هو الإشارة إلى أن من وظائف الإمام إجمالا هو إعداد العدة و
العدة بقدر الكفاية للتجهز في قبال العدو الموجود في الحال أو المفروض وجوده في
المآل، فتدبر.

1 - الأحكام السلطانية / 35 - 37.
766

تنبيه
اعلم أن أكثر التشكيلات السياسية والولائية إنما تعرضت الشريعة الإسلامية
لأصولها وأحكامها الكلية، وتركت تفاصيلها لولي الأمر في كل عصر يحددها حسب
تغير حاجات المسلمين والشرائط والإمكانات الزمانية والمكانية.
ومن هذا القبيح تشكيلات القوات المسلحة والصنائع الحربية، حيث وردت في
الكتاب والسنة أحكامها الكلية في مثل قوله - تعالى -: " وأعدوا لهم ما استعطتم من قوة
ومن رباط الخيل، ترهبون به عدو الله وعدوكم... "،
وقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر: " فالجنود - بإذن الله - حصون
الرعية، وزين الولاة، وعز الدين، وسبل الأمن، وليس تقوم الرعية إلا بهم " ونحو ذلك،
وتركت تفصيلات نظامها لحكم العقل وسيرة العقلاء في كل عصر ومكان.
وحيث إن الأمة الإسلامية في المجال العسكري تحتاج إلى قوتين مسلحتين -: قوة
تكون بإذن الله حصون الرعية في قبال الأجانب فتحفظ الحدود والثغور من الأعداء
الخارجيين، وقوة أخرى تكون سبل الأمن الداخلي فتحفظ البلاد والعباد من الأعداء
الداخليين والمخلين بأمن الناس في النفوس والأموال والحقوق - فلا محالة يحكم
العقل بضرورة إيجاد هاتين القوتين المسلحتين الأساسيتين بشعبهما المحتاج إليها من
الأرضية والجوية والبحرية، وتجهيزاتها المناسبة لأعمالها وأهدافها.
ومن المناسب أن تجعل القوة الأولى تحت إشراف وزارة الدفاع، والثانية تحت
إشراف الوزارة الداخلية أو القوة القضائية، ويطلق على الأول القوة النظامية وعلى
الثانية القوة الانتظامية أو ما شئت فعبر، ولا محالة يؤسس لتربية الأفراد لكل منهما معهد
علمي يخصها ويناسبها.
767

كما أنه يحكم العقل والشرع بلزوم إعداد جميع المسلمين القادرين على القتال و
الدفاع، وتدريبهم وتعبئتهم حتى يكونوا جنودا متطوعين مستعدين للدفاع عن الإسلام
والمسلمين متى عرضت شرائط خاصة غير متوقعة مست الحاجة إلى إعانتهم لإحدى
القوتين. هذا.
والإنتاج أنواع الأسلحة والوسائل العسكرية من القنابل والمدافع والصواريخ و
الأساطيل البحرية والمدرعات والطائرات والهليكوبترات النظامية وغيرها، أيضا يلزم
إيجاد المصانع العسكرية المناسبة تحت إشراف مديرية واحدة قوية عادلة حتى يعد فيها
جميع ما يحتاج إليها القوى المسلحة بأصنافها.
فهذا كله ما يحكم بضرورته العقل والشرع.
وبما ذكرنا يتضح أن التشكيلات المسلحة المتعددة المتكثرة الموجودة في عصرنا و
في بلدنا مثل تشكيلات الجيش، وحرس الثورة الإسلامية، واللجان الثورية الإسلامية،
وشرطة البلد، وشرطة الحدود، والشرطة القضائية والضباط ونحوها ينبغي أن تدغم
بالتدريج - بحسب الملاكين المتقدمين، أعنى حفظ الحدود، وحفظ الأمن الداخلي - في
القوتين الأساسيتين وترجع الجميع إليهما، إذ تعدد القوى المسلحة المتشابهة وتكثرها
بشعبها الثلاث من الأرضية والجوية والبحرية، وكذا تعدد مؤسسات الصنائع الحربية
المستقلة المتشابهة بحسب الإنتاج بلا ارتباط بينها يوجب أولا: تحميل نفقات كثيرة على
بيت مال المسلمين بلا موجب. وثانيا: اختلاط الوظائف والمسؤوليات، وتعقيد
تفكيكها، وتحير الناس في ارتباط الأعمال بالقوى الموظفة، وثالثا: وجود خطر تضاد
هذه التشكيلات المتشابهة في المستقبل، وتصارعها على النفوذ والسلطة، وهذا أمر مهم
ينبغي للولي المدبر أن يحسب له حسابه بحسب المآل مهما كانت التشكيلات في الوقت
الحاضر مخلصة ومنزهة، ومهما كان المجتمع في الإيمان والوعي في حد أعلى فعلا،
فتدبر.
768

الفصل الخامس عشر
في ذكر الآيات والروايات الدالة على ثبوت الحقوق المتقابلة بين الإمام والأمة، و
أنه يجب على الأمة التسليم له وإطاعته، وكذا إطاعة عماله المنصوبين من قبله، إجمالا:
1 - قال الله - تعالى -: " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر
منكم. " (1)
وقد مر تفسير الآية الشريفة ومعنى أولي الأمر، والوجه في تكرار قوله: " أطيعوا "
في الباب الثاني عند ذكر الآية السادسة من الآيات الدالة على ولاية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و
الأئمة (عليهم السلام)، وكذا في الفصل الثالث من الباب الخامس مقدمة لشرح مقبولة عمر بن
حنظلة، فراجع. (2)
ومحصل ما مر هو أن الأمر بإطاعة الله - تعالى - ناظر إلى إطاعته في أحكامه المبينة
في الكتاب والسنة، والأمر بها إرشادي، والأمر بإطاعة الرسول وأولي الأمر ناظر إلى
إطاعتهم في أوامرهم المولوية الصادرة عنهم بما أنهم ولاة الأمر وساسة العباد، والأمر
بها

1 - سورة النساء (4)، الآية 59.
2 - راجع 1 / 64 و 436 من الكتاب.
769

مولوي لا إرشادي، ولأجل ذلك كررت لفظة: " أطيعوا ".
والمقصود بالأمر في الآية هو الولاية والحكومة. سميت به، لقوامها بالأمر من طرف
والطاعة من طرف آخر، وبهذا الملاك أيضا تسمى حكما وحكومة. فالمراد بأولي الأمر
الحكام الذين لهم حق الأمر والنهي في سياسة البلاد وفصل الخصومات.
والإمامة العظمى وإن كانت حقا عندنا للأئمة المعصومين (عليه السلام) من عترة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع
حضورهم، ومعهم تبطل إمامة غيرهم، ولكن قد مر بالتفصيل أن الحكومة لا تتعطل في
عصر الغيبة، وأن تعطيلها يساوق تعطيل الإسلام.
وللحاكم الحق مطلقا حق الأمر والنهي في مجال حكمه ونطاق ولايته، وتجب
طاعته لا محالة.
إذ كيف يمكن الالتزام بولاية شخص شرعا بالنصب أو بالانتخاب ولو في شعبة أو
منطقة خاصة ولا يلتزم بوجوب إطاعته، مع أن الأمر لا يتم والغرض لا يحصل إلا
بالطاعة والتسليم؟!
وتعليق وجوب الإطاعة على كونه صاحب الأمر كأنه من قبيل تعليق الحكم على
الوصف، المشعر بالعلية. فالملاك في وجوب الإطاعة كونه صاحب أمر بحيث يحق له
الأمر والنهي، معصوما كان أو غير معصوم.
ولا مجال لحصر وجوب الطاعة في الإمام المعصوم، إذ كيف يمكن الالتزام بعدم
وجوب طاعة المنصوبين من قبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو أمير المؤمنين (عليه السلام) أمثال مالك الأشتر في
نطاق ولايته وحكومته.
فالحصر المذكور في بعض الأخبار الواردة في تفسير الآية كقول أبي جعفر (عليه السلام) في
خبر بريد: " إيانا عنى خاصة. أمر جميع المؤمنين إلى يوم القيامة بطاعتنا " (1) مثلا يجب
أن يحمل على الحصر الإضافي بالنسبة إلى حكام الجور المتصدين للحكومة في أعصار
الأئمة (عليهم السلام).

1 - الكافي 1 / 276، كتاب الحجة، باب أن الإمام (عليه السلام) يعرف الإمام الذي يكون بعده...، الحديث 1.
770

كما أن إطاعتهم (عليهم السلام) أيضا واجبة إلى يوم القيامة، ولكن لا ينافي هذا وجوب تأسيس
الدولة الحقة في عصر الغيبة ووجوب إطاعتها. وآيات الكتاب العزيز لا تتقيد بالموارد
الخاصة، والجري والتطبيق في بعض الروايات على بعض المصاديق لا يمنع من التمسك
بالإطلاق والعموم.
اللهم إلا أن يقال: إن إطاعة المنصوب من قبلهم أو المنتخب على أساس موازين
الإسلام والضوابط المبينة من قبلهم - عليهم السلام - كأنها ترجع إلى إطاعتهم أيضا، و
نحن لا نأبى ذلك بعد الالتزام بوجوب الإطاعة.
نعم، لا تجوز إطاعتهم في معصية الله كما هو المستفاد من الأخبار كما ستأتي، بل من
نفس الآية أيضا، إذ الظاهر منها وجوب إطاعة صاحب الأمر، أي من يكون له حق الأمر،
ولا يحق لأحد الأمر بمعصية الله. ولا يطلق صاحب الأمر إلا على من ثبت له حق الأمر،
كما لا يطلق صاحب الدار إلا على من ملكها شرعا دون من تسلط عليها غصبا وظلما.
فأمراء السوء خارجون من الآية تخصصا، فتدبر.
قال الزمخشري في الكشاف في تفسير الآية:
" والمراد بأولي الأمر منكم أمراء الحق، لأن أمراء الجور الله ورسوله بريئان منهم،
فلا يعطفون على الله ورسوله في وجوب الطاعة لهم، وإنما يجمع بين الله ورسوله و
الأمراء الموافقين لهما في إيثار العدل واختيار الحق والأمر بهما والنهي عن
أضدادهما...
وكيف تلزم طاعة أمراء الجور وقد جنح الله الأمر بطاعة أولي الأمر بما لا يبقى معه
شك، وهو أن أمرهم أولا بأداء الأمانات وبالعدل في الحكم، وأمرهم آخرا بالرجوع
إلى الكتاب والسنة فيما أشكل، وأمراء الجور لا يؤدون أمانة ولا يحكمون بعدل و
لا يردون شيئا إلى كتاب ولا إلى سنة، إنما يتبعون شهواتهم حيث ذهبت بهم، فهم
منسلخون عن صفات الذين هم أولوا الأمر عند الله ورسوله، وأحق أسمائهم: اللصوص
المتغلبة. " (1)

1 - الكشاف 1 / 535 (= طبعة أخرى 1 / 524).
771

2 - وقال تعالى -: " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا
في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما. " (1)
بناء على عدم اختصاص الحكم به (صلى الله عليه وآله وسلم) واستفادة كون الملاك فيه هو ولايته (صلى الله عليه وآله وسلم) و
كونه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فيعم الحكم كل ولى كانت ولايته ثابتة بالشرع.
3 - وفي أصول الكافي بسند موثوق به، عن ابن أبي يعفور، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خطب الناس في مسجد الخيف فقال: " نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها
وحفظها، وبلغها من لم يسمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو
أفقه منه. ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة لأئمة
المسلمين، واللزوم لجماعتهم، فإن دعوتهم محيطة من ورائهم. المسلمون إخوة تتكافئ
دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم. " (2)
وروى نحوه أيضا بسنده، عن سفيان الثوري، عن جعفر بن محمد (عليه السلام)،
عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) (2115).
أقول: قوله: " لا يغل " من غل يغل بالضم، أي خان. أو من يغل بالكسر، أي كان ذا
حقد وغش. وقوله: " فإن دعوتهم "، قال المجلسي في مرآة العقول:
" والدعوة المرة من الدعاء، وإضافتها إلى الضمير إضافة إلى المفعول، أي دعاء
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم محيطة بهم فإذا دخل فيهم ولزم جماعتهم شمله ذلك الدعاء، أو إلى
الفاعل، أي دعاء المسلمين بعضهم لبعض يشمله. " (3) هذا.
والحديث مما رواه الفريقان عنه، بل مضمونه مستفيض في كتب الفريقين.

1 - سورة النساء (4)، الآية 65.
2114 و 2115 - الكافي 1 / 403، كتاب الحجة، باب ما أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنصيحة لأئمة المسلمين
و...، الحديث 1 و 2.
3 - مرآة العقول 4 / 325 (ط. القديم 1 / 302).
772

4 - ومن ذلك ما رواه أحمد في مسنده بسنده عن أنس بن مالك، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)،
قال: " نضر الله عبدا سمع مقالتي هذه فحملها، فرب حامل الفقه فيه غير فقيه، ورب
حامل الفقه إلى من هو أفقه منه. ثلاث لا يغل عليهن صدر مسلم: إخلاص العمل لله -
عز وجل -، ومناصحة أولي الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من
ورائهم. " (1)
وفيه أيضا بسنده، عن جبير بن مطعم، عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) نحوه وفيه: " إخلاص العمل، و
النصيحة لولي الأمر، ولزوم الجماعة، فإن دعوتهم تكون من ورائه. " (2)
5 - ومن الروايات الجامعة في بيان ثبوت الحقوق المتقابلة بين الإمام والأمة ما
خطبه أمير المؤمنين (عليه السلام) بصفين فقال: " أما بعد، فقد جعل الله لي عليكم حقا بولاية أمركم،
ولكم على من الحق مثل الذي لي عليكم. فالحق أوسع الأشياء في التواصف وأضيقها
في التناصف، لا يجري لأحد إلا جرى عليه، ولا يجري عليه إلا جرى له...
وأعظم ما افترض الله - سبحانه - من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية، وحق
الرعية على الوالي، فريضة فرضها الله - سبحانه - لكل على كل، فجعلها نظاما لألفتهم و
عزا لدينهم. فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة، ولا يصلح الولاة إلا باستقامة الرعية.
فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه، وأدى الوالي إليها حقها عز الحق بينهم، وقامت
مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل، وجرت على أذلالها السنن، فصلح بذلك الزمان، و
طمع في بقاء الدولة، ويئست مطامع الأعداء.
وإذا غلبت الرعية واليها، أو أجحف الوالي برعيته اختلف هنالك الكلمة وظهرت
معالم الجور وكثر الإدغال في الدين، وتركت محاج السنن فعمل بالهوى وعطلت
الأحكام وكثرت علل النفوس... " (3)
أقول: أذلال جمع ذل بالكسر، وذل الطريق محجته. والإدغال في الدين: إدخال ما
يخالفه ويفسده.

1 - مسند أحمد 3 / 225.
2 - مسند أحمد 4 / 80.
3 - نهج البلاغة، فيض / 681; عبده 2 / 223; لح / 332، الخطبة 216.
773

6 - وفي نهج البلاغة أيضا: " أيها الناس إن لي عليكم حقا، ولكم على حق، فأما
حقكم على فالنصيحة لكم وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتأديبكم كيما
تعلموا، وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والإجابة
حين أدعوكم، والطاعة حين آمركم. " (1)
7 - وفيه أيضا: " وإن في سلطان الله عصمة لأمركم فأعطوه طاعتكم غير ملومة و
لا مستكره بها. " (2)
بناء على كون المراد بسلطان الله الحكومة العادلة المرضية لله - تعالى - كما لعله
الظاهر.
8 - وفيه أيضا: " أنبئت بسرا قد اطلع اليمن، وإني والله لأظن أن هؤلاء القوم سيدالون
منكم، باجتماعهم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم، وبمعصيتكم إمامكم في الحق و
طاعتهم إمامهم في الباطل، وبأدائهم الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم. " (3)
9 - وفيه أيضا من كتاب له (عليه السلام) إلى أمرائه على الجيوش: " أما بعد، فإن حقا على
الوالي أن لا يغيره على رعيته فضل ناله ولا طول خص به، وأن يزيده ما قسم الله له من
نعمه دنوا من عباده وعطفا على إخوانه، ألا وإن لكم عندي أن لا أحتجز دونكم سرا إلا
في حرب، ولا أطوي دونكم أمرا إلا في حكم، ولا أوخر لكم حقا عن محله، ولا أقف به
دون مقطعه، وأن تكونوا عندي في الحق سواء.
فإذا فعلت ذلك وجبت لله عليكم النعمة ولي عليكم الطاعة، وأن لا تنكصوا عن دعوة
ولا تفرطوا في صلاح وأن تخوضوا الغمرات إلى الحق.
فإن أنتم لم تستقيموا (لي) على ذلك لم يكن أحد أهون على ممن اعوج منكم، ثم
أعظم له العقوبة، ولا يجد عندي فيها رخصة، فخذوا هذا من أمرائكم، وأعطوهم من
أنفسكم ما يصلح الله

1 - نهج البلاغة، فيض / 114; عبده 1 / 80; لح / 79، الخطبة 34.
2 - نهج البلاغة، فيض / 548; عبده 2 / 99; لح / 244، الخطبة 169.
3 - نهج البلاغة، فيض / 89; عبده 1 / 60; لح / 67، الخطبة 25.
774

به أمركم. " (1)
10 - وفيه أيضا في كتابه (عليه السلام) إلى أهل مصر لما ولى عليهم الأشتر: " اما بعد، فقد بعثت
إليكم عبدا من عباد الله لا ينام أيام الخوف ولا ينكل عن الأعداء ساعات الروع، أشد
على الكفار من حريق النار، وهو مالك بن الحارث أخو مذحج، فاسمعوا له وأطيعوا
أمره فيما طابق الحق، فإنه سيف من سيوف الله لا كليل الظبة ولا نابي الضريبة. فإن أمركم
أن تنفروا فانفروا، وإن أمركم أن تقيموا فأقيموا، فإنه لا يقدم ولا يحجم، ولا يؤخر و
لا يقدم إلا عن أمري. " (2)
أقول: نكل: نكص وجبن. والروع بفتح الراء: الخوف والفزع. ومذحج كمجلس:
قبيلة مالك والظبة بضم الأول وفتح الثاني مخففا: حد السيف والسنان. والضريبة:
المضروب بالسيف. ونبا عنه السيف: لم يؤثر فيه.
11 - وفي أصول الكافي بسند صحيح، عن بريد بن معاوية، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما نظر الله - عز وجل - إلى ولى له يجهد نفسه بالطاعة لإمامه و
النصيحة إلا كان معنا في الرفيق الأعلى. " (3)
12 - وفيه أيضا بسنده، عن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " من فارق جماعة
المسلمين ونكث صفقة الإمام جاء إلى الله - عز وجل - أجذم. " (4)
13 - وفيه أيضا بسنده، عن أبي حمزة، قال: " سألت أبا جعفر (عليه السلام): ما حق الإمام على
الناس؟ قال: حقه عليهم أن يسمعوا له ويطيعوا. قلت: فما حقهم عليه؟ قال: يقسم بينهم
بالسوية ويعدل في الرعية... " (5)
14 - وفيه أيضا بسنده، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال

1 - نهج البلاغة، فيض / 982; عبده 3 / 88; لح / 424، الكتاب 50.
2 - نهج البلاغة، فيض / 951; عبده 3 / 70; لح / 411، الكتاب 38.
3 - الكافي 1 / 404، كتاب الحجة، باب ما أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنصيحة لأئمة المسلمين و...، الحديث
3.
4 - الكافي 1 / 405، كتاب الحجة، باب ما أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنصيحة لأئمة المسلمين و...، الحديث
5.
5 - الكافي 1 / 405، كتاب الحجة، باب ما يجب من حق الإمام على الرعية و...، الحديث 1.
775

أمير المؤمنين (عليه السلام): " لا تختانوا ولاتكم ولا تغشوا هداتكم ولا تجهلوا أئمتكم و
لا تصدعوا عن حبلكم فتفشلوا وتذهب ريحكم، وعلى هذا فليكن تأسيس أموركم و
الزموا هذه الطريقة... " (1)
15 - وفيه أيضا بسنده، عن سدير، قال: " قلت لأبي جعفر (عليه السلام) إني تركت مواليك
مختلفين، يبرأ بعضهم من بعض. قال: فقال: وما أنت وذاك؟ إنما كلف الناس ثلاثة: معرفة
الأئمة، والتسليم لهم فيما ورد عليهم، والرد إليهم فيما اختلفوا فيه. " (2)
وفي هذا الباب روايات أخر في التسليم للإمام، فراجع.
16 - وفيه أيضا بسند صحيح، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " ذروة الأمر و
سنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضا الرحمان - تبارك وتعالى -: الطاعة للإمام بعد
معرفته. " ثم قال: " إن الله - تبارك وتعالى - يقول: من يطع الرسول فقد أطاع الله، ومن
تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا. " (3)
17 - وفيه أيضا بسنده، عن محمد بن الفضيل، قال: " سألته عن أفضل ما يتقرب به
العباد إلى الله - عز وجل -، قال: أفضل ما يتقرب به العباد إلى الله - عز وجل - طاعة الله
وطاعة رسوله وطاعة أولي الأمر. " (4)
وفي هذا الباب روايات أخر في فرض طاعة الإمام، فراجع.
18 - وفيه أيضا بسنده، عن ابن أبي ليلى، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث طويل، قال:
" وصل الله طاعة ولى أمره بطاعة رسوله، وطاعة رسوله بطاعته، فمن ترك طاعة ولاة
الأمر لم يطع الله ولا رسوله. " (5)

1 - الكافي 1 / 405، كتاب الحجة، باب ما يجب من حق الإمام على الرعية و...، الحديث 3.
2 - الكافي 1 / 390، كتاب الحجة، باب التسليم وفضل المسلمين، الحديث 1.
3 - الكافي 1 / 185، كتاب الحجة، باب فرض طاعة الأئمة، الحديث 1. والآية المذكورة من سورة
النساء، رقمها 80.
4 - الكافي 1 / 187، كتاب الحجة، باب فرض طاعة الأئمة، الحديث 12.
5 - الكافي 1 / 181، كتاب الحجة، باب معرفة الإمام والرد إليه، الحديث 6.
776

19 - وفي الأمالي للشيخ المفيد بسنده، عن عبد الله بن عباس، قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " اسمعوا وأطيعوا لمن ولاه الله الأمر، فإنه نظام الإسلام. " (1)
20 - وفي تحف العقول في رسالة الحقوق لعلي بن الحسين (عليه السلام): " فأما حق سائسك
بالسلطان فأن تعلم أنك جعلت له فتنة وأنه مبتلى فيك بما جعله الله له عليك من
السلطان، وأن تخلص له في النصيحة وأن لا تماحكه (2) وقد بسطت يده عليك فتكون
سبب هلاك نفسك وهلاكه... ". (3)
وروى نحوه في الخصال في رسالة الحقوق وقال: " وأما حق رعيتك بالسلطان فأن
تعلم أنهم صاروا رعيتك لضعفهم وقوتك، فيجب أن تعدل فيهم وتكون لهم كالوالد
الرحيم وتغفر لهم جهلهم ولا تعاجلهم بالعقوبة، وتشكر الله - عز وجل - على ما أتاك من
القوة عليهم. " (4)
21 - وفي تحف العقول أيضا في وصية موسى بن جعفر (عليه السلام) لهشام، قال: " وطاعة ولاة
العدل تمام العز. " (5)
22 - وفيه أيضا عن الإمام الصادق (عليه السلام): " ثلاث خصال تجب للملوك على أصحابهم و
رعيتهم: الطاعة لهم، والنصيحة لهم في المغيب والمشهد، والدعاء بالنصر والصلاح.
ثلاثة تجب على السلطان للخاصة والعامة: مكافأة المحسن بالإحسان ليزدادوا رغبة
فيه، وتغمد ذنوب المسئ ليتوب ويرجع عن غيه، وتألفهم جميعا بالإحسان و
الإنصاف. " (6)
23 - وفيه أيضا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " وإياك أن تشتم مسلما أو تطيع آثما أو تعصي إماما
عادلا. " (7)

1 - الأمالي / 14، المجلس 2، الحديث 2.
2 - ماحكه: خاصمه ولاجه.
3 - تحف العقول / 260.
4 - الخصال / 567 (الجزء 2).
5 - تحف العقول / 390.
6 - تحف العقول / 319.
7 - تحف العقول / 26.
777

24 - وفيه أيضا في مواعظ على بن الحسين (عليه السلام): " فقدموا أمر الله وطاعته وطاعة
من أوجب الله طاعته بين يدي الأمور كلها، ولا تقدموا الأمور الواردة عليكم من طاعة
الطواغيت وفتنة زهرة الدنيا بين يدي أمر الله وطاعته وطاعة أولي الأمر منكم... فاتقوا
الله واستقبلوا من إصلاح أنفسكم وطاعة الله وطاعة من تولونه فيها... واعلموا أنه من
خالف أولياء الله ودان بغير دين الله واستبد بأمره دون أمر ولى الله، في نار تلتهب تأكل
أبدانا غلبت عليها شقوتها... " (1)
25 - وفي البحار، عن كتاب مطالب السؤول، عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: " العالم
حديقة سياحها الشريعة، والشريعة سلطان تجب له الطاعة، والطاعة سياسة يقوم بها
الملك، والملك راع يعضده الجيش، والجيش أعوان يكفلهم المال، والمال رزق يجمعه
الرعية، والرعية سواد يستعبدهم العدل، والعدل أساس به قوام العالم. " (2)
26 - وفي أول كتاب الأموال لأبي عبيد بسنده، عن تميم الداري، قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " الدين النصيحة. قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولكتابه و
للأئمة ولجماعة المسلمين. " (3)
أقول: النصيحة: الإخلاص والتصفية. وأقوى مراتب الإخلاص للإمام هو إطاعته و
التسليم له في غير معصية الله - تعالى -.
27 - وفيه أيضا بسنده، عن مصعب بن سعد، قال: قال على بن أبي طالب (عليه السلام) كلمات
أصاب فيهن الحق، قال: " يحق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله وأن يؤدي الأمانة،
فإذا فعل ذلك فحق على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا ويجيبوه إذا دعا. " (4) وروى
نحوه في كنز العمال عنه (عليه السلام). (5)

1 - تحف العقول / 254.
2 - بحار الأنوار 75 / 83 (= طبعة إيران 78 / 83)، كتاب الروضة، الباب 16 (باب ما جمع من
جوامع كلم أمير المؤمنين (عليه السلام))، الحديث 87.
3 - الأموال / 10.
4 - الأموال / 13.
5 - كنز العمال 5 / 764، الباب 2 من كتاب الخلافة مع الإمارة من قسم الأفعال، الحديث 14313.
778

28 - وفي مسند زيد، عن أبيه، عن جده، عن على (عليه السلام)، قال: " حق على الإمام أن
يحكم بما أنزل الله، وأن يعدل في الرعية، فإذا فعل ذلك فحق عليهم أن يسمعوا وأن
يطيعوا، وأن يجيبوا إذا دعوا. وأيما إمام لم يحكم بما أنزل الله فلا طاعة له. " (1)
29 - وفي صحيح مسلم بسنده، عن ابن عباس: " نزل يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و
أطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدى السهمي، بعثه
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في سرية. " (2)
30 - وفيه أيضا بسنده، عن أبي هريرة، عن رسول الله (عليه السلام) أنه قال: " من أطاعني فقد
أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله. ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى
أميري فقد عصاني. " (3)
31 - وفيه أيضا بسنده، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " عليك السمع و
الطاعة في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك وأثره عليك. " (4)
32 - وفيه أيضا بسنده، عن أبي ذر، قال: " إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع وإن
كان عبدا مجدع الأطراف. " (5)
33 - وفيه أيضا بسنده، عن يحيى بن حصين، قال: سمعت جدتي تحدث أنها سمعت
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يخطب في حجة الوداع وهو يقول: " ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب
الله فاسمعوا له وأطيعوا. " (6)

1 - مسند زيد / 322، كتاب السير، باب طاعة الإمام.
2 - صحيح مسلم 3 / 1465، كتاب الإمارة، الباب 8 (باب وجوب طاعة الأمراء في غير
معصية...)، الحديث 1834.
3 - صحيح مسلم 3 / 1466، كتاب الإمارة، الباب 8.
4 - صحيح مسلم 3 / 1467، كتاب الإمارة، الباب 8، الحديث 1836.
5 - صحيح مسلم 3 / 1467، كتاب الإمارة، الباب 8، الحديث 1837.
6 - صحيح مسلم 3 / 1468، كتاب الإمارة، الباب 8، الحديث 1838.
779

34 - وفيه أيضا بسنده، عن يحيى بن حصين، عن جدته أم الحصين، قال: سمعتها
تقول: " حججت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حجة الوداع، قالت: فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قولا كثيرا،
ثم سمعته يقول: " إن أمر عليكم عبد مجدع (حسبتها قالت:) أسود يقودكم بكتاب الله
فاسمعوا له وأطيعوا. " (1)
35 - وفيه أيضا بسنده، عن ابن عمر، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " على المرء المسلم
السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع و
طاعة. " (2)
36 - وفيه أيضا بسنده، عن عبادة، قال:
" بايعنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، و
على أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف
في الله لومة لائم. " (3)
إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في هذا المجال.
ولا يخفى أن المقصود منها هو إطاعة الإمام أو الأمير فيما حكم به من الأمور
المرتبطة بسياسة الملك والأمة أمرا مولويا بتيا، وفي مثلها يكون العزم والقرار النهائي
للإمام ويجب على كل فرد إطاعته والتسليم له ولو كان نظره الشخصي مخالفا له في هذا
الموضوع الخاص حفظا للنظام، وفي نهج البلاغة: " وقال (عليه السلام) لعبد الله بن عباس - وقد
أشار عليه في شيء لم يوافق رأيه -: لك أن تشير على وأرى، فإن عصيتك فأطعني. " (4)
هذا.
وأما ما يصدر عن الإمام في مقام بيان أحكام الله - تعالى - فالأمر فيه إرشادي لا
إطاعة له سوى إطاعة المرشد إليه، نظير أوامر الفقيه في مقام بيان أحكام الله - تعالى -.

1 - صحيح مسلم 3 / 1468، كتاب الإمارة، الباب 8.
2 - صحيح مسلم 3 / 1469، كتاب الإمارة، الباب 8، الحديث 1839.
3 - صحيح مسلم 3 / 1470، كتاب الإمارة، الباب 8.
4 - نهج البلاغة، فيض / 1239; عبده 3 / 230; لح / 531، الحكمة 321.
780

لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق
كما أنه لا طاعة للإمام ولا تجوز إطاعته إذا كان المأمور به من قبل الإمام أو الأمير
معصية لله - سبحانه -. ويدل على ذلك - مضافا إلى كونه تعالى ولى الأولياء ولاحق
لأحد في قبال حقوقه - الآيات والأخبار المستفيضة بل المتواترة التي مر بعضها في
الكتاب وفي هذا الفصل.
ويكفينا في ذلك 1 - قوله - تعالى - حكاية عن أهل النار: " وقالوا ربنا إنا أطعنا
سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا. " (1)
2 - وقوله: " ولا تطيعوا أمر المسرفين * الذين يفسدون في الأرض و
لا يصلحون. " (2)
3 - وقوله: " ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا. " (3)
4 - وفي نهج البلاغة في الخطبة القاصعة: " ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم و
كبرائكم الذين تكبروا عن حسبهم وترفعوا فوق نسبهم وألقوا الهجينة على ربهم و
جاحدوا الله على ما صنع بهم مكابرة لقضائه ومغالبة لآلائه. " (4)
5 - وفيه أيضا: " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. " (5)
6 - وفي الوسائل عن الفقيه قال: من ألفاظ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا طاعة لمخلوق في

1 - سورة الأحزاب (33)، الآية 67.
2 - سورة الشعراء (26)، الآية 151 و 152.
3 - سورة الكهف (18)، الآية 28.
4 - نهج البلاغة، فيض / 785; عبده 2 / 166; لح / 289، الخطبة 192.
5 - نهج البلاغة، فيض / 1167; عبده 3 / 193; لح / 500، الحكمة 165.
781

معصية الخالق. " (1)
7 - وفي دعائم الإسلام: " روينا عن على (عليه السلام) أنه قال: " بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سرية و
استعمل عليهم رجلا من الأنصار وأمرهم أن يطيعوه، فلما كان ذات يوم غضب عليهم،
فقال: أليس قد أمركم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن تطيعوني؟ قالوا: نعم. قال: فاجمعوا لي حطبا
فجمعوه، فقال: أضرموه نارا، ففعلوا، فقال لهم: ادخلوها، فهموا بذلك، فجعل بعضهم
يمسك بعضا ويقولون: إنما فررنا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من النار، فما زالوا كذلك حتى
خمدت النار، وسكن غضب الرجل. فبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: لو دخلوها ما
خرجوا منها إلى يوم القيامة، إنما الطاعة في المعروف. وعن على (عليه السلام) أنه قال: لا طاعة
لمخلوق في معصية الخالق. " (2)
وروى القصة إلى قوله: " إنما الطاعة في المعروف " مسلم في صحيحه أيضا عن
على (عليه السلام). (3)
8 - وفي المصنف لعبد الرزاق: " إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث عبد الله بن حذافة على سرية، فأمر
أصحابه فأوقدوا نارا ثم أمرهم أن يثبوها، فجعلوا يثبونها، فجاء شيخ ليثبها فوقع فيها
فاحترق منه بعض ما احترق، فذكر شأنه لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: ما حملكم على ذلك؟
قالوا: يا رسول الله، كان أميرا وكانت له طاعة. قال: أيما أمير أمرته عليكم فأمركم بغير
طاعة الله فلا تطيعوه، فإنه لا طاعة في معصية الله. " (4)
وقد مر الحديث وبيانه في فصل اشتراط العدالة في الحاكم، فراجع. (5)
إلى غير ذلك من الروايات الواردة في كتب الفريقين في هذا المجال.
وأما ما اشتهر بين العوام من أن المأمور معذور فإعتذار شيطاني لا دليل له لا في العقل
ولا في النقل.

1 - الوسائل 11 / 422، الباب 11 من أبواب الأمر والنهي...، الحديث 7.
2 - دعائم الإسلام 1 / 350، كتاب الجهاد، في ذكر ما يجب للأمراء وما يجب عليهم.
3 - صحيح مسلم 3 / 1469، كتاب الإمارة، الباب 8 (باب وجوب طاعة الأمراء في غير
معصية...)، الحديث 1840.
4 - المصنف 11 / 335، باب لا طاعة في معصية، الحديث 20699.
5 - راجع 1 / 299 من الكتاب.
782

الباب السابع
في ذكر بعض الآيات والروايات الواردة في سيرة الإمام وأخلاقه في معاشرته
المسلمين وغيرهم، وفي مطعمه وملبسه ونحو ذلك
وفيه ثلاثة فصول:
783

الفصل الأول
في مكارم أخلاقه ولطفه وعفوه ورحمته
1 - قال الله - تعالى - مخاطبا لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): " فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظا
غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر، فإذا
عزمت فتوكل على الله، إن الله يحب المتوكلين. " (1)
أقول: لا يخفى أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إمام الأئمة والأمة جميعا، وللجميع فيه أسوة
حسنة، فعلى إمام المسلمين ومن يلي أمرهم أن يكون لينا عفوا رحيما بهم عطوفا عليهم
خاليا من الفظاظة والغلظة حتى ينجذب إلى الإسلام جميع الأنام إلا من طبع الله على
قلبه، ولا ينافي هذا إجراء حدود الله وأحكامه في مواردها إذ المنظور فيها أيضا هو
إصلاح الأمة والمجتمع لا التحقير والانتقام.
قال العلامة المجلسي في البحار ما ملخصه:
" واختلف في فائدة مشاورته مع استغنائه بالوحي على أقوال: 1 - أنه على وجه

1 - سورة آل عمران (3)، الآية 159.
785

التطييب لنفوسهم والرفع من أقدارهم. 2 - أنه ليقتدى به أمته في المشاورة ولا يرونها
نقيصة. 3 - أنه لكلا الوجهين. 4 - أن ذلك ليمتحنهم ليتميز الناصح من الغاش. 5 - أن ذلك
في أمور الدنيا ومكائد الحرب وفي مثل ذلك يجوز أن يستعين بآرائهم. " (1)
2 - وقال تعالى -: " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين * وإما ينزغنك
من الشيطان نزغ فاستعذ بالله، إنه سميع عليم. " (2)
أقول: قال: في مجمع البيان ما محصله:
" العفو ما عفا من أموال الناس، أي ما فضل من النفقة. وقيل: خذ العفو من أخلاق
الناس، ومعناه أنه أمره بالتساهل وترك الاستقصاء في القضاء والاقتضاء. وقيل: هو
العفو في قبول العذر من المعتذر. وروى أنه لما نزلت الآية سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جبرائيل
عن ذلك فقال: لا أدري حتى أسأل العالم، ثم أتاه فقال: يا محمد، إن الله يأمرك أن تعفو
عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك. وأمر بالعرف، يعني بالمعروف وهو
كل ما حسن في العقل أو الشرع ولم يكن منكرا وقبيحا.
والنزغ: الوسوسة والنخسة في القلب. قال ابن زيد: لما نزلت هذه الآية قال
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): كيف يا رب والغضب؟ فنزل قوله: وإما ينزغنك من الشيطان نزغ. " (3)
3 - وقال: " ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن، قل أذن خير لكم يؤمن بالله
ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم. " (4)

1 - بحار الأنوار 16 / 198، تاريخ نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، الباب 9 (باب مكارم أخلاقه...)، عن مجمع البيان
1 / 527 (الجزء 2).
2 - سورة الأعراف (7)، الآية 199 و 200.
3 - مجمع البيان 2 / 512 (الجزء 4).
4 - سورة التوبة (9)، الآية 61.
786

4 - وقال: " لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم،
بالمؤمنين رؤوف رحيم. " (1)
قال في المجمع: " معناه شديد عليه عنتكم، أي ما يلحقكم من الضرر بترك
الإيمان. " (2)
5 - وقال: " وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون
قالوا سلاما. " إلى قوله: " والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين و
اجعلنا للمتقين إماما. " (3)
أقول: هونا، أي بسكينة ووقار بلا تجبر وتبختر.
6 - وقال: " وأنذر عشيرتك الأقربين * واخفض جناحك لمن اتبعك من
المؤمنين. " (4)
7 - وقال: " فاصبر، إن وعد الله حق، ولا يستخفنك الذين لا يوقنون. " (5)
وفي البحار:
" ولا يستخفنك، أي ولا يحملنك على الخفة والقلق الذين لا يوقنون بتكذيبهم. " (6)
8 - وقال: " وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا * ولا تطع الكافرين و
المنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا. " (7)
9 - وقال: " ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك
وبينه عداوة كأنه ولى حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم
* وإما ينزغنك

1 - سورة التوبة (9)، الآية 128.
2 - مجمع البيان 3 / 86 (الجزء 5).
3 - سورة الفرقان (25)، الآية 63 - 74.
4 - سورة الشعراء (26)، الآية 214 - 215.
5 - سورة الروم (30)، الآية 60.
6 - بحار الأنوار 16 / 205، تاريخ نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، باب مكارم أخلاقه...
7 - سورة الأحزاب (33)، الآية 47 - 48.
787

من الشيطان نزغ فاستعذ بالله، إنه هو السميع العليم. " (1)
10 - وقال: " ما أنت بنعمة ربك بمجنون * وإن لك لأجرا غير ممنون * وإنك لعلى
خلق عظيم. " (2)
11 - وقال: " فاصبر صبرا جميلا. " (3)
12 - وقال: " واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا * وذرني والمكذبين
أولي النعمة ومهلهم قليلا. " (4)
13 - وفي البحار عن أمالي الطوسي بسنده، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في أوصاف
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" ليس بالعاجز ولا باللئيم، أكرم الناس عشرة، وألينهم عريكة، وأجودهم كفا، من
خالطه بمعرفة أحبه، ومن رآه بديهة هابه، عزه بين عينيه، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده
مثله. " (5)
أقول: العريكة: الطبيعة.
14 - وفيه أيضا عن عيون أخبار الرضا بسنده، عن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام)،
قال: " سألت خالي هند بن أبي هالة عن حلية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال... ويمشي هونا، ذريع
المشية، إذا مشى كأنما ينحط في صبب، وإذا التفت التفت جميعا، خافض الطرف، نظره
إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة، يبدر من لقيه بالسلام... و
لا يتكلم في غير حاجة، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه، يتكلم بجوامع الكلم فصلا، لا
فضول فيه ولا تقصير، دمثا ليس بالجافي ولا بالمهين... " (6)

1 - سورة فصلت (41)، الآية 34 - 36.
2 - سورة القلم (68)، الآية 2 - 4.
3 - سورة المعارج (70)، الآية 5.
4 - سورة المزمل (73)، الآية 10 - 11.
5 - بحار الأنوار 16 / 147، تاريخ نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، الباب 8 (باب أوصافه...)، الحديث 3.
6 - بحار الأنوار 16 / 148 - 150، تاريخ نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، باب أوصافه...، الحديث 4.
788

أقول: الذريع: السريع. والصبب: ما انحدر من الأرض. والأشداق: جوانب الفم. و
الدمث: سهل الخلق. وهند بن أبي هالة ربيب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمه خديجة أم المؤمنين، و
كان وصافا لحلية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). وروى رواية هند بطولها في كنز العمال، فراجع. (1)
15 - وفي البحار أيضا عن العيون بسنده، عن الحسين بن علي (عليه السلام)، عن أبيه (عليه السلام) في
وصف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: " كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يخزن لسانه إلا عما يعنيه ويؤلفهم ولا ينفرهم، و
يكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم، ويحذر الناس ويحترس منهم من غير أن يطوي عن
أحد بشره ولا خلقه، ويتفقد أصحابه، ويسأل الناس عما في الناس، ويحسن الحسن و
يقويه، ويقبح القبيح ويوهنه، معتدل الأمر غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو
يميلوا، ولا يقصر عن الحق ولا يجوزه، الذين يلونه من الناس خيارهم، أفضلهم عنده
أعمهم نصيحة للمسلمين، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة وموازرة... ولا يوطن
الأماكن وينهى عن إيطانها، وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ويأمر
بذلك. ويعطي كل جلسائه نصيبه، ولا يحسب أحد من جلسائه أن أحدا أكرم عليه منه،
من جالسه صابره حتى يكون هو المنصرف عنه، من سأله حاجة لم يرجع إلا بها أو
بميسور من القول، قد وسع الناس من خلقه وصار لهم أبا وصاروا عنده في الحق سواء،
مجلسه مجلس حلم وحياء وصدق وأمانة، لاترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن (لا توهن
خ. ل) فيه الحرم، ولا تنثى فلتأته، متعادلين متواصلين فيه بالتقوى، متواضعين يوقرون
الكبير ويرحمون الصغير، ويؤثرون ذا الحاجة ويحفظون الغريب.
فقلت: فكيف كان سيرته في جلسائه؟ فقال: كان دائم البشر، سهل الخلق، لين
الجانب، ليس بفظ ولا صخاب ولا فحاش ولا عياب ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهي
فلا يؤيس منه ولا يخيب مؤمليه، قد ترك نفسه من ثلاث: المراء والإكثار وما لا يعنيه، و
ترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحدا ولا يعيره ولا يطلب عورته ولا عثراته.
الحديث. " (2)

1 - كنز العمال 7 / 163، كتاب الشمائل من قسم الأفعال، باب في حليته (صلى الله عليه وآله وسلم)، الحديث 18535.
2 - بحار الأنوار 16 / 151 - 153، تاريخ نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، باب أوصافه...، الحديث 4.
789

أقول: قوله: " ولا يوطن الأماكن "، أي لا يتخذ لنفسه مجلسا يعرف به. وأبنه: عابه و
اتهمه. لا تنثى فلتأته، أي لا تشاع ولا يتحدث بها. الصخاب: الشديد الصياح ومثله
السخاب بالسين.
16 - وفي البحار أيضا عن العياشي، عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام)، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
في حديث: " إني أنا الذي سماني الله في التوراة والإنجيل محمد رسول الله المجتبى
المصطفى، ليس بفحاش ولا سخاب في الأسواق، ولا يتبع السيئة السيئة، ولكن يتبع
السيئة الحسنة... " (1)
17 - وفيه أيضا عن الكازروني في المنتقى، عن على (عليه السلام) في وصف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " إذا
مشى يتقلع كأنما يمشي في صبب، وإذا التفت التفت جميعه، بين كتفيه خاتم النبوة وهو
خاتم النبيين. أجود الناس كفا، وأرحب الناس صدرا، وأصدق الناس لهجة، وأوفى
الناس ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة
أحبه، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله. " وروى نحوه بتفاوت ما عن كتاب الغارات
عن على (عليه السلام). (2)
18 - وفيه أيضا عن أمالي الصدوق بسنده، عن موسى بن جعفر، عن أبيه، عن آبائه،
عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: إن يهوديا كان له على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دنانير فتقاضاه، فقال
له: يا يهودي، ما عندي ما أعطيك. فقال: فإني لا أفارقك يا محمد حتى تقضيني، فقال: إذا
أجلس معك، فجلس معه حتى صلى في ذلك الموضع الظهر والعصر والمغرب والعشاء
الآخرة والغداة، وكان أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتهددونه ويتواعدونه، فنظر
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إليهم فقال: ما الذي تصنعون به؟ فقالوا: يا رسول الله، يهودي يحبسك؟
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): لم يبعثني ربي - عز وجل - بأن أظلم معاهدا ولا غيره، فلما علا النهار قال
اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وشطر مالي في سبيل
الله. أما والله ما فعلت بك الذي فعلت إلا لأنظر إلى نعتك في

1 - بحار الأنوار 16 / 185، تاريخ نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، باب أوصافه...، الحديث 21.
2 - بحار الأنوار 16 / 190 و 194، تاريخ نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، باب أوصافه...، الحديث 27 و 33.
790

التوراة، فإني قرأت نعتك في التوراة: محمد بن عبد الله مولده بمكة ومهاجره بطيبة، و
ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب، ولا مترين بالفحش ولا قول الخناء. وأنا أشهد أن لا
إله إلا الله وأنك رسول الله، وهذا مالي فاحكم فيه بما أنزل الله. وكان اليهودي كثير
المال. (1)
19 - وفيه أيضا عن الأمالي بسنده، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" خمس لا أدعهن حتى الممات: الأكل على الحضيض مع العبيد، وركوبي الحمار مؤكفا،
وحلبي العنز بيدي، ولبس الصوف، والتسليم على الصبيان لتكون سنة من بعدي. " (2)
20 - وفيه أيضا عن الخصال بسنده، عن جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي (عليه السلام)،
قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " خمس لست بتاركهن حتى الممات: لباسي الصوف، وركوبي
الحمار موكفا، وأكلي مع العبيد، وخصفي النعل بيدي، وتسليمي على الصبيان لتكون
سنة من بعدي. " (3)
21 - وفيه أيضا عن أمالي الطوسي بسنده، عن ابن عباس، قال:
" كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، ويعتقل الشاة، و
يجيب دعوة المملوك على خبز الشعير. " (4)
22 - وفيه أيضا عن الكافي بسنده، عن جميل، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " كان
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقسم لحظاته بين أصحابه ينظر إلى ذا، وينظر إلى ذا بالسوية. " (5
)
23 - وفيه أيضا عن مكارم الأخلاق، عن أنس بن مالك، قال:
" كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه، فإن كان

1 - بحار الأنوار 16 / 216، تاريخ نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، الباب 9 (باب مكارم أخلاقه...) الحديث 5.
2 - بحار الأنوار 16 / 215، تاريخ نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، باب مكارم أخلاقه، الحديث 2.
3 - بحار الأنوار 16 / 219، تاريخ نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، باب مكارم أخلاقه، الحديث 11.
4 - بحار الأنوار 16 / 222، تاريخ نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، باب مكارم أخلاقه، الحديث 19.
5 - بحار الأنوار 16 / 280، تاريخ نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، باب مكارم أخلاقه، الحديث 121; وأصول الكافي
2 / 671.، كتاب العشرة، باب النوادر، الحديث 1.
791

غائبا دعا له، وإن كان شاهدا زاره، وإن كان مريضا عاده. " (1)
24 - وفي مناقب ابن شهرآشوب:
" أما آدابه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد جمعها بعض العلماء والتقطها من الأخبار: كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أحكم
الناس وأحلمهم وأشجعهم وأعدلهم وأعطفهم لم تمس يده يد امرأة لا تحل، وأسخى
الناس لا يثبت عنده دينار ولا درهم، فإن فضل ولم يجد من يعطيه ويجنه الليل لم يأو
إلى منزله حتى يتبرأ منه إلى من يحتاج إليه، لا يأخذ مما آتاه الله إلا قوت عامه فقط من
يسير ما يجد من التمر والشعير، ويضع سائر ذلك في سبيل الله، ولا يسأل شيئا إلا
أعطاه. ثم يعود إلى قوت عامه فيؤثر منه حتى ربما احتاج قبل انقضاء العام إن لم يأته
شيء.
وكان يجلس على الأرض وينام عليها ويأكل عليها، وكان يخصف النعل، ويرقع
الثوب، ويفتح الباب، ويحلب الشاة، ويعقل البعير ويحله، ويطحن مع الخادم إذا أعيى،
ويضع طهوره بالليل بيده، ولا يتقدمه مطرق، ولا يجلس متكئا، ويخدم في مهنة أهله، و
يقطع اللحم، وإذا جلس على الطعام جلس محقرا، وكان يلطع أصابعه، ولم يتجشأ قط. و
يجيب دعوة الحر والعبد ولو على ذراع أو كراع، ويقبل الهدية ولو أنها جرعة لبن، و
يأكلها ولا يأكل الصدقة، لا يثبت بصره في وجه أحد، يغضب لربه ولا يغضب لنفسه، و
كان يعصب الحجر على بطنه من الجوع، يأكل ما حضر، ولا يرد ما وجد، لا يلبس ثوبين،
يلبس بردا حبرة يمنية وشملة جبة صوف والغليظ من القطن والكتان، وأكثر ثيابه
البياض، ويلبس العمامة تحت العمامة، يلبس القميص من قبل ميامنه، وكان له ثوب
للجمعة خاصة، وكان إذا لبس جديدا أعطى خلق ثيابه مسكينا، وكان له عباء يفرش له
حيث ما ينقل تثنى ثنيتين. يلبس خاتم فضة في خنصره الأيمن، يحب البطيخ، ويكره
الريح الردية ويستاك عند الوضوء، يردف خلفه عبده أو غيره، ويركب ما أمكنه من
فرس أو بغلة أو حمار، ويركب الحمار بلا سرج وعليه العذار، ويمشي راجلا وحافيا بلا
رداء

1 - بحار الأنوار 16 / 233، تاريخ نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، باب مكارم أخلاقه، الحديث 35.
792

ولا عمامة ولا قلنسوة، ويشيع الجنائز، ويعود المرضى في أقصى المدينة، يجالس
الفقراء ويؤاكل المساكين ويناولهم بيده، ويكرم أهل الفضل في أخلافهم، ويتألف أهل
الشرف بالبر لهم.
يصل ذوي رحمه من غير أن يؤثرهم على غيرهم إلا بما أمر الله، ولا يجفو على أحد،
يقبل معذرة المعتذر إليه، وكان أكثر الناس تبسما ما لم ينزل عليه قرآن ولم تجر عظة، و
ربما ضحك من غير قهقهة، لا يرتفع على عبيده وإمائه في مأكل ولا في ملبس، ما شتم
أحدا بشتمة ولا لعن امرأة ولا خادما بلعنة، ولا لاموا أحدا إلا قال: دعوه، ولا يأتيه
أحد: حر أو عبد أو أمة إلا قام معه في حاجته، لافظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق،
ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يغفر ويصفح، ويبدأ من لقيه بالسلام، ومن رامه بحاجة
صابره حتى يكون هو المنصرف، وما أخذ أحد يده فيرسل يده حتى يرسلها، وإذا لقي
مسلما بدأه بالمصافحة، وكان لا يقوم ولا يجلس إلا على ذكر الله، وكان لا يجلس إليه
أحد وهو يصلى إلا خفف صلاته وأقبل عليه وقال: ألك حاجة؟ وكان أكثر جلوسه أن
ينصب ساقيه جميعا، وكان يجلس حيث ينتهي به المجلس، وكان أكثر ما يجلس
مستقبل القبلة، وكان يكرم من يدخل عليه حتى ربما بسط ثوبه، ويؤثر الداخل بالوسادة
التي تحته، وكان في الرضا والغضب لا يقول إلا حقا. الحديث. " (1)
أقول: قال في البحار:
" قوله: " لا يتقدمه مطرق "، أي كان أكثر الناس إطراقا إلى الأرض حياء، يقال: أطرق،
أي سكت ولم يكلم وأرخى عينيه ينظر إلى الأرض. والمهنة بالفتح والكسر: الخدمة. و
الكراع كغراب من البقر والغنم: مستدق الساق. " (2)
والعذار: ما سال من اللجام على خد الفرس.

1 - مناقب ابن شهرآشوب 1 / 126; ورواه عنه في بحار الأنوار 16 / 226، تاريخ نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، باب
مكارم أخلاقه، الحديث 34.
2 - بحار الأنوار 16 / 229.
793

25 - وفي أصول الكافي بسنده، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " إن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أتي باليهودية التي سمت الشاة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال
لها: ما حملك على ما
صنعت؟ فقالت: قلت: إن كان نبيا لم يضره وإن كان ملكا أرحت الناس منه. قال: فعفا
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنها. " ورواه أيضا ابن هشام في السيرة. (1)
26 - وسيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في فتح مكة ومعاملته مع رؤساء الكفار والمشركين بعد
ما غلب عليهم من أهم الوقائع التي ترشدنا إلى ما ينبغي أن يكون عليه إمام المسلمين و
زعيمهم من سعة الصدر وكثرة الإغماض والعفو في قبال الأعداء بعد أن أظفره الله
عليهم، فقد كان أبو سفيان وأهله من ألد الأعداء لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن أعظم من أوقد
نيران الحرب على المسلمين، فلما ظفر عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في فتح مكة عرض عليه
الإسلام ثم جعل داره مأمنا فقال: " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن.. " (2)
وزوجته هند مع ما كانت تؤذي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة وما صنعت في أحد بأجساد
القتلى وجسد حمزة جاءت إليه متخفية فأسلمت وأهدت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جديين و
اعتذرت من قلة ولادة غنمها فدعا لها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بالبركة في غنمها فكثرت. (3)
وغلامهما وحشي بن حرب، قاتل حمزة هرب إلى الطائف ثم قدم في وفد أهله على
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأسلم، فسأله عن كيفية قتل حمزة فأخبره، فبكى (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال له: غيب
وجهك عني. (4)
ولما دخل (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة نادى قريش فقال: " يا معشر قريش، ما ترون إني فاعل بكم؟
قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم. " قال: " اذهبوا، فأنتم الطلقاء. " فعفا عنهم

1 - أصول الكافي 2 / 108، كتاب الإيمان والكفر، باب العفو، الحديث 9; ونحوه في سيرة
ابن هشام 3 / 352.
2 - سيرة ابن هشام 4 / 46; والكامل لابن الأثير 2 / 245.
3 - الكامل لابن الأثير 2 / 251.
4 - الكامل لابن الأثير 2 / 250.
794

وكان الله قد أمكنه منهم وكانوا له فيئا. (1)
إلى غير ذلك مما عامل به المشركين في فتح مكة وقد كان رؤساء مكة حاربوه في
غزوات كثيرة وقتلوا المسلمين، فعفا عنهم ولم ينتقم حتى من قاتل عمه حمزة ومن هند
آكلة الأكباد.
27 - وفي غزوة حنين بعدما ظفر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على هوازن بدأ بقسمة الغنائم فقسمها،
ثم قدم عليه هوازن مسلمين فرد عليهم السبي، وسألهم عن رئيسهم مالك بن عوف
النصري فقالوا: هو مع ثقيف بالطائف، فقال: أخبروه أنه إن أتاني مسلما رددت عليه أهله
وماله وأعطيته مأة من الإبل. فلما أخبروا مالكا بذلك ركب مستخفيا فأدرك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
بالجعرانة، وقيل: بمكة، فرد عليه أهله وماله وأعطاه مأة من الإبل كما وعده، وحسن
إسلامه. وقال حين أسلم يمدح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)... واستعمله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على من أسلم من
قومه، فكان يقاتل بهم ثقيفا لا يخرج لهم سرح إلا أغار عليه وضيق عليهم حتى أسلموا،
وشهد فتح القادسية وفتح دمشق في خلافة عمر. (2)
ومالك بن عوف هو الذي جمع الجموع في حنين ضد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكانوا ثلاثين
ألفا ثم بعد الانهزام فر إلى الطائف.
فانظر إلى سعة صدر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنه كيف كان يعامل مقاتليه بعد أن أظفره الله
عليهم.
فعلى إمام المسلمين وقائدهم العفو والإغماض عن خطايا الأمة مهما تيسر ذلك و
لم يوجب تعطيل الحقوق والحدود ولا تجري الكفار والمجرمين.
ولا ينافي هذا أمثال قوله - تعالى -: " يا أيها النبي، جاهد الكفار والمنافقين واغلظ
عليهم " (3)، وقوله: " محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم. " (4) إذ
موردها

1 - الكامل لابن الأثير 2 / 252; ونحوه في سيرة ابن هشام 4 / 55.
2 - سيرة زيني دحلان المطبوع بحاشية السيرة الحلبية 2 / 306; ونحوه في سيرة ابن هشام
4 / 133.
3 - سورة التحريم (66)، الآية 9.
4 - سورة الفتح (48)، الآية 29.
795

صورة المواجهة والتهاجم وإعدادهم القوى لذلك أو نقضهم العهود مرة بعد مرة، كما
صنع بنو قريظة ويهود المدينة. ومورد العفو والرحمة صورة الانتصار والتسلط عليهم و
الأمن من هجومهم وتوطئتهم، كما لا يخفى على أهله.
وفي الغرر والدرر: " جمال السياسة العدل في الإمرة، والعفو مع القدرة. " (1)
وفيه أيضا: " ظفر الكرام عفو وإحسان. ظفر اللئام تجبر وطغيان. " (2) هذا.
أقول: ويمكن أن يستفاد من أمثال هذه الوقائع، وكذا من قصة عفو أمير المؤمنين (عليه السلام)
لأصحاب الجمل، بعدما ظفر عليهم وفيهم الرؤساء كمروان وعبد الله بن الزبير وأمثالهما
وفي رأسهم أم المؤمنين عائشة مع ما سببوا لقتل كثير من المسلمين، أنه في موارد الحرب
وقتال جيش ضد جيش وانتصار أحدهما على الآخر تكون رعاية المصالح العامة أولى
وأقدم من رعاية الحقوق الشخصية الفردية، وأمر الانتقام والعفو فيها إلى الإمام، وحكم
القصاص والتغريم المالي بلحاظ الحقوق الفردية إنما يجريان في الموارد الشخصية
الحادثة في خلال المجتمع لا في هذه الموارد العامة التي يظفر فيها نظام على نظام، بل
لعل الدليل عليهما منصرف عن أمثالها.
فرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عفا عن مشركي مكة وهم قد شاركوا في إراقة دماء المسلمين في
بدر وأحد وغيرهما من المعارك، وعفا عن مثل وحشي قاتل عمه حمزة من غير أن
يسترضي فيه بنت حمزة ووراثه، وعفا عن مالك بن عوف المسبب لقتل كثير من
المسلمين في هوازن.
وأمير المؤمنين (عليه السلام) عفا عن أصحاب الجمل وقد قال فيهم على ما في نهج البلاغة:
" فقدموا على عاملي بها وخزان بيت مال المسلمين وغيرهم من أهلها فقتلوا طائفة
صبرا وطائفة غدرا. فوالله لو لم يصيبوا من المسلمين إلا رجلا واحدا معتمدين لقتله
بلا جرم جره لحل لي قتل ذلك

1 - الغرر والدرر 3 / 375، الحديث 4792.
2 - الغرر والدرر 4 / 273 و 274، الحديث 6044 و 6045.
796

الجيش كله، إذ حضروه فلم ينكروا ولم يدفعوا عنه بلسان ولا بيد، دع ما أنهم قد قتلوا
من المسلمين مثل العدة التي دخلوا بها عليهم. " (1)
فهذه نكتة فقهية ينبغي أن يلاحظها الفقيه إذ بها يفتتح باب واسع في الفقه.
ويمكن أن تقرب هذه المسألة - بعد دلالة سيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) عليها -
بوجوه:
الأول: أن أدلة القصاص والضمان وإن كانت مطلقة ولكن مع تزاحم الملاكات تتقدم
المصالح العامة لأهميتها على المصالح الخاصة، فيجوز للإمام العفو عن الجيش الكافر أو
الباغي بعد الغلبة عليه إذ رأى ذلك صلاحا للإسلام والأمة، حيث إنه بذلك تنجذب الفئة
الكافرة أو الباغية إلى الإسلام.
الثاني: أن حق القصاص وإن جعل لولي الدم مطلقا ولكن الإمام ولى الأولياء و
يكون أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فتقدم ولايته على ولاية ولى الدم كما تقدم ولاية الجد
على ولاية الأب مع التعارض.
ولعله على هذا الأساس جعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كل دم كان في الجاهلية تحت قدميه.
الثالث: أن أدلة القصاص والضمان منصرفة عن صورة مقابلة جيش لجيش ونظام
لنظام، حيث إن كلا من الطرفين بإقدامه على الحرب كأنه جعل نفسه وماله باختياره في
معرض التلف. فالمعتدي باعتدائه أهدر ماله ودمه، والمؤمن بإقدامه على الجهاد باع
نفسه وماله في سبيل الله.
ولا يتوهم أن الإغماض عن مثل أبي سفيان وأمثالهم كان لإسلامهم وأن

1 - نهج البلاغة، فيض / 556; عبده 2 / 104; لح / 247، الخطبة 172.
797

الإسلام يجب ما قبله، إذا الجب كان في مقام الامتنان، ولا امتنان في إسقاط
الضمانات والحقوق. فلو كان كافر مدينا لمسلم ثم أسلم فهل يمكن الالتزام بجب
الإسلام لدينه؟ فمورد الجب التكاليف والأحكام، فتدبر.
28 - وفي سنن ابن ماجة بسنده عن ابن مسعود، قال: " أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رجل فكلمه
فجعل ترعد فرائصه، فقال له: هون عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة تأكل
القديد. " (1) هذا.
وإنما تعرضنا في هذا الباب للآيات والروايات الواردة في خلق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأدبه و
عشرته وعفوه ورحمته لأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أول من أسس الدولة الإسلامية وأول إمام وقدوة
للمسلمين، فعلى الأمة الإسلامية ولا سيما أئمتهم وقادتهم والمنصوبين من قبلهم
الايتمام به في سيرته وأخلاقه وأعماله، كما قال الله - تعالى - في كتابه: " لقد كان لكم
في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا. " (2)
ولم يصح خلو الباب المعقود لبيان سيرة الإمام وأخلاقه من بيان سيرة أول من أقام
الحكم الإسلامي وأسس أساسه. كما أنه من المتوقع من حكام المسلمين ونوابهم في
جميع الأعصار التفقه في سيرته (صلى الله عليه وآله وسلم) وأعماله الفردية والعائلية، وفي عباداته و
معاملاته، وفي غزواته وسراياه، وفي معاملته مع من كانت تحت حكمه ومع أعدائه و
مخالفيه. هذا.
29 - وفي الكافي بسنده عن حنان، عن أبيه، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا تصلح الإمامة إلا لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن معاصي
الله، وحلم يملك به غضبه، وحسن الولاية على من يلي حتى يكون لهم كالوالد
الرحيم. " وفي رواية أخرى: " حتى يكون للرعية كالأب الرحيم. " (3)

1 - سنن ابن ماجة 2 / 1101، كتاب الأطعمة، الباب 30، الحديث 3312.
2 - سورة الأحزاب (33)، الآية 21.
3 - أصول الكافي 1 / 407، كتاب الحجة، باب ما يجب من حق الإمام على الرعية...، الحديث 8.
798

30 - وفيه أيضا بسنده عن حنان بن سدير الصيرفي، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول:
نعيت إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه وهو صحيح ليس به وجع، قال: نزل به الروح الأمين، قال:
فنادى (صلى الله عليه وآله وسلم): الصلاة جامعة وأمر المهاجرين والأنصار بالسلاح، واجتمع الناس، فصعد
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المنبر فنعى إليهم نفسه ثم قال: أذكر الله الوالي من بعدي على أمتي ألا يرحم
على جماعة المسلمين فأجل كبيرهم ورحم ضعيفهم، ووقر عالمهم (عاملهم خ. ل)، و
لم يضربهم فيذلهم، ولم يفقرهم فيكفرهم، ولم يغلق بابه دونهم فيأكل قويهم ضعيفهم، و
لم يخبزهم في بعوثهم فيقطع نسل أمتي، ثم قال: " قد بلغت ونصحت فاشهدوا. " وقال أبو
عبد الله (عليه السلام) هذا آخر كلام تكلم به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على منبره. (1)
أقول: المراد بالبعوث: الجيوش. وقوله: " لم يخبزهم "، فالمستفاد من البحار ومن
مرآة العقول (2) أنه إما بالخاء المعجمة والباء الموحدة ثم الزاي المعجمة من الخبز بمعنى
السوق الشديد. أو بالجيم والنون والزاي المعجمة من جنزه إذا ستره وجمعه. أو بالجيم
والتاء وتشديد الزاي المعجمة افتعال من اجتز الحشيش إذا قطعه بحيث لم يبق منه شيء.
قال: وفي قرب الإسناد: " ولم يجمرهم في ثغورهم. " (3) وهو أظهر نظرا إلى التعليل.
قال في النهاية:
" في حديث عمر: " لا تجمروا الجيش فتفتنوهم. " تجمير الجيش: جمعهم في الثغور و
حبسهم عن العود إلى أهلهم. " (4)
31 - وفي كنز العمال: " أوصى الخليفة من بعدي بتقوى الله، وأوصيه بجماعة
المسلمين أن يعظم كبيرهم ويرحم صغيرهم، ويوقر عالمهم، وأن لا يضربهم فيذلهم، و
لا يوحشهم فيكفرهم،

1 - أصول الكافي 1 / 406،، كتاب الحجة، باب ما يجب من حق الإمام على الرعية...، الحديث 4.
2 - بحار الأنوار 27 / 247 و 22 / 496; ومرآة العقول 4 / 339 (= ط. القديم 1 / 305).
3 - قرب الإسناد / 48، وفيه " ولم يجهزهم في ثغورهم ".
4 - النهاية لابن الأثير 1 / 292.
799

وأن لا يخصيهم فيقطع نسلهم، وأن لا يغلق بابه دونهم فيأكل قويهم ضعيفهم. " (هق،
عن أبي أمامة). (1)
32 - وفي نهج البلاغة من عهد له (عليه السلام) إلى محمد بن أبي بكر حين قلده مصر: " فاخفض
لهم جناحك وألن لهم جانبك، وابسط لهم وجهك، وآس بينهم في اللحظة والنظرة، حتى
لا يطمع العظماء في حيفك لهم، ولا ييأس الضعفاء من عدلك عليهم، فإن الله - تعالى -
يسائلكم معشر عباده عن الصغيرة من أعمالكم والكبيرة، والظاهرة والمستورة فإن
يعذب فأنتم أظلم، وإن يعف فهو أكرم. " (2)
33 - وفيه أيضا في كتاب له (عليه السلام) إلى بعض عماله: " فاستعن بالله على ما أهمك، و
اخلط الشدة بضغث من اللين، وارفق ما كان الرفق أرفق واعتزم بالشدة حين لا يغني
عنك إلا الشدة، واخفض للرعية جناحك (وأبسط لهم وجهك) وألن لهم جانبك وآس
بينهم في اللحظة والنظرة، والإشارة والتحية حتى لا يطمع العظماء في حيفك، ولا ييأس
الضعفاء من عدلك، والسلام. " (3)
34 - وفيه أيضا من وصية له (عليه السلام) لعبد الله بن عباس عند استخلافه إياه على البصرة:
" سع الناس بوجهك ومجلسك وحكمك وإياك والغضب، فإنه طيرة من الشيطان. " (4)
أقول: في شرح عبده:
" الطيرة: الفأل الشؤم. والغضب يتفأل به الشيطان في نيل مأربه من الغضبان. "
35 - وفيه أيضا: " أما بعد، فإن حقا على الوالي أن لا يغيره على رعيته فضل ناله، ولا
طول

1 - كنز العمال 6 / 47، الباب الأول من كتاب الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14787.
2 - نهج البلاغة، فيض / 886; عبده 3 / 31; لح / 383، الكتاب 27.
3 - نهج البلاغة، فيض / 976; عبده 3 / 85; لح / 420، الكتاب 46.
4 - نهج البلاغة، فيض / 1080; عبده 3 / 149; لح / 465، الكتاب 76.
800

خص به، وأن يزيده ما قسم الله له من نعمه دنوا من عباده وعطفا على إخوانه. ألا و
إن لكم عندي أن لا أحتجز دونكم سرا إلا في حرب، ولا أطوي دونكم أمرا إلا في حكم،
ولا أؤخر لكم حقا عن محله، ولا أقف به دون مقطعه، وان تكونوا عندي في الحق سواء،
فإذا فعلت ذلك وجبت لله عليكم النعمة ولي عليكم الطاعة، وأن لا تنكصوا عن دعوة، و
لا تفرطوا في صلاح، وأن تخوضوا الغمرات إلى الحق. الحديث. " (1)
وروى نحوه في البحار عن كتاب الصفين، فراجع. (2)
أقول: الطول بالفتح: عظيم النعمة والفضل. قوله: " ولا أطوي دونكم أمرا إلا في
حكم "، يعني: لا أدع مشاورتكم في الأمور إلا في حكم صرح به الشرع، حيث إن حكم
الله هو النافذ.
36 - وفيه أيضا في كتابه (عليه السلام) لمالك: " وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم و
اللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين
أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل ويؤتى على أيديهم في العمد
والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه
فإنك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاك، وقد استكفاك أمرهم و
ابتلاك بهم، ولا تنصبن نفسك لحرب الله، فإنه لأيدي لك بنقمته ولا غنى بك عن عفوه و
رحمته، ولا تندمن على عفو. ولا تبجحن بعقوبة ولا تسرعن إلى بادرة وجدت منها
مندوحة، ولا تقولن إني مؤمر آمر فأطاع، فإن ذلك إدغال في القلب ومنهكة للدين و
تقرب من الغير. " (3)
أقول: يؤتى على أيديهم مبني للمفعول، وعلى أيديهم نائب للفاعل، والمقصود أن
السيئات والخطايا تأتي على أيديهم. وقوله: لأيدي لك بنقمته، أي لا تقدر على دفعها.

1 - نهج البلاغة، فيض / 982; عبده 3 / 88; لح 424، الكتاب 50.
2 - بحار الأنوار 72 / 354 (= طبعة إيران 75 / 354)، كتاب العشرة، باب أحوال الملوك والأمراء،
الحديث 70; وكتاب وقعة صفين / 107.
3 - نهج البلاغة، فيض / 993; عبده 3 / 93; لح / 427، الكتاب 53.
801

بجح به كفرح لفظا ومعنى. والبادرة: ما يبدر من الحدة والغضب. والمندوحة:
المخلص. والإدغال: الإفساد. ونهكه: أضعفه. والغير: حوادث الدهر وتبدل الدول.
37 - وفيه أيضا من كتاب له (عليه السلام) إلى بعض عماله: " أما بعد، فإن دهاقين أهل بلدك
شكوا منك غلظة وقسوة، واحتقارا وجفوة. ونظرت فلم أرهم أهل لأن يدنوا لشركهم، و
لا أن يقصوا ويجفوا لعهدهم، فالبس لهم جلبابا من اللين تشوبه بطرف من الشدة، وداول
لهم بين القسوة والرأفة، وامزج لهم بين التقريب والإدناء، والإبعاد والإقصاء، إن شاء
الله ". (1)
38 - وفيه أيضا: " وإن من أسخف حالات الولاة عند صالح الناس أن يظن بهم حب
الفخر ويوضع أمرهم على الكبر، وقد كرهت أن يكون جال في ظنكم أني أحب الإطراء
واستماع الثناء، ولست - بحمد الله - كذلك، ولو كنت أحب أن يقال ذلك لتركه انحطاطا
لله - سبحانه - عن تناول ما هو أحق به من العظمة والكبرياء، وربما استحلى الناس
الثناء بعد البلاء فلا تثنوا على بجميل ثناء لإخراجي نفسي إلى الله وإليكم من التقية في
حقوق لم أفرغ من أدائها وفرائض لابد من إمضائها، فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة، و
لا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي
استثقالا في حق قيل لي ولا التماس إعظام لنفسي، فإنه من استثقل الحق أن يقال له أو
العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه، فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل،
فإني لست في نفسي بفوق أن أخطئ ولا آمن ذلك من فعلي إلا أن يكفي الله من نفسي
ما هو أملك به مني فإنما أنا وأنتم عبيد مملوكون لرب لا رب غيره، يملك منا ما لا نملك
من أنفسنا. الحديث. " (2)
39 - وفيه أيضا: وقال عليه السلام - وقد لقيه عند مسيره إلى الشام دهاقين الأنبار
فترجلوا له واشتدوا بين يديه فقال: " ما هذا الذي صنعتموه؟ " فقالوا: خلق منا نعظم به
أمراءنا. فقال (عليه السلام): " والله ما ينتفع بهذا أمراؤكم وإنكم لتشقون على أنفسكم في دنياكم، و
تشقون به في آخرتكم، وما أخسر المشقة وراءها العقاب، وأربح الدعة معها الأمان من

1 - نهج البلاغة، فيض / 869; عبده 3 / 21; لح / 376، الكتاب 19.
2 - نهج البلاغة، فيض / 686; عبده 2 / 226; لح / 334، الخطبة 216.
802

النار. " (1)
أقول: ترجلوا، أي نزلوا عن خيولهم مشاة. واشتدوا: أسرعوا. والدعة: الراحة.
40 - وفي فروع الكافي بسنده عن رجل من ثقيف، قال: استعملني علي بن
أبي طالب (عليه السلام) على بانقيا وسواد من سواد الكوفة، فقال لي والناس حضور: " انظر
خراجك فجد فيه ولا تترك منه درهما، فإذا أردت أن تتوجه إلى عملك فمر بي. " قال
فأتيته فقال لي: " إن الذي سمعت منى خدعة، إياك أن تضرب مسلما أو يهوديا أو نصرانيا
في درهم خراج أو تبيع دابة عمل في درهم، فإنما أمرنا أن نأخذ منهم العفو. " ورواه عنه
في البحار. (2)
41 - وفي أصول الكافي بسنده عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، عن آبائه -
عليهم السلام -: " أن أمير المؤمنين (عليه السلام) صاحب رجلا ذميا، فقال له الذمي: أين تريد يا
عبد الله؟ فقال: أريد الكوفة، فلما عدل الطريق بالذمي عدل معه أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال له
الذمي: ألست زعمت أنك تريد الكوفة؟ فقال له: بلى. فقال له الذمي: فقد تركت الطريق،
فقال له: قد علمت. قال: فلم عدلت معي وقد علمت ذلك؟ فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): هذا
من تمام حسن الصحبة أن يشيع الرجل صاحبه هنيئة إذا فارقه، وكذلك أمرنا نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم).
فقال له الذمي: هكذا قال؟ قال: نعم. قال الذمي: لاجرم إنما تبعه من تبعه لأفعاله الكريمة،
فأنا أشهدك أني على دينك. ورجع الذمي مع أمير المؤمنين (عليه السلام)، فلما عرفه أسلم. " (3)
42 - وفيه أيضا بسنده عن عبد الله بن القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " دخل
رجلان على أمير المؤمنين (عليه السلام) فألقى لكل واحد منهما وسادة فقعد عليها أحدهما وأبى
الآخر. فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): اقعد عليها، فإنه لا يأبى الكرامة إلا حمار. ثم قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه. " (4)

1 - نهج البلاغة، فيض / 1104; عبده 3 / 160; لح / 475، الحكمة 37.
2 - فروع الكافي 3 / 540، (= ط. القديم 1 / 152)، كتاب الزكاة، باب أدب المصدق، الحديث 8; و
في بحار الأنوار 41 / 128، تاريخ أمير المؤمنين (عليه السلام)، الباب 107 (باب جوامع مكارم أخلاقه)،
الحديث 37.
3 - أصول الكافي 2 / 670، كتاب العشرة، باب حسن الصحابة وحق الصاحب في السفر، الحديث
5.
4 - أصول الكافي 2 / 659، كتاب العشرة، باب إكرام الكريم، الحديث 1.
803

43 - وفي المناقب عن مختار التمار، عن أبي مطر البصري " أن أمير المؤمنين (عليه السلام) مر
بأصحاب التمر فإذا هو بجارية تبكي، فقال: يا جارية، ما يبكيك؟ فقالت: بعثني مولاي
بدرهم فابتعت من هذا تمرا فأتيتهم به فلم يرضوه، فلما أتيته به أبى أن يقبله. قال: يا
عبد الله، إنها خادم وليس لها أمر فاردد إليها درهمها وخذ التمر. فقام إليه الرجل فلكزه.
فقال الناس: هذا أمير المؤمنين (عليه السلام). فربا الرجل واصفر وأخذ التمر ورد إليها درهمها ثم
قال: يا أمير المؤمنين ارض عني. فقال: ما أرضاني عنك إن أصلحت أمرك. وفي فضائل
أحمد: إذا وفيت الناس حقوقهم.
ودعا (عليه السلام) غلاما له مرارا فلم يجبه، فخرج فوجده على باب البيت فقال: ما حملك
على ترك إجابتي؟ قال: كسلت عن إجابتك وأمنت عقوبتك. فقال: الحمد لله الذي
جعلني ممن يأمنه خلقه. امض فأنت حر لوجه الله...
وكان على (عليه السلام) في صلاة الصبح فقال ابن الكواء من خلفه: " ولقد أوحى إليك وإلى
الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين. " (1) فأنصت على (عليه السلام)
تعظيما للقرآن حتى فرغ من الآية، ثم عاد في قراءته، ثم أعاد ابن الكواء الآية فانصت
على (عليه السلام) أيضا ثم قرأ، ثم أعاد ابن الكواء فأنصت على (عليه السلام) ثم قال: " فاصبر، إن وعد الله
حق، ولا يستخفنك الذين لا يوقنون. " ثم أتم وركع...
وجاء أبو هريرة - وكان يتكلم فيه وأسمعه في اليوم الماضي - وسأله حوائجه
فقضاها فعاتبه أصحابه على ذلك، فقال: إني لأستحي أن يغلب جهله علمي، وذنبه
عفوي، ومسألته جودي. " ورواه عنه في البحار. (2)
أقول: اللكز: الضرب بجمع الكف. والربو والربوة: انتفاخ الجوف وعلة تحدث في
الرئة فتصير النفس صعبا. وابن الكواء كان من رؤساء الخوارج واسمه عبد الله.

1 - سورة الزمر (39)، الآية 65.
2 - مناقب ابن شهرآشوب 1 / 379; وبحار الأنوار 41 / 48، تاريخ أمير المؤمنين (عليه السلام)، الباب 104
(باب حسن خلقه)، الحديث 1.
804

44 - وفي المناقب أيضا عن العقد ونزهة الأبصار: " وأسر مالك الأشتر يوم الجمل
مروان بن الحكم فعاتبه (عليه السلام) وأطلقه. وقالت عائشة يوم الجمل: ملكت فأسجح (1)،
فجهزها أحسن الجهاز وبعث معها بتسعين امرأة أو سبعين. واستأمنت لعبد الله بن الزبير
على لسان محمد بن أبي بكر فآمنه وآمن معه سائر الناس. وجئ بموسى بن طلحة بن
عبيد الله فقال له: قل: أستغفر الله وأتوب إليه ثلاث مرات، وخلى سبيله وقال: اذهب
حيث شئت، وما وجدت لك في عسكرنا من سلاح أو كراع فخذه واتق الله فيما تستقبله
من أمرك واجلس في بيتك. " ورواه عنه في البحار. (2)
45 - وفي شرح ابن أبي الحديد المعتزلي:
" وقد علمتم ما كان من عائشة في أمره، فلما ظفر بها أكرمها، وبعث معها إلى المدينة
عشرين امرأة من نساء عبد القيس عممهن بالعمائم، وقلدهن بالسيوف. فلما كانت ببعض
الطريق ذكرته بما لا يجوز أن يذكر به، وتأففت وقالت: هتك ستري برجاله وجنده الذين
وكلهم بي، فلما وصلت المدينة ألقى النساء عمائمهن وقلن لها: إنما نحن نسوة.
وحاربه أهل البصرة، وضربوا وجهه ووجوه أولاده بالسيوف وشتموه ولعنوه، فلما
ظفر بهم رفع السيف عنهم ونادى مناديه في أقطار العسكر: ألا لا يتبع مول ولا يجهز على
جريح ولا يقتل مستأسر، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن تحيز إلى عسكر الإمام فهو
آمن.
ولم يأخذ أثقالهم ولا سبي ذراريهم، ولا غنم شيئا من أموالهم. ولو شاء أن يفعل كل
ذلك لفعل، ولكنه أبى إلا الصفح والعفو، وتقيل سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم فتح مكة،
فإنه
عفا والأحقاد لم تبرد والإساءة لم تنس. " (3)

1 - أسجح الوالي: أحسن العفو.
2 - مناقب ابن شهرآشوب 1 / 381; وبحار الأنوار 41 / 50، تاريخ أمير المؤمنين (عليه السلام)، باب حسن
خلقه، الحديث 2.
3 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 / 23.
805

أقول: تقيل أباه: أشبهه.
46 - وفي أنساب الأشراف للبلاذري في أمر وقعة النهروان: " وكان على (عليه السلام) يقول:
إنا لا نمنعهم الفيء ولا نحول بينهم وبين دخول مساجد الله ولا نهيجهم ما لم يسفكوا دما
وما لم ينالوا محرما. " (1)
47 - وفي مصنف ابن أبي شيبة بسنده عن كثير بن نمر، قال: بينا أنا في الجمعة وعلي
بن أبي طالب على المنبر إذ جاء رجل فقال: لاحكم إلا لله، ثم قام آخر فقال: لاحكم إلا
لله، ثم قاموا من نواحي المسجد يحكمون الله. فأشار عليهم بيده: اجلسوا. نعم، لاحكم
إلا لله، كلمة حق يبتغى بها باطل، حكم الله ينتظر فيكم. ألا إن لكم عندي ثلاث خلال ما
كنتم معنا: لن نمنعكم مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، ولا نمنعكم فيئا ما كانت أيديكم مع
أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلوا. ثم أخذ في خطبته. " (2)
ورواه عنه البيهقي في سننه. وروى البيهقي قريبا من ذلك أيضا عن الشافعي، عن
على فراجع. (3)
48 - وفي الوسائل عن قرب الإسناد بسنده عن مسعدة بن زياد، عن جعفر، عن
أبيه (عليه السلام) أن عليا (عليه السلام) لم يكن ينسب أحدا من أهل حربه إلى الشرك ولا إلى النفاق، ولكنه
كان يقول: " هم إخواننا بغوا علينا. " (4)
قال في الوسائل: " هذا محمول على التقية. "
أقول: ووجهه غير واضح، فإن الظاهر أن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يعاملهم معاملة
المسلمين.
49 - وروى قريبا من هذه الرواية ابن أبي شيبة في مصنفه، فروى بسنده عن

1 - أنساب الأشراف 2 / 359.
2 - مصنف ابن أبي شيبة 15 / 327، كتاب الجمل، الحديث 19776.
3 - سنن البيهقي 8 / 184، كتاب قتال أهل البغي، باب القوم يظهرون رأى الخوارج...
4 - الوسائل 11 / 62، الباب 26 من أبواب جهاد العدو، الحديث 10.
806

أبي البختري قال: سئل على عن أهل الجمل، قال: قيل: أمشركون هم؟ قال: من الشرك
فروا. قيل: أمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا. قيل: فما هم؟ قال:
إخواننا بغوا علينا. (1)
أقول: فانظر إلى سعة صدر أمير المؤمنين إمام المسلمين وأنه كيف كان يحتمل
مخالفيه وأهل حربه وأنه كان يواجههم بالصفح والعفو وحسن العبارة.
50 - وفي المناقب عن زاذان: أنه (عليه السلام) كان يمشي في الأسواق وحده وهو ذاك يرشد
الضال ويعين الضعيف ويمر بالبياع والبقال فيفتح عليه القرآن ويقرأ: تلك الدار الآخرة
نجعلها... (2)
51 - وفي كنز العمال عن ابن عساكر، عن زاذان، عن على (عليه السلام) أنه كان يمشي في
الأسواق وحده وهو وال يرشد الضال وينشد الضال ويعين الضعيف ويمر بالبياع و
البقال فيفتح عليه القرآن ويقرأ: " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في
الأرض ولا فسادا " (3)، ويقول: نزلت هذه الآية في أهل العدل والتواضع من الولاة و
أهل القدرة من سائر الناس. (4)
52 - وفي كتاب الجمل للشيخ المفيد عن الواقدي، عن رجاله، قال: لما أراد
أمير المؤمنين (عليه السلام) الخروج من البصرة استخلف عليها عبد الله بن عباس ووصاه وكان في
وصيته له أن قال: " يا ابن عباس، عليك بتقوى الله والعدل بمن وليت عليه وأن تبسط
للناس وجهك وتوسع عليهم مجلسك وتسعهم بحلمك. وإياك والغضب، فإنه طيرة
الشيطان. وإياك والهوى، فإنه يصدك عن سبيل الله. واعلم أن ما قربك من الله فهو
مباعدك من النار، وما باعدك من الله فمقربك من النار. واذكر الله كثيرا ولا تكن من
الغافلين. " وقد مر نحوه عن نهج البلاغة. (5)

1 - مصنف ابن أبي شيبة 15 / 256، كتاب الجمل، الحديث 19609.
2 - مناقب ابن شهرآشوب 1 / 372.
3 - سورة القصص (28)، الآية 83.
4 - كنز العمال 13 / 180، كتاب الفضائل من قسم الأفعال، باب فضائل الصحابة، الحديث 36538.
5 - كتاب الجمل / 223; ونهج البلاغة، فيض / 1080; عبده 3 / 149; لح / 465، الكتاب 76.
807

53 - وفي الوسائل عن الشهيد الثاني في رسالة الغيبة بسنده عن النوفلي، قال كنت
عند جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) فإذا بمولى لعبد الله النجاشي قد ورد عليه فسلم وأوصل
إليه كتابه ففضه وقرأه وإذا أول سطر فيه: " بسم الله الرحمن الرحيم (إلى أن قال): إني
بليت بولاية الأهواز فإن رأى سيدي ومولاي أن يحد لي حدا أو يمثل لي مثالا...
فأجابه أبو عبد الله (عليه السلام): بسم الله الرحمن الرحيم... واعلم أني سأشير عليك برأي إن
أنت عملت به تخلصت مما أنت متخوفه، واعلم أن خلاصك مما بك (ونجاتك خ. ل) من
حقن الدماء وكف الأذى عن أولياء الله، والرفق بالرعية، والتأني وحسن المعاشرة مع
لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف، ومداراة صاحبك، ومن يرد عليك من رسله، و
ارتق فتق رعيتك بأن توقفهم على ما وافق الحق والعدل إن شاء الله. وإياك والسعاة و
أهل النمائم، فلا يلتزقن بك أحد منهم. ولا يراك الله يوما وليلة وأنت تقبل منهم صرفا و
لا عدلا فيسخط الله عليك... " والحديث طويل، فراجع. (1)
54 - وفي تحف العقول عن الإمام الصادق (عليه السلام): " أفضل الملوك من أعطي ثلاث
خصال: الرأفة، والجود، والعدل. وليس يحب للملوك أن يفرطوا في ثلاث: في حفظ
الثغور، وتفقد المظالم، واختيار الصالحين لأعمالهم... ثلاثة تجب على السلطان للخاصة
والعامة: مكافأة المحسن بالإحسان ليزدادوا رغبة فيه، وتغمد ذنوب المسئ ليتوب و
يرجع عن غيه، وتألفهم جميعا بالإحسان والإنصاف. " (2)
55 - وفي أصول الكافي بسند صحيح عن معاوية بن وهب، قال: قلت له: كيف ينبغي
لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا وبين خلطائنا من الناس ممن ليسوا على أمرنا؟ قال:
" تنظرون إلى أئمتكم الذين تقتدون بهم فتصنعون ما يصنعون فوالله إنهم ليعودون
مرضاهم ويشهدون جنائزهم ويقيمون الشهادة لهم وعليهم ويؤدون الأمانة إليهم. " (3)

1 - الوسائل 12 / 150 - 152، الباب 49 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1، عن رسالة
الغيبة / 122.
2 - تحف العقول / 319.
3 - أصول الكافي 2 / 636، كتاب الشعرة، باب ما يجب من المعاشرة، الحديث 4.
808

56 - وفيه أيضا بسند صحيح عن معاوية بن وهب أيضا، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):
كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا وفيما بيننا وبين خلطائنا من الناس؟ قال:
فقال: " تؤدون الأمانة إليهم وتقيمون الشهادة لهم وعليهم وتعودون مرضاهم ويشهدون
جنائزهم. " (1)
إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في هذا المجال، فراجع.
أقول: وقد عثرت بعد جمع هذه الروايات وتنظيمها على رواية لها نظر إلى مضمون
روايتي مسعدة وأبي البختري (الرقم 48 و 49)، فلنتعرض لها هنا استدراكا، وهي ما
رواه العياشي في تفسير سورة الأعراف بسنده، قال: " جاء رجل من أهل الشام إلى على
بن الحسين (عليه السلام) فقال: أنت علي بن الحسين؟ قال: نعم. قال: أبوك الذي قتل المؤمنين؟
فبكى علي بن الحسين (عليه السلام) ثم مسح عينيه فقال: ويلك! كيف قطعت على أبي أنه قتل
المؤمنين؟ قال: قوله: إخواننا قد بغوا علينا، فقاتلناهم على بغيهم. فقال: ويلك! أما تقرأ
القرآن؟ قال بلى. قال: فقد قال الله: " وإلى مدين أخاهم شعيبا "، " وإلى ثمود أخاهم
صالحا "; فكانوا إخوانهم في دينهم أو في عشيرتهم؟ قال له الرجل: لا، بل في عشيرتهم.
قال: فهؤلاء إخوانهم في عشيرتهم، وليسوا إخوانهم في دينهم. قال: فرجت عني، فرج
الله عنك. " (2)

1 - أصول الكافي 2 / 635، كتاب العشرة، باب ما يجب من المعاشرة، الحديث 2.
2 - تفسير العياشى 2 / 20، والآية الأولى في سور الأعراف (7)، الرقم 85، وهود (11)، الرقم 84،
والعنكبوت (29)، الرقم 36; والآية الثانية في سورة هود (11)، الرقم 61.
809

الفصل الثاني
في أنه على الإمام أن لا يحتجب عن رعيته
1 - في البحار عن عيون أخبار الرضا بسنده عن الحسين بن علي (عليه السلام)، عن أبيه في
وصف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " إذا آوى إلى منزله جزأ دخوله ثلاثة أجزاء: جزء لله، وجزء لأهله، و
جزء لنفسه. ثم جزأ جزءه بينه وبين الناس فيرد ذلك بالخاصة على العامة، ولا يدخر
عنهم منه شيئا. وكان من سيرته في جزء الأمة إيثار أهل الفضل بإذنه وقسمه على قدر
فضلهم في الدين، فمنهم ذو الحاجة، ومنهم ذوا الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج، فيتشاغل
بهم ويشغلهم فيما أصلحهم والأمة: من مسألته عنهم، وإخبارهم بالذي ينبغي، ويقول:
ليبلغ الشاهد منكم الغائب، وأبلغوني حاجة من لا يقدر على الإبلاغ حاجته، فإنه من أبلغ
سلطانا حاجة من لا يقدر على إبلاغها ثبت الله قدميه يوم القيامة. الحديث ". (1)
وروى نحوه في كنز العمال عن هند بن أبي هالة، فراجع. (2)
قال المجلسي في البحار:

1 - بحار الأنوار 16 / 150، تاريخ نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) باب أوصافه...، الحديث 4.
2 - كنز العمال 7 / 163، كتاب الشمائل من قسم الأفعال، باب في حليته (صلى الله عليه وآله وسلم)، الحديث 18535.
811

" قوله " يرد ذلك بالخاصة على العامة "، معناه أنه كان يعتمد في هذه الحال على أن
الخاصة يرفع إلى العامة علومه وآدابه وفوائده. وفيه قول آخر: فيرد ذلك بالخاصة على
العامة أن يجعل المجلس للعامة بعد الخاصة. "
2 - وفي نهج البلاغة في كتابه (عليه السلام) لمالك: " وأما بعد، فلا تطولن احتجابك عن رعيتك،
فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق وقلة علم بالأمور، والاحتجاب منهم
يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير، ويعظم الصغير، ويقبح الحسن، و
يحسن القبيح ويشاب الحق بالباطل، وإنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به
من الأمور، وليست على الحق سمات تعرف بها ضروب الصدق من الكذب، وإنما أنت
أحد رجلين: إما امرؤ سخت نفسك بالبذل في الحق، ففيم احتجابك؟ من واجب حق
تعطيه، أو فعل كريم تسديه؟ أو مبتلى بالمنع. فما أسرع كف الناس عن مسألتك إذا أيسوا
من بذلك. مع أن أكثر حاجات الناس إليك مما لا مؤونة فيه عليك من شكاة مظلمة أو
طلب إنصاف في معاملة. " (1)
وروى نحوه في كنز العمال عن ابن عساكر والدينوري، فراجع (2).
3 - وفيه أيضا من كتاب له (عليه السلام) إلى قثم بن العباس، وهو عامله على مكة: " أما بعد،
فأقم للناس الحج، وذكرهم بأيام الله، واجلس لهم العصرين، فأفت المستفتي، وعلم
الجاهل، وذاكر العالم، ولا يكن لك إلى الناس سفير إلا لسانك ولا حاجب إلا وجهك، و
لا تحجبن ذا حاجة عن لقائك بها، فإنها إن ذيدت عن أبوابك في أول وردها لم تحمد فيما
بعد على قضائها. " (3)
أقول: العصران: الغداة والعشي. إن ذيدت، أي دفعت الحاجة. والورد بالكسر: الورود.
4 - وفي البحار عن أمالي الصدوق بسنده عن الصادق (عليه السلام)، قال: " من تولى أمرا من
أمور الناس فعدل، وفتح بابه ورفع شره، ونظر في أمور الناس كان حقا على الله -
عز وجل -

1 - نهج البلاغة، فيض / 1024; عبده 3 / 114; لح / 441، الكتاب 53.
2 - كنز العمال 13 / 185، كتاب الفضائل من قسم الأفعال، باب فضائل الصحابة، الحديث 36553.
3 - نهج البلاغة، فيض / 1062; عبده 3 / 140; لح / 457، الكتاب 67.
812

أن يؤمن روعته يوم القيامة ويدخله الجنة. " (1)
5 - وفيه أيضا عن الخصال بسنده عن هشام بن معاذ، قال: " دخل الباقر (عليه السلام) على عمر
بن عبد العزيز فوعظه وكان فيما وعظه: يا عمر افتح الأبواب، وسهل الحجاب، وانصر
المظلوم، ورد المظالم. " (2)
6 - وفيه أيضا عن ثواب الأعمال بسنده عن ابن نباتة، عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال:
" أيما وال احتجب عن حوائج الناس احتجب الله يوم القيامة عن حوائجه، وإن أخذ
هدية كان غلولا، وإن أخذ رشوة فهو مشرك. " (3)
7 - وفي مسند أحمد بسنده عن عمرو بن مرة الجهني أنه قال لمعاوية: يا معاوية، إني
سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " ما من إمام أو وال يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة و
المسكنة إلا أغلق الله - عز وجل - أبواب السماء دون حاجته وخلته ومسكنته. " (4)
8 - وفي كنز العمال: " من ولاه الله شيئا من أمور المسلمين فاحتجب دون حاجتهم و
خلتهم وفقرهم احتجب الله عنه يوم القيامة دون حاجته وخلته وفقره. " (د وابن سعد و
البغوي، عن أبي مريم الأزدي) (5)
9 - وفيه أيضا: " من ولي من أمر المسلمين شيئا فاحتجب عن ضعفة المسلمين و
أولي الحاجة

1 - بحار الأنوار 72 / 340 (= طبعة إيران 75 / 340)، كتاب العشرة، الباب 81 (باب أحوال الملوك
والأمراء)، الحديث 18.
2 - بحار الأنوار 72 / 344 (= طبعة إيران 75 / 344)، كتاب العشرة، باب الأحوال الملوك و
الأمراء، الحديث 36.
3 - بحار الأنوار 72 / 345 (= طبعة إيران 75 / 345)، كتاب العشرة، باب الأحوال الملوك و
الأمراء، الحديث 42.
4 - مسند أحمد 4 / 231.
5 - كنز العمال 6 / 35، الباب الأول من كتاب الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14739، ونحوه
الحديث 14740 وغيره.
813

احتجب الله عنه يوم القيامة. " (حم طب، عن معاذ). (1)
10 - وفيه أيضا عن علي (عليه السلام)، قال: " ثلاثة من كن فيه من الأئمة صلح أن يكون إماما
اضطلع بأمانته: إذا عدل في حكمه، ولم يحتجب دون رعيته، وأقام كتاب الله - تعالى -
في القريب والبعيد. " (الديلمي) (2)
11 - وفي مسند زيد عن علي (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أيما وال احتجب من
حوائج الناس احتجب الله منه يوم القيامة. " (3)
وبالجملة، فمقتضى هذه الأخبار أن على الإمام أن لا يحتجب عن رعيته بالكلية، و
الرعية عامة تشمل جميع طبقات المجتمع اللهم إلا أن يكون هناك مانع خاص وشرائط
خاصة كما يستفاد من بعض الأخبار، فراجع.
أقول: ويناسب هنا نقل كلامين في هذا الباب عن الخليفة الثاني:
ففي المصنف لعبد الرزاق الصنعاني، عن معمر، عن عاصم بن أبي النجود:
" أن عمر بن الخطاب كان إذا بعث عماله شرط عليهم أن لا تركبوا برذونا ولا تأكلوا
نقيا، ولا تلبسوا رقيقا، ولا تغلقوا أبوابكم دون حوائج الناس. فإن فعلتم شيئا من ذلك
فقد حلت بكم العقوبة. " قال: ثم شيعهم فإذا أراد أن يرجع قال: " إني لم أسلطكم على
دماء المسلمين ولا على أعراضهم ولا على أموالهم، ولكني بعثتكم لتقيموا بهم الصلاة و
تقسموا فيئهم وتحكموا بينهم بالعدل، فإن أشكل عليكم شيء فارفعوه إلى... " (4)
وفي كنز العمال عن إبراهيم، قال:

1 - كنز العمال 6 / 36، الباب 1 من كتاب الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14742.
2 - كنز العمال 5 / 764، الباب 2 من كتاب الخلافة مع الإمارة من قسم الأفعال، الحديث 14315.
3 - مسند زيد / 323، كتاب السير، باب طاعة الإمام.
4 - المصنف 11 / 324، باب الإمام راع، الحديث 20662.
814

كان عمر إذا استعمل عاملا فقدم إليه الوفد من تلك البلاد قال: كيف أميركم أيعود
المملوك؟ أيتبع الجنازة؟ كيف بابه؟ ألين هو؟ فإن قالوا: بابه لين ويعود المملوك تركه و
إلا بعث إليه ينزعه. (هناد) (1)

1 - كنز العمال 5 / 770، الباب 2 من كتاب الخلافة مع الإمارة من قسم الأفعال، الحديث 14336.
815

الفصل الثالث
في سيرة الإمام في مطعمه وملبسه وإعراضه عن الدنيا وزخارفها
1 - ففي نهج البلاغة: " وكذلك من عظمت الدنيا في عينه وكبر موقعها في قلبه آثرها
على الله فانقطع إليها وصار عبدا لها. وقد كان في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كاف لك في الأسوة، و
دليل لك على ذم الدنيا وعيبها، وكثرة مخازيها ومساويها، إذ قبضت عنه أطرافها و
وطئت لغيره أكنافها، وفطم عن رضاعها، وزوي عن زخارفها.
وإن شئت ثنيت بموسى كليم الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ يقول: " رب إني لما أنزلت إلى من خير
فقير. " والله ما سأله إلا خبزا يأكله، لأنه كان يأكل بقلة الأرض. ولقد كانت خضرة البقل
ترى من شفيف صفاق بطنه لهزاله وتشذب لحمه.
وإن شئت ثلثت بداود (صلى الله عليه وآله وسلم) صاحب المزامير، وقارئ أهل الجنة، فلقد كان يعمل
سفائف الخوص بيده ويقول لجلسائه: أيكم يكفيني بيعها؟ ويأكل قرص الشعير من
ثمنها.
وإن شئت قلت في عيسى بن مريم (عليه السلام)، فلقد كان يتوسد الحجر ويلبس الخشن، و
يأكل الجشب، وكان إدامه الجوع وسراجه بالليل القمر، وظلاله في الشتاء مشارق
الأرض ومغاربها، وفاكهته وريحانه ما تنبت الأرض للبهائم، ولم تكن له زوجة تفتنه، و
لا ولد يحزنه، ولا مال يلفته، ولا طمع يذله، دابته رجلاه وخادمه يداه.
817

فتأس بنبيك الأطيب الأطهر (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإن فيه أسوة لمن تأسى، وعزاء لمن تعزى. و
أحب العباد إلى الله المتأسي بنبيه والمقتص لأثره، قضم الدنيا قضما، ولم يعرها طرفا،
أهضم أهل الدنيا كشحا، وأخمصهم من الدنيا بطنا، عرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها، و
علم أن الله - سبحانه - أبغض شيئا فأبغضه، وحقر شيئا فحقره، وصغر شيئا فصغره. و
لو لم يكن فينا إلا حبنا ما أبغض الله ورسوله، وتعظيمنا ما صغر الله ورسوله، لكفى به
شقاقا لله ومحادة عن أمر الله.
ولقد كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يأكل على الأرض، ويجلس جلسة العبد، ويخصف بيده نعله، ويرقع
بيده ثوبه ويركب الحمار العاري ويردف خلفه، ويكون الستر على باب بيته فتكون فيه
التصاوير فيقول: يا فلانة - لإحدى أزواجه - غيبيه عني، فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا
وزخارفها، فأعرض عن الدنيا بقلبه، وأمات ذكرها من نفسه وأحب أن تغيب زينتها عن
عينه، لكيلا يتخذ منها رياشا ولا يعتقدها قرارا، ولا يرجو فيها مقاما، فأخرجها من
النفس، وأشخصها عن القلب، وغيبها عن البصر. وكذلك من أبغض شيئا أبغض أن ينظر
إليه، وأن يذكر عنده.
ولقد كان في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما يدلك على مساوي الدنيا وعيوبها، إذ جاع فيها مع
خاصته، وزويته عنه زخارفها مع عظيم زلفته. فلينظر ناظر بعقله، أكرم الله محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم)
بذلك أم أهانه؟ فإن قال: " أهانه " فقد كذب وأتى بالإفك العظيم. وإن قال: " أكرمه "
فليعلم أن الله قد أهان غيره حيث بسط الدنيا له، وزواها عن أقرب الناس منه، فتأسى
متأس بنبيه واقتص أثره، وولج مولجه، وإلا فلا يأمن الهلكة، فإن الله جعل محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم)
علما للساعة، ومبشرا بالجنة، ومنذرا بالعقوبة، خرج من الدنيا خميصا، وورد الآخرة
سليما، لم يضع حجرا على حجر حتى مضى لسبيله، وأجاب داعي ربه. فما أعظم منة الله
عندنا حين أنعم علينا به سلفا نتبعه، وقائدا نطأ عقبه.
والله لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها. ولقد قال لي قائل: ألا تنبذها
عنك؟ فقلت: اغرب عنى فعند الصباح يحمد القوم السرى. " (1)
أقول: الأسوة بالضم وبالكسر: القدوة. المخازي جمع مخزاة: ما يستحى من ذكره

1 - نهج البلاغة، فيض / 505; عبده 2 / 72; لح / 226، الخطبة 160.
818

لقبحه. والمساوي: العيوب. الأكناف: الجوانب والأطراف. زوي: قبض. شف الثوب
شفا وشفيفا: رق فحكى ما تحته. الصفاق ككتاب: جلد البطن. الهزال بالضم: نقيض
السمن. التشذب: التفرق وانهضام اللحم. ومزامير داود: ما كان يتغنى به من الزبور و
الأدعية. والسفائف جمع السفيفة: النسيجة. الخوص: بالضم: ورق النخل. الجشب:
الخشن الغليظ السيء المأكل. الضلال جمع الظل: المأوى والكن. القضم: الأكل بأطراف
الأسنان بحيث لم يملأ بالشيء فمه وكأنه لم يأكله. لم يعرها طرفا، أي لم يعطها النظر على
وجه العارية فكيف بأن يجعلها مطمح نظره. والهضم: خلو البطن من الجوع. والكشح:
الخاصرة فما دونها. خصف النعل: خرزها. الرياش: اللباس الفاخر. أشخصها: أبعدها. و
المدرعة: ثوب من صوف. والسرى بالضم: السير في الليل. والستر الذي فيه تصاوير
كان على باب عائشة، كما في كنز العمال عن ابن عساكر عن عروة، قال: " كان على باب
عائشة ستر فيه تصاوير فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " يا عائشة أخري هذا، فإني إذا رأيته ذكرت
الدنيا. " (1) هذا.
فليتأمل في هذه الخطبة الشريفة قادة المسلمين ومن جعل نفسه إماما لهم، فليتأسوا
بأنبياء الله وبالنبي الأكرم في سيرتهم ولا يغتروا بزينة الدنيا وزخارفها ليجزيهم الله -
تعالى - بذلك من درجات الآخرة ونعيمها مع أنبيائه وأوليائه.
2 - وفيه أيضا في الخطبة القاصعة: " فلو رخص الله في الكبر لأحد من عباده لرخص
فيه لخاصة أنبيائه وأوليائه، ولكنه - سبحانه - كره إليهم التكابر، ورضي لهم التواضع،
فألصقوا بالأرض خدودهم، وعفروا في التراب وجوههم، وخفضوا أجنحتهم للمؤمنين،
وكانوا أقواما مستضعفين، وقد اختبرهم الله بالمخمصة وابتلاهم بالمجهدة، وامتحنهم
بالمخاوف، ومخضهم بالمكاره. فلا تعتبروا الرضا والسخط بالمال والولد جهلا بمواقع
الفتنة والاختبار، في مواضع الغنى والاقتدار (الإقتار خ. ل)، وقد قال الله - سبحانه و
تعالى -: " أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين * نسارع لهم في الخيرات، بل
لا يشعرون. " (2) فإن الله - سبحانه - يختبر عباده المستكبرين في أنفسهم بأوليائه
المستضعفين في أعينهم.

1 - كنز العمال 7 / 186، كتاب الشمائل من قسم الأفعال، باب شمائل الأخلاق، الحديث 18604.
2 - سورة المؤمنين (23)، الآية 55 و 56.
819

ولقد دخل موسى بن عمران ومعه أخوه هارون - عليهما السلام - على فرعون و
عليهما مدارع الصوف وبأيديهما العصى، فشرطا له إن أسلم بقاء ملكه ودوام عزه، فقال:
" ألا تعجبون من هذين؟ يشرطان لي دوام العز وبقاء الملك وهما بما ترون من حال
الفقر والذل، فهلا ألقي عليهما أساور من ذهب؟! " إعظاما للذهب وجمعه واحتقارا
للصوف ولبسه.
ولو أراد الله - سبحانه - لأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان ومعادن العقيان
ومغارس الجنان، وأن يحشر معهم طير السماء ووحوش الأرض لفعل. ولو فعل لسقط
البلاء، وبطل الجزاء واضمحلت الأنباء، ولما وجب للقابلين أجور المبتلين، ولا استحق
المؤمنون ثواب المحسنين، ولا لزمت الأسماء معانيها، ولكن الله - سبحانه - جعل رسله
أولي قوة في عزائمهم وضعفة فيما ترى الأعين من حالاتهم، مع قناعة تملأ القلوب و
العيون غنى، وخصاصة تملأ الأبصار والأسماع أذى. " (1)
3 - وفي البحار عن أمالي الصدوق بسند صحيح، عن العيص بن القاسم، قال: قلت
للصادق جعفر بن محمد (عليه السلام): حديث يروى عن أبيك (عليه السلام) أنه قال: " ما شبع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
من خبز بر قط. " أهو صحيح؟ فقال: " لا، ما أكل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خبز بر قط ولا شبع من
خبز شعير قط. " (2)
4 - وفيه عن الأمالي، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: " كان فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عباءة و
كانت مرفقته ادم حشوها ليف، فثنيت له ذات ليلة فلما أصبح قال: لقد منعني الفراش
الليلة الصلاة. فأمر (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجعل بطاق واحد. " (3)
5 - وفيه أيضا عن قرب الإسناد بسنده، عن جعفر، عن أبيه (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
لم يورث دينارا ولا درهما ولا عبدا ولا وليدة ولا شاة ولا بعيرا. ولقد قبض (صلى الله عليه وآله وسلم) وإن
درعه مرهونة عند يهودي من يهود المدينة بعشرين صاعا من شعير استلفها نفقة
لأهله. " (4)

1 - نهج البلاغة، فيض / 789; عبده 2 / 167; لح / 290، الخطبة 192.
2 - بحار الأنوار، 16 / 216، تاريخ نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، الباب 9 (باب مكارم أخلاقه...)، الحديث 4.
3 - بحار الأنوار، 16 / 217، تاريخ نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، باب مكارم أخلاقه...، الحديث 5.
4 - بحار الأنوار، 16 / 219، تاريخ نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، باب مكارم أخلاقه، الحديث 8.
820

6 - وفيه أيضا عن الكافي بسنده عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " إياك أن تطمح نفسك إلى
من فوقك، وكفى بما قال الله - عز وجل - لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " فلا تعجبك أموالهم ولا
أولادهم. " (1) وقال الله - عز وجل - لرسوله: " ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا
منهم زهرة الحياة الدنيا. " (2) فإن خفت شيئا من ذلك فاذكر عيش رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)،
فإنما
كان قوته الشعير وحلواه التمر ووقوده السعف إذا وجد. " (3)
7 - وفيه أيضا بسنده عن ابن سنان، عن أبي عبد الله، قال: " إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قوته
الشعير من غير ادم. " (4)
8 - وفيه أيضا عن عيون أخبار الرضا بأسانيده، عن الرضا (عليه السلام)، عن آبائه (عليه السلام)، قال:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أتاني ملك فقال: يا محمد، إن ربك يقرئك السلام ويقول: إن شئت
جعلت لك بطحاء مكة ذهبا، قال: فرفع رأسه إلى السماء وقال: يا رب، أشبع يوما
فأحمدك، وأجوع يوما فأسألك. " (5)
9 - وفيه أيضا عن محاسن البرقي بسنده، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:
" كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يأكل أكل العبد، ويجلس جلوس العبد، ويعلم أنه عبد. "
ورواه أيضا عن الكافي، عن هارون بن خارجة، عن أبي عبد الله (عليه السلام). (6)
10 - وفيه أيضا عن المحاسن بسنده، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " كان
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يأكل أكل العبد، ويجلس جلسة العبد، وكان يأكل على الحضيض، وينام
على الحضيض. "

1 - سورة التوبة (9)، الآية 55.
2 - سورة طه (20)، الآية 131.
3 - بحار الأنوار، 16 / 280، تاريخ نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، باب مكارم أخلاقه، الحديث 120.
4 - بحار الأنوار، 16 / 281، تاريخ نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، باب مكارم أخلاقه، الحديث 125.
5 - بحار الأنوار، 16 / 220، تاريخ نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، باب مكارم أخلاقه، الحديث 12.
6 - بحار الأنوار، 16 / 225 و 262، تاريخ نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، باب مكارم أخلاقه، الحديث 29 و 52.
821

ورواه أيضا عن الكافي، عن جابر عنه (عليه السلام). (1)
11 - وفي أصول الكافي بسند صحيح عن حميد وجابر، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام):
" إن الله جعلني إماما لخلقه، ففرض على التقدير في نفسي ومطعمي ومشربي وملبسي
كضعفاء الناس كي يقتدي الفقير بفقري ولا يطغى الغني غناه. " (2)
12 - وفيه أيضا بسند صحيح عن المعلى بن خنيس، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) يوما
جعلت فداك ذكرت آل فلان وما هم فيه من النعيم فقلت: لو كان هذا إليكم لعشنا معكم.
فقال (عليه السلام): " هيهات يا معلى، أما والله وإن لو كان ذاك ما كان إلا سياسة الليل وسياحة
النهار ولبس الخشن وأكل الجشب فزوي ذلك عنا. فهل رأيت ظلامة قط صيرها الله
نعمة إلا هذه؟ " (3)
13 - وفي البحار عن غيبة النعماني بسنده عن المفضل، قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام)
بالطواف، فنظر إلي وقال لي: يا مفضل، ما لي أراك مهموما متغير اللون؟ قال: فقلت له:
جعلت فداك نظري إلى بني العباس وما في أيديهم من هذا الملك والسلطان و
الجبروت، فلو كان ذلك لكم لكنا فيه معكم، فقال: " يا مفضل، أما لو كان ذلك لم يكن إلا
سياسة الليل، وسياحة النهار وأكل الجشب ولبس الخشن، شبه أمير المؤمنين، وإلا
فالنار، فزوي ذلك عنا فصرنا نأكل ونشرب. وهل رأيت ظلامة جعلها الله نعمة مثل
هذا؟ " (4)
14 - وفيه أيضا عن غيبة النعماني بسنده عن عمرو بن شمر، قال: كنت عند أبي
عبد الله في بيته والبيت غاص بأهله... فقال: " لا تبك يا عمرو، نأكل أكثر الطيب ونلبس
اللين ولو كان الذي تقول لم يكن إلا أكل الجشب ولبس الخشن، مثل أمير المؤمنين علي
بن أبي

1 - بحار الأنوار، 16 / 225 و 262، تاريخ نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، باب مكارم أخلاقه، الحديث 30 و 55.
2 - أصول الكافي 1 / 410، كتاب الحجة، باب سيرة الإمام...، الحديث 1.
3 - أصول الكافي 1 / 410، كتاب الحجة، باب سيرة الإمام...، الحديث 2.
4 - بحار الأنوار 52 / 359، تاريخ الإمام الثاني عشر " ع "، الباب 27 (باب سيره وأخلاقه...)،
الحديث 127.
822

طالب (عليه السلام)، وإلا فمعالجة الأغلال في النار. " (1)
15 - وفي أصول الكافي أيضا بسند صحيح عن حماد بن عثمان، قال: حضرت أبا
عبد الله (عليه السلام) وقال له رجل: أصلحك الله ذكرت أن علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان يلبس
الخشن، يلبس القميص بأربعة دراهم وما أشبه ذلك، ونرى عليك اللباس الجديد. فقال
له: " إن علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان يلبس ذلك في زمان لا ينكر عليه، ولو لبس مثل ذلك
اليوم شهر به، فخير لباس كل زمان لباس أهله، غير أن قائمنا أهل البيت - عليهم السلام -
إذا قام لبس ثياب على (عليه السلام) وسار بسيرة على (عليه السلام). " (2)
أقول: الظاهر عدم معارضة هذه الرواية لغيرها، إذ لا منافاة بين لزوم رعاية أوضاع
الزمان ومقدوراته وتعارفاته وبين لزوم تقدير الإمام نفسه بأضعف أهل زمانه، فتأمل. و
لعله يوجد الفرق بين الإمام المبسوط اليد وبين غيره أيضا.
16 - وفيه أيضا: " علي بن محمد عن صالح بن أبي حماد، وعدة من أصحابنا، عن
أحمد بن محمد، وغيرهما بأسانيد مختلفة في احتجاج أمير المؤمنين (عليه السلام) على عاصم بن
زياد حين لبس العباء وترك الملاء وشكاه أخوه الربيع بن زياد إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه
قد غم أهله وأحزن ولده بذلك. فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): على بعاصم بن زياد. فجيء به،
فلما رآه عبس في وجهه، فقال له: أما استحييت من أهلك؟ أما رحمت ولدك؟ أترى الله
أحل لك الطيبات وهو يكره أخذك منها؟ أنت أهون على الله من ذلك! أو ليس الله يقول:
" والأرض وضعها للأنام * فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام " (3)؟ أوليس الله يقول:
" مرج البحرين يلتقيان * بينهما برزخ لا يبغيان * (إلى قوله) يخرج منها اللؤلؤ و
المرجان " (4)؟ فبالله لابتذال نعم الله بالفعال أحب إليه من ابتذاله لها بالمقال، وقد قال
الله - عز

1 - بحار الأنوار 52 / 360، تاريخ الإمام الثاني عشر (عليه السلام)، باب سيرته وأخلاقه...، الحديث 128.
2 - الكافي 1 / 411، كتاب الحجة، باب سيرة الإمام...، الحديث 4.
3 - سورة الرحمن (55)، الآية 10 و 11.
4 - سورة الرحمن (55)، الآية 19 - 22.
823

وجل -: " وأما بنعمة ربك فحدث. " (1)
فقال عاصم: يا أمير المؤمنين، فعلى ما اقتصرت في مطعمك على الجشوبة، وفي
ملبسك على الخشونة؟ فقال: ويحك، إن الله - عز وجل - فرض على أئمة العدل أن
يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كيلا يتبيغ بالفقير فقره. فألقى عاصم بن زياد العباء ولبس
الملاء. " (2)
أقول: العباء: الكساء من الصوف وهي لباس خشن. والملاء بالضم: الثوب اللين
الرقيق. وفي مرآة العقول: " ابتذال نعمة الله بالفعال بالفتح: أن يصرفها فيما ينبغي متوسعا
من غير ضيق. " (3) وطعام جشب، أي غليظ. وتبيغ به وتبوغ به: هاج به.
17 - وروى القصة في نهج البلاغة بنحو آخر، قال: " ومن كلام له - عليه السلام -
بالبصرة، وقد دخل على العلاء بن زياد الحارثي - وهو من أصحابه - يعوده، فلما رأى
سعة داره قال: ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا؟ أما أنت إليها في الآخرة كنت
أحوج؟ وبلى إن شئت بلغت بها الآخرة، تقري فيها الضيف، وتصل فيها الرحم، وتطلع
منها الحقوق مطالعها، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة. فقال له العلاء: يا أمير المؤمنين،
أشكو إليك أخي عاصم بن زياد. قال: وماله؟ قال: لبس العباءة وتخلى عن الدنيا. قال:
على به. فلما جاء قال: " يا عدى نفسه، لقد استهام بك الخبيث. أما رحمت أهلك وولدك؟
أترى الله أحل لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها؟ أنت أهون على الله من ذلك! قال: يا
أمير المؤمنين، هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك! قال: ويحك، إني لست
كأنت. إن الله فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كيلا يتبيغ بالفقير
فقره. " (4)
أقول: عدى تصغير عدو. واستهام بك الخبيث، أي جعلك الشيطان هائما ضالا.

1 - سورة الضحى (93)، الآية 11.
2 - أصول الكافي 1 / 410، كتاب الحجة، باب سيرة الإمام...، الحديث 3.
3 - مرآة العقول 4 / 367 (= ط. القديم 1 / 311).
4 - نهج البلاغة، فيض / 662; عبده 2 / 213; لح / 324، الخطبة 209.
824

وفي شرح ابن أبي الحديد المعتزلي:
واعلم أن الذي رويته عن الشيوخ، ورأيته بخط عبد الله بن أحمد بن الخشاب (قدس سره) أن
الربيع بن زياد الحارثي أصابته نشابة في جبينه فكانت تنقض عليه في كل عام فأتاه
على (عليه السلام) عائدا... قال الربيع: يا أمير المؤمنين، ألا أشكو إليك عاصم بن زياد أخي؟ قال:
ماله؟ قال: لبس العباء وترك الملاء وغم أهله وحزن ولده...
إلى آخر ما ذكره، وقد ذكر قريبا مما في الكافي، فراجع. قال:
والربيع بن زياد هو الذي افتتح بعض خراسان... وأما العلاء بن زياد الذي ذكره
الرضي - رحمه الله - فلا أعرفه، ولعل غيري يعرفه. (1)
18 - وفي نهج السعادة مستدرك نهج البلاغة عن سبط ابن الجوزي بسنده عن الأحنف
بن قيس، قال: دخلت على أمير المؤمنين (عليه السلام) ليلة عند إفطاره فقال لي: قم فتعش مع
الحسن والحسين. ثم قام إلى الصلاة، فلما فرغ دعا بجراب مختوم بخاتمه فأخرج شعيرا
مطحونا ثم ختمه. فقلت: يا أمير المؤمنين، لم أعهدك بخيلا فكيف ختمت على هذا
الشعير؟ فقال: لم أختمه بخلا ولكن خفت أن يبسه الحسن والحسين بسمن أو إهالة.
فقلت: أحرام هو؟ قال: " لا، ولكن على أئمة الحق أن يتأسوا بأضعف رعيتهم حالا في
الأكل واللباس، ولا يتميزون عليهم بشيء لا يقدرون عليه، ليراهم الفقير فيرضى عن الله
- تعالى - بما هو فيه، ويراهم الغني فيزداد شكرا وتواضعا. " (2)
أقول: بس السويق: خلطه بسمن أو زيت. والإهالة بالكسر: الشحم المذاب أو دهن
يؤتدم به.
19 - وفي نهج البلاغة من كتاب له (عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري - وهو عامله
على البصرة وقد بلغه أنه دعى إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها - " أما بعد، يا
ابن حنيف فقد بلغني أن رجلا من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها

1 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11 / 35 - 37.
2 - نهج السعادة 2 / 48، الخطبة 168.
825

تستطاب لك الألوان، وتنقل إليك الجفان. وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم
مجفو وغنيهم مدعو، فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه، و
ما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه.
ألا وإن لكل مأموم إماما يقتدي به ويستضئ بنور علمه، ألا وإن إمامكم قد اكتفى
من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه. ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني
بورع واجتهاد وعفة وسداد. فوالله ما كنزت من دنياكم تبرا ولا ادخرت من غنائمها
وفرا، ولا أعددت لبالي ثوبي طمرا، ولا حزت من أرضها شبرا...
ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز،
ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة ولعل بالحجاز أو
اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع!! أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى
وأكباد حرى!! أو أكون كما قال القائل:
وحسبك داء أن تبيت ببطنة * وحولك أكباد تحن إلى القد.
أأقنع من نفسي بأن يقال: أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر؟ أو أكون أسوة
لهم في جشوبة العيش؟ الحديث. " (1)
أقول: المأدبة بفتح الدال وضمها: الطعام يصنع لدعوة أو عرس. والجفان جمع الجفنة
وهي القصعة. والقضم: الأكل بطرف الأسنان. والطمر بالكسر: الثوب الخلق. والتبر
بالكسر: ما كان من الذهب غير مصوغ أو غير مضروب. والوفر: المال الكثير الواسع. و
القمح: البر. والجشع: شدة الحرص. والبطنة: الامتلاء من الطعام. والقد بالكسر و
التشديد: القطعة من الجلد غير المدبوغ.
فتأمل في هذا الكتاب الشريف، وانظر إلى سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) في مطعمه وملبسه
حينما كان متصديا للولاية العامة، وكان في قبضته الأموال العامة وبيت مال المسلمين،
وانظر إلى أنه مع ما كان بين الكوفة والبصرة من المسافة البعيدة ولم تكن توجد في تلك
الأعصار ما يوجد من المخابرات كيف كان أمير المؤمنين (عليه السلام)

1 - نهج البلاغة، فيض / 965; عبده 3 / 78; لح / 416، الكتاب 45.
826

يتطلع على أحوال أمرائه وعماله؟ وكيف كان يناقشهم على أمور جزئية تبلغه منهم.
فهكذا يجب أن يكون الأئمة والولاة في مراقبة الأمراء والعمال والضباط المنصوبين
من قبلهم، وفي حفظ الأموال العامة والاحتياط في صرفها، اللهم فأعنا على العمل
بوظائفنا ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبدا.
20 - وفي نهج البلاغة أيضا: " ورئي عليه (عليه السلام) إزار خلق مرقوع فقيل له في ذلك فقال:
" يخشع له القلب، وتذل به النفس، ويقتدى به المؤمنون. الحديث. " (1)
21 - وفي الوسائل بسند صحيح، عن محمد بن قيس، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: " والله
إن كان على (عليه السلام) ليأكل أكل العبد، ويجلس جلسة العبد، وان كان ليشتري القميصين
السنبلانيين فيخير غلامه خيرهما، ثم يلبس الآخر، فإذا جاز أصابعه قطعه، وإذا جاز
كعبه حذفه، ولقد ولي خمس سنين ما وضع آجرة على آجرة ولا لبنة على لبنة، ولا أقطع
قطيعا، ولا أورث بيضاء ولا حمراء، وان كان ليطعم الناس خبز البر واللحم وينصرف
إلى منزله ويأكل خبز الشعير والزيت والخل، وما ورد عليه أمران كلاهما لله رضى إلا
أخذ بأشدهما على بدنه، ولقد أعتق ألف مملوك من كد يده، وتربت فيه يداه وعرق فيه
وجهه، وما أطاق عمله أحد من الناس. الحديث. " (2)
ورواه أيضا في البحار عن أمالي الصدوق بسند صحيح، عن محمد بن قيس، عن
أبي جعفر (عليه السلام). (3)
أقول: في البحار عن القاموس:
" قميص سنبلاني: سابغ الطول، أو منسوب إلى بلد بالروم.
22 - وفي المناقب عن الغزالي في إحياء العلوم: " كان على بن أبي طالب يمتنع

1 - نهج البلاغة، فيض / 1132; عبده 3 / 173; لح / 486، الحكمة 103.
2 - الوسائل 1 / 66، الباب 20 من أبواب مقدمة العبادات، الحديث 12.
3 - بحار الأنوار 41 / 102، تاريخ أمير المؤمنين (عليه السلام)، الباب 107 (باب جوامع مكارم أخلاقه)،
الحديث 1.
827

من بيت المال حتى يبيع سيفه، ولا يكون له إلا قميص واحد في وقت الغسل لا يجد
غيره. " (1)
23 - وفيه أيضا: " قال معاوية لضرار بن ضمرة: صف لي عليا. قال: كان والله صواما
بالنهار قواما بالليل، يحب من اللباس أخشنه، ومن الطعام أجشبه، وكان يجلس فينا، و
يبتدئ إذا سكتنا، ويجيب إذا سألنا، يقسم بالسوية ويعدل في الرعية، لا يخاف الضعيف
من جوره، ولا يطمع القوى في ميله. والله لقد رأيته ليلة من الليالي وقد أسبل الظلام
سدوله وغارت نجومه وهو يتململ في المحراب تململ السليم ويبكي بكاء الحزين، و
لقد رأيته مسيلا للدموع على خده قابضا على لحيته يخاطب دنياه فيقول: يا دنيا أبي
تشوقت ولي تعرضت؟! لا حان حينك، فقد أبنتك ثلاثا لا رجعة لي فيك، فعيشك قصير و
خطرك يسير، آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق. " (2)
24 - وفي أمالي الصدوق بسنده عن الأصبغ بن نباتة، قال: دخل ضرار بن ضمرة
النهشلي على معاوية بن أبي سفيان فقال له: صف لي عليا (عليه السلام) قال: أو تعفيني، فقال: لا، بل
صفه لي.
قال ضرار: رحم الله عليا، كان والله فينا كأحدنا يدنينا إذ أتيناه ويجيبنا إذا سألناه و
يقربنا إذا زرناه لا يغلق له دوننا باب ولا يحجبنا عنه حاجب، ونحن والله مع تقريبه لنا و
قربه منا لا نكلمه لهيبته ولا نبتديه لعظمته، فإذا تبسم له ثغر مثل اللؤلؤ المنظوم.
فقال معاوية: زدني في صفته.
فقال ضرار: رحم الله عليا، كان والله طويل السهاد قليل الرقاد، يتلو كتاب الله آناء
الليل وأطراف النهار ويجود لله بمهجته ويبوء إليه بعبرته، لا تغلق له الستور ولا يدخر
عنا البدور ولا يستلين الإتكاء ولا يستخشن الجفاء، ولو رأيته إذ مثل في

1 - مناقب ابن شهرآشوب 1 / 366.
2 - مناقب ابن شهرآشوب 1 / 371.
828

محرابه وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه وهو قابض على لحيته يتململ
تململ السليم ويبكي بكاء الحزين وهو يقول: يا دنيا، ألي تعرضت أم إلى تشوقت؟
هيهات هيهات، لا حاجة لي فيك أبنتك ثلاثا لا رجعة لي عليك. ثم يقول: واه واه لعبد
السفر، وقلة الزاد، وخشونة الطريق.
قال: فبكى معاوية وقال: حسبك يا ضرار كذلك كان والله على، رحم الله أبا
الحسن. " (1)
ورواه عنه في البحار وقال:
" البدور جمع البدرة. والسدول جمع السدل وهو الستر. وتململ: تقلب. والسليم:
من لدغته الحية. " (2)
أقول: البدرة: المال الكثير - عشرة آلاف درهم.
25 - وفي نهج البلاغة قال: ومن خبر ضرار بن حمزة الضبابي عند دخوله على
معاوية ومسألته له عن أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال: فاشهد لقد رأيته في بعض مواقفه وقد
أرخى الليل سدوله وهو قائم في محرابه قابض على لحيته يتململ تململ السليم ويبكي
بكاء الحزين ويقول: " يا دنيا يا دنيا، إليك عني، أبي تعرضت؟! أم إلى تشوقت؟ لا حان
حينك، هيهات! غري غيري، لا حاجة لي فيك، قد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيها فعيشك
قصير وخطرك يسير، وأملك حقير، آه من قلة الزاد وطول الطريق وبعد السفر وعظيم
المورد. " (3)
أقول: والظاهر اتحاد الخبرين وأحد الاسمين مصحف الآخر. والمذكور في تنقيح
المقال ضرار بن ضمرة الضبابي، وكذا في نسخة قديمة مخطوطة من نهج البلاغة. وإن
شئت تفصيل الخبر فراجع الشرح لابن أبي الحديد. (4)

1 - الأمالي / 371 (= طبعة أخرى / 499)، المجلس 91، الحديث 2.
2 - بحار الأنوار 41 / 14، تاريخ أمير المؤمنين، الباب 101 (باب عبادته وخوفه)، الحديث 6.
3 - نهج البلاغة، فيض / 1118; عبده 3 / 166; لح / 480، الحكمة 77.
4 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 18 / 225; تنقيح المقال 2 / 105; ونهج البلاغة المخطوط في
سنة 494 ه‍. ق، ص 263.
829

26 - وفي المناقب أيضا عن الإبانة عن ابن بطة، والفضائل عن أحمد: أنه -
عليه السلام - اشترى تمرا بالكوفة فحمله في طرف ردائه فتبادر الناس إلى حمله وقالوا:
يا أمير المؤمنين، نحن نحمله. فقال (عليه السلام): " رب العيال أحق بحمله. " (1)
27 - وفيه أيضا عن قوت القلوب عن أبي طالب المكي: كان على (عليه السلام) يحمل التمر و
المالح بيده ويقول:
" لا ينقص الكامل من كماله * ما جر من نفع إلى عياله. " (2)
28 - وفي تاريخ ابن عساكر بسنده عن عبد الرحمان بن أبي بكرة، قال: " لم يرزأ علي
بن أبي طالب من بيت مالنا يعني بالبصرة حتى فارقنا غير جبة محشوة أو خميصة درا
بجردية. " (3)
ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه. (4)
أقول: الخميصة: ثوب أسود مربع.
29 - وفيه أيضا بسنده عن عبد العزيز بن محمد، عن أبيه أن عليا (عليه السلام) أوتي بالمال
فأقعد بين يديه الوزان والنقاد فكوم كومة من ذهب وكومة من فضة وقال: " يا حمراء، يا
بيضاء، احمري وابيضي وغري غيري. " (5)
30 - وفيه أيضا بسنده عن هارون بن عنترة، عن أبيه، قال: دخلت على على بن
أبي طالب بالخورنق وعليه قطيفة وهو يرعد من البرد!! فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الله
قد جعل لك ولأهل بيتك في هذا المال نصيبا وأنت تفعل بنفسك هذا؟! فقال: إي والله،
لا أرزأ من أموالكم شيئا، وهذه هي القطيفة التي أخرجتها من

1 - مناقب ابن شهرآشوب 1 / 372.
2 - مناقب ابن شهرآشوب 1 / 372.
3 - تاريخ ابن عساكر، قسم ترجمة علي بن أبي طالب (عليه السلام) 3 / 181.
4 - مصنف ابن أبي شيبة 14 / 595، كتاب المغازي، الحديث 18942.
5 - تاريخ ابن عساكر، قسم ترجمة علي بن أبي طالب (عليه السلام) 3 / 182.
830

بيتي، أو قال: من المدينة. (1)
31 - وفيه أيضا بسنده عن سفيان، يقول: " ما بنى على آجرة على آجرة ولا لبنة على
لبنة، ولا قصبة على قصبة، وإن كان ليؤتى بحبوبه من المدينة في جراب. " (2)
32 - وفيه أيضا بسنده عن مجمع التيمي، قال: خرج علي بن أبي طالب بسيفه إلى
السوق فقال: " من يشتري مني سيفي هذا؟ فلو كان عندي أربعة دراهم اشترى بها إزارا
ما بعته. " ونحوها رواية أخرى، فراجع. (3)
33 - وفيه أيضا بسنده عن ابن عباس، قال: اشترى علي بن أبي طالب قميصا بثلاثة
دراهم - وهو خليفة - وقطع كميه من موضع الرصغين وقال: الحمد لله الذي هذا من
رياشه. (4)
34 - وفيه أيضا بسنده عن مولى لآل عصيفر، قال: رأيت عليا خرج فأتى رجلا من
أصحاب الكرابيس فقال له: عندك قميص سنبلاني؟ قال: فأخرج إليه قميصا فلبسه فإذا
هو إلى نصف ساقيه، فنظر عن يمينه وعن شماله فقال: ما أرى إلا قدرا حسنا، بكم هو؟
قال: بأربعة دراهم يا أمير المؤمنين، قال: فحلها من إزاره فدفعها إليه ثم انطلق. (5)
35 - وفيه أيضا بسنده عن سعيد الرجاني، قال: اشترى على قميصين سنبلانيين
انبجانيين بسبعة دراهم فكسا قنبر أحدهما، فلما أراد أن يلبس قميصه فإذا إزاره مرقوع
برقعة من أديم. (6)

1 - تاريخ ابن عساكر، قسم ترجمة علي بن أبي طالب " ع " 3 / 188.
2 - تاريخ ابن عساكر، قسم ترجمة علي بن أبي طالب (عليه السلام) 3 / 188.
3 - تاريخ ابن عساكر، قسم ترجمة علي بن أبي طالب (عليه السلام) 3 / 189.
4 - تاريخ ابن عساكر، قسم ترجمة علي بن أبي طالب (عليه السلام) 3 / 191.
5 - تاريخ ابن عساكر، قسم ترجمة علي بن أبي طالب (عليه السلام) 3 / 191.
6 - تاريخ ابن عساكر، قسم ترجمة علي بن أبي طالب (عليه السلام) 3 / 191.
831

36 - وفيه أيضا بسنده عن زيد بن وهب الجهني، قال: خرج علينا على بن أبي طالب
ذات يوم وعليه بردان متزر بأحدهما، مرتد بالآخر قد أرخى جانب إزاره ورفع جانبا
قد رفع إزاره بخرقة، فمر به أعرابي فقال: أيها الإنسان، البس من هذا الثياب، فإنك ميت
أو مقتول. فقال: " أيها الأعرابي، إنما ألبس هذين الثوبين ليكونا أبعد لي من الزهو، و
خيرا لي في صلاتي، وسنة للمؤمن. " (1)
37 - وفيه أيضا بسنده عن صالح بياع الأكسية، عن جدته، قالت: رأيت عليا اشترى
تمرا بدرهم فحمله في ملحفته فقالوا: يا أمير المؤمنين ألا نحمله عنك؟ فقال " أبو العيال
أحق بحمله. " ورواه عنه في كنز العمال. (2)
38 - وفي كنز العمال عن ابن عساكر وغيره، عن علي بن الأرقم، عن أبيه، قال:
" رأيت علي بن أبي طالب يعرض سيفا له في رحبة الكوفة ويقول: من يشتري مني سيفي
هذا؟ والله لقد جلوت به غير مرة من وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). ولو أن عندي ثمن إزار
ما بعته. " (3)
39 - وفيه أيضا عن علي (عليه السلام) قال: " نكحت ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وليس لنا فراش إلا
فروة كبش فإذا كان الليل بتنا عليها وإذا أصبحنا فقلبنا وعلفنا عليها الناضح. " (4)
أقول: هذا لم يكن في عصر خلافته وإمامته.
40 - وفيه أيضا عن عمرو بن قيس، قال: رؤي على على (عليه السلام) إزار مرقوع فقيل له.
فقال: يقتدي به المؤمن ويخشع به القلب. (5)

1 - تاريخ ابن عساكر، قسم ترجمة علي بن أبي طالب (عليه السلام) 3 / 192.
2 - تاريخ ابن عساكر، قسم ترجمة علي بن أبي طالب (عليه السلام) 3 / 200; وكنز العمال 13 / 180، كتاب
الفضائل، باب فضائل الصحابة، الحديث 36537.
3 - كنز العمال 13 / 178، كتاب الفضائل من قسم الأفعال، باب فضائل الصحابة، الحديث 36531.
4 - كنز العمال 13 / 179، كتاب الفضائل من قسم الأفعال، باب فضائل الصحابة، الحديث 36536.
5 - كنز العمال 13 / 181، كتاب الفضائل من قسم الأفعال، باب فضائل الصحابة، الحديث 36542.
832

41 - وفيه أيضا عن مسند على، عن عبد الله بن شريك، عن جده أن علي بن
أبي طالب (عليه السلام) أتي بفالوذج فوضع قدامه، فقال: إنك طيب الريح حسن اللون طيب الطعم،
ولكن أكره أن أعود نفسي ما لم تعتد. (1)
42 - وفيه أيضا عن ابن المبارك، عن زيد بن وهب، قال: خرج علينا على (عليه السلام) وعليه
رداء وإزار قد رقعه بخرفة فقيل له، فقال: " إنما ألبس هذين الثوبين ليكون أبعد لي من
الزهو، وخيرا لي في صلاتي، وسنة للمؤمنين. (2)
إلى غير ذلك من الروايات الواردة في هذا المجال.
وقد مر في الفصل الأول من هذا الباب أيضا روايات كثيرة تدل على مضمون هذا
الفصل، فراجع.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين، ولعنة الله على
أعدائهم أجمعين.
تم الجزء الثاني من الكتاب،
ويتلوه إن شاء الله الجزء الثالث، وأوله الباب الثامن منه في المنابع المالية للدولة
الإسلامية
ويحق هنا أن أبرز تقديري وشكري للعلمين الفاضلين حجتي الإسلام الشيخ محمود
واحد والشيخ قربانعلي حبيب اللهي، دامت إفاضاتهما; حيث صرفا طاقاتهما في تصحيح
الكتاب وتطبيقه على مصادره، فلله - تعالى - درهما وعليه أجرهما.

1 - كنز العمال 13 / 184، كتاب الفضائل من قسم الأفعال، باب فضائل الصحابة، الحديث 36549.
2 - كنز العمال 13 / 185، كتاب الفضائل من قسم الأفعال، باب فضائل الصحابة، الحديث 36552.
833